إنجيل متى | 04 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح إنجيل متى
الأصحاح الرابع
١ «ثُمَّ أُصْعِدَ يَسُوعُ إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ مِنَ ٱلرُّوحِ لِيُجَرَّبَ مِنْ إِبْلِيسَ».
مرقس ١: ١٢ ولوقا ٤: ١ و١ملوك ١٨: ١٢ وحزقيال ٣: ١٤ و٨: ٣ و١١: ١، ٢٤ و٤٠: ٢ و٤٣: ٥ وأعمال ٨: ٣٩، ثُمَّ أي بعد المعمودية (مرقس ١: ١٢ ولوقا ٤: ١). فبعدما نتمتع بعلامات رضى الله الفائقة يجب أن نقاسي أشد التجارب. أُصْعِد طاعة لتأثيرٍ فيه متميِّز عن مشيئته، لكن غير مخالف لها. فلم يدخل في التجربة من تلقاء نفسه. فيجب علينا أن لا نعرِّض ذواتنا للتجارب. فبين اقتياد المسيح إلى البرية ليجرَّب وذهاب لوط إلى سدوم محل التجربة فرقٌ عظيم.
مِنَ ٱلرُّوح ليس من روحه بل من الروح القدس الذي نزل حينئذ واستقرَّ عليه (متّى ٣: ١٧) فهذا أنشأ فيه ذلك التأثير. قد امتلأ من ذلك الروح الذي أشار إليه يوحنا في قوله «كنت في الروح يوم الرب» (رؤيا ١: ١٠) والذي خطف فيلبس (أعمال ٨: ٣٩).
إِلَى ٱلْبَرِّيَّة أي إلى القفر العاري من النبات والخالي من الناس ومسكن الوحوش (مرقس ١: ١٣). ولعلها البرية التي تاه فيها بنو إسرائيل أربعين سنة، أو أنها البرية الواقعة إلى الجنوب الغربي من أريحا. وقد جرت التجربة على نائب الجنس البشري الأول في جنة عدن، وجرت على نائبه الثاني في البرية.
لِيُجَرَّب أي يُمتحَن. وهذه كانت غاية اقتياد الروح القدس له وفقاً لإرادة الله الآب. قد تجرَّب المسيح بدلاً منا، فإن آدم الأول تجرَّب وسقط، وبسقوطه سقط الجنس البشري، فلزم أن آدم الثاني يُجرَّب ليُظهر استحقاق كونه فادياً للبشر، يرفعهم من هاوية ذلك السقوط. فالتجربة حدثت حقيقة، ولم تكن رؤيا أو تمثيل محاربة داخلية في أفكار المسيح. والأرجح أن ما رواه متّى ولوقا من نبأ هذه التجربة نقلاه عن رواية المسيح إياها لتلاميذه.
وقد جعل ناسوت المسيح التجربة ممكنة. وجعلت نيابتهُ عنا ذلك ضرورياً. فليست التجربةُ خطيةً، إنما الخطية هي التسليم لهما. ولا ينتظر أحد أولاد الله العفو من التجربة، لأن المسيح جُرِّب، وليس التلميذ أفضل من المعلم.
مِنْ إِبْلِيس وهو رئيس الشياطين (متّى ٩: ٣٤ و١٢: ٢٤) ورئيس الملائكة الساقطة (متّى ٢٥: ٤١ ورؤيا ١٢: ٩ و٢٠: ١٠) والحية القديمة (رؤيا ١٢: ٩) الشيطان (أي ١: ٦) وبعلزبول (متّى ١٢: ٢٤) ورئيس سلطان الهواء (أفسس ٢: ٢) الذي خدع أبوينا الأوَّلين (٢كورنثوس ١١: ٣) ويُسمى العدو. وهو عدو الله والناس.
كانت تجربة المسيح قسماً ضرورياً من اتِّضاعه في إجرائه عمل الفداء، وجزءاً من محاربته العظيمة التي تنبأ الأنبياء أنها ستكون بين نسل المرأة ونسل الحية، إذ قد برز للمحاربة النائبان عن كل منهما. وبما أن يسوع أتى إلى العالم لينقض أعمال إبليس (١يوحنا ٣: ٨) وجب أن يغلبه أولاً. والمسيح بتجرُّبِه جعل علاقة متينة بينه وبين شعبه المجرَّب، وفيما هو قد تألم يقدر أن يعين المجرَّبين (عبرانيين ٢: ١٨). فإذا تحقق الشعب أنهم يجربون يؤكد لهم أنهم ينتصرون وينجون بواسطته إذ قد انتصر قبلهم.
٢ «فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَاراً وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاعَ أَخِيراً».
فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَاراً وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً (لوقا ٤: ٢). لم يكن يصوم نصف النهار ويأكل في النصف الآخر كما كان صوم اليهود أحياناً جرياً على تقاليدهم، بل صام الأيام الأربعين كلها. وهذا الصوم كان فوق الطبيعة، فلا يصح أن يكون مثالاً لشعبه. ولم يأمرنا الإنجيل أن نفعل شيئاً سنوياً مثل ذلك. فالمسيح صام مرة في حياته وذلك نيابة عنا. وهذا لا ينافي كون الصوم من الواجبات المسيحية (متّى ٦: ١٦). ولكن لا يتحتم علينا أن نجعل أعجوبة المسيح قياساً لواجباتنا، ولا يستحق تبديل الأطعمة أن يسمى صوماً.
جَاعَ أَخِيراً أي بعد نهاية الأربعين يوماً. ونستنتج من ذلك أنه لم يجُع أثناءها، فانقطاعه عن الطعام كل تلك المدة أمر خارق للطبيعة، لا من باب إنكار الذات المؤلم. فذلك لم يكن لنقتدي به. وعندما صار من تلك الحال إلى حال الطبيعة البشرية جاع. وهذه أول مرة ذكر الإنجيل أن سيدنا شاركنا في الاحتياجات الجسدية، فقد حارب عدوَّه وانتصر عليه، مع أن التجربة كانت في عظيم قوتها وجسده أقل قوة منها. واحتمل الجوع لأجلنا في البرية والعطش على الصليب. وكثيراً ما تأتينا التجارب اليوم من الاحتياج الجسدي، ولكن يمكن أن الإنسان يعوزه الخبز ويكون عزيزاً لدى الله.
٣ «فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ ٱلْمُجَرِّبُ وَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هٰذِهِ ٱلْحِجَارَةُ خُبْزاً».
فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ ٱلْمُجَرِّبُ لم يقل إن هذا كان بداءة تجربة المسيح، فلا تناقض بين قوله وقول مرقس في ١: ١٣ وقول لوقا ٤: ٢ إنه تجرَّب أربعين يوماً، لأنه من المحتمل أن التجارب الثلاث التي ذكرها متّى كانت نهاية سلسلة التجارب، أو أنها هي الوحيدة التي فيها ظهر المجرب شخصياً. فالذي سُمي هنا مجرِّباً هو الذي دُعي إبليس في ع ١، فهو المجرِّب الذي جرَّب المسيح، والذي عمله الخاص إلقاء كل البشر في التجارب. لقد تجاسر على ابن الله، فهل ينتظر أحدٌ أن لا يجرَّب؟ قد دخل الشيطان العالم مجرِّباً (تكوين ٣) فلا شك أنه سيجرِّبنا.
وَقَالَ لم يكن صوتاً مسموعاً من متكلم غير منظور، لكن صوت شخص أتى إليه، إما بصورة إنسان أو بصورة ملاك نور (٢كورنثوس ١١: ١٤). ولم يذكر متّى أن الشيطان اتَّخذ جسداً، ولكن القول إنه جرب المسيح كروح لا ينطبق على تفاصيل الخبر.
إِنْ كُنْتَ ٱبْنَ ٱللّٰه في هذا القول تلميحٌ إلى الصوت الذي أتى من السماء وقت المعمودية (متّى ٣: ١٧). وقوله «ان كنت» يدل على تشكيك في الأمر يفتقر إلى برهان ينفيه، فكأنه قال: هل يمكن أن يتعرَّض ابن الله للجوع؟ إن جوعك ينزع حق تسميتك «ابن الله». إن لك سلطاناً على الطبيعة، فلماذا لا تستعمله لتخلُص من جوعك وتحفظ حياتك من الموت القادم عليك بعد هذا الصوم الطويل؟ فمن كان ابن الله يقدر على كل شيء. فإن كنت ابن الله فهينٌ عليك أن تبرهن ذلك وتنجو من الضيق.
فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هٰذِهِ ٱلْحِجَارَةُ خُبْزاً الإشارة إلى حجارة قريبة منهما «تصير خبزاً» أي تتحول إلى خبز. فلم يحثه المجرب على أن يصنع لذاته طعاماً فاخراً، بل خبزاً فقط يشبع جوعه ويصون حياته من الخطر. فالخطية التي أراد الشيطان أن يرتكبها المسيح هي عدم الاتكال على الله وعدم الثقة بعنايته. وهنا تظهر حيلة المجرِّب بأن حثَّ المسيح على أمرٍ ليس إثماً بذاته، لأن مخاطبة الحجارة ليست خطية! نرى من هذا أن الشيطان يغتنم الفرصة ليجرب الناس بما يحتاجون إليه، فيجرب الفقراء والجياع ليتذمروا على الله ويسرقوا، ويظهر أن كلامه مناسب للموقف. وهذا يعلِّمنا أن المناسب للموقف ليس دائماً صحيحاً.. فالذي حوَّل الماء خمراً بعد ذلك كان قادراً على أن يجعل الحجارة خبزاً، ولكن ما كان يصنعه لغيره لم يصنعه لذاته. لقد أشبع ألوف الناس ولم يصنع لنفسه رغيفاً واحداً. فيجب إذن أن نخاف من التجربة التي تظهر كأنها ناتجة عن حب المجرب لنا.
٤ «فَأَجَابَ: مَكْتُوبٌ: لَيْسَ بِٱلْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا ٱلإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ ٱللّٰهِ».
مَكْتُوبٌ في تثنية ٨: ٣ ولم يزل مكتوباً، فقد شهد المسيح لصدق كُتب موسى باستناده على كلام الله، وهو يعلمنا بذلك كيف يجب أن نقاوم مثل هذه التجارب، بأن نضع الحق مقابل الضلال، وكلمة الله مقابل وساوس المجرب. فالمسيح وهو مكمل الناموس أجاب الشيطان من الناموس، وغلبه في هجومه الثلاثي بتلك الأسلحة التي اتخذها من أدوات الحرب الروحية. وعمله هذا يعلمنا أننا يجب أن نكون عارفين أقوال الكتاب المقدس حسناً لنقدر أن نقاوم إبليس ونغلبه بواسطة تلك الآيات.
لَيْسَ بِٱلْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا ٱلإِنْسَانُ معنى هذا الكلام الأصلي أن بني إسرائيل لم يعيشوا بالخبز المعتاد الذي حصلوا عليه بمجهودهم، فطحنوه وعجنوه وخبزوه، بل عاشوا بالقوت الذي أوجدته لهم كلمة الله، وهو المن. فالمقارنة هنا ليست بين خبز مادي وخبز روحي، بل بين قوتٍ عادي كالخبز وقوت آخر يمكن لله أن يقدمه بواسطة أخرى. فلم يقل المسيح في جوابه للشيطان «أنا ابن الله» بل جعل ذاته بمنزلة إنسان. كأنه قال: ليس السؤال عن قوتي كابن الله، بل عن واجباتي كإنسان وقت الاحتياج. فلم يستخدم قوته الإلهية للحصول على ما يحتاج إليه من الضروريات البشرية، بل جعل ذاته إنساناً كباقي الناس، وغلب الشيطان كإنسان لأجل الجنس البشري. لأنه عندما اتخذ طبيعة الإنسان رضي أن يشارك الناس في احتمال احتياجاتهم، وفي الالتجاء إلى الله لسد هذه الاحتياجات مثلهم. فلو خلَّص ذاته من الضيق بمعجزة لارتكب نفس الخطية التي ارتكبها بنو إسرائيل عندما شكوا في قدرة الله وعنايته. وكما كان جواب المسيح هنا كان روح تعليمه فيما بعد (متّى ٦: ٢٥، ٣٢ و١٠: ٣٩).
٥ «ثُمَّ أَخَذَهُ إِبْلِيسُ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ ٱلْمُقَدَّسَةِ، وَأَوْقَفَهُ عَلَى جَنَاحِ ٱلْهَيْكَلِ».
نحميا ١١: ١، ١٨ وإشعياء ٤٨: ٢ و٥٢: ١ ومتّى ٢٧: ٥٣ ورؤيا ١١: ٢
ثُمَّ في ترتيب لوقا التجربة الثانية هي الأخيرة، والأرجح أن متّى تبع الترتيب الذي جرى.
أَخَذَه ليس بالرغم منه، بل كرفيق. فمن اتِّضاعه الاختياري رضي أن يُقاد من مكان إلى آخر، كما رضي بعدئذٍ أن يُقاد للجلد والصلب. وتسليمه بالإهانة الكبرى أن يجرَّب من إبليس تتضمن التسليم بالإهانة الصغرى وهي أن يُقاد منه.
ٱلْمَدِينَةِ ٱلْمُقَدَّسَة هي أورشليم، لأنها المركز المقدس ومدينة الملك العظيم (متّى ٥: ٣٥). وسفره إلى أورشليم لم يكن رؤيا بل حقيقة، ولعله أتى من البرية إليها.
أَوْقَفَه ليس بقوة أو بسلطة، بل جعله أن يقبل ذلك بالالتماس، أو بطريقة أخرى لم تُذكر.
جَنَاح ذلك إما جزء ناتئ من سطح الهيكل إلى أمامه، أو من رواق سليمان الذي بُني مشرفاً على وادي يهوشافاط من علوٍ شاهق. قال يوسيفوس كان علو الجناح ٤٠٠ ذراعاً، يعتري الناظر منه إلى أسفل دوار.
ٱلْهَيْكَل حضر الشيطان ليجرِّب المسيح في أقدس موضع من المدينة المقدسة. فإذاً لا نخلو من التجارب ولو في أقدس الأماكن.
٦ «وَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ فَٱطْرَحْ نَفْسَكَ إِلَى أَسْفَلُ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ، فَعَلَى أيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ».
مزمور ٩١: ١١، ١٢
ٱطْرَحْ نَفْسَكَ أي من على سطح الهيكل إلى الدار الوسطى، أو من سطح الرواق إلى الوادي العميق دون خوف، طمعاً في الحماية الإلهية وحفظ الملائكة لك. فكانت هذه التجربة عكس الأولى، لأنها للطمع الذي هو الاتكال على الحماية الإلهية في الأحوال التي لم يعِد الله فيها بالحماية. وذلك عندما يدخل الإنسان في الخطر عمداً. فجرَّب إبليس المسيح ليمتحن صدق الوعد، ويبرهن أنه هو المسيح. فإن كان هو حقيقة فلا يحصل له أذية، بل يُقنع جميع الحاضرين بهذا العمل أكثر مما يقنعهم باحتماله الاضطهاد والتعب والفقر سنين عديدة.
لأَنَّهُ مَكْتُوب اقتدى الشيطان بالمسيح، فاقتبس آية من مزمور ٩١: ١١، ١٢ ليغلبه بها، ومضمونها طمأنينة أتقياء الله في كل الضيقات، وهو وعد لجميع المتكلين عليه لا سيما المسيح. لكن ذلك لم يكن وعداً بالوقاية من أخطار نأتيها اختياراً. فهو لا يجعل الأمر الذي جرَّب الشيطان المسيح به جائزاً، لأنه ترك جزءاً جوهرياً منه، وهو في «كل طرقك». فطرح نفسه من جناح الهيكل ليس من طُرق المسيح المعينة له من الله. والشيطان لا يألو جهداً في صيد النفوس بواسطة آيات الكتاب المقدس، كما فعل في تجربته للمسيح.
مَلاَئِكَتَه إشارة إلى وظيفتهم باعتبارهم أرواحاً للخدمة (عبرانيين ١: ١٤). ولا نتعلَّم من هذه الآية أن لكل مؤمن ملاكاً حارساً.
يَحْمِلُونَك كلام مستعار مما نشاهده من اعتناء الأمهات بأطفالهن العاجزين.
لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَك كما يفعل الوالدون بأولادهم في الأماكن الصعبة خشية من عثورهم.
٧ «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: مَكْتُوبٌ أَيْضاً: لاَ تُجَرِّبِ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ».
قَالَ لَهُ يَسُوعُ: مَكْتُوبٌ في تثنية ٦: ١٦. دفع سيدنا هذه التجربة كما دفع الأولى بجواب من كتاب الله.
لاَ تُجَرِّبِ أي لا تطلب برهاناً لما لا يحتاج إلى زيادة برهان. لا تطلب من الله أن يبرهن اعتناءه عندما تلقي ذاتك في خطر تُدخِل نفسك فيه. فكأنه قال: لا يجوز لي أن أجرب عناية الله وصدقه بطرح نفسي من فوق إلى أسفل، لأن هذا يكون طمعاً وليس اتكالاً.
وكل من طلب برهان محبة آخر له أظهر الشكَّ في تلك المحبة. فطلب برهان كهذا لا يكرم الله ولا يُظهر الاتكال التام عليه وعلى وعده، بل الشك فيه. ولم يطلب المسيح فيما بعد معونة الملائكة (متّى ٢٦: ٥٣). فلشعب الله الآن حق أن ينتظروا حمايته في كل خطر بأمره، وإلا فلا.
٨ «ثُمَّ أَخَذَهُ أَيْضاً إِبْلِيسُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ جِدّاً، وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ ٱلْعَالَمِ وَمَجْدَهَا».
ثُمَّ ترتيب للتجربة الثالثة. والمرجح أنها حدثت بعد الثانية.
أَخَذَهُ إِلَى جَبَل معنى ذلك (كما في ع ٥) أنه أخذه كرفيق. ظنَّ بعض الذين حسبوا التجربتين الأوليين أنهما حدثتا حقيقة وأن هذه حدثت في الرؤيا، ولكن لا داعي إلى مثل هذا الظن. ويحتمل أن الجبل المذكور هو جبل نبو (تثنية ٣٤: ١) أو جبل تابور أو حرمون (جبل الشيخ) الذي تُرى منه كل الأرض المقدسة وبعض سوريا. أو ربما جبل الزيتون العالي بالنسبة إلى ما حوله من الجبال.
أَرَاهُ ليس في رسم أو رؤيا، بل جعله يمدُّ نظره باختياره وبطريقة غير طبيعية على كل ممالك الأرض. أو أنه أراه بعضها عياناً وبعضها تخيُّلاً، إذ شخَّصها أمامه بطريقة واضحة ليراها بعين ذهنه، ويرى عظمتها وغناها ومجدها.
جَمِيعَ مَمَالِكِ ٱلْعَالَم أي ممالك فلسطين التي كانت أمام عينيه أولاً، وبقية المملكة الرومانية وغيرها من ممالك الأرض التي تصورَّها المسيح أمام عقله بمجرد وصف المجرب لها.
وَمَجْدَهَا بعدد مدنها وقراها وقوّتها ودلائل غناها وفخرها.
٩ «َقَالَ لَهُ: أُعْطِيكَ هٰذِهِ جَمِيعَهَا إِنْ خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي».
أُعْطِيكَ هٰذِهِ جَمِيعَهَا ادَّعى أن له الحق أن يفعل ذلك (لوقا ٤: ٦). ويظهر أن له شبه الحق في ما قال (يوحنا ١٢: ٣١ و١٤: ٣٠ و١٦: ١١ و٢كورنثوس ٤: ٤ وأفسس ٦: ١٢) فهذه الآيات تدل على أن له ممالك العالم. ولا نعلم حدود سلطته ولا كيفية ممارستها، إنما نعلم أن العالم لم يكن تحت سلطانه المطلق قط، ولن يكون كذلك أبداً.
إن أفضل أسلحة إبليس خلطه الحق بالباطل، فبعد ما أظهر جودة ممالك العالم وفخرها، عرضها على المسيح عطيَّة له، فكأنه قال له: أنت تنتظر أن تسترد هذه الممالك لسلطانك بواسطة الآلام والموت، ولكني أقدمها لك في هذه الساعة بدون أن تقاسي أية مشقات. فهذه تجربة حقيقية قدَّمها ليوقعه في خطية حب الرئاسة، لأنه عرض عليه هذا وهو بغير أسلحة وجيوش، وفي حالة الفقر، ليس له أين يسند رأسه، فيعرض عليه أن يجعله ملكاً بين ملوك الأرض، أعظم من قياصرة روما، وبذلك يكون قادراً أن ينجي شعبه من ظالميهم، ويعطيهم المجد الموعود لهم بالأنبياء. وجوهر التجربة أن يكون يسوع ذات المسيح الذي انتظره اليهود بدون أن يحتمل الآلام والموت. فوعد الشيطان المسيح بأكثر مما له، وبما ليس له أدنى قصد أن يعطيه إياه.
خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ قال البعض إنه سأله عبادة دينية، لأنه طلب منه أن يقبله مكان الله، ويتكل عليه في تأسيس مملكته. فلو أخذ المسيح ممالك الأرض هبةً منه لوجب عليه أن يؤدي الإكرام اللائق بالآخذ للمعطي. وقال آخرون إنه سأله سجوداً سياسياً كسجود الرعيَّة للملك. والقولان يتفقان في أن من كان على المسيح ملكاً وجب أن يكون له إلهاً. وهنا جرَّب الشيطان المسيح بما كان للشيطان أعظم التجارب، وهو حب الرئاسة الذي أسقطه من كرسيه السماوي. وتلك التجربة ليست سوى عبادة وثن، والزيغان عن الله ملكنا الحقيقي، وإقامة أعظم أعدائه مكانه. وتتضمن علاوة على ذلك محبة الرئاسة العالمية. ولا يزال الشيطان يجعل أمجاد هذا العالم فخاً يصيد به الناس على اختلاف أجناسهم. وهو يطلب جزاءً فاحشاً على ما يعِد به، فيعدنا بربح العالم لخسارة أنفسنا.
١٠ « حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: ٱذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلٰهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ».
تثنية ٦: ١٣ و١٠: ٢٠ ويشوع ٢٤: ١٤ و١صموئيل ٧: ٣
ٱذْهَبْ دلالة على احتقاره للمجرِّب ومقتهِ له على جسارته بالتجديف في هذه التجربة. وقد جاوب المسيح بطرس بمثل هذا الجواب (متّى ١٦: ٢٣) عندما أراد أن يجدد إبليس التجربة بواسطته، إذ أراد أن يبعده عن طريق الآلام المعيَّنة له.
يَا شَيْطَانُ معناه المقاوم، وهو اسم يليق بالمسمَّى. وهو عدو الله والإنسان. وبهذه التجربة كشف الشيطان حقيقته، ففي التجربتين السابقتين أظهر صورة التقوى، وأما في الأخيرة فجاء بها مضادة لإرادة الله تماماً.
لأَنَّهُ مَكْتُوب في تثنية ٦: ١٣ على ما في الترجمة السبعينية. فالمسيح مع أنه ذكر اسم المجرب لا يزال يأتي بدفاع الآيات من الكتاب المقدس لدرء سهام الشيطان الخبيثة.
لِلرَّبِّ إِلٰهِكَ تَسْجُدُ الخ في هذا القول نهي عن كل أنواع العبادة لغير الله حتى العبادة التي هي دون غيرها من العبادات التي زعم البعض أنه يجوز تقديمها للأيقونات والصور، فهي لا تنهي عن «اللاتريا» التي هي العبادة لغير الحق فقط بل أيضاً عن «الذوليا» التي هي روح العبودية. فحين أذن يسوع الناس أن يسجدوا له صرّح بذلك أنه هو الله.
١١ «ثُمَّ تَرَكَهُ إِبْلِيسُ، وَإِذَا مَلاَئِكَةٌ قَدْ جَاءَتْ فَصَارَتْ تَخْدِمُه».
عبرانيين ١: ١٤
ثمَّ: أي بعد نهاية التجربة الأخيرة ودفعها.
تَرَكَه لينقطع عن التجربة إلى حين (لوقا ٤: ١٣). فإنه جرَّبه بعد ذلك في بستان جثسيماني وعلى الصليب (يوحنا ١٢: ٣١ و١٤: ٣٠ ولوقا ٢٢: ٥٣). فالحمد لله أن لكل تجربة حداً ونهاية «فيكون لكم ضيق عشرة أيام».
وَإِذَا مَلاَئِكَةٌ قَدْ جَاءَت كأنهم فارقوه وقت الحرب ليكون مجد الغلبة وفخرها للمسيح وحده. والظاهر أنه حالما طُرد الشيطان حضرت الملائكة.
تَخْدِمُه قدَّموا له كل لوازمه ولا سيما القوت كما فعلوا لإيليا (١ملوك ١٩: ٥). وإذا لم يكن ما قدموه له قوتاً فإنهم بواسطة المخاطبة الروحية كانوا يعززون ويشددون روحه كما في بستان جثسيماني (لوقا ٢٢: ٤٣). فبعد ضيقات البرية وجوعها وإغواء إبليس حصل المسيح على مرافقة الملائكة ومساعدتهم. فقد شبع الذي لم يُرِد أن يحوِّل الحجارة خبزاً، ونال عوناً من ملائكة لم يطلب أن يحملوه. وسجد له خَدَم الله بعد إعلانه أن السجود لله وحده. واليوم يرسل الله لشعبه أفضل علامات محبته بعدما يفتقدهم بضيقاته. ولا تزال حتى الآن مقاومة الشيطان تفتح باباً لخدمة الملائكة.
١٢ «وَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ أَنَّ يُوحَنَّا أُسْلِمَ، ٱنْصَرَفَ إِلَى ٱلْجَلِيلِ».
مرقس ١: ١٤ ولوقا ٣: ٢٠ و٤: ١٤، ٣١ ويوحنا ٤: ٤٣
شرع متّى في الكلام عن خدمة المسيح الجهارية منذ أُلقي يوحنا في السجن، فبدأ كلامهُ بذكر الحوادث التي حدثت في الجليل، وترك الأعمال التي عملها في اليهودية، مع أنها شغلت بضعة أشهر. وقد ذكرها يوحنا في بشارته. فترك متّى شهادة المعمدان للمسيح (يوحنا ١: ٢٩، ٣٢) وعرس قانا الجليل (يوحنا ٢: ١٢) وحضوره إلى أورشليم في عيد الفصح وإخراجه الباعة من الهيكل (يوحنا ٢: ١٣ – ١٧) وحديثه مع نيقوديموس (يوحنا ٣: ١ – ١٢) ومع المرأة السامرية (يوحنا ٤: ٤ – ٤٢) وشفاؤه ابن الرئيس (يوحنا ٤: ٤٦ – ٥٤) وإتيانه إلى الناصرة وطرد الشعب إيَّاهُ.
ولعلَّ غاية عمل المسيح في اليهودية كانت إظهار علاقة خدمته بخدمة المعمدان، وإظهار أن النظام الموسوي والمسيحي نظام واحد، وهما متساويان في المصدر والسلطة والغاية، فلا يناقض أحدهما الآخر بل يكمله، ولذلك ظهر يسوع مدة مرافقاً ليوحنا المعمدان، فقبِل شهادةً منه، وأخذ بعض تلاميذه ليكونوا معه (يوحنا ١: ٣٧). وبعدما أُلقي يوحنا في السجن، ولم تبقَ صلة ليشاركه في العمل، ذهب أولاً إلى الناصرة حيث تربى فرفضه أهل وطنه.
وَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ أَنَّ يُوحَنَّا أُسْلِمَ اقتصر متّى هنا على ذكر سجن يوحنا، وأما أسبابه فذكرها بعد ذلك (متّى ١٤: ٣ – ٥). ويظهر من هذا الكلام أن يسوع لم يكن قريباً من يوحنا عندما أُسلم مع أنه كان في اليهودية. «أُسلم» أي أسلمه هيرودس إلى السجان (لوقا ٣: ٢٠) وهو الأرجح. لكن يُحتمل أن عناية الله أسلمته إلى هيرودس كدلالة هذه الكلمة في سفر الأعمال (٢: ٢٣).
ٱنْصَرَف لا خوفاً من هيرودس، لأنه دخل حكمه هناك. ولا أن الخطر في اليهودية زاد عليه بعد سجن يوحنا، بل لمقاومة الفريسيين (يوحنا ٤: ١). وكون أرض الجليل بعيدة عن اليهودية حيث يقيم الفريسيون جعلها أنسب مكان للتبشير ولعمل الخير.
ٱلْجَلِيل هو القسم الشمالي من الأرض المقدسة، ويمتدُّ من نهر الأردن شرقاً إلى سهل عكا غرباً، ومن دان (بانياس) شمالاً إلى جبال السامرة والكرمل جنوباً، وينقسم إلى قسمين شمالي وجنوبي، وحدوده تشتمل على أنصبة أربعة أسباط من بني إسرائيل، هي يساكر وزبولون وأشير ونفتالي. وأعظم مدنه الناصرة وقانا وطبرية. فهذه البلاد كانت مسكن المسيح ومحل أكثر أعماله. وقلما ذكرت البشائر الثلاث من الحوادث غير ما صُنع فيها.
١٣ «وَتَرَكَ ٱلنَّاصِرَةَ وَأَتَى فَسَكَنَ فِي كَفْرَنَاحُومَ ٱلَّتِي عِنْدَ ٱلْبَحْرِ فِي تُخُومِ زَبُولُونَ وَنَفْتَالِيمَ».
تَرَكَ ٱلنَّاصِرَة هي وطنه منذ رجوعه من مصر. وبيَّن لوقا أسباب تركه إياها (لوقا ٢: ٢١ – ٢٣).
أَتَى فَسَكَنَ فِي كَفْرَنَاحُوم أي جعلها مسكنه منذ ذلك الوقت. فاتخذ هذه المدينة مركزاً لخدمته بدل الناصرة، ومكاناً يعود إليه بعد انقضاء سفراته.
كفرناحوم: اختلف الناس في موقع هذه المدينة القديم لأنها هُدمت منذ قرون عديدة. والأرجح أن موقعها مكان يُسمى الآن «خربة تل حوم» وهو شمالي سهل جنيسارت وبحيرة طبرية وعلى الجانب الغربي من نهر الأردن بالقرب من مصبهِ في البحيرة. وكانت محل سكن ابني زبدي، وأندراوس وبطرس (مع أنهما وُلدا في بيت صيدا). وسُميت في متّى ٩: ١ «مدينة المسيح» وقد تمت نبوته عليها في متّى ١١: ٢٣.
ٱلَّتِي عِنْدَ ٱلْبَحْرِ أي بحر طبرية، ويسمى أيضاً بحر الجليل، وبحيرة جنيسارت.
فِي تُخُومِ زَبُولُونَ وَنَفْتَالِيم لا يمكننا الآن أن نقف على حدود هذين السبطين تماماً. لكن ما قيل هنا يوافق ما قيل في يشوع ١٩: ١٠ – ١٢ و٣٢ – ٣٩، أي أنهما متلاصقان.
١٤ «لكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ ٱلنَّبِيِّ».
إشعياء ٩: ١، ٢ و٤٢: ٧ ولوقا ٢: ٣٢
هذا القول مقتبس من إشعياء ٩: ١، ٢ وهي النبوءة السادسة التي ذكر متّى أنها تمَّت في المسيح، فأهمل ذكر حوادث أخرى ليبادر إلى ذكر ما يثبت إتمام النبوات. وقوله لكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ يتضمن أن النبوَّة تمت كل التمام، وتم ما هو أعظم من ذلك، أي مقاصد الله في النبوة. وأشار إشعياء بهذه النبوة أولاً إلى الضيقة الجزئية التي حدثت لليهود من بنهدد، ثمَّ إلى ضيقة أشد منها من الأشوريين، أتى بعدها الفرج. فدلَّ متّى بكلمات هذه النبوة على البركات العظمى الناتجة من مجيء المسيح.
١٥ «أَرْضُ زَبُولُونَ، وَأَرْضُ نَفْتَالِيمَ، طَرِيقُ ٱلْبَحْرِ، عَبْرُ ٱلأُرْدُنِّ، جَلِيلُ ٱلأُمَمِ».
زَبُولُونَ، وَنَفْتَالِيم الابنان العاشر والخامس من أولاد يعقوب، وأرضهما غرب الأردن وشمال بحر طبرية.
طَرِيقُ ٱلْبَحْر أي مجاور للبحر، بحر الجليل لا البحر المتوسط.
عَبْرُ ٱلأُرْدُنّ تشير غالباً إلى الجانب الغربي بحسب موقف الكاتب من النهر. فالظاهر أن النبي كتب ما كُتب هنا وهو شرقي الأردن. وبقوله عبر الأردن يشير إلى الجانب الغربي.
جَلِيلُ ٱلأُمَم سُمي بهذا الاسم لأنه قريب إلى أراضي الأمم، ولوجود بعض الأمم بين سكانه. وهذه البلاد تشتمل على المدن العشرين التي وهبها سليمان لحيرام ملك صور، مكافأة له على إسعافاته في بناء الهيكل (يشوع ٢٠: ٧ و١ملوك ٩: ١١) فسكنها الأمم منذ وُهبت ولذلك أُضيفت إلى الأمم (إشعياء ٩: ١). والأرجح أن الأمم كثروا هناك مدة السبي.
١٦ «ٱلشَّعْبُ ٱلْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُوراً عَظِيماً، وَٱلْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ ٱلْمَوْتِ وَظِلاَلِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ».
ٱلشَّعْبُ أي يهود الجليل.
ٱلْجَالِس هذا إشارة إلى أنهم ماكثون في الظلمة وراضون بها. وقال إشعياء «السالك في ظلمة» فمتّى ذكر أن حالهم أردأ من ذلك.
ظُلْمَة هذه الكلمة تُستعار في الكتاب المقدس للجهل والضلال والخطية والشقاء.
نُوراً يُستعار في الكتاب المقدس للمعرفة والهدى والطهارة والسعادة. فقد أبصر هذا الشعب نوراً عظيماً لأنه أبصر يسوع نور العالم (يوحنا ١: ٩ و٨: ١٢).
عَظِيماً أي كافياً لتبديد الظلمة الكثيفة عقلياً وروحياً، ممتداً من قطر إلى قطر، دائماً إلى الأبد.
أَشْرَق كالشمس عند طلوعها لا كإضاءة السراج.
كُورَةِ ٱلْمَوْتِ وَظِلاَلِه هذا زيادة على قوله الأول، مع الإشارة إلى مصدر هذه الظلمة ونتيجتها. فتلك المنطقة حيث يستقر الموت ويكون كل شيء مظللاً بظلاله. وعلى هذا القول لا يُعدُّ الظلام أقل من موت روحي. وهذا حال جميع الأراضي التي هي بدون الإنجيل. وأول ما قيلت هذه النبوة كان إشارة إلى انحطاط الجليليين من خارج، ومخالطة الأمم من داخل. فقصد متّى أن يشير بها إلى ظلمتهم الروحية التي شاركهم فيها جميع اليهود، وإلى جهالتهم الخاصة التي عيرهم بها بقية اليهود (يوحنا ٧: ٤١، ٤٩) ففي وسط هذا الشعب الغبي المهان أظهر أعظم الأنبياء مجده، وحصل بينهم على نجاح. فاحتقرهم أهل اليهودية أولاً لسبب جهالتهم، وثانياً لسبب لغتهم (متّى ٢٦: ٧٣) ومخالطتهم للأمم. ولما تنبأ إشعياء ببزوغ هذا النور تنبأ بأنه مستقبل، ولما تكلم به متّى نظره كأنه أشرق.
١٧ «مِنْ ذٰلِكَ ٱلزَّمَانِ ٱبْتَدَأَ يَسُوعُ يَكْرِزُ وَيَقُولُ: تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ ٱقْتَرَبَ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ».
متّى ٣: ٢ و١٠: ٧، مرقس ١: ١٤، ١٥
مِنْ ذٰلِكَ ٱلزَّمَانِ أي من الزمان المذكور في ع ١٢ حين أُلقي يوحنا في السجن. وهذا لا يحدد الوقت بالضبط، بل يُظهر علاقة خدمة يوحنا المعمدان، إذ بدأت الواحدة حين انتهت الأخرى، كما قيل أيضاً في أعمال ١: ٢٢ و١٠: ٣٧ و١٨: ٢٥.
ٱبْتَدَأَ يَسُوعُ يَكْرِز بدأ يسوع باستعمال كلمات يوحنا ٣: ٢ وكان هذا جزءاً من تعليمه أو افتتاحه، كأن كل تعليم يوحنا كان مقدمة لتعليم المسيح، ولذلك تابع الموضوع من حيث تركه يوحنا وتقدم به. وبعد ذلك أرسل يسوع تلاميذه ينادون بنفس هذه الكلمات (متّى ١٠: ٧) مناداة يجب على كل خدام المسيح اليوم أن ينادوا بها، غير قاصدين بث تعاليم جديدة يُدهش الناس بها، لأن التوبة هي الخطوة الأولى نحو الإيمان الذي به نوال التبرير. وكلاهما هبة الله.
قَدِ ٱقْتَرَبَ مَلَكُوت وضع يسوع أساس هذه المملكة حينئذ، ولكن لم تثبت للناس حتى قام من الموت وأُقيم ملكاً حقيقياً لكل العالم، يسود عليه بالروح والحق.
١٨ «وَإِذْ كَانَ يَسُوعُ مَاشِياً عِنْدَ بَحْرِ ٱلْجَلِيلِ أَبْصَرَ أَخَوَيْنِ: سِمْعَانَ ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي ٱلْبَحْرِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ».
مرقس ١: ١٦ – ١٨ ولوقا ٥: ٢ ويوحنا ١: ٤٢
لم ينظم المسيح كنيسته في حياته على الأرض، لكنه علَّم أناساً استخدمهم بعد موته لتنظيم الكنيسة. أولاً تعرَّف بهم، ثم دعاهم ليتبعوه، وأخيراً عينهم رسلاً. وأنبأ يوحنا البشير بالوقت الذي فيه تعرَّف بهم (يوحنا ١: ٣٥ – ٤٢). وأما البشيرون الثلاثة الآخرون فغضوا النظر عن تلك المدة، وبدأوا بالمدة التي فيها جعلهم رفقاءه وتابعيه.
مَاشِياً ليس بلا قصد بل منادياً بملكوته.
بَحْرِ ٱلْجَلِيلِ هو البحر الذي يمر فيه نهر الأردن، وهو الحد الشرقي لبلاد الجليل، ويسمى أيضاً «جنيسارت» (لوقا ٥: ٤) وكنارة (عدد ٣٤: ١١ وتثنية ٣: ١٧) وكنروت (١ملوك ١٥: ٢٠) وبحر طبرية (يوحنا ٦: ١). طوله نحو ١٣ ميلاً وعرضه ٦ أميال ومعظم عمقه ١٦٥ قدماً، وسطحه أوطأ من سطح البحر الأبيض المتوسط بنحو ٦٥٣ قدماً. وقامت على شاطئه تسع مدن. قال يوسيفوس إنه في أيامه لم يكن فيه أقل من أربعة آلاف سفينة من أنواع مختلفة. ولا يزال هذا البحر شهيراً حتى اليوم لوفرة سمكه وتعرضه للاضطرابات الشديدة الفجائية. ومن صياديه اختار المسيح بعض تلاميذه الذين ذُكر أربعة منهم هنا.
سِمْعَانَ كان يُعرف بهذا الاسم عندما كتبت هذه البشارة، ومعناه «سامع». ولقبَّه يسوع ببطرس حينما أحضره إليه أندراوس أخوه (يوحنا ١: ٣٧). ومعنى بطرس كمعنى صفاً في السريانية مشتق من «بتروس» وهي كلمة يونانية معناها «صخرة» إشارة إلى مكانته في الكنيسة التي بُنيت على المسيح أساسها الأصلي (أفسس ٢: ٢٠) ثم على الاثني عشر رسولاً، ثم على جمهور المؤمنين. ولأن بطرس أحد هؤلاء الاثني عشر ومن الذين دُعوا أولاً، لاق أن يكون السابق بينهم، بسبب غيرته وشجاعته، ولذلك لقَّبه بهذا الاسم. ولم يكن مستحقاً أن يُسمى بالصخرة بالنظر إلى طبيعته، كما يظهر من أخبار حياته، ولم ينل من هذا اللقب سلطة على سائر الرسل كما يظهر من التاريخ التالي، ولم يكن له وظيفة متعلقة به ليمارسها ويورثها لغيره بعد موته.
لقد جعل يسوع أمام هؤلاء التلاميذ هدفاً أعظم جداً من مجرد تحصيل الرزق، مع أن من أهم واجبات الإنسان أن يحصل على رزقه بعرق جبينه (تكوين ٢: ١٧). ولكنه قرن هذا العمل بالملكوت الذي يؤسسه على الأرض، فليصطادوا الناس، مثلما الحقول قد ابيضت للحصاد. فالجوهر يبقى واحداً.
وَأَنْدَرَاوُسَ اسم يوناني، وهو الذي عرَّف بطرس أخاه بالمسيح. ولا نعرف من كان أكبرهما سناً. واسم أبيهما يونا (يوحنا ٢١: ١٥ – ١٧) وُلد في بيت صيدا (يوحنا ١: ٤٤) وكانا من تلاميذ المعمدان سابقاً. فتبارك هذا الإخاء الذي لم ينتج عن قرابة جسدية فقط، بل عن ولادة روحية أيضاً.
شَبَكَة يظهر أنها كانت كبيرة، لأن الكلمة اليونانية التي تُرجمت منها كلمة «يلقيان» تشير إلى أن الشبكة كانت ملقاة في دائرة.
صَيَّادَيْن أن صيد السمك كان عملها الخاص. وربما تعرَّف المسيح على هذين الشخصين قبلاً وعلمهما شيئاً، ثم أخبرهما أن يرجعا إلى عملهما مدة حتى يدعوهما. وأنهما كانا حينئذ ينتظران تلك الدعوة. ويزيد لوقا على ما ذكره متّى وعظ المسيح في سفينتهما وصيد السمك العجيب (لوقا ٥: ١ – ١١).
١٩ «فَقَالَ لَــهُمَا: هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ ٱلنَّاسِ».
هَلُمَّ وَرَائِي أي لازماني وتعلما مني وأطيعاني وكونا تلميذين لي. كأنه قال: أنصتا لتعاليمي واهتديا بنصيحتي وتمثلا بقدوتي وتجندا معي للحق على الشيطان. ونتائج هذه الدعوة كانت أعظم من نتائج دعوة إبراهيم أو دعوة موسى.
صَيَّادَيِ ٱلنَّاسِ أشار بألفاظ مأخوذة من مهنتهما العتيقة نظراً للمشابهة بينهما في كيفية العمل، إلا أن الجديدة كانت أرفع شأناً من العتيقة، وعندما صارا مبشرين بقيا صيادين، ولكن ليس صيادي سمك بل صيادي الناس، الذين هم غنيمة أعظم من السمك، لأنهما لا يهلكانهم بصيدهم، بل يحييانهم بالخلاص. ووجه الشبه بين عملهما وعمل الصيادين هو الاحتياج إلى التعب والحذق والانتباه وأمل النجاح. وربما لم يفهما كل ما قصده المسيح بهذه التسمية.
وإذا قيل: لماذا لم يدعُ المسيح بعضاً من الكتبة والعلماء ليكونوا أولاً تابعيه وبعدئذ رسله؟ فالجواب لأنهم كانوا أقل تأثراً من تعليمه، وليظهر فيما بعد أن تقدم إنجيله لم ينتج من علمٍ بشري أو فصاحة لسان، بل من قوة الله. فلهذا اختار الله جهال العالم ليخزي حكمة الفهماء.
٢٠ «فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا ٱلشِّبَاكَ وَتَبِعَاهُ».
فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا الخ أطاعا هذه الدعوة التي أتتهما بغتة لوجود دعوة إلهية داخل قلبيهما. ويحتمل أنهما كانا مستعدين لكي يقبلاها مما سمعاه من يسوع قبلاً. وهذه الطاعة السريعة من دلائل التقوى الحقيقية (لوقا ٩: ٥٧ – ٦٢). فالذي يدعوه المسيح حقاً يجلبه إليه فعلاً. وقول متّى إنهما تركا شباكهما يعني أنهما تركا كل ما لهما، وتركا مهنة صيد السمك، إذ حسبا ما لهما كلا شيء بالنسبة إلى خدمة سيدهما. ومن ذلك الوقت تبعاه في الاضطهادات والسجون والإهانات حتى الموت.
٢١ «ثُمَّ ٱجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ فَرَأَى أَخَوَيْنِ آخَرَيْنِ: يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ، فِي ٱلسَّفِينَةِ مَعَ زَبْدِي أَبِيهِمَا يُصْلِحَانِ شِبَاكَهُمَا، فَدَعَاهُمَا».
ثم اجتاز: أي على شاطئ البحر، وذلك لمسافة قصيرة، لأن ابني زبدي وابني يونا كانوا شركاء. وصيد السمك يحتاج للمشاركة حتى ينجزوا العمل بطريقة أفضل وأربح (لوقا ٥: ١٠). وكانت إحدى السفينتين في ذلك الوقت قريبة من الأخرى (مرقس ١: ١٩).
زَبْدِي معناه هذا الاسم مثل زبدي المذكور في يشوع ٧: ١، ومعناه «الرب أعطى».
يُوحَنَّا أَخَاهُ ظنَّ الكثيرون أنه «التلميذ الآخر» ليوحنا المعمدان الذي تبع المسيح مع أندراوس حينما أشار إليه يوحنا وأنبأ بأنه حمل الله. واسم أمهما سالومة التي تبعت المسيح بعدئذ وخدمته (متّى ٢٧: ٥٦).
يُصْلِحَانِ إما يصلحان ما تمزَّق من الشِّباك أو يجهزانها للعمل، أو أتيا لإسعاف شريكيهما وقت الصيد القريب ثم رجعا إلى عملهما الذي كانا يمارسانه حينما دعاهما.
فَدَعَاهُمَا إن خدمة المسيح أوجب من كل خدمة (متّى ١٩: ٢٩). ومَن جعل الأمانة والاجتهاد ديناً له في خدمته مهما كانت دنيئة، يستحق أن يُرقَّى إلى خدمة أسمى منها.
٢٢ «فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا ٱلسَّفِينَةَ وَأَبَاهُمَا وَتَبِعَاه».
أطاع ابنا زبدي دعوة المسيح بسرعة كما أطاعها ابنا يونا، إلا أن الآخرين لم يتركا فقط سفينتهما وشباكهما كالأولين بل أباهما أيضاً. وليس في ذلك ما يدل على عدم إكرامهما الواجب لوالدهما، لأنه لم يكن عاجزاً محتاجاً إليهما ولأنه يستنتج مما قيل في مرقس ١: ٢٠ أنه كان له عمال، وكان قادراً على ممارسة مهنة الصيد بعد ذهاب ولديه. ويظهر من يوحنا ١٨: ١٥ أنه كان لعائلة زبدي شيءٌ من المقام. وكيفما كانت الأحوال يجب أن يُسمع صوت دعوة المسيح قبل كل دعوة أرضية. ولو عرف المسيح أن زبدي يفتقر إلى مساعدة ولديه لكان أمدَّه بطريقة أخرى. فإذا أردنا أن نتبع المسيح الآن وجب أن نكون مستعدين لأن نترك كل شيء من أجله.
٢٣ «وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ كُلَّ ٱلْجَلِيلِ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ ٱلْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضَعْفٍ فِي ٱلشَّعْبِ».
متّى ٩: ٣٥ و٢٤: ١٤ ومرقس ١: ١٤، ٢١، ٣٤، ٣٩ ولوقا ٤: ١٥، ٤٤
ما قيل هنا ليس خبراً عن شيء حدث في وقتٍ معين بل قيل شرحاً عاماً لخدمة المسيح في الجليل بعدما دخل إليها (كما في ع ١٢ – ١٧). وذكر متّى أن المسيح لم يُجرِ هذه الخدمة في موضع واحد بل في كل بلاد الجليل التي كان يجول فيها. قال يوسيفوس إنه كان في تلك الأرض ٢٠٤ مدينة كبيرة وصغيرة، أصغرها يسكنها ١٥ ألف نسمة. فإذاً كان في تلك البلاد نحو ثلاثة ألف من السكان.
يَطُوفُ ليس وحده بل مع بعض تلاميذه. كانت خدمة المسيح في الجليل متعبة جداً، لأننا نقرأ أنه في أثناء إقامته فيها ١٨ شهراً خرج من كفر ناحوم للتبشير تسع مرات، وأنه سافر ثلاث سفرات طويلة، وخمساً أو ستاً قصيرة ليجول ويعلم.
يُعَلِّم كان التعليم الجزء الأول من خدمة المسيح كنبي، وكان تعليماً دينياً فيما هو ضروري للخلاص وأساساً لتعليم الرسل الشفاهي والكتابي في رسائلهم.
فِي مَجَامِعِهِم أماكن العبادة. ابتدأ اليهود باستعمالها على ما هو المرجح من سبي بابل، واستمروا على ذلك بعد رجوعهم. وفي مدة وجود المسيح هنا وُجدَت مجامع في كل المدن والقرى التي لليهود. قال يوسيفوس: انه وقت خراب أورشليم كان في تلك المدينة وحدها ٤٨٠ مجمعاً. وكان للمجامع شيوخ (لوقا ٧: ٣) ورؤساء (لوقا ٨: ٤١، ٤٩). وكيفية العبادة فيها كانت بسيطة تشتمل على الصلاة وقراءة التوراة وبعض الإنذارات. وربما رُخص لسيدنا بأن يكرز في المجامع، إما لأن الحرية كانت معطاة لكل إنسان، أو لأن صيته ذاع بأنه معلم ماهر وصانع عجائب (لوقا ٤: ٤٦ وأعمال ١٣: ١٥).
يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ ٱلْمَلَكُوت أي بالخبر المفرح بأن المسيح قد أسس ملكوته الروحي وأبان حقيقته وشرائعه. فالإنجيل هو العهد الملكي الذي به أعلن ملك الملوك ما يمنحه لشعبه وما ينتظره منهم، فلا وظيفة أشرف من الوظيفة التي مارسها ابن الله في كرازته، والتي خلفها للمبشرين بالإنجيل.
وَيَشْفِي كان الشفاء الجزء الثاني من خدمة المسيح، وهو يساعد الجزء الأول الذي هو التعليم. ومارسه المسيح لإثبات سلطانه كمعلم إلهي، وإشارة إلى وظيفته العظمى كطبيب النفوس، وليجذب إليه قلوب الناس بالشكر والمحبة ويفتحها لقبول كلامه. ولم يقتصر على إجراء المعجزات لتكون دلائل قدرته، بل أظهر بها رقة قلبه وشفقته ومحبته واشتراكه مع الناس، وأنه لم يأت ليُهلك بل ليخلص. ولا يزال المسيح حتى الآن مخلصاً شفوقاً مقتدراً كما كان منذ نحو ١٩٠٠ سنة.
كُلَّ مَرَض أي كل الأسقام التي تعتري البشر. شفى المسيح جميع الذين أتوا، وجميع الذين أتى بهم أصحابهم. ولم نسمع قط أنه طرد أحداً من بين الذين أتوا إليه بغية الشفاء.
وَكُلَّ ضَعْفٍ يحتمل أن الضعف يشير إلى الأمراض الخفيفة والحديثة. والمرض إلى ما هو مزمن ومؤلم.
٢٤ «فَذَاعَ خَبَرُهُ فِي جَمِيعِ سُورِيَّةَ. فَأَحْضَرُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ ٱلسُّقَمَاءِ ٱلْمُصَابِينَ بِأَمْرَاضٍ وَأَوْجَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَٱلْمَجَانِينَ وَٱلْمَصْرُوعِينَ وَٱلْمَفْلُوجِينَ، فَشَفَاهُمْ».
ذَاعَ خَبَرُهُ بأن المسيح معلم وشافٍ ليس في الجليل وأرض إسرائيل فقط بل في الخارج أيضاً شمالاً وشرقاً.
سُورِيَّةَ كانت ولاية كبيرة رومانية في ذلك الوقت، وكانت أرض إسرائيل جزءاً منها. ولا يمكننا معرفة حدودها تماماً، لأن الذين يستعملون هذه الكلمة لا يستخدمونها لشيء واحد. وكانت غاية متّى أن يخبر أنه بلغ صيت المسيح كل دانٍ وقاص، حتى اجتمع إليه كثيرون طالبين الشفاء لهم ولأصحابهم.
وَأَوْجَاعٍ تختلف عن الأمراض آنفاً بكونها مؤلمة جداً.
وَٱلْمَجَانِينَ وَٱلْمَصْرُوعِينَ وَٱلْمَفْلُوجِينَ من بين المرضى الذين شفاهم المسيح ذكر متّى هذه الأنواع الثلاثة، لأن مرضهم أكثر تأثيراً وأكثر شيوعاً. وذكر المجانين أولاً لأن الجنون كان آخذاً في الامتداد الغريب في ذلك الوقت. وكان يعد من شر الأمراض لأنه يشتمل على شرين: أخلاقي وجسدي، ولأنه متعلق بعالم آخر وجنس آخر من الخلائق الروحية التي تسمَّت أحياناً «أرواحاً نجسة» بمعنى روحي، لأنهم فاسدون ومفسدون. وهم يخدمون إبليس الذين سقطوا بسقوطه، وهم يجربون البشر، وبوسعهم أن يصلوا إلى الناس دائماً. وكانت معاملتهم للناس في أيام المسيح أكثر ظهوراً وأشد فعلاً ممتدة إلى العقل والجسد. فالشياطين ليسوا هم الأمراض بل علتها، وحركاتهم الزائدة في مدة خدمة المسيح مع قلة ذكرهم قبلها وبعدها ناتجة عن أن تلك المدة هي مدة الحرب الشديدة بين نسل المرأة ونسل الحية (تكوين ٣: ١٥).
فاستعمل الشيطان كل ما في طاقته من فعل الشر ليقاوم المسيح، وأذن له الله بذلك ليجعل انتصار المسيح أشد وضوحاً. فإخراج الشياطين من الناس كان انتصاراً على الشيطان (لوقا ١٠: ١٧، ١٨ ويوحنا ١٢: ٣١ و١٦: ١١) وأعجب أعمال الشفاء، وبرهان أن يسوع مسيح وإله.
٢٥ «فَتَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ مِنَ ٱلْجَلِيلِ وَٱلْعَشْرِ ٱلْمُدُنِ وَأُورُشَلِيمَ وَٱلْيَهُودِيَّةِ وَمِنْ عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ».
مرقس ٣: ٧، ٨
ليس المقصود في هذه الآية مجرد تكرار معنى الآية السابقة، أي أن الناس أتوا لكي يشفوا، ففيها زيادة على ذلك أنه بقي معه كثيرون يجولون من موضع إلى آخر لينظروا ويسمعوا.
جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ كان هؤلاء بين ذهاب وإياب، فلم يكونوا جيوشاً منظمة. ولذلك لم يكن للمسيح فرصة للانفراد. ولم يكونوا كلهم تلاميذ حقيقيين له، بل تبعه كثيرون منهم للتفرج ومشاهدة شيء جديد غريب.
وَٱلْعَشْرِ ٱلْمُدُن هذا اسم بلاد وُجد فيها عشر مدن، حصلت على امتيازات من الرومان، وموقعها شرقي الأردن واسمها الآن «الجولان» وكان أكثر سكانها وثنيين. روى بعض المؤرخين أن عساكر الإسكندر الكبير سكنتها بعد نهاية خدمتهم العسكرية، ثم سكنها خلفاؤهم بعدهم.
وَمِنْ عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ أي شرقه، جنوب العشر المدن، وتسمى اليوم «السلط». وذُكرت كل هذه الأماكن دلالة على كون تلك الجموع مؤلفة من يهود وأمم.
السابق |
التالي |