إنجيل مرقس | 04 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح إنجيل مرقس
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح الرابع
مثل الزارع ع ١ إلى ٩
١ «وَٱبْتَدَأَ أَيْضاً يُعَلِّمُ عِنْدَ ٱلْبَحْرِ، فَٱجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ حَتَّى إِنَّهُ دَخَلَ ٱلسَّفِينَةَ وَجَلَسَ عَلَى ٱلْبَحْرِ، وَٱلْجَمْعُ كُلُّهُ كَانَ عِنْدَ ٱلْبَحْرِ عَلَى ٱلأَرْضِ».
متّى ١٣: ١ ولوقا ٨: ٤
حدث هنا مثل ما حدث قبلاً (ص ٣: ٩) فإن الجموع الكثيرة ازدحمت عليه فاضطر إلى أن ينزل إلى السفينة ويخاطبهم منها وهم على الشاطئ. ولا ريب في أنه بنى أمثاله على المناظر المحيطة به ولا بد من أنه كان وراء الناس هنالك حقول مزروعة بينها مسالك للمرور. وربما كان بين زروعها شوك وزوان وبعض نبات الخردل مرتفعاً على غيره وكان زرع بعض المحال قليلاً لأن تربته محجرة وزرع البعض كثيراً لخصب تربته وأسراب من الطيور تطير فوقها (متّى ١٣: ١ و٢).
٢ – ٩ «٢ فَكَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَثِيراً بِأَمْثَالٍ. وَقَالَ لَهُمْ فِي تَعْلِيمِهِ: ٣ ٱسْمَعُوا. هُوَذَا ٱلّزَارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ، ٤ وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى ٱلطَّرِيقِ، فَجَاءَتْ طُيُورُ ٱلسَّمَاءِ وَأَكَلَتْهُ. ٥ وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى مَكَانٍ مُحْجِرٍ، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ، فَنَبَتَ حَالاً إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُمْقُ أَرْضٍ. ٦ وَلٰكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ ٱلشَّمْسُ ٱحْتَرَقَ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ. ٧ وَسَقَطَ آخَرُ فِي ٱلشَّوْكِ، فَطَلَعَ ٱلشَّوْكُ وَخَنَقَهُ فَلَمْ يُعْطِ ثَمَراً. ٨ وَسَقَطَ آخَرُ فِي ٱلأَرْضِ ٱلْجَيِّدَةِ، فَأَعْطَى ثَمَراً يَصْعَدُ وَيَنْمُو، فَأَتَى وَاحِدٌ بِثَلاَثِينَ وَآخَرُ بِسِتِّينَ وَآخَرُ بِمِئَةٍ. ٩ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!».
ص ١٢: ٣٨، يوحنا ١٥: ٥ وكولوسي ١: ٦
هذا وافق ما قاله متّى (متّى ١٣: ٣ – ٩). سوى أن مرقس بعد أن ذكر طلوع الشوك وخنقه الزرع كما ذكر متّى زاد قوله «فَلَمْ يُعْطِ ثَمَراً» (ع ٧) وقوله في الزرع الذي وقع على الأرض الجيدة «يَصْعَدُ وَيَنْمُو» (ع ٨).
إظهار الحق للبعض وإخفاؤه على البعض ع ١٠ إلى ١٢
١٠ «وَلَمَّا كَانَ وَحْدَهُ سَأَلَهُ ٱلَّذِينَ حَوْلَهُ مَعَ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ عَنِ ٱلْمَثَلِ».
متّى ١٣: ١٠ ولوقا ٨: ٩ الخ
وَحْدَهُ أي منفرداً مع تلاميذه بعد انصراف الجموع.
١١، ١٢ «١١ فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا سِرَّ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ. وَأَمَّا ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ فَبِٱلأَمْثَالِ يَكُونُ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ، ١٢ لِكَيْ يُبْصِرُوا مُبْصِرِينَ وَلاَ يَنْظُرُوا، وَيَسْمَعُوا سَامِعِينَ وَلاَ يَفْهَمُوا، لِئَلاَّ يَرْجِعُوا فَتُغْفَرَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ».
١كورنثوس ٥: ١٢ وكولوسي ٤: ٥ و١تسالونيكي ٤: ١٢ واتيموثاوس ٣: ٧، إشعياء ٦: ٩ ومتّى ١٣: ١٤ ولوقا ٨: ١٠ ويوحنا ١٢: ٤٠ وأعمال ٢٨: ٢٦ ورومية ١١: ٨
انظر شرح إنجيل متّى (متّى ١٣: ١٠ – ١٧)
سِرَّ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ أي الحق المكتوم إلاّ لمن أعلنه المسيح لهم وأنارهم الروح القدس. وموضوع هذا السر الخلاص بيسوع المسيح.
ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ اعتاد اليهود أن يسموا الأمم بذلك وأراد به المسيح الذين ليسوا من تلاميذه وعلة كونهم من خارج إرادتهم لأن المسيح لم يمنع أحداً من الإيمان به ليكون داخل دائرة المؤمنين (١كورنثوس ٥: ١٢ و١٣ واتسالونيكي ٤: ١٢ واتيموثاوس ٣: ٧).
لِكَيْ يُبْصِرُوا مُبْصِرِينَ الخ هذا من نبوءة إشعياء (إشعياء ٦: ٩ و١٠) وتم هذا بعض التمام في يهود عصر النبي الذين أغلقوا قلوبهم عن قبول كلامه وتم كل التمام في يهود عصر المسيح. وأورد المسيح هذه النبوة بياناً لعلة مخاطبته أولئك الناس بأمثال وهي أمران إظهار الحق وإخفاؤه، فالإظهار لمحبي الحق والمستفيدين منه والإخفاء على مبغضي الحق ورافضيه. وأعلن بذلك شريعة ملكوته وهي أن إثابة الإصغاء إلى الحق وقبوله وطاعته هي زيادة الإنارة والمعرفة الفضلى والإدراك الافضل والإعلان الأكمل. وأن عقاب إغماض العيون عن الحق ومقاومته هو إزالة النور ومنع الفرص وترك الناس في الظلمة التي اختاروها والسماح بأن تزداد قلوبهم قساوة إلى أن يدركهم الهلاك. وهذا العقاب يأتي بعضه طبعاً وبعضه من قضاء الله لقساوة تلك القلوب.
شرح مثل الزارع ع ١٣ إلى ٢٠
١٣ – ٢٠ «١٣ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَمَا تَعْلَمُونَ هٰذَا ٱلْمَثَلَ؟ فَكَيْفَ تَعْرِفُونَ جَمِيعَ ٱلأَمْثَالِ؟ ١٤ اَلّزَارِعُ يَزْرَعُ ٱلْكَلِمَةَ. ١٥ وَهٰؤُلاَءِ هُمُ ٱلَّذِينَ عَلَى ٱلطَّرِيقِ: حَيْثُ تُزْرَعُ ٱلْكَلِمَةُ، وَحِينَمَا يَسْمَعُونَ يَأْتِي ٱلشَّيْطَانُ لِلْوَقْتِ وَيَنْزِعُ ٱلْكَلِمَةَ ٱلْمَزْرُوعَةَ فِي قُلُوبِهِمْ. ١٦ وَهٰؤُلاَءِ كَذٰلِكَ هُمُ ٱلَّذِينَ زُرِعُوا عَلَى ٱلأَمَاكِنِ ٱلْمُحْجِرَةِ: ٱلَّذِينَ حِينَمَا يَسْمَعُونَ ٱلْكَلِمَةَ يَقْبَلُونَهَا لِلْوَقْتِ بِفَرَحٍ، ١٧ وَلٰكِنْ لَيْسَ لَهُمْ أَصْلٌ فِي ذَوَاتِهِمْ، بَلْ هُمْ إِلَى حِينٍ. فَبَعْدَ ذٰلِكَ إِذَا حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ ٱضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ ٱلْكَلِمَةِ فَلِلْوَقْتِ يَعْثُرُونَ. ١٨ وَهٰؤُلاَءِ هُمُ ٱلَّذِينَ زُرِعُوا بَيْنَ ٱلشَّوْكِ: هٰؤُلاَءِ هُمُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ ٱلْكَلِمَةَ، ١٩ وَهُمُومُ هٰذَا ٱلْعَالَمِ وَغُرُورُ ٱلْغِنَى وَشَهَوَاتُ سَائِرِ ٱلأَشْيَاءِ تَدْخُلُ وَتَخْنُقُ ٱلْكَلِمَةَ فَتَصِيرُ بِلاَ ثَمَرٍ. ٢٠ وَهٰؤُلاَءِ هُمُ ٱلَّذِينَ زُرِعُوا عَلَى ٱلأَرْضِ ٱلْجَيِّدَةِ: ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ ٱلْكَلِمَةَ وَيَقْبَلُونَهَا، وَيُثْمِرُونَ وَاحِدٌ ثَلاَثِينَ وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ مِئَةً».
متّى ١٣: ١٩، ١تيموثاوس ٦: ٩ و١٧
راجع بيان ذلك في شرح إنجيل متّى (متّى ١٣: ١٨ – ٢٣).
نستفيد من هذا المثل أن مقدار الخصب كان متوقعاً على كيفية التربة لأن الزرع كان جيداً في الكل والزارع أميناً في عمله وكانت الشمس تشرق على الكل والمطر يقع كذلك. كذلك تأثير الإنجيل يتوقف على استعداد القلوب إلى قبوله. فالأرض الجيدة هي القلب الذي يقبل الحق ويحبه ويطيعه وكل إنسان مطالب بتأثير الإنجيل في نفسه. وطرق سمع الحق بلا فائدة كثيرة ذُكر ثلاث منها هنا. وأما سمع الحق للنفع فله طريق واحدة وهو أن تأتي بثمرّ للتوبة والإيمان والتواضع والقداسة والمحبة.
تعليم المسيح تلاميذه كيف يستعملون المعرفة التي حصلوا عليها منه ع ٢١ إلى ٢٥
٢١ «ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: هَلْ يُؤْتَى بِسِرَاجٍ لِيُوضَعَ تَحْتَ ٱلْمِكْيَالِ أَوْ تَحْتَ ٱلسَّرِيرِ؟ أَلَيْسَ لِيُوضَعَ عَلَى ٱلْمَنَارَةِ؟».
متّى ٥: ١٥ ولوقا ٨: ١٦ و١١: ٣٣
يظهر أن المسيح تكلم ببعض ما ذُكر في هذا الفصل غير مرة. وبعض هذه الأقوال ورد في وعظه على الجبل. وغاية تكريره إياه هنا جعل مثل الزارع يؤثر في قلوبهم.
هَلْ يُؤْتَى بِسِرَاجٍ انظر شرح إنجيل متّى (متّى ٥: ١٤ و١٥).
شبه المسيح تعليمه بسراج في موضع مظلم. وهذا يدل على أنه لم يقصد بتعليمه بالأمثال إخفاء الحق عن طالبيه ولا أن تلاميذه يفعلون كذلك. سمع التلاميذ من المسيح شرح أمثاله واستناروا وقصده بذلك التشبيه أن يبين لهم أنهم مكلّفون بإضاءة ذلك النور وإذاعته. ويحذرهم من توهمهم الذي ينشأ عن تعليمه إياهم على انفراد أن ذلك لنفعهم الخاص. فعلّمهم هو خفية ليعلموا هم جهرة. وهكذا يجب على كل مسيحي أن يُنار ثم يُنير.
٢٢ «لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ خَفِيٌّ لاَ يُظْهَرُ، وَلاَ صَارَ مَكْتُوماً إِلاَّ لِيُعْلَنَ».
متّى ١٠: ٢٦ ولوقا ١٢: ٢
هذا حقيقة معنى المجاز الذي في العدد السابق. انظر شرح إنجيل متّى (متّى ١٠: ٢٦).
وقال المسيح هذا سابقاً للتلاميذ لبيان أنهم وإن أُهينوا مدة يتبررون أخيراً ويُمدحون. وقاله هنا إظهاراً لوجوب أن يعلنوا كل ما تعلموه منه للناس إنارة لهم وإرشاداً إلى الخلاص.
خَفِيٌّ… مَكْتُوماً أشار بهذا إلى تفسير أمثاله لتلاميذه وأن كلاً من ذلك الإخفاء والكتمان كان وقتياً ووسيلة لإذاعته بهم أكثر إذاعة. كان كهنة الأمم الوثنية يميزون بعض أفراد الناس بتعليمهم إياهم ما كتموه من أسرار الدين عن العامة خلافاً لما فعله المسيح.
٢٣ «إِنْ كَانَ لأَحَدٍ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!».
متّى ١١: ١٥ وع ٩
أتى المسيح بهذا التنبيه مراراً كثيرة في تعليمه ومرّ شرحه في شرح بشارة متّى (متّى ١١: ١٥).
٢٤ «وَقَالَ لَهُمُ: ٱنْظُرُوا مَا تَسْمَعُونَ! بِٱلْكَيْلِ ٱلَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ وَيُزَادُ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلسَّامِعُونَ».
متّى ٧: ٢ ولوقا ٦: ٣٨
ٱنْظُرُوا مَا تَسْمَعُونَ أي انتبهوا كل الانتباه لما أقوله لكم لِتُنفَعوا وتنفعوا أي لتفيدوا أنفسكم وتكونوا قادرين على إفادة غيركم وهو المطلوب الأعظم هنا. وما قاله بعد إثبات لهذا أي لوجوب بذل الجهد في انتهاز كل الفرص للإفادة الروحية.
بِٱلْكَيْلِ الخ سبق تفسير هذا القول في متّى ٧: ٢. وورد هناك في الحكم الصارم على الغير أي في أنه يحكم علينا بما نحكم به على غيرنا ولكنه ورد هنا في شأن تعليم المسيح. والمعنى أنّا على قدر ما نصغي إلى كلام المسيح نستفيد فكلما اعتبرنا التعليم وأعززناه زاد لنا. وهذا القانون يُعتبر في تعليمنا غيرنا فإنا على قدر اجتهادنا في تعليم الغير نزيد معرفة.
٢٥ «لأَنَّ مَنْ لَهُ سَيُعْطَى، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ فَٱلَّذِي عِنْدَهُ سَيُؤْخَذُ مِنْهُ».
متّى ١٣: ١٢ و٢٥: ٢٩ ولوقا ٨: ١٨ و١٩: ٢٦
مرَّ شرحه في متّى ١٣: ١٢. ومراد المسيح بإيراده هنا الإيماء إلى أمرين الأول: أن الله يزيد معرفتنا بالروحيات أو يُنقصها على قدر ما نستفيد. والثاني: أن الأمر كذلك في إفادتنا غيرنا. وهذا القانون جار على الروحيات والجسديات. قال سليمان الحكيم «اَلْعَامِلُ بِيَدٍ رَخْوَةٍ يَفْتَقِرُ، أَمَّا يَدُ ٱلْمُجْتَهِدِينَ فَتُغْنِي» (أمثال ١٠: ٤). وقال «يُوجَدُ مَنْ يُفَرِّقُ فَيَزْدَادُ أَيْضاً، وَمَنْ يُمْسِكُ أَكْثَرَ مِنَ ٱللاَّئِقِ وَإِنَّمَا إِلَى ٱلْفَقْرِ. ٱلنَّفْسُ ٱلسَّخِيَّةُ تُسَمَّنُ، وَٱلْمُرْوِي هُوَ أَيْضاً يُرْوَى» (أمثال ١١: ٢٤ و٢٥). فإنا نتعلم بتعليمنا غيرنا ونرتقي في مصعد السماء باجتهادنا في رفع الغير إليها.
مثل نمو الزرع خفية ع ٢٦ إلى ٢٩
٢٦ «وَقَالَ: هٰكَذَا مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ: كَأَنَّ إِنْسَاناً يُلْقِي ٱلْبِذَارَ عَلَى ٱلأَرْضِ».
متّى ١٣: ٢٤
الأرجح أن المسيح قال هذا المثل للجمع كله وهو يخاطبهم من السفينة وهو تابع العدد التاسع وما بينهما جمل معترضة وأتى به مرقس كذلك ليصل الشرح بالمتن. وهذا المثل لم يذكره أحد من الإنجيليين سوى مرقس. وهو موجه بالأكثر إلى الفعلة في كرم الرب ليؤكد لهم النجاح من تعبهم في ذلك الكرم ويعلمهم أن هذا النجاح متوقف على بركة الله لا على تعبهم. ومفاد المثل ما في قول بولس «أَنَا غَرَسْتُ وَأَبُلُّوسُ سَقَى، لٰكِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ يُنْمِي. إِذاً لَيْسَ ٱلْغَارِسُ شَيْئاً وَلاَ ٱلسَّاقِي، بَلِ ٱللّٰهُ ٱلَّذِي يُنْمِي» (١كورنثوس ٣: ٦ و٧). والمعنى أنه كما ينمو الزرع بعد أن يزرعه الإنسان في الأرض بمعزل عن الأعمال البشرية تنمو كلمة الإنجيل بعد تلفظ المبشر بها مستقلة عن عمله متوارية عن نظره بفعل قوة غير قوته وهي قوة روح الله (إشعياء ٥٥: ١٠ و١١ ويعقوب ٥: ٧ و٨ و١بطرس ١: ٢٣ – ٢٥).
إِنْسَاناً لم يقصد بالإنسان هنا المسيح كما قصد به في مثل الزارع في إنجيل متّى ١٣: ٣٧. لانه لا يصح أن ينسب إلى المسيح أنه «لا يعلم كيف» ينمو الزرع الروحي ولا يصح أن يقال أنه يترك الزرع لذاته «وينام ويقوم ليلاً ونهاراً» لأنه هو في كنيسته دائماً يسهر عليها نهاراً وليلاً ويبارك نموها. فالمقصود بالإنسان فلاح من الفلاحين استعير للإنسان المبشر بالإنجيل.
٢٧ « وَيَنَامُ وَيَقُومُ لَيْلاً وَنَهَاراً، وَٱلْبِذَارُ يَطْلُعُ وَيَنْمُو، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ كَيْفَ».
وَيَنَامُ وَيَقُومُ لَيْلاً وَنَهَاراً كعادة الفلاحين بعد زرع الحقول ويأتي ذلك لأنه غير مطالب بنمو الزرع فيقوم ويذهب إلى عمل آخر نهاراً وليلاً لاطمئنانه أن الزرع ينمو ويأتي الحصاد بدون تعبه واعتنائه. كذلك على المبشر بالكلمة الإلهية بعد ما يزرع الحق في آذان الناس وقلوبهم أن يتكل على الله بصبر لكي يُحيي ذلك الزرع ويجعله تعالى مثمراً كما يشاء. فيجب على الإنسان أن لا يكون جزوعاً آيساً إن لم تظهر له النتائج في الحال.
وَٱلْبِذَارُ يَطْلُعُ وَيَنْمُو أي يصير نباتاً بعد أن يكون حباً وهذا ما نعهده طبعاً وهو أنه إذا كان البذار جيداً والأحوال موافقة ظهرت فيه علامات الحياة بعد أيام وأخذ ينمو وسهر الزارع أم لم يسهر اهتم به أم لم يبال. كذلك الحق الذي يسمعه الإنسان او يقرأه في الإنجيل ينتج التوبة والإيمان والقداسة بفعل الروح القدس.
لاَ يَعْلَمُ كَيْفَ النمو من الأسرار التي حجبت عن إدراك البشر لكن الإنسان يعرف ما يحدث من تغيّر الحجم به والكمال وأن نمو النبات لا يقوم إلا بالوسائط كالمطر وضوء الشمس وحرارتها وهذه ليست في سلطانه وهو يجهل علة نمو بعض النباتات ولا يعلم الدقيقة التي يبتدئ البزر ينمو فيها ويعجز عن بيان حقيقة الحياة. وجهل كل ذلك أو معرفته لا يعجل النمو ولا يعوّقه ولا يؤجله. وكذلك الأمر في الروحيات فإنا نجهل كيفية النمو في القداسة إنما نرى النتيجة ونعلم أن هذا النمو يقوم بوسائط كالصلاة وامتحان النفس ودرس كتاب الله وإن كنا لا نعلم كيف يقوم ذلك النمو بتلك الوسائط. وهذا وفق قول المسيح «اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا، لٰكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هٰكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ ٱلرُّوحِ» (يوحنا ٣: ٨). ونجهل علة تأثير الحق في البعض وقلة تأثيره في البعض وعلة نمو البعض في القداسة مع كثرة الموانع وعدم نمو البعض مع كثيرة الوسائط المناسبة.
٢٨ «لأَنَّ ٱلأَرْضَ مِنْ ذَاتِهَا تَأْتِي بِثَمَرٍ. أَوَلاً نَبَاتاً، ثُمَّ سُنْبُلاً، ثُمَّ قَمْحاً مَلآنَ فِي ٱلسُّنْبُلِ».
ٱلأَرْضَ مِنْ ذَاتِهَا تَأْتِي بِثَمَرٍ أي بلا حاجة إلى عمل من أعمال الإنسان. فعمله مقصور على فلاحة الأرض وخدمتها وطرح البذار فيها وسقيها إن اقتضته الحال وهذا نهاية ما عليه. وبعد هذا يفعل الله ما لا يراه الإنسان ليجعل الأرض تُحيي البذار وتُنبتُه وتُنمّيه إلى الكمال. وإسناد الإتيان بثمرّ إلى الارض مجاز عقلي والفاعل الحقيقي هو الله لأنه ليس للارض من إرادة ولا قوة على ذلك. وكذلك القلب البشري لا يستطيع أن يأت بشيء من القداسة من ذاته لكنه إذا اتخذ الوسائط التي عينها الله لنشوء القداسة ونموها في قلبه أو قلب غيره أتى الله وحده بالنتيجة في طريق لا نستطيع معرفتها. وهذا وفق قول بولس الرسول «أَنَا غَرَسْتُ وَأَبُلُّوسُ سَقَى، لٰكِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ يُنْمِي» (١كورنثوس ٣: ٦). وهو لا ينافي وجوب اجتهاد الإنسان في اتخاذ الوسائل للحصول على الحصاد الروحي كما يقتضي ذلك الحصاد المادي. وأشار إلى ذلك بولس بقوله «تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ» (فيلبي ٢: ١٢). وقول بطرس «ٱنْمُوا فِي ٱلنِّعْمَةِ وَفِي مَعْرِفَةِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (٢بطرس ٣: ١٨) وهذا كله لا ينافي كون الله عاملاً في العالم الطبيعي والعالم الروحي حسب شرائع سنتها حكمته الأزلية حتى يستطيع الإنسان معرفة التعبيرات المتوالية ووقت البلوغ وماهيته.
أوَلاً نَبَاتا أراد بالنبات هنا الفرخ ثم الشطء أي أول انشقاق البزر وظهور الأوراق فوق الأرض وفيه بيان حياة البذار.
سُنْبُلاً السنبل هو جزء من النبت فيه الثمرّ كسنابل الحنطة والشعير وغيرهما والمراد به هنا نبتة القمح من ثمرها.
قَمْحاً الخ أي معداً للحصاد. ولهذه الدرجات الثلاث في نمو البنات ما يوافقها في النمو الروحي في المؤمن.
- الأولى: شعوره شيئاً في خطيئته وخطره عند سمعه دعوة المسيح إياه إلى التوبة والإيمان ثم توبته وإيمانه واتكاله على المسيح للخلاص. فيكون حيئنذ ابناً لله مقاماً من الموت لكنه ضعيف في الفضائل المسيحية.
- الثانية: مقاومته التجارب الباطنة والظاهرة وانتصاره على العالم والشهوة والشيطان وتقويته في المحبة والإيمان والطاعة وغيرته في خدمة المسيح وكنيسته.
- الثالثة: تقدمه في التواضع والخضوع لإرادة الله ولذته بتلاوة كتابه المقدس والصلاة وكل الواجبات المسيحية وانتصاره على كل الشكوك في الدين وشعوره أن السماء وطنه وانتشار روح القداسة منه على من حوله بكلامه وسيرته وزوال خوفه من الموت واستعداده لأن ينقل إلى أهراء الرب «كَرَفْعِ ٱلْكُدْسِ فِي أَوَانِهِ» (أيوب ٥: ٢٦). وتلك الدرجات أحوال متوالية في الماديات لا تسبق الثانية الأولى ولا الثالثة الثانية. فلا يتوقع القمح البالغ قبل أن يفرخ. وكذلك لا ينتظر القداسة التامة والاختبار الكامل من المسيحي في أول إيمانه. والحنطة لا تنضج في سنابلها دفعة واحدة وكذلك الثمرّ الروحي. ويحتاج الإنسان إلى تعليم الروح القدس والاختبار من محاربة التجربة والتأديب من المصائب وامتحان إيمانه وصبره. والنبات يحتاج إلى عناية الفلاح للحماية من الضارات له حتى ينتج «قَمْحاً مَلآنَ فِي ٱلسُّنْبُلِ». وهكذا المسيحي في أول حياته الروحية يحتاج إلى التعليم ونصيحة إخوته المتقدمين والتنشيط والتعزية وصلاة الكنيسة من أجله.
والنمو نفسه غير منظور لكن نتائجه ظاهرة وكذلك أثمار المسيحي ظاهرة وإن لم يُنظر تجدّده. وذُكرت تلك الأثمار في رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية (غلاطية ٥: ٢٢ و٢٣).
وكما صدقت المشابهة بين درجات نمو النبات الثلاثة والحياة الروحية على الفرد من المسيحيين تصدق على نمو الكنيسة في العالم كله. والدرجة الأولى كانت من وقت تأسيس الكنيسة المسيحية ومقاومتها الشديدة للأديان الباطلة وانتصارها عليها. والثانية محاربتها التجارب الداخلية من غرور العالم ومن الكبرياء ومن الكفر وانتصارها عليها وغيرتها لأجل انتشار الإنجيل ومجد المسيح. والثالثة ظهور مجدها وكمالها في سيرة أعضائها المقدسة وصورتها المماثلة لصورة رأسها الإلهي وتعلُّم كل أولادها من الله (إشعياء ٥٤: ١٣). وامتلاء الأرض من «مَعْرِفَةِ مَجْدِ ٱلرَّبِّ كَمَا تُغَطِّي ٱلْمِيَاهُ ٱلْبَحْرَ» (حبقوق ٢: ١٤).
٢٩ «وَأَمَّا مَتَى أَدْرَكَ ٱلثَّمَرُ فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُ ٱلْمِنْجَلَ لأَنَّ ٱلْحَصَادَ قَدْ حَضَرَ».
رؤيا ١٤: ١٥
العادة في حصاد القمح أن الذي يزرع يحصد. وعليه جرى المسيح في المثل هنا. والظاهر أنه لم يقصد بذلك إلا ذكره إن تعب الإنسان في الزرع لا يبتدئ ثانية إلا بعد الحصاد وكل ما بين الزرع والحصاد في يد الله. وقصد بذلك تعليمنا التمييز بين فعل الإنسان وفعل الله في نمو الدين المسيحي وانتشاره في العالم. فالإنسان يزرع كلمة الحق والله يجعلها فعالة مثمرة خلاص النفوس. ولكن إذا قيل من هو الذي يحصد الحصاد الروحي الأخير قلنا الجواب في الإنجيل وهو أن الحصادين هم الملائكة الذين يرسلهم ابن الإنسان رب الحصاد. ووقت ذلك الحصاد نهاية العالم عندما يأتي المسيح للدينونة (متّى ١٣: ٣٩). وهذا الحصاد العظيم خلاصة كل الزرع وكل حصاد روحي في عصور العالم (رؤيا ١٤: ١٤ و١٥). وأما حصاد كل فرد مسيحي مستعد للسماء فهو في نهاية حياته. والله يضع المنجل في يد ملاك الموت ليحصد المؤمن من أجله.
وظن بعض المفسرين أن غرض المسيح هنا تعليم تلاميذه أنه عند ما يظهر الإنسان بأعماله تجديد قلبه يُقبَل عضواً في الكنيسة التي هي هُريُ الحصاد الروحي في الحاضر فيكون على هذا التفسير أن المبشر الذي يزرع الكلمة هو الذي يجني الثمرّ الروحي بقبول المؤمن في الكنيسة. وقد نُسب ذلك إلى المبشر في الكتاب الإلهي (مزمور ١٢٦: ٦ ومتّى ٩: ٣٧ و٣٨ ويوحنا ٤: ٣٥ – ٣٨). ولا ريب في أنه يجب على خدمة الدين الاجتهاد في ضم كل المؤمنين بالحق إلى الكنيسة. لكن الأدلة على أن المسيح قصد ذلك هنا ضعيفة. ولا يلزم من قول المسيح «مَتَى أَدْرَكَ ٱلثَّمَرُ فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُ ٱلْمِنْجَلَ» إن الله ينقل كل مسيحي إلى السماء متى رآه مستعداً لذلك لأنه ربما أراد أن يستخدمه بعد ذلك مدة على الأرض فيتركه حياً كما فعل ببولس (فيلبي ١: ٢٣ و٢٤). فالله يأخذ بعض المؤمنين عندما يستعدون ويترك البعض مدة (يوحنا ٢١: ٢٢).
وخلاصة تعليم هذا المثل في الحصاد الروحي ستة أمور:
- إنّه يتعذّر نمو القداسة في قلب الإنسان ما لم تزرع الكلمة الإلهية. لأنه كما أن الأرض لا تنتج من ذاتها سوى شوك وحسك كذلك قلب الإنسان لا ينتج من ذاته إلا شروراً.
- إنّ للإنسان عملاً في حقل الرب وهو زرع كلمة الحق أي التبشير بالإنجيل فيكون بذلك عاملاً مع الله وهذا أعظم شرف للإنسان وأول واجباته (١كورنثوس ٣: ٩).
- إن الزرع الروحاني يحق أن تنتظر نتيجته بعد زرعه بظهور الحياة الروحية والنمو والبلوغ كما يحق أن ينتظر الحصاد في عالم المادة.
- إن النمو الروحي هو عمل الله الخاص ولا يتوقف على تعب الإنسان أو اهتمامه ويأتيه الله في الطريق التي يختارها والوقت الذي يشاء (إشعياء ٥٥: ١٠ و١١ و١كورنثوس ٣: ٦ – ٩ ويعقوب ٥: ٧ و٨ و١بطرس ١: ٢٣ – ٢٥). وهذا العمل الإلهي من وظيفة الروح القدس.
- إن الله يُجري عمله في قلب الإنسان سراً بهدوء وتدريج حتى تكون النتيجة الكمال المسيحي.
- إن الله لا ينقل المؤمنين من الأرض في أول تجدُّدهم لكنه يتركهم على الأرض زماناً كافياً لنموهم التام وبلوغهم الكمال ومتى نقلهم حق لنا أن نستنتج أنهم صاروا مستعدين للسماء وأن الله لا يتوفى أحداً إلا في أجله فلا عرض في ذلك ولا سهو. ولا بد من أن يكون كل من يوحنا المعمدان ويعقوب أخي يوحنا قد استعدا للسماء عندما دعاهما الله إليه وإن كان ذلك في أول خدمتهما إياه.
مثل حبة الخردل ع ٣٠ إلى ٣٤
٣٠ «وَقَالَ: بِمَاذَا نُشَبِّهُ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ أَوْ بِأَيِّ مَثَلٍ نُمَثِّلُهُ؟».
متّى ١٣: ٣١ ولوقا ١٣: ١٨ وأعمال ٢: ٤١ و٤: ٤ و٥: ١٤ و١٩: ٢٠
بِمَاذَا نُشَبِّهُ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ المراد بملكوت الله هنا الدين المسيحي كما ورد في متّى ٣: ٢ و١٣: ٣١. وفي هذا السؤال أظهر المسيح اهتمامه بأن يخاطب الناس على قدر عقولهم وبأن يجد تشابيه وأمثالاً تؤثر في قلوبهم. فيجب على كل مبشر أن يهتم بمثل ذلك. ولعلّ المسيح قصد بهذا السؤال أن ينبه عقول الناس إلى ما يأتي من كلامه كما وقع في متّى ١١: ١٦.
٣١، ٣٢ «٣١ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، مَتَى زُرِعَتْ فِي ٱلأَرْضِ فَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ ٱلْبُزُورِ ٱلَّتِي عَلَى ٱلأَرْضِ. ٣٢ وَلٰكِنْ مَتَى زُرِعَتْ تَطْلُعُ وَتَصِيرُ أَكْبَرَ جَمِيعِ ٱلْبُقُولِ، وَتَصْنَعُ أَغْصَاناً كَبِيرَةً، حَتَّى تَسْتَطِيعَ طُيُورُ ٱلسَّمَاءِ أَنْ تَتَآوَى تَحْتَ ظِلِّهَا».
انظر شرح متّى ١٣: ٣١ و٣٢. ولا فرق في ما نقلاه من كلام المسيح سوى أن مرقس زاد قوله في وصف الأغصان «كبيرة» وأن متّى قال «أن طيور السماء تتآوى في أغصانها» وأن مرقس قال أنها «تَتَآوَى تَحْتَ ظِلِّهَا».
٣٣ «وَبِأَمْثَالٍ كَثِيرَةٍ مِثْلِ هٰذِهِ كَانَ يُكَلِّمُهُمْ حَسْبَمَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَسْمَعُوا».
متّى ١٣: ٣٤ ويوحنا ١٦: ١٢
وَبِأَمْثَالٍ كَثِيرَةٍ لم يذكر مرقس سوى ثلاثة أمثال من الأمثال التي تكلم بها المسيح حينئذ. وأما متّى فذكر سبعة منها وكلها في الأصحاح الثالث عشر من إنجيله.
يُكَلِّمُهُمْ أي يكلم الجموع كما يدل عليه العدد ٣٤.
حَسْبَمَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ الخ أي على قدر فهومهم فالسمع هنا ليس مجرد الإدراك بالأذن. والمسيح بلغهم تدريجاً بتشابيه بسيطة صفات ملكوته الروحية وتأثيرها في قلوب تابعي هذا الملكوت وسيرتهم. أو المعنى أن المسيح كان يكلم الناس على قدر الفرص التي تتوفر له للكلام ولهم للسمع بين آت إليه وراجع عنه.
٣٤ «وَبِدُونِ مَثَلٍ لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ. وَأَمَّا عَلَى ٱنْفِرَادٍ فَكَانَ يُفَسِّرُ لِتَلاَمِيذِهِ كُلَّ شَيْءٍ».
وَبِدُونِ مَثَلٍ لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ (انظر شرح متّى ١٣: ٣٤) كان ذلك مقصوراً على وقت قصير وموضوع واحد هو صفات ملكوته. وأتى هذا تمهيداً للتعاليم المضادة لآرائهم اليهودية وتلطيفاً لتعصبهم. وقصد بذلك إيضاح الحق لمحبيه ومنع أعداء الحق من إصابة ما يشتكون به عليه.
عَلَى ٱنْفِرَادٍ أي بمعزل عن الجمع.
يُفَسِّرُ أي يوضح كل ما لم يفهموه من معاني الأمثال الروحية وتلك التفاسير لم تُكتب هنا ولكن خلاصتها في أعمال الرسل والرسائل كلها. وهنا منتهى أنباء مرقس بأمثال المسيح ولم يذكر سوى ثلاثة أمثال ذكر مع أحدها تفسيره ع ١ – ٢٥ والاثنين بلا تفسير ع ٢٦ – ٣٢.
تسكين يسوع الريح والبحر ع ٣٥ إلى ٤١
٣٥ «وَقَالَ لَهُمْ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ لَمَّا كَانَ ٱلْمَسَاءُ: لِنَجْتَزْ إِلَى ٱلْعَبْرِ».
متّى ٨: ١٨ و٢٣ الخ ولوقا ٨: ٢٢ الخ
بعدما فرغ مرقس من كلامه على أمثال المسيح رجع إلى ذكر معجزاته. وكان ما ذكره منها قبلاً سلطان المسيح على شفاء الأمراض. وأخذ هنا يذكر سلطان المسيح على عالم المادة. وذكر متّى هذه الحادثة في ص ٨: ٢٣ – ٢٧ من بشارته. وجاء مرقس بتفاصيل لم يأت بها متّى وهي تمكننا من أن نتصور الحادثة كأنها جرت أمامنا. فنفهم مما قاله أنها حدثت يوم تكلمه بالأمثال المذكورة وأن نزول المسيح وتلاميذه إلى البحر كان مساء وأنهم نزلوا بغتة إلى السفينة ورافقتهم سفن أخر وأن الريح كانت شديدة حتى كادت تغرق السفينة. وفي شدة الاضطراب كان المسيح نائماً في مؤخر السفينة ورأسه على وسادة حتى عاتبه التلاميذ على ذلك. وأنه انتهر الريح والبحر ووبخ التلاميذ.
فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ أي بعد ما أكمل أمثاله وبعد ما سأله البعض أن يؤذن لهم باتباعهم إياه (متّى ٨: ٢٢).
ٱلْمَسَاءُ كان عند اليهود مساءان. الأول العصر والثاني من بعد الغروب والأرجح أن المراد هنا الثاني.
إِلَى ٱلْعَبْرِ أي إلى الجانب الشرقي من البحر لانهم كانوا على الشاطئ الغربي قرب كفرناحوم (ص ٣: ١٩). ومعظم غاية المسيح من ذلك الاستراحة.
٣٦ «فَصَرَفُوا ٱلْجَمْعَ وَأَخَذُوهُ كَمَا كَانَ فِي ٱلسَّفِينَةِ. وَكَانَتْ مَعَهُ أَيْضاً سُفُنٌ أُخْرَى صَغِيرَةٌ».
كَمَا كَانَ أي بدون مهلة ولا استعداد وكان ذلك على أثر فراغه من التعليم وكان حينئذ في السفينة (ع ١). وإن كان صعد إلى الشاطئ فقد رجع إليها (لوقا ٩: ٥٧ – ٦٢).
سُفُنٌ أُخْرَى رغبة الجموع في سمع تعليمه ومشاهدة معجزاته التي حملتهم على الازدحام عليه براً حملت بعضهم على أن يتبعوه بحراً إلى العبر. والأرجح أن سفن هؤلاء رجعت عنه وقت اشتداد الريح واضطراب البحر.
٣٧ «فَحَدَثَ نَوْءُ رِيحٍ عَظِيمٌ، فَكَانَتِ ٱلأَمْوَاجُ تَضْرِبُ إِلَى ٱلسَّفِينَةِ حَتَّى صَارَتْ تَمْتَلِئُ».
نَوْءُ رِيحٍ عَظِيمٌ سطح بحر الجليل منخفض نحو ست مئة قدم عن بحر الروم والأرض المحيطة به عالية ولذلك عُرّض لاضطربات عظيمة من شدة قصف الرياح الهابطة عليها من تلك الأرض المرتفعة فتتهيج اللجة تهييجاً عظيماً يُعرّض به المسافرون فيه للخطر.
صَارَتْ تَمْتَلِئُ انظر شرح إنجيل متّى (متّى ٨: ٢٤).
٣٨ «وَكَانَ هُوَ فِي ٱلْمُؤَخَّرِ عَلَى وِسَادَةٍ نَائِماً. فَأَيْقَظُوهُ وَقَالُوا لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟».
وِسَادَةٍ هي مخدّة من مخدّات السفينة توضع غالباً في المؤخر.
أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ هذا قول بعض التلاميذ وأما البعض فقالوا «يَا سَيِّدُ، نَجِّنَا فَإِنَّنَا نَهْلِكُ» (متّى ٨: ٢٥). وقال غيرهم «يَا مُعَلِّمُ، إِنَّنَا نَهْلِكُ» (لوقا ٨: ٢٤). وكل ذلك يدل على خوف التلاميذ وعجزهم وتضرعهم وتوجيههم بعض العتاب إلى معلمهم. وما نقله مرقس من كلامهم هنا أوضح من غيره دلالة على ضعف إيمانهم وعلى معاتبتهم المسيح كأنه لا يبالي بهم.
٣٩ «فَقَامَ وَٱنْتَهَرَ ٱلرِّيحَ، وَقَالَ لِلْبَحْرِ: ٱسْكُتْ. اِبْكَمْ. فَسَكَنَتِ ٱلرِّيحُ وَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ».
ٱنْتَهَرَ ٱلرِّيحَ، وَقَالَ لِلْبَحْرٍ ٱسْكُتْ. اِبْكَمْ خاطب الريح والبحر كأنهما من عبيده مجبوران على الخضوع له.
هُدُوءٌ عَظِيمٌ سكون الأمواج مع سكون الريح يدل على أن ذلك الهدوء كان معجزة لا عرضاً وأن يسوع هو الله.
٤٠ «وَقَالَ لَهُمْ: مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ هٰكَذَا؟ كَيْفَ لاَ إِيمَانَ لَكُمْ؟».
مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ ذكر متّى توبيخ المسيح لتلاميذه قبل أن ذكر تسكينه للبحر لكنه لم يقل أن التوبيخ كان قبل التسكين. وذكر مرقس ولوقا التوبيخ بعد التسكين والأرجح أن قولهما هو الواقع. لأن من كان في الخطر الشديد مثلهم لا يلتفت إلى توبيخ ولا ينتفع به. ولعله قال للتلاميذ أولاً لا تخافوا وسكن البحر ثم لامهم. والأرجح أن خطابه في التأمين والملامة كان عدة جمل اقتصر متّى على ذكر قوله «مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ يَا قَلِيلِي ٱلإِيمَانِ» (متّى ٨: ٢٦) واقتصر مرقس على ما ذكره هنا. واقتصر لوقا على قوله «أَيْنَ إِيمَانُكُمْ» (لوقا ٨: ٢٥). ولعلهم لم يقصده أحد منهم كلام المسيح بلفظه بل خلاصة معناه.
كَيْفَ لاَ إِيمَانَ لَكُمْ كان إيمانهم كالعدم بالنسبة إلى ما كان يجب عليهم. وما كان لهم من الإيمان القليل (كما ظهر من استغاثتهم بالمسيح) لم يكن كافياً لأن يقيهم من الخوف واليأس.
٤١ «فَخَافُوا خَوْفاً عَظِيماً، وَقَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَنْ هُوَ هٰذَا؟ فَإِنَّ ٱلرِّيحَ أَيْضاً وَٱلْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!».
خافوا قبلاً من النوء وخافوا هنا أكثر الخوف من قوة المسيح الفائقة التي لم يشاهدوا مثلها منه قبلاً ولم يخطر على بالهم أن له مثل تلك القوة فكانت إعلاناً جديداً لهم.
ولنا من ذلك ست فوائد:
- الأولى: إنّ يسوع هو رب عالم الطبيعة لأن العناصر كلها خاضعة لسلطانه. وأنه إنسان تام كما هو إله تام لأنه تعب واحتاج إلى راحة النوم.
- الثانية: إنّ حضور المسيح بين المؤمنين به لا يمنع وقوع الخطر والتجربة. لكن مع ذلك يجب أن يطمئنوا لأن المسيح بحضوره معهم يدفع عنهم كل ضرر حقيقي.
- الثالثة: إنه ليس لنا حق أن نقول للمسيح في وقت مصائبنا «أما يهمك أننا نهلك» لأنّ عدم إنقاذه إيانا حالاً ليس بدليل على عدم اهتمامه بنا.
- الرابعة: إنا متى سلمنا أنفسنا إلى الخوف واليأس على ما يلّم من المصائب بنا أو بأولادنا أو بكنيستنا أو بأمتنا حق للمسيح أن يعاتبنا بقوله «مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ هٰكَذَا».
- الخامسة: إن المسيح لا يغتاظ من استغاثتنا به في كل حين ولا يرفض صلاتنا وإن كان إيماننا ضعيفاً. إنما أعظم ما يغيظه هو عدم الثقة به في الخطر.
-
السادسة: إن المسيح يبطئ أن يساعدنا في وقت الضيق كأنه نائم ولكنه لا بد من أن ينجينا أخيراً (مرقس ٦: ٤٨ ويوحنا ١١: ٦ و٤٣).
السابق |
التالي |