إنجيل مرقس | 01 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح إنجيل مرقس
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح الأول
يوحنا المعمدان وتعليمه من ع ١ إلى ٨ (سنة ٢٦ و٢٧ ب. م)
١ «بَدْءُ إِنْجِيلِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ».
متّى ١٤: ٣٣ ولوقا ١: ٣٥ ويوحنا ١: ٣٤
هذا العدد كله عنوان هذه البشارة
بَدْءُ بدء الإنجيل الأصلي هو مقاصد الله الأزلية المتعلقة بخلق الإنسان وفدائه بعد السقوط بواسطة موت ابنه الإنسان يسوع المسيح. وكان بدء إظهار الإنجيل يوم سقوط الإنسان وتوقف الله عن عقابه ووعده الوعد الأول بالفادي. ويمكن الكاتب أن يجعل بدء الإنجيل ميلاد الفادي يسوع المسيح أو أول ممارسته خدمته العلنية. فاختار مرقس أن يجعل بدء الإنجيل الأمر الأخير بخلاف متّى فإنه ابتدأ بذكر نسب المسيح وبخلاف لوقا فإنه ابتدأ بذكر ميلاد المسيح وبخلاف يوحنا فإنه ابتدأ بذكر الكلمة الأزلية قبل إنشاء العالم.
إِنْجِيلِ وردت هذه اللفظة خمساً وسبعين مرة في العهد الجديد ومعناها الأصلي بشارة أي خبر سارّ. وجاء الإنجيل في تلك المرار لثلاثة معانٍ:
- الأول: الخبر السار بملكوت الله على الأرض (متّى ٤: ٢٣ ومرقس ١: ١٤).
- الثاني: خبر يسوع وعمله الفداء شفاهاً وكتابة (٢تيموثاوس ٢: ٨).
- الثالث: دين المسيح كله (١كورنثوس ١٥: ١)
يَسُوعَ أي مخلص (متّى ١: ٢١)
ٱلْمَسِيحِ أي الممسوح (متّى ١: ١)
ٱبْنِ ٱللّٰهِ كتب متّى إلى اليهود فبيّن لهم أن يسوع هو المسيح الموعود في نبوءات العهد القديم باقتباس خمساً وسبعين نبوءة تمت به. فكان عليه أن يبين لهم أن يسوع ابن داود وابن إبراهيم بموجب تلك النبوءات. وأما مرقس فكتب إلى الأمم فأخذ يبين أن يسوع ابن الله وسماه كذلك وبرهن على ذلك بأعمال يسوع الخارقة الطبيعة في ما أظهره من الرحمة والانتصار على الأعداء. وليس المراد بكون المسيح ابن الله إنه مخلوق كما ورد بعض الأحيان أو أنه مجرد محبوب إليه تعالى بل المراد به النسبة الأزلية أي أن جوهر الابن هو جوهر الآب وأنه مساوٍ له في القدرة والمجد (متّى ٣: ١٧ ويوحنا ٥: ١٨).
٢، ٣ «٢ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي ٱلأَنْبِيَاءِ: هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي، ٱلَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ. ٣ صَوْتُ صَارِخٍ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ، ٱصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً».
ملاخي ٣: ١ ومتّى ١١: ١ ولوقا ٧: ٢٧، إشعياء ٤٠: ٣ ومتّى ٣: ٣ ولوقا ٣: ٤ ويوحنا ١: ١٥ و٢٣
كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي ٱلأَنْبِيَاءِ علق مرقس هنا بدء إنجيل يسوع المسيح بنهاية العهد القديم. وقرن شهادة آخر الأنبياء بشهادة سابق المسيح مع أنه كان بينهما نحو أربع مئة سنة والمشهود له بالشهادتين واحد. ومصدرهما الأصلي واحد وهو روح الله. والمراد بالأنبياء هنا كتاب نبوءاتهم لأن الشهادة من اثنين منهم وهما ملاخي وإشعياء (ملاخي ٣: ١ وإشعياء ٤٠: ٣) فجمع شهادتي هذين شهادة واحدة مع أن أحدهما كان قبل الآخر بنحو ٣٦٠ سنة وعلة ذلك وحدة الموضوع.
هَا أَنَا أُرْسِلُ هذا قول الله الآب.
أَمَامَ وَجْهِكَ المخاطب هنا يسوع المسيح الذي سمي في نبوءة ملاخي ملاك العهد ورب الهيكل.
مَلاَكِي أي رسولي وهو يوحنا المعمدان كما قال المسيح (متّى ١١: ١٠).
يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ (انظر شرح متّى ٣: ٣ و٤). إن العالم فسد فلذلك لم يكن مستعداً لقبول ملاك عهد الرحمة الإلهية ما لم يأته أولاً ملاك التوبيح والإنذار ليعد له الطريق.
٤ «كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ وَيَكْرِزُ بِمَعْمُودِيَّةِ ٱلتَّوْبَةِ لِمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا».
متّى ٣: ١ ولوقا ٣: ٣ ويوحنا ٣: ٢٣
كَانَ يُوحَنَّا ذكر مرقس يوحنا متمماً للنبوءتين السابقتين وجعل كرازة يوحنا المعمدان مقدمة لإنجيل يسوع وجزءاً منه.
يُعَمِّدُ أي يمارس خدمته التي كانت المعمودية إشارة إليها وختماً لها.
فِي ٱلْبَرِّيَّةِ أي برية يهوذا (متّى ٣: ١).
وَيَكْرِزُ أي ينادي بمعمودية التوبة ويدعو الناس إلى قبولها.
بِمَعْمُودِيَّةِ ٱلتَّوْبَةِ هي وضع الماء على الشخص إشارة إلى توبته عن الخطيئة وكرهه إياها وإصلاح سيرته. والتطهير بالماء رمز إلى التطهير الواجب في القلب وفي السيرة. ولا تنفع هذه المعمودية الإنسان ما لم تقترن بها المعمودية بالروح القدس.
لِمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا أي رفع القصاص التي توجبه الخطيئة عن الإنسان ومنعها من الاستيلاء عليه وتطهير قلبه من دنسها (متّى ٢٦: ٢٨). والتوبة استعداد لنوال المغفرة والشرط الضروري لمنح المسيح إياها. وكما كان عمل يوحنا استعداداً للمعمودية المسيحية.
والمسيح بعد ما قام من الموت وكّل تلاميذه أن ينادوا لكل أمم الأرض بما كرز به يوحنا (لوقا ٢٤: ٤٧).
٥ «وَخَرَجَ إِلَيْهِ جَمِيعُ كُورَةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَأَهْلُ أُورُشَلِيمَ وَٱعْتَمَدُوا جَمِيعُهُمْ مِنْهُ فِي نَهْرِ ٱلأُرْدُنِّ، مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ».
متّى ٣: ٥ و٦
بعد أن ذكر مرقس محل كرازة يوحنا وماهيتها أخذ يبين كيف قبلها الناس.
جَمِيعُ كُورَةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ أي كل سكانها (متّى ٣: ٥). ويتضح لنا من ذلك أن أتى إليه جموع كثيرة ومن جملة من خرج إليه الفريسيون والصدوقيون (متّى ٣: ٧) والعشارون (لوقا ٣: ١٢) وأغنياء وفقراء (لوقا ٣: ١٠).
فِي نَهْرِ ٱلأُرْدُنِّ تبيين مرقس أن الأردن نهر من الأدلة على أنه كتب إنجيله إلى الرومانيين لا لليهود. والأردن أكبر نهر في فلسطين منبعه في حضيض جبل حرمون (أي جبل الشيخ) يمرّ في بحيرتين بحيرة ميروم (أي بحيرة الحولة) وبحيرة طبرية ومصبه في بحر لوط. طوله نحو ثلاث مئة ميل وهو كثير التعاريج عميق الماء سريع الجريان وواديه أخفض من سطح البحر المتوسط. والأرجح أن علة ذهاب الناس إلى الأردن ليعتمدوا كونه أقرب مكان فيه ماء من البرية التي كان يكرز فيها واحتياج تلك الجموع إلى كثير من الماء للقيام بلوازمهم ولوازم دوابهم فليس هو بدليل على كيفية معمودية يوحنا.
٦ «وَكَانَ يُوحَنَّا يَلْبَسُ وَبَرَ ٱلإِبِلِ، وَمِنْطَقَةً مِنْ جِلْدٍ عَلَى حَقَوَيْهِ، وَيَأْكُلُ جَرَاداً وَعَسَلاً بَرِّيّا».
متّى ٣: ٤ لاويين ١١: ٢٢
ذكر مرقس هنا ملبوس يوحنا ومأكوله كما ذكره متّى (متّى ٣: ٤). وكان كلاهما مناسباً لدعوته الناس إلى التوبة ولكونه شبيه إيليا.
٧، ٨ «٧ وَكَانَ يَكْرِزُ قَائِلاً: يَأْتِي بَعْدِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، ٱلَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَنْحَنِيَ وَأَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ. ٨ أَنَا عَمَّدْتُكُمْ بِٱلْمَاءِ، وَأَمَّا هُوَ فَسَيُعَمِّدُكُمْ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ».
متّى ٣: ١١ ويوحنا ١: ٢٧ وأعمال ١٣: ٢٥، أعمال ١: ٥ و١١: ١٦ و١٩: ٤، إشعياء ٤٤: ٣ ويوئيل ٢: ٢٨ وأعمال ٢: ٤ و١٠: ٤٥ و١١: ١٥ و١٦ و١كورنثوس ١٢: ١٣
اقتصر مرقس على خلاصة مناداة يوحنا فكان كلامه على ذلك أقصر من كلام متّى عليه (متّى ٣: ٧ – ١٠) وأقصر من كلام لوقا (لوقا ٣: ٧ – ١٥). ومضمون تلك الخلاصة أمران:
- الأول: أنّ مقام يوحنا دون مقام المسيح أي أنه لم يكن السيّد بل العبد وأن الفرق بينه وبين يسوع المسيح أعظم من الفرق بين السيّد وأدنى عبيده.
- والثاني: أنّ خدمة يوحنا كانت استعداداً لخدمة المسيح ودونها ويظهر ذلك بمقابلة أعمال أحدهما بأعمال الآخر. فإن يوحنا عمّد أجساد الناس بالماء وهو مادّة بلا حياة وبلا قوة على منحها. وأما يسوع فعمّد نفوس الناس بروح محيٍ غير محدود في القدرة.
أَنْحَنِيَ وَأَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ يظهر لنا من تعبير مرقس عن كلام يوحنا المعمدان أنه كان يعتني بالإيضاح أكثر من سائر البشيرين فإن متّى اكتفى بذكره قول يوحنا المعمدان «احمل حذاءه» واكتفى كل من لوقا ويوحنا بقوله «أحل سيور حذائه». ولكن مرقس ذكر فوق ذلك انحناءه ليحل السيور. ولا منافاة في أقوالهم لأن الخادم الذي يحمل في البيت حذاء المخدوم القادم من سفر لا بد من أن ينحني أولاً ويحل سيوره.
معمودية يسوع ع ٩ إلى ١١ (سنة ٢٧ ب. م)
٩ «وَفِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ جَاءَ يَسُوعُ مِنْ نَاصِرَةِ ٱلْجَلِيلِ وَٱعْتَمَدَ مِنْ يُوحَنَّا فِي ٱلأُرْدُنِّ».
متّى ٣: ١٣ ولوقا ٣: ٢١
فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ أي أيام خدمة يوحنا. والأرجح أن ذاك بعد ستة أشهر من بداءة تلك الخدمة وكان المسيح حيئنذ في سن الثلاثين (لوقا ٣: ٢٣) وهو السن الذي دخل فيه اللاويون إلى خدمتهم وكان ذلك سنة ٢٧ ب. م لأن الفرق بين الحساب المعتاد والحساب الصحيح أربع سنين كما سبق الكلام عليه في متّى ٢: ١.
نَاصِرَةِ ٱلْجَلِيلِ ذكر متّى أنه جاء من قطيعة الجليل ولكن مرقس عيّن القرية التي أتى يسوع منها وهي في واد يحيط به تلال شمالي سهل يزرعيل الذي هو مرج ابن عامرّ وهي على منتصف المسافة بين بحر الروم غرباً والأردن شرقاً. سكن فيها يوسف ومريم قبل ميلاد يسوع (لوقا ١: ٢٦ و٢٧). ورجعا إليها بعد مجيئهما من مصر (متّى ٢: ٢٣).
انتقل مرقس من الكلام على خدمة يوحنا إلى الكلام على خدمة يسوع بذكره تعميد يوحنا له وهو أعظم أعمال المعمدان. وكان ذلك التعميد إدخال يسوع إلى وظيفته.
وَٱعْتَمَدَ مرّ الكلام على غاية هذه المعمودية في إنجيل متّى ٣: ١٤ و١٥ وخلاصتها ستة أمور:
- الأول: الاعتبار ليوحنا وخدمته.
- الثاني: بيان نسبة يوحنا إلى المسيح بأن الأول سابق والثاني الأصل.
- الثالث: جعل المسيح نفسه كواحد من الناس أتى ليخلصهم سوى أنه كان لا يعرف الخطيئة ولم يعترف بها (متّى ١: ٢١).
- الرابع: اتضاع المسيح وخضوعه للناموس (متّى ٣: ١٥).
- الخامس: رسم المسيح علانية لممارسة وظيفته بالمعمودية وبحلول الروح القدس عليه في أثر ذلك.
- السادس: فرصة للإعلان السماوي ليوحنا وللجموع بأن يسوع هو المسيح ابن الله.
١٠ «وَلِلْوَقْتِ وَهُوَ صَاعِدٌ مِنَ ٱلْمَاءِ رَأَى ٱلسَّمَاوَاتِ قَدِ ٱنْشَقَّتْ، وَٱلرُّوحَ مِثْلَ حَمَامَةٍ نَازِلاً عَلَيْهِ».
متّى ٣: ١٦ ويوحنا ١: ٣٢
وَلِلْوَقْتِ استعمل مرقس هذا اللفظ كثيراً وذكره في الأصحاح الأول تسع مرات وفي كل بشارته إحدى وأربعين مرة.
مِثْلَ حَمَامَةٍ (انظر شرح متّى ٣: ١٦) وكان نزول الروح مثل حمامة إعلاناً أن يسوع هو المسيح وشهادة بمسرة الله بعمله. وقول مرقس يدل على أن الذي رأى ذلك يسوع لكن يوحنا الرسول قال إنه كان علامة ليوحنا المعمدان تحقق بها أن يسوع هو المسيح (يوحنا ١: ٣٢ و٣٣).
١١ «وَكَانَ صَوْتٌ مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ: أَنْتَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ!».
مزمور ٢: ٧ ومتّى ٣: ١٧ وص ٩: ٧ ويوحنا ٣: ٣٥
(انظر شرح متّى ٣: ١٧) كان ذلك الصوت:
- إعلاناً عاماً أن يسوع هو المسيح ابن الله.
- إظهاراً لمحبة الآب ابنه محبة عظيمة كانت منذ الأزل.
- إظهاراً لرضى الآب التام بإتيان يسوع مخلصاً للعالم الهالك وقبوله تعالى المسيح وسيطاً في وظائفه الثلاث أي في كونه نبياً وكاهناً وملكاً.
تجربة يسوع ع ١٢ و١٣
١٢، ١٣ «١٢ وَلِلْوَقْتِ أَخْرَجَهُ ٱلرُّوحُ إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ، ١٣ وَكَانَ هُنَاكَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْماً يُجَرَّبُ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ. وَكَانَ مَعَ ٱلْوُحُوشِ. وَصَارَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ تَخْدِمُهُ».
متّى ٤: ١ ولوقا ٤: ١، متّى ٤: ١١
سبق الكلام على تجربة يسوع في شرح متّى ٤: ١ – ١١. ولكن مرقس اقتصر على ذكر حوادث التجربة إجمالاً ومتّى ذكرها تفصيلاً. وهذه التجربة كالمعمودية في كونها استعداداً لخدمة المسيح العلنية مع أنه يصح أن تحسب جزءاً من تلك الخدمة.
أَخْرَجَهُ هذا يدل على أن الروح القدس ألجأ المسيح على الإسراع إلى محل التجربة.
إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ هذه إما برية يهوذا حيث كان يبشر يوحنا أو برية التيه حيث صام موسى وإيليا أربعين يوماً (خروج ٢٤: ١٨ و١ملوك ١٩: ٨).
أَرْبَعِينَ يَوْماً يُجَرَّبُ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ يظهر من كلام مرقس هنا ومن كلام لوقا (لوقا ٤: ٢) أن التجربة بقيت مدة الأيام الأربعين كلها. وذكر متّى التجربة كأنها حدثت عند نهاية تلك المدة لكن لا منافاة بينهم لأن متّى اقتصر على ذكر ثلاث من تجارب المسيح امتازت عن غيرها في الشدة وظهور المجرب للعيان بقطع النظر عما أتاه الشيطان من الوساوس أما مرقس ولوقا فعنى ذلك كل منهما.
ٱلشَّيْطَانِ أي الخصم أو المقاوم وهو عدو الله والناس. وسماه متّى ولوقا إبليس أي القاذف المشتكي لأنه يشكو الله إلى الناس (تكوين ٣: ١ – ٥). ويشكو الناس إلى الله (أيوب ١: ٩ – ١١ ورؤيا ١٢: ١٠).
وَكَانَ مَعَ ٱلْوُحُوشِ لم يذكر ذلك أحد من الإنجيليين سوى مرقس وهو لم يذكر أن المسيح كان صائماً يومئذ. وقوله كان مع الوحوش يدل على أن المسيح كان في جزء وحش من تلك البرية بعيداً عن مساكن الناس والمساعدة البشرية. ولعلّ تلك الوحوش نماراً وأدباباً وذئاباً وربما كان هنالك أسود. وذكر مرقس هذا ليظهر هول تلك البرية التي ظن الشيطان أنه يسهل عليه بها أن يغلب المسيح أو ليبين سلطان آدم الثاني على الوحوش.
ٱلْمَلاَئِكَةُ تَخْدِمُهُ بإعطائهم إياه الطعام بعد صومه الطويل (متّى ٤: ١) لأنه لم يأكل شيئاً مدة أربعين يوماً (لوقا ٤: ٢). وفي ذلك تعزية لكل معرض لتجارب الشيطان لأنه قابل أن يحصل على خدمة الملائكة.
كرازة يسوع بالملكوت الجديد ع ١٤ و١٥
١٤ «وَبَعْدَ مَا أُسْلِمَ يُوحَنَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى ٱلْجَلِيلِ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ».
متّى ٤: ١٢ و٢٣
أُسْلِمَ يُوحَنَّا أي سُجن بأمر هيرودس. وقد مرّ الكلام على ذلك في شرح بشارة متّى (متّى ١٤: ٣). ولمّح مرقس بسجن يوحنا هنا وذكر أسبابه في ص ٦: ١٧ – ٢٠.
جَاءَ يَسُوعُ إِلَى ٱلْجَلِيلِ (متّى ٤: ١٢ و١٣) أتى إولاً إلى الناصرة ثم إلى كفرناحوم وكانت علة تركه اليهودية ومجيئه إلى الجليل مقاومة فريسي اليهودية إياه وزيادة ميل الجليليين إلى قبوله وسمع كلامه على ميل اليهوديين إلى ذلك.
بِشَارَةِ مَلَكُوتِ ٱللّٰه أي الخبر السار بأن ملك المسيح المنتظر زمناً طويلاً قد بدأ.
١٥ «وَيَقُولُ: قَدْ كَمَلَ ٱلّزَمَانُ وَٱقْتَرَبَ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِٱلإِنْجِيلِ».
دانيال ٩: ٢٥ وغلاطية ٤: ٤ وأفسس ١: ١٠، متّى ٣: ٢ و٤: ١٧
قَدْ كَمَلَ ٱلّزَمَانُ هذا وفق قول بولس «لَمَّا جَاءَ مِلْءُ ٱلزَّمَانِ» (غلاطية ٤: ٤) و «مِلْءِ ٱلأَزْمِنَةِ» (أفسس ١: ١٠). وهو زمان مجيء المسيح الذي عينه الله بقضائه الأزلي وأنبأ به بفم نبيه دانيال (دانيال ٩: ٢٤ – ٢٧). ومجيء المسيح الثاني معيّن كمجيئه الأول ولا بد من أن يأتي كما أتى ذاك.
مَلَكُوتُ ٱللّٰه وسمى متّى ذلك الملكوت في الغالب ملكوت السموات إشارة إلى محل إظهار سلطان الله ومجده. وكلاهما بمعنى واحد هو ملك المسيح.
فَتُوبُوا (متّى ٤: ٧أ) اتفق كل رسل الله على هذه الدعوة منذ أيام نوح.
وَآمِنُوا بِٱلإِنْجِيلِ زاد مرقس هذا على قول متّى والتوبة والإيمان من جوهريات الإنجيل يجب على كل خلفاء المسيح في التبشير أن ينادوا بهما والذي كان على الناس أن يؤمنوا به حيئنذ هو أنه «قَدْ كَمَلَ ٱلّزَمَانُ» وأتى المسيح الموعود به.
دعوة المسيح أربعة تلاميذ ع ١٦ إلى ٢٠
١٦ – ١٨ «١٦ وَفِيمَا هُوَ يَمْشِي عِنْدَ بَحْرِ ٱلْجَلِيلِ أَبْصَرَ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي ٱلْبَحْرِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. ١٧ فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا تَصِيرَانِ صَيَّادَيِ ٱلنَّاسِ. ١٨ فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا شِبَاكَهُمَا وَتَبِعَاهُ».
متّى ٤: ١٨ ولوقا ٥: ٤، متّى ١٩: ٢٧ ولوقا ٥: ١١
مرّ الكلام على دعوة سمعان بطرس وأندراوس في شرح متّى ٤: ١٨ – ٢٢.
صَيَّادَيِ ٱلنَّاسِ أي مبشرين بالإنجيل. ويتبين لنا من قول المسيح هنا ومن عمله أربع صفات ضرورية لكل مبشر بالإنجيل.
- الأولى: أن يكون مدعواً من الله كما دُعي هذان من المسيح. ومن لم يُدع كذلك فليس أهلاً لأن يبشر بكلمة الله بدليل قوله «هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا» الخ.
- الثانية: أن يكون ذا غيرة واجتهاد ليأتي بالناس من العالم إلى الكنيسة والخلاص كما يجتهد الصيادون أن يأتوا بالسمك من البحر إلى الشبكة.
- الثالثة: أن يكون له في صيد النفوس الصفات التي تجعل الصياد ناجحاً في صيد السمك كمعرفته بعوائد ما يصطاده وحكمته في الصيد واستعداده للتعب وصبره وإقدامه على الخطر وأمله النجاح وثباته في عمله.
- الرابعة: أن يتحقق نجاح عمله إذا كان أميناً مجتهداً أكثر مما يتحقق صيادو السمك من أشد أتعابهم في صيد السمك (إشعياء ٥٥: ١١ و١كورنثوس ١٥: ٥٨).
١٩، ٢٠ «١٩ ثُمَّ ٱجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ قَلِيلاً فَرَأَى يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ، وَهُمَا فِي ٱلسَّفِينَةِ يُصْلِحَانِ ٱلشِّبَاكَ. ٢٠ فَدَعَاهُمَا لِلْوَقْتِ. فَتَرَكَا أَبَاهُمَا زَبْدِي فِي ٱلسَّفِينَةِ مَعَ ٱلأَجْرَى وَذَهَبَا وَرَاءَه».
متّى ٤: ٢١
مَعَ ٱلأَجْرَى اقتصر متّى على ذكره أن يوحنا ويعقوب تركا أباهما زبدي وتبعا المسيح. وزاد مرقس على ذلك أنهما لم يتركاه وحده وهو في حال الاحتياج إليهما بل تركوه وعنده أجراء. وهذا يدل على أنهما لم يتركا أباهما لقساوة أو عدم اكتراث بواجباتهما له وعلى أن عائلتهما لم تكن فقيرة.
ومما يستحق الاعتبار ان أولئك التلاميذ الأربعة كانوا مجتهدين في مهنتهم الزمنية عندما دعاهم المسيح إلى خدمة سامية روحية.
شفاء مجنون وغيره في كفرناحوم ع ٢١ إلى ٢٨
٢١ «ثُمَّ دَخَلُوا كَفْرَنَاحُومَ، وَلِلْوَقْتِ دَخَلَ ٱلْمَجْمَعَ فِي ٱلسَّبْتِ وَصَارَ يُعَلِّمُ».
متّى ٤: ١٣ ولوقا ٤: ٣١
ذكر مرقس في ما مرّ أن يسوع ابتدأ يمارس وظيفته بانتخابه أربعة ليكونوا رسلاً له. ثم أخذ يذكر ما أثبت المسيح به دعواه ليس بالقول فقط بل بالتعليم العجيب والعمل المعجز. وإيضاحاً لذلك ذكر حوادث يوم واحد مقياساً لكثير من أمثالها. وما ذكره مرقس بالتفصيل ذكره متّى بالإجمال (متّى ٤: ٢٣ – ٢٥).
كَفْرَنَاحُومَ هي من أعظم مدن الجليل على شاطئ بحيرة طبرية (متّى ٤: ١٣).
ٱلْمَجْمَعَ (انظر شرح متّى ٤: ٢٣).
وَصَارَ يُعَلِّمُ كان رئيس المجمع يدعو بعد قراءة الناموس من يظهر أنه ذو معرفة بالدين أن يخاطب الشعب وإن لم يكن من الكهنة (أعمال ١٣: ١٥).
وأرى المسيح تلاميذه في المجمع يومئذ المثال الأول لكيفية صيد الناس وأثبت بأعماله إيمانهم به.
٢٢ «فَبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَٱلْكَتَبَةِ».
متّى ٧: ٢٨ و٢٩
فَبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ لم تكن علّة تعجبهم مجرد تعليمه بل طريق إيراده إياه والروح الذي أورده به. ومما يستحق التأمل أن المسيح كان يحمل السامعين على التعجب دائماً.
كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ انظر شرح متّى ٧: ٢٨ و٢٩.
كَٱلْكَتَبَةِ (متّى ٥: ٢٠) وهم خلفاء عزرا (عزرا ٧: ٥). وكثيراً ما ذكر في الإنجيل أنهم معلمو الشعب (متّى ٢٣: ٢ – ٥ ولوقا ١١: ٥٢).
٢٣ «وَكَانَ فِي مَجْمَعِهِمْ رَجُلٌ بِهِ رُوحٌ نَجِسٌ، فَصَرَخَ».
لوقا ٤: ٣٣
برهن المسيح على أنه معلم سماوي بإظهار قوته الإلهية علاوة على سمو تعليمه وتأثيره. وذكر مرقس معجزتين من جملة معجزاته الكثيرة التي صنعها في أول خدمته إثباتاً لدعواه وجذباً لقلوب الناس إليه. صنع إحداهما في المجمع أمام الجموع (ع ٢٣ – ٢٨). والأخرى في بيت (ع ٢٩ – ٣١).
رَجُلٌ بِهِ رُوحٌ نَجِسٌ كان بين المجتمعين في محل العبادة رجل تسلط على جسده وعقله أحد الملائكة الساقطين. وكثيراً ما حدث مثل ذلك في أيام المسيح كما بُيّن في شرح بشارة متّى (متّى ٨: ٢٤). والأرجح أن ذلك المجنون كان يصحو أحياناً حتى يمكنه حضور العبادة في المجمع. ومن البيّن أن الروح النجس الذي كان فيه لم يجعله متوحشاً كالمجنون الذي ذكره مرقس في ص ٥: ٢ – ٥.
فَصَرَخَ أي الشيطان وذلك باستخدامه فم الرجل وهذا يبيّن أن الشيطان تسلط على ذلك الرجل إلى حد سلب حريته وجعل قواه آلات له.
٢٤ «قَائِلاً: آهِ! مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ ٱلنَّاصِرِيُّ! أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا! أَنَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ، قُدُّوسُ ٱللّٰهِ!».
متّى ٨: ٢٩
مَا لَنَا وَلَكَ (انظر شرح متّى ٨: ٢٩). هذا اعتراض من إبليس دل على أنه كان متيقناً أن المسيح يقاومه ومدعياً أنه يحق له أن يبقى متسلطاً على ذلك الإنسان. واستعمل ضمير الجمع في قوله «لنا» نيابة عن كثيرين مثله من الأبالسة دخلوا الناس ليعذبوهم. والشيطان لا يزال إلى الآن يقاوم كل خاطئ تسلط عليه وأسره لإرادته إذا حاول الرجوع إلى الله.
يَسُوعُ ٱلنَّاصِرِيُّ ناداه بذلك إهانة له (متّى ٢: ٢٣ ويوحنا ١: ٤٦).
لِتُهْلِكَنَا أي لتهلك مجموع الأبالسة وهم «نسل الحيّة». والهلاك الذي خافه الشيطان النفي إلى محل العذاب. والذي حمله على الخوف معرفته للمسيح ووظيفته.
قُدُّوسُ ٱللّٰهِ (دانيال ٩: ٢٤) أي ذو القداسة العظيمة الذي أرسله الله. وفيه إشارة إلى وظيفته لا إلى طبيعته.
ومما يحقق أن ذلك الرجل لم يكن مختل العقل لمرض عادي بل لجنون تأديته تلك الشهادة لأنه من المحال أن مريضاً يعرف في أول مشاهدته ليسوع أنه قدوس الله وأنه عازم على أن يشفيه وأن ذلك الشفاء يكون علة هلاك لا مفر له إذا لم يكن فيه شيطان.
٢٥ «فَٱنْتَهَرَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: ٱخْرَسْ وَٱخْرُجْ مِنْهُ!».
ع ٣٤
فَٱنْتَهَرَهُ يَسُوعُ أي انتهر الروح النجس لأنه لم يرد قبول شهادة من مصدر شرير كهذا كما كان دأبه دائماً (ع ٣٤ وص ٣: ١٢ ولوقا ٤: ٤١ قابل هذا مع أعمال ١٦: ١٦ – ١٨) ولأنه أراد توبيخه على وقاحته ورفض ادعائه حق التسلط على ذلك الرجل. ولا ريب في أن الشيطان لا يشهد بالحق إلا لغاية شريرة. ولعلّ ذلك الروح النجس قصد بتأدية شهادته ليسوع إيهام الشعب أن يسوع شريك رئيس الشياطين كما اتهمه الفريسيون بعد ذلك (ص ٣: ٢٢) على أثر تأدية الشياطين شهادتهم له ص ٣: ١١. وكثيراً ما يملق الأشرار الأخيار لغاية كغاية الشيطان في مدحه المسيح (متّى ٢٢: ١٦).
ٱخْرَسْ لا بد أن هذا الأمر كان مقترناً بقوة تلجئه إلى السكوت.
وَٱخْرُجْ مِنْهُ أي أبعد عنه واتركه في حاله الطبيعية. وهذا القول يحقق وجود شخصين في جسد واحد.
٢٦ «فَصَرَعَهُ ٱلرُّوحُ ٱلنَّجِسُ وَصَاحَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَخَرَجَ مِنْهُ».
ص ٩: ٢٠
فَصَرَعَهُ ٱلرُّوحُ أي أوقعه في مثل حال الصرع من التشنج واضطراب الأعضاء من شدة الألم أو الانفعالات. وهذا مما يتوقع من فعل روح نجس مضطر أنه يخرج من إنسان يرغب في بذل الجهد في إضراره عند خروحه منه. ولكن لم ينتج من ذلك ضرر دائم كما أفاد لوقا في بشارته (لوقا ٤: ٣٥).
وكما جرى على هذا الرجل جرى على الصبي في قيصرية فيلبس (لوقا ٩: ٤٢).
وَصَاحَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ أتى ذلك من غيظه وعجزه وكان ذلك صوت بلا لفظ لأن أمر المسيح منعه من التكلم.
المعجزة الأولى التي ذكرها متّى من معجزات المسيح شفاء أبرص (متّى ٨: ١ – ٤) والأولى التي ذكرها مرقس ولوقا إخراج شيطان كما ورد هنا وفي بشارة لوقا (لوقا ٤: ٣٣ – ٣٧). والأولى التي ذكرها يوحنا تحويل الماء خمراً (يوحنا ٢: ١ – ١١).
٢٧ «فَتَحَيَّرُوا كُلُّهُمْ، حَتَّى سَأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ: مَا هٰذَا؟ مَا هُوَ هٰذَا ٱلتَّعْلِيمُ ٱلْجَدِيدُ؟ لأَنَّهُ بِسُلْطَانٍ يَأْمُرُ حَتَّى ٱلأَرْوَاحَ ٱلنَّجِسَةَ فَتُطِيعُهُ!».
تَحَيَّرُوا الذين أخذتهم الحيرة هم الذين شاهدوا المعجزة. ولم يكن تأثرهم مقصوراً على التعجب بل كان حاملاً لهم على التأمل والسؤال عن علة ذلك العمل لأن المسيح فعل ما فعله بكلمة فقط باسمه وسلطانه ولم يشاهدوا شيئاً مثله قبلاً.
مَا هٰذَا أي بأي سلطان فعل المسيح ما شاهدناه من إخراج الروح النجس من ذلك الرجل.
مَا هُوَ هٰذَا ٱلتَّعْلِيمُ ٱلْجَدِيدُ كان هذا التعليم ما قاله في المجمع وهم علقوه بالمعجزة كأنها صنعت إثباتاً له وقد أصابوا بذلك.
٢٨ «فَخَرَجَ خَبَرُهُ لِلْوَقْتِ فِي كُلِّ ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ بِٱلْجَلِيلِ».
هذا يوافق ما أنبأ به متّى من تأثير معجزات كثيرة مثل هذه صنعها المسيح متّى ٤: ٢٤ و٢٥. ولأن تلك المعجزات كانت لإزالة الأمراض والآلام والآفات أثرت في المشاهدين حتى مالوا إلى سمع كلامه وأشاعوا خبره في الآفاق ليسأل الناس عنه وعن تعليمه.
إبراء حماة بطرس وغيرها ع ٢٩ إلى ٣٤
٢٩ «وَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ ٱلْمَجْمَعِ جَاءُوا لِلْوَقْتِ إِلَى بَيْتِ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ مَعَ يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا».
متّى ٨: ١٤ ولوقا ٤: ٣٨
بعد أن ذكر مرقس واحدة من المعجزات الكثيرة التي صنعها يسوع علناً ذكر واحدة مما صنعها أمام الأصحاب خاصة. وقد مرّ الكلام على ذلك في شرح بشارة متّى (متّى ٨: ١٤ و١٥).
بَيْتِ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ كان بيتهما الذي سكنا فيه في كفرناحوم ولكنهما ولدا في بيت صيدا (يوحنا ١: ٤٥). وما ذُكر هنا هو الذي دلّنا على أن بطرس كان متزوجاً ورب بيت. والأرجح أن المسيح اتخذ بيته مسكناً له أيام إقامته بالجليل. وذكر مرقس في أنبائه بشفاء حماة بطرس تفاصيل لم يذكرها متّى ولا لوقا أي أن يعقوب ويوحنا رافقا المسيح من المجمع إلى البيت وأن البعض أخبره بمرض تلك الحماة وأن المسيح تقدم إليها وأقامها ماسكاً إياها بيدها وأن المدينة كلها اجتمعت على الباب.
٣٠ «وَكَانَتْ حَمَاةُ سِمْعَانَ مُضْطَجِعَةً مَحْمُومَةً، فَلِلْوَقْتِ أَخْبَرُوهُ عَنْهَا».
مَحْمُومَةً قال لوقا أنه أخذتها حمى شديدة (لوقا ٤: ٣٨).
أَخْبَرُوهُ كان المراد بإخبارهم إياه طلب الالتفات إليها لا إفادته ما أصابها.
فليس لنا إذا أصابتنا الأمراض أو فقدنا الأصحاب أو خسرنا الأموال أو وقعنا في اليأس إلا أن نذهب إلى يسوع كما ذهب أولئك ونخبره بمصائبنا.
٣١ «فَتَقَدَّمَ وَأَقَامَهَا مَاسِكاً بِيَدِهَا، فَتَرَكَتْهَا ٱلْحُمَّى حَالاً وَصَارَتْ تَخْدِمُهُمْ».
فَتَقَدَّمَ لم نقرأ قط أن المسيح أبى أن يشفي مريضاً (إلا أنه توقف قليلاً عن شفاء بنت المرأة الكنعانية امتحاناً لإيمانها) فلا ريب في أنه لم يأب أن يشفي واحدة من عائلة رسوله المحبوب. والمقصود من قوله تقدم إمّا الذهاب إليها من مخدع إلى آخر في البيت وإمّا الدنو إليها وهو في مخدعها.
مَاسِكاً بِيَدِهَا هذا لطف منه وبيان لأن قوة الشفاء منه.
تَرَكَتْهَا ٱلْحُمَّى حَالاً أي دفعة لا تدريجاً.
وَصَارَتْ تَخْدِمُهُمْ وهذا دليل على أنها كانت خالصة من الضعف الذي يعقب الحمى عادة. وكانت قادرة على إعداد الطعام لضيوفها.
٣٢ «وَلَمَّا صَارَ ٱلْمَسَاءُ، إِذْ غَرَبَتِ ٱلشَّمْسُ، قَدَّمُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ ٱلسُّقَمَاءِ وَٱلْمَجَانِينَ».
متّى ٨: ١٦ ولوقا ٤: ٤٠
لَمَّا صَارَ ٱلْمَسَاءُ أي مساء السبت فامتنع الناس عن الإتيان للشفاء حتى غربت الشمس إطاعة لوصية الله (لاويين ٢٣: ٣٢) واقتداء ببعض الأتقياء (ع ١٣: ١٩).
٣٣ «وَكَانَتِ ٱلْمَدِينَةُ كُلُّهَا مُجْتَمِعَةً عَلَى ٱلْبَاب».
ٱلْمَدِينَةُ كُلُّهَا مبالغة اصطلاحية يراد بها أناس كثيرون من السكان. وأتى بعضهم لمجرد المشاهدة والبعض لإفادة أنفسهم وأصحابهم.
عَلَى ٱلْبَاب أي في الزقاق أو الساحة التي قدام الباب. ومما اختص به مرقس أنه يدقق في الخبر ويشخص مشاهد الحوادث.
٣٤ «فَشَفَى كَثِيرِينَ كَانُوا مَرْضَى بِأَمْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَخْرَجَ شَيَاطِينَ كَثِيرَةً، وَلَمْ يَدَعِ ٱلشَّيَاطِينَ يَتَكَلَّمُونَ لأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ».
ع ٢٥ وص ٣: ١٢ ولوقا ٤: ٤١ وأعمال ١٦: ١٧ و١٨
لَمْ يَدَعِ ٱلشَّيَاطِينَ يَتَكَلَّمُونَ لأنه لم يرد شهادتهم ولم يحتج إليها (ع ٢٥) وأهول ما يكون الشيطان عندما «يغير شكله إلى شبه ملك نور».
جولان المسيح في الجليل ع ٣٥ إلى ٣٩ (سنة ٢٨ ب. م)
٣٥ «وَفِي ٱلصُّبْحِ بَاكِراً جِدّاً قَامَ وَخَرَجَ وَمَضَى إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ، وَكَانَ يُصَلِّي هُنَاكَ».
لوقا ٤: ٤٢
بَاكِراً جِدّاً لعلّ أثقال أحزان الغير منعته من النوم (متّى ٨: ١٧) فقام باكراً. أو اهتمامه بأمر وظيفته.
إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ خرج إلى هذا الموضع بغية أن يكون له فرصة للصلاة وأن لا أحد ينظره أو يسمعه. وكان ذلك استعداداً للجولان قصد التبشير وكان يفعل مثل ذلك كثيراً ولما اعتمد كان يصلي (لوقا ٣: ٢١). وكذلك لما تجلّى (لوقا ٩: ٢٩) وصلى كل الليل قبل انتخابه الأثني عشر رسولاً (لوقا ٦: ١٢). ولما أراد الناس أن يمسكوه ويجعلوه ملكاً انفرد للصلاة (متّى ١٤: ٢٣) وقبل ما صُلب صلى في بستان جثسيماني (لوقا ٢٢: ٤١).
وانفراد المسيح للصلاة مثال لنا. فإذا كان الانفراد والصلاة مفيدين له وهو بلا خطيئة. فكم يكونان مفيدين لنا نحن الخطاة. والانفصال عن الناس للاجتماع بالله أفضل ما يُفتتح به النهار وأفضل طربق لإراحة النفس المُثقلة بالهموم وخير استعداد للعمل.
٣٦ «فَتَبِعَهُ سِمْعَانُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ».
غيابه الطويل وازدحام الناس ببيت بطرس حملاه وبعض التلاميذ على التفتيش عن يسوع. وإغراء بطرس غيره وإتيانه به إلى المسيح وهو يريد الانفراد وفق ما عهدناه من جراءته على سيده.
٣٧ «وَلَمَّا وَجَدُوهُ قَالُوا لَهُ: إِنَّ ٱلْجَمِيعَ يَطْلُبُونَكَ».
اتخذوا سؤال الناس عنه عذراً لطلبهم إياه وعلة لإرجاعه إلى كفرناحوم وإقامته هناك كما يشير إليه قول لوقا «وَأَمْسَكُوهُ لِئَلاَّ يَذْهَبَ عَنْهُمْ» (لوقا ٤: ٤٢). وطلبهم ذلك إلى المسيح أبان ظنهم أنّ من واجباته إرضاء الجموع وأظهر جهلهم غاية المسيح من مجيئه.
٣٨ «فَقَالَ لَهُمْ: لِنَذْهَبْ إِلَى ٱلْقُرَى ٱلْمُجَاوِرَةِ لأَكْرِزَ هُنَاكَ أَيْضاً، لأَنِّي لِهٰذَا خَرَجْتُ».
لوقا ٤: ٤٣، إشعياء ٦١: ١ ويوحنا ١٦: ٢٨ و١٧: ٤
إِلَى ٱلْقُرَى ٱلْمُجَاوِرَةِ أي المجاورة لكفرناحوم. لم يستفز المسيح مدح الجموع له حتى يرجع إلى حيث يعتبره الناس لأنه شفى مرضاهم وبشرهم بالإنجيل بل فضل أن يذهب إلى أماكن أخر يفيد فيها غيرهم. ولم يلم تلاميذه على نصيحتهم وإن كانت في غير محلها بتصريحه لهم باستقلاله بل أوضح لهم وجوب زيارته القرى الصغيرة أيضاً في تلك الأرض.
لأَكْرِزَ لم يكن الرسل يكرزون حينئذ ولم يكونوا سوى أربعة.
لِهٰذَا خَرَجْتُ أي نزلت من السماء (يوحنا ٨: ٤٢ و١٣: ٣ و٦: ٢٧ و٢٨ و٣٠). وبيّن المسيح بقوله «لهذا» أن غايته من إتيانه إلى العالم المناداة بإنجيله لكل الناس وإفادة كل من استطاع الوصول إليه. فما جاء للتمتع بالراحة أو بخدمة الناس له أو لنفع كفرناحوم وحدها بل نفع كل سكان تلك الأرض (لوقا ٤: ٤٣ ويوحنا ١٦: ٢٨).
فرفع المسيح بذلك مقام وظيفة المبشرين وبأنه اتخذها وظيفة له. ومارسها كل يوم وساعة إلى حين موته مع أنه كان يستطيع أن يملك كما ملك داود. والغاية التي جذبت المسيح من السماء إلى الأرض وحثته على كل ما عمل واحتمل كافية لأن تُرغّبنا في اقتفاء خطواته في الكرازة بإنجيله.
٣٩ «فَكَانَ يَكْرِزُ فِي مَجَامِعِهِمْ فِي كُلِّ ٱلْجَلِيلِ وَيُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ».
متّى ٤: ٢٣ ولوقا ٤: ٤٤
فَكَانَ يَكْرِزُ هذا إنجاز لقوله في الآية السابقة. وهذا أول جولان أتاه المسيح للتبشير (متّى ٤: ٢٣).
فِي مَجَامِعِهِمْ كان مباحاً للمسيح في أول تبشيره في الليل أن يدخل المجامع ويعلم فيها لأن شكايات رؤساء الكهنة في أورشليم لم تبلغ أهل الجليل يومئذ (يوحنا ٤: ١) ولم يعزم الكهنة ورؤساء المجامع هنالك أن يقاوموه علانية ويمنعوا الشعب عن سمع تعليمه.
فِي كُلِّ ٱلْجَلِيلِ هذا زاد على إنبائه إياهم بقصده تبشير القرى المجاورة لكفرناحوم (متّى ٤: ٢٣). وقال يوسيفوس أن في الجليل ٢٤٠ من المدن والقرى.
وَيُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ (متّى ٤: ٢٤).
كانت هذه المعجزة وغيرها إثباتاً لصحة تعليمه ورحمة للمصابين ونقضاً لسلطان الشيطان.
شفاء الأبرص ع ٤٠ إلى ٤٥
٤٠ «فَأَتَى إِلَيْهِ أَبْرَصُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ جَاثِياً وَقَائِلاً لَهُ: إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي!».
متّى ٨: ٢ ولوقا ٥: ١٢
أَبْرَصُ مرّ الكلام على مجيء هذا الأبرص إلى المسيح والكلام على دائه في شرح بشارة متّى (متّى ٨: ٢ – ٤). وزاد مرقس على ما قاله متّى أن الأبرص طلب إليه جاثياً. وذلك من الأدلة على رغبته في الشفاء والتواضع وهذا وفق قول لوقا أنه «خَرَّ عَلَى وَجْهِهِ وَطَلَبَ إِلَيْهِ» (لوقا ٥: ١٢). ولعلّ مرقس اختار ذكر إزالة المسيح هذا المرض على غيره مما شفى منه الناس لكونه عسر الشفاء تقصر عنه القوى البشرية (٢ملوك ٥: ٢٧). فإبراؤه مثل ذلك دليل على قوة إلهية ولكون البرص رمزاً إلى الخطيئة كان شفاء المسيح ذلك المرض الجسدي رمزاً إلى عمله الأعظم أي شفاء مرض النفس الذي هو الخطيئة.
٤١ « فَتَحَنَّنَ يَسُوعُ وَمَدَّ يَدَهُ وَلَمَسَهُ وَقَالَ لَهُ: أُرِيدُ، فَٱطْهُرْ».
فَتَحَنَّنَ ذكر البشيرون الثلاثة هذه المعجزة ولم يذكر أحد منهم سوى مرقس انفعالات المسيح وقتئذ أو أنه «تحنن». فالذي حمل المسيح على عمل المعجزة لا مجرد البرهان على أنه إله بل بيان كونه إنساناً يشعر بمصائب الناس ويحزن لأحزانهم. ولا يزال إلى الآن يتحنن على الناس في أمراضهم الجسدية والروحية.
٤٢ «فَلِلْوَقْتِ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ ذَهَبَ عَنْهُ ٱلْبَرَصُ وَطَهَرَ».
كانت أقوال المسيح كلها فعالة وما قيل هنا يذكرنا ما قيل في عمل الله الخليقة من أنه «قَالَ فَكَانَ. هُوَ أَمَرَ فَصَارَ» (مزمور ٣٣: ٩).
٤٣، ٤٤ «٤٣ فَٱنْتَهَرَهُ وَأَرْسَلَهُ لِلْوَقْتِ، ٤٤ وَقَالَ لَهُ: ٱنْظُرْ، لاَ تَقُلْ لأَحَدٍ شَيْئاً، بَلِ ٱذْهَبْ أَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ وَقَدِّمْ عَنْ تَطْهِيرِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى، شَهَادَةً لَهُمْ».
لاويين ١٤: ٣ و٤ و١٠ ومتّى ٨: ٤ ولوقا ٥: ١٤
(انظر الشرح متّى ٨: ٤)
ٱنْتَهَرَهُ أي كفه عن إذاعة الخبر. ولعلّ المسيح أراد كفّه عن ذلك وقتاً قصيراً يمكنه فيه أن يطيع أمر المسيح بتكميل واجباته الشرعية ليحصل على شهادة التطهير قبل أن يعرف الكاهن من شفاه.
٤٥ «وَأَمَّا هُوَ فَخَرَجَ وَٱبْتَدَأَ يُنَادِي كَثِيراً وَيُذِيعُ ٱلْخَبَرَ، حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَدِينَةً ظَاهِراً، بَلْ كَانَ خَارِجاً فِي مَوَاضِعَ خَالِيَةٍ، وَكَانُوا يَأْتُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ».
لوقا ٥: ١٥، ص ٢: ١٣
لم يطع الأمر ولعلّ سبب ذلك ظنه أن المسيح أمره بالسكوت تواضعاً وأنه كان من واجبات الشكر أن يظهر معروفه وينادي بنبإ شفائه ولكن الغيرة للمسيح ليست بعذر لمخالفة أمره. وليس للمسيحيين حق أن يعصوا أمر المسيح لما يظهر لهم أنه خدمة له فالغاية لا تبرر الواسطة.
لَمْ يَعُدْ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَدِينَةً هذه مبالغة في صعوبة دخول المسيح مدينة من المدن لازدحام الناس عليه. فكانت نتيجة مناداة الأبرص بشفاء المسيح إياه تعباً للمسيح ومنعاً له من عمله الروحي لأن الناس ازدحموا عليه بغية المنافع الجسدية فلم يتركوا له فرصة لمخاطبة الذين قصدوه بغية الفوائد الروحية وهيجوا غيظ الرؤساء عليه ومقاومتهم إياه.
فِي مَوَاضِعَ خَالِيَةٍ أي أراض لم تُسكن ولم تُزرع والأرجح أنها مراعٍ للمواشي.
من كل ناحية ذهاب أولئك الناس إليه من الأماكن البعيدة وهو في تلك الأماكن الخالية دليل على رغبتهم في فوائده الروحية وشعورهم بحاجتهم إليه خلافاً للجموع الذين كانوا يزدحمون عليه في المدن والقرى رغبة في مشاهدة أعماله الغريبة.
السابق |
التالي |