إنجيل لوقا | 11 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح إنجيل لوقا
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح الحادي عشر
إنباء يسوع الثاني بالصلاة الربانية ع ١ إلى ٤
١ «وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي فِي مَوْضِعٍ، لَمَّا فَرَغَ، قَالَ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ: يَا رَبُّ، عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّيَ كَمَا عَلَّمَ يُوحَنَّا أَيْضاً تَلاَمِيذَهُ».
إِذْ كَانَ يُصَلِّي كثيراً ما ذكر لوقا صلوات المسيح ومن ذلك ذكره صلاته عند معموديته (ص ٣: ٢١). وفي البرية (ص ٥: ١٦) وقبل تعيينه الاثني عشر رسولاً (ص ٦: ١٢) وفي انفراده (ص ٩: ١٨) وعند تجليه (ص ٩: ٢٨ و٢٩).
فِي مَوْضِع لا نعلم اسم هذا الموضع ولا موقعه والذي نعلمه أنه كان في بيرية بلغه يسوع مدة سفره الأخير من الجليل إلى أورشليم.
وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وهذا كان نائباً عن الباقين لأنه قال «علمنا» لا علمني.
عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّيَ الأرجح أن التلاميذ شاهدوا حرارة المسيح في الصلاة فأثر فيهم ذلك ورغبوا في أن يصلّوا مثله. وكان الربانيون يعلّمون اليهود أن يصلّوا ثلاث مرات في النهار وكان الفريسيون يصلّون صلوات طويلة معينة وتحقق التلاميذ أن صلاة المسيح خلاف الصلوات التي علمها الربانيون والصلوات التي مارسها الفريسيون في زوايا الأزقة والشوارع. فطوبى لمن يشاركون التلاميذ في ذلك الشعور ويقولون للمسيح «علّمنا أن نصلّي» لأنه لا أحد يستغني عن التعليم في شأن الصلاة. والرب يسوع وحده قادر أن يعلمنا كيف نصلّي ويقدرنا على تقديم الصلاة.
كَمَا عَلَّمَ يُوحَنَّا الخ لم يذكر أحد من البشيرين تعليم يوحنا الصلاة لتلاميذه سوى لوقا. وأشار لوقا قبل ذلك إلى أن يوحنا علم تلاميذه حفظ أصوام وتقديم طلبات كسائر الربانيين.
٢ – ٤ «٢ فَقَالَ لَـهُمْ: مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا: أَبَانَا ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ ٱسْمُكَ، لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ، لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي ٱلسَّمَاءِ كَذٰلِكَ عَلَى ٱلأَرْضِ. ٣ خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا كُلَّ يَوْمٍ، ٤ وَٱغْفِرْ لَنَا خَطَايَانَا لأَنَّنَا نَحْنُ أَيْضاً نَغْفِرُ لِكُلِّ مَنْ يُذْنِبُ إِلَيْنَا، وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لٰكِنْ نَجِّنَا مِنَ ٱلشِّرِّير».
متّى ٦: ٩
أجاب المسيح هذا الطلب في الحال لأنه موافق لإرادته. وهذه مرة ثانية علّم تلاميذه الصلاة الربانية. والمرة الأولى كانت قبل هذه بنحو سنتين وهو يعظ على الجبل (متّى ٦: ٩ – ١٣). وتكريرها دليل على أهميتها. وكذا كررت الشريعة مرتين على مسامع الإسرائيليين (تثنية ٩: ١٠ و١٠: ٤). والفرق بين ألفاظ تلك الصلاة في المرة الأولى وألفاظها في الثاني زهيد. وسيأتي ذكره. ويعلّمنا ذلك الفرق أن المسيح لم يقصد تقييدنا ألفاظ معينة بل أراد أن يوجب علينا المعنى.
(راجع تفسير الصلاة الربانية في الشرح متّى ٦: ١ – ١٣. وقد وضعنا هنا صورتها في كل من المرتين).
الصلاة الربانية كما هي في بشارة متى
«أَبَانَا ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ ٱسْمُكَ. لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي ٱلسَّمَاءِ كَذٰلِكَ عَلَى ٱلأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا ٱلْيَوْمَ. وَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لٰكِنْ نَجِّنَا مِنَ ٱلشِّرِّيرِ. لأَنَّ لَكَ ٱلْمُلْكَ، وَٱلْقُوَّةَ، وَٱلْمَجْدَ، إِلَى ٱلأَبَدِ. آمِينَ».
الصلاة الربانية كما هي في بشارة لوقا
«أَبَانَا ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ ٱسْمُكَ، لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ، لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي ٱلسَّمَاءِ كَذٰلِكَ عَلَى ٱلأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا كُلَّ يَوْمٍ، وَٱغْفِرْ لَنَا خَطَايَانَا لأَنَّنَا نَحْنُ أَيْضاً نَغْفِرُ لِكُلِّ مَنْ يُذْنِبُ إِلَيْنَا، وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لٰكِنْ نَجِّنَا مِنَ ٱلشِّرِّيرِ».
وخلاصة تلك الصلاة الاقتراب إلى الله أباً وطلب ثلاثة أشياء عظيمة وهي تمهيد اسم أبينا وإتيان ملكوته وتكميل إرادته. ثم طلب ثلاثة أشياء لنا وهي طعامنا اليومي والمغفرة التي نحتاج إليها كل يوم والنجاة من الشيطان كذلك وتقترن إحدى هذه الطلبات بشرط وهو أن نغفر لغيرنا.
كُلَّ يَوْمٍ (ع ٣) في متّى «اليوم» والمعنى واحد وهو طلب ما تحتاج أجسادنا إليه في كل وقت حاضر.
خَطَايَانَا (ع ٤) أي «ذنوبنا» كما في متّى والمظنون أن لوقا عبّر عن الآثام بالكلمة الشائعة بين الأمم ومتّى عبّر عنها باللفظة الشائعة عند العبرانيين والفرق بين الكلمتين في اليونانية زهيد. ولعلّ اللفظة التي استعملها متّى أعم قليلاً.
لأَنَّنَا نَحْنُ أَيْضاً نَغْفِرُ في بشارة متّى «كما نغفر نحن» ومعنى العبارتين واحد وهو لا حق لنا أن نتوقع مغفرة الله لتعدينا على شريعته إذا لم نغفر لإخوتنا البشر تعدياتهم علينا. ومغفرتنا لإخوتنا لا تجعل لنا حقاً في أن يغفر لنا بل هي علامة أننا قمنا بالشرط الذي لا بد منه. ولا يمكن الإنسان أن يغفر كما يغفر الله لأنه ينزع جرم الخطية من قلب الإنسان. وأما الإنسان فمغفرته أن لا يبغض المسيء إليه ولا يطلب الانتقام منه بل يرغب في خيره.
والخاتمة المذكورة لم يذكرها لوقا.
مثل الصديق الذي أتى في منتصف الليل ع ٥ إلى ٨
٥، ٦ «٥ ثُمَّ قَالَ لَـهُمْ: مَنْ مِنْكُمْ يَكُونُ لَـهُ صَدِيقٌ، وَيَمْضِي إِلَيْهِ نِصْفَ ٱللَّيْلِ وَيَقُولُ لَـهُ: يَا صَدِيقُ أَقْرِضْنِي ثَلاَثَةَ أَرْغِفَةٍ، ٦ لأَنَّ صَدِيقاً لِي جَاءَنِي مِنْ سَفَرٍ، وَلَيْسَ لِي مَا أُقَدِّمُ لَه».
علّم المسيح كيف يُصلَّى (ع ١ – ٤) ثم علّم أيضاً فاعلية الصلاة بمثل (ع ٥ – ٩). وباختبار الذين صلّوا (ع ٩ و١٠) ومن براهين مبنية على أبوية الله (ع ١١ – ١٣).
مَنْ مِنْكُمْ يَكُونُ لَـهُ صَدِيقٌ لم يذكر هذا المثل أحد من كتبة البشائر سوى لوقا. وغايته تعليمنا وجوب المواظبة والإلحاح. وبنى كلامه هنا على تأثير اللجاجة في إنسان محب الذات كسلان يكره أن يجيب طلبة صاحبه لأحوال لا توافقه ومع ذلك حملته اللجاجة على إجابته فبالأولى أن تؤثر الصلاة في الله المحب الجواد الذي يرغب أبداً في إجابة الطالبين ولا مانع له من ذلك. ومثله الكلام على القاضي الظالم.
نِصْفَ ٱللَّيْلِ ذكر الوقت ليبين على كره الصديق إجابة طلبة صديقه.
لأَنَّ صَدِيقاً لِي جَاءَنِي مِنْ سَفَرٍ لا عجب من وصول الضيف في مثل تلك الساعة لأنه إن كان الوقت صيفاً كان السفر ليلاً خيراً من السفر نهاراً. وذكر ذلك عذر للطالب على إيقاظه في ذلك الوقت غير المناسب وبيان أنه لم يأته لجوعه بل لقيامه بواجبات الضيافة وذاك عذر مقبول.
ثَلاَثَةَ أَرْغِفَةٍ ليس لهذا معنى روحي ولكن ذكره لأنه هو القدر الكافي لرجلٍ.
٧ «فَيُجِيبَ ذٰلِكَ مِنْ دَاخِلٍ وَيَقُولَ: لاَ تُزْعِجْنِي! اَلْبَابُ مُغْلَقٌ ٱلآنَ، وَأَوْلاَدِي مَعِي فِي ٱلْفِرَاشِ. لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَقُومَ وَأُعْطِيَكَ».
مِنْ دَاخِلٍ لم يتكلف القيام لفتح الباب بل جاوبه وهو في مضجعه.
لاَ تُزْعِجْنِي الخ قال ذلك عذراً على رفضه طلبه لأن فتح الباب يكلفه مشقة وينزع راحته وراحة أهل بيته. والكلام هنا يدل على أن المسؤول كان فقيراً إذ لا خادم عنده وليس له سوى مخدع واحد لكل عائلته وكان ذلك المخدع مفروشاً على أسلوب لا يمكنه معه أن يقوم دون أن يزعج أولاده أيضاً.
لاَ أَقْدِرُ الخ أي أن الصعوبات التي ذكرتها لك تمنعني من إجابة طلبك ما لم أظلم نفسي وأهل بيتي.
٨ «أَقُولُ لَكُمْ: وَإِنْ كَانَ لاَ يَقُومُ وَيُعْطِيهِ لِكَوْنِهِ صَدِيقَهُ، فَإِنَّهُ مِنْ أَجْلِ لَجَاجَتِهِ يَقُومُ وَيُعْطِيهِ قَدْرَ مَا يَحْتَاجُ».
ص ١٨: ١ الخ
ِمِنْ أَجْلِ لَجَاجَتِه يظهر من ذلك أن الصديق الطالب لم ييأس باعتذار صديقه ورفضه لكنه لبث يقرع الباب ويلح عليه فبلغ بذلك مراده أخيراً. فظهر مما ذُكر أن اللجاجة أشد تأثيراً من علاقات الصداقة ومن حقوق الضيافة وكسل المسؤول ومحبته لذاته ومراعاته راحة عائلته.
قَدْرَ مَا يَحْتَاجُ أي أنه حصل بواسطة لجاجته على تمام مراده من كاره كل ما اقتضاه طلبه. وغاية المثل بيان أنه إذا نجح الإنسان بمواظبة السؤال والإلحاح في نوال مطلوبه في مثل تلك الأحوال فكم ينجح بذلك في خطاب الله الذي يدعونا إلى الطلب وقد وعدنا بالإجابة وهو يحب العطاء والليل والنهار لديه سيّان ويستطيع أن يجيب طلباتنا وهو لا يكلف بذلك نفسه ولا غيره شيئاً من المشقة.
فإن ظهر أن الله مبطئ عن إجابة طلباتنا فذلك ليس لعدم إرادته الإجابة كالصديق المسؤول في هذا المثل بل لأجل فائدتنا وأنه كثيراً ما يمتحن إيمان شعبه بذلك ويتأخر أن يجيبنا أحياناً لكوننا غير مستعدين لقبول البركة التي نطلبها بأننا لم نشعر بافتقارنا إليها كما يجب أو لأننا لم نطلبها بالتواضع اللائق والرغبة في نوالها. وليس في ما مرّ ما ينافي قوله تعالى في بشارة متّى «حينما تصلّون».
فاعلية الصلاة ع ٩ إلى ١٣
٩ – ١٣ «٩ وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ٱسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. ١٠ لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَـهُ. ١١ فَمَنْ مِنْكُمْ، وَهُوَ أَبٌ، يَسْأَلُهُ ٱبْنُهُ خُبْزاً، أَفَيُعْطِيهِ حَجَراً؟ أَوْ سَمَكَةً، أَفَيُعْطِيهِ حَيَّةً بَدَلَ ٱلسَّمَكَةِ؟ ١٢ أَوْ إِذَا سَأَلَـهُ بَيْضَةً، أَفَيُعْطِيهِ عَقْرَباً؟ ١٣ فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ ٱلآبُ ٱلَّذِي مِنَ ٱلسَّمَاءِ، يُعْطِي ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَه».
متّى ٧: ٧ و٢١: ٢٢ ومرقس ١١: ٢٤ ويوحنا ١٥: ٧ ويعقوب ١: ٥ و٦ و٧ و١يوحنا ٣: ٢٢، متّى ٧: ٩، متّى ٧: ١١
مرّ تفسير ذلك في الشرح متّى ٧: ٧ – ١١. وبين الكلامين فرق زهيد في اللفظ لا في المعنى. وفي الخطاب الذي رواه متّى «حجر» بدل «العقرب» هنا. وعلّة ذلك أن المسيح ذكر المثل مرتين على صورتين نقله متّى على إحداهما ولوقا على الأخرى. ويقال في مثل هذا على نقل متّى «عطايا صالحة» ونقل لوقا «الروح القدس» وهو أفضل النعم بعد هبة المسيح لنا.
ولنا مما جاء في الكلام على الصلاة من ع ١ – ١٣ سبع فوائد:
- الأولى: فائدة المواظبة واللجاجة في الصلاة وذلك وفق قول النبي «يَا ذَاكِرِي ٱلرَّبِّ لاَ تَسْكُتُوا وَلاَ تَدَعُوهُ يَسْكُتُ، حَتَّى يُثَبِّتَ وَيَجْعَلَ أُورُشَلِيمَ تَسْبِيحَةً فِي ٱلأَرْضِ» (إشعياء ٦٢: ٦ و٧).
- الثانية: إنه إن كان للصديق حق أن يتوقع المعروف من صديقه وللابن أن ينتظر ذلك من أبيه فالأولى أن يتوقع ذلك أولاد الله منه تعالى.
- الثالثة: إنه إن كان الآباء الأرضيون وهم أشرار ضعفاء يحبون ذواتهم يعطون أولادهم عطايا صالحة فالأولى أن الآب السماوي الصالح الغني الرحيم غير المحدود في القدرة يعطي أولاده كذلك.
- الرابعة: إنه تعالى لا يعطينا إجابة لطلباتنا عطايا غير نافعة كحجر أو مضرة كعقرب بل يهب لنا أفضل المواهب وأشدنا حاجة إليها.
- الخامسة: وجوب أن لا نغلط بأن نحسب تباطؤه عن إجابة طلباتنا رفضه إياها.
- السادسة: وجوب الثقة بمحبة الله وحكمته وأن لا نحسب لعنة ما يرسله بركة وأن لا نظن خبزه حجراً وسمكته حية.
- السابعة: إن عطية الروح القدس هي أشد ما نحتاج إليه. وهي أحب شيء إلى الله أن يعطينا إياه فإن لم نحصل على تلك البركة فالعلّة الوحيدة لذلك عدم مواظبتنا على الصلاة وقلة حرارتنا وإيماننا.
معجزة المسيح وتجديف الفريسيين ع ١٤ إلى ٢٦
١٤ – ٢٣ «١٤ وَكَانَ يُخْرِجُ شَيْطَاناً، وَكَانَ ذٰلِكَ أَخْرَسَ. فَلَمَّا أُخْرِجَ ٱلشَّيْطَانُ تَكَلَّمَ ٱلأَخْرَسُ، فَتَعَجَّبَ ٱلْجُمُوعُ. ١٥ وَأَمَّا قَوْمٌ مِنْهُمْ فَقَالُوا: بِبَعْلَزَبُولَ رَئِيسِ ٱلشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ. ١٦ وَآخَرُونَ طَلَبُوا مِنْهُ آيَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ يُجَرِّبُونَهُ. ١٧ فَعَلِمَ أَفْكَارَهُمْ وَقَالَ لَـهُمْ: كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تَخْرَبُ، وَبَيْتٍ مُنْقَسِمٍ عَلَى بَيْتٍ يَسْقُطُ. ١٨ فَإِنْ كَانَ ٱلشَّيْطَانُ أَيْضاً يَنْقَسِمُ عَلَى ذَاتِهِ، فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَمْلَكَتُهُ؟ لأَنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنِّي بِبَعْلَزَبُولَ أُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ. ١٩ فَإِنْ كُنْتُ أَنَا بِبَعْلَزَبُولَ أُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ، فَأَبْنَاؤُكُمْ بِمَنْ يُخْرِجُونَ؟ لِذٰلِكَ هُمْ يَكُونُونَ قُضَاتَكُمْ. ٢٠ وَلٰكِنْ إِنْ كُنْتُ بِإِصْبِعِ ٱللّٰهِ أُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ، فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ. ٢١ حِينَمَا يَحْفَظُ ٱلْقَوِيُّ دَارَهُ مُتَسَلِّحاً، تَكُونُ أَمْوَالُهُ فِي أَمَانٍ. ٢٢ وَلٰكِنْ مَتَى جَاءَ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ فَإِنَّهُ يَغْلِبُهُ وَيَنْزِعُ سِلاَحَهُ ٱلْكَامِلَ ٱلَّذِي ٱتَّكَلَ عَلَيْهِ وَيُوَزِّعُ غَنَائِمَهُ. ٢٣ مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ، وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّق».
متّى ٩: ٣٢ و١٢: ٢٢، متّى ٩: ٣٤ و١٢: ٢٤، متّى ١٢: ٣٨ و١٦: ١، يوحنا ٢: ٢٥، متّى ١٢: ٢٥، مرقس ٣: ٢٤، خروج ٨: ١٩، متّى ١٢: ٢٩، مرقس ٣: ٢٧، إشعياء ٤٩: ٢٤ و٢٥ و٥٣: ١٢، كولوسي ٢: ١٥، متّى ١٢: ٣٠، متّى ١٢: ٤٣
انظر الشرح متّى ١٢: ٢٢ – ٣٠.
أَخْرَسَ (ع ١٤) لم يذكر لوقا هذه المعجزة في زمان حدوثها كما فعل متّى واقتصر على أن المجنون كان أخرس وذكر متّى أنه أعمى أيضاً.
فَتَعَجَّبَ زاد متّى على ذلك قولهم «ألعلّ هذا هو ابن داود».
قَوْمٌ مِنْهُمْ (ع ١٥) هم فريسيون (متّى ١٢: ٢٤).
وكتبة من أورشليم (مرقس ٣: ٢٢).
بَعْلَزَبُولَ انظر الشرح متّى ١٠: ٢٥.
طَلَبُوا مِنْهُ آيَةً (ع ١٦) جواب هذا الطلب في ع ٢٩ بعد رد المسيح على تجديف الفريسيين (ع ١٥). ولعلّ سبب ذكر لوقا الأمرين معاً أن بعضهم لما قال القوم المذكور «أنه يصنع الآيات برئيس الشياطين» سألوا أن يبطل قولهم بأن يريهم آية من السماء تظهر أنها من الله رأساً.
بِإِصْبِعِ ٱللّٰهِ (ع ٢٠) قال متّى موضع ذلك «بروح الله» فكلام لوقا مجاز وكلام متّى حقيقة وفي هذا المجاز إشارة إلى أن روح الله يصنع المعجزات بغاية السهولة.
٢٤ – ٢٦ «٢٤ مَتَى خَرَجَ ٱلرُّوحُ ٱلنَّجِسُ مِنَ ٱلإِنْسَانِ، يَجْتَازُ فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ يَطْلُبُ رَاحَةً، وَإِذْ لاَ يَجِدُ يَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي ٱلَّذِي خَرَجْتُ مِنْهُ ٢٥ فَيَأْتِي وَيَجِدُهُ مَكْنُوساً مُزَيَّناً. ٢٦ ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَأْخُذُ سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ أُخَرَ أَشَرَّ مِنْهُ، فَتَدْخُلُ وَتَسْكُنُ هُنَاكَ، فَتَصِيرُ أَوَاخِرُ ذٰلِكَ ٱلإِنْسَانِ أَشَرَّ مِنْ أَوَائِلِهِ!».
يوحنا ٥: ١٤، عبرانيين ٦: ٤ و١٠: ٢٦، ٢بطرس ٢: ٢٠
راجع الشرح متّى ١٢: ٤٣ – ٤٥.
تطويب المرأة ليسوع ع ٢٧ و٢٨
٢٧ «وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ بِهٰذَا رَفَعَتِ ٱمْرَأَةٌ صَوْتَهَا مِنَ ٱلْجَمْعِ وَقَالَتْ لَـهُ: طُوبَى لِلْبَطْنِ ٱلَّذِي حَمَلَكَ وَٱلثَّدْيَيْنِ ٱللَّذَيْنِ رَضَعْتَهُمَا».
ص ١: ٢٨ و٤٨
لم يذكر هذه الحادثة أحد من البشيرين سوى لوقا واسم المرأة المذكورة هنا مجهول والظاهر أنها من نساء ذلك الجمع سمعت كلام المسيح وتعجبت من الكلمات الخارجة من فيه ولعلها شاهدت بعض معجزاته فأظهرت تعجبها ومسرتها بما قالت هنا ومعناه طوبى لأم ابنٍ عجيبٍ كهذا.
ولعلّ سبب تطويبها لأمه لا له نفسه أنها ظنت أمراً زهيداً أن تقتصر على مباركة الشفتين اللتين تكلمتا بذلك الكلام واليدين اللتين فعلتا تلك الآيات فباركت علاوة على ذلك البطن الذي حمله والثديين اللذين رضعهما.
أو لعلها رأت أنها لا تستحق أن تبارك المسيح نفسه فباركته بمباركة أمه لأجله.
ولعلها كانت متيقنة كسائر الإسرائيليات أن المسيح يولد من إحداهن وراجية أن تنال هذا الإكرام وحين تحققت أن يسوع هو المسيح حكمت بالبركة والغبطة لأمه وصرخت قائلة طوبى لها لأنها نالت أعظم البركات التي لا يمكن غيرها أن تنال نظيرها.
٢٨ «أَمَّا هُوَ فَقَالَ: بَلْ طُوبَى لِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللّٰهِ وَيَحْفَظُونَهُ».
متّى ٧: ٢١، ص ٨: ٢١، يعقوب ١: ٢٥
لم ينكر يسوع في جوابه أن الله ميّز مريم على غيرها من النساء باختياره إياها والدة للمسيح لكنه لم يسلم بأن ذلك السبب الأعظم للسرور وبأن الغبطة التي نالتها لا ينال أحد مثلها قدراً وبأن النسبة الجسدية بين الأم والابن خير الأنساب بل صرّح بأنه باق لكل إنسان نسبة روحية أعظم من تلك النسبة وهي النسبة الناتجة من المحبة لله والطاعة لأوامره. وهذا وفق قول المسيح «مَنْ هِيَ أُمِّي وَمَنْ هُمْ إِخْوَتِي؟… لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبِي… هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي» (متّى ١٢: ٤٨ و٥٠).
وكانت مريم من الذين «سمعوا كلمة الله وحفظوها» وممن آمنوا بالله مخلصهم (ص ١: ٣٨ و٤٧). وشهدت بإيمانها أليصابات بقولها «طُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ» (ص ١: ٤٥).
كَلاَمَ ٱللّٰهِ هو كلام المسيح أيضاً ولكنه نسبه إلى الله تواضعاً لأنه أخلى نفسه من أجلنا وأتى كرسول من الله.
جواب السائلين آية من السماء ع ٢٩ إلى ٣٢
٢٩ – ٣٢ «٢٩ وَفِيمَا كَانَ ٱلْجُمُوعُ مُزْدَحِمِينَ، ٱبْتَدَأَ يَقُولُ: هٰذَا ٱلْجِيلُ شِرِّيرٌ. يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَـهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةُ يُونَانَ ٱلنَّبِيِّ. ٣٠ لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ آيَةً لأَهْلِ نِينَوَى، كَذٰلِكَ يَكُونُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ أَيْضاً لِهٰذَا ٱلْجِيلِ. ٣١ مَلِكَةُ ٱلتَّيْمَنِ سَتَقُومُ فِي ٱلدِّينِ مَعَ رِجَالِ هٰذَا ٱلْجِيلِ وَتَدِينُهُمْ، لأَنَّهَا أَتَتْ مِنْ أَقَاصِي ٱلأَرْضِ لِتَسْمَعَ حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ هٰهُنَا. ٣٢ رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي ٱلدِّينِ مَعَ هٰذَا ٱلْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ، لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ هٰهُنَا!».
متّى ١٢: ٣٨ و٣٩ ويونان ١: ١٧ و٢: ١٠، ١ملوك ١٠: ١، يونان ٣: ٥
هذا جواب السؤال الذي في ع ١٦.
كَانَ ٱلْجُمُوعُ مُزْدَحِمِينَ (ع ٢٩) لعلّ سبب ازدحام الناس توقعهم أن يأتي يسوع بآية من السماء كما سُئل.
ٱبْتَدَأَ يَقُولُ سبق الكلام على ما قاله يسوع في هذا الجواب في الشرح (متّى ١٢: ٣٩ – ٤٢). والفرق بين قول لوقا وقول متّى ليس بأكثر مما نتوقعه من مؤرخين مستقلين.
آيَةً لأَهْلِ نِينَوَى (ع ٣٠) كان يونان آية لأهل نينوى بمعنى وكان لليهود الذين في عصر المسيح آية بمعنى آخر. فكان لأهل نينوى آية بعد أن كان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال ولا بد من أنه أخبرهم بعصيانه لله وقصاص الله له وبصلاته ونجاته. وفي هذا كان آية لهم على أنهم يعاقبون إن بقوا عصاة لله وأنهم ينالون المغفرة إذا تابوا. وكان آية لهم أيضاً لأن نجاته العجيبة شهدت بأنه مرسل من الله إليهم.
لِهٰذَا ٱلْجِيلِ أي يهود ذلك العصر وكان يونان آية لهم بعد قيامة المسيح من الموت لأنه بقي في قلب الأرض ثلاثة أيام كما بقي في جوف الحوت ولم يوضح لوقا هذا كما أوضحه متّى (متّى ١٢: ٤٠).
النور السماوي والعين الروحانية ع ٣٣ إلى ٣٦
٣٣ «لَيْسَ أَحَدٌ يُوقِدُ سِرَاجاً وَيَضَعُهُ فِي خُفْيَةٍ، وَلاَ تَحْتَ ٱلْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى ٱلْمَنَارَةِ، لِكَيْ يَنْظُرَ ٱلدَّاخِلُونَ ٱلنُّورَ».
متّى ٥: ١٥، مرقس ٤: ٢١ ص ٨: ١٦
كل أقوال المسيح في هذا الفصل (أي ع ٣٣ – ٣٧) تكلم بها أولاً في وعظه على الجبل ثم تكلم بها أيضاً في أحوال أخرى قصد غاية أخرى.
يُوقِدُ سِرَاجاً (راجع الشرح متّى ٥: ١٥) المقصود بالسراج في بشارة متّى تعليم الرسل وسيرتهم. وفي ذلك تحذير للرسل من كل شيء يحجب نور تعليمهم عن أعين الناس. والمراد بالسراج هنا تعليم المسيح عينه وفيه مثل ذلك التحذير. وإن كان المسيح قد وجه كلامه هنا إلى الفريسيين فالمقصود منه هنا تبرير نفسه بأنه لم يضع سراج تعليمه تحت المكيال كما اتهموه بطلب آية من السماء كأنه أخفى تعليمه بعدم إيراد البراهين السماوية كما فعل موسى وتخطئتهم بأنهم لم يستفيدوا من السراج الذي أوقده لهم.
٣٤ – ٣٦ «٣٤ سِرَاجُ ٱلْجَسَدِ هُوَ ٱلْعَيْنُ، فَمَتَى كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّراً، وَمَتَى كَانَتْ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ يَكُونُ مُظْلِماً. ٣٥ اُنْظُرْ إِذاً لِئَلاَّ يَكُونَ ٱلنُّورُ ٱلَّذِي فِيكَ ظُلْمَةً. ٣٦ فَإِنْ كَانَ جَسَدُكَ كُلُّهُ نَيِّراً لَيْسَ فِيهِ جُزْءٌ مُظْلِمٌ، يَكُونُ نَيِّراً كُلُّهُ، كَمَا حِينَمَا يُضِيءُ لَكَ ٱلسِّرَاجُ بِلَمَعَانِه».
متّى ٦: ٢٢
(راجع الشرح متّى ٦: ٢٢ و٢٣) علّة إيراد المسيح هذا الكلام هنا أن يبيّن سبب ظهور الحق لبعض الناس كأهل نينوى وملكة سبأ وخفائه عن بعضهم كفريسي ذلك الجيل وهو أن الفرق الأول فتح عيني قلبه لدخول النور السماوي إليه وأن الفريق الثاني أغمضهما.
وعلى ذلك تبقى المسؤولية على كل إنسان لأن النور السماوي دخل العالم وأُعد لكل من يفتح عينيه.
ٱلنُّورُ ٱلَّذِي فِيكَ (ع ٣٥) أي شهادة الضمير للحق فالله جعل الضمير للنفس بمنزلة العين للجسد. وفيه تحذير من التواء الضمير بالضلال والعوائد الرديئة والتعصب الجهلي فإن الضمير إذا التوى قاد إلى الغواية والهلاك بدلاً من أن يرشد إلى الهدى والحياة.
جَسَدُكَ كُلُّهُ نَيِّراً هذا مجاز معناه أنه إذا كانت النفس خالية من التعصب ومن تسلط الشهوات والكبرياء وشاهدت نور تعليم المسيح ضاءت كلها بذلك التعليم وزاد فيها النور على توالي الأيام إلى أن تبلغ النهار الكامل في السماء.
«إن الله نور» (١يوحنا ١: ٥) والمسيح «هو نور العالم» (يوحنا ٨: ١٢) و «النور الحقيقي» (يوحنا ١: ٩).
العشاء في بيت الفريسي وتوبيخ المسيح للفريسيين ع ٣٧ إلى ٥٤
٣٧ «وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ سَأَلَـهُ فَرِّيسِيٌّ أَنْ يَتَغَدَّى عِنْدَهُ، فَدَخَلَ وَاتَّكَأَ».
سَأَلَـهُ فَرِّيسِيٌّ الأرجح أن قصد هذا الفريسي من دعوة يسوع إلى طعامه كقصد الفريسي المذكور في ص ٧: ٣٦ وذلك الرغبة في أن يرى أو يسمع شيئاً جديداً وتقديم شيء من الإكرام ليسوع باعتبار أنه معلّم مشهور بالقول والفعل وبغية الحصول على شيء من المجد بنزول المسيح عليه ضيفاً.
َفَدَخَل دخل المسيح بيوت العشارين والخطاة ضيفاً لإفادة أنفسهم ودخل بيوت الفريسيين كذلك عند سنوح الفرصة لمثل هذه الإفادة.
وَاتَّكَأَ أي اتكأ عند مائدة الطعام في حال دخوله البيت.
٣٨ «وَأَمَّا ٱلْفَرِّيسِيُّ فَلَمَّا رَأَى ذٰلِكَ تَعَجَّبَ أَنَّهُ لَمْ يَغْتَسِلْ أَوَّلاً قَبْلَ ٱلْغَدَاءِ».
مرقس ٧: ٣
تَعَجَّبَ كان سبب تعجب الفريسي من عمل المسيح مخالفته لعوائد الفريسيين المبنية على تقاليد شيوخهم «لأَنَّ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَكُلَّ ٱلْيَهُودِ إِنْ لَمْ يَغْسِلُوا أَيْدِيَهُمْ بِٱعْتِنَاءٍ لاَ يَأْكُلُونَ الخ» (مرقس ٧: ٣ و٤). ولا ريب في أن المسيح أتى ذلك عمداً لأنه كان يعلّم بأعماله كما كان يعلّم بأقواله. وقصد أن يتخذ ذلك ذريعة إلى الكلام على طهارة القلب. ولم يقل هنا أن الفريسي أظهر عجبه بقول أو إشارة والأرجح أنه فعل كذلك لأن المسيح لم يبدأ يوبخ في الحال لو لم يُعترض عليه بالكلام الصريح البيّن أو بالوسوسة أو بإمارات الغيظ.
يَغْتَسِلْ أي الاغتسال الطقسي الذي اعتاده الفريسيون. (من أراد أن يعرف معنى الكلمة اليونانية «βαπτισμα» ليقف على حقيقة معنى المعمودية فعليه أن ينظر إلى معنى «يغتسل» هنا وينظر في نوع الاغتسال الذي توقعه الفريسي من المسيح. فلو ترجمنا تلك الكلمة حرفياً لكانت العبارة «تعجب أنه لم يعتمد أولاً قبل الغداء» فليحكم القارئ هل كان الفريسي ينتظر أن يغطس المسيح كله في الماء قبل الأكل أولا).
٣٩، ٤٠ «٣٩ فَقَالَ لَـهُ ٱلرَّبُّ: أَنْتُمُ ٱلآنَ أَيُّهَا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ تُنَقُّونَ خَارِجَ ٱلْكَأْسِ وَٱلْقَصْعَةِ، وَأَمَّا بَاطِنُكُمْ فَمَمْلُوءٌ ٱخْتِطَافاً وَخُبْثاً. ٤٠ يَا أَغْبِيَاءُ، أَلَيْسَ ٱلَّذِي صَنَعَ ٱلْخَارِجَ صَنَعَ ٱلدَّاخِلَ أَيْضاً؟».
متّى ٢٣: ٢٥، تيطس ١: ١٥
توبيخات المسيح هنا للفريسيين كبعض توبيخاته لهم في هيكل أورشليم في الأسبوع الأخير من حياته الأرضية (متّى ص ٢٣).
إن المسيح فعل كسائر المعلمين الدينيين والعالميين في كل عصر بتكرير بعض التعليم الذي حسبه ذا شأن.
ولا عجب من أن المسيح وهو ضيف في بيت فريسي يوبخ الفريسيين على أعمالهم توبيخاً شديداً لأن المسيح حيث ذهب لم يزل مبشراً ومعلماً وموبخاً على كل الشرور. ولم تكن غاية الفريسي من دعوة المسيح خالصة ليستحق أن يخاطبه المسيح بزيادة اللطف والرقة كما يظهر من ع ٥٣ و٥٤.
يَا أَغْبِيَاءُ (ع ٤٠) أظهر الفريسيون غباوتهم بأنهم مارسوا تطهيراً جزئياً لا كاملاً وأتوا ذلك فرضاً دينياً بغية أن يرضوا الله فإنه سبحانه وتعالى هو الذي صنع الداخل كما صنع الخارج ومن الجهالة ظنهم أنه يرضى التطهير الظاهر بالاغتسال الطقسي دون التطهير الباطن والتقديس القلبي وفقاً لقوله تعالى بلسان داود «هَا قَدْ سُرِرْتَ بِٱلْحَقِّ فِي ٱلْبَاطِنِ» (مزمور ٥١: ٦).
وقد مرّ تفسير هذين العددين في الشرح متّى ٢٣: ٢٥.
٤١ «بَلْ أَعْطُوا مَا عِنْدَكُمْ صَدَقَةً، فَهُوَذَا كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ نَقِيّاً لَكُمْ».
إشعياء ٥٨: ٧، دانيال ٤: ٢٧، ص ١٢: ٣٣
لا بد من أن المسيح قصد بهذا العدد أن يمارس الفريسيون الصدقات بدلاً من الاختطاف والخبث (ع ٣٩) وذلك يكون ذريعة إلى تطهير أفضل من غسل اليدين. وليس مراد المسيح أن إعطاء الصدقة هو القداسة إنما أراد أنه أفضل من التطهير الطقسي وتمهيداً إلى القداسة وبرهاناً على وجودها.
كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ نَقِيّاً لَكُمْ أي كل مقتنى. فيحق لكم أن تستعملوه وتنتفعوا به بعد أن توزعوا بعضه على المحتاجين إكراماً لله. وفسّر بعضهم قوله «كل شيء» بكل ما هو داخل الكأس والقصعة وأن ذلك الداخل لا يتطهر بغسل خارج الإناء بل بتوزيع بعض ما فيه صدقة. وهو معنى حسن وموافق للأصل.
٤٢ «وَلٰكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ، لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ ٱلنَّعْنَعَ وَٱلسَّذَابَ وَكُلَّ بَقْلٍ، وَتَتَجَاوَزُونَ عَنِ ٱلْحَقِّ وَمَحَبَّةِ ٱللّٰهِ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلُوا هٰذِهِ وَلاَ تَتْرُكُوا تِلْكَ!».
متّى ٢٣: ٢٣
انظر الشرح متّى ٢٣: ٢٣
ٱلسَّذَابَ هو نبات صغير مرّ الطعم يتداوى بأوراقه.
٤٣ «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ، لأَنَّكُمْ تُحِبُّونَ ٱلْمَجْلِسَ ٱلأَوَّلَ فِي ٱلْمَجَامِعِ، وَٱلتَّحِيَّاتِ فِي ٱلأَسْوَاقِ».
متّى ٢٣: ٦، مرقس ١٢: ٣٨ و٣٩
سبق الكلام على مثل هذه الآية في الشرح متّى ٢٣: ٦ و٧
٤٤ «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ ٱلْمُرَاؤُونَ، لأَنَّكُمْ مِثْلُ ٱلْقُبُورِ ٱلْمُخْتَفِيَةِ، وَٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَيْهَا لاَ يَعْلَمُونَ!».
مزمور ٥: ٩، متّى ٢٣: ٢٧
(راجع الشرح متّى ٢٣: ٢٧).
ٱلْقُبُورِ ٱلْمُخْتَفِيَةِ، وَٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَيْهَا لاَ يَعْلَمُونَ ذكر متّى خطاب المسيح للفريسيين في أورشليم وتشبيهه إياهم بقبور مبيّضة إشارة إلى الفرق بين الطهارة الظاهرة والنجاسة الداخلية. وذكر لوقا هنا خطابه لهم في البرية (على الأرجح) حيث لا تميز القبور عن سائر الأرض فيمكن الناس ان يحسبوا الأرض التي يمشون عليها طاهرة كغيرها من الأرضين والواقع أنها تشتمل على جثث الموتى وتدنس المارين عليها (عدد ١٩: ١٦). ومعنى التشبيه هنا أن قلوب الفريسيين مملوءة شراً خفياً عن الناس وأن الذين يعاشرونهم يتدنسون بكبريائهم وطمعهم وهم لا يشعرون كالذين يمشون على القبور المختفية.
٤٥ «فَقَالَ لَـهُ وَاحِدٌ مِنَ ٱلنَّامُوسِيِّينَ: يَا مُعَلِّمُ، حِينَ تَقُولُ هٰذَا تَشْتِمُنَا نَحْنُ أَيْضاً».
وَاحِدٌ مِنَ ٱلنَّامُوسِيِّينَ الناموسيون قوم وظيفتهم أن يشرحوا الناموس وأكثرهم من فرقة الفريسيين. وهذا الناموسي اعتقد أن المسيح وبخه بتوبيخ الفريسيين وأن وظيفته تقيه من ذلك التوبيخ فاعترض المسيح بقوله متوقعاً أنه يستثنيه منه.
٤٦ «فَقَالَ: وَوَيْلٌ لَكُمْ أَنْتُمْ أَيُّهَا ٱلنَّامُوسِيُّونَ، لأَنَّكُمْ تُحَمِّلُونَ ٱلنَّاسَ أَحْمَالاً عَسِرَةَ ٱلْحَمْلِ وَأَنْتُمْ لاَ تَمَسُّونَ ٱلأَحْمَالَ بِإِحْدَى أَصَابِعِكُمْ».
متّى ٢٣: ٤
انظر الشرح متّى ٢٣: ٤.
٤٧، ٤٨ «وَيْلٌ لَكُمْ، لأَنَّكُمْ تَبْنُونَ قُبُورَ ٱلأَنْبِيَاءِ، وَآبَاؤُكُمْ قَتَلُوهُمْ. ٤٨ إِذاً تَشْهَدُونَ وَتَرْضَوْنَ بِأَعْمَالِ آبَائِكُمْ، لأَنَّهُمْ هُمْ قَتَلُوهُمْ وَأَنْتُمْ تَبْنُونَ قُبُورَهُمْ.
متّى ٢٣: ٢٩
(سبق تفسير ذلك في شرح بشارة متّى ٢٣: ٢٩ – ٣٣). وكلام المسيح هنا يفيد أنه أسهل على الناس أن يحمدوا الصالحين بعد موتهم ويبنوا قبورهم من أن يمارسوا فضائلهم. وأن أعمال الفريسيين برهان على أنهم يشبهون قاتلي الأنبياء أكثر مما يشبهون الأنبياء أنفسهم.
٤٩ – ٥١ «٤٩ لِذٰلِكَ أَيْضاً قَالَتْ حِكْمَةُ ٱللّٰهِ: إِنِّي أُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَ وَرُسُلاً، فَيَقْتُلُونَ مِنْهُمْ وَيَطْرُدُونَ ٥٠ لِكَيْ يُطْلَبَ مِنْ هٰذَا ٱلْجِيلِ دَمُ جَمِيعِ ٱلأَنْبِيَاءِ ٱلْمُهْرَقُ مُنْذُ إِنْشَاءِ ٱلْعَالَمِ، ٥١ مِنْ دَمِ هَابِيلَ إِلَى دَمِ زَكَرِيَّا ٱلَّذِي أُهْلِكَ بَيْنَ ٱلْمَذْبَحِ وَٱلْبَيْتِ. نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يُطْلَبُ مِنْ هٰذَا ٱلْجِيلِ!».
متّى ٢٣: ٣٤، تكوين ٤: ٨، ٢أيام ٢٤: ٢٠ و٢١
انظر شرح بشارة متّى ٢٣: ٣٤ – ٣٦.
قَالَتْ حِكْمَةُ ٱللّٰهِ الأرجح أنه قصد نفسه بهذه الحكمة فكأنه قال «قلت أنا» وذلك وفق ما في بشارة متّى ٢٣: ٣٤. وسمي المسيح حكمة الله في ١كورنثوس ١: ٢٤. وظن بعضهم أن ما قيل هنا مختصر ما جاء في سفر الأيام الثاني ٢٤: ١٨ – ٢٢.
٥٢ «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلنَّامُوسِيُّونَ، لأَنَّكُمْ أَخَذْتُمْ مِفْتَاحَ ٱلْمَعْرِفَةِ. مَا دَخَلْتُمْ أَنْتُمْ، وَٱلدَّاخِلُونَ مَنَعْتُمُوهُمْ».
متّى ٢٣: ١٣
مِفْتَاحَ ٱلْمَعْرِفَةِ كانت عادة اليهود أن يعطوا الناموسي مفتاحاً عند تعيينه للوظيفة في بلوغه سن الثلاثين إشارة إلى أنه ملزوم بفتح كنوز الحكمة الإلهية التي في الناموس والأنبياء لنفسه وللشعب.
مَا دَخَلْتُمْ أَنْتُمْ الخ أي قصرتم كل التقصير في استعمال مفتاح المعرفة لنفع أنفسكم ونفوس غيركم لأنكم علمتم أن تقاليد الشيوخ أهم من أقوال الله سبحانه وتعالى وحرفتم معاني الأقوال الإلهية ولا سيما معاني ما قيل في المسيح وملكوته وآلامه. ولو علمتم الحق لاستعد الشعب لقبوله.
وقصد الله بتسليم مفتاح المعرفة لمعلمي الدين أن يفتحوا به ملكوت السماء للناس ولكنهم أغلقوه بأعمالهم (متّى ٢٣: ١٣).
٥٣، ٥٤ «٥٣ وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُهُمْ بِهٰذَا ٱبْتَدَأَ ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ يَحْنَقُونَ جِدّاً، وَيُصَادِرُونَهُ عَلَى أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، ٥٤ وَهُمْ يُرَاقِبُونَهُ طَالِبِينَ أَنْ يَصْطَادُوا شَيْئاً مِنْ فَمِهِ لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْه».
مرقس ١٢: ١٣
ما ذُكر في هاتين الآيتين بيان لعلّة ما ذُكر من توبيخات المسيح للفريسيين وتهديداته لهم فإن المسيح عرف بغضهم إياه واجتماعهم لكي يقاوموه. وكان هو ضيف واحد منهم فكان عليهم أن يعاملوه باللطف بدلاً من معامتلهم إياه بالخشونه.
يُصَادِرُونَه أي يمتحنونه بمسائل كثيرة سفسطية لا لقصد الاستفادة بل ليعربسوه بها. وأجابهم على مسائلهم الخداعية بالحكمة والصبر والحلم.
يَصْطَادُوا أي يسألوه كمن يرغب في الإفادة وغايتهم من السؤال كغاية الصيادين من إخفاء الفخاح.
لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْهِ إما إلى رؤساء اليهود بدعوى أنه جدّف أو إلى الحكام الرومانيين بدعوى أنّه هيج فتنة.
وكانت أطوار فريسيي أورشليم وأفعالهم في معاملة المسيح كأطوار فريسيي بيرية المذكورين هنا (يوحنا ص ٨ وص ١٠ ومتّى ص ٢٢).
السابق |
التالي |