إنجيل لوقا | 19 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح إنجيل لوقا
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح التاسع عشر
زكا العشار ع ١ إلى ١٠
١ «ثُمَّ دَخَلَ وَٱجْتَازَ فِي أَرِيحَا».
هذا يعم كل الحوادث التي كانت بين إتيان المسيح إلى أريحا يوم الخميس وخروجه صباح يوم الجمعة.
أَرِيحَا تقدم الكلام على هذه المدينة في الشرح (متّى ٢٠: ٢٩).
٢ «وَإِذَا رَجُلٌ ٱسْمُهُ زَكَّا، وَهُوَ رَئِيسٌ لِلْعَشَّارِينَ وَكَانَ غَنِيّاً».
وَإِذَا رَجُلٌ هذا بداءة إحدى الحوادث التي حدثت في أثناء الزمان المذكور في الآية الأولى. والأرجح أنها حدثت قبل إبراء ابن طيما ولسبب مجهول اختار لوقا أن يذكرها بعده.
زَكَّا هو في العبراني زكاي ومعناه زكيٌ وذُكر هذا الاسم بين الذين رجعوا من بابل إلى أورشليم بعد السبي (نحميا ٧: ١٤) وهو يهودي كما يظهر من ع ٩.
رَئِيسٌ لِلْعَشَّارِينَ أي جباة العشور أو جَمَعة الجزية التي ضربها الرومانيون على اليهود باعتبار كونهم أمة خاضعة لهم. ولعلّ زكا ضمن العشور كلها في تلك الكورة بتأديته مالاً معيناً للحكومة ليأخذ من الشعب ما استطاع عدلاً كان أو جوراً. وقد مرّ الكلام على العشارين في الشرح (متّى ٥: ٤٦ و٩: ١).
كَانَ غَنِيّاً لعلّ علّة غناه ما أخذه من الشعب إجباراً فوق حقه. ويحتمل أن سبب ذكر لوقا إياه هنا قول المسيح سابقاً «مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي ٱلأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ» وقوله «غَيْرُ ٱلْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ ٱلنَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ» (ص ١٨: ٢٤ و٢٧). فأتى بخبر زكا إثباتاً للقول الأخير.
٣ «وَطَلَبَ أَنْ يَرَى يَسُوعَ مَنْ هُوَ، وَلَمْ يَقْدِرْ مِنَ ٱلْجَمْعِ، لأَنَّهُ كَانَ قَصِيرَ ٱلْقَامَةِ».
سمع زكا صيت النبي الجديد ونبأ معجزاته فرغب في أن يشاهده. ولعلّ ذلك كان كل ما قصده. لكن الله أحب أن يجعل رغبته في المشاهدة وسيلة إلى خلاص نفسه.
والكلام يدل هنا على أن زكا اجتهد أولاً أن يراه وهو بين الجمع فلم يستطع.
٤ «فَرَكَضَ مُتَقَدِّماً وَصَعِدَ إِلَى جُمَّيْزَةٍ لِكَيْ يَرَاهُ، لأَنَّهُ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُرَّ مِنْ هُنَاكَ».
فَرَكَضَ مُتَقَدِّماً هذا دليل قاطع على اجتهاده وعدم انثنائه عن قصده للموانع. ويحتمل أن ما فعله حمل الناس على الهزء به.
جُمَّيْزَةٍ فسرتها كتب اللغة بالتين الذكر. وهي شجرة عظيمة ثمرها يشبه ثمر التين وينشأ على ساق الغصن لا فروعه وورقها يشبه ورق التوت وهي دانية الغصون افقيتها تقريباً فيسهل بذلك الصعود عليها.
٥ «فَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى ٱلْمَكَانِ، نَظَرَ إِلَى فَوْقُ فَرَآهُ، وَقَالَ لَـهُ: يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وَٱنْزِلْ، لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ ٱلْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ».
لعلّ الناس الذين رأوا زكا على الجميزة ذكروا اسمه أمام المسيح على أن المسيح الذي عرف قلب زكا لا يحتاج إلى من يخبره باسمه فيمكن أنه عرفه كما عرف نثنائيل (يوحنا ١: ٤٨).
وهذه المرة الوحيدة عرض المسيح نفسه للضيافة. وهذا وفق دعوته في سفر الرؤيا (رؤيا ٣: ٣٠). ولم يسأل المسيح زكا هل له بيت وهل أحوال ذلك البيت موافقة لقبول الضيف لأنه عرف كل أحوال بيته وعواطف قلبه. ولم يطلب أن يبيت في بيوت أحد الربانيين أو كهنة أريحا بل اختار أن يبيت في بيت زكا إذ رأى في قلبه استعداداً للترحيب به وأراد أن يخلص نفسه وفقاً لقوله «ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ» (ع ١٠). ولمثل هذه الغاية خاطب المرأة السامرية (يوحنا ص ٤).
٦ «فَأَسْرَعَ وَنَزَلَ وَقَبِلَـهُ فَرِحاً».
لا ريب في أن العجب أخذ زكا عندما خاطبه يسوع. ولعله توقع أن يوبخه ذلك النبي فتنازل المسيح بطلبه أن يقبله ضيفاً أثر فيه فحسب ضيافة المسيح شرفاً له فجعله ذلك يقبله فرحاً في بيته كما قبله بالإيمان والمحبة في قلبه.
٧ «فَلَمَّا رَأَى ٱلْجَمِيعُ ذٰلِكَ تَذَمَّرُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ دَخَلَ لِيَبِيتَ عِنْدَ رَجُلٍ خَاطِئٍ».
متّى ٩: ١١ وص ٥: ٣٠
تَذَمَّرُوا الذين تذمروا الجمع المرافق له لا تلاميذه. وكان ذلك الجمع من اليهود فزعموا وجوب أن ينزل المسيح عند أحد الفريسيين لا عند عشار لأن العشار كان مكروهاً لديهم (ص ٥: ٣٠ و١٥: ٢).
رَجُلٍ خَاطِئٍ لو كان زكا من الأمم ما سكتوا عن بيان ذلك. وكان من المستحيل أن يأكل المسيح عنده طعاماً لو كان من الأمم لأن المسيح كان حافظاً السنن اليهودية. ودعاه اليهود خاطئاً لأن العشارين لم يكونوا يبالون بالطقوس اليهودية وتقاليد الشيوخ التي يجعل حفظها الإنسان «باراً». وكانت أعمالهم مكروهة لديهم فاعتبروهم من جملة الخطاة تعييراً لهم.
٨ «فَوَقَفَ زَكَّا وَقَالَ لِلرَّبِّ: هَا أَنَا يَا رَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ».
ص ٣: ١٤، خروج ٢٢: ١ و١صموئيل ١٢: ٣ و٢صموئيل ١٢: ٦
فَوَقَفَ زَكَّا الأرجح أن ذلك كان في بيته ولعله حدث عند العشاء. وكان وقوفه دلالة على ثبات عزمه وتوقيره لله وهو ينذر له ويتعهد.
أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي هذا دليل واضح على أنه مع غناه لم يكن قلبه عابداً لماله وعلى أنه شعر بوجوب أن يكرم الله بماله ويصنع به خيراً. وفعل ذلك أيضاً شكراً للنعمة التي حصل عليها بإتيان المسيح إلى بيته وفعل نعمته في قلبه.
وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ الخ وعد بذلك أنه يراجع أعماله الماضية بالتدقيق ويرد على من اختلس منه شيئاً بالخداع أو الإجبار أربعة أضعاف. وهذا يزيد على ما تطلبه الشريعة لأن الشريعة لا تطلب سوى الخمس زيادة على المختلس إذا اعترف المذنب بذنبه تبرعاً (عدد ٥: ٦ و٧). ولكن إذا سرق الإنسان بهيمة وتصرف بها ثم قُبض عليه فأجبر أن يؤدي أربعة أضعاف ما سرق (خروج ٢٢: ١). ولكن إذا وُجد المسروق حياً بين يديه عوّض عليه باثنين (خروج ٢٢: ٤). فما أتى به زكا كان برهاناً على صدق توبته. ولو اعترف بخطيئته ولم يرد المسروق أو المختلس لكانت توبته عبثاً. ولا يزال هذا القانون واجباً على كل الذين يدّعون التوبة الآن.
٩ «فَقَالَ لَـهُ يَسُوعُ: ٱلْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهٰذَا ٱلْبَيْتِ، إِذْ هُوَ أَيْضاً ٱبْنُ إِبْرَاهِيمَ».
رومية ٤: ١١ و١٢ و١٦ وغلاطية ٣: ٧، ص ١٣: ١٦
حَصَلَ خَلاَصٌ لِهٰذَا ٱلْبَيْتِ لأنه تجددت نفس صاحب البيت. فدخل المسيح ذلك البيت وأدخل الخلاص معه وقبل العشار المخلص والخلاص معاً.
إِذْ هُوَ أَيْضاً ٱبْنُ إِبْرَاهِيمَ هذا رد على الذين تذمروا عليه لأنه دخل بيت زكا وهو رجل خاطئ (ع ٧). فقال أن زكا وإن كان خاطئاً هو ابن إبراهيم بالتسلسل الطبيعي والخلاص لليهود أولاً فيليق أن يقدّم له لأنه يهودي لا واحد من الأمم. ويحسن أن يقدّم له لسبب ثان وهو أنه أظهر بالعمل أنه ابن إبراهيم بالإيمان والحق لا بالدم وحده.
١٠ «لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ».
متّى ١٠: ٦ و١٥: ٢٤ و١٨: ١١
هذا جواب ثانٍ للمتذمرين عليه لدخوله بيت زكا الخاطئ وهو أنه دخل بيته لكي يخلص نفسه الهالكة وقد سبق الكلام على هذه الآية في شرح ص ١٥: ٣ – ١٠.
ولنا من هذه الحادثة أربع فوائد:
- الأولى: قوة النعمة الإلهية فإنها جعلت عشاراً غنياً ظالماً مسيحياً كريماً مؤمناً.
- الثانية: إنه تنتج من أمور طفيفة نتائج عظيمة. فإنه من رغبة ذلك الإنسان في مشاهدة المسيح وهو مار وصعوده على الشجرة نتج الخلاص الأبدي لبيته.
- الثالثة: تنازل المسيح ومحبته ورحمته باختياره ذلك العشار إناء لرحمته.
- الرابعة: إن من تجدّد حقاً يبرهن صحة تجدده بأعماله.
مَثَل العشرة الأمناء ع ١١ إلى ٢٧
١١ «وَإِذْ كَانُوا يَسْمَعُونَ هٰذَا عَادَ فَقَالَ مَثَلاً، لأَنَّهُ كَانَ قَرِيباً مِنْ أُورُشَلِيمَ، وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ عَتِيدٌ أَنْ يَظْهَرَ فِي ٱلْحَال».
أعمال ١: ٦
هٰذَا أي ما قاله يسوع لزكا والأرجح أن ما ذُكر هنا من خطاب يسوع له كان قليلاً من كثير.
عَادَ أي زاد على قوله السابق.
مَثَلاً هذا المثل يشبه في بعض الوجوه مَثَل العشر الوزنات (متّى ٢٥: ١٤ – ٣٠ ومرقس ١٣: ٣٤ – ٣٦) ويختلف عنه في عدة وجوه نذكر خمسة منها.
- الأول: إن مثَل الوزنات ضربه يسوع في أورشليم في أسبوع صلبه. ومثَل الأمناء ضربه في أريحا في الأسبوع الذي قبله.
- الثاني: إن في مثَل الوزنات «إنساناً وزع أمواله على عبيده ليتجروا بها» وكانت قيمة ما وزعه عليهم إن كان فضة نحو ٢٠٠٠ ليرة إنكليزية وإن كان ذهباً نحو ٤٨٠٠٠ ليرة كذلك. وإن في مثل الأمناء أميراً ذهب ليطلب ملكاً لنفسه وترك لكل من عبيده قليلاً من المال وكانت جملة ما تركه للجميع لا تزيد على ستين ليرة انكليزية وأتى ذلك امتحاناً لأمانتهم.
- الثالث: أنّ كلا من العبيد في مثل الوزنات أخذ ما هو على قدر طاقته فمنهم من أخذ عشر وزنات ومنهم من أخذ خمساً الخ. ولكن في مثل الأمناء كل عبد أخذ مناً.
- الرابع: أنه لم يذكر في مثل الوزنات سوى العبيد ولكنه ذُكر في مثل الأمناء الأعداء أيضاً.
- الخامس: إن غاية المسيح من المثل الأول تعليم تلاميذه وجوب الأمانة والاجتهاد في غيبة سيدهم الطويلة وبطء يوم المحاسبة وغايته من الثاني تعليم كل الشعب أن لا يتوقعوا مجيء ملكوت الله في الحال وكيفية المحاسبة وقت مجيئه.
كَانَ قَرِيباً مِنْ أُورُشَلِيمَ أي نحو سبع ساعات أو عشرين ميلاً لأنه كان وقتئذ في أريحا.
أَنَّ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ عَتِيدٌ الخ توقع الجمع الذي رافق المسيح وتلاميذه أيضاً أن المسيح يغلب في الحال على كل أعداء الأمة اليهودية ولا سيما الحكومة الرومانية وأن يقيم ملكوته ظاهراً وممجداً في أورشليم قاعدة مملكته وأن كل نبوات الكتاب المقدس في شأن ملك المسيح على وشك الإتمام بظاهر المعنى. وظنوا أن غاية صعوده إلى أورشليم حينئذ إنجاز ذلك. وعلّة هذا الانتظار المعجزات التي فعلها المسيح. فتكلم بهذا المثل إصلاحاً لذلك الخطإ. وأنه يمضي عليهم زمان طويل قبل استعلانه بالمجد. وأنه يجب الاجتهاد في خدمة الرب وهم ينتظرون. وفيه أيضاً إنذار لمقاومية (ع ١٤: ٢٧).
١٢ «فَقَالَ: إِنْسَانٌ شَرِيفُ ٱلْجِنْسِ ذَهَبَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ لِيَأْخُذَ لِنَفْسِهِ مُلْكاً وَيَرْجِعَ».
متّى ٢٥: ١٤ ومرقس ١٣: ٣٤
إِنْسَانٌ شَرِيفُ ٱلْجِنْسِ أشار المسيح بهذا إلى نفسه وهو ابن داود ابن إبراهيم وابن الله السرمدي.
ذَهَبَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَة الخ وقع كثيراً مثل الحوادث المذكورة في أيام المملكة الرومانية فهيرودس الكبير لم يكن في سوى وظيفة ليست بعالية في اليهودية وذهب إلى رومية قاعدة المملكة فعيّنه السناتوس هنالك ملكاً على اليهودية فعاد وملك واستوطن. وكذلك ابنه أرخيلاوس بعد موت أبيه اضطر أن يذهب إلى رومية ويسأل الأمبراطور أوغسطس الملك حتى يستطيع أن يخلف أباه. والمشار إليه بالذهاب إلى الكورة البعيدة هنا قصد المسيح أن يذهب إلى السماء (كما قال في متّى ٢١: ٣٣ و٢٥: ١٤ ومرقس ١٢: ١) لينتظر الوقت الذي عيّنه الآب لرجوعه لكي يملك ظاهراً ملك الملوك ورب الأرباب على عرش المملكة التي اقتناها بدمه وفق قوله في (يوحنا ١٦: ١٦) وما قيل في (رؤيا ١٧: ٤ و١٩: ٦). نعم إنّ المسيح ملكٌ «عَلَى أَنَّنَا ٱلآنَ لَسْنَا نَرَى ٱلْكُلَّ بَعْدُ مُخْضَعاً لَـهُ» (عبرانيين ٢: ٨). فلذلك يجب أن لا نتوقع تمجده اليوم.
١٣ «فَدَعَا عَشَرَةَ عَبِيدٍ لَـهُ وَأَعْطَاهُمْ عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ، وَقَالَ لَـهُمْ: تَاجِرُوا حَتَّى آتِي».
حزقيال ٤٥: ١٢
المقصود من ذلك المسيحيون كلها لا عدد معين.
عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ المنا هنا مئة دينار أو نحو ٤٥٠ غرشاً. أعطى السيد مناً لكل واحد من عبيده ليربح به لسيده. وقصد السيد بذلك امتحان أمانتهم لكي يثيب الأمناء عند رجوعه برفع مقامهم وتوليتهم. كذلك المسيح وهب لكل من تلاميذه مواهب روحية كمعرفة الحق ونعمة الروح القدس لكي يمجد الله بها وينفع الناس وهو يقصد أن يثيب الأمين بالبركات السماوية.
تَاجِرُوا أي تصرفوا بهذه الأمناء باجتهاد وأمانة لتزيدوني نفعاً بربحها. كذلك يأمر المسيح تلاميذه بالاجتهاد في خدمته والأمانة في إتمام مقصاده لمجد الله وخلاص الناس. فقوله «تاجروا» كقوله «أنتم نور العالم» «واذهبوا تلمذوا جميع الأمم».
حَتَّى آتِيَ توقع ذلك الأمير ان يرجع سريعاً ليملك. أما يسوع فلا بد أن يأتي أيضاً في نهاية العالم ليملك في المجد. فعلى الكنيسة كلها أن تكون مجتهدة أمينة إلى مجيء ربها ثانية. وعلى كل منا أن يكون كذلك إلى يوم موته.
١٤ «وَأَمَّا أَهْلُ مَدِينَتِهِ فَكَانُوا يُبْغِضُونَهُ، فَأَرْسَلُوا وَرَاءَهُ سَفَارَةً قَائِلِينَ: لاَ نُرِيدُ أَنَّ هٰذَا يَمْلِكُ عَلَيْنَا».
يوحنا ١: ١١
حدث مثل هذا في اليهودية في زمن بعض السامعين يوم ذهب أرخيلاوس إلى رومية يسأل الملك بعد موت أبيه هيرودس. فاليهود إذ كانوا يعرفون سوء أخلاقه (انظر الشرح متّى ٢: ٢٢) أرسلوا لجنة من خمسين رجلاً في رومية يسألون أوغسطس ان لا يملّكه لكنهم لم يفوزوا بمرادهم. وأشار المسيح بكلامه هنا إلى معاملة اليهود إياه إذ أبوا قبوله باعتبار أنه هو المسيح وأبغضوه وطلبوا قتله. وأنبأ بما سيقوله اليهود حين يسألهم بيلاطس قائلاً «ما أفعل بملككم» وهو قولهم «اصلبه اصلبه ليس لنا ملك إلا قيصر».
وما صدق على اليهود يصدق على كل الخطاة الذين لا يؤمنون بالمسيح حين يدعوهم إليه فتقول قلوبهم «لا نريد أن هذا يملك علينا».
١٥ «وَلَمَّا رَجَعَ بَعْدَمَا أَخَذَ ٱلْمُلْكَ، أَمَرَ أَنْ يُدْعَى إِلَيْهِ أُولَئِكَ ٱلْعَبِيدُ ٱلَّذِينَ أَعْطَاهُمُ ٱلْفِضَّةَ، لِيَعْرِفَ بِمَا تَاجَرَ كُلُّ وَاحِدٍ».
ما مرّ من حوادث هذا المثل أشار إلى حوادث هذه الأرض وما يأتي تشير إلى ما سيحدث في العالم الآتي. وقد بلغ هذا الشريف إربه من أولياء الأمر ورجع ملكاً ثم اهتم أولاً بالسؤال عن تصرف عبيده في غيبته ليعرف ما ربحه كل منهم ويتحقق بذلك اجتهاده وأمانته.
١٦ «فَجَاءَ ٱلأَوَّلُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، مَنَاكَ رَبِحَ عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ».
فَجَاءَ ٱلأَوَّلُ طُلب من كل أن يعطي حساباً بمفرده ولم يحاسبهم معاً لكي لا تستر أمانة بعضهم خيانة بعض.
مَنَاكَ لم يدّعِ العبد الأمين أن المال له بل اعترف بأنه لسيده. ولم يقل مفتخراً أنا ربحت كذا وكذا بل «مناك ربح» كأنه هو لم يفعل شيئاً فوفرة الربح شهادة بفرط اجتهاده وحكتمه وأمانته.
١٧ «فَقَالَ لَـهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلصَّالِحُ، لأَنَّكَ كُنْتَ أَمِيناً فِي ٱلْقَلِيلِ، فَلْيَكُنْ لَكَ سُلْطَانٌ عَلَى عَشَرِ مُدُنٍ».
متّى ٢٥: ٢١ وص ١٦: ١٠
نِعِمَّا… ٱلصَّالِحُ… كُنْتَ أَمِيناً لا بد من أن كلمات هذا المديح كانت حسنة جداً في مِسمعي ذلك العبد.
فِي ٱلْقَلِيلِ إن المال الذي أخذه كان زهيداً جداً فإنه ليس سوى مناً واحد لكنه كان كافياً لامتحان اجتهاده وأمانته.
سُلْطَانٌ عَلَى عَشَرِ مُدُنٍ هذا ثواب جزيل حقق له الشرف والقوة والغنى وكل وسائط السعادة والإفادة.
ومعنى ذلك الروحي أن الله يثيب المسيحي الأمين في اليوم الأخير إثابة جزيلة أكثر مما يستحقه. ولا نعلم كل ما قصده المسيح «بالسلطان على عشر مدن» لكن نتيقن أنه توكيد للمجد والإكرام والسعادة وأسباب النفع للغير. ونستنتج من ذلك أن ثواب العبد الأمين في العالم الآتي فرصة لزيادة المنفعة ووفرة العمل في خدمة الله لأن السلطان على عشر مدن ليس بمقصور على مشاهدة وجه الله وتسبيحه إلى الأبد.
١٨، ١٩ «١٨ ثُمَّ جَاءَ ٱلثَّانِي قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، مَنَاكَ عَمِلَ خَمْسَةَ أَمْنَاءٍ. ١٩ فَقَالَ لِهٰذَا أَيْضاً: وَكُنْ أَنْتَ عَلَى خَمْسِ مُدُن».
أظهر العبد الثاني التواضع كالعبد الأول بقوله «مناك عمل».
خَمْسَةَ أَمْنَاءٍ أخذ قدر ما أخذ الأول لكنّه ربح أقلّ منه كأنّ اجتهاده أقلّ من اجتهاد ذاك.
عَلَى خَمْسِ مُدُنٍ حكم السيد بقدر اجتهاده على قدر ربحه وأثابه كذلك. فثوابه وإن كان عظيماً في ذاته أقل من ثواب الأول وأسباب سعادته وإفادة غيره أقل من مثلها لذاك. وكذلك يُثاب المسيحي في السماء على قدر أمانته واجتهاده في خدمة الله على هذه الأرض.
٢٠ «ثُمَّ جَاءَ آخَرُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ هُوَذَا مَنَاكَ ٱلَّذِي كَانَ عِنْدِي مَوْضُوعاً فِي مِنْدِيل».
اقتصر المثل على ذكر محاسبة ثلاثة عبيد من العشرة لأن ذلك كاف لبيان كيفية المحاسبة. ولا نعلم هل كان من خان واحداً فقط أو أكثر.
يَا سَيِّدُ هُوَذَا مَنَاكَ لم يكن هذا الإنسان من أعداء الملك بل كان من عبيده. أخذ المنا من سيده بناء على أن يتاجر به لنفع ذلك السيد.
مَوْضُوعاً فِي مِنْدِيلٍ لم يتصرف بالمنا شيئاً لنفع سيده لكسله وعدم اكتراثه بشأن الملك أو لعدم محبته وأمانته وتصديقه رجوع ذلك السيد. نعم إنّه لم ينفق المنا على نفسه ولم يُضعه لكنه حسب حبسه ورده كل ما يُطلب منه.
٢١ «لأَنِّي كُنْتُ أَخَافُ مِنْكَ، إِذْ أَنْتَ إِنْسَانٌ صَارِمٌ، تَأْخُذُ مَا لَمْ تَضَعْ وَتَحْصُدُ مَا لَمْ تَزْرَعْ».
متّى ٢٥: ٢٤
اتهم سيده بالظلم ستراً لذنبه هو وبأنه مشهور بطلبه من عبيده ما لاحق له أن يطلبه. وكلماته هنا جارية مجرى المثل. وقد سبق الكلام عليها في الشرح متّى ٢٥: ٢٤.
٢٢ – ٢٤ «٢٢ فَقَالَ لَـهُ: مِنْ فَمِكَ أَدِينُكَ أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلشِّرِّيرُ. عَرَفْتَ أَنِّي إِنْسَانٌ صَارِمٌ، آخُذُ مَا لَمْ أَضَعْ، وَأَحْصُدُ مَا لَمْ أَزْرَعْ، ٢٣ فَلِمَاذَا لَمْ تَضَعْ فِضَّتِي عَلَى مَائِدَةِ ٱلصَّيَارِفَةِ، فَكُنْتُ مَتَى جِئْتُ أَسْتَوْفِيهَا مَعَ رِباً؟ ٢٤ ثُمَّ قَالَ لِلْحَاضِرِينَ: خُذُوا مِنْهُ ٱلْمَنَا وَأَعْطُوهُ لِلَّذِي عِنْدَهُ ٱلْعَشَرَةُ ٱلأَمْنَاءُ».
٢صموئيل ١: ١٦ وأيوب ١٥: ٦ ومتّى ١٢: ٣٧، متّى ٢١: ١٢ و٢٥: ٢٦ و٢٧
انظر الشرح متّى ٢٥: ٢٦ – ٢٨.
مِنْ فَمِكَ أَدِينُكَ قوله بيّن كسله وذنبه وبطلان عذره. وهذا العذر وإن سكّت ضميره لم يقنع سيده لأن السيد طلب خدمته فكان عليه أن يأتي تلك الخدمة خوفاً منه على دعواه إن لم يأتها محبة له. فلم يجعله أميناً خوفٌ ولا محبة. وأشار المسيح بذلك إلى الذين يدعون أنهم مسيحيون لكنهم لا يستعملون الوسائط التي لهم لنفع نفوسهم ونفوس غيرهم ولمجد الله فالله يعلن ذنبهم ويعاقبهم بخزي وخسران.
٢٥ «فَقَالُوا لَـهُ: يَا سَيِّدُ عِنْدَهُ عَشَرَةُ أَمْنَاءٍ».
هذا الكلام من السامعين إظهارٌ لتعجبهم من كرم الملك على إنسان كان قد أكرمه بكثير.
٢٦ «لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ لَـهُ يُعْطَى، وَمَنْ لَيْسَ لَـهُ فَٱلَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ».
متّى ١٣: ١٢ و٢٥: ٢٩ ومرقس ٤: ٢٥ وص ٨: ١٨
هذا كلام جار مجرى المثل يبين به الملك سبب فعله كرره المسيح مراراً (متّى ١٣: ١٢ و٢٥: ٢٩ ومرقس ٤: ٢٥ وص ٨: ١٨) فراجع الشرح.
٢٧ «أَمَّا أَعْدَائِي، أُولَئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَٱذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي».
أتى أرخيلاوس مثل هذا العذاب لليهود الذين قاوموه منعاً من أن يكون ملكاً عليهم كما يبيّن من تاريخ يوسيفوس. وأشار المسيح بهذا إلى عقاب أعدائه في هذا العالم وفي العالم الآتي يهوداً كانوا أو أمماً في عصره أو سائر الأعصار.
ولنا من هذا المثل ثماني فوائد:
- الأولى: إنه سوف يأتي المسيح في نهاية العالم ليملك ممجداً.
- الثانية: إنه يدعو حال مجيئه كل عبيده للمحاسبة.
- الثالثة: إنه سيحاسب عبيده واحداً فواحداً بلا استثناء ولا محاباة فلا يترك سبيلاً لأحد أن يستر آثامه بظل الكنيسة أو القديسين.
- الرابعة: إن أهم ما يبحث عنه من أمور الإنسان في يوم الدين أمانته في ما وُكل إليه.
- الخامسة: إن خدم المسيح الأمناء يعطون حسابهم بالتواضع وينسبون كل فضل إلى نعمة المسيح وفقاً لقول بولس الرسول (غلاطية ٢: ٢٠).
- السادسة: إن المسيح يجازي الأمناء قولاً وفعلاً أكثر مما توقعوا أو تصوروا.
- السابعة: إن ثواب السماء وإن كان كله من النعمة مختلف الصنوف باختلاف اجتهاد الإنسان وأمانته.
- الثامنة: إن غير الأمناء من تلاميذ المسيح يعاقبون مع أعدائه المجاهرين ويكون نصيبهم الخجل والخسران الأبدي.
صعود المسيح من أريحا إلى أورشليم ع ٢٨ إلى ٤٠
٢٨ «وَلَمَّا قَالَ هٰذَا تَقَدَّمَ صَاعِداً إِلَى أُورُشَلِيمَ».
مرقس ١: ٣٢
وَلَمَّا قَالَ هٰذَا أي على أثر ما قاله في بيت زكا. والأرجح أنّه وصل إلى هنالك يوم الخميس وبات وسافر في صباح يوم الجمعة وفتح عيني ابن تيماوس وهو خارج.
تَقَدَّمَ أي سبق كل الناس رغبة في بلوغه أورشليم مع أنه كان يتوقع الآلام والموت هناك (انظر الشرح مرقس ١٠: ٣٢).
صَاعِداً تعلو أورشليم أريحا بنحو ٣٤٠٠ قدم. قال يوحنا الرسول «ثُمَّ قَبْلَ ٱلْفِصْحِ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ أَتَى يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا» (يوحنا ١٢: ١). ونعلم من ذلك أنه بلغ بيت عنيا مساء يوم الجمعة. والأرجح أنه تقضى عليه يوم السبت هناك وأنه بعد الغروب أي عند نهاية السبت حضر الوليمة التي فيها دهنت مريم قدمي يسوع (يوحنا ١٢: ١ – ٩).
٢٩ – ٣٨ «٢٩ وَإِذْ قَرُبَ مِنْ بَيْتِ فَاجِي وَبَيْتِ عَنْيَا عِنْدَ ٱلْجَبَلِ ٱلَّذِي يُدْعَى جَبَلَ ٱلزَّيْتُونِ، أَرْسَلَ ٱثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ ٣٠ قَائِلاً: اِذْهَبَا إِلَى ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي أَمَامَكُمَا، وَحِينَ تَدْخُلاَنِهَا تَجِدَانِ جَحْشاً مَرْبُوطاً لَمْ يَجْلِسْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ ٱلنَّاسِ قَطُّ. فَحُلاَّهُ وَأْتِيَا بِهِ. ٣١ وَإِنْ سَأَلَكُمَا أَحَدٌ: لِمَاذَا تَحُلاَّنِهِ؟ فَقُولاَ لَـهُ: إِنَّ ٱلرَّبَّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ. ٣٢ فَمَضَى ٱلْمُرْسَلاَنِ وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَـهُمَا. ٣٣ وَفِيمَا هُمَا يَحُلاَّنِ ٱلْجَحْشَ قَالَ لَـهُمَا أَصْحَابُهُ: لِمَاذَا تَحُلاَّنِ ٱلْجَحْشَ؟ ٣٤ فَقَالاَ: ٱلرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ. ٣٥ وَأَتَيَا بِهِ إِلَى يَسُوعَ، وَطَرَحَا ثِيَابَهُمَا عَلَى ٱلْجَحْشِ وَأَرْكَبَا يَسُوعَ. ٣٦ وَفِيمَا هُوَ سَائِرٌ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ فِي ٱلطَّرِيقِ. ٣٧ وَلَمَّا قَرُبَ عِنْدَ مُنْحَدَرِ جَبَلِ ٱلزَّيْتُونِ، ٱبْتَدَأَ كُلُّ جُمْهُورِ ٱلتَّلاَمِيذِ يَفْرَحُونَ وَيُسَبِّحُونَ ٱللّٰهَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، لأَجْلِ جَمِيعِ ٱلْقُوَّاتِ ٱلَّتِي نَظَرُوا، ٣٨ قَائِلِينَ: مُبَارَكٌ ٱلْمَلِكُ ٱلآتِي بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ! سَلاَمٌ فِي ٱلسَّمَاءِ وَمَجْدٌ فِي ٱلأَعَالِي!».
متّى ٢١: ١ ومرقس ١١: ١، ٢ملوك ٩: ١٣ ومتّى ٢١: ٧ ومرقس ١١: ٧ ويوحنا ١٢: ١٤، متّى ٢١: ٨، مزمور ١١٨: ٢٦ وص ١٣: ٣٥، ص ٢: ١٤ وأفسس ٢: ١٤
انظر الشرح متّى ٢١: ١ – ١٦. كان دخول المسيح هذا بالاحتفال إلى أورشليم من نوادر الأمور المتعلقة بحياة المسيح وقد التفت إليها البشيرون الأربعة. ويستنتج من ذلك أنها كانت من الأمور المهمة. والأرجح أن ذلك حدث يوم الأحد.
جَمِيعِ ٱلْقُوَّاتِ ٱلَّتِي نَظَرُوا (ع ٣٧) من تلك القوات فتح عيني برتيماوس في أريحا (ص ١٨: ٤٣) وإقامة لعازر التي حدثت قبل ذلك بقليل (يوحنا ١١: ٤٤).
٣٩ «وَأَمَّا بَعْضُ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ مِنَ ٱلْجَمْعِ فَقَالُوا لَـهُ: يَا مُعَلِّمُ، ٱنْتَهِرْ تَلاَمِيذَكَ».
بَعْضُ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ رافقه بعض الفريسيين ليراقبوا أعماله ويجدوا علّة للاشتكاء عليه ولم يشاركوا الجموع في الفرح وامتلأوا حسداً على تمجيد الناس إياه فلم يصدقوا أنه هو المسيح وحسبوا نسبة التلاميذ النبوات المتعلقة بالمسيح إلى يسوع تجديفاً.
ٱنْتَهِرْ تَلاَمِيذَكَ طلبوا ذلك إليه لا إلى الشعب لأنهم حسبوا سكوته اشتراكاً في التجديف وحسبوه مهيج الشعب إلى ذلك التسبيح.
بكاء يسوع على أورشليم ع ٤١ إلى ٤٤
٤٠ «فَأَجَابَ: أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ إِنْ سَكَتَ هٰؤُلاَءِ فَٱلْحِجَارَةُ تَصْرُخُ!».
حبقوق ٢: ١١
جاوبهم المسيح هنا بكلام جار مجرى المثل أظهر به أنه راض ما أتاه الجمع من التسبيح له وأبى أن يسكته عن ذلك كما طلب الفريسيون. وأبان صعوبة تسكيتهم بأنه أسهل عليه أن يجعل الحجارة البكماء تنطق من أن يجعل أولئك الناطقين يسكتون. وعرّض بذلك أن الفريسيين الذين امتنعوا عن التسبيح أقسى من الحجارة. فكأنه قال «الحق معهم وتسبيحهم في محله لأنه أتى الوقت للمناداة بأن يسوع هو المسيح الملك وهم اقتنعوا بذلك ففرحوا فرحاً عظيماً لا يستطيعون كتمه». وكان يسوع قبل ذلك ينهي تلاميذه عن أن ينادوا به مسيحاً وملكاً وأما هنا فأذن لهم في ذلك واعتبره من الضروريات لإتمام مقاصد الله ونبوءات الكتاب (زكريا ٩: ٩) ولهذا لو سكت الشعب عن التسبيح لأنطق الله الحجارة به.
٤١ «وَفِيمَا هُوَ يَقْتَرِبُ نَظَرَ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ وَبَكَى عَلَيْهَا».
يوحنا ١١: ٣٥
لم يذكر أحد من البشيرين سوى لوقا بكاء يسوع في ذلك الوقت ولوقا كان يحب أن يذكر الأشياء التي تُظهر كون يسوع ابن الإنسان وأنه يشفق على الناس الذين أخذ طبيعته منهم حتى وفي أحزانهم التي جلبوها على أنفسهم بخطاياهم.
وَفِيمَا هُوَ يَقْتَرِبُ نَظَرَ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ يمكن المسافر من بيت عنيا إلى أورشليم أن يذهب في إحدى طريقين الأولى فوق جبل الزيتون والثانية على سفحه وكلاهما يشرف على المدينة والهيكل.
وَبَكَى عَلَيْهَا لم يشغل أفكاره جمال المدينة والهيكل ولم تلهه تسبيحات الشعب وترنيماته. ولم تخفه الآلام التي توقعها هناك لكنه حقق بسابق علمه النوازل التي قُضي بها على أهل أورشليم لرفضهم إياه وهي التي أبكته. وهذه المرة الثانية أُخبرنا أنه بكى وكانت الأولى عند قبر لعازر (يوحنا ١١: ٣٥). وكانت دموعه في كلتيهما لأحزان غيره.
٤٢ «قَائِلاً: إِنَّكِ لَوْ عَلِمْتِ أَنْتِ أَيْضاً حَتَّى فِي يَوْمِكِ هٰذَا مَا هُوَ لِسَلاَمِكِ. وَلٰكِنِ ٱلآنَ قَدْ أُخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْكِ».
لَوْ عَلِمْتِ أي «يا ليتك علمت» أو في الكلام حذف وتقدير المحذوف «لكان خيراً لك». فكأن المسيح قابل في ذهنه المجد والسعادة اللذين كانت تستطيع الحصول عليهما بالنوازل التي جلبتها على نفسها. فعدم معرفة أورشليم ما هو خير لها كان من مختاراتها وآثامها لأنها أبت قبول البراهين على أن يسوع هو المسيح وكانت تلك البراهين كلماته ومعجزاته.
فِي يَوْمِكِ هٰذَا أي زمن نعمة الله الذي فيه أرسل الله ابنه إليك وفُتح لك فيه أبواب التوبة والرحمة وهو وقت قبول المسيح والخلاص به. ويسمّى أيضاً «زمان افتقادك» (ع ٤٤) ويراد بذلك على الخصوص نحو ثلاث سنين ونصف سنة وهي مدة تبشير المسيح على هذه الأرض. وأما الاستعداد لذلك اليوم فشغل نحو أربعة آلاف سنة.
مَا هُوَ لِسَلاَمِكِ السلام هنا كناية عن كل خير زمني وروحي. فلو قبلت يسوع مسيحاً نلت كل سلام ولكن برفضك أنه المسيح رفضت كل السلام.
أُخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْكِ أي عن عيني أهلك إجمالاً فإن قليلين منهم عرفوا الحقيقة. والأمر المخفى عنهم هو أن يسوع هو المسيح وأنه أتى خلاصاً لهم. وعلّة إخفاء ذلك عدم إيمانهم لأنهم لم يقبلوا شهادة يسوع ورسله ونسبوا المعجزات التي أتوا بها إلى بعلزبول.
٤٣، ٤٤ «٤٣ فَإِنَّهُ سَتَأْتِي أَيَّامٌ وَيُحِيطُ بِكِ أَعْدَاؤُكِ بِمِتْرَسَةٍ، وَيُحْدِقُونَ بِكِ وَيُحَاصِرُونَكِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، ٤٤ وَيَهْدِمُونَكِ وَبَنِيكِ فِيكِ، وَلاَ يَتْرُكُونَ فِيكِ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ، لأَنَّكِ لَمْ تَعْرِفِي زَمَانَ ٱفْتِقَادِك».
إشعياء ٢٩: ٣ و٤ وإرميا ٦: ٣ و٦ وص ٢١: ٢٠، ١ملوك ٩: ٧ و٨ وميخا ٣: ١٢، متّى ٢٤: ٢ ومرقس ١٣: ٢ وص ٢١: ٦، دانيال ٩: ٢٤ وص ١: ٦٨ و٧٨ و١بطرس ٢: ١٢
سبب بكاء المسيح ما ذُكر في هذين العددين مما عرفه المسيح بعلمه السابق وذلك مختصر ما أنبأ به متّى في الأصحاح الرابع والعشرين من بشارته في شأن حصار أورشليم سنة ٧٠ ب.م فراجع الشرح هناك.
لأَنَّكِ لَمْ تَعْرِفِي زَمَانَ ٱفْتِقَادِكِ أي جهلت علّة خرابك (متّى ٢١: ٣٨ – ٤٣ و٢٢: ٧). والمراد بزمان افتقادها وقت الرحمة كما في (تكوين ٢١: ١ وراعوث ١: ٦ ولوقا ١: ٦٨ و٧٨ و٧: ١٦). ولا سيما وقت خدمة المسيح على الأرض. وهو يتضمن أيضاً أربعين سنة بعد صعوده وأتى حينئذ يوم النقمة بخراب المدينة. وعدم معرفة اليهود زمن افتقادهم هو جهلهم أن يسوع هو مسيحهم ورفضهم إياه وصلبهم له وبذلك حوّلوا الرحمة نقمة.
وما صح على اليهود يصح على كل الخطاة من أربعة أوجه:
- الأول: أنّ الله عيّن لهم وقتاً يمكنهم فيه أن يتوبوا ويستعدوا للسماء. ومنحهم وسائط كافية لذلك.
- الثاني: أنّ ذلك الوقت محدود. وهو زمان افتقادهم الذي هو من أهم الأوقات لأنه يتعلق به سعدهم الأبدي أو شقاؤهم الدائم.
- الثالث: أنّه حينما يتقضى ذلك الوقت يزول وسائط النعمة ولا سيما تأثير الروح القدس فيهم ويُغلق الباب.
- الرابع: أنّه بعد نهاية زمن افتقادهم الرحمة يبتدئ زمان افتقاد الدينونة والانتقام ويدوم إلى الأبد.
تطهير الهيكل الثاني ع ٤٥ إلى ٤٨
٤٥، ٤٦ «٤٥ وَلَمَّا دَخَلَ ٱلْهَيْكَلَ ٱبْتَدَأَ يُخْرِجُ ٱلَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِيهِ ٤٦ قَائِلاً لَـهُمْ: مَكْتُوبٌ أَنَّ بَيْتِي بَيْتُ ٱلصَّلاَةِ. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ».
متّى ٢١: ١٢ ومرقس ١١: ١١ و١٥ ويوحنا ٢: ١٤ و١٥، إشعياء ٥٦: ٧، إرميا ٧: ١١
قد سبق الكلام على تطهير الهيكل في الشرح (متّى ٢١: ١٢ و١٣ ومرقس ١١: ١٥ – ١٩). وكان تطهير الهيكل أولاً في بداءة خدمة المسيح (يوحنا ٢: ١٣ – ١٦).
٤٧، ٤٨ «٤٧ وَكَانَ يُعَلِّمُ كُلَّ يَوْمٍ فِي ٱلْهَيْكَلِ، وَكَانَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ مَعَ وُجُوهِ ٱلشَّعْبِ يَطْلُبُونَ أَنْ يُهْلِكُوهُ، ٤٨ وَلَمْ يَجِدُوا مَا يَفْعَلُونَ، لأَنَّ ٱلشَّعْبَ كُلَّهُ كَانَ مُتَعَلِّقاً بِهِ يَسْمَعُ مِنْهُ».
مرقس ١١: ١٨ ويوحنا ٧: ١٩ و٨: ٣٧
كُلَّ يَوْمٍ أي من الأيام الثلاثة الأولى من الأسبوع الذي صُلب فيه. وكان يبيت حينئذ كل ليلة في بيت عنيا ويرجع صباحاً إلى أورشليم. وخرج آخر مرة من الهيكل في مساء يوم الثلاثاء (متّى ٢٤: ١ ومرقس ١١: ١٩ ولوقا ٢١: ٣٨).
وَكَانَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ الخ انظر الشرح (مرقس ١١: ١٨ و١٩).
وَلَمْ يَجِدُوا مَا يَفْعَلُونَ أي لم يجدوا في تعليمه ما يشتكونه به إلى الحكام ولم يجسروا أن يقبضوا عليه بلا حجة.
ٱلشَّعْبَ (ع ٤٨) أي عامة أهل المدينة والجموع التي أتت من الجليل وغيرها من البلاد ليحضروا عيد الفصح.
السابق |
التالي |