إنجيل لوقا

إنجيل لوقا | 07 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل لوقا

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح السابع

شفاء عبد قائد المئة الروماني ع ١ إلى ١٠

١، ٢ «١ وَلَمَّا أَكْمَلَ أَقْوَالَـهُ كُلَّهَا فِي مَسَامِعِ ٱلشَّعْبِ دَخَلَ كَفْرَنَاحُومَ. ٢ وَكَانَ عَبْدٌ لِقَائِدِ مِئَةٍ، مَرِيضاً مُشْرِفاً عَلَى ٱلْمَوْتِ، وَكَانَ عَزِيزاً عِنْدَه».

متّى ٨: ٥ الخ

لا فرق يعتد به بين ما ذكره متّى وما ذكره لوقا في قصة هذا القائد ومن ذلك أن متّى قال أن مرض العبد كان فالجاً. وسبق شرح هاتين الآيتين في بشارة متّى (٨: ٥ – ١٣).

٣، ٤ «٣ فَلَمَّا سَمِعَ عَنْ يَسُوعَ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ شُيُوخَ ٱلْيَهُودِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَأْتِيَ وَيَشْفِيَ عَبْدَهُ. ٤ فَلَمَّا جَاءُوا إِلَى يَسُوعَ طَلَبُوا إِلَيْهِ بِٱجْتِهَادٍ قَائِلِينَ: إِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ أَنْ يُفْعَلَ لَـهُ هٰذَا».

قال متّى أن القائد سأل المسيح وأبان لوقا كيف سأله أي أنه لم يسأله رأساً بل بواسطة شيوخ اليهود وهذا مجاز شائع في كل اللغات المشهورة وهو مثل قوله أن سليمان بنى الهيكل وأن بيلاطس جلد المسيح وهذا القائد بنى المجمع (ع ٥).

٥ «لأَنَّهُ يُحِبُّ أُمَّتَنَا، وَهُوَ بَنَى لَنَا ٱلْمَجْمَعَ».

اعتبر هذا الإنسان مع أنه وثنيٌ ديانة اليهود وأظهر مودته للإسرائيليين بأن قام ببناء معبد لهم. وهذا خلاف أكثر قواد الرومانيين وولاتهم الظالمين المتكبرين المحتقرين لليهود. ويظهر من قول لوقا في الآية التاسعة «ولا في إسرائيل» أن ذلك القائد لم يكن دخيلاً لأن الدخلاء كانوا يُحسبون شركاء الإسرائيليين في الإيمان والحقوق.

٦ «فَذَهَبَ يَسُوعُ مَعَهُمْ. وَإِذْ كَانَ غَيْرَ بَعِيدٍ عَنِ ٱلْبَيْتِ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ قَائِدُ ٱلْمِئَةِ أَصْدِقَاءَ يَقُولُ لَـهُ: يَا سَيِّدُ، لاَ تَتْعَبْ. لأَنِّي لَسْتُ مُسْتَحِقّاً أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ سَقْفِي».

أَصْدِقَاءَ أظهر القائد اعتباره للمسيح بأنه لم يرسل إليه بعض عبيده بل أرسل بعض أصدقائه.

لاَ تَتْعَبْ كان القائد وثنياً ولا ريب في أنه كان يعلم أن دخول المسيح إلى بيته يوجب عليه أن يكون نجساً إلى المساء حسب شريعة اليهود فلم يرد أن يكلفه ذلك.

لأَنِّي لَسْتُ مُسْتَحِقّاً ألخ حسب هذا القائد لتواضعه أن إتيان المسيح إلى بيته شرف لا يستحقه هو. وشهادته على نفسه بعدم الاستحقاق خلاف شهادة الشيوخ له (ع ٤). فالغالب أن الذين يصغرون في عيون أنفسهم يكبرون في عيون غيرهم وبالعكس.

٧ – ١٠ «٧ لِذٰلِكَ لَمْ أَحْسِبْ نَفْسِي أَهْلاً أَنْ آتِيَ إِلَيْكَ. لٰكِنْ قُلْ كَلِمَةً فَيَبْرَأَ غُلاَمِي. ٨ لأَنِّي أَنَا أَيْضاً إِنْسَانٌ مُرَتَّبٌ تَحْتَ سُلْطَانٍ، لِي جُنْدٌ تَحْتَ يَدِي. وَأَقُولُ لِهٰذَا: ٱذْهَبْ فَيَذْهَبُ، وَلآخَرَ: ٱئْتِ فَيَأْتِي، وَلِعَبْدِي: ٱفْعَلْ هٰذَا فَيَفْعَلُ. ٩ وَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ هٰذَا تَعَجَّبَ مِنْهُ، وَٱلْتَفَتَ إِلَى ٱلْجَمْعِ ٱلَّذِي يَتْبَعُهُ وَقَالَ: أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ أَجِدْ وَلاَ فِي إِسْرَائِيلَ إِيمَاناً بِمِقْدَارِ هٰذَا. ١٠ وَرَجَعَ ٱلْمُرْسَلُونَ إِلَى ٱلْبَيْتِ، فَوَجَدُوا ٱلْعَبْدَ ٱلْمَرِيضَ قَدْ صَحَّ».

يوحنا ١: ٢٧

تَعَجَّبَ لم يذكر في الإنجيل أن المسيح تعجب سوى مرتين. الأولى من إيمان هذا القائد. والثانية من عدم إيمان أهل الناصرة (مرقس ٦: ٦).

وَقَالَ: أَقُولُ لَكُمْ الخ مدح المسيح القائد كما مدحه شيوخ اليهود ولكن لعلّة غير التي حملتهم على مدحه فهم مدحوه لسخائه ويسوع مدحه لإيمانه. وترك لوقا هنا بعض ما ذكره متّى (متّى ٨: ١١ و١٢) ولكنه ذكره في موضع آخر. وهذا دليل على أن المسيح كرّره (ص ١٣: ٢٨ و٢٩).

وَرَجَعَ ٱلْمُرْسَلُونَ الخ هذا علاوة على ما ذكره متّى فإنه اقتصر على إنبائه بأن العبد شفي.

إقامة ابن الأرملة في نايين ع ١١ إلى ١٧

١١ «وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلتَّالِي ذَهَبَ إِلَى مَدِينَةٍ تُدْعَى نَايِينَ، وَذَهَبَ مَعَهُ كَثِيرُونَ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وَجَمْعٌ كَثِيرٌ».

المسافة بين كفرناحوم ونايين نحو مرحلة. وكانت نايين مدينة في الجليل على سفح حرمون الصغير المعروف اليوم بجبل الدوحيّ على أمد ٢٥ ميلاً من كفرناحوم وعلى مسافة ثلاثة أميال من جبل تابور جنوباً وهي في الجنوب الشرقي من الناصرة وعلى الطرف الشرقي من سهل يزرعيل المعروف اليوم بمرج ابن عامر وهي اليوم قرية حقيرة تسمى نين.

جَمْعٌ كَثِيرٌ كان ذلك والمسيح في سمو اعتبار الشعب له لأن اليهود كانوا يتوقعون أن يكون ملكاً زمنياً ومنقذاً دنيوياً. وذكرهم لوقا لأنهم كانوا شهود المعجزة التي فعلها المسيح في نايين.

١٢ «فَلَمَّا ٱقْتَرَبَ إِلَى بَابِ ٱلْمَدِينَةِ، إِذَا مَيِّتٌ مَحْمُولٌ ٱبْنٌ وَحِيدٌ لِأُمِّهِ، وَهِيَ أَرْمَلَةٌ وَمَعَهَا جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلْمَدِينَةِ».

لم يذكر هذه الحادثة أحد من البشيرين غير لوقا وهذا لا يضعف الثقة بصحة وقوعها.

إِذَا مَيِّتٌ مَحْمُولٌ كانت عادة اليهود أن يدفنوا موتى كل مدينة مسوّرة خارج السور حفظاً للصحة ومنعاً للتنجيس الطقسي من الاقتراب إلى القبور واستثنوا من ذلك بعض الأنبياء وبعض الملوك الإسرائيليين.

ٱبْنٌ وَحِيدٌ ذكر ذلك دليلاً على شدة الحزن. وهذا أمر مسلم به حتى ضربوا بموت الابن الوحيد المثل في الحزن المفرط (إرميا ٦: ٢٦ وزكريا ١٢: ١٠ وعاموس ٨: ١٠).

وَهِيَ أَرْمَلَةٌ كونها أرملة جعل موت وحيدها من أشد النوازل لأنه كان تعزيتها وعمدتها. ولعلّ بعض الجمع المحتفل بجنازة الميت أنبأ يسوع بأمور هذا الميت على أنه لم يكن محتاجاً إلى ذلك لأنه يعلم كل شيء من نفسه. والأرجح أنه قصد نايين والوصول إليها عند بلوغهم بالميت باب المدينة ليقيمه.

وَمَعَهَا جَمْعٌ كَثِيرٌ اقتضت أحوال تلك الأرملة المحزنة أن تحرك حنو كثيرين من الناس فأظهروا شفقتهم بمرافقتهم إياها. وذكر لوقا ذلك الجمع ليظهر أن المعجزة كانت تجاه كثيرين من الشهود.

١٣ «فَلَمَّا رَآهَا ٱلرَّبُّ تَحَنَّنَ عَلَيْهَا وَقَالَ لَهَا: لاَ تَبْكِي».

تَحَنَّنَ عَلَيْهَا لم يذكر لوقا غير التحنن علّة لفعل المسيح تلك المعجزة ولا دليل على أن الأرملة سألت المسيح إقامة ولدها ولا أن أحد أصدقائها سأله ذلك. ولم يشترط المسيح كعادته إيمان أحد من المشاهدين لإقامته ذلك الميت. والأرجح أن المسيح أقام ذلك الشاب لنفع نفس الشاب ونفع المشاهدين بإثبات دعواه أنه المسيح فضلاً عن تحننه على تلك الأرملة.

لاَ تَبْكِي كثيراً ما يقول الناس للحزانى مثل هذا القول بغية التعزية لكنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شئاً يزيل علّة بكائهم لكن الذي نهى الأرملة عن البكاء هو الذي «سيمسح كل دمعة من كل عين» (رؤيا ٢١: ٤). وكان فعل المسيح وقتئذ رمزاً إلى فعله أخيراً. ولعلّ ذلك القول أنشأ الإيمان في قلب الأرملة. ولا يزال المسيح إلى الآن ينهي المسيحيين عن ندب الموتى الذين يموتون في الرب كغيرهم من الناس ويبين لهم سبب ذلك بوعده بإقامة الأجساد والاجتماع في السماء والسعادة الأبدية هنالك.

١٤ «ثُمَّ تَقَدَّمَ وَلَمَسَ ٱلنَّعْشَ، فَوَقَفَ ٱلْحَامِلُونَ. فَقَالَ: أَيُّهَا ٱلشَّابُّ، لَكَ أَقُولُ قُمْ».

ص ٨: ٥٤ ويوحنا ١١: ٤٣ وأعمال ٩: ٤٠ ورومية ٤: ١٧

تَقَدَّمَ وَلَمَسَ ٱلنَّعْشَ فعل ذلك ليقف الحاملون. أما هم فعلموا مراده وأطاعوه بلا سؤال لتأثرهم من هيئته وكلامه.

لَكَ أَقُولُ قُمْ الذي قال هذا «هو القيامة والحياة» (يوحنا ١١: ٢٥). وقوله ذو سلطان لا بد للموت من أن يطيعه. والصوت الذي ارتفع حينئذ هو الصوت الذي يفتح كل القبور ويقيم جميع الموتى.

ولم يكن إيقاظ المسيح للميت من موته أصعب عليه من إيقاظ غيره للنائم من نومه. وهذا خلاف ما أظهر النبيان إيليا وأليشع من الأتعاب والاستناد على قوة غير قوتهما عند إقامة كل منهما ميتاً.

قال المسيح لابنة يآيرس «طليثا قومي» وقال لابن الأرملة «لك أقول قم» وللعازر «هلم خارجاً» وكانت كل هذه الأقوال فعالة.

١٥ «فَجَلَسَ ٱلْمَيْتُ وَٱبْتَدَأَ يَتَكَلَّمُ، فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ».

فَجَلَسَ ٱلْمَيْتُ قوله الميت يثبت أنه كان ميتاً حقيقة لا مغشياً عليه. وكان كل من جلوسه وتكلمه برهاناً قاطعاً على حقيقة رجوعه إلى الحياة والصحة والقوة.

فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ التحنن على الأم الذي حمله على إقامة ابنها الميت حمله أيضاً على الابتهاج بأن يقدّمه إليها حياً بياناً على أن قوله «لا تبكي» لم يكن عبثاً. وكما سر المسيح وقتئذ بمشاهدة ابتهاج تلك الأم هكذا يسر الله بأن يجمع كل المؤمنين الذين فرّقهم الموت ليملأ قلوبهم بهجة وحبوراً (١تسالونيكي ٤: ١٤).

١٦ «فَأَخَذَ ٱلْجَمِيعَ خَوْفٌ، وَمَجَّدُوا ٱللّٰهَ قَائِلِينَ: قَدْ قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ، وَٱفْتَقَدَ ٱللّٰهُ شَعْبَهُ».

ص ١: ٦٥، ص ٢٤: ١٩ ويوحنا ٤: ١٩ و٦: ١٤ و٩: ١٧، ص ١: ٦٨

خَوْفٌ مثل هذا الخوف ينتج طبعاً من مشاهدة كل قوة إلهية. فلا عجب من أن المشاهدين لما فعل المسيح خافوا لأنهم لم يألفوا مثل تلك المشاهدة إذ لم يقم ميت منذ ٩٠٠ سنة قبل ذلك الوقت أي منذ أيام أليشع.

وَمَجَّدُوا ٱللّٰهَ هذا دليل على أن خوفهم كان خوفاً صالحاً كخوف الأتقياء. وعلّة تمجيدهم لله أنه تعالى ذكر شعبه وافتقده بالرحمة وأرسل إليه نبياً (ص ١: ٦٨).

نَبِيٌّ عَظِيمٌ ذكر المشاهدون وقتئذ إيليا وأليشع النبيين العظيمين اللذين أقاما بعض الموتى واعتبروا يسوع نبياً مثلهما. واعترافهم بأنه نبي ليس بتمام الإقرار بكل دعواه أنه المسيح. فهؤلاء لم يستنتجوا مما شاهدوا سوى أن يسوع نبي ولكن نحن نستنتج فوق ذلك أن للمسيح قوة فائقة وشفقة لا نظير لها وأنه بالحقيقة ابن الله وابن الإنسان.

١٧ «وَخَرَجَ هٰذَا ٱلْخَبَرُ عَنْهُ فِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَفِي جَمِيعِ ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ».

هٰذَا ٱلْخَبَرُ أي أنه قد ظهر نبي عظيم يفعل المعجزات العظمى. وكانت تلك المعجزة في الجليل وشاع خبرها في اليهودية وعبر الأردن إلى القلعة التي سجن فيها يوحنا المعمدان على شاطئ بحر لوط.

مجيء رسولين من قبل يوحنا المعمدان إلى يسوع وخطاب يسوع على أثر ذلك ع ١٨ إلى ٣٥

١٨ «فَأَخْبَرَ يُوحَنَّا تَلاَمِيذُهُ بِهٰذَا كُلِّهِ».

متّى ١١: ٢

(انظر الشرح متّى ١١: ٢ – ٧) ونبأ لوقا بهذا الأمر يفرق قليلاً عن نبإ متّى. ومن ذلك أن متّى ترك ما ذكره لوقا في ع ٢٠ و٢١ وأن لوقا ترك ما ذكره متّى في ع ١٤ و١٥ من ص ١١. ولا فرق بينهما في شيء من المعنى.

أَخْبَرَ يُوحَنَّا تَلاَمِيذُهُ لم يشر لوقا قبل ذلك إلى أن يوحنا كان في السجن ولا إلى شيء من علّة سجنه. ويظهر من الكلام هنا أنه كان مباحاً لتلاميذه أن يأتوا إليه وهو في السجن.

بِهٰذَا كُلِّهِ أي المعجزات التي صنعها يسوع.

١٩ «فَدَعَا يُوحَنَّا ٱثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى يَسُوعَ قَائِلاً: أَنْتَ هُوَ ٱلآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟».

إن قيل لماذا حمل يوحنا خبر معجزات المسيح على أن يرسل إليه اثنين من تلاميذه ليسألاه هذا السؤال قلنا أن يوحنا تعجب من أنه كيف الذي فعل بعض الأعمال التي توقعها من المسيح لا يعمل سائر ما كان يتوقع منه هو وسائر اليهود. وذلك أن يملك وينقذ اليهود من ظالميهم ويقضي على الأشرار ويعاقبهم كما أنبأ يوحنا به. فوجد صعوبة في أنه فعل بعض الأعمال وأهمل بعضها. ولا عجب من أن يدخل الشك في نفس يوحنا المعمدان وقد علمنا أن بطرس وسائر الرسل شكّوا فيه مع وفرة الوسائط التي كانت لهم لتحقيق دعواه (متّى ٢٦: ٣١ و٥٦ ولوقا ٢٤: ٢١). على أن الشكوك لا تضرنا إذا قادتنا إلى المسيح لإزالتها.

٢٠، ٢١ «٢٠ فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ ٱلرَّجُلاَنِ قَالاَ: يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ قَدْ أَرْسَلَنَا إِلَيْكَ قَائِلاً: أَنْتَ هُوَ ٱلآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟ ٢١ وَفِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ شَفَى كَثِيرِينَ مِنْ أَمْرَاضٍ وَأَدْوَاءٍ وَأَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ، وَوَهَبَ ٱلْبَصَرَ لِعُمْيَانٍ كَثِيرِين».

فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ أي تلك المدة. والمرجح أن التلميذين بقيا مع المسيح أياماً صنع فيها المسيح كثيراً من معجزاته.

٢٢ «فَأَجَابَ يَسُوعُ: ٱذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا رَأَيْتُمَا وَسَمِعْتُمَا: إِنَّ ٱلْعُمْيَ يُبْصِرُونَ، وَٱلْعُرْجَ يَمْشُونَ، وَٱلْبُرْصَ يُطَهَّرُونَ، وَٱلصُّمَّ يَسْمَعُونَ، وَٱلْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَٱلْمَسَاكِينَ يُبَشَّرُونَ».

متّى ١١: ٤ و٥، إشعياء ٣٥: ٥ ص ٤: ١٨

ابتدأ المسيح في جوابه بذكر ما أتاه من الفوائد الجسدية وانتهى بما هو أهم منها وهو عمله الروحي لنفع النفوس أي التشبير بالإنجيل. ولا ريب في أنه أشار بهذا الجواب إلى أنه تمم نبوءة إشعياء (إشعياء ٦١: ١).

ٱلْمَوْتَى يَقُومُونَ يحتمل أن التلميذين وصلا إلى يسوع وهو يقيم ابن الأرملة في نايين. والأرجح أنهما سمعا نبأ ذلك من غيرهما بدليل قوله «اذهبا وأخبرا يوحنا بما رأيتما وسمعتما».

٢٣ «وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ».

قصد يسوع بهذا الكلام تقوية إيمان يوحنا وإزالة شكه من عدم ممارسته عمله كما تصور يوحنا. ولا ريب في أن يوحنا تشجع بذلك لأنه لما مات يوحنا أتى بعض تلاميذه إلى يسوع (متّى ١٤: ١٢).

٢٤ – ٢٨ «٢٤ فَلَمَّا مَضَى رَسُولاَ يُوحَنَّا، ٱبْتَدَأَ يَقُولُ لِلْجُمُوعِ عَنْ يُوحَنَّا: مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا؟ أَقَصَبَةً تُحَرِّكُهَا ٱلرِّيحُ؟ ٢٥ بَلْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَإِنْسَاناً لاَبِساً ثِيَاباً نَاعِمَةً؟ هُوَذَا ٱلَّذِينَ فِي ٱللِّبَاسِ ٱلْفَاخِرِ وَٱلتَّنَعُّمِ هُمْ فِي قُصُورِ ٱلْمُلُوكِ. ٢٦ بَلْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَنَبِيّاً؟ نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ وَأَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ! ٢٧ هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي كُتِبَ عَنْهُ: هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي ٱلَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ! ٢٨ لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ بَيْنَ ٱلْمَوْلُودِينَ مِنَ ٱلنِّسَاءِ لَيْسَ نَبِيٌّ أَعْظَمَ مِنْ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانِ، وَلٰكِنَّ ٱلأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ أَعْظَمُ مِنْهُ».

متّى ١١: ٧، ملاخي ٣: ١

سبق تفسير ذلك بالتفصيل (انظر الشرح متّى ١١: ٨ – ١٩).

ٱلْمَوْلُودِينَ مِنَ ٱلنِّسَاءِ أي ولادة طبيعية فيستثنى من ذلك المتكلم.

لَيْسَ نَبِيٌّ أَعْظَمَ لم يفق يوحنا الأنبياء القدماء بالإيمان أو القداسة أو المحبة إنما فاقهم بوظيفته لأنه كان بها أقرب إلى المسيح منهم.

ٱلأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ الخ إنما كان التلميذ الأصغر في كنيسة المسيح على الأرض أعظم من يوحنا لأنه يدرك أكثر منه أن ملكوت المسيح روحي وأنه يفدي شعبه بموته.

٢٩، ٣٠ «٢٩ وَجَمِيعُ ٱلشَّعْبِ إِذْ سَمِعُوا وَٱلْعَشَّارُونَ بَرَّرُوا ٱللّٰهَ مُعْتَمِدِينَ بِمَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا. ٣٠ وَأَمَّا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَٱلنَّامُوسِيُّونَ فَرَفَضُوا مَشُورَةَ ٱللّٰهِ مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ، غَيْرَ مُعْتَمِدِينَ مِنْهُ».

مزمور ٥١: ٤ ومتّى ١١: ١٩ ورومية ٣: ٤، متّى ٣: ٥ وص ٣: ١٢، أعمال ٢٠: ٢٧

لم يذكر متّى هذين العددين ولم يتحقق أنهما جزء من كلام المسيح على خدمة يوحنا أو أنهما من كلام لوقا بياناً لما سبق. فإن كانا من كلام المسيح فالقصد منهما إظهار علّة ما أبانه بعد من ع ٣١ – ٣٤. وإن كانا من كلام لوقا وهو الأرجح فالقصد منها إنباء الأمم الذين يجهلون أحوال اليهود بسبب أن بعض الناس قبل يسوع وأن بعضهم رفضه وهو أن الذين قبلوا شهادة يوحنا واعتمدوا منه آمنوا بالمسيح والذين رفضوا شهادة يوحنا ومعموديته رفضوا المسيح.

بَرَّرُوا ٱللّٰهَ أقروا بجودة قصد الله وأعماله التي ظهرت في كرازة يوحنا وبعدله وحقه أن يحكم عليهم بأنهم خطاة ويدعوهم إلى التوبة وإصلاح السيرة استعداداً لقبولهم المسيح.

مُعْتَمِدِينَ كانت معموديتهم علامة أنهم «برروا الله» في أعماله وأنهم تابوا عن خطاياهم.

فَرَفَضُوا مَشُورَةَ ٱللّٰهِ (ع ٣٠) أي لم يقبلوا تعليم يوحنا الذي هو إعلان مشورة الله فلم يأتوا إلى التوبة ولم يستعدوا لقبول المسيح بإصلاح سيرتهم.

مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ هذا من صلة مشورة الله. والمعنى أنها كانت لنفع أنفسهم فأضروا تلك الأنفس برفض تلك المشورة.

غَيْرَ مُعْتَمِدِينَ مِنْهُ هذا يصدق على أكثر الفريسيين فإن قليلين منهم اعتمدوا. وليس في ذلك شيء من المنافاة لقول متّى في ص ٣: ٧ إذ الأرجح أن معنى متّى أنه أتى كثيرون من الفريسيين إلى يوحنا في أول تعليمه ثم تركوه لما تحققوا ضيق طريقته وروحية ذلك التعليم. وكان رفض هؤلاء معمودية يوحنا رفض التوبة عينها أن معموديته كانت علامة وختماً لها.

٣١ – ٣٥ «٣١ ثُمَّ قَالَ ٱلرَّبُّ: فَبِمَنْ أُشَبِّهُ أُنَاسَ هٰذَا ٱلْجِيلِ، وَمَاذَا يُشْبِهُونَ؟ ٣٢ يُشْبِهُونَ أَوْلاَداً جَالِسِينَ فِي ٱلسُّوقِ يُنَادُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً وَيَقُولُونَ: زَمَّرْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَرْقُصُوا. نُحْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَبْكُوا. ٣٣ لأَنَّهُ جَاءَ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ لاَ يَأْكُلُ خُبْزاً وَلاَ يَشْرَبُ خَمْراً، فَتَقُولُونَ: بِهِ شَيْطَانٌ. ٣٤ جَاءَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، فَتَقُولُونَ: هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ، مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ. ٣٥ وَٱلْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ جَمِيعِ بَنِيهَا».

متّى ١١: ١٦، متّى ٣: ٤ ومرقس ١: ٦ وص ١: ١٥، متّى ١١: ١٩

انظر الشرح متّى ١١: ١٦ – ١٩.

فَبِمَنْ أُشَبِّهُ… وَمَاذَا يُشْبِهُونَ تكرير هذا الاستفهام يدل على صعوبة إيجاد مثل يبين حال أناس عنيدين متقلبي الأفكار مثل اليهود في معاملتهم ليوحنا والمسيح. فإن صدقوا بشكواهم على يوحنا كان عليهم أن يمدحوا المسيح بناء على القياس الذي هم وضعوه. لكنهم لاموا يسوع على لطفه ويوحنا على صرامته فدانوا بذلك أنفسهم بأن لاموا كليهما بلا سبب فلم تكن شكواهم سوى عذر باطل عن عدم طاعتهم لقول كل منهما.

بَنِيهَا (ع ٣٥) المراد ببني الحكمة شعب الله الأمين القليل العدد الذي رحب بيوحنا والمسيح كليهما باعتبار أنهما معلنا الحكمة السماوية وتاب بدعوة الأول وآمن بمواعيد الثاني.

دهن المسيح في بيت الفريسي ع ٣٦ إلى ٥٠

٣٦ «وَسَأَلَـهُ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ، فَدَخَلَ بَيْتَ ٱلْفَرِّيسِيِّ وَٱتَّكَأَ».

متّى ٢٦: ٦ ومرقس ١٤: ٣ ويوحنا ١١: ٢

لم يذكر هذه الحادثة أحد من البشيرين سوى لوقا. ويجب أن نميز بين هذا الدهن ودهن مريم أخت لعازر (متّى ٢٦: ٧ ومرقس ١٤: ٣ وفي يوحنا ١٢: ٣). فإن هذا كان في الجليل والأرجح أنه كان في كفرناحوم وذاك في بيت عنيا في اليهودية. وهذا في بيت سمعان الفريسي وهو رجل متكبر منتقد غير مكترث بواجبات الضيافة وذاك في بيت نُسب إلى سمعان الأبرص كان فيه يسوع مكرماً محبوباً. وهذا كانت الإمرأة التي أتته خاطئة لم نعرف اسمها دهنت يسوع علانية لتوبتها وذاك كانت التي أتته مريم أخت لعازر وهي تقية شُهد لها أنها قد اختارت النصيب الأفضل وكانت تجلس عند قدمي المسيح لتسمع تعليمه وأتت بدهنها استعداداً لتكفين يسوع. وهذا اعترض فيه الفريسي على دنو المرأة الخاطئة من يسوع، وذاك اعترض فيه يهوذا الاسخريوطي وسائر التلاميذ على الإسراف لكثرة ثمن الطيب. وهذا جرت بعده محادثة لا توافق الأحوال بعد ذاك. هذا ويستحيل أن يدعو رجل فريسي في اليهودية يسوع إلى العشاء في بيته حينما دهنت مريم قدميه لأن الاختلاف بينه وبين الفريسيين بلغ حداً يمنع ذلك (يوحنا ١٢: ٤٢).

وَاحِدٌ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ هو رجل اسمه سمعان (ع ٤٠). ولم يكن في هذا الوقت الخلاف بين يسوع والفريسيين قد بلغ حداً بعيداً يلام عنده ذلك الفريسي بدعوته يسوع إلى بيته. ولعلّ غايته بذلك أن يظهر ليسوع بعض الاعتبار لاشتهاره بالتعليم والأعمال.

ولعله رغب فوق ذلك في أن يكون له شيء من المجد الذي حصل عليه يسوع. ويحتمل أنه كان في ريب من دعوى يسوع فدعاه إلى بيته ليسمع بعض تعاليمه قبل الحكم في تلك الدعوى. وربما كانت غايته كغاية هيرودس الملك وهي أن يراه ويرى معجزة تجري على يده. والظاهر أنه ظن قبول يسوع في بيته للطعام إكراماً كافياً دون أن يقوم بكل ما يليق بالضيف (ع ٤٤ – ٤٦). وبهذا أعلن للناس انه ليس بتلميذ للمسيح. وأما يسوع فلم يسأل تلك الدعوة ولم يرفضها إذ كان فرصة للتبشير بالإنجيل.

وَٱتَّكَأَ مرّ بيان كيفية الاتكاء في الشرح (متّى ٢٣: ٦ وصورة الاتكاء في الصفحة المقابلة وجه ٢٩٠ من المجلد الأول).

٣٧ «وَإِذَا ٱمْرَأَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ كَانَتْ خَاطِئَةً، إِذْ عَلِمَتْ أَنَّهُ مُتَّكِئٌ فِي بَيْتِ ٱلْفَرِّيسِيِّ، جَاءَتْ بِقَارُورَةِ طِيبٍ».

ٱمْرَأَةٌ لم يذكر اسمها ولكن بعضهم ظنها مريم المجدلية وليس من دليل على ذلك لأن تلك لم يقل أنها زانية بل أنه فيها سبعة شياطين (ص ٨: ٢).

فِي ٱلْمَدِينَةِ الأرجح أن هذه المدينة كفرناحوم لأن يسوع سكن هناك أكثر الوقت الذي تقضى عليه في الجليل.

كَانَتْ خَاطِئَةً أي قبل أن تأتي إلى المسيح. والأرجح أن خطيئتها كانت ممن أتى المسيح ليدعوهم إلى التوبة ص ٥: ٣٢. ولأنها شعرت بثقل خطيتها كانت من المتعبين والثقيلي الأحمال الذين دعاهم المسيح إليه ليجدوا راحة لأنفسهم (متّى ١١: ٢٨). ولعلها سمعت قبلاً وعظ المسيح وتأثرت منه وآمنت وتابت وكانت تتوقع فرصة لإظهار شكرها للمسيح ولتحققها مغفرة خطاياها وخلاص نفسها.

جَاءَتْ بِقَارُورَةِ إلى بيت سمعان بلا دعوة. والقارورة هي الوعاء المعتاد للطيب (متّى ٢٧: ٧).

طِيبٍ أو طيب ناردين وهو كثير الثمن (متّى ٢٦: ٧ ومرقس ١٤: ٣).

٣٨ «وَوَقَفَتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ بَاكِيَةً، وَٱبْتَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِٱلدُّمُوعِ، وَكَانَتْ تَمْسَحُهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا، وَتُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَتَدْهَنُهُمَا بِٱلطِّيب».

وَوَقَفَتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ كان المسيح متكئاً على مرفق يده اليسرى وقدماه ممدودتان وراءه على سرير عريض فكان سهلاً عليها أن تدنو من قدميه.

تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِٱلدُّمُوعِ الخ كانت هذه الدموع دموع الخجل والتوبة عن خطيئتها وتقبيلها قدميه ودهنها إياهما علامة اعتبارها وشكرها له. ولعلها لم تقصد إلا التقبيل والدهن إنما جرت دموعها على رغمها لذكرها خطاياها.

تَمْسَحُهُمَا كانت دموعها تقع على قدمي المسيح حين تنحني لتقبيلهما ولم ترَ لائقاً أن تتركهما مبللتين ولم يكن معها منشفة فحلّت شعرها واتخذته بدلاً من المنشفة لتجفف قدميه. وكان ذلك تواضعاً منها لأن الشعر مجد المرأة (١كورنثوس ١١: ١٥). وكان الطيب أثمن من تلك الدموع عند الناس ولكن الدموع كانت عند الله أثمن من ذلك الطيب.

٣٩ «فَلَمَّا رَأَى ٱلْفَرِّيسِيُّ ٱلَّذِي دَعَاهُ ذٰلِكَ، قَالَ فِي نَفْسِهِ: لَوْ كَانَ هٰذَا نَبِيّاً لَعَلِمَ مَنْ هٰذِهِ ٱلْمَرْأَةُ ٱلَّتِي تَلْمِسُهُ وَمَا هِيَ! إِنَّهَا خَاطِئَةٌ».

ص ١٥: ٢

كانت معرفة صفات الناس وتاريخ حياتهم الماضية غير المعروف بين الناس من الأمور المختصة بالأنبياء (إشعياء ١١: ٣ و٤ ويوحنا ٤: ١٤). وظن سمعان الفريسي أنه وجد دليلاً على بطلان دعوى يسوع النبوءة. وهو أن يسوع إمّا عرف صفات تلك المرأة وإما لم يعرفها فإن كان قد عرفها فسماحه لها بأن تلمسه ينفي أن تكون له قداسة النبي وإن كان لم يعرفها لم تكن له معرفة النبي فهو على زعم سمعان ليس بنبي على الحالين. وذلك لأنه لم يخطر على باله أن النبي يعرف الصفات ويسمح بدنو صاحبها. وجهل ان دنوها من المسيح بالإيمان والتوبة جعلها طاهرة معدة للسماء.

٤٠ «فَقَالَ يَسُوعُ: يَا سِمْعَانُ عِنْدِي شَيْءٌ أَقُولُهُ لَكَ. فَقَالَ: قُلْ يَا مُعَلِّمُ».

فَقَالَ يَسُوعُ الفريسي لم يتفوه بكلمة ولكن المسيح أجابه على أفكاره وبرهن لسمعان أنه نبي بنفس قياسه أي بمعرفته خفايا القلب (متّى ٩: ٤).

سِمْعَانُ كان كثيرون من اليهود يسمون بذلك فكان من رسل المسيح الاثني عشر اثنان مسميّن بذلك. وذُكر في العهد الجديد خمسة عشر رجلاً كل منهم اسمه سمعان.

عِنْدِي شَيْءٌ أَقُولُهُ لَكَ هذا تنبيه لطيف للفريسي على أن ما يليه كلام ذو شأن.

٤١ «كَانَ لِمُدَايِنٍ مَدْيُونَانِ. عَلَى ٱلْوَاحِدِ خَمْسُ مِئَةِ دِينَارٍ وَعَلَى ٱلآخَرِ خَمْسُونَ».

متّى ١٨: ٢٨

لِمُدَايِنٍ أراد المسيح بالمديّن الله وبالدين الخطية.

مَدْيُونَانِ أي خاطئان. ويظهر من آخر هذا المثل أن المسيح عنى بهذين الخاطئين المرأة وسمعان.

خَمْسُ مِئَةِ دِينَارٍ أي نحو ٢٢٥٠ قرشاً.

خَمْسُونَ أي نحو ٢٢٥ قرشاً. فإن نسبة دين الأول إلى الثاني كنسبة عشرة إلى واحد. وهذه النسبة تختلف كل الاختلاف عن النسبة بين المديونين المذكورين في بشارة متّى (متّى ١٨: ٢١ – ٣٥) لأن تلك النسبة واحد إلى ألف ألف ومئتي ألف وخمسين ألفاً. وكان الدَين العظيم في بشارة متّى على الإنسان لله والصغير على إنسان لإنسان لكن الدينين كليهما في هذا العدد على الإنسان لله فإذاً لا فرق عظيم بين خاطئ وخاطئ في عيني الله تعالى.

ولم يقصد المسيح هنا أن يصرّح بأن خطايا المرأة أعظم من خطايا سمعان أي أنها عشرة أضعافه بل أن يأتي المقابلة بين ما يشعر به كل منهما ويعترف. فسمعان كان يشعر بأن خطيئته على الله صغيرة كدين خسمين ديناراً لأنه حفظ الشريعة الطقسية ولأن سيرته كانت مستقيمة ولم يشعر بخطايا قلبه أمام الله. وأما المرأة فكانت تشعر بأن خطاياها الظاهرة وخطاياها القلبية كبيرة كدين خمس مئة دينار.

٤٢ «وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَـهُمَا مَا يُوفِيَانِ سَامَحَهُمَا جَمِيعاً. فَقُلْ: أَيُّهُمَا يَكُونُ أَكْثَرَ حُبّاً لَـهُ؟».

لَمْ يَكُنْ لَـهُمَا مَا يُوفِيَانِ علّمنا يسوع بذلك أن الإنسان عاجز كل العجز عن إيفاء الله ما عليه هو من دين الخطيئة. وقول المسيح عن علم يقين وهو يصدق على كل خاطئ كثير الخطايا أم قليلها فليس لخاطئ ما يوفي.

سَامَحَهُمَا جَمِيعاً يشير صنع هذا الدائن إلى ما يصنعه الله لكل خاطئ يتوب فهو يسامحه وذلك لما فعله المسيح وتألم به لكي يوفي دين الخاطئ. فلو كان الدين مالياً لحق للدائن أن يسامح المديون بلا كفارة ولكن الخطية جرم علاوة على كونها ديناً فهي تقتضي كفارة وتلك الكفارة هي حياة المسيح المقدسة وموته على الصليب.

فَقُلْ الخ سأل الفريسي أن يحكم في تلك المسئلة ليستيقظ ضميره وليؤثر فيه الحق البيّن هنا ولكي يدينه لسانه على تقصيره. ومثل هذا كان سؤال المسيح للناموسي (لوقا ١٠: ٣٠ – ٣٧).

٤٣ «فَأَجَابَ سِمْعَانُ: أَظُنُّ ٱلَّذِي سَامَحَهُ بِٱلأَكْثَرِ. فَقَالَ لَـهُ: بِٱلصَّوَابِ حَكَمْتَ».

بِٱلصَّوَابِ حَكَمْتَ لم يرد المسيح بذلك أنه كلما زادت خطايا الإنسان تزيد محبته لله عند نواله المغفرة وإلا كان اللص الذي صُلب مع المسيح يحبه أكثر مما كان يحبه يوحنا الرسول. إنما مراده أن الخطاة يميلون إلى محبة الله والشكر له على المغفرة بقدر ما يشعرون بذنوبهم واستحقاقهم العقاب وكونهم في خطر الهلاك الأبدي وعجزهم عن إيفاء عدل الله.

٤٤ – ٤٦ «٤٤ ثُمَّ ٱلْتَفَتَ إِلَى ٱلْمَرْأَةِ وَقَالَ لِسِمْعَانَ: أَتَنْظُرُ هٰذِهِ ٱلْمَرْأَةَ؟ إِنِّي دَخَلْتُ بَيْتَكَ، وَمَاءً لأَجْلِ رِجْلَيَّ لَمْ تُعْطِ. وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ غَسَلَتْ رِجْلَيَّ بِٱلدُّمُوعِ وَمَسَحَتْهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا. ٤٥ قُبْلَةً لَمْ تُقَبِّلْنِي، وَأَمَّا هِيَ فَمُنْذُ دَخَلْتُ لَمْ تَكُفَّ عَنْ تَقْبِيلِ رِجْلَيَّ. ٤٦ بِزَيْتٍ لَمْ تَدْهُنْ رَأْسِي، وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ دَهَنَتْ بِٱلطِّيبِ رِجْلَيَّ».

مزمور ٢٣: ٥

ثُمَّ ٱلْتَفَتَ إِلَى ٱلْمَرْأَةِ نظر في أول الأمر إلى سمعان والأرجح أنه كان متكئاً تجاهه ثم حوّل وجهه نحو قدميه لكي يعيّن المرأة التي أرادها بقوله.

دَخَلْتُ بَيْتَكَ أي دخله ضيفاً مدعواً فحق له على سمعان كل ما يجب للضيف ومن ذلك ثلاثة أمور:

  • الأول: ماء لقدميه (تكوين ١٨: ٤ و١٩: ٢ و٢٤: ٣٢ وقضاة ١٩: ٢١ ومتّى ٣: ١١ ويوحنا ١٣: ٥ و١تيموثاوس ٥: ١٠).
  • الثاني: قبلة الترحيب (تكوين ٢٢: ٤ و٢٧: ٦ و٧ و٣٣: ٤ وخروج ١٨: ٧ و١صموئيل ٢٠: ٤١ وأعمال ٢٠: ٣٧ ورومية ١٦: ١٦ و١كورنثوس ١٦: ٢٠).
  • الثالث: مسح الرأس بالدهن (راعوث ٣: ٣ و٢صموئيل ١٢: ٢٠ و١٤: ٢ ومزمور ٢٣: ٥ و٤٥: ٧ و١٤١: ٥ وجامعة ٩: ٨ ومتّى ٦: ١٧). ولم يكن سمعان يجهل أنه قصّر بواجباته للمسيح ولعله ظن دعوته ليسوع ابن النجار الناصري إلى تناول الطعام معه إكراماً كافياً له. فاجتهدت تلك المرأة بتقديم الإكرام الزائد للمسيح على قدر ما قصّر سمعان في إكرامه.

٤٧ «مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ أَقُولُ لَكَ: قَدْ غُفِرَتْ خَطَايَاهَا ٱلْكَثِيرَةُ لأَنَّهَا أَحَبَّتْ كَثِيراً. وَٱلَّذِي يُغْفَرُ لَـهُ قَلِيلٌ يُحِبُّ قَلِيلاً».

١تيموثاوس ١: ١٤

مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ أي لما ذُكر في الآيات الثلاث السابقة فكأن المسيح قال ينتج مما ذُكر ما يأتي.

غُفِرَتْ خَطَايَاهَا ٱلْكَثِيرَةُ لأَنَّهَا أَحَبَّتْ كَثِيراً المعنى أن أعمالها أظهرت محبتها العظيمة وأن تلك المحبة دلت على أنها تحققت نوال غفران عظيم لخطايا كثيرة عظيمة. وكانت تشعر أولاُ بكثرة ديونها فحزنت وخافت ولكنها لما نالت المغفرة فرحت وأَمنت. فلم تكن محبتها علّة الغفران بل نتيجته وبرهانه كما اتضح من الآية الثانية والأربعين. كذلك بولس شعر بأنه أول الخطأة ولكنه بعد ان نال الرحمة برهن شدة محبته للمسيح بما أتاه لأجله من السيرة والتعب.

وَٱلَّذِي يُغْفَرُ لَـهُ قَلِيلٌ يُحِبُّ قَلِيلاً أي الذي يرى خطاياه قليلة وصغيرة لا يشعر بشدة الخوف والحزن عند ما يعترف بها ولا يشعر بكثير من المحبة والشكر والفرح حين يحصل على المغفرة. فسمعان لم يأتِ إلا بما يدل على وجه القليل وبذلك شهد على نفسه بأنه لم يشعر إلا باحتياج زهيد للغفران وأن الله لم يغفر له إلا قليلاً. ولم يصرّح المسيح لسمعان بأنه هو الذي أحب قليلاً بل ترك ذلك لشهادة ضميره. وأعلن المسيح بذلك المثل أن سمعان لم يصب بحكمه بنفي النبوءة عن يسوع لأنه سمح لامرأة خاطئة بأن تلمسه لأن أعمالها الحبية أظهرت أنها تابت ونالت المغفرة وقبلها الله ولذلك لم يكن لمسها مدنساً لأحد. وفي هذه الآية جوهر تعليم المثل وهو أن شدة المحبة نتيجة وفرة الشعور بعظمة المغفرة. فيجب أن نحترس من أن نحسب شدة المحبة علّة للمغفرة لأن تلك العلّة ليست سوى نعمة الله المجانية.

٤٨ «ثُمَّ قَالَ لَهَا: مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ».

متّى ٩: ٢ الخ ومرقس ٢: ٥ الخ

صرّح المسيح هنا بأن تلك المرأة نالت المغفرة من الله وبرهن أنه الله بقدرته على أن يغفر الخطايا كما برهن ذلك بمعرفته أفكار سمعان الفريسي وأظهر حنوه على الخطأة.

٤٩ «فَٱبْتَدَأَ ٱلْمُتَّكِئُونَ مَعَهُ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: مَنْ هٰذَا ٱلَّذِي يَغْفِرُ خَطَايَا أَيْضاً؟».

ٱلْمُتَّكِئُونَ هم سمعان الفريسي وأصدقاؤه الفريسيون.

مَنْ هٰذَا ٱلَّذِي يَغْفِرُ الخ ليس لهذا السؤال سوى جواب واحد وهو الله. فالذي يدّعي سلطان مغفرة الخطايا غير الله يجدف والمسيح له ذلك السلطان لأنه الله.

٥٠ «فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: إِيمَانُكِ قَدْ خَلَّصَكِ! اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ».

متّى ٩: ٢٢ ومرقس ٥: ٣٤ و١٠: ٥٢ وص ٨: ٤٨ و١٨: ٤٢

إِيمَانُكِ قَدْ خَلَّصَكِ لم تكن الواسطة لنوالها الغفران دموعها ولا تواضعها ولا هديتها ولا محبتها بل إيمانها بأن ليسوع قوة على مغفرة الخطايا وأنه مستعد لذلك. وكان إيمانها حياً عاملاً بالمحبة وظهرت حقيقته بأعمالها.

اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ صرفها المسيح بكلام حقق لها راحة البال في المستقبل بناء على نوالها الغفران. وبمثل هذا الكلام صرف المرأة التي أبرأها من نزف الدم (مرقس ٥: ٣٤).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى