إنجيل مرقس

إنجيل مرقس | 08 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل مرقس

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الثامن

إشباع يسوع أربعة آلاف ع ١ إلى ١٠ (سنة ٢٨ ب. م)

١ – ٩ «١ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ إِذْ كَانَ ٱلْجَمْعُ كَثِيراً جِدّاً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ، دَعَا يَسُوعُ تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ لَهُمْ: ٢ إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى ٱلْجَمْعِ، لأَنَّ ٱلآنَ لَهُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَمْكُثُونَ مَعِي وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ. ٣ وَإِنْ صَرَفْتُهُمْ إِلَى بُيُوتِهِمْ صَائِمِينَ يُخَّوِرُونَ فِي ٱلطَّرِيقِ، لأَنَّ قَوْماً مِنْهُمْ جَاءُوا مِنْ بَعِيدٍ. ٤ فَأَجَابَهُ تَلاَمِيذُهُ: مِنْ أَيْنَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُشْبِعَ هٰؤُلاَءِ خُبْزاً هُنَا فِي ٱلْبَرِّيَّةِ؟ ٥ فَسَأَلَهُمْ: كَمْ عِنْدَكُمْ مِنَ ٱلْخُبْزِ؟ فَقَالُوا: سَبْعَةٌ. ٦ فَأَمَرَ ٱلْجَمْعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى ٱلأَرْضِ، وَأَخَذَ ٱلسَّبْعَ خُبْزَاتٍ وَشَكَرَ وَكَسَرَ وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ لِيُقَدِّمُوا، فَقَدَّمُوا إِلَى ٱلْجَمْعِ. ٧ وَكَانَ مَعَهُمْ قَلِيلٌ مِنْ صِغَارِ ٱلسَّمَكِ، فَبَارَكَ وَقَالَ أَنْ يُقَدِّمُوا هٰذِهِ أَيْضاً. ٨ فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا، ثُمَّ رَفَعُوا فَضَلاَتِ ٱلْكِسَرِ: سَبْعَةَ سِلاَلٍ. ٩ وَكَانَ ٱلآكِلُونَ نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلاَفٍ. ثُمَّ صَرَفَهُمْ».

متّى ١٥: ٣٢، متّى ١٥: ٣٤ وص ٦: ٣٨، متّى ١٤: ١٩ وص ٦: ٤١

لا فرق بين خبر مرقس بالمعجزة المذكورة هنا وخبر متّى بها (متّى ١٥: ٣٢ – ٣٨). وهذه المعجزة وهي إطعام الجموع ثانية لم يذكرها من البشيرين إلا متّى ومرقس. وهذا هو الأمر الوحيد الذي غيّر فيه مرقس منهجه لأنه ذكر معجزتين من نوع واحد لأن من عادته ذكر معجزة واحدة من كل نوع.

فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ أي في مدة اعتزال يسوع الجليل (متّى ١٥: ٢١) لا نفس الوقت الذي صنع فيه المعجزة المذكورة في الأصحاح السابق. والمفهوم أنه كان حينئذ في الأرض الجبلية شرقي الأردن في نواحي العشر المدن. والعبارة الوجيزة التي زادها مرقس على ما ذكره متّى قوله «إَنَّ قَوْماً مِنْهُمْ جَاءُوا مِنْ بَعِيدٍ» وترك مما ذكره متّى قوله «مَا عَدَا ٱلنِّسَاءَ وَٱلأَوْلاَدَ» (متّى ١٥: ٣٨).

١٠ «وَلِلْوَقْتِ دَخَلَ ٱلسَّفِينَةَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَجَاءَ إِلَى نَوَاحِي دَلْمَانُوثَةَ».

متّى ١٥: ٣٩

دَلْمَانُوثَةَ لا ذكر لهذه الكلمة في الكتاب المقدس إلا هنا والمظنون أنها قرية صغيرة على شاطئ بحر طبرية الغربي قرب مجدل شمالاً وتابعة لها وظنها البعض كانت عند ما يسمى اليوم بالعين الباردة وهي على أمد ثلث ساعة من مجدل. وقال متّى أنه جاء إلى تخوم مجدل فمعنى الاثنين واحد.

طلب الفريسيين آية من السماء ع ١١ إلى ١٣

١١ «فَخَرَجَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَٱبْتَدَأُوا يُحَاوِرُونَهُ طَالِبِينَ مِنْهُ آيَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ، لِكَيْ يُجَرِّبُوهُ».

متّى ١٢: ٣٨ و١٦: ١ ويوحنا ٦: ٣٠

اجتماع الفريسيين هذا وسؤالهم ما لا حق لهم أن يسألوه وهو آية من السماء وتركهم شهادة الآيات التي صنعها المسيح مرّ الكلام عليها في شرح بشارة متّى (متّى ١٦: ١ – ٤).

فَخَرَجَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ هذا يدل على أنهم كانوا يراقبونه سراً كالجواسيس وأنهم حينئذٍ ظهروا وتصدوا له علناً. وزاد متّى على مرقس أن الصدوقيين اتفقوا مع الفريسيين على أن يسألوه تلك الآية ولكن الفريسيين هم الذين سبقوا إلى السؤال وواطاهم الصدوقيون رياء لأنهم كفرة لا يعتقدون إمكان الإتيان بآية من السماء.

١٢ «فَتَنَهَّدَ بِرُوحِهِ وَقَالَ: لِمَاذَا يَطْلُبُ هٰذَا ٱلْجِيلُ آيَةً؟ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَنْ يُعْطَى هٰذَا ٱلْجِيلُ آيَةً!».

فَتَنَهَّدَ اعتاد مرقس أن يذكر إمارات وجه المسيح وعلامات انفعالاته. وعلى هذا ذكر هنا تنهد المسيح إشارة إلى حزنه على كفرهم وعنادهم وتسلط الخطيئة عليهم وذلك كحزنه على الاصم الأعقد لمصابه الجسدي (ص ٧: ٣٤). وحزن أيضاً عليهم لما جلبوا على أنفسهم من الشقاء برفضهم إياه.

لَنْ يُعْطَى هٰذَا ٱلْجِيلُ آيَةً أي لا يُعطى آية من السماء كما طلبوا (متّى ١٦: ١) فإنهم طلبوا مثل آية موسى في إنزال المن ومثل آية يشوع في توقيف الشمس والقمر وآية صموئيل في إيقاع المطر والبرَد في أيام الحصاد وآية إيليا في إنزال النار على الحطب والآية التي كانت لحزقيا الملك في ترجيع الظل عشر درجات من درجات الساعة الشمسية. وقال متّى أن المسيح قال لهم أنهم لا يعطون إلا آية يونان النبي وهو لا يناقض قول مرقس لأن آية يونان ليست الآية التي طلبوها ولم يعطهم المسيح إياها حينئذ إجابة لطلبهم لأنها كانت منذ ٨٩٠ سنة قبل ذلك الوقت.

وبلغ حينئذ طلب الفريسيين تلك الطلبة المرة الرابعة. أولاها بعد طرد الباعة من الهيكل أولاً (يوحنا ٢: ١٨) وثانيتها بعد إشباع الخمسة الآلاف (يوحنا ٦: ٣٠). وثالثتها بعد مروره بين الزروع (متّى ١٢: ٣٨). والرابعة هنا.

١٣ « ثُمَّ تَرَكَهُمْ وَدَخَلَ أَيْضاً ٱلسَّفِينَةَ وَمَضَى إِلَى ٱلْعَبْرِ».

تَرَكَهُمْ هذا يدل على عدم مسّرة المسيح بهم واليأس من إفادتهم بتعليمه وعلى نهاية خدمته في الجليل. وتركه إياهم لم يكن مجرد الذهاب عن المحل الذي كانوا فيه بل إبقاؤه إياهم في حال الشقاء الذي لا تُرجى إزالته.

ٱلسَّفِينَةَ لعلها هي السفينة التي أتى فيها وكانت باقية لطلبه (ص ١٠).

إِلَى ٱلْعَبْرِ أي الجانب الشرقي من بحر طبرية ولم يرجع بعد ذلك إلى الجليل إلا مرة واحدة وهو يحاول التواري على قدر الإمكان (ص ٩: ٣).

تحذير المسيح تلاميذه من خمير الفريسيين وهيرودس ع ١٤ إلى ٢١

١٤ «وَنَسُوا أَنْ يَأْخُذُوا خُبْزاً، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فِي ٱلسَّفِينَةِ إِلاَّ رَغِيفٌ وَاحِدٌ».

متّى ١٦: ٥ الخ

إِلاَّ رَغِيفٌ وَاحِدٌ أوضح مرقس ما قاله متّى إجمالاً بقوله «نَسَوْا أَنْ يَأْخُذُوا خُبْزاً» (متّى ١٦: ٥).

ويدل على نسيانهم أنه لم يكن معهم سوى رغيف واحد. والأرجح أن ذلك الرغيف كان باقياً عندهم مما أخذوه قبلاً. وعلى هذا لم يكونوا قد أخذوا خبزاً جديداً في سفرهم. وذكر مرقس هذا الرغيف يدل على جودة ذاكرة بطرس وتدقيقه.

١٥ «وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً: ٱنْظُرُوا وَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَخَمِيرِ هِيرُودُسَ».

لوقا ١٢: ١

خَمِيرِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَخَمِيرِ هِيرُودُسَ لم يذكر متّى خمير هيرودس وذكر بدلاً منه خمير الصدوقيين الذي لم يذكره مرقس والأرجح أن المسيح حذرهم من خمير كل من الثلاثة لأنهم كانوا جميعاً مشتركين في الرياء وهو المراد بالخمير هنا فإنهم تظاهروا بما لم يعتقدونه فأشبهت تعاليمهم وسيرتهم الخمير لأنها كانت تمتد خفية وكانت مؤثرة كما تؤثر الخميرة في العجين وتصيُّره مثلها.

واختلف الفريسيون والصدوقيون والهيرودوسيون في أمور كثيرة من المعتقدات والتعاليم لكنهم اتفقوا جميعاً في الرياء وفي مقاومة يسوع. وكان من خمير الهيرودسيين غير ما ذُكر محبة العالم أكثر ممن سواهم.

١٦ – ٢١ «١٦ فَفَكَّرُوا قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَيْسَ عِنْدَنَا خُبْزٌ. ١٧ فَعَلِمَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ أَنْ لَيْسَ عِنْدَكُمْ خُبْزٌ؟ أَلاَ تَشْعُرُونَ بَعْدُ وَلاَ تَفْهَمُونَ؟ أَحَتَّى ٱلآنَ قُلُوبُكُمْ غَلِيظَةٌ؟ ١٨ أَلَكُمْ أَعْيُنٌ وَلاَ تُبْصِرُونَ، وَلَكُمْ آذَانٌ وَلاَ تَسْمَعُونَ، وَلاَ تَذْكُرُونَ؟ ١٩ حِينَ كَسَّرْتُ ٱلأَرْغِفَةَ ٱلْخَمْسَةَ لِلْخَمْسَةِ ٱلآلاَفِ، كَمْ قُفَّةً مَمْلُّوَةً كِسَراً رَفَعْتُمْ؟ قَالُوا لَهُ: ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ. ٢٠ وَحِينَ ٱلسَّبْعَةِ لِلأَرْبَعَةِ ٱلآلاَفِ، كَمْ سَلَّ كِسَرٍ مَمْلُّواً رَفَعْتُمْ؟ قَالُوا: سَبْعَةً.٢١ فَقَالَ لَهُمْ: كَيْفَ لاَ تَفْهَمُونَ؟».

ص ٦: ٥٢، متّى ١٤: ٢٠ وص ٦: ٤٣ ولوقا ٩: ١٧ ويوحنا ٦: ١٣، متّى ١٥: ٣٧ وع ٨ ص ٦: ٥٢ وع ١٧

انظر الشرح متّى ١٦: ٧ – ١٢. التوبيخ الذي ذكره مرقس في ع ١٦ لم يذكره متّى وأوضح أكثر من متّى خطاب المسيح للرسل وجوابهم على سؤاله عن عدد القفاف والسلال التي رفعوها من الخبز بعد كل من معجزتي الإشباع.

إبراء أعمى في بيت صيدا ع ٢٢ إلى ٢٦

٢٢ «وَجَاءَ إِلَى بَيْتِ صَيْدَا، فَقَدَّمُوا إِلَيْهِ أَعْمَى وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسَهُ».

بَيْتِ صَيْدَا مدينة شمالي بحر طبرية عند مصب الأردن فيها وهي مولد أندراوس وبطرس وفيلبس (يوحنا ١: ٤٤ و١٢: ٢١). والأرجح أنها كانت على جانبي النهر لأنه يتبين لنا من ع ٤٦ أنها كانت على الجانب الغربي من النهر. ومن بشارة لوقا ١٠: ٩ أنها كانت على جانبه الشرقي في أراض تختص ببيت صيدا. ووسع فيلبس رئيس الربع هذه المدينة وزانها كثيراً وسماها جولياس إكراماً لجوليا بنت أوغسطس قيصر. ودفن هنالك فيلبس في قبر نفيس. والمرجح أن بيت صيدا التي ذكرها مرقس في ص ٨: ٢٢ كانت على جانب الأردن الشرقي لأن المسيح عبر مع تلاميذه من دلمانوثة إليها (ع ١٣) ودلمانوثة كانت على جانبه الغربي (ع ١٠). والظاهر أن معظم بيت صيدا كان على الجانب الغربي من الأردن واعتبروه المدينة (يوحنا ١: ٤٤) وقسماً صغيراً منها على الجانب الشرقي اعتبروه قرية (ع ٢٣).

فَقَدَّمُوا الذين قدموه أصدقاء الأعمى وهذه المعجزة لم يذكرها أحد من البشيرين سوى مرقس.

أَنْ يَلْمِسَهُ توهموا اللمس ضروري للإبراء.

٢٣ «فَأَخَذَ بِيَدِ ٱلأَعْمَى وَأَخْرَجَهُ إِلَى خَارِجِ ٱلْقَرْيَةِ، وَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ هَلْ أَبْصَرَ شَيْئاً؟».

ص ٧: ٣٣

فَأَخَذَ بِيَدِ ٱلأَعْمَى أخذ يسوع بيد الأعمى علامة رقة قلب المسيح واتضاعه وتظهر ثقة الأعمى بالمسيح من أنه سمح له وهو غريب أن يقوده حيث شاء.

وَأَخْرَجَهُ أتى ذلك اعتزالاً للشهرة ومراقبة الأعداء ولكي يزيد الأعمى إيماناً كما فعل في إبراء الاصم الأعقد (ص ٧: ٣٣). ولعله أراد أن أول شيء ينظره بعد فتح عينيه يكون وجه ربه لا جموع الناس.

وَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ وذلك ليس سوى إشارة إلى أن قوة الشفاء في المسيح. ولعلّ بعض الناس يومئذ نسبوا التأثير إلى الريق كما نسبوه إلى الزيت (ص ٦: ١٣). فاستعمل المسيح العلامة الشائعة في علاج المرضى في معجزات الشفاء. ويوافق اتخاذ الريق إشارة إلى فتح عيني الأعمى كونه صالحاً لتذويب بعض المواد. وعلى كل حال أن ما أتاه يسوع من أخذه بيد الأعمى واقتياده إياه إلى خارج القرية ولمسه عينيه إلى غير ذلك من الأعمال كان ليفيده ما يمكن غيره أن يستفيده بمجرد النظر إلى وجه المسيح. وكانت إفادته بذلك تحقيق لطفه به وإحياء إيمانه.

هَلْ أَبْصَرَ شَيْئاً امتازت هذه المعجزة على غيرها بان المسيح عملها تدريجاً لا دفعة. ولعلّ ذلك كان ضرورياً لإنشاء إيمان الأعمى لأن الشفاء لا يسبق الإيمان بل يسير معه ويكمل مع كمال الإيمان.

٢٤ «فَتَطَلَّعَ وَقَالَ: أُبْصِرُ ٱلنَّاسَ كَأَشْجَارٍ يَمْشُونَ».

فَتَطَلَّعَ أخذ يمتحن ما حصل عليه من البصر.

ٱلنَّاسَ كَأَشْجَارٍ يَمْشُونَ لم يكن بصره كاملاً ليميّز بعض المرئيات من بعض فنظر أشباحاً ظنها من كبرها أشجاراً ومن حركاتها تحقق أنها أناس فكان يمكنه أن يدرك بالبصر الأجرام ولكنه لم يستطع أن يميز الهيئات وهذا الشفاء الجزئي أكد للأعمى أن المسيح قادر على أن يشفيه تمام الشفاء وجعله يتكل عليه في ذلك. ففي مثل الطريق التي سلك فيها المسيح لإزالة العمى الجسدي من هذا الأعمى يسلك الروح القدس لإزالة العمى الروحي من قلوب الناس باقتياده إياهم تدريجاً من ظلمات ضلالاتهم وأوهامهم إلى أنوار الإنجيل النقية لأنه لا يمكن سوى اليد الإلهية أن يزيل برقعاً بعد برقع من براقع الجهل والتعصب. والعمى الروحي لا يزول كله على الأرض وتمام البرء منه يكون في السماء. وبداءة نوال ذلك البرء أن يرضي الخاطئ اقتياد المسيح إياه من الظلمة إلى النور وأن لا يقنط ببطء الشفاء ولا يتذمرّ بأنه يتقدم إلى ذلك شيئاَ فشيئاً. وعاقبة عمل المسيح البصر التام وفق قوله «لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ ٱلآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ، وَلٰكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ» (يوحنا ١٣: ٧). ووفق قول الرسول «فَإِنَّنَا نَنْظُرُ ٱلآنَ فِي مِرْآةٍ فِي لُغْزٍ، لٰكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهاً لِوَجْهٍ الخ» (١كورنثوس ١٣: ١٢ و١٣).

٢٥ «ثُمَّ وَضَعَ يَدَيْهِ أَيْضاً عَلَى عَيْنَيْهِ، وَجَعَلَهُ يَتَطَلَّعُ. فَعَادَ صَحِيحاً وَأَبْصَرَ كُلَّ إِنْسَانٍ جَلِيّاً».

تمّ الشفاء بلمس المسيح عيني الأعمى ثانية فاستطاع أن يميز كلاً من المنظورات عن غيره ولعلّ المسيح قصد أن يعلم تلاميذه بما فعله هنا أن قوته على الشفاء مطلقة أي غير مقيدة بالوسائط أو الأوقات وبذلك يمتاز عمله عن أعمال السحرة الخداعية.

٢٦ «فَأَرْسَلَهُ إِلَى بَيْتِهِ قَائِلاً: لاَ تَدْخُلِ ٱلْقَرْيَةَ، وَلاَ تَقُلْ لأَحَدٍ فِي ٱلْقَرْيَةِ».

متّى ٨: ٤ وص ٥: ٤٣

في هذا العدد نهيان الأول قوله لا تدخل القرية ولعلّ الغاية منه نفع المنهي لأن المسيح رأى أنه يحتاج إلى الانفراد عن الشعب للفائدة الروحية بعد الشفاء كما احتاج إلى الانفراد قبل الشفاء. ونستنتج من ذلك أن هذا الذي كان أعمى لم يكن من سكان بيت صيدا بل أُتي به إليها للشفاء. والنهي الثاني قوله لا تقل لأحد من القرية والغاية منه تخلص المسيح من انتشار صيته الذي يهيج حسد الفريسيين وازدحام الناس عليه بغية الشفاء الجسدي.

إقرار بطرس بإيمانه بالمسيح ع ٢٧ إلى ٣٠

٢٧ – ٢٩ «٢٧ ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ وَتَلاَمِيذُهُ إِلَى قُرَى قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ. وَفِي ٱلطَّرِيقِ سَأَلَ تَلاَمِيذَهُ: مَنْ يَقُولُ ٱلنَّاسُ إِنِّي أَنَا؟ ٢٨ فَأَجَابُوا: يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ، وَآخَرُونَ إِيلِيَّا، وَآخَرُونَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلأَنْبِيَاءِ. ٢٩ فَقَالَ لَهُمْ: وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟ فَأَجَابَ بُطْرُسُ: أَنْتَ ٱلْمَسِيحُ!».

متّى ١٦: ١٣ ولوقا ٩: ١٨، متّى ١٤: ٢ و١٦: ١٦ ويوحنا ٦: ٦٩ و١١: ١٧

مرّ الكلام على هذا في الشرح متّى ١٦: ١٣ – ٢٠.

أخرج المسيح من الجليل بمقاومة الفريسيين فذهب من جوار بيت صيدا إلى شمالي فلسطين.

قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ هي التي تُسمى الآن بانياس وكانت مدينة وثنية اشتهرت قديماً بعبادة بان إله الرعاة كما سبق في الشرح (متّى ١٦: ١٣).

سَأَلَ تَلاَمِيذَهُ أصل لفظة سأل هنا في اليوناني ألح وكرر السؤال بتدقيق. وكأن المسيح رأى أنه حان زمن امتحانه إيمان تلاميذه فإن المسيح قصد أن يبين لهم أنه لا بد من أن يتألم ويموت استعداداً لذلك سألهم عن اعتقادهم في شأن دعواه أنه المسيح. قال لوقا أنه خاطب تلاميذه على انفراد بعد أن شغل وقتاً بالصلاة (لوقا ٩: ١٨). ووجه المسيح سؤاله إلى كل التلاميذ فأجابه بطرس عن الجميع كعادته ولكن مرقس ترك ذلك كأمر معلوم لا يحتاج إلى بيان ولم يذكر مجاوبة المسيح لبطرس ومدحه إياه لسبقه الغير إلى ذلك الإقرار. فإذا كان مرقس كتب بشارته بإرشاد بطرس كما هو المرجح فترك ذلك المدح دلالة على تواضع بطرس. وترك مرقس أيضاً مما ذكره متّى ما يتعلق من قول المسيح بالكنيسة وهذا دليل على أن الموضوع الجوهري في خطاب المسيح حينئذ الإنباء بآلامه وموته ووجوب إقرار تلاميذه به.

٣٠ «فَٱنْتَهَرَهُمْ كَيْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ عَنْهُ».

متّى ١٦: ٢٠

الأمر الذي نهاهم عن إظهاره هو أنه المسيح (متّى ١٦: ٢٠). لأنه لم يكن قد حان وقت الإعلان العام بذلك وقصد أن تكون قيامته من الموت أحسن برهان على صحة دعواه. والانتهار كان لجميع الرسل فإذاً لا بد من أن يكون إقرار بطرس هو إقرار الجميع.

إنباء المسيح الأول بموته وقيامته ووجوب أن يحمل الصليب كل من تلاميذه من ص ٨: ٣١ إلى ص ٩: ١

٣١ – ٣٣ «٣١ وَٱبْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً، وَيُرْفَضَ مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ. ٣٢ وَقَالَ ٱلْقَوْلَ عَلاَنِيَةً، فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَٱبْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ. ٣٣ فَٱلْتَفَتَ وَأَبْصَرَ تَلاَمِيذَهُ، فَٱنْتَهَرَ بُطْرُسَ قَائِلاً: ٱذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ، لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا لِلّٰهِ لٰكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ».

متّى ١٦: ٢١ و١٧: ٢٢ ولوقا ٩: ٢٢

هذا إنباء يسوع الأول بموته وقيامته ومعارضة بطرس إياه بسبب ذلك وتوبيخ يسوع له. وقد مرّ الكلام على كل ذلك في الشرح متّى ١٦: ٢١ – ٢٣. وما يختص بمرقس في هذا النبأ.

(١) إن يسوع «قال القول علانية» أي على مسامع كل الجمع دون أو يورد مراده بأمثال أو ألغاز كما كان يفعل قبل ذلك (متّى ٩: ١٥ ويوحنا ٢: ١٩ و٣: ١٢ – ١٦ و٦: ٤٧ – ٥١).

(٢) إنه التفت وأبصر تلاميذه كلهم لا بطرس وحده وهذا يدل على أنه لم ينفرد ببطرس دون غيره حسب طلب بطرس عينه بل وبخه أمام الجميع كأنهم اشتركوا مع بطرس في أفكاره وأقواله ولحقهم شيء من التوبيخ.

٣٤ – ٣٧ «٣٤ وَدَعَا ٱلْجَمْعَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي. ٣٥ فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ ٱلإِنْجِيلِ فَهُوَ يُخَلِّصُهَا. ٣٦ لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ ٱلإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ ٱلْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ ٣٧ أَوْ مَاذَا يُعْطِي ٱلإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟».

متّى ١٠: ٣٨ و١٦: ٢٤ ولوقا ٩: ٢٣ و١٤: ٢٧، يوحنا ١٢: ٢٥

انظر الشرح متّى ١٦: ٢٤ – ٢٨. وزاد مرقس على ما ذكره متّى أنه دعا الجمع قبل أن تكلم في وجوب إنكار الذات وحمل الصليب كأن ذلك شرط عام لكل من أراد أن يدخل ملكوت الله في كل مكان وزمان. وقال متّى أن المسيح قال «الذي يهلك نفسه من أجلي يخلّصها» فزاد مرقس على ذلك قوله «من أجل الإنجيل» أي أن إنكار الذات والغيرة والمحبة التي يطلبها المسيح من تلاميذه لا تكون إكراماً لشخصه فقط بل للبشارة التي نزل من السماء ليشهد بها ويموت شهيداً لها (يوحنا ١٨: ٣٧). وهذا يدلنا على أن دعوة المسيح وإنجيله دعوة واحدة. والذي قاله المسيح في ع ٣٥ قاله ثلاث مرات أُخر (متّى ١٠: ٣٩ ولوقا ١٧: ٣٣ ويوحنا ١٢: ٢٥).

٣٨ «لأَنَّ مَنِ ٱسْتَحَى بِي وَبِكَلاَمِي فِي هٰذَا ٱلْجِيلِ ٱلْفَاسِقِ ٱلْخَاطِئِ فَإِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ يَسْتَحِي بِهِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِ أَبِيهِ مَعَ ٱلْمَلاَئِكَةِ ٱلْقِدِّيسِينَ».

متّى ١٠: ٣٣ ولوقا ٩: ٢٦ و١٢: ٩ ورومية ١: ١٦ و٢تيموثاوس ١: ٨ و٢: ١٢

في هذا العدد تفصيل ما ذكره متّى من قول المسيح «يُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِهِ» (متّى ١٦: ٢٧). وسبب اختصار متّى هذا المعنى أنه أتى بمثله في مكان آخر (متّى ١٠: ٣٢ و٣٣). وللفرق بين ألفاظ المعنيين أن متّى ذكر الفعل وهو إنكار المسيح ومرقس ذكر انفعال القلب الذي حمل على الإنكار وهو الاستحياء به.

مَنِ أي كل واحد فكل إنسان عرضة لإنكار المسيح وهلاك النفس.

ٱسْتَحَى بِي أي خجل أن يعترف بأني المسيح والرب وذلك مثل إنكار دعواي أني كذلك (عبرانيين ٢: ١١ و١١: ١٦). وعلة الاستحياء اتضاعي وفقري وما يظهر فيّ من الضعف ومقاومة رؤساء الدين إياي وقلة تلاميذي.

وَبِكَلاَمِي أي بتعليمي المضاد لكبرياء قلب الإنسان ولبره الذاتي ولأكثر أديان الأرض.

ٱلْجِيلِ ٱلْفَاسِقِ ٱلْخَاطِئِ متّى ١٢: ٣٩. وصف يسوع يهود عصره بذلك لأنه يصدق عليهم إجمالاً ويصدق على أكثرهم حقيقة ومجازاً وعلاقة المجاز نكث عهودهم لله بالمحبة والطاعة (إرميا ٣١: ٣٢). وسبب الاستحياء بالمسيح الاهتمام بآراء جيل كهذا.

ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ يَسْتَحِي بِهِ المسيح يعامل الذين يستحون به كأنه يستحي بهم. وحقيقة ذلك أنه يرفض كونهم من خاصته ويعاملهم أمام كرسي أبيه كما عاملوه أمام أهل الأرض وعاقبة ذلك طردهم من ملكوت المجد لا بروح الانتقام بل بمجازاتهم حسب ما استحقوا. فمن اقتنع بصحة دين المسيح وإنجيله وأخفى اعتقاده حياءً أو خوفاً أو طمعاً ولم يعترف بإيمانه ارتكب إثماً فظيعاً وعرّض نفسه لعقاب شديد.

مَتَى جَاءَ بِمَجْدِ أَبِيهِ سوف يأتي المسيح ثانية لا طفلاً في بيت لحم ولا نجاراً في الناصرة بل باعتبار كونه ابن الله في وقار ومجد ليثيب أصدقاءه الذين اعترفوا بالإيمان به ويطرد من حضرته أعداءه إلى محل العقاب الأبدي. وحينئذ تتبدل حال المسيح وحال الذين استحوا به فيكون هو ممجداً ويكونون هم مهانين. ولا يسأل حينئذ «من يستحي بالمسيح» بل «من يستحي المسيح بهم». وقد سبق تفسير قوله بمجد أبيه في شرح بشارة متّى (متّى ١٦: ٢٧).

(ص ٩: ١) «وَقَالَ لَهُمُ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ ٱلْقِيَامِ هٰهُنَا قَوْماً لاَ يَذُوقُونَ ٱلْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ قَدْ أَتَى بِقُّوَةٍ».

متّى ١٦: ٢٨ و٢٤: ٣ و٢٥: ٣١ ولوقا ٩: ٢٧ و٢٢: ١٨

هذا العدد تابع للأصحاح الثامن ومرّ تفسيره في متّى ١٦: ٢٨ وزاد مرقس فيه على ما قاله متّى في مجيء قصد مرقس من كتابة بشارته وهو إظهار ما للمسيح وملكوته من القوة العظمى. وهذا مما يرغب الرومانيين في دين المسيح.

ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ هذا مقدمة للشروع في أمر ذي شأن ذكره متّى في بشارته إحدى وثلاثين مرّة. وذكره مرقس ثلاث عشرة مرّة. ولوقا سبع مرّات ويوحنا خمساً وعشرين مرّة.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى