إنجيل لوقا

إنجيل لوقا | 14 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل لوقا

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الرابع عشر

ذهاب المسيح إلى بيت فريسي للعشاء والحوادث هناك ع ١ إلى ٢٤ (بيرية سنة ٣٠)

شفاء مستسقٍ ع ١ إلى ٦

١ «وَإِذْ جَاءَ إِلَى بَيْتِ أَحَدِ رُؤَسَاءِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ فِي ٱلسَّبْتِ لِيَأْكُلَ خُبْزاً، كَانُوا يُرَاقِبُونَهُ».

أَحَدِ رُؤَسَاءِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ الأرجح أنه رئيس المجمع كما كان في متّى ٩: ١٨.

لِيَأْكُلَ خُبْزاً أي ليتعشّى. والذي حمل الفريسي على دعوة يسوع إلى العشاء ما ذُكر في شرح ص ٧: ٣٦.

لم يحسب الفريسيون إيلام الولائم يوم الرب تدنيساً للوصية الرابعة إذا أعدوا الأطعمة يوم الجمعة ولم يطبخوا شيئاً في السبت. وقبل المسيح الدعوة إلى العشاء في ذلك اليوم لا للذة بل لأنه مسافر ومحتاج إلى أن ينزل ضيفاً على الناس للضروريات الجسدية ولقصده إفادة المجتمعين بالتعليم.

كَانُوا يُرَاقِبُونَهُ كان المدعوون كثيرين بينهم جماعة من الفريسيين (ع ٣ و٧) وكانوا أهل ظنه يراقبونه دائماً ليجدوا علّة شكوى عليه ليضعفوا تأثيره في الشعب وليشكوه إلى الحكام. وكانوا مغتاظين منه حينئذ لتوبيخه إياهم (ص ١١: ٤٠ – ٥١).

٢ «وَإِذَا إِنْسَانٌ مُسْتَسْقٍ كَانَ قُدَّامَهُ».

إِنْسَانٌ مُسْتَسْقٍ أي مصاب بداء الاستسقاء وهو عرض من أعراضه ورم الجسد من احتباس الماء الكثير فيه.

كَانَ قُدَّامَهُ لم يكن هذا المصاب من المدعوين بدليل أن المسيح لما شفاه أطلقه (ع ٤) وهو أتى إما من تلقاء نفسه أملاً أن يراه المسيح ويشفق عليه ويشفيه لكنه لم يجسر أن يطلب الشفاء خوفاً من الفريسيين وإما لإرشاد الفريسيين إياه إلى ذلك لكي يجربوا المسيح بشفائه إياه في السبت فتكون لهم علّة لأن يشكوه. والأرجح الأول أنه ليس من عادة المسيح أن يشفي من لا يؤمن بقدرته على الشفاء والأولى لأنه لا يشفي من رضي أن يكون آلة للفريسيين الذين أرادوا أن يصطادوه.

٣ «فَسَأَلَ يَسُوعُ ٱلنَّامُوسِيِّينَ وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ: هَلْ يَحِلُّ ٱلإِبْرَاءُ فِي ٱلسَّبْتِ؟».

متّى ١٢: ١٠

فَسَأَلَ يَسُوعُ لا دليل على أن الفريسيين تكلموا بشيء فإذن يكون جوابه على أفكارهم لأنها كانت ظاهرة له كما لو تكلموا. وقد أظهروا أفكارهم بكلامهم قبل هذا (ص ١٣: ١٤).

ٱلنَّامُوسِيِّينَ الأرجح أن الناموسيين كانوا من جملة الفريسيين وامتازوا عن سائر تلك الفرقة بأنهم جعلوا شريعة موسى موضوع درسهم وتعلمهم.

٤، ٥ «٤ فَسَكَتُوا. فَأَمْسَكَهُ وَأَبْرَأَهُ وَأَطْلَقَهُ. ثُمَّ سَأَلَ: ٥ مَنْ مِنْكُمْ يَسْقُطُ حِمَارُهُ أَوْ ثَوْرُهُ فِي بِئْرٍ وَلاَ يَنْشِلُهُ حَالاً فِي يَوْمِ ٱلسَّبْتِ؟».

خروج ٢٣: ٥ وتثنية ٢٢: ٤ وص ١٣: ١٥

فَسَكَتُوا (ع ٤) هذا السكوت أظهر حيرتهم فإنهم لو قالوا «يحل» لم يبق طريق لتخطئة المسيح إذا ابرأه ولو قالوا «لا يحل» عرضوا أنفسهم لقول الشعب عليهم أنهم بلا شفقة. وأعلن ذلك السكوت سوء قصدهم لأنه كان يجب عليهم باعتبار أنهم معلمي الشعب أن يصرّحوا حكمهم بأحد الوجهين.

فَأَمْسَكَهُ أظهر المسيح بذلك أنه هو مصدر الشفاء.

وَأَبْرَأَهُ هذا جواب لسؤاله الفريسيين وهو قوله «هل يحل الخ» فبيّن المسيح الفرق العظيم بين عدم شفقة أولئك الذين لم يريدوا أن يتفوهوا بكلمة مساعدة للمصاب وشفقته بأن شفاه وعرّض ذاته لبغض الأعداء.

وكانت علّة إبراء المسيح ذلك المستسقي شفقته عليه. وغايته من شفائه في يوم السبت إزالة ما أضافه الفريسيون إلى الوصية الرابعة من التقاليد والأوامر الثقيلة غير النافعة وتبيين حقيقتها الأصلية كما قصد الله.

وَأَطْلَقَهُ ليذهب إلى بيته لئلا يوبخه الفريسيون لأنه شُفي في السبت كما فعلوا غير مرات (ص ١٣: ١٤ ويوحنا ٩: ٣٤).

ثُمَّ سَأَلَ معنى كلام المسيح هنا كمعنى كلامه في ص ١٣: ١٥ ومتّى ١٢: ١١ فراجع الشرح هناك.

حَالاً هذه السرعة تدل على عدم وجود أدنى شك في جواز ذلك العمل يوم السبت.

وترك المسيح للفريسيين أن يستنتجوا هم أن ما يجوز أن يعمله الإنسان من الخير للبهيمة في يوم السبت شفقة عليها أولى أن يجوز عمله للإنسان كذلك.

٦ «فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُجِيبُوهُ عَنْ ذٰلِكَ».

لم يكن عدم إجابتهم من عدم إرادتهم للجواب بل لأنهم لم يروا ما به يدفعون حجته ولأن الشعب كان مسروراً به. ولعلهم خافوا من القوة التي أظهرها في شفاء الإنسان.

خطاب يسوع للمدعوين ع ٧ إلى ١١

٧ «وَقَالَ لِلْمَدْعُوِّينَ مَثَلاً، وَهُوَ يُلاَحِظُ كَيْفَ ٱخْتَارُوا ٱلْمُتَّكَآتِ ٱلأُولَى».

متّى ٢٣: ٦

مَثَلاً سُمي كلام المسيح هنا مثلاً لتضمنه معنى أدبياً متعلقاً بالتواضع الواجب على المدعويين أن يأتوه في الولائم. وهذا يوافق المبدأ الذي أبانه الرسول بقوله «بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ ٱلْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضاً» (فيلبي ٢: ٣ و٤).

وَهُوَ يُلاَحِظُ الأرجح أن هذه الملاحظة كانت قبل تناول الطعام حين اتّكأوا للعشاء قبل شفاء المستسقي.

كَيْفَ ٱخْتَارُوا ٱلْمُتَّكَآتِ ٱلأُولَى أتى الرسل مثل ذلك عند اجتماعهم لأكل الفصح الأخير ووقع بينهم مشاجرة به (لوقا ٢٢: ٢٤) «والمتكآت الأولى» هي ما كانت أقرب من صدر المائدة حيث يجلس رب البيت وكان من مطلوبات الفريسيين المتولدة عن كبريائهم (متّى ٢٣: ٦) وصورة الاتكاء حول المائدة في صفحة ٢٩٠ من المجلد الأول والكلام عليها في شرح بشارة متّى ٢٣: ٦.

٨ «مَتَى دُعِيتَ مِنْ أَحَدٍ إِلَى عُرْسٍ فَلاَ تَتَّكِئْ فِي ٱلْمُتَّكَإِ ٱلأَوَّلِ، لَعَلَّ أَكْرَمَ مِنْكَ يَكُونُ قَدْ دُعِيَ مِنْهُ».

مَتَى دُعِيتَ خاطب المسيح المفرد تعميماً للخطاب أي ليكون لكل فرد من الحاضرين.

إِلَى عُرْسٍ أي وليمة عرس لأن وليمة العرس تكون كبيرة والمدعوون كثرين.

أَكْرَمَ مِنْكَ أي أعظم منك رتبة أو منصباً أو أكبر منك سناً ولمثل هذا الحق في أن يجلس فوقك بمقتضى العادة.

٩ «فَيَأْتِيَ ٱلَّذِي دَعَاكَ وَإِيَّاهُ وَيَقُولَ لَكَ: أَعْطِ مَكَاناً لِهٰذَا. فَحِينَئِذٍ تَبْتَدِئُ بِخَجَلٍ تَأْخُذُ ٱلْمَوْضِعَ ٱلأَخِيرَ».

ٱلَّذِي دَعَاكَ وَإِيَّاهُ وَيَقُولَ الخ أي رب البيت الذي يحق له أن يعيّن لكل مدعو متكأه وهو يرى أن الذي أتى أخيراً أعظم منك وأنه أهل للمتكأ الذي اتكأت أنت فيه ويأمرك أن تتركه له.

تَبْتَدِئُ هذا يدل على شيء من تكلف ترك متكئه وهو الذي يحمله على التباطوء.

بِخَجَلٍ لأنك ملزوم أن تترك محل الشرف أمام كل المدعوين وتجلس في مكان دونه.

ٱلْمَوْضِعَ ٱلأَخِيرَ أي الذي هو أبعد عن صدر المائدة وذلك لم يكن من اختيار رب البيت بل لمقتضى الحال إذ لم يبق محل فوقه.

١٠ «بَلْ مَتَى دُعِيتَ فَٱذْهَبْ وَاتَّكِئْ فِي ٱلْمَوْضِعِ ٱلأَخِيرِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ ٱلَّذِي دَعَاكَ يَقُولُ لَكَ: يَا صَدِيقُ، ٱرْتَفِعْ إِلَى فَوْقُ. حِينَئِذٍ يَكُونُ لَكَ مَجْدٌ أَمَامَ ٱلْمُتَّكِئِينَ مَعَكَ».

أمثال ٢٥: ٦ و٧

اتَّكِئْ فِي ٱلْمَوْضِعِ ٱلأَخِيرِ أي اظهر أنك لا تحسب نفسك أعظم من الآخرين وأنك لست براغب في العظمة والرفعة وأنك لست بمولع في تحصيل حقوقك.

حَتَّى… يَقُولُ لَكَ ينبغي أن يكون ذلك نتيجة غير مقصودة وإلا كان التواضع رياء وخداعاً.

ٱلَّذِي دَعَاكَ يستدل من هذا أن رب البيت كان يستقبل المدعوين عند الباب ويدعوهم إلى الجلوس حول المائدة ولا يحضر المائدة إلا بعد دخول الكل واتكائهم.

يَكُونُ لَكَ مَجْدٌ لاهتمام رب البيت بك اهتماماً خاصاً وبيان أنك مستحق الإكرام وأنك من المتواضعين. ويتبين من ذلك أنه غير محظور على المسيحي أن يقبل الإكرام من الناس وأن يسر به لكن لا يجوز أن يطلب ذلك ويرغب في الحصول عليه ويدعي أنه مستحق له بل يجب أن يستحق الإكرام بفضائله ولا سيما فضيلة التواضع.

١١ «لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ».

أيوب ٢٢: ٢٩ ومزمور ١٨: ٢٧ وأمثال ٢٩: ٢٣ وإشعياء ١٤: ١٣ إلى ١٥ ومتّى ٢٣: ١٢ وص ١٨: ١٤ وفيلبي ٢: ٥ إلى ١١ ويعقوب ٤: ٦ و١بطرس ٥: ٥

هذا مبدأ من مبادئ الديانة المسيحية كرّره المسيح مراراً وقد مرّ تفسيره في شرح بشارة متّى ٢٣: ١٢. وما قيل في رسالة بطرس الأولى ٥: ٥ يدل على أن تلاميذه لم ينسوه. وهو قانون عام في السماء وغالب على الأرض. فذكر المسيح هذا المبدإ هنا يظهر أن كلامه السابق غير مقصور على التصرف في الولائم بل يفيد أن التواضع واجب في كل أحوال الحياة.

خطاب لرب البيت ع ١٢ إلى ١٤

١٢ «وَقَالَ أَيْضاً لِلَّذِي دَعَاهُ: إِذَا صَنَعْتَ غَدَاءً أَوْ عَشَاءً فَلاَ تَدْعُ أَصْدِقَاءَكَ وَلاَ إِخْوَتَكَ وَلاَ أَقْرِبَاءَكَ وَلاَ ٱلْجِيرَانَ ٱلأَغْنِيَاءَ، لِئَلاَّ يَدْعُوكَ هُمْ أَيْضاً، فَتَكُونَ لَكَ مُكَافَاةٌ».

وجّه المسيح خطابه قبلاً للمدعوين ولكنه وجّهه الآن إلى رب البيت الذي دعاهم.

إِذَا صَنَعْتَ غَدَاءً أَوْ عَشَاءً الأرجح أن أكثر المدعوين حينئذ من الأعيان أو الأغنياء ولعلّ رب البيت دعاهم ليسروا به ويدعوه إلى بيوتهم كما دعاهم. ووصف المسيح هنا الوليمة التي يجوز للمسيحي أن يولمها ويسر المسيح بها ويجازي مولمها عليها في السماء. فإذا كانت وليمة الأصحاب حسنة فالوليمة التي وصفها المسيح هنا أحسن.

فَلاَ تَدْعُ أَصْدِقَاءَكَ… وَلاَ ٱلْجِيرَانَ ٱلأَغْنِيَاءَ ليس مراد المسيح أن يمنع من الإيلام للأصدقاء والأغنياء لكنه قصد أن لا يُكتفى بذلك ويُترك الفقراء والمساكين. وأن صنع الولائم للأصدقاء وللأغنياء ليست بفضيلة دينية يُثاب عليها في السماء. على أنّه قصد أن يمنع ولائم الترفه والولائم التي الغاية منها إظهار غنى المولم وفخره واللذة بالمشتهيات من طعام وشراب التي تهيج الشهوات الجسدية وتقتضي نفقات وافرة لا تبقي شيئاً لمساعدة البائسين فهذه الولائم لا ترضي المسيح ولا ثواب عليها عند الله.

لِئَلاَّ يَدْعُوكَ هُمْ أَيْضاً الخ الذي يدعو أصحابه بغية أن يدعوه هم فهو كتاجر لا مضيف لأن الضيافة تقتضي أن يُنفق على الضيف لمجرد إكرامه لا لانتظار المكافأة. فالذي يدعو أصحابه لكي يسر بهم يستوفي أجره بتلك المسرة وكذا من يدعوهم لإظهار سخائه وغناه فكفى الداعي ما ناله من مطلوبه فلا يظن أن له بذلك فضلاً عند الله وأن له ثواباً في السماء.

١٣ «بَلْ إِذَا صَنَعْتَ ضِيَافَةً فَٱدْعُ ٱلْمَسَاكِينَ: ٱلْجُدْعَ، ٱلْعُرْجَ، ٱلْعُمْيَ».

نحميا ٨: ١٠ و١٢

ٱلْمَسَاكِينَ الخ هم الذين لا طعام لهم ولا قدرة على تحصيل القوت الضروري بالعمل.

١٤ «فَيَكُونَ لَكَ ٱلطُّوبَى إِذْ لَيْسَ لَـهُمْ حَتَّى يُكَافُوكَ، لأَنَّكَ تُكَافَى فِي قِيَامَةِ ٱلأَبْرَارِ».

فَيَكُونَ لَكَ ٱلطُّوبَى من مدح الضمير ومدح الله واللذة بعمل الخير ويكون لك في السماء أجر عظيم. وهذا وفق قوله تعالى «مَغْبُوطٌ هُوَ ٱلْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ ٱلأَخْذِ» (أعمال ٢٠: ٣٥).

لَيْسَ لَـهُمْ حَتَّى يُكَافُوكَ لا يقدرون أن يدعوك إلى الولائم ولا يستطيعون مكافأتك بطريق أُخرى لكن مع ذلك لا يكون إنفاقك عليهم باطلاً.

لأَنَّكَ تُكَافَى أي أن الله يثيبك. ووعده يؤكد ذلك. لكن تلك الإثابة على سبيل النعمة لا سبيل الأجرة لأن الثواب عظيم والعمل زهيد وهو واجب على كل حال. وغني عن البيان أن الإحسان الذي يُثاب عليه يُؤتى شفقة على الفقراء وإطاعة لأمر الله لا للافتخار وبغية الأجر.

قِيَامَةِ ٱلأَبْرَارِ أي في اليوم الأخير الذي يثيب الله فيه الأتقياء على كل أعماله الصالحة التي أتوها على الأرض (متّى ١٠: ٤٢ و٢٥: ٣٤ – ٣٦). ولا داعي للمسيح هنا إلى ذكر قيامة الأشرار ولهذا لم يذكرها فلا يلزم من ذلك أن الأشرار لا يقومون أو أنهم يقومون في وقت آخر. وكيف كان الأمر لا يقومون قيامة مجيدة للسعادة والثواب إلا الأبرار. وتسمى قيامتهم «قيامة الحياة» (يوحنا ٥: ٢٩). والذي قاله المسيح لرب البيت يُقال لكل إنسان لأن المسيح لا يريد أن ننسى الفقراء ونهملهم بل يود أن نساعدهم على قدر طاقتنا. ويجب أن نعولهم بالضروريات أكثر من حبه أن نولم لجيراننا وأقربائنا وأصحابنا غير المحتاجين. ويتبين من كلام ربنا هنا أن نتوقع يوم القيامة. ونعمل كل ما يثاب عليه في ذلك اليوم ولو أمراً يسيراً مثل أنه ألفقراء ندعو إلى الطعام أم الأغنياء. وإن الله يثيب الأتقياء في اليوم الأخير حسب أعمالهم لا لأجلها.

مثَل العشاء العظيم ع ١٥ إلى ٢٤

١٥ «فَلَمَّا سَمِعَ ذٰلِكَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْمُتَّكِئِينَ قَالَ لَـهُ: طُوبَى لِمَنْ يَأْكُلُ خُبْزاً فِي مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ».

رؤيا ١٩: ٩

وَاحِدٌ مِنَ ٱلْمُتَّكِئِينَ قَالَ هذا القائل ليس من تلاميذ المسيح بل من اليهود الذين كانوا يتوقعون أن يأتي المسيح ملكاً زمنياً فإنه سمع قول المسيح بالثواب في قيامة الأبرار وفهم بتلك القيامة إعلان ملكوت المسيح المجيد كسائر اليهود. وتوقع أن يكون أول زمن تأسيسه وقت احتفال عظيم ووليمة نفيسة. وتحقق أنه من المدعوين إلى تلك الوليمة لا محالة لأنه يهودي. ولم يسأل نفسه هل قبلت دعوة الله وهل خلا قلبي من الشهوات الجسدية التي تكون سبباً لرفضي منها. ووجه المسيح هذا المثل إليه وإلى أمثاله تحذيراً لهم. فكأنه قال أي نفع إن طوبتم من حضروا تلك الوليمة إن لم تقبلوا أنتم الدعوة إليها. وهذا المثل غير المثل المذكور في بشارة متّى ٢٢: ١ – ١٤.

١٦ «فَقَالَ لَـهُ: إِنْسَانٌ صَنَعَ عَشَاءً عَظِيماً وَدَعَا كَثِيرِينَ».

متّى ٢٢: ٢

إِنْسَانٌ أشار المسيح بهذا إلى الله لأنه ضرب المثل على أثر قول أحد الضيوف «طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله».

عَشَاءً عَظِيماً هذا إشارة إلى وليمة الإنجيل التي يذوق المدعوون بعض أطائبها الروحية الآن ويتمتعون بكلها في السماء.

وتنبأ بهذه الوليمة إشعياء (إشعياء ٢٥: ٦). ومرّ الكلام على وجه الشبه بين بركات الإنجيل والوليمة في الشرح (متّى ٢٢: ٢). ويصح أن يعبّر عن وليمة الإنجيل بعشاء عظيم لأن ربها ملك السماء الأعظم وقد استعد لتلك الوليمة قروناً كثيرة.

وَدَعَا كَثِيرِينَ هذا من جملة الأدلة على أن العشاء عظيم والمدعوون هنا اليهود العارفون كالكهنة والكتبة والشيوخ والفريسيين وسائر العلماء الذي عرفوا الكتب المقدسة أحسن معرفة وادعوا الغيرة للناموس وزيادة البر. وجعلتهم زيادة معرفتهم وادعائهم ما ذكر بمنزلة المدعوين أولاً إلى ملكوت الله. وكانت هذه الدعوة دعوة استعداد للحضور لا دعوة حضور. ويظهر مما يأتي أنهم قبلوا الدعوة وإلا لم يأت الخادم ثانية ليخبرهم بحلول وقت العشاء.

فاليهود ادعوا أنهم متوقعون المسيح ومستعدون للترحيب به وأنهم هم الضيوف في الوليمة السماوية لا غيرهم من الناس.

١٧ «وَأَرْسَلَ عَبْدَهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعَشَاءِ لِيَقُولَ لِلْمَدْعُوِّينَ: تَعَالَوْا لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ أُعِدَّ».

أمثال ٩: ٢ و٥

عَبْدَهُ أشار بالعبد هنا إلى كثيرين وأفرده بالنظر إلى مقتضى المثل. والذي أرسله الله أولاً ليدعو إلى وليمة الإنجيل هو يوحنا المعمدان ثم يسوع نفسه ثم الرسل والمبشرون الذين نادوا بأن المسيح قد أتى وأخذ يؤسس ملكوته.

لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ أُعِدَّ لم يكن كل شيء معداً إلا بعد أن أتى المسيح الموعود به انظر الشرح متّى ٢٢: ٤.

١٨ – ٢٠ «١٨ فَٱبْتَدَأَ ٱلْجَمِيعُ بِرَأْيٍ وَاحِدٍ يَسْتَعْفُونَ. قَالَ لَـهُ ٱلأَوَّلُ: إِنِّي ٱشْتَرَيْتُ حَقْلاً، وَأَنَا مُضْطَرٌّ أَنْ أَخْرُجَ وَأَنْظُرَهُ. أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي. ١٩ وَقَالَ آخَرُ: إِنِّي ٱشْتَرَيْتُ خَمْسَةَ أَزْوَاجِ بَقَرٍ، وَأَنَا مَاضٍ لأَمْتَحِنَهَا. أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي. ٢٠ وَقَالَ آخَرُ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ بِٱمْرَأَةٍ، فَلِذٰلِكَ لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَجِيءَ».

تثنية ٢٤: ٥

ٱلْجَمِيعُ لا يحسن أن يُفهم من ذلك أن كل رؤساء اليهود وعلمائهم رفضوا المسيح لأن بعضهم آمن به كنيقوديموس ويوسف الرامي وغيرهما. لكنهم كانوا قليلين كما ظهر من قول الرؤساء «أَلَعَلَّ أَحَداً مِنَ ٱلرُّؤَسَاءِ أَوْ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ آمَنَ بِهِ» (يوحنا ٧: ٤٨).

بِرَأْيٍ وَاحِدٍ كانت الأعذار بعدم قبول الدعوة مختلفة لكنه كان روح الكل واحداً فكانوا كأنهم اتفقوا على رأي واحد.

يَسْتَعْفُونَ علّة استعفاء رؤساء اليهود الحقيقية هي ما في قوله «فَقَدْ رَأَوْا وَأَبْغَضُونِي أَنَا وَأَبِي» (يوحنا ١٥: ٢٤). وعدم رغبتهم في الروحيات التي دعاهم المسيح إليها. وكان بعض أعذارهم يختلف عن بعض وكلها كاذباً. على أنها لو صحت لكانت غير كافية. وجميعها مبني على الأهواء الدنيوية كمحبة المال والمتاجر واللذات وهذه ليست شريرة بالذات لكنها صارت كذلك بتقديمها على غيرها ولأنها تمنع أصحابها عن طلب الخير الروحي السماوي. وكلها تبين الاستخفاف برب الوليمة وعدم الاكتراث بما أعده. ومما يبين بطلانها كونهم قد قبلوا الدعوة في أول الأمر.

وطلب الأول الإعفاء بحجة الاضطرار فقال «أنا مضطر… أسألك أن تعفيني» وطلب الثاني الإعفاء بحجة عزمه على أمر سابق فقال «أنا ماض… أسألك أن تعفيني». وأما الثالث فلم يطلب الإعفاء بل اكتفى بقوله «لا أقدر أن أجيء». فعذر الثالث كان مقبولاً حسب شريعة موسى لو كانت الدعوة إلى حرب (تثنية ٢٤: ٥) ولكنه لم يُقبل في عدم المجيء إلى وليمة قبل الدعوة إليها قبلاً.

ومثل هذه الأعذار الباطلة كل الأعذار التي يوردها الناس في عدم اهتمامهم بخلاص نفوسهم وعدم قبولهم المسيح الآن مخلصاً لهم. ومهما ظهرت لهم تلك الأعذار كافية الآن فهي غير كافية لدى الله ولا تظهر لهم كافية في يوم الدين.

٢١ «فَأَتَى ذٰلِكَ ٱلْعَبْدُ وَأَخْبَرَ سَيِّدَهُ بِذَلِكَ. حِينَئِذٍ غَضِبَ رَبُّ ٱلْبَيْتِ، وَقَالَ لِعَبْدِهِ: ٱخْرُجْ عَاجِلاً إِلَى شَوَارِعِ ٱلْمَدِينَةِ وَأَزِقَّتِهَا، وَأَدْخِلْ إِلَى هُنَا ٱلْمَسَاكِينَ وَٱلْجُدْعَ وَٱلْعُرْجَ وَٱلْعُمْيَ».

فَأَتَى… وَأَخْبَرَ سَيِّدَهُ هذا من أعراض المثل بالنسبة إلى الناس فإن الله يعلم كل شيء بلا حاجة إلى أن يخبره أحد.

غَضِبَ رَبُّ ٱلْبَيْتِ لأنه علم أن تلك الأعذار باطلة وأن علّة استعفائهم بغضهم إياه ولأنهم أهانوه بذلك. وكذا يغضب الله على كل من لا يؤمن به ولا يقبل إنجيله.

ٱخْرُجْ… إِلَى شَوَارِعِ ٱلْمَدِينَةِ يستدل من قوله «شوارع المدينة» أن الدعوة الثانية كانت لليهود كالأولى إلا أنها للعشارين والخطاة منهم وهم معدودون من أدنياء الشعب وهم المشار إليهم في ع ١٣. فالله يدعو إلى وليمته الروحية أمثال هؤلاء وفقاً لنصح المسيحي للفريسي أن يفعل في الوليمة الأرضية.

٢٢ «فَقَالَ ٱلْعَبْدُ: يَا سَيِّدُ، قَدْ صَارَ كَمَا أَمَرْتَ، وَيُوجَدُ أَيْضاً مَكَانٌ».

قَدْ صَارَ كَمَا أَمَرْتَ أي دعوا الناس من الشوارع وأتوا بهم. وكذا كان في الإقبال إلى المسيح «وَكَانَ ٱلْجَمْعُ ٱلْكَثِيرُ يَسْمَعُهُ بِسُرُورٍ» (مرقس ١٢: ٣٧).

وَيُوجَدُ أَيْضاً مَكَانٌ كذلك السماء واسعة ومعدّات فداء المسيح ونعمة الله غير محدودة تكفي العالم كله.

٢٣ «فَقَالَ ٱلسَّيِّدُ لِلْعَبْدِ: ٱخْرُجْ إِلَى ٱلطُّرُقِ وَٱلسِّيَاجَاتِ وَأَلْزِمْهُمْ بِٱلدُّخُولِ حَتَّى يَمْتَلِئَ بَيْتِي».

ٱلطُّرُقِ وَٱلسِّيَاجَاتِ هذه في خارج المدينة. وأشار بهذا الكلام إلى دعوة الأمم. وعبّر عنهم بمصطلحات اليهود فإنهم كانوا يحسبون الأمم مثل كناسة مدينتهم المقدسة. فعلى هذا صارت دعوة الإنجيل لخطأة كل الأجيال الذين يشعرون بافتقارهم إلى المسيح ونعمته.

أشار المسيح بالدعوة الأولى والثانية إلى ما كان من دعوة الإنجيل في الماضي والحال وبالدعوة الثالثة إلى ما يكون في مستقبله إلى ما يصير من يوم الخمسين إلى نهاية العالم.

وَأَلْزِمْهُمْ بِٱلدُّخُولِ لا بالإجبار أو بالرغم بل بشدة الإلحاح لأن الذين مساكنهم السياجات يرون أنفسهم ليسوا أهلاً للدخول إلى قصور الأغنياء والتعشي هنالك فيحتاجون إلى من يحقق لهم أنه يرحب بهم هنالك. وكذلك على المبشرين أن يستعملوا كل ما في طاقتهم من البراهين القاطعة المبنية على تهديدات الناموس أو مواعيد الإنجيل ليقنعوا الناس بأن يقبلوا المسيح ودعوته. وهذا وفق قول بولس «فَإِذْ نَحْنُ عَالِمُونَ مَخَافَةَ ٱلرَّبِّ نُقْنِعُ ٱلنَّاسَ» (٢كورنثوس ٥: ١١). وقوله «فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ ٱللّٰهِ» (رومية ١٢: ١). وقوله «كَأَنَّ ٱللّٰهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ ٱلْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ ٱللّٰهِ» (٢كورنثوس ٥: ٢٠). وهذا الكلام يدل على رغبة الله في خلاص الجميع وأنه لا يرفض أحداً لفقره أو لجهله أو لخطاياه السالفة.

حَتَّى يَمْتَلِئَ بَيْتِي يدل هذا على كثرة الناس الذين يؤمنون أخيراً بالمسيح ويخلصون. فيتم قصد الرحمة الإلهية للخلاص وإن كان بعض اليهود والأمم يستخفون بنعمته ويهلكون.

٢٤ «لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ أُولَئِكَ ٱلرِّجَالِ ٱلْمَدْعُوِّينَ يَذُوقُ عَشَائِي».

متّى ٢١: ٤٣ و٢٢: ٨ وأعمال ١٣: ٤٦

لا يلزم من كلام رب البيت هنا على من رفضوا دعوته وأهانوه أن لا يخلص أحد من اليهود أو من الفريسيين أو من سائر علمائهم بل إنّ جميع الذين يرفضون دعوة الخلاص يهلكون لا محالة (أمثال ١: ٢٨ ومتّى ٢٥: ١١ و١٢). وينتج من ذلك أنّ المتباطئ عن قبول الدعوة في خطر عظيم لأنه يقاوم الروح القدس الذي يحثه على القبول. وأن رافضي الخلاص اليوم سيطلبونه عبثاً أخيراً. وذهب البعض إلى أن نهاية المثل في الآية الثالثة والعشرين وأن هذه الآية من كلام المسيح على نفسه فكأنه قال «لأني رب الوليمة السماوية أصرّح لكم أنكم لا تذوقون عشائي السماوي لانكم رفضتموني».

خطاب المسيح للجمع في شروط التلمذة ع ٢٥ إلى ٣٥

٢٥ «وَكَانَ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ سَائِرِينَ مَعَهُ، فَٱلْتَفَتَ وَقَالَ لَـهُمْ».

سَائِرِينَ مَعَهُ كان المسيح سائراً في بيرية إلى أورشليم فازدحم عليه الناس ليشاهدوا معجزاته ويسمعوا تعليمه. والأرجح أنهم لم يسيروا معه كل الطريق بل كانوا يأتون إليه جماعات ويذهبون على التوالي.

فَٱلْتَفَتَ أي وقف قليلاً ليفهّم الناس ما يحتاجون إليه لكي يكونوا تلاميذه حقيقة لا ممن يقتصروا على المشاهدة والتعجب.

٢٦ «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَٱمْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضاً، فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً».

تثنية ١٣: ٦ و٣٣: ٩ ومتّى ١٠: ٣٧، يوحنا ١٢: ٢٥، رؤيا ١٢: ١١

معنى هذه الآية كمعنى الآية ٣٧ من ص ١٠ من بشارة متّى إلا أن الكلام أشد فانظر الشرح هناك.

يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ الخ لم يقصد المسيح بهذا أن يبغض الإنسان والديه وأهل بيته حقيقة كما يظهر من سلوكه مع أمه (يوحنا ١٩: ٢٥ – ٢٧) بل عنى أنه يجب أن تكون محبته لهم أقل من محبته له حتى يكون حبه لهم بالنسبة إلى حبه إياه كالبغض إلى المحبة. ويوضح أن هذا هو المراد من ذكره البغض للنفس مع البغض للوالدين والإخوة. ولا ريب في أنه يجب علينا أن نحب أقاربنا وأن نعز حياتنا الجسدية ونعتني بها ولكن إذا اضطررنا أن نختار بين المسيح وأقاربنا وحياتنا وجب علينا أن نفعل كأننا أبغضناهم أي لا نلتفت إليهم وأن نلتصق بالمسيح. فخير لنا أن نغيظ أفضل أصحابنا الأرضيين من أن نغيظ الذي مات على الصليب من أجلنا.

٢٧ «وَمَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً».

متّى ١٦: ٢٤ ومرقس ٨: ٣٤ وص ٩: ٢٣ و٢تيموثاوس ٣: ١٢

انظر الشرح متّى ١٠: ٣٨.

علمنا من الآية السابقة وجوب أن نستعد إكراماً للمسيح أن نخسر أصحابنا على الأرض وحياتنا الجسدية. ومن هذه الآية وجوب أن نحتمل المشقة والعار كل يوم من أجل المسيح.

٢٨ – ٣٠ «٢٨ وَمَنْ مِنْكُمْ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بُرْجاً لاَ يَجْلِسُ أَوَّلاً وَيَحْسِبُ ٱلنَّفَقَةَ، هَلْ عِنْدَهُ مَا يَلْزَمُ لِكَمَالِهِ؟ ٢٩ لِئَلاَّ يَضَعَ ٱلأَسَاسَ وَلاَ يَقْدِرَ أَنْ يُكَمِّلَ، فَيَبْتَدِئَ جَمِيعُ ٱلنَّاظِرِينَ يَهْزَأُونَ بِهِ، ٣٠ قَائِلِينَ: هٰذَا ٱلإِنْسَانُ ٱبْتَدَأَ يَبْنِي وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُكَمِّلَ».

أمثال ٢٤: ٢٧

يعلّمنا المسيح (من ع ٢٨ – ٣٠) أن نحسب النفقة التي تلزمنا باتباعه قبل الشروع في خدمته. وفسر المسيح مقصوده بمثلين لم يذكرهما إلا لوقا. والأول مثل بناء البرج. والثاني إنشاء الحرب.

أَنْ يَبْنِيَ بُرْجاً يقتضي ذلك نفقة وافرة فالإنسان الحكيم يشتغل قبل أن يبتدئ البناء وقتاً كافياً بأن يحسب قدر النفقة اللازمة لبنائه ويستشير المختبرين مثل ذلك الأمر ثم يعتمد مقصده إذا وجد أنه قادر. وذلك لكي لا يبتدئ يبني ثم يضطر إلى ترك البناء لحزنه وخسرانه وتعريض نفسه لهزء الناس كما يفعل الجهلاء.

وأشار المسيح بهذا التشبيه إلى وفرة النفقة على من أراد أن يكون له تلميذاً كخسرانه محبة الأصحاب واعتبار عامة الناس والمال حتى الحياة نفسها. ودعا الحاضرين إلى التأمل في أنهم أمستعدون هم لتلك الخسارة أم غير مستعدين. وليس قصد المسيح من ذلك تقليل رغبة أحد في الخلاص فإنه يشاء أن الكل يقبلون إليه وينالون الحياة الأبدية. لكنه لم يرغب في أن يتبعه أفواج من الناس وهم يتوقعون المراتب الدنيوية والمجد العالمي والانتصار على الأعداء ويرجعون عند وقوع المصائب لأن ذلك ضرر لنفوسهم وعثرة للغير ممن يريدون الإقبال عليه وعار لكنيسة المسيح. وهذا وفق قول الجامعة «أَنْ لاَ تَنْذُرُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَنْذُرَ وَلاَ تَفِيَ» (جامعة ٥: ٥).

٣١، ٣٢ «٣١ وَأَيُّ مَلِكٍ إِنْ ذَهَبَ لِمُقَاتَلَةِ مَلِكٍ آخَرَ فِي حَرْبٍ، لاَ يَجْلِسُ أَوَّلاً وَيَتَشَاوَرُ: هَلْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُلاَقِيَ بِعَشَرَةِ آلاَفٍ ٱلَّذِي يَأْتِي عَلَيْهِ بِعِشْرِينَ أَلْفاً؟ ٣٢ وَإِلاَّ فَمَا دَامَ ذٰلِكَ بَعِيداً، يُرْسِلُ سَفَارَةً وَيَسْأَلُ مَا هُوَ لِلصُّلْحِ».

هذا المثل يوضح جهالة الإنسان الذي يشرع في محاربة من هو أقوى منه بدون استعداد ونظر في العواقب. لأنه يعرض بذلك جسده وأجساد جنوده للقتل وأمواله وملكه للخسارة مع أن الحكمة تدل على طريق أكثر أمناً ونفعاً له.

ومعنى ذلك الروحي وجوب نظر العواقب في الأمور الدينية حتى لا يشرع الإنسان في شيء عاقبته العار والخسارة. فنكتفي بمقصود المثل الروحي بقطع النظر عن أعراضه. ومن أراد الوقوف على تفسير تلك الأعراض لبعض المفسرين فلينظر ما نورده له هنا.

إن الملك الذي له عشرة آلاف هو الإنسان الذي يرغب في خلاص نفسه ويجتهد في الحصول عليه بأعماله الصالحة فقوته على تحصيل ذلك الخلاص في عينيه تعدل قوة عشرة آلاف جندي في الحرب. وان الملك الثاني الذي له عشرون ألفاً هو الله الذي أنشأ الشريعة المقدسة وهو غيور في أن يطيعه الناس الطاعة الكاملة وليس للخاطئ الطالب الخلاص أدنى رجاء أن يحفظ تلك الشريعة من تلقاء نفسه وأن يدخل السماء ببره الذاتي. وعلى هذا يكون رجاؤه نجاح عمله باطلاً. فطريق الحكمة الوحيدة أن يترك كل اجتهاده في تبرير نفسه بأعماله الصالحة ويلقي نفسه على رحمة الله قابلاً شروط الصلح وهي التوبة والإيمان وإنكار الذات. ولكن الأحسن الاكتفاء بمقصود المثل الروحي وقطع النظر عن أعراضه كما ذكرنا.

٣٣ «فَكَذٰلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لاَ يَتْرُكُ جَمِيعَ أَمْوَالِهِ، لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً».

معنى ذلك أن عار الإنسان وخسارته وهو يدعي أنه تلميذ المسيح ولم يستعد لإنكار الذات كعار باني البرج الجاهل والملك المحارب حمقاً وخسارتهما.

٣٤، ٣٥ «٣٤ اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلٰكِنْ إِذَا فَسَدَ ٱلْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُصْلَحُ؟ ٣٥ لاَ يَصْلُحُ لأَرْضٍ وَلاَ لِمَزْبَلَةٍ، فَيَطْرَحُونَهُ خَارِجاً. مَنْ لَـهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!».

متّى ٥: ١٣ ومرقس ٩: ٥٠

انظر الشرح متّى ٥: ١٣ ومرقس ٩: ٥٠.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى