إنجيل مرقس

إنجيل مرقس | 09 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل مرقس

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح التاسع من ع ٢

تجلي المسيح وإنباؤه بقيامته ع ٢ إلى ٨

٢ – ٨ «٢ وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ مُنْفَرِدِينَ وَحْدَهُمْ. وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، ٣ وَصَارَتْ ثِيَابُهُ تَلْمَعُ بَيْضَاءَ جِدّاً كَٱلثَّلْجِ، لاَ يَقْدِرُ قَصَّارٌ عَلَى ٱلأَرْضِ أَنْ يُبَيِّضَ مِثْلَ ذٰلِكَ. ٤ وَظَهَرَ لَهُمْ إِيلِيَّا مَعَ مُوسَى، وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ مَعَ يَسُوعَ. ٥ فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقولُ لِيَسُوعَ: يَا سَيِّدِي، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ هٰهُنَا. فَلْنَصْنَعْ ثَلاَثَ مَظَالَّ، لَكَ وَاحِدَةً وَلِمُوسَى وَاحِدَةً وَلِإِيلِيَّا وَاحِدَةً. ٦ لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ إِذْ كَانُوا مُرْتَعِبِينَ. ٧ وَكَانَتْ سَحَابَةٌ تُظَلِّلُهُمْ. فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ ٱلسَّحَابَةِ قَائِلاً: هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ. لَهُ ٱسْمَعُوا. ٨ فَنَظَرُوا حَوْلَهُمْ بَغْتَةً وَلَمْ يَرَوْا أَحَداً غَيْرَ يَسُوعَ وَحْدَهُ مَعَهُم».

متّى ١٧: ١ ولوقا ٩: ٢٨ و٢٩، دانيال ٧: ٩ ومتّى ٢٨: ٣

مرّ الكلام على التجلي والتفسير في شرح بشارة متّى (متّى ١٧: ١ – ٩).

وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أي بعد مرور ستة أيام من ملكوت المسيح أن ذلك الملكوت يأتي «بقوة» وهذا يوافق مخاطبة المسيح تلاميذه في الاستحياء به وفي مجيء ملكوته بقوة. وعبّر لوقا عن هذه المدة بقوله نحو ثمانية أيام. ولا مناقضة بينهما إذا حسبنا أن لوقا حسب اليوم الذي خاطبهم المسيح فيه اليوم الأول من تلك المدة ويوم تجليه الثامن وأن متّى ومرقس حسبا الستة الأيام التي بين ذينك اليومين. ولعلّ لوقا لم يقصد التدقيق في الوقت فذكره بوجه التقريب ويقوي ذلك قوله «بنحو ثمانية أيام» خلافاً لمتّى ومرقس فإنهما قالا «بعد ستة أيام» بلا لفظة نحو.

جَبَلٍ عَالٍ يصدق هذا الوصف على حرمون وهو جبل الشيخ لأن ارتفاعه نحو ١٠٠٠٠ قدم ولا يصدق على تابور لأن ارتفاعه لا يبلغ ألف قدم.

مُنْفَرِدِينَ غير ممكن للمسيح وتلاميذه أن ينفردوا على جبل تابور لأن قنة ذلك الجبل كانت مشغولة كلها بقلعة رومانية فيها كثيرون من العساكر الرومانيين.

صَارَتْ ثِيَابُهُ زاد مرقس هنا على ما قاله متّى في بياض ثوب المسيح عند التجلي أن «ثِيَابُهُ تَلْمَعُ بَيْضَاءَ جِدّاً كَٱلثَّلْجِ، لاَ يَقْدِرُ قَصَّارٌ عَلَى ٱلأَرْضِ أَنْ يُبَيِّضَ مِثْلَ ذٰلِكَ» فأظهر بياض ثوب المسيح بتشبيهه إياه بما هو أكثر بياضاً في المواد الطبيعية وفي ما هو كذلك في موضوعات الناس. وزاد أيضاً في العدد السادس أن بطرس لم يكن يعلم ما يتكلم به. وفي العدد الثامن البغتة حينما ظللتهم السحابة النيّرة ونظروا حولهم ولم يروا موسى ولا إيليا.

٩، ١٠ «٩ وَفِيمَا هُمْ نَازِلُونَ مِنَ ٱلْجَبَلِ، أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يُحَدِّثُوا أَحَداً بِمَا أَبْصَرُوا، إِلاَّ مَتَى قَامَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ. ١٠ فَحَفِظُوا ٱلْكَلِمَةَ لأَنْفُسِهِمْ يَتَسَاءَلُونَ: مَا هُوَ ٱلْقِيَامُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ؟»

متّى ١٧: ٩

انظر الشرح متّى ١٧: ٩.

فَحَفِظُوا ٱلْكَلِمَةَ لأَنْفُسِهِمْ أي أسرّوا أمر التجلي كما أمرهم المسيح.

مَا هُوَ ٱلْقِيَامُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ أي قيامة المسيح التي جعلها حداً لسكوتهم عن التجلي. وسبب أنهم لم يعلموا ما هي هو عدم تصديقهم أنه يموت لأنهم اعتقدوا القيامة العامة كسائر اليهود (يوحنا ١١: ٢٤ وأعمال ٢٣: ٨). فلولا عدم تصديقهم موته ما تساءلوا.

كلام على مجيء إيليا ع ١١ إلى ١٣

١١ – ١٣ «١١ فَسَأَلُوهُ: لِمَاذَا يَقُولُ ٱلْكَتَبَةُ إِنَّ إِيلِيَّا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلاً؟ ١٢ فَأَجَابَ: إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلاً وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ. وَكَيْفَ هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً وَيُرْذَلَ. ١٣ لٰكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ إِيلِيَّا أَيْضاً قَدْ أَتَى، وَعَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ».

ملاخي ٤: ٥ ومتّى ١٧: ١٠، مزمور ٢٢: ٦ وإشعياء ٥٣: ٢ الخ ودانيال ٩: ٢٦ ولوقا ٢٣: ١١ وفيلبي ٢: ٧، متّى ١١: ١٤ و١٧: ١٢ ولوقا ١: ١٧

انظر الشرح متّى ١٧: ١٠ – ١٣.

مَكْتُوبٌ عَنِ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ هذا ما جاء في أثناء الكلام على مجيء إيليا لا جواب للرسل في شأن ذلك فإن الرسل سألوا المسيح عن معنى النبوءات المتعلقة بمجيء إيليا فأجابهم على سؤالهم ثم أخذ يفسر لهم النبوءات المتعلقة بنفسه من أنه يتألم حتى الموت. ولعله خاطبهم بذلك ليتأملوا فيه ويتوصلوا إلى معرفة ما كانوا يتساءلون فيه وهو أنه كيف يمكنه الموت ثم القيام منه.

إبراء الولد المجنون ع ١٤ إلى ٢٩

١٤ «وَلَمَّا جَاءَ إِلَى ٱلتَّلاَمِيذِ رَأَى جَمْعاً كَثِيراً حَوْلَهُمْ وَكَتَبَةً يُحَاوِرُونَهُمْ».

متّى ١٧: ١٤ الخ ولوقا ٩: ٣٧ الخ

مرّ تفسير ذلك في شرح بشارة متّى (متّى ١٧: ١٤ – ٢١). وجاء نبأ هذه المعجزة أيضاً في بشارة لوقا (لوقا ٩: ٣٧ – ٤٢). وكل من البشيرين الثلاثة ذكر أنها حدثت على أثر التجلي. وأوضح مرقس أمرها أكثر من غيره لأنه أبان أوجاع الولد بالتفصيل. ولم يذكر أحد إلا هو المخاطبة بين يسوع وأبي الولد (ع ٢١: ٢٤).

وَلَمَّا جَاءَ أي يسوع مع التلاميذ الثلاثة من الجبل في غد التجلي (لوقا ٩: ٣٧).

إِلَى ٱلتَّلاَمِيذِ هم التسعة الذين بقوا عند الحضيض.

يُحَاوِرُونَهُمْ يسألونهم لكي يعربسوهم. والأرجح أن موضوع محاورتهم دعوى يسوع أنه المسيح. ولعلهم عيّروهم بعجزهم عن إبراء الولد واستنتجوا من ذلك بطلان دعوى معلمهم فزادهم تعييراً.

١٥ «وَلِلْوَقْتِ كُلُّ ٱلْجَمْعِ لَمَّا رَأَوْهُ تَحَيَّرُوا، وَرَكَضُوا وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ».

تَحَيَّرُوا لا يظهر من الكلام هنا سبب حيرتهم. ظن البعض أنه بقي على وجه المسيح آثار مجد التجلي كما بقي على وجه موسى حين نزل من طور سيناء (خروج ٣٤: ٢٩ و٣٠). ولعلّ سبب ذلك أنهم رأوه بغتة بعد توقعهم مجيئه مدة ولم يلتفتوا إلى قدومه إليهم لاشتغال أفكارهم بالجدال بين الكتبة وبعض التلاميذ.

وَرَكَضُوا فرحاً بقدومه وترحيباً به عملاً. ولا دليل على أن كل الجمع فعل ذلك ولكن لا بد من أن الذين أتوا ذلك كانوا كثيرين.

١٦ «فَسَأَلَ ٱلْكَتَبَةَ: بِمَاذَا تُحَاوِرُونَهُمْ؟».

غاية المسيح من هذا السؤال أن يرفع الجدال عن تلاميذه ويجاوب عنهم. وفي سؤاله تلميح إلى أن الكتبة يحاورون تلاميذه بما لا حق لهم فيه.

١٧ «فَأَجَابَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْجَمْعِ: يَا مُعَلِّمُ، قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكَ ٱبْنِي بِهِ رُوحٌ أَخْرَسُ».

متّى ١٧: ١٤ ولوقا ٩: ٣٨

لم يجبه الكتبة على سؤاله في العدد السابق إما لخجلهم وإما لأن أبا الولد لم يصبر ليكون لهم فرصة للجواب. والذي ظهر من قوله أن موضوع المحاورة قدرة المسيح على إخراج الروح النجس أو تهمة الفريسيين أنه إذا قدر على ذلك قدر بموازرة رئيس الشياطين.

قَدَّمْتُ إِلَيْكَ يبيّن من ذلك أنه قصد المسيح لما أتى بولده ولم يعرف أنه كان غائباً.

ٱبْنِي وهو ابن وحيد لأبيه (لوقا ٩: ٣٨).

بِهِ رُوحٌ أَخْرَسُ كان الخرس إحدى نتائج سكنى الشيطان فيه. وكان الولد يستطيع أن يصرخ ولكنه لم يستطع أن يتكلم (لوقا ٩: ٣٩).

١٨ «وَحَيْثُمَا أَدْرَكَهُ يُمَّزِقْهُ فَيُزْبِدُ وَيَصِرُّ بِأَسْنَانِهِ وَيَيْبَسُ. فَقُلْتُ لِتَلاَمِيذِكَ أَنْ يُخْرِجُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا».

وَحَيْثُمَا أَدْرَكَهُ يدلنا ذلك أن الولد كان عرضة لنوبات شديدة كنوبات الصرع المعروف عند العامة بداء النقطة.

يُمَّزِقْهُ هذا دليل على تشنجات الولد المؤلمة التي كادت تخلع مفاصله لشدتها.

فَيُزْبِدُ وَيَصِرُّ بِأَسْنَانِهِ وَيَيْبَسُ كان ما ذكره الوالد قبل هذا من فعل الشيطان وما ذكره هنا من فعل ولده فلم يميّز بين الفعلين. وهذا يدل على كمال تسلط إبليس على الولد. ودل قوله ييبس أن نتيجة كل العوارض إفناء قوته والإغماء عليه.

فَقُلْتُ لِتَلاَمِيذِكَ لما لم أجدك.

فَلَمْ يَقْدِرُوا أن يشفوه بعد أن امتحنوا ذلك (متّى ١٧: ١٦).

١٩ «فَقَالَ لَهُمْ: أَيُّهَا ٱلْجِيلُ غَيْرُ ٱلْمُؤْمِنِ، إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ؟ إِلَى مَتَى أَحْتَمِلُكُمْ؟ قَدِّمُوهُ إِلَيَّ!».

متّى ١٧: ١٧

٢٠ «فَقَدَّمُوهُ إِلَيْهِ. فَلَمَّا رَآهُ لِلْوَقْتِ صَرَعَهُ ٱلرُّوحُ، فَوَقَعَ عَلَى ٱلأَرْضِ يَتَمَرَّغُ وَيُزْبِدُ».

ص ١: ٢٦ ولوقا ٩: ٤٢

كان أول نتيجة من اقتراب الروح النجس من المسيح أنه زاد إيلام الولد وأزعجه كثيراً لأنه شعر بأنه لم يبق له سوى وقت قصير لتعذيبه.

٢١، ٢٢ «٢١ فَسَأَلَ أَبَاهُ: كَمْ مِنَ ٱلّزَمَانِ مُنْذُ أَصَابَهُ هٰذَا؟ فَقَالَ: مُنْذُ صِبَاهُ. ٢٢ وَكَثِيراً مَا أَلْقَاهُ فِي ٱلنَّارِ وَفِي ٱلْمَاءِ لِيُهْلِكَهُ. لٰكِنْ إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ شَيْئاً فَتَحَنَّنْ عَلَيْنَا وَأَعِنَّا».

غاية المسيح في مخاطبته الوالد أن يسكّن اضطراب قلبه ولكي يجدد إيمانه بقوته. وغاية جواب الوالد تحريك حنو المسيح عليه بذكره طول المدة التي تسلط على ولده الشيطان فيها والمخاطر التي كان عرضة لها من تلك النازلة.

لٰكِنْ إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ شَيْئاً هذا دليل على أن إيمانه لم يتلاش لكنه كان ضعيفاً جداً لجهله قدرة المسيح ولما ظهر من عجز التلاميذ التسعة.

أَعِنَّا جعل مصيبة ولده مصيبة له كما كان من المرأة الفينيقية (متّى ١٥: ٢٥).

٢٣ «فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُؤْمِنَ، فَكُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ».

متّى ١٧: ٢٠ وص ١١: ٢٣ ولوقا ١٧: ٦ ويوحنا ١١: ٤٠

إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُؤْمِنَ علّق الوالد الشفاء بقدرة المسيح فلم يسلّم المسيح أن في قوته ريباً ولكنه علّق إظهار قوته على الشفاء بإيمان الوالد. فكان الإيمان شرطاً ضرورياً للشفاء. ولم يخلُ قول المسيح من التوبيخ لذلك الوالد على ما أظهره من الشك في قوته. ثم ألقى المسؤولية عليه في شفاء ولده لأن القوة على الشفاء موفورة ولم يبق مما يحتاج إليه سوى إيمانه فبقيت المسؤولية عليه. وقوّى إيمانه بقوله «فَكُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ» لأنه بالإيمان يتمسك الإنسان بقدرة القادر على كل شيء. ومن عادة المسيح أن يسأل الإيمان من المصاب شرطاً لشفائه وقبل هنا إيمان الوالد بدلاً من ولده لتعذّر ذلك على الولد. والإيمان الذي سأله المسيح ذلك الوالد يسأله الآن من كل خاطئ يأتيه رغبة في الخلاص ولا ينال أحد الخلاص بدون إيمان.

٢٤ «فَلِلْوَقْتِ صَرَخَ أَبُو ٱلْوَلَدِ بِدُمُوعٍ وَقَالَ: أُومِنُ يَا سَيِّدُ، فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي».

صَرَخَ أتى ذلك ليؤكد للمسيح ما له من الإيمان به ولم يمنعه من ذلك وجود الكتبة المجادلين الهازئين.

بِدُمُوعٍ وهذه الدموع علامة توبته وتواضعه وإلحاحه.

أُومِنُ كما سألتني لكني أشعر بضعف إيماني وأنك قادر أن تمنحني ما أحتاج إليه.

فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي حسب إيمانه كالعدم لفرط ضعفه وطلب تقويته وإكماله ليفي بما يقتضيه شفاء ابنه. كذلك لا يستطيع الخاطئ بلا معونة المسيح أن يؤمن الإيمان الكافي لنوال الخلاص.

٢٥ «فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ ٱلْجَمْعَ يَتَرَاكَضُونَ، ٱنْتَهَرَ ٱلرُّوحَ ٱلنَّجِسَ قَائِلاً لَهُ: أَيُّهَا ٱلرُّوحُ ٱلأَخْرَسُ ٱلأَصَمُّ، أَنَا آمُرُكَ: ٱخْرُجْ مِنْهُ وَلاَ تَدْخُلْهُ أَيْضاً!».

لما حصل الإيمان وهو شرط الشفاء لم يتوقف المسيح عن الإبراء.

ٱلْجَمْعَ يَتَرَاكَضُونَ ذكر قبلاً أن الجمع ركضوا عليه ع ١٥ فيكون المعنى هنا أنهم ازدحموا عليه أكثر مما سبق بسرعة أو أن الذين تراكضوا غيرهم ممن أتوا حديثاً.

ٱلرُّوحَ ٱلنَّجِسَ نجاسة هذا الروح أدبية.

ٱلرُّوحُ ٱلأَخْرَسُ ٱلأَصَمُّ نسب المسيح مصاب الولد بالخرس والصم إلى الروح النجس لأنه علتهما.

أَنَا آمُرُكَ باعتبار أني رئيس ملكوت النور الذي لا تقدر أن تعصيه ولا يتجاسر على معصيته.

وَلاَ تَدْخُلْهُ أَيْضاً نهاه عن دخوله أيضاً لئلا يحاول ذلك كما حدث أحياناً (متّى ١٢: ٤٥).

٢٦ «فَصَرَخَ وَصَرَعَهُ شَدِيداً وَخَرَجَ، فَصَارَ كَمَيْتٍ، حَتَّى قَالَ كَثِيرُونَ: إِنَّهُ مَاتَ».

فَصَرَخَ هذا الصراخ فعل الروح النجس بفم الولد الذي استولى عليه وكان علامة لشدة غيظه عند خروجه.

وَصَرَعَهُ شَدِيداً أظهر خبثه وأنه فعل كل ما استطاعه من الأضرار قبل خروجه. كذلك أنه كلما تقدم ملكوت المسيح هاج الشيطان لمقاومته.

صَارَ كَمَيْتٍ أي وصل لشدة صرع الشيطان إياه إلى حال التلف.

٢٧ – ٢٩ «٢٧ فَأَمْسَكَهُ يَسُوعُ بِيَدِهِ وَأَقَامَهُ، فَقَامَ. ٢٨ وَلَمَّا دَخَلَ بَيْتاً سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ عَلَى ٱنْفِرَادٍ: لِمَاذَا لَمْ نَقْدِرْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَهُ؟ ٢٩ فَقَالَ لَهُمْ: هٰذَا ٱلْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِٱلصَّلاَةِ وَٱلصَّوْمِ».

متّى ١٧: ١٩

لم يذكر قول بعضهم أن الولد مات وأن يسوع مسكه وأقامه سوى مرقس. والكلام على سؤال التلاميذ التسعة ليسوع عن عجزهم عن إخراج الشيطان من الولد مرّ في الشرح (متّى ١٧: ١٩ – ٢١).

إنباء يسوع بموته وقيامته ع ٣٠ إلى ٣٢

٣٠ – ٣٢ «٣٠ وَخَرَجُوا مِنْ هُنَاكَ وَٱجْتَازُوا ٱلْجَلِيلَ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ، ٣١ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ تَلاَمِيذَهُ وَيَقُولُ لَهُمْ إِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي ٱلنَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ، وَبَعْدَ أَنْ يُقْتَلَ يَقُومُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ. ٣٢ وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا ٱلْقَوْلَ، وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ».

متّى ١٧: ٢٢ ولوقا ٩: ٤٤

هذا إنباء يسوع الثاني بآلامه وموته وقيامته بإيضاح وقد مرّ الكلام عليه في الشرح (متّى ١٧: ٢٢ و٢٣).

وَخَرَجُوا مِنْ هُنَاكَ أي من جوار قيصرية وهي بانياس عند حضيض جبل الشيخ.

وَٱجْتَازُوا ٱلْجَلِيلَ كان ذلك آخر زياراته لها.

وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ فإذاً كان ذلك المرور سراً بقدر استطاعته لأن أعداءه كانوا يراقبونه هنالك في كل مكان ولأنه شاء اعتزال ازدحام الجموع وكل تهيجات الشعب ولأنه رغب في أن تكون له فرصة مناسبة لتعليم تلاميذه كما يستنتج من ع ٣١.

كَانَ يُعَلِّمُ تَلاَمِيذَهُ الخ هذا يدلنا على أن المسيح لم يكتف بأن يقتصر على إنبائهم بموته وقيامته بوجه الاختصار بل جعل ذلك موضوع خطاب طويل.

فَلَمْ يَفْهَمُوا ٱلْقَوْلَ أي كلامه على موته وقيامته وفي هذا زيادة على ما قاله متّى. وسبب عدم فهمهم مراد المسيح ليس إبهام كلامه بل أن آراءهم القديمة في شأن المسيح ملك اليهود المنتظر مجيئه منعتهم عن أخذ كلامه على ظاهر معناه. والأرجح أنهم ظنوه مجازاً لا حقيقة.

وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ من أسباب ذلك احترامهم وتوقيرهم إياه ومنها اعتزالهم أن يسألوه عن موته لأن سؤال الإنسان عن موته مما تأباه الطبيعة البشرية ولو في الأحوال التي تقتضيه. ومنها خوفهم أن يكون المعنى الحقيقي هو المقصود وهم فضلوا أن ينسبوا إليه معنى مجازياً.

محاورة التلاميذ في أيّهم أعظم وتعليمه إياهم العظمة الحقيقية ع ٣٣ إلى ٣٧

٣٣ «وَجَاءَ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ. وَإِذْ كَانَ فِي ٱلْبَيْتِ سَأَلَهُمْ: بِمَاذَا كُنْتُمْ تَتَكَالَمُونَ فِي مَا بَيْنَكُمْ فِي ٱلطَّرِيقِ؟».

متّى ١٧: ٢٤

إِلَى كَفْرِنَاحُومَ هي المدينة التي كانت مسكنه ومتوزع تبشيره في الجليل.

فِي ٱلْبَيْتِ الأرجح أنه بيت بطرس.

سَأَلَهُمْ لا لأنه جهل الأمر بل ليجعل جوابهم مقدمة لما أراد بيانه لهم.

فِي مَا بَيْنَكُمْ أي في انفرادكم عني وأنتم تظنون أني لم أعلم وأبان بذلك أنه إله يعلم الأسرار.

٣٤ «فَسَكَتُوا، لأَنَّهُمْ تَحَاجُّوا فِي ٱلطَّرِيقِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي مَنْ هُوَ أَعْظَمُ».

متّى ١٨: ٢ ولوقا ٩: ٤٦ و٢٢: ٢٤

فَسَكَتُوا لخجلهم من معلمهم ولتبكيت ضمائرهم ولحيرتهم من علمه ما اجتهدوا في إخفائه عنه.

مَنْ هُوَ أَعْظَمُ يظهر لنا من هذا أن التلاميذ بعد أن أخبرهم يسوع بموته لم يزالوا يتوقعون أن يكون ملكاً أرضياً وأن يقسم لتلاميذه المراتب المختلفة (انظر الشرح متّى ١٨: ١ – ١٥). وذكر متّى أنهم سألوا المسيح من هو الأعظم الخ فيكون ما ذكره من سؤالهم إياه على أثر ما ذكره مرقس وقبل أن أقام المسيح الولد في وسطهم ويحتمل أنه لم يشترك كل التلاميذ في تلك المحاورة وأن المذنبين منهم سكتوا خجلاً عندما سألهم يسوع كما قال مرقس وأن الآخرين سألوه السؤال الذي ذكره متّى وهو موضوع المحاورة.

٣٥ «فَجَلَسَ وَنَادَى ٱلاثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَ لَهُمْ: إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ أَوَّلاً فَيَكُونُ آخِرَ ٱلْكُلِّ وَخَادِماً لِلْكُلِّ».

متّى ٢٠: ٢٦ و٢٧ وص ١٠: ٤٣

أَوَّلاً أي أعظم الرسل في المقام والشرف والسلطان.

آخِرَ ٱلْكُلِّ وَخَادِماً لِلْكُلِّ هذا إما إنذار وإما نصح. فهو إنذار لمن قصده الكبرياء ومحبة الذات لأن قصاصه أن يخيب أمله فيكون مهاناً وأقل اعتباراً من الكل وذلك عكس مراده. وهذا كثيراً ما يحدث مثله في الأرض ولا بد من أن ينتج منه ما ذكر في نهاية العالم. وهو نصح لمن قصده الصلاح ورغب في أن يكون أولاً في القداسة وفي نفع الغير. ولمثل هذا أبان المسيح أن واسطة بلوغه ذلك أن يختار أن يكون آخر الكل في المقام إذا اقتضت الحال ذلك.

والعظمة عند أهل العالم تقوم بالتسلط على الغير واستخدامهم ونوال الاعتبار والهدايا منهم. وهي عند المسيح إظهار التواضع والمحبة وخدمة الغير وإعطاؤهم ما يحتاجون إليه.

٣٦، ٣٧ «٣٦ فَأَخَذَ وَلَداً وَأَقَامَهُ فِي وَسَطِهِمْ ثُمَّ ٱحْتَضَنَهُ وَقَالَ لَهُمْ: ٣٧ مَنْ قَبِلَ وَاحِداً مِنْ أَوْلاَدٍ مِثْلَ هٰذَا بِٱسْمِي يَقْبَلُنِي، وَمَنْ قَبِلَنِي فَلَيْسَ يَقْبَلُنِي أَنَا بَلِ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي».

متّى ١٨: ٢ وص ١٠: ١٦، متّى ١٠: ٤٠ ولوقا ٩: ٤٨

(انظر الشرح متّى ١٠: ٤٠ و١٨: ٢ – ٦ و٢٥: ٣٥ و٣٦). زاد مرقس هنا على ما قال متّى أن يسوع احتضن الولد.

بِٱسْمِي قيّد المسيح ثواب الخدمة بأن تكون باسمه أي حباً وإكراماً له. فإذا من خدم الطائفة أو الكنيسة أو أصفياء أصحابه حباً لهم وحدهم لا يحق له أن يتوقع الثواب الذي وعد به المسيح هنا.

عدم معارضة من خدَم المسيح وليس هو من أتباعه في الظاهر ع ٣٨ إلى ٤١

٣٨ «وَقَالَ يُوحَنَّا: يَا مُعَلِّمُ، رَأَيْنَا وَاحِداً يُخْرِجُ شَيَاطِينَ بِٱسْمِكَ وَهُوَ لَيْسَ يَتْبَعُنَا، فَمَنَعْنَاهُ لأَنَّهُ لَيْسَ يَتْبَعُنَا».

عدد ١١: ٦٨ ولوقا ٩: ٤٩ وفيلبي ١: ١٨

وَقَالَ يُوحَنَّا يصعب على القارئ معرفة العلاقة بين هذا الكلام وما قبله في شأن الولد الصغير ولعلّ يوحنا شعر أنه لم يظهر صفات ذلك الولد في ما يأتي. أو لعلّ قول المسيح «باسمي» (ع ٣٧) ذكّره الإنسان الذي رآه يخرج الشياطين باسم يسوع.

رَأَيْنَا لعله رأى ذلك مع غيره من التلاميذ وهو يجول للتبشير.

يُخْرِجُ شَيَاطِينَ الذي فعل ذلك ليس من الاثني عشر رسولاً ولا من السبعين الذين أرسلهم يسوع مبشرين ولكن لا بد من أنه كان مؤمناً بالمسيح حتى استطاع أن يعمل المعجزات وأنه فعل الخير في إنقاذ الإنسان من الخطيئة والعذاب.

بِٱسْمِكَ أي أنه يتلفظ باسمك عند إخراج الأرواح النجسة. وهذا يدلّ على أنه كان مؤمناً وإلا كان استعماله اسم يسوع عبثاً كما كان من أمر أولاد سكاوا السبعة (أعمال ١٩: ١٣ و١٤).

مَنَعْنَاهُ لأَنَّهُ لَيْسَ يَتْبَعُنَا لم يقل يوحنا ليس يتبعك. فدل ذلك على تعصبه الطائفي إذ لا علة لشكه في صدق ذلك الإنسان سوى أنه ليس من الجماعة التي هو منها. ولم يلتفت يوحنا إلى الخبر الذي يفعله الإنسان لأن المدح والاعتبار لم يرجعا بعمله إلى تلك الجماعة وهذا يذكرنا قول يشوع في خبر ألداد وميداد الذين كانا يتنبّئان في المحلة لا عند الخيمة (عدد ١١: ٢٧ – ٢٩). والظاهر أن يوحنا ومن معه من التلاميذ رأوا من الواجب أن يتبعهم ذلك الإنسان بشخصه أو أن يمتنع عن إخراج الشياطين.

٣٩ «فَقَالَ يَسُوعُ: لاَ تَمْنَعُوهُ، لأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَصْنَعُ قُّوَةً بِٱسْمِي وَيَسْتَطِيعُ سَرِيعاً أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ شَرّاً».

١كورنثوس ١٢: ٣

لاَ تَمْنَعُوهُ أي لا تتعرضوا بعد هذا لمنعه أو منع مثله. نعم إنّ يوحنا أظهر في ذلك غيرة للرب لكنه أخطأ الطريق كما أخطأ أيضاً حين أراد أن تسقط نار من السماء على القرية السامرية (لوقا ٩: ٥٢). ولم يرد المسيح أن تلاميذه يمنعون أحداً عن مثل أعماله في نفع الناس وإنقاذهم من سلطان الشيطان. ومثل ذلك كان جواب موسى ليشوع عندما سأله أن يردع المتنبئين في محلة إسرائيل (عدد ١١: ٢٩). ومثل قول المسيح قول بولس في فرحه بالمناداة باسم المسيح (فيلبي ١: ١٦ – ١٨).

يَقُولَ عَلَيَّ شَرّاً أي يتكلم كعدو لي ويظهر بغضه إياي لأن عمله المعجزات برهان إيمانه بي وذلك يمنعه من أن يقول عليّ شراً. وحاشا لله أن يمكّن أحداً من أعداء المسيح أو أحداً من السحرة أن يتخذ اسم المسيح واسطة للخداع. وصنع ذلك الرجل المعجزة كان برهاناً أقوى من اتباعه إياهم على صداقته للمسيح ومسرّة الله به.

٤٠ «لأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا».

متّى ١٢: ٣٠

هذه حقيقة عامة مبنية على العدد السابق وليس من خلاف بينها وبين قول المسيح في مكان آخر «مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ» (متّى ١٢: ٣٠). لأن نتيجة القولين واحدة وهي أن الحيادة في شأن المسيح مستحيلة فكل إنسان إما معه وإما عليه أي إما صاحبه وإما عدوه. وعلامة الصداقة أحياناً تكون عدم المقاومة كما جاء هنا. وأحياناً يكون عدم الاشتراك في العمل علامة العداوة كما ذكر في قول متّى. وكان الإنسان الذي أخرج الشياطين مشاركاً للمسيح في القصد والعمل مؤمناً به وكان ينقض أعمال الشيطان. وكان في كل ذلك مع المسيح فعلاً لا ظاهراً. وأما الذي أشار إليه المسيح بقوله في بشارة متّى «مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ» فهو من لم يشارك المسيح البتة لا باطناً ولا فعلاً ولا إقراراً وضادّ المسيح في الباطن واشترك مع الشيطان وعلى ذلك صدق قول المسيح «فَهُوَ عَلَيَّ».

مَعَنَا جمع المسيح تلاميذه معه كأنه هو وإياهم واحد. ونستفيد من هذه الآية أنه إذا رأينا أناساً اختلفوا عنا في سياسة الكنيسة ورسوم العبادة وهم يؤمنون بالمسيح وينادون به وجب علينا أن نعتبرهم مسيحيين حقيقيين وشركاء معنا في خدمة المسيح وأصدقاء وإخوة وأن لا نمنعهم من العمل بل نسرّ به.

٤١ «لأَنَّ مَنْ سَقَاكُمْ كَأْسَ مَاءٍ بِٱسْمِي لأَنَّكُمْ لِلْمَسِيحِ فَٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ».

متّى ١٠: ٤٢

(راجع الشرح متّى ١٠: ٤٢).

كَأْسَ مَاءٍ بِٱسْمِي هذا كناية عن أزهد خدمة فكل خدمة باسم المسيح مهما كانت زهيدة فلا بد من أجرة لها. صعب على يوحنا أن يرى فضيلة في عمل الذي أخرج الشياطين باسم المسيح (وهو من أعظم الأعمال) تستحق الثواب لأنه لم يفعل ذلك في الطريق التي استحسنها هو ولكن يسوع سهل عليه أن يرى في أزهد الأعمال باسمه فضيلة تستحق الثواب.

وفي قول المسيح هنا تعزية عظيمة لنا لأنه يندر أن يكون لنا فرص للأعمال العظيمة إكراماً للمسيح لكنا نستطيع في كل ساعة أن نعمل أعمالاً زهيدة كما في مثال المسيح المذكور. ويجب أن نعلم هنا أن الوعد بالثواب لمن يعمل باسم المسيح حباً له لا لمن يعمل الخير لمجرد الشفقة على المصاب.

لِلْمَسِيحِ هذا وصف التلاميذ لم يُذكر في غير هذا الموضع من البشائر لكنه ذُكر في الرسائل (رومية ٨: ٩ و١كورنثوس ١: ١٢).

كلام في المعاثر ع ٤٢ إلى ٥٠

٤٢ «وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ ٱلصِّغَارِ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِي فَخَيْرٌ لَهُ لَوْ طُّوِقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحًى وَطُرِحَ فِي ٱلْبَحْرِ».

متّى ١٨: ٦ ولوقا ١٧: ١

(طالع الشرح متّى ١٨: ٦). معنى هذه الآية أنه إذا اضطر الإنسان إلى الاختيار أن يعثر أحد تلاميذ المسيح ويحمل العقاب الذي يستوجبه أو أن يُطرح في البحر (وهو لا يأمل نجاة) فخير له أن يختار أن يُطرح في البحر لأنه أصغر الشرين.

٤٣ «وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ فَٱقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ ٱلْحَيَاةَ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ يَدَانِ وَتَمْضِيَ إِلَى جَهَنَّمَ، إِلَى ٱلنَّارِ ٱلَّتِي لاَ تُطْفَأُ».

تثنية ١٣: ٦ ومتّى ٥: ٢٩ و١٨: ٨

هذا وما في ع ٤٥ و٤٧ تكرار ما قاله المسيح في وعظه على الجبل (متّى ٥: ٢٩ و٣٠). وما قاله أيضاً في (متّى ١٨: ٨ و٩) ومرّ الشرح عليه في محلهما. والذي عبّر عنه في بشارة متّى بجهنم عبّر عنه هنا بالنار التي لا تطفأ بياناً أن عقاب الاشرار أبدي.

٤٤ – ٤٨ «٤٤ حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَٱلنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. ٤٥ وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ رِجْلُكَ فَٱقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ ٱلْحَيَاةَ أَعْرَجَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ رِجْلاَنِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ فِي ٱلنَّارِ ٱلَّتِي لاَ تُطْفَأُ، ٤٦ حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَٱلنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. ٤٧ وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَٱقْلَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ عَيْنَانِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ ٱلنَّارِ، ٤٨ حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَٱلنَّارُ لاَ تُطْفَأُ».

إشعياء ٦٦: ٢٤

ثلاث من هذه الآيات (وهي الرابعة والأربعون والسادسة والأربعون والثامنة والأربعون) لم ترد في غير بشارة مرقس. وما فيها من التكرار توكيد وإثبات لعظمة الأهمية. والمكرر في الثلاث الباقية مقتبس من نبؤة إشعياء (إشعياء ٦٦: ٢٤). وهو مجاز مبني على ما اعتمده اليهود في زمان إشعياء من إلقاء نفايات الذبائح وجثث البهائم في وادي هنوم حيث يفني بعهضا ويفني الآخر النار (يشوع ١٨: ١٦ و٢ملوك ٢٣: ١٠ وإشعياء ٣٠: ٣٣). وتنبأ إشعياء بكثرة أعداء الرب الذين يقتلون في الحرب وطرح جثثهم في ذلك الوادي إشارة إلى الهلاك الهائل الذي سوف يصيبهم. فأخذ يسوع كلام تلك النبوءة رمزاً إلى شقاء الأشرار الهائل وعذابهم الأبدي في جهنم. وهذا العذاب يشتمل على توبيخات الضمير والانفعالات الشديدة من الحسد والبغض والخجل والغضب واليأس. فتذكار ما ترك من فُرص الرحمة وما ارتكب من الخطايا التي تفعل في النفس هو فعل الدود في الجسد. ويتضمن أيضاً غضب الله على الخطاة ويكون ذلك الغضب كنار آكلة. إنّ الدود العادي يحيا قليلاً ويموت والنار العادية تتوقد قليلاً وتنطفئ لكن دود جهنم أي توبيخ الضمير في الآخرة لا يموت ونار الغضب فيها لا تطفأ.

وتكلم الله بهذه الكلمات الرهيبة حباً لنا ليحذّرنا فنهرب من الغضب الآتي ونتمسك بالرجاء الموضوع أمامنا بيسوع المسيح ربنا.

٤٩ «لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُمَلَّحُ بِنَارٍ، وَكُلَّ ذَبِيحَةٍ تُمَلَّحُ بِمِلْحٍ».

لاويين ٢: ١٣ وحزقيال ٤٣: ٢٤

لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُمَلَّحُ بِنَارٍ هذه الآية عسرة الفهم إلا إذا أردنا تفسيرها بقطع النظر عن القرينة. ولا نستطيع ذلك لتعلقها بما قبلها بقوله «لأن». ولم يعرف حق المعرفة بماذا يتعلق حرف الجر وهو لام التعليل فهل تلك العبارة تعليل للنار التي لا تُطفأ وبيان لها أو تعليل لما قيل من قطع اليد أو الرجل وقلع العين. فهي تختلف المعنى باختلاف متعلقها. وللمفسرين فيها ثلاثة آراء:

  • الأول: إن المسيح قصد بها بيان أبدية عقاب كل واحد من الهالكين تفسيراً لقوله «دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَٱلنَّارُ لاَ تُطْفَأُ» وكرر ذلك النار (وهي نار جهنم) ست مرات. والمعهود من تأثير النار أنها تُفني وتلاشي كل ما تقع فيه. وهذا يوهم أن نار جهنم تلاشي الهالكين. فزاد ذلك القول دفعاً لهذا الوهم إذ بيّن فيها أن لنار جهنم فوق صفات النار المعهودة صفة الملح وهي الحفظ من الفساد فهي تحفظ من التلاشي مع إحراقها. وخلاصة ذلك أن التملح بالنار هو البقاء في نار جهنم بلا تلاشٍ إلى الأبد.
  • والثاني: إن المراد بتلك العبارة بيان حال الصالحين دون غيرهم. وهو أن الله عيّن لهم أن يمتحنوا بشدائد ومصائب تنقيهم كما تنقي النار الفضة والذهب من الخبث. وعيّن لهم أيضاً أن يُنقوا بعمل الروح القدس كما تنقي النار كما ذُكر في (متّى ٣: ١١). فعلى ذلك تكون النار إشارة إلى التنقية ويكون قول المسيح هنا تعليلاً لقوله قبلاً «إِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ فَٱقْطَعْهَا… وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ رِجْلُكَ فَٱقْطَعْهَا… وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَٱقْلَعْهَا» فإن هذه الأمور مؤلمة إيلام النار ومنقية تنقيتها.
  • والثالث: إن المسيح قصد بذلك كلا الأبرار والأشرار. فإنه ذكر قبلاً نوعين من الناس الأول الذين ينكرون أنفسهم بامتناعهم عن كل معثر كمن يقطعون إياديهم ويقلعون عيونهم ويخلصون. والثاني ليسوا كذلك فيُطرحون في جهنم. وصرح بأن إنكار النفس خير للإنسان لأن كل واحد لا بد أن يملح بإحدى نارين أي أنه إما أن يملح اختياراً بنار التنقية (١بطرس ١: ٧ و٤: ١٢) وإما أن يملح إجباراً بنار الهلاك. فخير للإنسان أن يختار إنكار الذات وترك الخطيئة وإن عرّض نفسه للاضطهادات وبذلك يُطهّر ويكون أهلاً للسماء من أن يختار الإثم واللذات الجسدية ويملّح بنار نقمة الله إلى الأبد. وخلاصة ذلك أنه أفضل للإنسان أن يختار النار الوقتية من الشدائد وإنكار الذات على النار الأبدية أي نقمة الله وأن يُملح بنار القداسة للخلاص من أن يُملح بنار العذاب الدائم في الإثم الأبدي. وهذه الآراء الثلاثة قابلة الاعتراض على كل منها ولعلّ الأخير أوضح معنىً وأبعد عن الاعتراض.

وَكُلَّ ذَبِيحَةٍ تُمَلَّحُ بِمِلْحٍ هذه شريعة عامة للذبائح الموسوية بدليل قوله «وَكُلُّ قُرْبَانٍ مِنْ تَقَادِمِكَ بِٱلْمِلْحِ تُمَلِّحُهُ، وَلاَ تُخْلِ تَقْدِمَتَكَ مِنْ مِلْحِ عَهْدِ إِلٰهِكَ. عَلَى جَمِيعِ قَرَابِينِكَ تُقَرِّبُ مِلْحاً» (لاويين ٢: ١٣). والملح رمز إلى النقاوة والوقاية من الفساد ولعلّ العلاقة بين هذه العبارة والتي قبلها عموم الشريعة فيهما أي أنه كما أن الله عيّن تمليح الذبائح في العهد القديم شريعة عامة ضرورية كذلك عيّن في العهد الجديد أن كل إنسان باراً كان أو شريراً يُمتحن بنار إلهية وهي إما نار التنقية وإما نار النقمة. أو لعلها الاختصاص بالمسيحيين فيكون المعنى أنه كما وجب أن تُملح كل ذبيحة تقرب في الهيكل اليهودي هكذا وجب أن يملح كل مسيحي بملح النعمة الإلهية باعتبار كونه «ذبيحة حية» (رومية ١٢: ١) بناء على أن الملح إشارة إلى عهد رحمة الله وإلى الطهارة وعدم الفساد فإنه به يُحفظ المسيحيون من تسلط الموت الأبدي ويخلصون إلى الأبد. ففي القول هنا زيادة على ما في القول السابق فإن في ذاك أن المسيحي يُملح بنار الامتحان والشدائد وهنا أنه يُملح فوق ذلك بملح نعمة الروح القدس. ولا بد أن يكون هنا التعليم حقاً ولكن لم نتيقن أن المسيح قصده هنا. والأرجح أن التفسير الأول هو بيان قصد المسيح.

٥٠ «اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلٰكِنْ إِذَا صَارَ ٱلْمِلْحُ بِلاَ مُلُوحَةٍ، فَبِمَاذَا تُصْلِحُونَهُ؟ لِيَكُنْ لَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِلْحٌ، وَسَالِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً».

متّى ٥: ١٣ ولوقا ١٤: ٣٤، أفسس ٤: ٢٩ وكولوسي ٤: ٦، رومية ١٢: ١٨ و١٤: ١٩ و٢كورنثوس ١٣: ١١ وعبرانيين ١٢: ١٤

اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ انظر الشرح (متّى ٥: ١٣) فإن المسيح شبّه هنالك تلاميذه بالملح لأنهم وسيلة إلى نفع العالم بحفظهم إياه من الفساد لكنه اتخذ الملح هنا إشارة إلى نعمة الروح القدس في قلوب تلاميذه. وهذه النعمة سبب الطهارة الداخلية والأشواق الروحية وإنكار الذات وهي تحفظهم من الفساد وتعدهم لأن يكونوا ملح العالم.

ولعلّ المسيح صرّح في هذه الآية بأن الملح جيد لأنه عبّر به في الآية التي قبلها عن خلاف ما اعتاد أن يعبّر به عنه. فإنه رمز به هنالك إلى بقاء الأشرار في العذاب الأبدي واستعاره هنا لما هو صالح كما هو المعهود من الملح.

بِلاَ مُلُوحَةٍ (انظر الشرح متّى ٥: ١٣). أشار بهذا إلى الذين هم تلاميذه بالاسم لا بالحقيقة إذ ليس لمثل هؤلاء ملوحة أي صلاح أدبي ونعمة روحية وإنكار الذات.

فَبِمَاذَا أي فبأي شيء يعتاض عن تلك الصفات الضرورية وهذا الاستفهام إنكاري معناه أنه من المحال أن يخلص التلاميذ الذين هم بلا نعمة وليسوا منكرين للذات أو أن يفيدوا العالم فلم يبق لهم إلا أن يملحوا بنار النقمة الإلهية المضطرمة بخطاياهم التي هو الوقود الأبدي.

لِيَكُنْ لَكُمْ… مِلْحٌ أي اجتهدوا أن تخلصوا على روح إنكار الذات وإماتة الشهوات الجسدية ومبادئ القداسة ونعمة الروح القدس التي تؤثر فيكم كالملح وتحفظكم من التجارب الخارجية والداخلية التي تغيظ الله وتجلب الشقاء على النفوس وتمنع الإنسان من إفادته غيره. لأن ملح النعمة والقداسة يحفظكم للحياة الأبدية والسعادة الدائمة ويقيكم من أن تُملحوا بالنار الأبدية بمقتضى حكم الديّان العادل.

وَسَالِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي ليطلب كل منكم النفع للآخر ولا يسأل كل التقدم والرئاسة على غيره كما فعلتم أولاً وحملتموني على الأخذ في هذا الخطاب (ع ٣٣) ولا تحسدوا من يخدمني ويصنع المعجزات باسمي وهو لا يرافقكم (ع ٣٩). فالمحبة والسلام من أثمار الروح (غلاطية ٥: ٢٢ وأفسس ٥: ٩). وتلك الأثمار أدلة على أن المتصفين بها مملحون بالنعمة الإلهية.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى