إنجيل متىالكنز الجليل في تفسير الإنجيل

إنجيل متى | 05 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل متى

الأصحاح الخامس

يشتمل هذا الأصحاح مع الأصحاحين التاليين على الموعظة المعروفة بالموعظة على الجبل، والكلام في الأصحاحات الثلاثة حول ملكوت المسيح الجديد. فأصحاح ٥ يُظهِر من هم أصحاب هذا الملكوت وعلاقتهم بالعالم. ونسبة المسيح إلى الناموس، مبيِّناً أن شريعة هذا الملكوت أرفع شأناً من تلك التي بها علَّم الفريسيون والكتبة. وما يبينه أصحاح ٥ من شريعة هذا الملكوت يبينه أصحاح ٦ من جهة الواجبات الدينية، ووجوب القيام بها أمام الله لا أمام الناس، وكيفية معالجة الهموم الدنيوية المقلقة. وأصحاح ٧ يتضمن توبيخاً للفريسيين لقساوة حكمهم على الآخرين، وشرحاً للصلاة، وخلاصة ما تقدم من جهة الناموس، وإنذاراً لإنكار الذات، وتحذيراً من المعلمين المضلين، ومن إهمال تعاليمه. وهذا الوعظ كان أحد المواعظ الكثيرة التي كرز بها المسيح في الجليل أشار إليها متّى (٤: ١٧، ٢٣).

ولا شك أن المسيح كرر جوهر هذا الوعظ مرات كثيرة، مغيِّراً الكلام بحسب الأحوال ومعرفة السامعين. وغايته منه أن يفسر ماهية ملكوت السماوات، وعلاقته بالنظام الموسوي، لا كناقضٍ له بل مكملاً إياه، بإظهار معناه الروحي. وفي أثناء كلامه على ذلك يبين الفرق بين تعليم هذا الملكوت وتعليم اليهود التقليدي الملتوي. وأما بيان علاقة هذا الكلام بما قيل في لوقا ٦: ٢ – ٤٩، فنبقيه إلى شرح إنجيل لوقا.

١ «وَلَمَّا رَأَى ٱلْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى ٱلْجَبَلِ، فَلَمَّا جَلَسَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ».

مرقس ٣: ١٣، ٢٠

ٱلْجُمُوع هم الذين ذكرهم في متّى ٤: ٢٤، ٢٥.

ٱلْجَبَل الأرجح أنه جبل بالقرب من كفر ناحوم. وظن البعض أنه جبل «قرن حطين» غرب طبرية، ولا يعرف من أمره شيء بالتأكيد. ولم يكن قصد المسيح من صعوده على الجبل الاعتزال عن الشعب، بل أن يجمع إليه الراغبين في سماع أقواله.

جَلَس الجلوس هي عادة المعلم وقت التعليم.

تَقَدَّمَ إِلَيْه لا يفهم من ذلك أنهم كانوا غائبين، لكنهم دنوا منه ليسمعوا. ويصدق هذا على التلاميذ وغيرهم.

تَلاَمِيذُه خطابه لتلاميذه خصوصاً لم يمنع غيرهم من الجموع أن يسمعوا أقواله.

٢ «فَفَتَحَ فَاهُ وَعَلَّمَهُمْ قَائِلاً».

فَفَتَحَ فَاهُ تعبير يُستعمل في استهلال خطاب ذي شأن. وحينما يفتح سيدنا فاه ليتكلم ينبغي أن نفتح آذاننا لنسمع.

وَعَلَّمَهُم يشير هذا إلى كلام متتابع متميزاً عن الحديث المعتاد الذي هو حوار المتحدثين، وعن الخطاب المتقطع.

٣ «طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِٱلرُّوحِ، لأَنَّ لَـهُمْ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ».

مزمور ١٥: ٢ و٣ وأمثال ٢٩: ٢٣ وإشعياء ٥٧: ١٥ و٦٦: ٢ ولوقا ٦: ٢٠

طُوبَى هذه الكلمة هي استهلال سفر المزامير. والتطويبات المذكورة في الأعداد العشرة الأولى من هذا الأصحاح لا تشير إلى امتياز لأشخاص مخصوصين، بل تتضمن ما يجب أن يكونه كل مؤمن، مع ذكر البركات المتعلقة طبعاً بتلك الصفات. فعلينا أن نجتهد في إحراز كل هذه الصفات التي لا تكمل الفضيلة المسيحية إلا بمجموعها، فإن نقص واحدة منها يبطل أن يكون الإنسان كاملاً.

يعلن المسيح هنا صفات الذين لهم حق أن يفرحوا بإتيان ملكوته. فليس الذين يحسبهم العالم سعداء هم السعداء، كالأغنياء الدنيويين، أو القائمين بشعائر الدين الظاهرة، الأبرار في عيون نفوسهم. وليست الصفات الممدوحة من الناس هي التي تستحق المدح الحقيقي، كالحكمة والشجاعة والقوة، بل الصفات التي يمدحها المسيح هي التواضع وانسحاق القلب والحلم والعواطف الروحية والطهارة ومحبة السلام والصبر. فالذين يباركهم المسيح هم السعداء حقاً، فلا يفيدهم تصريح العالم بهذه الغبطة التي لا يؤكد حصولهم عليها إلا تصريح المسيح. وهى تفوق السعادة، لأنه يمكن أن يكون الإنسان سعيداً بحصوله على جانب من خيرات هذه الدنيا. ولا يمنحها إلا الله مقترنة برضاه. والمسيح لا يضع شروطاً لإدراك السعادة، بل يذكر صفات الذين يستحقون أن يحسبوا سعداء.

ويظن البعض أن في جعل التطويبات سبعاً معنى روحياً لاعتبار هذا العدد في التوراة مقدساً، لأنه يدل على الكمال.

لِلْمَسَاكِينِ بِٱلرُّوح يشعرون بحاجتهم الروحية ولا يكتفون بحالتهم. بدأ بهؤلاء أولاً لينفي زعم البعض أن ملكوت السماوات مختص بالأغنياء ووجوه القوم. وليس المراد بالمساكين فقراء المال أو المواهب العقلية، بل الذين يشعرون باحتياجات نفوسهم وفقرهم إلى الصلاح الأخلاقي والقوة الروحية والغذاء الروحاني. وهم المساكين روحاً، سواء أكانوا مساكين في هذا العالم أم لا. فطوبى لهم لأن هذا الملكوت جاء ليسدَّ أعوازهم.

وروح هؤلاء «المساكين» غير روح الفريسيين المتكبرين «الأصحّاء» الذين لم يأتِ المسيح ليدعوهم، والذين روحهم كروح بولس قبل تجديده (كما وصفه في فيلبي ٣: ٦) روح الاكتفاء بخيرات هذا العالم وحكمته، وبأنهم أولاد إبراهيم. وهذا روح كنيسة لاودكية (رؤيا ٣: ١٧) التي ظنت أنها غنية وليس لها شيء.

وأما العشار الذي وقف بعيداً في الهيكل، وقرع على صدره قائلاً «اللّهُمَّ ارْحَمْنِي، أَنَا الْخَاطِئَ» (لوقا ١٨: ١٣). فهو من المساكين بالروح المذكورين هنا. فيشترط على الذين يأتون إلى الله يبتغون نعمة أن يشعروا بشدة الحاجة.

لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَات أي أن الملكوت معيَّن ومناسب لهم ومختصٌ بهم وجميل في عيونهم، وبه يحصلون على ما يحتاجون إليه. وأما للفريسيين، الأبرياء في عيون أنفسهم، فليس فيه شيء يُحبّ، لأنهم أحبوا ملكوتاً ذا مجد خارجي وخير زمني. وملكوت السماوات مثل ملكوت الله (متّى ٣: ٢) وسُمى ملكوت السماوات لأنه هو النازل من السماء، وروحه كروح السماء، ويحبه كل الذين في السماء، ولأن وقايته ووسائط نجاحه من السماء، ولأنه الملكوت الذي يقود إلى السماء.

٤ «طُوبَى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ».

إشعياء ٦١: ٢، ٣ ولوقا ٦: ٢١ ويوحنا ١٦: ٢٩ و٢كورنثوس ١: ٧ ورؤيا ٢١: ٤

لِلْحَزَانَى أي الذين يحزنون على الخطية والشرور الناتجة عنها، وعلى فقرهم الروحي المذكور في ع ٣. فلمثل هؤلاء الطوبى والسعادة، لأن هذا الملكوت ينجيهم من جرم الخطية وسلطتها. فليس كل الحزانى مغبوطين، لأنه يوجد حزن يؤدي إلى الموت (٢كورنثوس ٧: ١٠) فالمغبوطون لحقاً هم منسحقو القلب على خطيتهم إلى الله، الذين يحزنون على خطايا غيرهم، وعلى خراب صهيون الروحي (إرميا ٩: ١).

يحزن الناس أحياناً لعدم حصولهم على ما يشتهونه من مطالب محبة الذات والكبرياء والطمع، ولكن الله لا يمسح إلا دموع التوبة والتواضع. فبعض أنواع الحزن شر لمجاوزتها الحدود، أو لأنها ناتجة عن عدم إمكاننا أن نتمم مقاصدنا الشريرة. وبعضها طبيعي كحزننا على فقدنا بعض الأصحاب، وهذا قد يعود علينا بالنفع أو بالضرر. أما الحزن المذكور هنا فهو الحزن على الخطية (زكريا ١٢: ١٠).

لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ يتعزون الآن لشعورهم بالمغفرة (مزمور ٣٢) وسيتعزون في السماء (رؤيا ٧: ١٣ – ١٧) لأن أسباب حزنهم تكون قد زالت، ولأن الله يعزيهم، لا أفكارهم ولا كلام الناس. فإذاً طوبى لهم.

٥ «طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ ٱلأَرْضَ».

مزمور ٣٧: ١١ ورومية ٤: ١٣

لِلْوُدَعَاءِ بركات ملكوت المسيح ليست للذين يدَّعون أن لهم حقاً فيها، ولا الذين يتقاتلون عليها كالشجعان والطماعين الذين يغتصبون فوائد الممالك الأرضية، بل هي للودعاء الهادئين (١بطرس ٣: ٤) لأن هذه صفات ملكهم (زكريا ٩: ٩).

والودعاء هم الذين لا يطلبون الرياسة والتسلط على الأرض، وروحهم كروح المسيح خالية من روح الانتقام من الذين يؤذونهم (١بطرس ٢: ٢٣) ومن روح الضجر ومحبة الخصام. وأعظم نصرة هي نصرة الإنسان على نفسه.

يَرِثُونَ ٱلأَرْض يرثون من أبيهم ما يحصله غيرهم بقوة أيديهم، فاستعار المسيح مواعيد العهد القديم ليعبر بها عن مواعيد العهد الجديد. فقد عبر بإرث اليهود أرض كنعان عما يشتمل على البركات الزمنية (إشعياء ٦٠: ٢١). ولكن كان الوعد لهؤلاء بجزء من الأرض، وأما للودعاء فبالكل. ونتعلم من هذا أن القوة التي ستغلب الأرض هي قوة الوداعة والمحبة، التي تتقدم رويداً رويداً في العالم، وتغيِّر صورة الهيئة الاجتماعية. وأما روح الخصومات فيهيج الغضب، ويكلف صاحبه تضحية ماله ووقته وراحة باله بدون أن يبلغ مقصده. ويحتمل أن الوعد بالأرض يتضمن أيضاً الوعد بكنعان السماوية، التي كانت كنعان الأرضية رمزاً لها.

٦ «طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَٱلْعِطَاشِ إِلَى ٱلْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ».

إشعياء ٥٥: ١ و٦٥: ١٣

لِلْجِيَاعِ وَٱلْعِطَاش كناية عن الأشواق الشديدة (مزمور ٤٣: ١، ٢ و٦٣: ١، ٢). إن الاحتياج إلى الطعام والشراب أشد من غيره، ويسبِّب ألماً قوياً إذا طالت مدته.

كان الكلام في ع٣ على الذين يشعرون بفقرهم الروحي، ويزيد هذا العدد على ما ذُكر هناك أنهم يشتاقون كل الاشتياق إلى الموهبة الإلهية. وعندما يرون أنفسهم خالية من البر أمام الله يشتاقون إليه. فلو قال المسيح «طوبى للأبرار» لما وُجد من يتقدم لنوال البركة الموعودة، ولذلك قال «طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَٱلْعِطَاشِ إِلَى ٱلْبِرِّ» لأنه كما أن الذي يتعرض للجوع والعطش لا يفتكر بشي. غيرهما، هكذا الجياع والعطاش إلى البر لا يبالون بالأمور الدنيوية. وهذان الشعوران علامة الحياة الروحية التي لا تكون إلا في الذين وُلدوا ثانية من الروح القدس (يوحنا ٣: ٣، ٥).

إن الجياع والعطاش إلى العلوم ومقتضيات الحياة الدنيا وحشد الأموال وإحراز الشرف الرفيع كثيرون، ولكن الجياع والعطاش إلى البر قليلون.

ٱلْبِرِّ ليس المقصود هنا بر الناموس، بل بر الله (إشعياء ٥١: ٥ ودانيال ٩: ٢٤) وهو يتضمن الديانة القلبية والقداسة والتسليم التام لإرادة الله.

يُشْبَعُون لا قيمة في عيون الجياع والعطاش إلا لما يشبعهم ويرويهم. ولذلك وعدهم بمقتضيات الحياة الروحية، ليشبعوا مما كانوا يتوقون إليه ويحتاجونه.

٧ «طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ».

مزمور ٤١: ١ وص ٦: ١٤ ومرقس ١١: ٢٥ و٢تيموثاوس ١: ١٦ وعبرانيين ٦: ١٠ ويعقوب ٢: ١٣

لِلرُّحَمَاء هذا وصف آخر للذين لهم شركة في ملكوت المسيح الجديد. إن الذين ينجحون غالباً في الممالك الأرضية هم أهل البأس المنتقمون، وأما شركاء المملكة السماوية فهم الرحماء المساكين الذين يحبون الغير، ويشاركون الناس في أحزانهم، وهم الذين يشعرون معهم بالاحتياجات الروحية والجسدية. ورحمتهم فعالة (أيوب ٢٩: ١١ – ١٦ ومتّى ٥: ٤٤ – ٤٧ و١٠: ٤٢) ومصدر هذه الرحمة قلب الله، ورحمتنا قطرة من بحرها. وما نفعله من الرحمة نحو البشر لنطيعه ونرضيه يحسبه كأننا عملناه معه.

يُرْحَمُون الرحمة التي يرحمون الغير بها يرحمهم الله بها، ليس على سبيل الأجرة، لأن للمستحقين لهم أجرة لا رحمة. فالله يحبهم ويرحمهم مجاناً، وهم يرحمون دائماً، ويرحمهم الناس غالباً. ولا رحمة لمن لا يرحم ولا يغفر للمذنبين إليه.

٨ «طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ ٱلْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ ٱللّٰهَ».

مزمور ١٥: ٢ و٢٤: ٤ وعبرانيين ١٢: ١٤ و١كورنثوس ١٣: ١٢ و١يوحنا ٣: ٢، ٣

لِلأَنْقِيَاءِ ٱلْقَلْبِ ادَّعى اليهود أنهم أنقياء لأنهم منفصلون عن الأمم الذين تدنسوا بعبادة الأوثان، ولكنهم ليسوا أنقياء القلب (لوقا ١١: ٣٩).

إن لشركاء المسيح طهارة أعظم من الطهارة الطقسية الجنسية، وهى طهارة القلب التي لا تنتج عن غسل الجسد حسب شريعة موسى، بل عن تطهير القلب بواسطة التوبة والإيمان وفعل الروح القدس (عبرانيين ٩: ١٣، ١٤ وأفسس ٥: ٢، ١ و١يوحنا ٣: ٩). قديماً كان في مملكة مادي وفارس سبعة أشخاص مقرَّبون، يحق لهم وحدهم أن يروا الملك وجهاً لوجه (أستير ١: ١٤). و نقاوة القلب هذه تتضمن البساطة والصدق، وعكسها يتضمن الغش والرياء. وأفكار أهلها وغاياتهم ومبادئهم طاهرة. والله ينظر إلى القلب بينما ينظر الإنسان إلى الخارج (١صموئيل ١٥: ٧).

لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ ٱللّٰه أي سيقفون أمامه كأصدقائه وأصفيائه، ويدركون صفاته تماماً، وينالون القرب إليه. وكما أن الذين ليسوا أطهاراً حسب الشريعة الطقسية لا يمكنهم أن يدخلوا هيكل الله على الأرض، هكذا القلب غير الطاهر من الداخل لا يدخل هيكله السماوي ليتمتع بحضرته الإلهية.

يحسب الناس المثول بحضرة الملوك الأرضيين من أعظم الإنعام، فكم تكون نعمة الذين في حضرة ملك الملوك إلى الأبد! (٢ملوك ٢٥: ١٨).

قال الحكيم: «أَرَأَيْتَ رَجُلاً مُجْتَهِدًا فِي عَمَلِهِ؟ أَمَامَ الْمُلُوكِ يَقِفُ. لاَ يَقِفُ أَمَامَ الرَّعَاعِ!» (أمثال ٢٢: ٢٩) وقال صاحب الرؤيا «وَهُمْ سَيَنْظُرُونَ وَجْهَهُ، وَاسْمُهُ عَلَى جِبَاهِهِمْ» (رؤيا ٢٢: ٤) فهم يبتدئون «يُعَايِنُونَ اللهَ» هنا (أفسس ١: ١٨) ويعاينون في ما بعد «وَجْهًا لِوَجْهٍ» (١كورنثوس ١٣: ١٢).

٩ «طُوبَى لِصَانِعِي ٱلسَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ ٱللّٰهِ يُدْعَوْنَ».

لِصَانِعِي ٱلسَّلاَمِ ظنَّ اليهود أن ملكوت المسيح ملكوت الحرب والفتوحات، وأن الذين يحرزون قصب السبق في الجهاد والانتقام من الأمم بسبب تعدياتهم على إسرائيل يجازون خير جزاء. ولكن المسيح يقول إن الإكرام الأعظم هو لمجيء السلام. وليس لهم فقط، بل لصانعيه الذين يبذلون كل جهدهم في إخماد الخصومات ومصالحة المتخاصمين. وعلى ذلك فالذين يبشرون بإنجيل السلام ويجتهدون في المصالحة بين الله والإنسان هم صانعو السلام، لأن هذه المصالحة استعداد لمصالحة الناس بعضهم بعضاً.

أَبْنَاءَ ٱللّٰهِ يُدْعَوْن ذكرنا أن أتقياء القلب يعاينون الله، أي يدخلون إلى حضرته. فكذلك صانعو السلام هم أبناؤه وورثته. فليسوا في الملكوت الجديد عبيداً مجهولين محتقرين، لأنه يقول عنهم إنهم عملوا عمله، وإنهم مشابهون له ومستحقون أن يدعوا بنيه. فإذن أولاد مَن الذين يهيجون الخصومات بين العائلات وفي الكنيسة؟ وقوله «يدعون» يشير إلى أنه يصرح بهم علانية كأولاده.

١٠ «طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ ٱلْبِرِّ، لأَنَّ لَـهُمْ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ».

٢ كولوسي ٤: ١٧ و٢تيموثاوس ٢: ١٢ و١بطرس ٣: ١٤

لِلْمَطْرُودِينَ انتظر اليهود أن كل أمتهم تتمتع ببركات ملكوت المسيح التي تتضمن النجاة التامة من الظلم. وأما المسيح فيقول إن نصيب شعبه تحمُّل المظالم. والمطرودون هنا هم المضطهدون بسبب ديانتهم. وقد يقع الاضطهاد تارة على صيتهم ومالهم، وطوراً على حياتهم. وقول المسيح يشير إلى أن شعبه يكونون محرومين من شرف الممالك الأرضية، وليس ذلك فقط بل إن قوات هذه الممالك تكون عليهم، ويكونون مبغَضين وعرضة للأذى. لأن الطرد ليس من المساوين لهم في المقام والرتبة، بل من الكبراء والأعيان. وجميع الذين ذكروا سابقاً في التطويبات هم عرضة لهذا الاضطهاد، ولا سيما صانعو السلام الذين يبشرون بإنجيل السلام فكل «الذين يعيشون بالتقوى يُضطهدون».

مِنْ أَجْلِ ٱلْبِرِّ لا يطوِّب المسيح المطرودين لأي سبب، لكن بل المطرودين من أجل تمسكهم بالحق وأمانتهم لله ولواجباتهم. فليس كل من قتل شهيداً لمجرد القتل، بل من قتل لأجل الدين الحق.

لا يكلفنا المسيح أن نعرِّض أنفسنا للاضطهاد، ونهيِّج عليها مقاومة أعدائنا، بل يقول إنه إذا وقع علينا الاضطهاد ونحن مجتهدون في أن نعيش كمسيحيين، يجب أن نحسبه بركة.

لَـهُمْ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَات ومعناه (كما في ع ٣) أي أنهم يكونون مميَّزين في ملكوت السماء، فمطرودو الأرض لأجل الله يلقون الترحيب في السماء. والذين احتملوا المظالم لأجل الإنجيل برهنوا أنهم مسيحيون حقيقيون. فما أعظم الفرق بين تطويبات المسيح (ولا سيما الأخيرة منها) وما انتظره اليهود، فقد توقَّعوا الغلبة والمجد، ووعدهم المسيح بالعار والاضطهاد. والمسيح لا يخدع تابعيه بمواعيد فارغة.

١١ «طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِنْ أَجْلِي، كَاذِبِين».

لوقا ٦: ٢٢ و١بطرس ٤: ١٣، ١٤

طُوبَى لَكُمْ بعدما وجَّه المسيح كلامه إلى عموم التلاميذ، قال إن ذلك يطلق على سامعيه فرداً فرداً. وهذا التصريح وإن لم يذكر إلا في التطويبة الأخيرة فهو مقصود في كل التطويبات، ويطلق على كل السامعين. وكلامه يدل على أنه لا بد من أنهم يعرفون ذلك بالاختبار. والمضطهدون الأولون كانوا اليهود غير المؤمنين. وفي هذا القول نبوة ووعد.

عَيَّرُوكُمْ أي شتموكم على مسمع منكم، ودعوكم بألقاب مهينة وشريرة. كل ذلك لكونكم مسيحيين.

كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ أي أنهم يقيمون عليكم الدعاوى الكاذبة، وينسبون إليكم كل أنواع الشر. وقد تمت نبوة المسيح كما يُعرف من تاريخ الكنيسة، إذ لم يبق نوع من الشرور إلا واتُّهم المسيحيون به.

مِنْ أَجْلِي، كَاذِبِين أي لأنكم تلاميذي، ولأنكم تؤمنون بأني المسيح الموعود به. فيجب أن تتوقعوا هذه المعاملة، ومع ذلك تحسبون أنفسكم مطوبين في قبولكم إياها. ومعنى «من أجلي» كما في العدد السابق. ولا نحسب مطوبين إذا انتقدنا الناس باستحقاق (١بطرس ٣: ١٣ – ١٨). ولكن إن كنا نتحمل الآلام من أجل البر فذلك يُحسب من أجل المسيح. وبمجرد صبر المسيحيين المضطهَدين وحِلمهم صدَّق كثيرون من المقاومين صحة الديانة المسيحية.

١٢ «اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُمْ هٰكَذَا طَرَدُوا ٱلأَنْبِيَاءَ ٱلَّذِينَ قَبْلَكُم».

لوقا ٦: ٢٣ وأعمال ٥: ٤١ ورومية ٥: ٣ ويعقوب ١: ٢ و١بطرس ٤: ١٣ و٢أخبار ٣٦: ١٦ ونحميا ٩: ٢٦ ومتّى ٢٣: ٣٤، ٣٧ وأعمال ٧: ٥٢ و١تسالونيكي ٢: ١٥

يتضمن هذا العدد نصحا مبيناً على ما قيل في ع ١١، فضيقاتهم لا تستوجب الحزن والاحتمال بالصبر فقط، بل تستوجب الفرح والتهلل، لأن المسيح يأمرهم بذلك.

تَهَلَّلُوا دلالة على أقصى درجات الفرح بدلاً من الخوف والكآبة التي تنتج طبعاً من معاملة كهذه. وهذه الكلمات شجَّعت ألوفاً في ضيقاتهم.

لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيم إن الاضطهادات بذاتها ليست سبباً للفرح، ولكن نتيجتها الموعود بها تسبب ذلك، وتُسمَّى هذه النتيجة أجراً، ليس كأنهم استحقوها، ولكن كأنها ربح يقابل ما خسروه.

فِي ٱلسَّمَاوَات إن أكثر الثواب هناك، لأن الأرض مكان التعب والضيق. وأما السماء فمحل خير الجزاء. وقوله هذا لا يقتصر على أن هذا الأجر سيُعطى في مستقبل ما، بل يبين أنه يُعطى في دار الملك العظيم، وفي حضرته علامة لرضاه. فيجب أن يفرحوا في ضيقاتهم بسبب الأجر الجزيل المعيَّن لهم والمحفوظ لأجلهم. ومن وصفه بالعظمة يظهر أنه يفوق ضيقاتهم واستحقاقهم جداً.

فَإِنَّهُمْ هٰكَذَا طَرَدُوا الطاردون هنا هم اليهود الذين لم يؤمنوا.

ٱلأَنْبِيَاءَ ٱلَّذِينَ قَبْلَكُم كان هؤلاء نواب جميع اليهود الأتقياء، وقد احتملوا نفس هذه الضيقات (عبرانيين ١١: ٣٥ – ٣٨). وبقوله هذا جعل المسيح مؤمني العهد الجديد خلفاء أنبياء العهد القديم في آلامهم ومجازاتهم. ولا شيء يقوي المؤمنين وقت الاضطهاد إلا شعورهم بأنهم أبرياء، وأن المسيح معهم، وأنه هو الذي يعزيهم. وقد جعل هذا التشجيع ألوفاً ينتصرون على الآلام والموت. فما حصلوا عليه في الماضي يجب أن يشجعنا حينما يهددنا الناس بالاضطهادات.

إن المسيحيين يشاركون في الآلام الأنبياء والرسل بل المسيح نفسه، لأنهم يشربون من الكأس التي شربها.

١٣ «أَنْتُمْ مِلْحُ ٱلأَرْضِ، وَلٰكِنْ إِنْ فَسَدَ ٱلْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجاً وَيُدَاسَ مِنَ ٱلنَّاسِ».

مرقس ٩: ٥٠ ولوقا ١٤: ٣٤، ٣٥

يبين المسيح هنا علاقة تلاميذه بالعالم.

أَنْتُمْ أي تلاميذي عموماً وليس الرسل فقط. أنتم الذين تؤمنون بي. فما أنتم عليه ليس من تلقاء ذواتكم أو من نظامكم، ولكن من قوتي العاملة فيكم.

مِلْحُ ٱلأَرْض ذلك ليس في المستقبل بل الآن، كأن الانفصال بين العالم وأتباعه قد بدأ. ولا بد أن في هذا إشارة إلى تأثير كنيسته في المستقبل.

وللملح فائدتان: (١) أنه يطيب الطعام به. و(٢) أنه يحفظ من الفساد ما هو قابل الفساد. والمقصود هنا بالأكثر الثانية، ويصح قصد الاثنين من جهة تأثير الكنيسة التي تهب الجمال حيثما حلَّت، فتعطي العلم رونقاً جديداً، وترقّي كل أعمال الناس. وأفضل تأثير لها توقيف ميل الناس إلى السقوط في هاوية الفساد. وما شاهدناه من منفعة الملح واحتياجنا إليه دليل على الفائدة العظمى للكنيسة في العالم. ولا يصح هذا التشبيه إلا بشرط أن تكون الكنيسة في العالم لنفعه، فإن الملح لا يفيد الطعام شيئاً ما لم يخالطه.

وَلٰكِنْ إِنْ فَسَدَ بُني الجزء الأول من هذا العدد على أن يقوم الملح بالفائدة المقصودة منه. والجزء الثاني على فرض عدم حدوث هذا، مع ذكر نتيجة ذلك. وفي قوله «إن فسد» فرض غير الواقع، لأن الملح الخالص لا يفسد. ولكن لو صح أنه فسد تكون النتيجة كما ذكر. على أن الملح المجموع على وجه الأرض كثيراً ما يكون مخلوطاً بمواد تشبه الملح في الهيئة، فإذا ذاب الملح بالرطوبة بقيت تلك المواد كأنها الملح، ولكن لا ملوحة لها. ويُظهِر هذا التشبيه ما يترتب على عدم قيام المؤمنين بحفظ من حولهم من الفساد.

بِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ فأي مادة أخرى تقوم مقامه؟ وماذا يحفظ ذلك الملح الذي فقد ملوحته من الفساد؟ ولوضوح الجواب لم يذكره المسيح، فمضمون سؤاله هذا أنه قد ضل معلمو الشعب ومرشدوه، فمن ذا الذي يهديهم؟ قال هذا ليُنهض ضمائر تلاميذه ليسهروا لئلا يضلوا (عبرانيين ٦: ١ – ٦).

يُطْرَحَ خَارِجاً عندما تتوقف الكنيسة أو بعض أعضائها عن أن تؤثر التأثير الذي أراده الله من وجودها لا تكون بلا نفع فقط، بل موضوع ازدراء الناس أيضاً.

١٤ «أَنْتُمْ نُورُ ٱلْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَلٍ».

أمثال ٤: ١٨ وفيلبي ٢: ١٥

أَنْتُمْ نُورُ هذا تشبيه ثان لبيان وظيفة الكنيسة. يؤثر الملح داخلياً، ويؤثر النور خارجياً. وهو بركة أعظم من الملح، ومثل للحق والقداسة. فالكنيسة نور لأنها تمنح العالم علماً، وتنفي الضلالة، وتمزق الجهالة الروحية، وتستمد نورها من الله فتشبه القمر الذي يستمد نوره من الشمس ويعكسه إلى الأرض (يعقوب ١: ١٧) وتبعث نوراً لأنها تتمسك بكلمة الحياة التي هي نور (مزمور ١١٩: ١٠٥، ١٣٠ وفيلبي ٢: ١٥ و١٦ و١بطرس ١: ١٩). وترسل نوراً بتعليمها وقدوتها. وأما النور الحقيقي فهو المسيح (يوحنا ١: ٩ و٨: ١٢). والمسيحيون شركاء نوره (أفسس ٥: ٨) فيطلق هذا الكلام على الكنيسة بأسرها، وعلى أفراد المسيحيين. ولا ينفع النور ما لم يكن ظاهراً. فعلى المسيحيين أن يُظهروا تأثيرهم وقدوتهم للعالم ليرى ذلك ويستفيد، وإلا فلا نفع من نورها أكثر من نفع الملح إن فسد.

مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل قصد الله أن تكون كنيسته في تاريخ العالم بمنزلة مدينة على جبل، لأنها منارة العالم العظيمة.

١٥ «وَلاَ يُوقِدُونَ سِرَاجاً وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ ٱلْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى ٱلْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْبَيْتِ».

مرقس ٤: ٢١ ولوقا ٨: ١٦ و١١: ٣٣

القصد من السراج أن يُرى وإلا فلا فائدة منه. وإضاءته ووضعه تحت مكيال عبث، فكذلك إخفاء تلاميذ المسيح ما قبلوه منه، لأن الله قصد أن يكونوا واسطة نشر العلم الإلهي للعالم.

١٦ «فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هٰكَذَا قُدَّامَ ٱلنَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ ٱلْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ».

١بطرس ٢: ١٢ ويوحنا ١٥: ٨ و١كورنثوس ١٤: ٢٥

يجب أن يتخذ المسيحيون نور الحق في هذا العالم المظلم كما يتخذ الناس السُّرج في بيوتهم فيضيئوا للناس باعترافهم وفضائلهم.

قُدَّامَ ٱلنَّاس أي أمام عيونهم لا خفية عنهم.

لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ ٱلْحَسَنَةَ أي ليكون عملكم الحسن ظاهراً لا خفياً. فالمسيحيون مجبورون أن يحفظوا صيتهم من العار بين الناس.

وَيُمَجِّدُوا يجب أن يكون هدفهم بذلك ليس كهدف الفريسيين أن يمدحهم الناس، بل أن يتمجد الله بهم، أي أن ينشروا معرفته وحمده بين خلائقه. ففي البيت المنير ليس المجد للأضواء بل لصاحب البيت، وفي المدينة العامرة ليس المجد للبنّاء بل للباني.

أَبَاكُم يعلمنا المسيح ابن الله الوحيد الذي بواسطته وحده صرنا أبناء الله أن ندعو الله أبانا. وهذه هي المرة الأولى التي فيها علَّم هذا التعليم، فهو يقوي ثقتنا بالصلاة وينشطنا في طاعته.

١٧ «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ ٱلنَّامُوسَ أَوِ ٱلأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ».

رومية ٣: ٣١ و١٠: ٤ وغلاطية ٣: ٢٤

أظهر المسيح في هذا العدد وما يليه علاقته بالناموس والأنبياء، أي بالعهد القديم. وكأنه يجاوب سؤال سائل: ما هي الأعمال الصالحة التي يتمجد بها الله؟ هل ما أمر به العهد القديم هو ما يأمر به العهد الجديد؟

لاَ تَظُنُّوا زعم البعض أن المسيح يرتب قواعد جديدة للاعتقاد والأعمال ويلغي العتيقة. فتوقع الكثيرون التحرر من وجوب طاعة الناموس، فقال: لا تتوقعوا ذلك ولا تخافوا. قد أتى الدين المسيحي إلى العالم ليحفظ كل ما فيه من الصلاح ويوسع دائرته.

أَنِّي جِئْتُ أعني كمعلم من الله يوحنا ٣: ٢

لأَنْقُض أي لأُلغي أو أُبطل.

ٱلنَّامُوس أي ناموس موسى، وهو كل تعاليمه لا رموزه فقط.

أَوِ ٱلأَنْبِيَاءَ المرَّجح أنه قصد كل كتبة العهد القديم الملهمين، لا الذين أنبأوا بالحوادث المستقلة وحدهم. وهاتان الكلمتان «الناموس والأنبياء» تتضمنان كل كلام الله المعلن بالوحي للناس مما أعلن لموسى أولاً إلى ما أعلن لآخر الأنبياء أخيراً.

لقد أبطل الفريسيون الناموس بتقاليدهم، وأبطل الصدوقيون أقوال الأنبياء بإنكارهم ما أوحى إليهم، فلم يعترفوا إلا بالطاعة للناموس.

مَا جِئْتُ أي سواء كان مجيئي للتجسد (يوحنا ١٦: ٢٨) أم للتعليم (يوحنا ٣: ٢).

لأَنْقُض فلم ينقض المسيح شيئاً إلا الخطية.

بَلْ لأُكَمِّل بكلامه وأفعاله، لأن غايته كانت أن يطيع الناموس ويتمم المقصود منه. فلم يقصد أن الناموس ناقص، بل إنه جاء ليتمم بفعله ما لم يكمل، وذلك بتعليمه ومثاله وطاعته وموته عنا، فقال إن اعتبار الناموس لا يقل في ملكوته، بل يبقى له أعظم الإكرام وأفضل الطاعة. وهذا يناقض ما قاله بعضهم إن العهد القديم قد زال، وإنه لذلك ليس دستور إيمان المسيحيين، وإنهم ليسوا مكلَّفين أن يطيعوه. فالكتاب المقدس كتاب واحد، فإن سقط بعضه سقط كله، وإذا ثبت البعض ثبت الكل. وقد كمل المسيح الناموس بخمسة أمور:

الأول طاعته له (غلاطية ٤: ٤) والثاني تتميمه كل رموزه ونبواته، والثالث فداؤه إيانا من قصاص الناموس الذي خالفناه ومن لعنته، فإنه بذلك أكمل الناموس أفضل تكميل، لأن الناموس يقول إن «اَلنَّفْسُ الَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ» (حزقيال ١٨: ٢٠). فمات المسيح بدل الأثمة. والرابع تفسيره إياه وتوضيحه وإظهار معناه الروحي. والخامس إنه يكتبه على قلوب الناس ويهبهم النعمة ليطيعوه. ولم يأت مقتصراً على تكميل الناموس، بل أزال منه كل ما زيد عليه من التعاليم التي أبطلها.

١٨ «فَإِنِّي ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ ٱلسَّمَاءُ وَٱلأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ ٱلنَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ ٱلْكُلُّ».

لوقا ١٦: ١٧

الناموس لا يتغير لأنه إعلان إرادة الله المنزَّه عن التغير. فلم يكن قصد المسيح أن ينقض الناموس لأن نقضه محال.

ٱلْحَقَّ ومعنى هذه الكلمة في الأصل اليوناني «آمين» وهى المستعملة في خاتمة الصلاة والبركات واللعنات والنذور وسائر الإعلانات الدينية تثبيتاً لها.

أَقُولُ لَكُم أنا ابن الله وابن الإنسان، أقول لكم يا تلاميذي.

إِلَى أَنْ تَزُولَ ٱلسَّمَاءُ الخ إذن لا يلغي الناموس إلى الأبد لأنه جزء من تكوين الكون، فيدوم ما دام الكون. وهذا الكلام مثل بين اليهود يدل على عدم إمكان التغيير، وليس معناه أن السماء والأرض تزولان في ما بعد، وبزوالهما يزول الناموس أيضاً. وليس هنا أدنى تلميح إلى نهاية كل شيء، بل إذ لم يكن شيءٌ من المخلوقات أثبت من نظام الكون، اتَّخذه المسيح مثالاً لعدم التغيير.

حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ عبارة مستعارة من مصطلحات الكتابة، تعني أنه لا يبطل من الناموس شيء قبل أن تكمل غايته. والكلمة المترجمة هنا حرفاً هي «يوتا» في اليوناني و «يود» في العبراني و «ياء» في العربية، وهى أصغر حروف اللغة اليونانية والعبرانية.

من الناموس: أي يبقى جزء منه. فلا يمكن أن يزول حرف الناموس بدون أن يكون قد تم بالروح والحق. فإذا نظرنا إلى الناموس الطقسي باعتباره رمزاً وظل الخيرات العتيدة، رأينا أنه زال بالمسيح. وأما جوهره فلأنه جزء من كلام الله يدوم إلى الأبد في السماء (١بطرس ١: ٢٥). فزوال ما يبدو أنه زال من الناموس يشبه زوال البراعم والأزهار عند يكمل الثمر ويحل محل الزهور.

حَتَّى يَكُونَ ٱلْكُلّ حتى يتم فعلاً كل ما وعد به وكل ما أشارت الرموز إليه. وليس لحروف الكتابة ونقطها معان ليتم كل منها بمفرده، ولكن الناموس كله سيبقى كنظام حتى تكمل كل مقاصده.

وإن سُئل: كيف تتَّفق هذه الأقوال القوية مع قصد المسيح أنه بمجيئه يبطل رسوم الناموس الطقسي؟ فالجواب إن الناموس الإلهي الوحيد يتضمن بعض الحوادث الوقتية قصد الله أن يزيلها بعد ما تمت غايتها. فإزالة الجزء الطقسي من الناموس ضروري لإتمام كل الناموس، كما أن إبطال الصك ضروري عند إيفاء الدين المعيّن فيه. والرسول أوضح كيفية تكميل يسوع الناموس الطقسي في عبرانيين أصحاحات ٧ و٨ و١٠. وقصد المسيح بهذا الكلام أن يقينا من الضلالة في أن نستنتج من ذلك أن المسيحيين مكلفون بطاعة الشريعة اليهودية أو جزء منها. وقد فسَّر المسيح في بقية هذا الأصحاح وأصحاحي ٦، ٧ ما هو روح هذه الشريعة، وكم هي أوسع مما ظن الناس. وبذلك علَّم أن حياة كل مسيحي يجب أن تُظهر معنى كل حرف ونقطة منها.

١٩ «فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هٰذِهِ ٱلْوَصَايَا ٱلصُّغْرَى وَعَلَّمَ ٱلنَّاسَ هٰكَذَا، يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ، فَهٰذَا يُدْعَى عَظِيماً فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ».

يعقوب ٢: ١٠

فَمَنْ نَقَض أي ألغى أو أبطل. ومعظم الإشارة هنا إلى روح الناموس (انظر يعقوب ٢: ١٠) فلا يشير إلى قصور في حفظ ناموس الله الأخلاقي، الذي خالفه الجميع، بل إلى مخالفتهم إياه عمداً بحُجَّة أنهم أُعفوا منه.

ٱلصُّغْرَى أعني الأقل قيمة في ذاتها، أو في اعتبار الناس لها. ولأنها جزء من الناموس وجب على الناس طاعتها. ومن خالفها عمداً يكون قد أخطأ في الكل (يعقوب ٢: ١٠).

قسمَّ اليهود الوصايا إلى كبرى وصغرى، وحسبوا أصغر الكل الوصية المتعلقة بأعشاش الطيور (تثنية ٢٢: ٦، ٧) ولا شك أن المسيح لم يشر هنا إلى وصية كهذه، بل إلى الناموس الأخلاقي وإلى كبح الأفكار والشهوات التي يحسبها الناس لا طائل تحتها بالمقابلة مع الأعمال التي وحدها لها الاعتبار عندهم. وهذه الخطايا ليست صغرى في عيني الله، فلا يمكن أن يرتكبها المسيحيون وينالون رضاه.

وَعَلَّمَ ٱلنَّاسَ هٰكَذَ بأقواله أو بقدرته ليستخفوا بالناموس كلياً أو جزئياً.

أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ أي في ملكوت المسيح الجديد، لأن الإنسان بتركه أصغر وصية من الناموس ينحط إلى أدنى درجة في ذلك الملكوت، ويصير موضوع الحزن والشفقة. ولا يطرد الجاني إلى الأبد من الملكوت إذا كان تعديه ليس عمداً، أو إذا تاب عن جنايته. فمُكرِّم الناموس مكرَّمٌ من الإنجيل ومهينهُ مهان.

مَنْ عَمِلَ وَعَلَّم الأفضل هو من يقرن المعرفة بالعمل، ولا يكتفي بالتعليم الصحيح. فهذا يعتبر عظيماً عند المسيح. فالعلم والعمل هما الواسطتان العظيمتان اللتان عيَّنهما الله لإصلاح العالم.

٢٠ «فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى ٱلْكَتَبَةِ وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ».

رومية ٩: ٣١، ٣٢ و١٠: ٣

شرح هذه الآية هو كل موعظة المسيح على الجبل، فالبر المطلوب من أصحاب النظام الجديد يفوق كثيراً بر الكتبة والفريسيين، الذين ألزموا الناس بحفظ حرف الناموس ونسوا روحه. وقد صرح بذلك في تسع قضايا أخطأوا فيها بشرحهم ناموس موسى، وهي: القتل، والزنا، والطلاق، والقسَم، والانتقام، والمحبة الخالصة، والصَّدقة، والصلاة، والصوم.

فَإِنِّي أَقُولُ أي باعتبار إني ابن الله الذي يعلن إرادة الآب. قال هذا ليجعل قوله ثابتاً موقراً.

يَزِدْ إن برَّ أتقى الناس ليس كافياً في عيني الله، فلا يجب أن ننظر إلى أصحاب بر كهذا كنموذج لنا، بل يجب أن تزيد تقوانا على تقواهم. توقع الكثيرون من اليهود أن يسمعوا من المسيح خلاف ذلك، أي أنه يكلفهم في النظام الجديد بأقل مما كلفهم رؤساؤهم سابقاً. وبيان البر المطلوب هو: «الْيَهُودِيُّ فِي الْخَفَاءِ هُوَ الْيَهُودِيُّ، وَخِتَانُ الْقَلْبِ بِالرُّوحِ لاَ بِالْكِتَابِ هُوَ الْخِتَانُ، الَّذِي مَدْحُهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ بَلْ مِنَ اللهِ» (رومية ٢: ٢٩).

بِرُّكُمْ البر هو قانون الاعتقاد والعمل، وهو كل ما يكلف الله الإنسان به ليرضيه.

ٱلْكَتَبَةِ وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ هم معلمو الناموس، وحافظوه كل الحفظ، ومرشدو الشعب الروحيون الذين كان يعتبرهم الناس أقدس البشر، حتى شاع القول بين اليهود أنه «إذا لم يدخل السماء سوى شخصين فلا بد من أن يكون أحدهما فريسياً». وكان الكتبة في أول أمرهم يكتبون الناموس، وبعد ذلك صاروا مفسريه. وهم من شيعة الفريسيين.

لَنْ تَدْخُلُوا يزيد في هذا على قوله «فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هٰذِهِ ٱلْوَصَايَا ٱلصُّغْرَى وَعَلَّمَ ٱلنَّاسَ هٰكَذَا، يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ» (ع ١٩) ولن يدخله أبداً.

٢١ «قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ، وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ ٱلْحُكْمِ».

خروج ٢٠: ١٣ وتثنية ٥: ١٧

قَدْ سَمِعْتُمْ أي تعودتم سمعه من معلميكم الكتبة والفريسيين.

لِلْقُدَمَاءِ هم آباء الأمة الذين قبلوا الناموس على يد موسى. و «قيل للقدماء» أي ما اصطلح عليه الكتبة والفريسيون عند اقتباسهم شيئاً من الشريعة.

لاَ تَقْتُلْ هذه الوصية السادسة (خروج ٢٠: ١٣). وقول موسى لم يتغيَّر، وأما مفسروه فقد غيروا معناه. فلا اختلاف بين موسى والمسيح.

وَمَنْ قَتَلَ هذا شرح الكتبة والفريسيون ما أضافوه إلى الأصل كأنه جزء منه، وفسروا الوصية بأن الذي يقتل فعلاً هو المستوجب الحكم، فضيَّقوا دائرة حكم الوصية.

مُسْتَوْجِبَ ٱلْحُكْم هذا عقاب من يخالف هذه الوصية، بغضّ النظر عن كونه في هذا العالم أم في الآتي.

٢٢ «وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ ٱلْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ ٱلْمَجْمَعِ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ».

خروج ٢٠: ١٣ وتثنية ٥: ١٧ ويوحنا ٣: ١٥

بعد أن ذكر المسيح تعليم الفريسيين في هذه الوصية شرحها شرحاً أوسع من شرحهم، فإنهم قيّدوا القتل في شرحهم بأنه القتل الفعلي وعمداً. ولم يعتبر المسيح العمل الخارجي فقط قتلاً، بل هو أيضاً النوايا الشريرة التي سببت ذلك. ولأن البغض الذي يتربى في القلب يقود إلى القتل، ويدخل تحت هذا الحكم. فعند الله الانفعال الداخلي يشبه العمل الخارجي.

وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لا يقصد مقارنة قوله بقول موسى «لا تقتل» بل مقارنته بشرح الكتبة الذي قيَّد معنى الوصية بالقتل عمداً وفعلاً.

عَلَى أَخِيهِ أي أحد البشر، لأن الجميع من آدم وجميعهم خليقة الله. فيجب أن نعتبر جميع الناس إخوتنا ونعاملهم كذلك.

بَاطِلاً كما يُدان الناس على القتل عمداً وفعلاً، يُدانون على نواياهم الشريرة التي تقودهم إلى القتل. كما قال يوحنا الرسول «كُلُّ مَنْ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ قَاتِلُ نَفْسٍ» (١يوحنا ٣: ١٥). والكتاب المقدس لا يدين من يغضب عندما يشاهد عملاً شريراً (أفسس ٤: ٢٦) بشرط أن يكون الغضب على العمل أكثر مما على العامل. والكلمة المترجمة هنا «بالحكم» تشير إلى أصغر محاكم اليهود وهى مؤلفة من سبعة أعضاء (تثنية ١٦: ١٨).

رَقَا ذكر المسيح أولاً الحكم على انفعال البغض، وذكر هنا الحكم على كلام البغض. فمعنى «رقا» باطل أو فارغ، وهي كلمة كانت عندهم للشتيمة والتعيير، فهي علامة الغضب والاحتقار. بها عيَّرت ميكال داود حين رقص أمام التابوت (٢صموئيل ٦: ٢٠). (انظر الأصل العبراني واليوناني).

فنرى أن المسيحية تأمر باللطف والرقة والإنسانية نحو الجميع، وتعلم أن المحبة هي خلاصة جميع الوصايا.

ٱلْمَجْمَعِ يُستعمل غالباً للإشارة إلى المجمع السبعيني الذي هو أعظم مجمع عند اليهود. فهذا الذنب الذي يستخف به الفريسيون يحسبه المسيح مستوجباً حكم هذا المجلس الكبير. فنتعلم من ذلك أن الله يعاقب الشاتمين (متّى ١٢: ٣٦).

يَا أَحْمَقُ هذه الكلمة تستعمل للاحتقار والغضب والاتهام بالشر، وباستعمالها مُنع موسى وهارون من دخول أرض الميعاد (عدد ٢٠: ١٠). (انظر الأصل العبراني واليوناني).

نَارِ جَهَنَّمَ المراد بجهنم هنا إما دار العقاب في الآخرة، أو وادي هنوم قرب أورشليم وعلى الجنوب الغربي منها حيث جرت العادة أن تحرق جثث المذنبين وأوساخ الهيكل (يشوع ١٨: ١٦ وإرميا ٧: ٣١). فهناك كانت النيران مضطرمة دائماً، فكانت رمزاً للعذاب الأبدي. وفي هذا الوادي قدمت الذبائح إلى الإله «مولوك» (٢ملوك ١٦: ٣). وبعد ذلك صار مكان إلقاء كل أقذار المدينة.

هذه الوصية لا تنحصر في القتل فعلاً، بل تفيد أيضاً أن فكر البغض هو قتل يستوجب القصاص. والتلفُّظ بكلمة مثل «رقا» التي تدل على الحقد في الباطن ذنباً يقتضي أن يعاقب مرتكبه في أعظم المجالس. وربما قال أحد لغيره «يا أحمق» بانفعال الغضب الشديد فوجب عليه عذاب جهنم. والنتيجة أن إثم الإنسان يتنوع بحسب حالة قلبه. وعلى هذا القياس يستوجب القصاص هنا وفي المستقبل. وهذه الثلاثة «الغضب على الأخ» واستعمال كلمتي «رقا وأحمق» ليست كناية عن ثلاثة أنواع من الخطية تستوجب ثلاثة أنوع من القصاص «الحكم» «والمجمع» «ونار جهنم»، بل هي إشارة إلى انفعالات النفس المختلفة في قوتها، التي جميعها في عيني الله تستوجب الموت. فلا تمييز هنا بين خطايا عرضية وخطايا مميتة كما يزعم البعض، لأن كل الخطايا مميتة في عيني الله.

وأما كون المسيح قصد بقوله هذا أحوال القلب لا مجرد النطق بالفم، فيظهر من توجيهه مثل هذا الكلام إلى الكتبة والفريسيين (متّى ٢٣: ١٧، ١٩) ومن توجيه بولس مثل ذلك إلى الملحد (١كورنثوس ١٥: ٣٦).

٢٣ «فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى ٱلْمَذْبَحِ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئاً عَلَيْكَ».

متّى ٨: ٤ و٢٣: ١٩

أتى المسيح في هذا العدد بنتيجة ما تقدم من الواجبات المتضمنة في الوصية السادسة. والتفت من ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب، ليجعل كلامه أشد تأثيراً في السامعين. فقد تبين أن هذه الوصية تراعي عواطف الإنسان الداخلية وكلماته الطفيفة، فيجب أن يتصالح المتخاصمون حالاً في كل الاختلافات ذات الشأن. ويجب أن تسبق المصالحة كل الواجبات الدينية الخارجية، لأن تلك شرط لازم لقبول هذه. وهذا الكلام يبين خطر الغضب على الآخرين، ووجوب الاجتهاد في إزالته من قلوبنا ومن قلوب غيرنا من الناس.

فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ أي إذا وصلت إلى المذبح وابتدأت تقدم قربانك.

ٱلْمَذْبَح لا تدل كلمة المذبح هنا على وجوب استعمالها في التعبير عن العبادة المسيحية، لأن الكلام هنا متعلق باليهود. ولا تشير إلا إلى طقوس يهودية، لأن الذين خاطبهم في ذلك الوقت كانوا يهوداً، فشخَّص أمامهم حادثة تجرى في هيكلهم.

وَهُنَاكَ تَذَكَّرْت كأن ذلك لم يخطر على باله قبلاً. هكذا كل من يهيء قلبه لتقديم عبادة مقبولة يتذكر ما غفل عنه من الواجبات.

أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئاً عَلَيْك لا يُقال فيه إن كان لك شيء على أخيك، وجاء الكلام في هذا الشأن في بشارة مرقس ١١: ٢٥ وكلمة «أخيك» هنا بمعنى صاحبك أو أخيك حقاً. فإذا شهد علينا ضميرنا أننا أسأنا إلى أخينا بشيء، يجب ألا نتأخر حتى يأتي هو ويعاتبنا، بل يجب أن نفعل كل ما يأمرنا به الضمير. فإن كانت دعوى أخينا علينا باطلة ومبنيَّة على الظن، يجب أن نجتهد في إزالة سوء الظن هذا، ونصطلح معه، ولا نبقي بغضة قلبية له.

٢٤ «فَٱتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ ٱلْمَذْبَحِ، وَٱذْهَبْ أَوَّلاً ٱصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ».

أيوب ٤٢: ٨ و١تيموثاوس ٢: ٨ و٥: ١٣ و١بطرس ٣: ٧

إذا تأخرت عن تقديم قربانك ففي وسعك أن تقدمه في وقت آخر، وأما إذا أخَّرت المصالحة فربما لا يكون لك فرصة لإجرائها بعد ذلك.

قُرْبَانَك سمي بهذا الاسم كل ما كان يُقدم على المذبح، سواء كان ذبيحة للكفارة أم تقدمة للشكر.

قُدَّامَ ٱلْمَذْبَحِ ويعني أيضاً قدام الله. ولا يقتصر المسيح هنا على ما يجب علينا إذا حدثت مثل هذه تماماً، بل يريدنا أن نجري المصالحة مع إخوتنا ولو في أصعب الأحوال.

ولابد أن يعلمنا هذا وجوب أن يصطلح المسيحي مع أخيه قبلما يأتي إلى مائدة الرب (العشاء الرباني) أو إلى كل العبادات الدينية، لأن العبادة المتقدمة بالغضب مرفوضة (١تيموثاوس ٢: ٨). وليس المقصود أنه يجوز ترك العبادة إذا لم يوجد روح لائق بها، لأن ذلك يضيف خطية على خطية. يمتنع البعض عن حضور الكنيسة إن حدث خلاف بينهم وبين بعض الإخوة. فيجب عليهم بدل ذلك أن يصالحوهم حالاً ويثابروا على العبادة.

ٱذْهَب ليس بقصد ترك العبادة، بل لإجراء المصالحة. وقوله «اذهب» يتضمن ألا تتوقع مجيء أخيك إليك بل أن تبدأ ذلك أنت.

ٱصْطَلِح إما بطلب المسامحة أو بمنحها، وابذل كل ما في طاقتك لإزالة سبب الاختلاف. فإن كنت قد اختلست حقه فرُدَّه له، وإن كنت مديناً له بشيء أوفِه، وإن كنت قد شتمته اعترِف بذنبك واطلب الغفران. وإن كان متوهماً فاجتهد في إزالة الوهم، لأن الصلاة لا تُقبل ما لم يزُل كدر القلب بالمصالحة. فيجب إجراء هذه أولاً ثم الصلاة.

من الأمور المقصودة في العبادة تصليح حال العابد، فلا يُقبل عند الله قربان المسيء إلى أخيه، ولا يرضى بالعبادة الخارجية ما لم تقدم بروح الوداعة والمحبة. فالحسد والبغض يفسدان أفضل قرابيننا، فمن العبث أن نعبد الله ونحن غافلون عن واجباتنا لإخوتنا. كان الفريسيون ينظرون إلى القربان فقط، وأما الله فينظر إلى روح من يقدمه.

أَخِيك أيُ شخصٍ كان.

وَحِينَئِذٍ تَعَال هذه المصالحة لا تجعل تقديم العبادة غير ضروري، لأن القيام بواجباتنا للناس لا يعفينا من القيام بواجباتنا لله. ويُستنتج من هذا أنه بعد المصالحة يقبل الله قربان العابد لأن الله راضٍ عنه. وخلاصة تعليم الآية كلها أن عبادتنا لله ليست مقبولة أصلاً إن تركنا واجباتنا للناس وعشنا معهم بالخصام.

٢٥ «كُنْ مُرَاضِياً لِخَصْمِكَ سَرِيعاً مَا دُمْتَ مَعَهُ فِي ٱلطَّرِيقِ، لِئَلاَّ يُسَلِّمَكَ ٱلْخَصْمُ إِلَى ٱلْقَاضِي، وَيُسَلِّمَكَ ٱلْقَاضِي إِلَى ٱلشُّرَطِيِّ، فَتُلْقَى فِي ٱلسِّجْنِ».

أمثال ٢٥: ٨ ولوقا ١٢: ٥٨، ٥٩ ومزمور ٣٢: ٦ وإشعياء ٥٥: ٦

ذكر الاختلاف مع الأخ وتوصل بذلك إلى ذكر الشكاية إلى الحكومة، فأورد الحوادث المزعجة المتعلقة بتلك الشكاية، وبيَّن أنها من الأسباب التي توجب على الإنسان أن يفضل إيجاد طريقة للاتفاق مع خصمه على انتظار نتيجة المحاكمة المجهولة. وغاية هذه النصيحة كغاية التي قبلها، منع الخصومة والعداوة المخالفة لوصية الله. فكأنه قال: إن كان بينك وبين أخيك دعوى فاتفق معه ولو بترك بعض حقوقك، فهذا خيرٌ لك من بقائك تحت خطر خسارة الدعوى وخسارة المال بذهابك إلى الحكومة ووقوع القضاء عليك أخيراً بالسجن. وكل هذا مع ما لا بد منه من هياج الغضب في قلبك وقلب خصمك.

وليس المقصود أن الله هو الخصم كما توهم البعض، بل بيان دعوى في محكمة سياسية. ويحتمل أن يكون معناه أنه من الحكمة في الأمور الدينية أن يتفق الإنسان مع خصمه قبل خروج الحكم الذي ربما أوقعه في عذاب السجن الطويل. فكذلك من الحكمة أن نصالح أخانا الذي له دعوى علينا لئلا يشتكي ظلمنا إلى الديان العظيم فيلقينا في السجن الأبدي!

كُنْ مُرَاضِياً لِخَصْمِكَ هذا شرح لمطالب الوصية السادسة. فالذي يحب الدعاوى السياسية، والذي يلجأ دائماً للمحاكم والقضاء يخالف روح هذه الوصية. والمعنى: أَظهِر استعدادك للاتفاق مع خصمك قبل فوات الوقت، لأن الدعاوى الطفيفة تتجسم كلما طالت مدتها. والخصم هنا هو الشخص المشتكي لا الضمير ولا الشيطان.

فِي ٱلطَّرِيق أي الطريق إلى محل المحاكمة. والمعنى: اغتنم الفرصة الأخيرة للاتفاق والمصالحة قبل المحاكمة. فيذكر المسيح نتائج عدم الاتفاق بألفاظ مأخوذة من اصطلاحات المحاكم. فإن أبى الإنسان المصالحة فالنتيجة خطرٌ عليه، سواء أكانت في محكمة أرضية أم سماوية.

يُسَلِّمَكَ ٱلْخَصْمُ إما بالشكوى أو بطلب إصدار الحكم.

وَيُسَلِّمَكَ ٱلْقَاضِي بإصدار الحكم، وأمر الشرطي بإجرائه.

فَتُلْقَى فِي ٱلسِّجْن عند أمر القاضي بذلك. وهو كلام عن معاملتنا بني جنسنا ومعاملتهم إيانا. والسجن لا للتطهير هنا بل للقصاص.

٢٦ «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لاَ تَخْرُجُ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى تُوفِيَ ٱلْفَلْسَ ٱلأَخِير».

تُظهر هذه الآية النتائج الجسيمة من الإبطاء في فض الدعاوى. إن طريق الحكمة في الأمور الدينية المشار إليها هنا هي طريق الحكمة في الأمور الروحية. فإذا كان الاتفاق في هذه الحياة مع الأخ الذي أسأنا إليه ضرورياً، فبالأولى أن يكون ضرورياً قبل أن نقف أمام القاضي العظيم في السماء والحكم علينا بالعقاب الأبدي.

حَتَّى تُوفِيَ ٱلْفَلْسَ ٱلأَخِير أي حتى توفي الدَين كلَّه. فهذا ممكن في الديون المالية لا في الديون الروحية، فإنه يتعذر على الإنسان أن يوفي عن خطاياه، فلا يقدر أن يوفي مثل هذا الدَين إلا فادي الخطاة حمل الله رافع خطايا العالم.

وليس في هذه الآية ما يثبت أبدية العذاب الجهنمي أو يناقضه، لأن المقصود هو أن الوقت الحاضر هو الوقت المناسب للاتفاق والمصالحة. وأما بعد ذلك فيجري العدل حقّهُ بكل شدة.

٢٧ «قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ».

خروج ٢٠: ١٤ وتثنية ٥: ١٨

يُفسر المسيح هنا الوصية السابعة على منوال تفسيره للوصية السادسة، ويحسب شهوتي الجسد والعين كسراً للوصية، ويعتبر مجرد النظر طاعةً للأفكار والأهواء النجسة. وهذا ذنب داود الذي قاده إلى الزنا والقتل (٢صموئيل ١١). فالرب يقارن تعليمه بتعليم الفريسيين، لا بالوصية عينها، لأنهم علَّموا أنه لا يحسب متعدياً على الوصية إلا من زنى فعلاً. وأما هو فيقول إن معنى الوصية هو أن الطهارة الداخلية واجبة كالخارجية، ويجب أن تحفظ بكل اعتناء، وبإنكار الذات، وبضبط أفكارنا وميولنا.

٢٨ «وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى ٱمْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ».

تكوين ٣٤: ٢ و٢صموئيل ١١: ٢ وأيوب ٣١: ١ وأمثال ٦: ٢٥

مَنْ يَنْظُرُ نظر متعمداً بقصدٍ شرير طاعةً للعواطف الشهوانية، لا النظر بالصدفة (٢بطرس ٢: ١٤).

فَقَدْ زَنَى تنهى هذه الوصية عن الفكر الرديء كما تنهي عن الفعل عينه. فإن زنى الإنسان في قلبه فقط فهو أثيم بمقتضى الشريعة، ومستوجب عقاب الله. فجوهر الخطية في قصد الإنسان، لأن الأفكار الفاسقة تدنسه.

فِي قَلْبِه لأن القلب مركز الحياة ومحور الميول والعواطف. وزناه يدنس هيكل الروح القدس. فمن صرف نظره وأفكاره عن الخطية حفظ نفسه من التجربة والسقوط في حمأة الإثم والموت الأبدي. فإن كانت لمحة من عيوننا وأقل تسليم إلى أهوائنا يوقعنا تحت حكم الزنا في عيني الله، فما أشد احتياجنا إلى دم المسيح وبره للتطهير وغفران الخطايا والتبرير. فما أقدس شريعة الله وأوسع نطاقها. إنها لا تقتصر على عملنا، بل على خفايا قلوبنا.

٢٩ «فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ ٱلْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَٱقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ».

متّى ١٨: ٨، ٩ ومرقس ٩: ٤٣ – ٤٧ ورومية ٨: ١٣ و١كورنثوس ٩: ٢٧ وكولوسي ٣: ٥

عَيْنُكَ ٱلْيُمْنَى الخطاب لكل فردٍ من الحاضرين. وذكر العين دون غيرها من الأعضاء لأنها آلة التجربة، ولتعلقها مع النظر العشقي المذكور في ع ٢٨. وخصَّ العين اليمنى لأنها الفضلى عند سامعيه.

تُعْثِرُك تجذبك للخطية.

فَٱقْلَعْهَا ليس حرفياً، لكن بإنكار الذات، لأنه يمكن أن يقلع الإنسان عينه حرفياً وتبقى الشهوة داخله. فيجب أن نقاوم أول الشهوة الرديئة، ولو كلفنا ذلك خسران الأكثر نفعاً ولذة لنا، وأن نحرم ذواتنا مما هو عزيز عندنا وضروري لنا، حينما يحوجنا إلى ذلك خير نفوسنا. «وَلْيَمْلِكْ فِي قُلُوبِكُمْ سَلاَمُ اللهِ الَّذِي إِلَيْهِ دُعِيتُمْ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ، وَكُونُوا شَاكِرِينَ» (كولوسي ٣: ١٥).

فخيرٌ للإنسان أن يخسر أفضل أعضائه من أن يخسر عفته الأخلاقية. فهذه الآية تقطع أسباب ارتكاب الخطية. وذلك يستلزم إبطال عادات غريزية، إن كانت عثرةً لنا. وهي تحرم علينا تناول المسكرات، والتردد على المراقص ودور اللهو، وقراءة القصص والقصائد العشقية، والنظر إلى الصور التي تهيج الشهوات الردية، والاستماع إلى المحادثات الدنسة والأغاني الغرامية. والخلاصة، أن لا أمان للإنسان إلا بمقاومة التجربة أول ظهورها.

وَأَلْقِهَا عَنْك كأنها مكروهة لأنها تتجه للخطية. وكما أن الجرّاح لا يمتنع عن بتر أحد أعضاء الجسد ليحفظ الحياة، هكذا نحن يجب أن لا نعبأ بخسارة عالمية مهما كانت عظيمة، لكي نخلص حياتنا الأبدية، لأن كل الخسائر العالمية لا تعادل خسارة رضى الله وخسارة النفس.

لأَنَّهُ خَيْرٌ لَك إنكار النفس هو عين المحبة الحقيقية لها، لأنه ينتج خيراً روحياً وجسدياً، زمنياً وأبدياً. فخسارة عضو من أعضائنا برضانا إلى وقت ما، خيرٌ من خسارة الجسد كله بالرغم منا إلى الأبد.

٣٠ «وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ ٱلْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَٱقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّم».

ما قاله المسيح عن العين اليمنى قاله عن اليد اليمنى، فنقطعها إن كنا لا نقدر أن نبقيها بدون أن نخطئ بواسطتها أمام الله. وفي هذا أيضاً ليس المقصود قطعاً حرفياً، بل معناه أن لا نتأخر عن ترك كل شيء يجذبنا إلى الخطية، مهما كان عزيزاً وضرورياً لنا. فاليد التي يجب قطعها هي يد الظلم والانتقام التي تفعل الشر. ويُكنى بها عن عادات ولذات شريرة بذاتها، ولكن تتهيج بها الشهوات التي تؤدي إلى السقوط والتهور في الخطية. فأفضل طريقة لطاعة روح الأمر تشغيل العين واليد بفعل الخير لتكونا آلتين للبر فقط.

٣١ «وَقِيلَ: مَنْ طَلَّقَ ٱمْرَأَتَهُ فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلاَقٍ».

تثنية ٢٤: ١ وإرميا ٣: ١ ومتّى ١٩: ٣ الخ ومرقس ١٠: ٢ الخ

خالف الكتبة والفريسيون روح الوصية السابعة أيضاً بشرائعهم من جهة الطلاق، إذ فسروا ما ورد في تثنية ٢٤: ١ كإذن لتطليق الإنسان امرأته لأقل سبب، بشرط أن يعطيها كتاب طلاق. فالمسيح لا يقارن هنا تعليمه بتعليم موسى، بل بشرح الفريسيين لذلك التعليم. وتظهر عظمة الشرور الناتجة من شرحهم الفاسد مما قيل في ملاخي ٢: ١٤ – ١٦.

خلق الله أولاً رجلاً وامرأة، ورسم أن يدوم اقترانهما حتى موت أحدهما (تكوين ٢: ٢٤). ولكن موسى وجد بني إسرائيل صاروا قساة القلوب، وتعوَّدوا الطلاق كثيراً، فاستحسن كحاكم سياسي أن لا يمنع الطلاق مطلقاً بل أن يضع له حدوداً. وأما المسيح فأرجع الشريعة إلى أصلها. وهي لا تزال إلى يومنا هذا شريعة الله الوحيدة التي تصون راحة العائلة والأخلاق العامة والاعتبار الواجب للمرأة والتربية الحسنة للأولاد.

كِتَابَ طَلاَق أمر موسى بذلك كحاكم سياسي ليمنع الطلاق على الفور، وأذن به دفعاً للشر الأعظم (مرقس ١٠: ٥). ولم يكن إعطاء كتاب الطلاق للمرأة اتهاماً لها بعدم الاستقامة، بل ليكون لها شهادة بعفتها، لأن الشريعة أمرت أن الزانية تعاقب بالموت (عد ٥: ٣١).

٣٢ «وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ ٱمْرَأَتَهُ إِلاَّ لِعِلَّةِ ٱلزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي، وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي».

لوقا ١٦: ١٨

ينهى المسيح عن الطلاق مطلقاً إلا عندما ينحل رباط الزواج بزنى أحد الزوجين. وفسر بعضهم قول الرسول في ١كورنثوس ٧: ١٥ إنه يجيز الطلاق أيضاً لعلة الهجر الدائم.

يَجْعَلُهَا تَزْنِي أي بواسطة هذا الطلاق غير الجائز يجعلها تحت تجربة الزواج ثانية بآخر. وهي لا تزال مرتبطة بالأول بحسب شريعة الله.

وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِ لأنه يأخذ امرأة غيره.

٣٣ «أَيْضاً سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَحْنَثْ، بَلْ أَوْفِ لِلرَّبِّ أَقْسَامَكَ».

متّى ٢٣: ١٦ خروج ٢٠: ٧ ولاويين ١٩: ١٢وعدد ٣٠: ٢ وتثنية ٢٣: ٢٣

موضوع كلام المسيح هنا الحلف أو استعمال الأقسام المحرمة. ضلَّ اليهود في هذا الأمر ضلالتين: في الاعتقاد والعمل. (١) أن كل حلف جائز إلا الحلف بالكذب الذي ذكر فيه اسم الله. و(٢) أن كل الأقسام لا تربط الإنسان إذا لم يُلفظ فيها اسم الجلالة. فظنهم هذا كان مناقضاً لتعليم الله في الوصيتين الثالثة والتاسعة.

فالمسيح يعلم هنا أن المخالفة لا تقوم بالألفاظ المستعملة في الحلف، ولا يكون غايته إثبات الكذب، بل باستعماله على أي صورة كانت بدون لزوم. وأن كل الأقسام والنذور تقيد الإنسان، سواءٌ لفظ فيها اسم الله أم لا.

لاَ تَحْنَثْ هذه الكلمة لا توجد لفظاً بين الوصايا العشر ولا في غيرها من ألفاظ التوراة، ولكن مضمونها في لاويين ١٩: ١٢ وهو قوله «لاَ تَحْلِفُوا بِاسْمِي لِلْكَذِبِ، فَتُدَنِّسَ اسْمَ إِلهِكَ» (لاويين ١٩: ١٢). هذا يتضمن النهي عن الحنث، وهو الخلف في اليمين.

بَلْ أَوْفِ لِلرَّبِّ هذا مأخوذ معنىً من العدد ٢٠: ٢ والتثنية ٢٣: ٢٣. فاليهود فسروا هذه الأوامر بطريقة أضاعت معناها وقوتها، لزعمهم أن نكث القسم أو النذر الذي لم يُذكر فيه اسم الله ليس حراماً.

٣٤ «وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَحْلِفُوا ٱلْبَتَّةَ، لاَ بِٱلسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ ٱللّٰهِ».

متّى ٢٣: ١٦، ١٨، ٢٢ ويعقوب ٥: ١٢ إشعياء ٦٦: ١

ذكر المسيح بعض أمثال ينهى بها عن كل الأقسام غير اللازمة.

لاَ تَحْلِفُوا ٱلْبَتَّة ذلك من جهة أمورنا الشخصية والعامة، فلا تمس واجباتنا للحكومة، فالمحاكم تضطر لكثرة الحنث بين الناس أن تطلب القسَم الشرعي واسطةً لإظهار الحق. فلا ينهي المسيح عن مثل هذه الأقسام، بل عن المستعملة في المحادثات العادية لغير مقتضى.

ويظهر أنه لم يرد بقوله الأقسام الشرعية مما أتاه هو وأتاه الرسل بعده وأتاه الله نفسه (متّى ٣٦: ٦٣، ٦٤ ورومية ١: ٩ وغلاطية ١: ٢٠ و١كورنثوس ١٥: ٣١ وعبرانيين ٦: ١٣ – ١٧ و٧: ٢١). فإن تلك الأقسام أُمر بها في خروج ٢٢: ١١ ولاويين ٥: ١وعدد ٥: ١٩ وتثنية ٢٩: ١٢، ١٤. والمسيح لم يأت لينقض الشريعة الموسوية.

فمن واجبات المسيحي عندما يؤمر بالقسم شرعاً أن يقسم بكل وقار، لا ليجبر نفسه على الكلام بالصدق بل ليقنع الآخرين أنه يصدق.

لاَ بِٱلسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ ٱللّٰه الحلف بالسماء هو كالحلف بالله ذاته، لأن السماء مقامه ومحل عرشه، فلذلك يرتبط الإنسان بهذا القسَم كما يرتبط بقسمه باسم الجلالة.

٣٥ «وَلاَ بِٱلأَرْضِ لأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ، وَلاَ بِأُورُشَلِيمَ لأَنَّهَا مَدِينَةُ ٱلْمَلِكِ ٱلْعَظِيمِ».

مزمور ٤٨: ٢ و٨٧: ٣

لأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ جاء في إشعياء «هكذا قال الرب: السماوات كرسيي والأرض موطئ قدميَّ» (إشعياء ٦٦: ١). فمن يحلف بالأرض فكأنه حلف بالله، لأن علاقتها به تجعل الحلف ذا قيمة. وسُميت موطئ قدميه لأنها له، ولأنها حقيرة بالنسبة إلى عظمته.

وَلاَ بِأُورُشَلِيم كانت عادة اليهود أن يصلّوا متجهين نحو تلك المدينة (١ملوك ٨: ٣٨، ٤٢، ٤٤ ودانيال ٦: ١٠). وهي عادة قديمة (لم يأمرهم الله بها). فكان لتلك المدينة الوقار الزائد في القَسَم.

مَدِينَةُ ٱلْمَلِكِ ٱلْعَظِيم كانت مركز الهيكل وعاصمة يهوه ملك الشعب المقدس. فنسبتها إليه جعلت للحلف بها معنىً ووقاراً (مزمور ٤٦: ٤ و٤٨: ١، ٢، ٨٧: ٣).

٣٦ «وَلاَ تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ، لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَجْعَلَ شَعْرَةً وَاحِدَةً بَيْضَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ».

بِرَأْسِك لا يجوز القسم بالرأس وإن لم يذكر الله شيئاً من أمره.

لأَنَّكَ لاَ تَقْدِر الذي يحلف برأسه يدَّعي السلطان عليه، وهو لله وحده. فلا حق لنا أن نحلف بما هو له. والحلف بالحياة كالحلف بالرأس لأن الله مصدر الحياة. فإذا حلفنا بها كأننا حلفنا به. ولا يقدر إنسان أن يخلق شعرة واحدة أو أن يغير لونها بمجرد قوة الإرادة، لأن هذا عمل الله وحده. وما قيل عن الرأس يقال عن اللحية والذقن والأولاد وغير ذلك، مما اعتادت العامة أن تحلف به.

٣٧ «بَلْ لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ، لاَ لاَ. وَمَا زَادَ عَلَى ذٰلِكَ فَهُوَ مِنَ ٱلشِّرِّيرِ».

كولوسي ٤: ٦ ويعقوب ٥: ١٢

لم ينهَ المسيح عن الأقسام الباطلة، بل نهى عن رفع كل دعوى إلى الله بغير لزوم. فيجب أن نستعمل كلماتنا البسيطة: نعم ولا، كأننا ننطق بهما أمام الله، ونعتبرهما كأعظم الأقسام. فالمقصود أن يكون كلامنا بلا أقسام. فإن أراد الإنسان أن يزيد على قوله «نعم» لم يجُز له سوى تكرارها. والأقسام في أمور صغيرة خطايا كبيرة. فيجب أن نكون دائماً صادقين حتى يثق بنا الناس بدون قَسَم. وكل إنسان ملزم بأن يصدق بقوله سواء أحلف أم لم يحلف.

وما زاد على ذلك فهو من الشرير: إما لأن ذلك مضاد للشريعة الأخلاقية، أو لأن المحرك إليه الشيطان مصدر الشر (رومية ١٢: ٩ و١تسالونيكي ٥: ٢٢ ويوحنا ٨: ٤٤ و١يوحنا ٢: ١٣، ١٤ و٣: ٧، ١٢ و٥: ١٨). ولولا شيوع الكذب في العالم لم تكن حاجة إلى الأقسام الشرعية. فلا يجوز استعمالها إلا دفعاً للشر الأعظم، كما يجوز القتل محاماةً عن الحياة. والمسيحيون بالحق لا يحتاجون إلى الأقسام أبداً. فمتّى زال الخداع والكذب من العالم تزول الأقسام أيضاً. ونستنتج من قول المسيح هذا أن من يتلفظ بالأقسام باطلاً يدل على شر قلبه. فيجب أن لا نثق بصدق من يخاطبنا بناءً على أنه يثبت كلامه بكثرة الأقسام، لأن الذي يخالف الوصية الثالثة لا يصعب عليه أن يخالف التاسعة. ولا ريب في أن الإنسان كثير الأقسام يغضب الله ويجلب على نفسه العقاب.

٣٨ «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ».

خروج ٢١: ٢٤ ولاويين ٢٤: ٢٠ وتثنية ١٩: ٢١

هنا أمر خامس يقارن فيه المسيح تعليمه بتعليم الكتبة والفريسيين، وهو الانتقام. فالمسيح ينهى عن ذلك لأن اليهود احتجوا على جوازه (بما قيل في خروج ٢١: ٢٤ ولاويين ٢٤: ٢٠ وتثنية ١٩: ٢١). قالوا إن الشريعة سمحت لهم أن ينتقموا ممن آذاهم، بشرط ألا يزيدوا على القصاص المعين في الشريعة.

وشريعة الانتقام هذه هي قانون للحاكم لإجراء العدل بين الناس عموماً، وغايتها ردع الشخص عن أن ينتقم لنفسه. كما أنها لا ترخص لجماعة من الناس ذلك، ولكنها تعلن للحاكم الذي تجبره وظيفته أن يعاقب المجرمين.

٣٩ «وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا ٱلشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ ٱلأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ ٱلآخَرَ أَيْضاً».

أمثال ٢٠: ٢٢ و٢٤: ٢٩ ولوقا ٦: ٢٩ ورومية ١٢: ١٧، ١٩ و١كورنثوس ٦: ٧ وإشعياء ٥٠: ٦ ومراثي إرميا ٣: ٣

وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ قوله هنا لا يناقض أن الشريعة قانون للحاكم، بل يناقض سوء استعمالها كحجة للانتقام الشخصي.

لاَ تُقَاوِمُوا ٱلشَّرَّ إننا مسؤولون أن نترفع عن مقاومة الشر بالشر. والشر هنا ليس شراً أخلاقياً بل شخصياً. فمعنى هذا العدد والعددين التاليين أنه يجب علينا أن نحتمل الأذى والإهانة.

لَطَمَك هذا مثل على الأذى الشخصي، فخيرٌ لك أن تحول الخد الثاني لمَن لطمك مِن أن تنتقم لنفسك، أو أن تربي في قلبك جراثيم الغضب والانتقام. فاترك النقمة لله وللحكام.

ولكن يجب أن لا يُفهم من ذلك تحريم المحاماة عن أنفسنا لأن ذلك يرخص للأردياء أن يفعلوا حسب شهواتهم، ويجعل المظلوم فريسة الظالم. فالمسيح ذاته لم يحتمل الشر بل قاومه بلسانه (يوحنا ١٨: ٢٢، ٢٣) وهكذا فعل بولس (أعمال ٢٣: ٢، ٣) وهكذا فعل الرسل (كولوسي ٤: ٩ – ١٣). وخلاصة ما أراده المسيح تنبأ به إشعياء من أمر المسيح نفسه، وهو قوله «بَذَلْتُ ظَهْرِي لِلضَّارِبِينَ، وَخَدَّيَّ لِلنَّاتِفِينَ. وَجْهِي لَمْ أَسْتُرْ عَنِ الْعَارِ وَالْبَصْقِ» (إشعياء ٥٠: ٦). فاستعمل المسيح كلامه هنا كما استعمله في ع ٢٩، ٣٠ ليجعله مؤثراً في السامعين، لا ليؤخذ بالمعنى الحرفي. لأنه كما أننا لا نقلع العين ولا نقطع اليد حرفياً، لا يترتب من ذلك أنه يجب على الإنسان أن يسلم للآخرين أن يسلبوه ويضربوه ولا يعارضهم. وأبلغ من ذلك أنه يدعو الظالم إلى أن يزيد على ظلمه ظلماً. كيف لا، والشريعة الطبيعية وسائر الشرائع الإلهية والبشرية تسمح للإنسان أن يحامي عن شخصه وعن عائلته عندما تكون حياته أو حياتهم في خطر.

فالمسيح يعلمنا هنا مبدأً جوهرياً، وهو أن أفضل طريق لمقاومة شر العالم ليس المدافعة القوية، بل احتماله بالحكمة المسيحية. فإن من يحتمل الظلم إكراماً للمسيح ولأجل غايات روحية يُظهر القوة الحقيقية لا الجبن والضعف. وأما الذي يبادر إلى الانتقام ممن تعدى عليه، والسريع الغضب ومحب الخصام والغيور في طلب كل حقوقه، فروحه مغاير لروح المسيح، ويمدحه العالم لا المسيح، بخلاف ذاك الذي يحتمل الإهانة بالصبر لأجل اسم المسيح، فإنه سيجازى بإكرام أبدي.

٤٠ «وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَٱتْرُكْ لَهُ ٱلرِّدَاءَ أَيْضاً».

هذا هو دستور تصرفك عندما يريد أحد أن يؤذيك بالمحاكمة لدى أرباب الحكومة، ويجتهد في أن يسلب منك كل ما لك حتى الثوب الذي عليك. فخير لنا أننا نترك لخصمنا الثوب الذي تحرم الشريعة أخذه لأنه غطاء الفقير في الليل (خروج ٢٢: ٢٦، ٢٧) من أن نربي في قلوبنا الغضب عليه والانتقام منه. والمسيح ينهى عن مخاصمة الآخرين لدى الحكومة عندما تكون الغاية من ذلك الانتقام لا إظهار الحق (١كورنثوس ٦: ٧). فالمسألة هنا عن الخسارة المالية لا عن الديانة أو الحياة. فيجوز رفع الدعاوى إلى الحكومة عندما يكون الأمر مهماً والوسائط الأخرى لا تجدينا نفعاً في الحصول على حقوقنا، بشرط أن نرفعها بغية الإنصاف، وأن نرتضي بالمصالحة على شروط معتدلة. وخيرٌ لنا أن نخسر ما لنا من أن نخسر نفوسنا لعدم محبتنا.

٤١ «وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِداً فَٱذْهَبْ مَعَهُ ٱثْنَيْنِ».

مرقس ١٥: ٢١

أورد المسيح هنا مثلاً ثالثاً للأحوال التي يُفضَّل فيها أن يحتمل الإنسان الظلم على المحاماة عن حقه بروح الغضب والانتقام. فعوضاً عن أن نرفض الذهاب مع إنسان ميلاً واحداً بروح الغضب والانتقام، نذهب معه ميلين، محتملين ضعف المشقة. وإذا كان طلب الذهاب من الحكومة وجب التسليم به بالرضى.

مِيلاً الميل الروماني يساوي ٢١٠٠ ذراعاً، أو مسافة نحو ثلث ساعة مشياً.

٤٢ «مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّهُ».

لوقا ٦: ٣٠، ٣٥

يجب أن يكون هذا دستور تصرفنا حين يلح أحد علينا، لأن ذلك وإن كان من أقل مهيجات الغضب إن طال وتكرر أزعج وكدَّر.

مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ يُشار هنا إلى العطايا المجانية. فمهما أعطى الإنسان فهو أفضل من الرفض بروح الغضب.

أَنْ يَقْتَرِض يحتمل أن تكون الإشارة هنا إلى القرض المطلوب بلجاجة زائدة ونحن لا نريد أن نقرض. فالمسيح يقول إنه خير لنا أن نقرض من أن نرفض ذلك بروح الغضب.

ومن المعلوم أنه لا يراد السير على هذه السنن حرفياً وأبداً. فإن المسيح وعد في يوحنا ١٤: ١٤ قائلاً «ان سألتم شيئاً باسمي فإني أفعله». ولكن بما أننا لا نعرف ما هو الأفضل لنا، لا يعطينا كل ما نطلبه. فإن أعطينا مجنوناً سيفاً، أو مخادعاً صدقةً ينفقها على المسكرات، آذيناه وآذينا أنفسنا. فصدقاتنا وقروضنا يجب أن تكون متناسبة مع قدراتنا، ومع خير من يسألنا. وأحياناً يكون امتناعنا عن العطاء أفضل معروف للمقترض أو المستعطي. وكثيراً ما نخطئ في الصدقة، فنعطي من هو قادر على العمل، فنشجعه على الكسل (٢تسالونيكي ٣: ١٠). ولكن من الأفضل أن نعطي غير المستحقين بعض الأحيان من أن نطرد محتاجاً حقيقياً. وما أحسن أن يعتاد الإنسان العطاء، لكن يجب أن ننظر مع ذلك إلى ما علينا لعائلاتنا (١تيموثاوس ٥: ٨)، وما علينا للكنيسة.

وأول من يستحق الصدقة الأرامل واليتامى والعمي والعرج والمرضى (عبرانيين ١٣: ٢ ومتّى ٢٥: ٣٥، ٤٥). وإن احتاج أخ أو صديق لنا وجب أن نقرضه إذا أمكننا ذلك، مع إتمام سائر الواجبات المالية. ومن قواعد الحكمة أن لا يقرض الإنسان أكثر مما يطيق أن يخسره.

٤٣ «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ».

لاويين ١٩: ١٨ وتثنية ٢٣: ٦ ومزمور ٤١: ١٠

هذه القضية السادسة التي فيها يأمر المسيح فيها بأكثر من بر الكتبة والفريسيين. وهي مختصر القول «لاَ تَنْتَقِمْ وَلاَ تَحْقِدْ عَلَى أَبْنَاءِ شَعْبِكَ، بَلْ تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. أَنَا الرَّبُّ» (لاويين ١٩: ١٨). فكانت الغاية من وضع هذه الوصية أن يحب اليهود بعضهم بعضاً، لقوله «أبناء شعبك». فالفريسيون نظراً لسكوت الوصية عن واجباتهم للأمم استنتجوا وجوب أن يعتبروهم أعداء الله وأعداءهم.

قَرِيبَكَ حسب تعليم الفريسيين هو «أحد اليهود» وحسب تعليم المسيح أي شخص قريب منك. فمحبة القريب وصية الله، وبغض العدو نتيجة استنتجها الفريسيون.

وَتُبْغِضُ عَدُوَّك هذه قاعدة أضافها الفريسيون إلى الشريعة، فهي ليست من الأوامر الإلهية. على أن الفريسيين لم يأمروا ببغض الأمم صريحاً، بل حصروا الوصية في محبة اليهود. فكأنهم أباحوا أن يبغضوا الأمم. ويحتمل أن اليهود استنتجوا ذلك من أمر الله لهم بقتل الكنعانيين، ولكن هذا البغض مخالف لروح العهد القديم (انظر خروج ٢٣: ٤، ٥ وأمثال ٣٤: ١٧، ١٨ و٢٥: ٢١).

٤٤ «وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ ٱلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ».

لوقا ٦: ٢٧، ٣٥ ورومية ١٢: ١٤، ٢٠ ولوقا ٢٣: ٣٤ وأعمال ٧: ٦٠ و١كورنثوس ٤: ١٢، ١٣ و١بطرس ٢: ٢٣ و٣: ٩

وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ يقول هذا دفعاً للنتيجة الفاسدة التي أضافها الفريسيون إلى شريعة المحبة. فتعليم المسيح هو أن شريعة المحبة التي حصروها في أمتهم تعم جميع الناس حتى الأعداء.

أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُم يجب علينا حسب هذا الأمر أن لا نحب الغرباء فقط، بل الذين يشتموننا ويضطهدوننا أيضاً، لأن به يزيد البر المسيحي على بر الكتبة والفريسيين. والمحبة المطلوبة هنا ليست المحبة لصفات الله والصالحين، ولا محبة عداوة أعدائنا وشتائمهم واضطهادهم، لكنها محبة أشخاصهم التي تحملنا على أن نطلب نفعهم ونشفق عليهم لجهالتهم، ونكلمهم باللطف، ونكافئ شرهم بالخير، ونعينهم وقت الضيق، ونسعى في خيرهم الزمني والأبدي. وهذا أفضل برهان على صحة الدين المسيحي مع أنه أصعب جميع واجباته. لأننا عندما نحب أعداءنا نماثل الله الذي أحبنا ونحن أعداؤه.

بَارِكُوا أي لا تقتصروا على الشعور بالحنو عليهم، بل أظهروه قولاً وفعلاً. والصلاة وكلمات اللطف وأعمال المحبة أفضل سلاح للمسيحي في دفع الظلم. فيجب أن نكلمهم باللطف في حضورهم، ونذكرهم بالحسنى في غيبتهم، فنمدحهم على ما يستحقون المدح به، ونسكت عما يوجب الذم لهم. فلا نسأل كيف عاملنا العدو لنعامله بالمثل، بل كيف يريد الله أن نعامله.

يُسِيئُون أي الذين يضرونكم أو يؤذونكم قولاً أو فعلاً. والله يقدِّرنا على المغفرة للذين يسيئون إلينا. وأحسن واسطة إلى ذلك الصوم.

٤٥ «لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى ٱلأَشْرَارِ وَٱلصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى ٱلأَبْرَارِ وَٱلظَّالِمِينَ».

أيوب ٢٥: ٣

لِكَيْ تَكُونُوا هذا برهان النبوة لا سببها.

أَبْنَاءَ أَبِيكُم نظهر أننا أبناؤه إن شابهناه في الرأفة وعمل الخير لجميع الناس، لأن الابن يقتدي طبعاً بأبيه. فنثبت بنوَّتنا أن تمثلنا به في نفع الجميع، بغضّ النظر عن أهليتنا، لأننا لا نقدر أن نشابهه في القوة ولا في الحكمة، فذلك أمر عندما حاول الإنسان الحصول عليه سقط من طهارته (تكوين ٣: ٥) ولكن عندما نجتهد في أن نكون مثله في المحبة نقرب منه (أفسس ٥: ١).

لو لم يحبنا الله ونحن أعداؤه ما صرنا أبناءه، ولكن إن ادَّعينا أنا أولاده ونحن غير مشتبِّهين به نفقد كل حقوقنا. فامتياز أولاد الله على من سواهم يظهر في محبتهم وطول أناتهم والشفقة على غيرهم.

فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ لم يقتصر الله على أن يمنح ضوء الشمس وفائدة الأمطار للصالحين، بل كذلك للأشرار. ولذلك لا يجوز أن نقصر محبتنا على الذين يستحقونها، بل يجب أن نحب الجميع.

اختار المسيح ضوء الشمس والمطر في بيان جود أبيه ومحبته، لأنهما على كل أسباب الحياة والنعمة في هذه الدنيا، ولأن نفعهما ظاهر للجميع. فمعاملة الله لأعدائه في مسامحتهم وطلب خيرهم يجب أن يكون نموذجاً لشعورنا وعملنا ومعاملتنا لأعدائنا، لأنه ليس لله إلا عدو واحد يبغضه وهو الخطية. ولا يجوز أن يكون لنا عدو غيرها. ولو سار الناس بموجب قاعدة المسيح هذه لارتفع عنهم جانب عظيم من المشقات من العدوات والحروب والخصومات.

٤٦ «لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ ٱلْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ ذٰلِكَ؟».

لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ ذكر المسيح فيما سبق أن الموجب الأول لمحبتنا للناس هو مَثَل الآب السماوي، ويذكر هنا الموجب الثاني لمعاملة الناس بعضهم لبعض. فالعشارون الذين حُسبوا عند السامعين أردأ الجميع يشعرون بالمحبة لأصدقائهم وأنسبائهم ويعاملونهم بمقتضاها. فكم بالحري يجب أن تكون محبة المسيحي أعظم اتساعاً حتى تعم أعداءه كما أوصانا المسيح!

فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أعني أي حق لكم في المدح والثواب على ذلك من الله؟ وهذا الاستفهام استنكاري، أي لا حق لكم! لأن الذي ليس له إلا فضائل الوثني والعشار لا حقَّ له أن ينتظر إلا ثوابهما.

ٱلْعَشَّارُون هم جباة الضرائب، ويُضرب بهم المثل في دناءة الاسم والمقام بين الناس. كانوا يجمعون الجباية للرومان من اليهود، فأبغضهم اليهود لأنهم حسبوهم آلات لإجراء العبودية الأجنبية الوثنية، ولأنهم كانوا يأخذون من الناس أكثر مما عليهم. فبذلك كانوا مختلسين. ولم يكن يقبل هذه الوظيفة إلا أدنى الناس حتى حُسبت شريرة بذاتها. وعُدَّ العشارون والخطاة أشقى الناس.

فإن كان المسيحيون لا يعملون أكثر من هؤلاء العشارين، يكونون قد قصروا في واجباتهم، لأن دائرة أخلاق الذين تمثلوا بهم كانت ضيقة جداً. أما الفريسيون فلم يطلبوا بتعليمهم زيادة على ذلك.

فمضمون السؤالين في هذه الآية هو أن الذين يحبون محبيهم فقط ليس لهم أجر عند المسيح، لأنه يعتبرهم كما يعتبر العشارين. وتكلم عليهم كذلك جرياً على عادة الناس في أمرهم.

إن مكافآت المحبة عدلٌ بشري. والمحبة للذين يبغضوننا هي محبة إلهية. وأما بُغض الذين يحبوننا فهو عملٌ شيطاني.

٤٧ «وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ ٱلْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هٰكَذَا؟».

إن سلمتم: معنى هذه الآية كالآية السابقة، فلا تخالفها إلا بتغيير ألفاظها. فذكر فيها لفظ «سلمتم» بدلاً من «أحببتم». والسلام إحدى طرق إظهار الاعتبار والمحبة. وقد كرر المسيح ذلك المعنى بهذا اللفظ لأن اليهود كانوا لا يسلمون على الأمم، لأنهم لو سلَّموا عليهم لاعتبروهم من إخوتهم.

إِنْ سَلَّمْتُمْ أي اليهود، بني جنسكم.

أَيَّ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟ أي ماذا تصنعون أكثر مما يفعله أشقى الناس؟ فهل يجوز أن يكتفي تلاميذ المسيح بأن يتمثلوا بهؤلاء؟ لا! لأن المسيح ينتظر منهم أكثر مما ينتظر من غيرهم، فقد فعل لأجلهم أكثر مما فعل لغيرهم، ولأن لهم من النور والمعرفة أعظم مما للغير.

أَلَيْسَ ٱلْعَشَّارُونَ أَيْضاً؟ يجب أن تكون محبة تلاميذ المسيح لغيرهم أشدَّ من محبة جماعة حُسبت شر الناس عند العامة والخاصة. لا بل ينتظر منا أن نحب أعداءنا كما يحب العشارون أحباءهم.

٤٨ «فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ».

تكوين ١٧: ١ ولاويين ١١: ٤٤ و١٩: ٢ ولوقا ٦: ٣٦ وكولوسي ١: ٢٨ و٤: ١٢ ويعقوب ١: ٤ و١بطرس ١: ١٥، ١٦ وأفسس ٥: ١

رجع المسيح في ختام كلامه عن وجوب المحبة للغير إلى المثل الذي أورده في ع ٤٥. فلم يَدْعُنا إلى الاقتداء بأفضل الناس، بل أمرنا بأن نقتدي بأبينا السماوي، الإله الكامل الذي محبته الكاملة تشمل أعداءهُ حتى جعلته يطلب فداءهم (رومية ٥: ٨، ٩). فإن كنا غير كاملين الآن يجب أن نجعل الكمال غايتنا، عالمين أننا كلما تمثلنا به في المحبة دنونا من الكمال. وعدم استطاعتنا أن نبلغ الكمال لا يسوغ لنا أن نكف عن الاجتهاد في سبيل الحصول عليه. قال بولس «لَيْسَ أَنِّي قَدْ نِلْتُ أَوْ صِرْتُ كَامِلاً، وَلكِنِّي أَسْعَى لَعَلِّي أُدْرِكُ الَّذِي لأَجْلِهِ أَدْرَكَنِي أَيْضًا الْمَسِيحُ يَسُوعُ» (فيلبي ٣: ١٢).

ولا يُفهم من هذا أنه يمكن لأحدٍ أن يبلغ الكمال في هذه الحياة، إنما يبين لنا الشيء الذي يجب أن نجتهد فيه، وماذا يجب أن تكون غايتنا الأخلاقية.

كَامِلِين (١بطرس ١: ١٦) يجب أن تكون مبادئ حياتنا وكل غايتنا كمبادئ الله وغاياته، أي نكون نظيره في الطهارة الداخلية والمحبة والقداسة. ويسوع المسيح وحده المعلم العظيم يقدر أن يعلمنا أن نكون كاملين لأنه تجسد لكي يشخِّص كمال الله أمام الناس في حياته وموته.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى