إنجيل متىالكنز الجليل في تفسير الإنجيل

إنجيل متى | 03 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل متى

الإصحاح الثالث

١ «وَفِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ جَاءَ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ يَكْرِزُ فِي بَرِّيَّةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ».

مرقس ١: ٤، ١٥ ولوقا ٣: ٢، ٣ ويوحنا ١: ٢٨ ويشوع ١٥: ٦١، ٦٢

وَفِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ الأيام التي كان يسوع ساكناً في الناصرة. وهذا لا يدل على مدة معينة لكن المدة بعد الحوادث المذكورة في الأصحاح السابق نحو خمس وعشرين سنة، ولم يحدث أثناءها تغيير في الأحوال، ولم يحفظ من حوادثها إلا واحدة جرت قبل ذلك بثماني عشرة سنة (ذُكرت في لوقا ٢: ٤٢ – ٥٢). وأراد متّى بتلك «الأيام» وقت كان طيباريوس قيصر امبراطوراً في رومية، وبيلاطس والياً خامساً على اليهودية. وسكوت الكتاب عن حوادث هذه المدة يُعلّم الأولاد مُثل الطاعة والإكرام لوالديهم، ويعلمنا جميعاً الصبر والمواظبة على الدرس في استعدادنا لأعمال الحياة.

جَاء أو ظهر. يرجح أنّه حينئذ كان قد بلغ سن الثلاثين. وهو الوقت الشرعي لممارسة الكاهن وظيفته (عد ٤: ٣، ٤٧).

يُوحَنَّا في العبراني «يوحنان» أي عطية الله. ذُكر نبأ ولادته في لوقا ١.ولم يذكر متّى ترجمة يوحنا قبل كرازته، إما لأن ذلك كان معروفاً جيداً عند الذين كتب لهم بشارته، أو لأنه كان غير ضروري للقصد من كتابته. وهو يوحنا ابن زكريا وأليصابات، أكبر من المسيح بستة أشهر، صرف كل زمن حداثته بالسكوت، ولم يُذكر من أمره شيء إلا ما ورد في لوقا ١: ٨٠ «وكَانَ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ، وَكَانَ فِي الْبَرَارِي إِلَى يَوْمِ ظُهُورِهِ لإِسْرَائِيلَ». فالظاهر أنه صرف وقته بالانفراد ودرس الكتاب المقدس والصلاة والتأمل استعداداً للقيام بأمر وظيفته. وكان من أنسباء أم يسوع (لوقا ١: ٣٦) وذُكرت شهادته ليسوع في يوحنا ١: ٦ – ٨ و١٩ – ٣٧.

ٱلْمَعْمَدَان ذِكر متّى هذا اللقب لأنه كتب للذين يعرفونه به، واعتادوا مشاهدة المعمودية التي كانت مقترنة بكرازته على نوع خاص. ويبين مما ورد في خروج ٢٩: ٤ ولاويين ٨: ٦ و١٤: ٨ و١٥: ٣١، ٣٢ أن التطهيرات بالماء كانت شائعة في النظام الموسوي وعند الأسينيين. وكان اليهود يعمدون المتهودين من الأمم، ولكن كان لمعمودية يوحنا معنى أعظم مما سبقها. فكانت إشارة إلى التوبة ورجاء الغفران. وهي تختلف عن المعمودية المسيحية، لأن تلاميذ يوحنا تعمدوا ثانية عندما آمنوا بالمسيح (أعمال ١٩: ٥). وسؤال الكهنة واللاويين ليوحنا يوحنا ١: ٢٥ يشير إلى أن المعمودية من علامات مجيء المسيح.

يَكْرِزُ ينادي كرسول. كان يوحنا أحد أنبياء العهد القديم. ومضت ٤٠٠ سنة لم يظهر فيها نبي غيره. وهو نبيٌ جمع صفات موسى وإشعياء كناية عن الشريعة والموعد. وهو آخر أنبياء لعهد القديم والأقرب إلى المسيح الذي هو خاتم الشريعة والأنبياء، ولذلك قيل إنه أعظم المولودين من النساء. وهذه المقارنة ليست مبنيَّة على صفات خاصة بل على درجة وظيفته، إذ قد أتى بروح إيليا (لوقا ١: ١٧) فهو سابق المسيح الذي فاقت كرازته كرازة جميع الذين سبقوه. وكانت غايتها تجهيز الناس لقبول المسيح كمخلص لهم من خطاياهم.

فِي البَرِّيَّةِ هذه البرية شرقي أورشليم قرب بحر لوط، تربى فيها يوحنا (لوقا ١: ٨٠). والمشار إليها في لوقا ٣: ٣ بالمنطقة المحيطة بالأردن، وكانت قليلة السكان وأكثرها مراعٍ للمواشي.

ولا نستنتج من عمل يوحنا وجوب التنسك، لأن هذا كان بأمر الله ليوحنا لا من استحسانه. وقد مارس يوحنا الكرازة في البرية ولم يلازم الصمت والبطالة.

٢ «قَائِلاً: تُوبُوا، لأَنَّهُ قَدِ ٱقْتَرَبَ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ».

دانيال ٢: ٤٤

تُوبُوا هذا جوهر كرازته التي كانت تتنوع كتنوع الأحوال والناس الذين يخاطبهم، ولم تكن بتكرار كلمة «توبوا». والتوبة التي أشار إليها لم تكن مجرد الحزن والندامة، بل مع الحزن إصلاح السيرة، وتجديد القلب بالرجوع عن الخطية إلى الله. ومعنى الكلمة في الأصل اليوناني «تغيير الفكر أو القلب» فهي تدل على الإصلاح الكلي للقلب والسلوك. وقد نادى يوحنا بمغفرة الخطايا بواسطة المسيح الآتي قائلاً: قد اقترب الوقت، وأتى زمان التوبة، لأن الفادي مزمع أن يحضر، وبه وحده غفران الخطايا.

كانت مناداته ضرورية لأن بني إسرائيل كانوا قد توغلوا في الفساد، وفي شعائر وعوائد وتقاليد كثيرة، ونسوا وجوب الطاعة الروحية لله. ونادى قبله هذه المناداة عينها ملاخي، آخر الأنبياء (ص ٤، ٥، ٦) وابتدأ يسوع وعظه بها (متّى ٤: ١٧).

ولو أمر يوحنا اليهود بجمع الجيوش والاستعدادات الحربية لاتَّفق تعليمه مع آرائهم وانتظاراتهم في تعليم «سابق المسيح» لأنهم كانوا ينتظرون منقذاً سياسياً يبدد أعداءهم ويرفعهم إلى ذروة الفخار.. ومع أن هذا كان الرأي الغالب بينهم، جاء في أحد كتبهم «إن تاب إسرائيل يوماً واحداً فقط، ففي ساعة يحضر المسيح».

لم يقُل يوحنا، هذا المصلح اليهودي العظيم، شيئاً عن تقديم الذبائح التي تطلبها الشريعة، ولا عن ممارسة الشعائر اليهودية، بل نادى بوجوب عمل روحي قلبي. فالتوبة استعداد ضروري لإتيان المسيح شخصياً، كما أنها استعداد ضروري لإتيانه روحياً إلينا ومكثه في قلوبنا وسكنه فينا.

ٱقْتَرَب اقترب زمن ظهوره، وذلك بناءً على ما حدث، من ولادة يسوع، وقرب زمن إعلان ذاته، وإتمام كل نبوة من نبوات هذا الملكوت.

مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَات أي ملكوت المسيح الروحاني، الذي يُسمى أيضاً ملكوت الله. ويكرر متّى هذه اللفظة ثلاثين مرة في بشارته. ويحتمل أنه نقلها من دانيال ٧: ١٣، ١٤، ٢٧ و٢: ٤٤. ويُسمى ملكوت السماوات لأنه ليس من العالم، فمصدره وصفاته ونتائجه كلها سماوية، ولأن المسيح الملك فيه أتى من السماء. ولكن اليهود ظنوا أنه يكون ملكوتاً أرضياً، ولذلك رفضوا مخلِّصاً متواضعاً. فسمّاه متّى سماوياً ليصلح هذا الخطأ. ولم يسلم الرسل من هذا الخطأ إلا بعد يوم الخمسين.

ولم يقصد يوحنا بذلك ملكوتاً مستقبلياً محضاً، بل ملك المسيح من بدء مجيئه إلى هذه الأرض إلى مجيئه الثاني، وتكميله ملكوته في السماء. فالمقصود به هنا بدء الملكوت، وفي أماكن أخرى نهايته المجيدة. وكانت أكثر آراء يوحنا في هذا الملكوت روحية، ولكن أفكاره لم تخْلُ من آراء اليهود الشائعة في أمر المسيح.

وقد أُقيم هذا الملكوت وبُشِّر به منذ أيام يوحنا إلى الآن، وكل واحد يغتصب نفسه إليه (لوقا ١٦: ١٦). فعلينا أن نصلي «ليأتِ ملكوتك» ليتقدم ملكوت النعمة ويأتي ملكوت المجد.

٣ «فَإِنَّ هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي قِيلَ عَنْهُ بِإِشَعْيَاءَ ٱلنَّبِيِّ: صَوْتُ صَارِخٍ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ. ٱصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً».

إشعياء ٤٠: ٣ ومرقس ١: ٣ ولوقا ٣: ٤ ويوحنا ١: ٢٣، لوقا ١: ٧٦

فَإِنَّ هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي قِيلَ هذه شهادة متّى لكرازة يوحنا الذي أُرسل ليتمم هذه النبوة التي تُنبِّئ بها قبل ذلك بسبع مئة سنة، وهكذا فسرها البشيرون الأربعة، ويوحنا نفسه، وهي مذكورة في إشعياء ٤٠: ٣. فإن كانت تشير جزئياً إلى رجوع بني إسرائيل فقد تمت أعظم إتمام بشخص يوحنا.

صَوْتُ ظن البعض أن يوحنا تسمى بهذا الاسم تمييزاً بينه وبين المسيح الذي هو الكلمة، وظنَّ آخرون أن هذه التسمية تدل على أن حياته كلها صُرفت في المناداة بعد صمت الأنبياء منذ زمن ملاخي.

أَعِدُّوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ الرب هنا هو المسيح الآتي وهو إله. وقوله «أعدوا طريق الرب» ترديد للعادة القديمة عند إتيان ملك، فكان يُرسل منادٍ أمامه، يدعو الشعب للاستعداد لقدومه بأن يزيلوا الموانع من الطرق. فمعنى هذه النبوة الروحية: تهيئة قلوب الناس لقبول الملك يسوع، بتوبتهم وتواضعهم وشعورهم بالاحتياج إلى مخلِّص، وبتركهم الخطية والعصيان. فإعداد طريق الرب الآن يكون بإزالة الكبرياء والاتكال على الذات والكفر واليأس. فإن لم تزُل هذه من قلوبنا لا يمكن حلول المسيح فيها.

٤ «وَيُوحَنَّا هٰذَا كَانَ لِبَاسُهُ مِنْ وَبَرِ ٱلإِبِلِ، وَعَلَى حَقَوَيْهِ مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْدٍ. وَكَانَ طَعَامُهُ جَرَاداً وَعَسَلاً بَرِّيّاً».

٢ملوك ١: ٨ وزكريا ١٣: ٤ ومرقس ١: ٦، لاويين ١١: ٢٢، ١صموئيل ١٤: ٢٥، ٢٦

يوحنا يشبه إيليا في ملابسه وعاداته، وكان ذلك موافقاً لوظيفته.

وَبَرِ ٱلإِبِلِ نستنتج من سفر زكريا (١٣: ٤) أن ذلك كان لبس الأنبياء الخاص في العهد القديم، وكانت الثياب المصنوعة منه خشنة ورخيصة يلبسها الفقراء وأهل الحِداد. وكان النبي إيليا يلبس منها (٢ملوك ١: ٨). ويحتمل أن قصد يوحنا بهذا الملبس الإشارة إلى التبكيت والحداد على خطايا إسرائيل، ليرجع ذلك الشعب إلى بساطة الأزمنة القديمة التي كان لبسه وأكله يشيران إليها.

مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْد أي كمنطقة (حزام) إيليا، واختلفت بأنها من جلد، ومناطق غيره التي يرجح أنها كانت ثمينة لدقة صنعها ونفاسة مادتها.

جَرَاداً وهو المعروف لنا، وأجازت الشريعة الموسوية أكله (لاويين ١١: ٢٢). ويأكله الفقراء الآن في بعض البلدان. وأما شراب يوحنا فيُعلم من بشارة لوقا (١: ١٥).

عَسَلاً بَرِّيّا يكثر العسل البري في شقوق الصخور في البرية حيث كان يوحنا مقيماً. فعلى هذا أتى يوحنا «لا يأكل ولا يشرب» أي نذيراً. فلا يكلف غيره بأن يعمل عمله، لأنه كان يعيش بمقتضى وظيفته، وكان كله مثالاً للتوبة.

٥ «حِينَئِذٍ خَرَجَ إِلَيْهِ أُورُشَلِيمُ وَكُلُّ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَجَمِيعُ ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ بِٱلأُرْدُنِّ».

مرقس ١: ٥ ولوقا ٣: ٧

خَرَج تركوا بيوتهم ليذهبوا إليه في البرية، أي إلى شاطئ الأردن.

أُورُشَلِيمُ وَكُلُّ ٱلْيَهُودِيَّة أي سكانها. وسمحت له كثرة عددهم أن يقول «كلهم».

ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ بِٱلأُرْدُنّ لعل المقصود السامرة والجليل وعبر الأردن مع اليهودية، لأن اشتهار اسمه كنبي جعل الناس يُقبلون إليه من الأماكن القريبة والبعيدة. وذلك دليل واضح على الانتباه الشديد، والتأثير العظيم الذي أحدثه ظهور يوحنا. وأتى إليه كثيرون من سكان تلك البلدان من أنباء حياته وحال معيشته وتوجيهه الكلام إلى الضمير.

وكان انتباه أفكار الشعب يومئذ عظيماً، وقلوبهم تتأثر من كل شيء غريب وجديد، فلا ريب أن روح الرب أغراهم لسماع هذا الرسول. فكان لهم بذلك دعوتان: دعوة داخلية، ودعوة بفم يوحنا. ودام تيقُّظ الناس وخروجهم إلى البرية مدة لا نعرف مداها.

٦ «وَٱعْتَمَدُوا مِنْهُ فِي ٱلأُرْدُنِّ، مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ».

أعمال ١٩: ٤، ١٨

وَٱعْتَمَدُوا كانت هذه المعمودية رمزية تشير إلى التطهير الأخلاقي، واستُعملت قديماً مقرونة بتقديم الذبائح، برهاناً على ارتباط عمل الفداء بعمل التقديس. وقد مارسها يوحنا بأمر إلهي (يوحنا ١: ٣٣) وبذلك لُقب بالمعمدان. وقيل إن اليهود كانوا يمارسونها وقت قبول المتهودين. وفي ممارستهم لهم إشارة إلى عدم طهارة الأُمة اليهودية واحتياجها إلى التطهير بواسطة التوبة، وكانت المعمودية إشارة إليه.

فِي ٱلأُرْدُنّ لا يدل هذا الكلام على كيفية العماد، فلا يظهر منه أن العماد كان بالرش أو بالسكب على الواقف عند ضفتي النهر، أو بتغطيسهم فيه. ولا نجد في كل الإنجيل شيئاً يدل على مقدار الماء المستعمل، أو على كيفية استعماله. والكلمات اليونانية المترجم عنها معناها «غسل رمزي». واجتماع الناس عند الأردن بقصد الاعتماد من يوحنا ليس دليلاً على التغطيس في النهر، فمن الضروري أن يكون ألوف الناس معهم كثير من الماشية بالقرب من نهر، نظراً لقلَّة الينابيع والسواقي في تلك الأماكن. والأمر معلوم أن معموديته ليست المعمودية المسيحية، ولم تكن بدلاً من الختان.

مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ لم تكن معموديتهم مجرد رسم ذي بركة من ذاته أو من قداسة النبي الذي مارسه، بل كانت مقترنة باعتراف عام بالزيغان عن الديانة الأصلية، كأفراد وكأمة، والإقرار بأنهم يستحقون الدينونة التي أعلنها النبي. ويُفهم من قول متّى أن هذا الاعتراف كان علناً لا سراً. ولا حاجة إلى بيان أنه في وقت كهذا تزدحم الجموع فيه لم تكن فرصة للاعتراف الانفرادي. وهذا الاعتراف كان (١) اختياراً لا اضطراراً (٢) لله لا ليوحنا (٣) إجمالاً لا مفصَّلاً (٤) جهاراً لا سراً (٥) اعترافاً بالخطايا التي ارتكبوها قبل المعمودية.

وجوهر الفرق بين معمودية يوحنا والمعمودية المسيحية، هي أن الأولى علامة التوبة على الخطايا، والثانية الإقرار بالمسيح والاعتراف به مخلصاً.

٧ «فَلَمَّا رَأَى كَثِيرِينَ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَٱلصَّدُّوقِيِّينَ يَأْتُونَ إِلَى مَعْمُودِيَّتِهِ، قَالَ لَهُمْ: يَا أَوْلاَدَ ٱلأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ ٱلْغَضَبِ ٱلآتِي؟».

متّى ١٢: ٣٤ و٢٣: ٣٣ ولوقا ٣: ٧ – ٩، رومية ٥: ٩ و١تسالونيكي ١: ١٠

فَلَمَّا رَأَى كَثِيرِينَ رآهم المعمدان يطلبون المعمودية بدون الاستعداد اللازم. فالانتباه الديني لا ينحصر في طائفة واحدة لأنه كان يعمُّ أناساً مختلفين. ومن هذا تظهر شدة تأثير تعليم يوحنا، فإنه وفَّق بين المتخالفين الذين أتوا لمجرد التفرج، أو اقتداءً بغيرهم، أو ليكونوا زعماء هذه الحركة الجديدة إذا نجحت. وعلى كل حال فإنهم أتوا بلا ميل إلى التوبة.

ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَٱلصَّدُّوقِيِّينَ طائفتان كانتا غالب الأحيان في خصام، ولكنهما اتفقتا حينئذ وبعدئذ على مقاومة المسيح. قال يوسيفوس إنهما نشأتا نحو سنة ١٥٠ ق.م. وكان الفريسيون غيورين على حفظ الطقوس اليهودية أحسن حفظ، مع التمسك بتقاليد رؤساء اليهود. ومعنى اسمهم المفروزون. وهو لا يشير إلى أن غايتهم فرز أنفسهم عن بقية اليهود بل عن بقية الشعوب. وكانت ضلالتهم الدينية الاعتبار الفائق لحرف الناموس وإهمال روحه، واحترام للتقاليد وتسليم أنفسهم بذلك للأوهام وللبر الذاتي والرياء وصورة الدين لا حقيقته. وحين كان المسيح على الأرض كان هؤلاء أشد خصومه.

وسُمي الصدوقيون كذلك نسبة إلى صدُّوق رئيسهم. وكانت ديانتهم ديانة الشكوك والكفر واعتماد المبادئ العقلية، ولذلك رفضوا التقاليد. والأرجح أنهم رفضوا بعض أسفار العهد القديم الأخيرة، وأنكروا القيامة وخلود النفس ووجود الملائكة، وتبعوا بعض العوائد الوثنية.

وكان هناك غير هاتين الفرقتين فرقة أخرى غير مذكورة في الإنجيل، وهي جماعة الأسينيين. وكانوا بين اليهود بمثابة الباطنيين في بعض الأديان. مارسوا التطهيرات اليهودية، واعتنقوا الفلسفة اليونانية، وكثيراً ما تمسكوا بالتقشُّفات الجسدية، وتجنبوا مخالطة الناس، وكانوا قليلي العدد والأهمية. وهذا هو سبب عدم ذكرهم في الإنجيل.

أما الفرقتان الأوليان فأظهرتا في بادئ الأمر احتراماً ليوحنا كنبي، ولكن قلَّ اعتبارهم له بعد قليل بسبب مواعظه. ولما نادى بأن يسوع هو المسيح أنكروا نبوَّته وسلطانه فعلاً إن لم يكن قولاً (لوقا ٧: ٣٠ ومتّى ٢١: ٢٥ – ٢٧). والأرجح أن قليلين منهم استفادوا من مجيء المسيح (لوقا ٧: ٣٠ ومتّى ١١: ١٨). وكان بينهم بعض الأتقياء (يوحنا ٣: ١ وأعمال ٥: ٣٥).

أَوْلاَدَ ٱلأَفَاعِي نوع من الحيات شديدة الاحتيال والضرر. ولم يستعمل يوحنا هذا الوصف للفريسيين والصدوقيين كراهية واحتقاراً، بل توبيخاً لهم على صفاتهم العامة وعدم إخلاص نواياهم في مجيئهم إليه، وإشارة إلى ضرر تعليمهم الذي هو كالسم الناقع. واستعمل سيدنا هذا الوصف عينه في متّى ٢٣: ٣٣. فالأرجح أن كلامه كان مبنياً على ما قيل في «نسل الحية» (تكوين ٣: ١٥). فمع أنهم أبناء إبراهيم أشبهوا نسل الحية في مقاومتهم «نسل المرأة».

مَنْ أَرَاكُمْ تعجب يوحنا من أن أناساً قساة القلوب مثلهم مرائين، يخافون حتى يتظاهروا بالتوبة ويرغبوا في أن يتَّصفوا بصفاتها.

أَنْ تَهْرُبُوا أي تجتهدوا في أن تهربوا. فبسؤاله هذا يظهر الشكَّ في صدق مقاصدهم، فإن كان ما يدَّعونه صحيحاً فهو يبيِّن لهم أنهم يحتاجون إلى وسائط أكثر فاعلية لنوال غايتهم. فكأنه قال: أي رجاء لمن كان مثلكم؟

ٱلْغَضَبِ ٱلآتِي أي غضب الله وقصاصه على الخطية. تنبأ ملاخي (٣: ٢ و٤: ٥) بإظهار غضب الله عند إتيان «سابق المسيح» ولذلك انتظر الناس أياماً مضطربة. فسبب خوف الفريسيين والصدوقيين هو من هذه الحركات المنتظرة، لا القصاص على خطاياهم الخاصة. وبولس يستعمل هذه العبارة في ١تسالونيكي ١: ١٠. ومعنى غضب الله هذا نجده في خراب أورشليم، وفي قصاص الخطاة يوم الدين.

٨ « فَٱصْنَعُوا أَثْمَاراً تَلِيقُ بِٱلتَّوْبَةِ».

فَٱصْنَعُوا أَثْمَاراً أي إن كنتم بالحقيقة هاربين، كما ادَّعيتم، فاعملوا أعمالاً تطابق ذلك. أي توبوا التوبة الحقيقية واتَّقوا الله وانفعوا الناس، ولا تظنوا المعمودية بالماء والإقرار باللسان يجديان نفعاً. فإن العلامة الحقيقية للتوبة هي حياة التقوى، والثمار الجيدة تستلزم شجرة جيدة. لقد كانوا محتاجين إلى ولادة جديدة، لأن تسلسلهم الطبيعي من إبراهيم لا يكفيهم.

٩ «وَلاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْرَاهِيمُ أَباً. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ ٱللّٰهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هٰذِهِ ٱلْحِجَارَةِ أَوْلاَداً لإِبْراهِيمَ».

وَلاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُم أي لا تقولوا ولا تظنوا في قلوبكم أن مجرد كون إبراهيم أباكم يفيدكم شيئاً عند الله.

لَنَا إِبْرَاهِيمُ أَبا أي أننا نخلص طبعاً لأننا ورثة حقيقيون لذاك الذي كان له الوعد. هذا كان افتخارهم (يوحنا ٨: ٣٣، ٣٧، ٣٩). فيوحنا لم ينكر نسبتهم إلى إبراهيم، بل أنكر أنها تكفيهم لنوال رضى الله بغضّ النظر عن صفاتهم. وقد تبيَّن استنادهم على هذه النسبة في أحد تقاليدهم وهو أن إبراهيم جالس أمام الباب المؤدي إلى الجحيم فلا يسمح بانحدار أحد نسله المختونين إلى هناك.

ولنا من ذلك أن فضائل الوالدين الأتقياء لا تنفع أولادهم، إلا بشرط أن يقتفي هؤلاء خطوات والديهم. فاستناد البعض الآن على عضويتهم في الكنيسة عبث، كما كان استناد الناس قديماً على عضويتهم في الكنيسة اليهودية. فيجب على كل إنسان بمفرده أن يتوب ويؤمن.

لأَنِّي أَقُولُ لَكُم كان فكر اليهود أن الله ملتزم بتخليص شعبه المختار. ولو أراد رفضهم ما أمكنه ذلك. فقال يوحنا: ولو هلكوا جميعاً لا يكون الله بلا شعب، إذ يمكنه أن يقيم له شعباً مما لا يخطر على بال إنسان أن يكون ذلك منه.

يُقِيمَ أي ينقل من عدم الحياة إلى الحياة بنفس السهولة التي بها صنع آدم من التراب.

مِنْ هٰذِهِ ٱلْحِجَارَة إشارة إلى حجارة حقيقية كانت على الأرض قريبة منه. والمعنى أن الله لا يحتاج إلى اليهود، فيمكنه أن يجدد النسل إذا هلك الأفراد، أو يتخذ أمة أخرى بدلاً من أمتهم. وهنا تلميح إلى إمكانية دعوة الأمم التي صارت فيما بعد بالفعل. فتسلسلنا من الأتقياء لا يفيدنا شيئاً بل يزيد دينونتنا إذا لم تنتج منه طهارة الحياة.

أَوْلاَداً لإِبْراهِيم أعني مستحقين أن يأخذوا اسمه وميراثه والمواعيد المعطاة له ومشابهين إياه روحا (غلاطية ٣: ٢٩).

١٠ «وَٱلآنَ قَدْ وُضِعَتِ ٱلْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ ٱلشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي ٱلنَّار».

متّى ٧: ١٩ ولوقا ١٣: ٧، ٩ ويوحنا ١٥: ٦

وَٱلآنَ أي ليس في وقت مستقبل أو بعيد، بل في نفس الساعة التي أكلمكم فيها.

وُضِعَتِ ٱلْفَأْس اتخذ اسم آلة معتادة كناية عن الدينونة الإلهية. وقوله «وُضعت» إشارة لقصد الواضع أن يقطع الشجرة فيما بعد. ويحتمل أن يكون المعنى أنه قد بوشر قطعها، أي ابتدأت الدينونة. أو أنها وُضعت بدون استعمال استعداداً لرفعها واستعمالها في أي دقيقة كانت. وفي كل ذلك دلالة على قُرب الخطر منهم لأن الشجرة بلا ثمر. ولا رجاء إلا بالتوبة السريعة.

عَلَى أَصْلِ ٱلشَّجَر يعني بالشجر الناس الذين ينتظر الله منهم ثمراً وهم كل الأمة اليهودية، ولا سيما الذين كان يخاطبهم، أي الفريسيون والصدوقيون ورؤساء الشعب والجماعات التي أتت إلى يوحنا للمعمودية. وقال «أصل الشجر» لأن الأصل المحل الأنسب لقطع الشجرة وملاشاتها بالكلية. فليس المقصود إذاً تهذيب الشجرة، أي قطع بعض أغصانها، إشارة إلى إصلاح بعض العوائد الرديئة والأعمال الخارجية ووقوع القصاص على البعض من الأفراد، بل الشجرة برمتها أي الأمة بأسرها.

ثَمَراً جَيِّدا أي ثمار تليق بالتوبة (ع ٨) «وجيداً» أي صالحاً ومقبولاً لدى الله، ومفيداً لمن يصنعه وللآخرين.

تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي ٱلنَّار تُقطع من أصلها حتى لا يبقى منها شيء. وزيدَ «تُلْقَى فِي النَّارِ» (لوقا ٣: ٩) دلالة على هلاك الأشرار، بسبب غضب الله عليهم (ع ٧) وبسبب ضرر الخطية للخاطئ (عبرانيين ١٢: ٢٩).

١١ «أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ، وَلٰكِنِ ٱلَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي، ٱلَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَنَار».

مرقس ١: ٨ ولوقا ٣: ١٦ ويوحنا ١: ١٥ وأعمال ١: ٥ وإشعياء٤: ٤ و٤٤: ٣ وملاخي ٣: ٢ وأعمال ٢: ٣، ٤ و١كورنثوس ١٢: ١٣

أَنَا أُعَمِّدُكُمْ لم يكن قول يوحنا تهديداً لهم من عنده، ولا بسلطانه، فهو مجرد «سابق للمسيح». إنما الذي سيعاقبهم هو السيد الآتي. وهنا يقارن يوحنا بين خدمته وخدمة المسيح، فيُظهر أنها أقل من خدمة المسيح وأن شخصه دون شخصه في الاعتبار. فمعمودية يوحنا للتوبة كانت خارجية، بينما معمودية المسيح داخلية. ومعمودية يوحنا كانت بالماء إشارة إلى تلك التوبة التي لا يمكنه أن يمنحها، بينما معمودية المسيح كانت بقوة الروح القدس الفعالة المجددة.

ٱلَّذِي يَأْتِي بَعْدِ عرف الجميع أن غيره آتٍ بعده، ولو أنهم كانوا يجهلون العلاقة بينهما، وأن ذلك الآتي هو ملاك العهد (ملاخي ٣: ٣).

أَقْوَى مِنِّ أي أقدر منه فعلاً، وأعظم منه شرفاً.

لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَه العلاقة بينهما ليست مجرد علاقة سابق بلاحق أو عبد بسيده، لأن أدنى عبد يمكنه أن يحمل حذاء سيده. وهو يحسب هذه الخدمة التي هي أدنى الخدمات شرفاً لا يستحقه!

فاعتراف يوحنا جهاراً ومراراً بأنه أصغر من المسيح، يرينا أنه كان يقنع سامعيه بأنه ليس المسيح الآتي، وأنه كان يعرف العلاقة الصحيحة بينه وبين المسيح وأنه يعترف بها دوماً، وأنه انتصر على تجربة الافتخار الناتجة عن مدح الناس له. فهو الشخص المناسب ليكون سابقاً للمسيح الوديع والمتواضع القلب. وتواضع يوحنا مثال لكل من يخدمون المسيح. فكلما رفعوا شأن سيدهم يرفعهم سيدهم. والذين يكرمهم الله ليكونوا وسائط لعمل خير جزيل يكونون صغاراً في عيون أنفسهم. والعظمة الحقيقية مقرونة بالتواضع دائماً.

هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ هناك فرق بين أعمالها كما كان بين شخصيهما. وليس الفرق بين المعموديتين في كيفية ممارستهما، بل في أن معمودية المسيح هي معمودية النفوس بقوة روحية وحلول الروح القدس، وليس نتيجتها التوبة وحدها بل أنها مصحوبة بالخلاص. فالتأثير الذي يترتب على مجيء المسيح أعظم من التأثير الذي صار بوعظ يوحنا، وهذا ما حدث يوم الخمسين، واستمر بعد ذلك إلى الآن بأعدادٍ أكبر جداً.

بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُس أي الأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس.

وَنَار ليست نار غضب الله (ع ١٢) بل إشارة إلى قوة فاعلية النار في التطهير (إشعياء ٤: ٤ وإرميا ٥: ١٤ وملاخي ٣: ٢). وقد ظهر تأثيرها في أعمال ٢: ١٣. وقد ذكر يوحنا الماء والنار كعلامتين لفعل الروح القدس في النفس.

١٢ «ٱلَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى ٱلْمَخْزَنِ، وَأَمَّا ٱلتِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأ».

ملاخي ٣: ٣، ٤: ١

ٱلَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ الرفش هو الآلة التي يُذرَّى بها الحَبُّ في الهواء لفصله عن التبن. شبَّه يوحنا أمة اليهود بالشجرة التي تُقطع وتُلقى في النار (ع ١٠). وهنا يشبِّههم بتبن أُتلف بنفس الطريقة. إلا أنه لم يقتصر على ذكر الهالكين المعبر عنها بالتبن، فذكر المخلَّصين الذين شبَّههم بالقمح.

وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَه تشير الكلمة اليونانية إلى تنقية البيدر تنقية تامة لا يترك معها شيء منه غير مذرَّى، كناية عن نهاية العمل كله. ويمكن أن يكون القصد من هذا التشبيه الإشارة إلى تأديب الله الناس وقصاصه لهم في هذه الحياة وفي نهاية العالم. ولكنه يشير بالأكثر إلى تعليمه الذي يمتحن به القلوب، وإرسال روحه القدوس ليوقظ الضمائر ويقودها إلى سُبُل التوبة والإصلاح، وإرسال الضيقات، وأخيراً الدينونة. فبكل هذا ينقي الله بيدره تمام التنقية.

يَجْمَع بواسطة ملائكته متّى ٢٥: ٣٢، ٣٣.

قَمْحَهُ دلالة على قيمته، وإشارة إلى المخلَّصين. وإضافة القمح إلى الضمير يشير إلى أنهم خاصته، وثمر تعبه. وأما التبن فلم يقُل إنه تبنُه لأنه بلا قيمة.

إِلَى ٱلْمَخْزَن وهذا يحتمل معنيين: (١) كنيسة المسيح على الأرض (١بطرس ١: ٥). و(٢) السماء.

وَأَمَّا ٱلتِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأ التبن هو الأشرار، وإحراقهم أي هلاكهم كلي، ونارهم لا يمكن إطفاؤها. وهذا مجاز يشير إلى حقيقة مخيفة، لأن نيران غضب الله التي تظهر في الدينونة الزمنية هنا لا تزال تحتدم إلى الأبد في جهنم الأبدية (متّى ٢٥: ٤١ و٢تسالونيكي ١: ٨، ٩). ويظهر مما ذُكر أن إرسال المسيح هو للرحمة وللدينونة. فالرحمة للذين يقبلونه، والدينونة للذين يرفضونه.

ومن وعظ يوحنا هنا نرى رداءة الخطية، وضرورية التوبة لخلاص. وتُعرَف التوبة الحقيقية من أثمارها. وعظَّم يوحنا شخص المسيح وعمله كمخلص، ونادى بالروح القدس، وباحتياجنا إلى المعمودية به، وأنذر الأشرار بنهايتهم الرهيبة، وبشَّر المؤمنين الحقيقيين بحسن العاقبة. ويوحنا مثال حسن لنا، لأنه واعظ أمين أنبأ سامعيه بالحق، وبيَّن لهم حقيقتهم، ولم يلتفت إلى شيء من غناهم أو شرفهم أو سطوتهم، وكشف الحجاب عن خطاياهم ونتائجها الهائلة. كما أن يوحنا مثال لنا في التواضع، فلم يفتخر بأن الجماهير أقبلت إليه، بل سُرَّ بأن يعظم شأن المسيح، وبأن يضع كل ما أحرزه من الإكرام عند قدميه.

١٣ «حِينَئِذٍ جَاءَ يَسُوعُ مِنَ ٱلْجَلِيلِ إِلَى ٱلأُرْدُنِّ إِلَى يُوحَنَّا لِيَعْتَمِدَ مِنْهُ».

متّى ٢: ٢٢

حِينَئِذٍ جَاءَ يَسُوعُ معمودية يسوع كانت أهم الحوادث التي جرت في خدمة يوحنا، وكانت استعداداً لبدء خدمة المسيح، الذي اعتمد وهو بلا خطية، وبلا حاجة إلى التوبة، ليُظهر خضوعه التام للشريعة، وليكرم يوحنا كنبي وسابق له، وليبين أنه مشترك مع شعبه في كل شيء: في معموديته كما في موته. وأشار بقوله «حينئذ» إلى الوقت الذي فيه كان يوحنا يكرز ويعمد أو (وهو الأرجح) إلى المدة التي مرَّت بين ظهور يوحنا وموته، وهي ثلاث سنين، مضى نصفها ويوحنا في السجن. وقوله «جاء» يشير إلى ظهوره جهاراً على غير انتظار وإلى أنه لم يعتمد خفية (لوقا ٣: ٢١).

مِنَ ٱلْجَلِيل من ناصرة الجليل حيث أقام منذ طفولته (مرقس ١: ٩ ومتّى ٢: ٢٩).

إِلَى ٱلأُرْدُنِّ إِلَى يُوحَنَّا ذكر هنا المكان والشخص اللذين أتى إليهما. فالمكان عند نهر الأردن، لأنه كان لا بدَّ لمثل أولئك الجموع الكثيرة من مياه غزيرة تكفيهم وتكفي مواشيهم. ولا مياه غزيرة في تلك الجهات إلا في الأنهار. ومخرج النهر المذكور من سفح جبل الشيخ، وهو يجري جنوباً ويمر أولاً في مياه ميروم (أي بحيرة الحولة) ثم في بحر الجليل. وبعد تعاريج كثيرة يصب في بحر لوط، حيث يصير طوله مئتي ميل.

لِيَعْتَمِدَ مِنْه الغرض من مجيئه أن يعتمد بمعمودية التوبة، وهو البار. فوضع ذاته تحت الشريعة كجزءٍ من اتِّضاعه، باعتباره فادينا. والذي «أُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ» (إشعياء ٥٣: ١٢) «وجَعَلَ خَطِيَّةً لأَجْلِنَا» (٢كورنثوس ٥: ٢١) «وكان في صورة عبد خاطئ» اقتضى أن يمارس الرسوم والتطهيرات المكلف بها الإنسان.

١٤ «وَلٰكِنْ يُوحَنَّا مَنَعَهُ قَائِلاً: أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ».

لٰكِنْ يُوحَنَّا مَنَعَهُ لم يذكر ذلك من البشيرين الأربعة سوى متّى. وكان منعه له قبل أن يقتنع بكلامه. فيوحنا لم يعتبر معموديته نافعة بذاتها، بل علامة لأمر روحي. وقد تحقق أن يسوع كان بلا خطية، فلا يحتاج إلى المعمودية التي هي علامة التوبة عن الخطية والتطهير منها.

أنا محتاج: عرف يوحنا نفسه أنه أقل من المسيح مقاماً، فرأى احتياجه إلى أن يعتمد منه، لأن المسيح أفضل (ع ١١) ولأن يوحنا رأى أنه خاطئ يحتاج إلى غفران من حمل الله الذي يرفع خطية العالم (يوحنا ١: ٢٩، ٣٦)، ويحتاج إلى المعمودية الروحية ممن شهد هو له أنه يعمد بالروح القدس ونار (ع ١١). فيوحنا الذي سمع الاعتراف من غيره اعترف هنا للمسيح.

وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيّ! قوله هذا يُظهر التعجب من مجيئه. فكأنه يقول: أيأتي الذهب إلى الطين ليكسب بهاء، أم الشمس إلى السراج لتقتبس نوراً، أم السيد إلى العبد لينال شرفاً، أم البار إلى الأثيم ليُعطَى براً؟ ويظهر أيضاً أنه عرف من نبأ يسوع السابق ما هو كافٍ لأن يقنعه أنه هو المسيح، وذلك لا يناقض قوله «وأنا لم أكن أعرفه» (يوحنا ١: ٣٣) لأنه إلى ذلك الحين لم يرَ العلامة الموعود بها من السماء التي تعلن رسمياً أنه المسيح.

١٥ «فَقَالَ يَسُوعُ لَهُ: ٱسْمَحِ ٱلآنَ، لأَنَّهُ هٰكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرٍّ. حِينَئِذٍ سَمَحَ لَهُ».

ٱسْمَحِ ٱلآن أي سلِّم بذلك. وبهذا لم يشر إلى أن يوحنا لا يحتاج أن يعتمد منه، ولا إلى أن تمنُّع يوحنا بلا سبب كافٍ. ولكن المسيح بيَّن له أنه يجب أن يسلِّم بطلبه ولو كان ذلك غريباً وفوق إدراكه. وقوله «الآن» يدل على أن السبب وقتي، بالنظر إلى مقتضى الحال، وهو اتِّضاع المسيح بدلاً من البشر.

هٰكَذَا يَلِيقُ بِنَا أي بيسوع ويوحنا، بناءً على العلاقة بينهما وعلاقتهما بالله. أي يليق بالمسيح نائباً عن الخطاة، وبيوحنا سابقاً للمسيح، ليتمِّما ما يطلبه الله.

نُكَمِّلَ كُلَّ بِرٍّ أي كل مطالب الشريعة التي رضي باختياره أن يكملها. وذلك أمر لو رفض القيام به لكان ذلك نقصاناً في ما يجب فعله. فأراد يسوع أن يكرم المعمودية بقبوله إياها. ويحتمل أن كلمة «بر» مأخوذة بمعناها المستعمل في رومية ٣: ٢١، ٢٣ حيث تشير إلى الترتيب الذي نظمه الله لتبرير الخاطئ بواسطة المسيح، وهو يتضمن معمودية المسيح كأحد لوازمه. وهذه المعمودية هي علامة رسمية لابتداء المسيح ممارسة وظيفته. فاستعداده الداخلي لممارسة وظيفته لم يُغن عن استعمال الطقوس الخارجية. فالمعمودية طقس موقَّر تثبت رسوليته، وأشار إلى تكريسه بها. وكما أطاع الشريعة هنا أطاعها في ختانه، والقيام بواجباته في الهيكل والمجمع، وفي إيفاء الجزية، وحفظ عيد الفصح وبقية الأعياد. فعلَّمنا بذلك كيف يجب أن نعم كخدمة أمناء لله. ولنا من ذلك أن الكمال الحقيقي يظهر في الطاعة الكاملة.

حِينَئِذٍ سَمَحَ لَهُ ليس فقط أنه عمده، بل أطاع أمره وامتثل لسلطانه وصدَّق ما قاله المسيح بوجوب إجراء العمل برضاه. فالتواضع والشعور بعدم الاستحقاق لا يمنع من إتمام الواجبات.

١٦ «فَلَمَّا ٱعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ ٱلْمَاءِ، وَإِذَا ٱلسَّمَاوَاتُ قَدِ ٱنْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ ٱللّٰهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِياً عَلَيْهِ».

مرقس ١: ١٠ إشعياء ١١: ٢ و٤٢: ١ ولوقا ٣: ٢٢ ويوحنا ١: ٣٢ و٣٣

فَلَمَّا ٱعْتَمَد حالما اعتمد يسوع أعلن الله بعلامة منظورة وبصوت مسموع أنه هو المسيح. وذكر لوقا علاوة على ما ذكره متّى أنه كان يصلي (لوقا ٣: ٢١).

صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ ٱلْمَاء إما من شاطئ النهر أو من النهر ذاته حيث اعتمد. فقوله «من الماء» لا يلزم منه أنه كان تحت الماء. لأن «من» هنا كمن في قوله صعد من الجليل (لوقا ٢: ٤). فلا يدل الكلام على كيفية المعمودية.

وَإِذَا إشارة إلى حادثة فجائية غريبة.

ٱلسَّمَاوَاتُ قَدِ ٱنْفَتَحَتْ أي لوح السماء المنظور، إشارةً إلى أن الطريق مفتوحة بين الأرض والسماء، وأن هناك سبيلاً لنزول البركات. ومثل هذا ما جاء في أعمال ٧: ٥٦ و١٠: ١١ ورؤيا ١٩: ١١.

لَه أي ليسوع، لأن هذه الرؤية كانت بسببه. وكانت أيضاً شهادة ليوحنا (يوحنا ١: ٣٢، ٣٣) وللشعب (لوقا ٣: ٢١). ولكن مضمونها الخاص كان إكرام يسوع والشهادة له أنه هو المسيح، وأن عمله مقبول.

فَرَأَى أي يسوع. ولكن هذا لا ينافي إن الآخرين رأوا، لأن هذه ليست رؤيا ظهرت ليسوع أو ليوحنا كما في غيبة، بل رؤية حسية ظاهرة لجميع المشاهدين.

رُوحَ ٱللّٰه وهذا أيضاً ليس تأثيراً روحياً إلهياً لا تشعر به الحواس، بل أقنوماً إلهياً هو الأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس. فقد مسح الروح يسوع حينئذ لأجل ممارسة وظائفه كنبي وكاهن وملك، كما تنبأ إشعياء (٦١: ١).

نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَة ظنَّ البعض أن الروح نزل كما تنزل الحمامة، إشارة إلى كيفية النزول بالهدوء مثل رفرفته على وجه المياه يوم تكوين العالم (تكوين ١: ٢). وقال آخرون إن الروح أخذ هيئة حمامة كما أخذ هيئة ألسنة النار في يوم الخمسين. وكان قصد الروح بعمله هذا بيان الاتصال الحقيقي بينه وبين المسيح. وقال البعض إن الروح اختار هذه الهيئة لأن الحمامة موصوفة بالطهارة والوداعة والسلام، فيليق أن تكون الحمامة إشارة إلى تأثيرات الروح القدس والروح الذي أظهره المسيح، وإشارة إلى أن النظام الذي وضعه يختلف عن النظام السابق الذي ابتدأ في رعود وبروق.

وكانت العلامة وقتية، لكن حلول الروح القدس عليه كان حلولاً أبدياً.

آتِياً عَلَيْه فالمقصود بهذه الرؤية هو المسيح. والأمر الجوهري في ذلك أن الروح القدس ظهر بهيئة جسدية (لوقا ٣: ٢٢) وإنه نزل من السماء واستقر على يسوع ليدل على أنه هو الشخص المخصص من بين هذا كل الحاضرين، معلناً أنه دخل معه في علاقة جديدة، باعتباره فادياً، مع أنهما واحد منذ الأزل. فحلول الروح القدس على «المولود من الروح» سرٌ عظيم. وهذا الروح كان علامة خارجية للروح الذي كان فيه سابقاً. وبما أنه كان قد أتى الوقت لبدء ممارسة وظيفته أُعطيت له علامة منظورة تدل على أنه ممسوح من الروح القدس.

١٧ «وَصَوْتٌ مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ قَائِلاً: هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ».

يوحنا ١٢: ٢٨ مزمور ٢: ٧ وإشعياء ٤٢: ١ ومتّى ١٢: ١٨ و١٧: ٥ ومرقس ١: ١١ ولوقا ٩: ٣٥ وأفسس ١: ٦ وكولوسي ١: ١٣ و٢بطرس ١: ١٧

صَوْتٌ مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ لم يكن هذا الصوت تخيُّلياً كما يُسمع أحياناً في الرؤيا، بل كان حقيقياً، شهادة من الآب. ويرَّجح أن كل الحاضرين سمعوها. ولم يُسمع هذا الصوت منذ إعطاء الشريعة على جبل سيناء حتى ذلك الوقت، أي وقت بداءة الإنجيل. وسُمع مثله وقت التجلي (متّى ١٧: ٥) وقبل موت المخلِّص بقليل (يوحنا ١٢: ٢٨، ٣٠).

قَائِلاً: هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ابني حبيبي ومختاري.. هو الذي نزل الروح عليه. وقيل في مرقس ولوقا «أنت ابني» فقال البعض إن في هذا تناقضاً يبيِّن خطأ البشيرين. ولكن تفاوت كيفية التعبير عن حادثة ما لا ينفي صدق الشهود، فقد يكون أن الواحد ذكر نبأ الحادثة بلفظها، وآخر ذكره بمعناه، كما يحدث كثيراً في تأدية الشهادات.

ٱبْنِي هذا هو اللقب المنسوب إلى المسيح في الوعد لداود ٢صموئيل ٧: ١٤ ومزمور ٢: ٧. وبناءً على ذلك يُسمى غالباً في الإنجيل «ابن الله». وأما العلاقة بين الآب والمسيح (البنوَّة) فهي أزلية وليست مبنية على ولادة يسوع غير الطبيعية. فلا يدخل تحت هذه التسمية شيءٌ مما يتعلق بالولادة في زمان من الأزمنة. وليس فيها أدنى تشبيه إلى ولادة طبيعية من والدين بشريين. ولكنها إشارة إلى المحبة بين الآب والابن، والقرابة الشديدة، والاتحاد في الجوهر، والمساواة في الرتبة والمقام.

ٱلْحَبِيبُ المحبوب منذ الأزل لأنه ابنٌ منذ الأزل. وهذا ما أشار إليه يوحنا بقوله «في حضن الآب» (يوحنا ١: ١٨)، وما ورد في أمثال ٨: ٣٠ «كُنْتُ عِنْدَهُ صَانِعًا، وَكُنْتُ كُلَّ يَوْمٍ لَذَّتَهُ، فَرِحَةً دَائِمًا قُدَّامَهُ». وإشعياء ٤٢: ١ ويوحنا ١٠: ١٧. ومع أنه كان دائماً محبوباً إلى الله، زادت محبته ظهوراً حينئذ، بأنه باشر عمل الفداء.

ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْت هذا يوافق ما قيل في إشعياء ٤٢: ١ «الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي» ويشير إلى تمام الرضى به. وهو ليس مجرد تكرار معنى قوله «الحبيب» الدال على الاتفاق الأزلي في الشعور، بل يشير أيضاً إلى مسرة الله بالمسيح عندما ابتدأ عمل الفداء باعتبار أنه ابن الإنسان والوسيط والمسيح (أفسس ١: ٤ ويوحنا ١٧: ٢٤).

ويُسر الآب بنا عندما نقترب إليه بواسطة ابنه يسوع المسيح وسيطنا. وهذه المناداة الإلهية يجب أن تكون عندنا ذات قيمة واعتبار، لأنها تؤكد أن عمل يسوع لأجل خلاصنا قد ثبَّته الآب، وأن ذبيحته لأجلنا قُبلت، وقد صدَّقت السماء على الغفران المنادى به في الفداء.

وقد أعلنت هذه الحادثة علناً العلاقة بين أقانيم الثالوث الثلاثة في جوهر إلهي. فأظهر الآب وجوده بصوت مسموع، وظهر الروح القدس نازلاً بهيئة منظورة على ابن الله المتجسد. ويتبرهن تعليم الثالوث أيضاً من الكلمات المعطاة لنا للاستعمال في رسم المعمودية (متّى ٢٨: ٢٠). ويحق لكل واحد من الأقانيم عبادة أبدية واحدة وإكرام واحد. فنرى من هذه الحادثة أن الأقانيم الثلاثة مشتركون في عمل الفداء متفقون عليه في قصدهم الأزلي ثم على إجرائه في زمان معيَّن.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى