إنجيل مرقس

إنجيل مرقس | 07 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل مرقس

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح السابع

تقليد الفريسيين في الطهارة وتبيين المسيح الطهارة الحقيقية ع ١ إلى ٢٣

وهذا الأصحاح مبتدأ حوادث السنة الأخيرة من حياة المسيح الأرضية هي سنة اضطهاداته.

١ «وَٱجْتَمَعَ إِلَيْهِ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَقَوْمٌ مِنَ ٱلْكَتَبَةِ قَادِمِينَ مِنْ أُورُشَلِيمَ».

متّى ١٥: ١

وَٱجْتَمَعَ إِلَيْهِ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ الخ ذكر مرقس قبلاً معجزات المسيح الكثيرة العظيمة في سهل جنيسارت ورغبة الناس فيه وأخذ هنا يبين مقاومة الفريسيين إياه وكيفية دفعه إياها. وهذا تابع خبر المقاومة التي ذكرها في ص ٣: ٢٢.

قَادِمِينَ مِنْ أُورُشَلِيمَ الأرجح أنهم كانوا لجنة جديدة أرسلت إلى كفرناحوم لما سمعوه من أخبار معجزات يسوع العظيمة ورغبة الناس فيه. وكانوا أرسلوا لجنة أخرى قبلها جادلته في أمر السبت (لوقا ٥: ١٧).

وكل ما ذُكر من العدد الأول من هذا الأصحاح إلى العدد الثالث والعشرين مرّ تفسيره في الشرح (متّى ١٥: ١ – ٢٠). وزاد مرقس على خبر متّى في العدد الأول أن الفريسيين المقاومين أتوا من أورشليم. والأرجح أن مجلس السبعين هو الذي أرسلهم للفحص والإخبار كما فعل في أمر يوحنا المعمدان (يوحنا ١: ١٩).

٢ «وَلَمَّا رَأَوْا بَعْضاً مِنْ تَلاَمِيذِهِ يَأْكُلُونَ خُبْزاً بِأَيْدٍ دَنِسَةٍ، أَيْ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ، لاَمُوا».

مما يدل على شدة مراقبة الفريسيين لتلاميذ المسيح أنهم راقبوهم وهم يأكلون ولم يكتفوا بالسمع.

بِأَيْدٍ دَنِسَةٍ كان هذا الدنس طقسياً لا حقيقياً لأن أيديهم كانت نظيفة إلا أنهم لم يغسلوها قبل الأكل حسب تقليد الفريسيين.

غَيْرِ مَغْسُولَةٍ فسّر مرقس دنسة بغير مغسولة لأنه كتب إنجيله للأمم.

٣، ٤ «٣ لأَنَّ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَكُلَّ ٱلْيَهُودِ إِنْ لَمْ يَغْسِلُوا أَيْدِيَهُمْ بِٱعْتِنَاءٍ لاَ يَأْكُلُونَ، مُتَمَسِّكِينَ بِتَقْلِيدِ ٱلشُّيُوخِ. ٤ وَمِنَ ٱلسُّوقِ إِنْ لَمْ يَغْتَسِلُوا لاَ يَأْكُلُونَ. وَأَشْيَاءُ أُخْرَى كَثِيرَةٌ تَسَلَّمُوهَا لِلتَّمَسُّكِ بِهَا، مِنْ غَسْلِ كُؤُوسٍ وَأَبَارِيقَ وَآنِيَةِ نُحَاسٍ وَأَسِرَّةٍ».

في هذين العددين بيان عوائد اليهود في الغسل الطقسي ولم يذكرها متّى لأنه كتب إنجيله لليهود وهم لا يحتاجون إلى بيانها كما يحتاج إليه الرومانيون الذين كتب مرقس بشارته إليهم.

أمر موسى بصنوف من الغسل الطقسي في سفر اللاويين (ص ١٢ – ص ١٥) لم يقصد بها النظافة بل الرمز إلى تطهير القلب من دنس الخطيئة. وأما الغسل الذي أمر به الفريسيون قبل الأكل فليس مما أمر به الله وليس فيه من إشارة إلى أمر روحي. فضلوا باعتبارهم الخارجيات فضائل بقطع النظر عن المعنى التي تشير إليه.

وَمِنَ ٱلسُّوقِ يحتمل ذلك أنهم كانوا يغتسلون متى رجعوا من السوق أو أنهم يغسلون ما يشترونه من السوق. وكل تلك العناية بالغسل نتيجة كبريائهم الزائدة وادعائهم الطهارة العجيبة حتى أنهم اعتزلوا اقتراب كل ما ظنوا إمكان تدنيسه إياهم.

غَسْلِ كُؤُوسٍ وَأَبَارِيقَ الخ خوفاً من أن يكون قد لمسها أميّ أو شرب أو أكل منها.

وَأَسِرَّةٍ وهي ما يتكأ عليه عند الأكل وغسلوها خشية من أنه جلس عليها أحد من الأمم.

وفي هاتين الآيتين أمر يستحق الاعتبار وهو أن اللفظة اليونانية المعبر بها عن غسل الكؤوس والآنية النحاسية والأسرة هي عين اللفظة المعبر بها عن المعمودية. فليس لأحد حتى أن يحصر التعميد بالتغطيس لأنه لا يقرب من العقل أنهم كانوا يغطسون أسرتهم وموائدهم. فيصدق معنى تلك الكلمة على كل من الرش والصب والتغطيس. والمسيح لم يعين أحد هذه الطرق في المعمودية. ولنا من ذلك أن كيفية استعمال الماء في العماد ليس من جوهريات الدين.

٥ – ٨ «٥ ثُمَّ سَأَلَهُ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَٱلْكَتَبَةُ: لِمَاذَا لاَ يَسْلُكُ تَلاَمِيذُكَ حَسَبَ تَقْلِيدِ ٱلشُّيُوخِ، بَلْ يَأْكُلُونَ خُبْزاً بِأَيْدٍ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ؟ ٦ فَأَجَابَ: حَسَناً تَنَبَّأَ إِشَعْيَاءُ عَنْكُمْ أَنْتُمُ ٱلْمُرَائِينَ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: هٰذَا ٱلشَّعْبُ يُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيداً، ٧ وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا ٱلنَّاسِ. ٨ لأَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ وَصِيَّةَ ٱللّٰهِ وَتَتَمَسَّكُونَ بِتَقْلِيدِ ٱلنَّاسِ: غَسْلَ ٱلأَبَارِيقِ وَٱلْكُؤُوسِ، وَأُمُوراً أُخَرَ كَثِيرَةً مِثْلَ هٰذِهِ تَفْعَلُونَ».

متّى ١٥: ٢، إشعياء ٢٩: ١٣ ومتّى ١٥: ٨

تَرَكْتُمْ وَصِيَّةَ ٱللّٰهِ أي جعلتموها دون تقاليدكم وهذا استعداد لرفضهم الوصية كما ذكر في العدد التاسع.

٩ – ١٣ «٩ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: حَسَناً! رَفَضْتُمْ وَصِيَّةَ ٱللّٰهِ لِتَحْفَظُوا تَقْلِيدَكُمْ. ١٠ لأَنَّ مُوسَى قَالَ: أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، وَمَنْ يَشْتِمُ أَباً أَوْ أُمّاً فَلْيَمُتْ مَوْتاً. ١١ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَقُولُونَ: إِنْ قَالَ إِنْسَانٌ لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ: قُرْبَانٌ، أَيْ هَدِيَّةٌ، هُوَ ٱلَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ مِنِّي ١٢ فَلاَ تَدَعُونَهُ فِي مَا بَعْدُ يَفْعَلُ شَيْئاً لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ. ١٣ مُبْطِلِينَ كَلاَمَ ٱللّٰهِ بِتَقْلِيدِكُمُ ٱلَّذِي سَلَّمْتُمُوهُ. وَأُمُوراً كَثِيرَةً مِثْلَ هٰذِهِ تَفْعَلُونَ».

خروج ٢٠: ١٢ وتثنية ٥: ١٦ ومتّى ١٥: ٤، خروج ٢١: ١٧ ولاويين ٢٠: ٩ وأمثال ٢٠: ٢٠، متّى ١٥: ٥ و٢٣: ١٨

حَسَناً رَفَضْتُمْ أي رفضكم كان وفقاً تاماً لنبوة إشعياء المذكورة في العدد السادس وهي قوله «حسناً تنبأ إشعياء عنكم».

ولا حاجة إلى أوضح من هذا البرهان على ضرر التقليد وهو أن التمسك به تركٌ لوصية الله (ع ٨) ورفض لها (ع ٩) وإبطال لها (ع ١٣).

قُرْبَانٌ أَيْ هَدِيَّةٌ فسّر مرقس القربان بالهدية إفادة للقراء الرومانيين.

فَلاَ تَدَعُونَهُ ليس المعنى أنهم يمنعونه فعلاً من الإحسان إلى والديه بل إنّ نتيجة ذلك التعليم هي بمثابة المنع لرفعها المسؤولية التي يوجبها ضميره وكتاب الله عليه. والذين قالوا إنّ القربان للهيكل ألزم من الإحسان إلى الوالدين عند الحاجة هم رؤساء الدين ولكلامهم أعظم تأثير. ويخالف الوصية الخامسة مثل هؤلاء الأولاد الذين يتركون والديهم المحتاجين إليهم ويدخلون الرهبانية. والذين يحثونهم على الرهبانية يشاركونهم في الخطيئة.

١٤ «ثُمَّ دَعَا كُلَّ ٱلْجَمْعِ وَقَالَ لَهُمُ: ٱسْمَعُوا مِنِّي كُلُّكُمْ وَٱفْهَمُوا».

متّى ١٥: ١٠

ثُمَّ دَعَا كُلَّ ٱلْجَمْعِ يظهر من هذا أن الخطاب السابق كان موجهاً بالأكثر إلى الفريسيين الذين أتوا من أورشليم وأما هنا فالتفت إلى كل المحيطين به من الجمع ونبههم إلى أن يتخذوا الخطاب لأنفسهم ويخزنونه في قلوبهم.

١٥، ١٦ «١٥ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَارِجِ ٱلإِنْسَانِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، لٰكِنَّ ٱلأَشْيَاءَ ٱلَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ هِيَ ٱلَّتِي تُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ. ١٦ إِنْ كَانَ لأَحَدٍ أُذْنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ».

متّى ١١: ١٥

انظر الشرح متّى ١٥: ١١.

بيّن في ما سبق بطلان التقاليد والأوهام في أمر الاغتسال الطقسي والخطأ في تفضيل التقليد على وصية الله. وشرع يبيّن أن ما صدق على الغسل يصدق على تقليدهم في أمر التمييز بين الطاهر والنجس من الأطعمة. وأما تمييز الشريعة الموسوية بين المأكولات (لاويين ص ٧ وتثنية ص ١٤) فلم تكن غايته سوى فصل الأمة اليهودية عن سائر الأمم. واعتبر اليهود هذا التمييز الطقسي الموقوت جوهرياً أدبياً أبدياً فبيّن المسيح خطأهم في ذلك.

١٧ «وَلَمَّا دَخَلَ مِنْ عِنْدِ ٱلْجَمْعِ إِلَى ٱلْبَيْتِ، سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ عَنِ ٱلْمَثَلِ».

متّى ١٥: ١٥

إِلَى ٱلْبَيْتِ متّى ١٥: ١٢. الأرجح أنه البيت الذي أقام به في كفرناحوم. والظاهر من ذلك أن يسوع بعدما أكمل خطابه للفريسيين وسائر الجمع ذهب عنهم مع تلاميذه وسأله التلاميذ عن المثل وكان بطرس كعادته نائب الباقين في السؤال. ولم يذكر مرقس ما ذكره متّى من انفعال الفريسيين من تعليم يسوع وما قاله على نتيجة تعليمهم الفاسد (متّى ١٥: ١٢ – ١٤).

وفي تفضيل المسيح هنا الروحيات على الطقسيات إبطال لجانب عظيم من أديان الأرض لأن الحرب القديمة بين كلام الله والتقليد وبين الديانة القلبية والديانة الطقسية لا تزال قائمة على قدم وساق ولا يزال الناس راغبين في العرض ومعرضين عن الجوهر.

١٨ «فَقَالَ لَهُمْ: أَفَأَنْتُمْ أَيْضاً هٰكَذَا غَيْرُ فَاهِمِينَ؟ أَمَا تَفْهَمُونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ ٱلإِنْسَانَ مِنْ خَارِجٍ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ».

متّى ١٥: ١٦

الناس كلهم في كل عصر بطيئو الافهام في الروحيات وإن علّمهم إياها أفضل المعلمين. فعلينا أن نسأل يوماً فيوماً تنوير الروح القدس لكي نتقدم في المعرفة الروحية ونصلي لله كداود قائلين علمنا فرائضك (مزمور ١١٩: ٦٤).

١٩ «لأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ إِلَى قَلْبِهِ بَلْ إِلَى ٱلْجَوْفِ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى ٱلْخَلاَءِ، وَذٰلِكَ يُطَهِّرُ كُلَّ ٱلأَطْعِمَةِ».

قَلْبِهِ معنى القلب هنا النفس أو الجزء الروحي من الإنسان.

ٱلْجَوْفِ أي المعدة والأمعاء وحاصل كلام المسيح هنا أن بين النفس والجسد أي بين الجزء الروحي الذي ينسب إليه القداسة والخطيئة والجزء الجسدي الذي يتطهر ويتنجس بالطعام تمام الانفصال.

يُطَهِّرُ كُلَّ ٱلأَطْعِمَةِ الذي يُطهر هو الجهاز الهضمي الذي ذُكر بعضه في ما سبق. فأشار المسيح بهذا إلى ما رتبه الله بالحكمة من أن جسد الإنسان بالهضم والتمثيل ودفع الفضول يتخلص من كل ما ينجسه وينتفع بما يغذيه ويحفظ صحته وطهارته. وأقام المسيح دليلين على أن ما يدخل الفم من الطعام لا يدنس النفس. الأول أن الطعام لا يصل إلى النفس البتة. والثاني أن الجهاز الهضمي الذي صنعه الله للإنسان يدفع كل ما يمكن أن يدنس البدن فيبقى جسده طاهراً.

وتكلم بولس في هذا الموضوع في بعض رسائله (رومية ١٤: ٢ و٣ و١٤ و١كورنثوس ٨).

٢٠ «ثُمَّ قَالَ: إِنَّ ٱلَّذِي يَخْرُجُ مِنَ ٱلإِنْسَانِ ذٰلِكَ يُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ».

بعدما أوضح يسوع أن الطعام لا ينجس الإنسان أدبياً أخذ يبين أنه يوجد ما يدنسه حقيقة وهو ما يخرج منه أي كلامه وسيرته وأعماله التي تدل على افكار قلبه.

يُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ أي يجعله مكروهاً في عيني الله لا يستحق أن يدنو منه تعالى.

٢١ – ٢٣ «٢١ لأَنَّهُ مِنَ ٱلدَّاخِلِ، مِنْ قُلُوبِ ٱلنَّاسِ، تَخْرُجُ ٱلأَفْكَارُ ٱلشِّرِّيرَةُ: زِنىً، فِسْقٌ، قَتْلٌ، ٢٢ سِرْقَةٌ، طَمَعٌ، خُبْثٌ، مَكْرٌ، عَهَارَةٌ، عَيْنٌ شِرِّيرَةٌ، تَجْدِيفٌ، كِبْرِيَاءُ، جَهْلٌ. ٢٣ جَمِيعُ هٰذِهِ ٱلشُّرُورِ تَخْرُجُ مِنَ ٱلدَّاخِلِ وَتُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ».

تكوين ٦: ٥ و٨: ٢١ ومتّى ١٥: ١٩

انظر الشرح متّى ١٥: ١٩ و٢٠

مِنْ قُلُوبِ ٱلنَّاسِ أي الجزء الروحي منهم المشتمل على الذهن والميل والانفعال. فقد أوضح مرقس أكثر من متّى أن القلب ينبوع كل صلاح وشر في الإنسان. فتعليم المسيح ينافي الضلالة التي تمسك بها تلاميذ ماني الفارسي في القرن الثالث للميلاد وهي أن الجسد أصل الخطيئة ومركزها وأن النفس تطهّر بقهر الجسد وإماتة أمياله. وهذه الضلالة كانت عند كثيرين من الوثنيين ولم يخلُ منها بعض الذين يسمون مسيحيين لتمييزهم بين اللحوم والبقول إذ يحرّمون اللحوم في بعض أيام الأسبوع وبعض أسابيع السنة. وذكر متّى في رواية كلام المسيح سبع خطايا فظيعة وذكر مرقس ثلاث عشرة وزاد على ما ذكره متّى سبعاً وترك مما ذكره واحدة. والسبع هي الطمع أي محبة المال الزائدة التي تقود صاحبها إلى ظلم غيره وغشه. والخبث أي الانفعال الشرير على الغير وقصد ضرره. والمكر وهو كل صنوف الخداع. والعهارة وهي إطلاق عنان الشهوات. والعين الشريرة وهي الحسد (متّى ٢٠: ١٥) وهو الحزن لخير الغير. وتطلق أيضاً على الميل إلى مشاهدة الأمور التي تهيج الشهوة الرديئة (متّى ٥: ٢٩). والكبرياء وهي إعجاب الإنسان بنفسه حتى يحتقر غيره من الناس ويبرر نفسه أمام الله. والجهل وهو عدم استعمال القوى التي تميز الإنسان على البهيمة والتصرف بدون خوف الله وإطاعة الضمير. وبداءة هذه القائمة الفظيعة الأفكار الشريرة ونهايتها عدم الفكر والأولى علة التعدي والثانية علة عدم الامتثال. والتي تركها مرقس مما ذكره متّى شهادة الزور. ولعلّ المسيح ذكر غير هذه الخطايا أيضاً. ونقل كل بشير ما وافق قصده. قابل ما ذُكر هنا بما ذُكر في رومية ١: ٢٩ – ٣١ وغلاطية ٥: ١٩ – ٢١.

وفرط طهارة المسيح ومعرفته وفرة شرور الإنسان لا يجعلانه ينفر منه ويبعد عنه بل يحملانه على طلبه لينقذه من الشقاء والهلاك اللذين تلقيه الخطيئة فيهما.

ولنا من تعليم المسيح هنا أربع فوائد:

  1. احتياج الإنسان إلى الولادة الجديدة لأن علة فساده في داخله لا من خارج.
  2. إن من ينسب الإثم إلى الأعمال الخارجية يغلط لأن أكثر الخطايا التي ذكرها المسيح هنا خطايا قلبية ربما لا تظهر للناس فعلاً. والأفعال الشريرة المذكورة هي أدلة على الشر الباطن الهائل.
  3. جهل الذين يتوهمون أن النجاة من الخطيئة قائمة بالانفراد عن الناس لأن أعظم خطر على الإنسان ليس من التجارب الخارجية بل من الداخلية.
  4. وجوب أعظم الشكر لله تعالى على أنه أعلن لنا في إنجيله طريقاً للنجاة من تدنيس الخطيئة وهو أن دم يسوع المسيح يطهّرنا من كل خطيئة وأن الروح القدس مستعد لتجديد قلوبنا وتقديسها.

شفاء ابنة المرأة الكنعانية ع ٢٤ إلى ٣٠

٢٤ «ثُمَّ قَامَ مِنْ هُنَاكَ وَمَضَى إِلَى تُخُومِ صُورَ وَصَيْدَاءَ، وَدَخَلَ بَيْتاً وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ لاَ يَعْلَمَ أَحَدٌ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَخْتَفِيَ».

متّى ١٥: ٢١

مِنْ هُنَاكَ أي من جوار كفرناحوم وسهل جنيسارت (ص ٦: ٥٣ – ٥٦ ويوحنا ٦: ١٧).

وَمَضَى اغتاظ الفريسيون كثيراً من تعليمه في أمر التدنيس وقصدوا إضراره (متّى ١٥: ١٢). وسأل عنه هيرودس أنتيباس ولم يكن سؤاله لخير (لوقا ٩: ٩). ولذلك طلب الأمن والراحة التي كان يحتاج إليها باعتزاله ذلك المكان قليلاً. والمحل الذي لجأ إليه هو المحل الذي التجأ إليه إيليا في وقت ضيقه (١ملوك ١٧: ١٥ – ٢٤).

تُخُومِ صُورَ وَصَيْدَاءَ انظر الشرح متّى ١٥: ٢١. ومعنى تلك التخوم البلاد المجاورة لتينك المدينتين الفينيقيتين.

دَخَلَ بَيْتاً فراراً من اشتهار مجيئه إلى هنالك ولكن خبره سبق وصوله (متّى ٤: ٢٤ وص ٣: ٨).

فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَخْتَفِيَ قصده الناس إما لمشاهدته أو لرغبتهم في الشفاء لهم أو لمعارفهم المرضى.

٢٥ «لأَنَّ ٱمْرَأَةً كَانَ بِٱبْنَتِهَا رُوحٌ نَجِسٌ سَمِعَتْ بِهِ، فَأَتَتْ وَخَرَّتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ».

ترك مرقس ما ذكره متّى من أن المرأة الكنعانية كانت تصرخ وراءه قبل أن دخل البيت وأنه لم يلتفت إليها وأن الرسل توسطوا لها عبثاً (متّى ١٥: ٢٢ و٢٤). وترك أيضاً قول المسيح لتلاميذه «لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة». ولعلّ سبب تركه ذلك القول أنه كتب إنجيله للأمم وخاف أن يذكره لئلا يظن الأمم أن بشارة الخلاص لليهود فقط على أن المسيح لم يقصد بذلك سوى مناداته الشخصية وهو على الأرض.

٢٦ «وَكَانَتْ ٱلْمَرْأَةُ أُمَمِيَّةً، وَفِي جِنْسِهَا فِينِيقِيَّةً سُورِيَّةً – فَسَأَلَتْهُ أَنْ يُخْرِجَ ٱلشَّيْطَانَ مِنِ ٱبْنَتِهَا».

أُمَمِيَّةً وهي في الأصل «ألينس» أي يونانية وأطلقت هذه النسبة على كل من لم يكن يهودياً فأشار بقوله أممية إلى دينها أي إلى أنها وثنية.

فِينِيقِيَّةً سُورِيَّةً هذه نسبة إلى موطنها وزاد قوله سورية تمييزاً لفينيقية المذكورة هنا عن فينيقية التي في شمال أفريقية وتعرف بفينيقية ليبية. وزاد متّى على وصف تلك المرأة أنها كنعانية إشارة إلى أن أصلها من الأمم التي طردها بنو إسرائيل من بلادهم في اليهودية.

٢٧ – ٢٩ «٢٧ وَأَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ لَهَا: دَعِي ٱلْبَنِينَ أَوَّلاً يَشْبَعُونَ، لأَنَّهُ لَيْسَ حَسَناً أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ ٱلْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَبِ. ٢٨ فَأَجَابَتْ: نَعَمْ يَا سَيِّدُ! وَٱلْكِلاَبُ أَيْضاً تَحْتَ ٱلْمَائِدَةِ تَأْكُلُ مِنْ فُتَاتِ ٱلْبَنِينَ. ٢٩ فَقَالَ لَهَا: لأَجْلِ هٰذِهِ ٱلْكَلِمَةِ ٱذْهَبِي. قَدْ خَرَجَ ٱلشَّيْطَانُ مِنِ ٱبْنَتِكِ».

انظر الشرح متّى ١٥: ٢٥ – ٢٩.

دَعِي ٱلْبَنِينَ أَوَّلاً يَشْبَعُونَ هذه العبارة لم يذكرها متّى وفيها وعد بأن مواهب المسيح بعد أن تقدم لليهود الشعب المختار تقدم للأمم أيضاً وفيها بيان لسبب عدم إجابة المسيح في الحال لطلبة المرأة لأنه أراد أن يعلم الرسل أن وقت تبشير الأمم لم يكن قد أتى. وقصد أيضاً أن يمتحن إيمان المرأة وثبوتها. وأن يعلمنا وجوب الإيمان والثبات لنوال أجوبة صلواتنا.

٣٠ «فَذَهَبَتْ إِلَى بَيْتِهَا وَوَجَدَتِ ٱلشَّيْطَانَ قَدْ خَرَجَ، وَٱلابْنَةَ مَطْرُوحَةً عَلَى ٱلْفِرَاشِ».

وَوَجَدَتِ ٱلشَّيْطَانَ قَدْ خَرَجَ أي تحققت لما بلغت بيتها قول المسيح صحيح.

مَطْرُوحَةً عَلَى ٱلْفِرَاشِ أي في حال الراحة والسلام. وهذا دليل على خروج الشيطان ورجوع الصحة كما أن عدم الراحة تكون دليلاً على بقائه فيها (ص ٥: ٥).

إبراء أصمّ أعقد ع ٣١ إلى ٣٧

٣١ «ثُمَّ خَرَجَ أَيْضاً مِنْ تُخُومِ صُورَ وَصَيْدَاءَ، وَجَاءَ إِلَى بَحْرِ ٱلْجَلِيلِ فِي وَسْطِ حُدُودِ ٱلْمُدُنِ ٱلْعَشْرِ».

متّى ١٥: ٢٩

يحتمل هذا الكلام في الأصل اليوناني أن المسيح مرّ في صيدا أو الأرض التابعة لها في طريقه. ونستنتج من ذكر مرقس صور قبل صيدا في الكلام على سفر المسيح أنه سار من الجنوب إلى الشمال ثم دار إلى الشرق ولا بد من أسباب حملته على تلك الدورة وعلى ذهابه إلى المدن العشر التي هي على الجانب الشرقي من بحر طبرية (متّى ٤: ٢٥ ومرقس ٥: ٢٠) وفي تلك البلاد أخرج اللجئون من المجنون وسأله بعض السكان هناك أن ينصرف عن تخومهم (ص ٥: ١٥ و١٧).

٣٢ «وَجَاءُوا إِلَيْهِ بِأَصَمَّ أَعْقَدَ، وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ».

متّى ٩: ٣٢ ولوقا ١١: ١٤

قال متّى أن المسيح صنع معجزات كثيرة في تلك الكورة مع أنه قصدها بغية الراحة والنجاة من أعدائه (متّى ١٥: ٢٩) ومن تلك المعجزات أنه جعل الخرس يتكلمون. واقتصر مرقس على ذكر واحدة منها لم يذكرها غيره بخصوصها. ولعلّ سبب ذلك اختلاف طريق الشفاء فيها عما اعتاده يسوع.

وَجَاءُوا إِلَيْهِ لم يذكر مرقس من هم الذين جاءوا إليه ولكن القرينة تدل على أنهم أصحاب المُصاب. وأتوا به إليه لأنه لم يستطع أن يعرف ما الذي يقدر المسيح أن يفعله له ولم يستطع أن يطلب شيئاً لنفسه نظراً لبليته.

بِأَصَمَّ أَعْقَدَ أي أطرش أخرس ولعلّ سبب عقده مجرد صممه لأنه يظهر من الكلام بعد أنه كان يصوت أصواتاً لا تُفهم (ع ٣٥).

أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ سأل أصحاب الأعقد ذلك لاعتقادهم أن الشفاء يتوقف على اللمس واستنتجوا ذلك إما مما شاهدوا من المسيح قبلاً وإما مما اعتادوه من وضع اليد للبركة. ومثل ذلك كان نعمان الأبرص يتوقع البرء من إيليا (٢ملوك ٥: ١١). لكن المسيح لم يستحسن إبراءه كما سألوه.

٣٣ «فَأَخَذَهُ مِنْ بَيْنِ ٱلْجَمْعِ عَلَى نَاحِيَةٍ، وَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِي أُذُنَيْهِ وَتَفَلَ وَلَمَسَ لِسَانَهُ».

ص ٨: ٢٣ ويوحنا ٩: ٦

لم يقتصر المسيح على طريق واحد للشفاء بل اتخذ طرقاً مختلفة وشفى البعض بين الجموع وشفى البعض بانفراد عنهم وأبرأ البعض بالكلمة والبعض باللمس والبعض بإرساله إلى بركة يغتسل منها وشفى أكثر المرضى دفعة واحدة وبعضها تدريجياً (ص ٨: ٢٣ – ٢٥). وسلك المسيح طرقاً مختلفة للشفاء لما عرفه من احتياج المصابين أو المشاهدين إلى تنبيه إيمانهم ولكي يضع أساساً يبني عليه تعليماً روحياً.

عَلَى نَاحِيَةٍ انفرد المسيح بالأعقد عن الجمع لكي يوجه كل قواه إلى عمل المسيح وليتأثر بذلك كل التأثير. وكثيراً ما ينفرد المسيح اليوم ببعض الناس بالأمراض من أسواق التجارة وشوارع الأعمال ليكلم نفوسهم ويشفي أمراضها. وربما أراد بالانفراد بذلك الأصم الأعقد أن يكون أول صوت يسمعه صوت ربه لا أصوات الجمع.

أَصَابِعَهُ… وَتَفَلَ وَلَمَسَ الخ هذه الأعمال الثلاثة إشارات لا وسائط للشفاء لأن صممه وعقده كانا مانعين من تعليمه بالكلام. فاستعمل المسيح الإشارات بدلاً من اللفظ لكي ينبه رجاءه نوال البركة وإيمانه بالمسيح. ولمس أذنه المسدودة ولسانه المربوط إيماء إلى أنه يفتح الأذن ويحل اللسان. ووضع شيئاً من ريق لسانه على لسان الأعقد لا لكون ذلك الريق دواء بل لبيان أن قوة الشفاء منه. والأرجح أن المعنى بالتفل هنا أخذ المسيح ريقه بإصبعه ووضعه على لسان ذلك الأعقد.

٣٤ «وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ وَأَنَّ وَقَالَ لَهُ: إِفَّثَا. أَيِ ٱنْفَتِحْ».

ص ٦: ٤١ ويوحنا ١١: ٤١ و١٧: ١، يوحنا ١١: ٣٣ و٣٨

وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ هذا يدل غالباً على الصلاة لله الذى حضرة مجده الأسمى في السماء (مزمور ١٢١: ١ و٢ وص ٦: ٤١). ولا ريب أن المسيح كان يعمل المعجزات بسلطانه لكنه نظر هنا إلى السماء بياناً لاتحاده بالآب في الشعور والعمل كما في متّى ١٤: ١٩.

وَأَنَّ ربما لم يفعل يسوع ذلك لتعليم المصاب بل لإظهار انفعالات قلبه وأنه حزين على بلاء ذلك الإنسان الذي هو إحدى نتائج الخطيئة وأن ذلك ذكّره مصائب كل الجنس البشري. وأنينه هنا كاضطرابه وبكائه على قبر لعازر (يوحنا ١١: ٣٣) فهو «فِي كُلِّ ضِيقِهِمْ تَضَايَقَ» (إشعياء ٦٣: ٩).

إِفَّثَا ذكر مرقس هنا لفظ المسيح عينه كما أعلمه بطرس الذي سمع المسيح بأذنه. وترجمها مرقس لإفادة قراء إنجيله الرومانيين. وأمر المسيح بذلك أذناً مسدودة لكي تنفتح.

٣٥ «وَلِلْوَقْتِ ٱنْفَتَحَتْ أُذْنَاهُ، وَٱنْحَلَّ رِبَاطُ لِسَانِهِ، وَتَكَلَّمَ مُسْتَقِيماً».

إشعياء ٣٥: ٥ و٦ ومتّى ١١: ٥

وَٱنْحَلَّ رِبَاطُ لِسَانِهِ هذا مجاز كما في لوقا ١٣: ١٦ أريد به زوال الموانع لتكلمه كسائر الناس. وكان ذلك العمل رمزاً إلى ما يعمله المسيح في كل مكان وزمان من فتح الآذان المسدودة عن سمع كلام الله وحل الألسنة المعقودة عن التسبيح له تعالى إتماماً لقول إشعياء «حِينَئِذٍ تَتَفَتَّحُ عُيُونُ ٱلْعُمْيِ، وَآذَانُ ٱلصُّمِّ تَتَفَتَّحُ» (إشعياء ٣٥: ٥ ومتّى ١٣: ١٦).

٣٦ «فَأَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ. وَلٰكِنْ عَلَى قَدْرِ مَا أَوْصَاهُمْ كَانُوا يُنَادُونَ أَكْثَرَ كَثِيراً».

ص ٥: ٤٣

أَوْصَاهُمْ أي أوصى أصحاب الذي شفاه الذين تركوا الجميع وانفردوا لمشاهدة المعجزة وأسباب إيصائه إياهم مثل ما ذُكر قبلاً (متّى ٩: ٣٠).

٣٧ «وَبُهِتُوا إِلَى ٱلْغَايَةِ قَائِلِينَ: إِنَّهُ عَمِلَ كُلَّ شَيْءٍ حَسَناً! جَعَلَ ٱلصُّمَّ يَسْمَعُونَ وَٱلْخُرْسَ يَتَكَلَّمُونَ!».

عَمِلَ كُلَّ شَيْءٍ حَسَناً يصدق على كل أعمال المسيح على الأرض ما قيل على عمل الله في بدع العالم (تكوين ١: ٣١). فالمسيح بادع الخليقة الجديدة الروحية يستحق المجد الذي استحقه مبدع العالم المادي لأنه أظهر مثله من صنوف القوة والحكمة والجودة وشهادة سكان العشر مدن الوثنيين بناء على ما شاهدوه من آيات الشفاء تصدق على كل أعمال المسيح في الأرض والسماء.

جَعَلَ ٱلصُّمَّ يَسْمَعُونَ الخ هذا يدل على أن المسيح صنع معجزات كثيرة غير المذكورة آنفاً.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى