إنجيل لوقا

إنجيل لوقا | 01 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل لوقا

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الأول

مقدمة لوقا ع ١ إلى ٤

١ «إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي ٱلأُمُورِ ٱلْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا».

الآيات الأربع الأولى من هذا الأصحاح مقدمة للبشارة كلها وفيها بيان الغاية من كتابتها.

كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ الكثيرون هنا لم يكونوا شهود عين بل نقله عن غيرهم وعلى هذا لم يشر بهم إلى سائر البشيرين لأن متّى ويوحنا كانا شاهدي عين. ولم يشر إلى مرقس لأنه لم يقف على ما كتبه ولو وقف عليه ما خلت بشارته من بعض الحوادث التي ذكرها مرقس لكي يكتب بالتدقيق على التوالي كل الأشياء المتعلقة بيسوع. فالأرجح أن أولئك الكثيرين هم معلمو الإنجيل والمبشرون به الذين كتبوا أخباراً مختصرة مما سمعوه من الرسل وغيرهم من وقت إلى وقت. ولعلّ منهم بعض المؤمنين الذين كانوا يكتبون ما يبقى في حافظتهم من مواعظ الرسل.

ولم يصل إلينا شيء مما كتبه أولئك الكثيرون وعلّة ذلك أن الروح القدس اعتنى بحفظ البشائر الأربع دون غيرها مما كُتب في وقتها لأنها تشمل على كل الأمور الجوهرية ولأنها كُتبت بإلهامه.

ٱلأُمُورِ ٱلْمُتَيَقَّنَةِ هذا تعريف حسن لما في الإنجيل أي حوادث حياة المسيح فهي ليست من المظنونات بل من الواقعات المحقة التي اتفق كل المسيحيين على صحتها. وقد رتبت على طريق يسهل فيه إدراكها وذكرها والتعبير عنها. ويتبين من هذا أنه استفاد مما كتبه الكثيرون ومما سمعه من غيرهم وهذا هو المصدر الأول لما كتبه في إنجيله.

عِنْدَنَا نحن المسيحيين.

٢ «كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا ٱلَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ ٱلْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّاماً لِلْكَلِمَةِ».

عبرانيين ٢: ٣ و١بطرس ٥: ١ و٢بطرس ١: ١٦ و١يوحنا ١: ١، مرقس ١: ١ ويوحنا ١٥: ٢٧

سَلَّمَهَا إِلَيْنَا أي أنبأنا بها شفاهاً لأنه كانت أكثر التعاليم في عصور الكنيسة الأولى باللسان لا بالقلم.

كَانُوا مُنْذُ ٱلْبَدْءِ أي من أول خدمة المسيح.

مُعَايِنِينَ وَخُدَّاماً لِلْكَلِمَةِ شهادة هؤلاء هي المصدر الثاني الذي أخذ لوقا إنجيله منه وهم الرسل وغيرهم ممن شاهدوا يسوع وأعماله وسمعوا أقواله وبشروا بكلمته وبذلوا الجهد في خدمته.

٣ «رَأَيْتُ أَنَا أَيْضاً إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ ٱلأَوَّلِ بِتَدْقِيقٍ، أَنْ أَكْتُبَ عَلَى ٱلتَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ».

أعمال ١: ١

أَنَا أَيْضاً حسب نفسه واحداً من الكثيرين الذين أخذوا في التأليف. وهذا دليل على أنه لم يتهمهم بالغلط ولم يستخف بما كتبوه بل أظهر قصده أن يكتب أكثر مما كتبوه ليكون النبأ كاملاً.

ويظهر مما كتب لوقا في هذه المقدمة أن وحي الروح القدس أو إلهامه بكتابة سفر من الأسفار الإلهية لا يجعل شهادة الناس غير نافعة وبلا قيمة ولا يرفع عن الكاتب المسؤولية باجتهاده في جمع الشهادات البشرية والتدقيق في التمييز بين صحيحها وفاسدها.

تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ ٱلأَوَّلِ بِتَدْقِيقٍ يتبين من هذا أن لوقا استفرغ المجهود في الحصول على كمال المعرفة بكل الحوادث المتعلقة بحياة المسيح الأرضية. وقوله «من الأول» يدل على أن ما كتبه الكثيرون كان ناقصاً لا يشتمل على سوى أجزاء صغيرة من سيرة المسيح وقصد هو أن يكتب الحوادث من أول حياته الأرضية إلى آخرها.

عَلَى ٱلتَّوَالِي لا يلزم من ذلك أن كل ما كُتب في إنجيل لوقا رُتب حسب وقت حدوثه فمعناه أنه قصد أن يكون تاريخه على الترتيب الذي عينه قبل أن يبتدئ الكتابة. فجمعه أحياناً الحوادث المتشابهة بقطع النظر عن أوقات حدوثها لا يخرجها من أن تكون على التوالي.

أَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ لم يعرف شيء من أمره على اليقين. واسمه يوناني لا يهودي والأرجح أنه من اليونان. ووصف لوقا ما يذكره من المواضع في اليهودية والجليل يدل على أن ثاوفيلس ليس من سكان فلسطين. وعدم وصفه ما يذكره من الأماكن الإيطالية يحمل على الظن أن ثاوفيلس من سكان إيطاليا. ويقوي القول بأنه ليس بيهودي تبيين لوقا له اعتقاد الصدوقيين (أعمال ٢٣: ٨). وتلقيبه إياه بالعزيز يدل على أنه من أرباب الرتب السياسية لأن ذلك مما كان يُلقب به الحكام كما لُقب به فيلكس الوالي (أعمال ٢٤: ٣). وكما لُقب به فستس الوالي (أعمال ٢٦: ٢٥) وهذا يدفع القول بأنه صورة خيالية أُريد بها كل مسيحي لأن معنى اسمه محب الله. والأرجح أنه ممن آمنوا بالمسيح من الأمم.

٤ «لِتَعْرِفَ صِحَّةَ ٱلْكَلاَمِ ٱلَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ».

يوحنا ٢٠: ٣١

لِتَعْرِفَ صِحَّةَ ٱلْكَلاَمِ أي لتكون على ثقة مما كتبته إليك لعهدك أني صادق بحثت عن الأمور بالتدقيق.

ٱلَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ هذا دليل على أن ثاوفيلس قد تعلّم قبل ذلك بعض ما علمه الناس من أمر المسيح. فأراد لوقا أن يحصل صاحبه هذا على كمال الخبر مما جمعه هو من مصادر مختلفة.

ولنا مما ذُكر في مقدمة هذه البشارة معرفة كيف أن الله يتخذ خدمة البشر لإعلان كلامه وهذا الكلام يشتمل على ما وعظ به الرسل شفاهاً وما أخبر به غيرهم من شهود العين وعلى ما كتبه البشيرون نقلاً عن المشاهدين ورتبوه على أسلوب حسن. وكل ذلك لا ينفي كون ما كتب موحى به من الروح القدس لأن الروح ألهم الرسل بما تكملوا وحفظ البشيرين من الغلط في كتابة ما سمعوه وشاهدوه. وذلك من جملة ما يقوي ثقتنا بالإنجيل وأنه لا ريب في اشتماله على جوهر سيرة المسيح وتعاليمه.

الأنباء بميلاد يوحنا سابق المسيح ع ٥ إلى ٢٥

٥ «كَانَ فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ مَلِكِ ٱلْيَهُودِيَّةِ كَاهِنٌ ٱسْمُهُ زَكَرِيَّا مِنْ فِرْقَةِ أَبِيَّا، وَٱمْرَأَتُهُ مِنْ بَنَاتِ هَارُونَ وَٱسْمُهَا أَلِيصَابَاتُ».

متّى ٢: ١، ١أيام ٢٤: ١٠ و١٩ ونحميا ١٢: ٤ و١٧

فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ ابتدأ لوقا بذكر ولادة يوحنا سابق المسيح إتماماً لوعده أنه يذكر كل شيء من الأول. وهيرودس المذكور هنا هو هيرودس الكبير (انظر الشرح متّى ٢: ١). والأيام المذكورة هنا نحو ستة أشهر قبلما حُبل بيسوع.

زَكَرِيَّا اسم شائع بين اليهود (٢أيام ٢٤: ٢٠) ومعناه الرب يذكر.

فِرْقَةِ أَبِيَّا قسم داود الكهنة فجعلهم أربع وعشرين فرقة يخدم كل منها أسبوعاً وله صباح يوم السبت وكانوا يلقون القرعة لترتيب الخدمة. وكانت فرقة أبيّا الثامنة من أولئك الفرق (١أيام ٢٤: ٧ – ١٨ و٢أيام ٨: ١٤) وسُمي رؤساؤها «رؤساء الكهنة».

ٱمْرَأَتُهُ مِنْ بَنَاتِ هَارُونَ أي من السبط الكهنوتي. فجعل سابق المسيح من السلالة الكهنوتية ليكون لكلامه تأثير عظيم في الشعب. ولم يكن من الضروري أن يتزوج الكاهن من سبط لاوي. وشروط زواج الكهنة في سفر اللاويين (لاويين ٢١: ٧).

أَلِيصَابَاتُ هي أليشابع في العبرانية كاسم امرأة هارون (خروج ٦: ٢٣) ومعناه في تلك اللغة «قسم إلهي».

وهي نسيبة مريم (ع ٣٦) ولعلّ أمها من سبط يهوذا. ولم يُذكر اسمها في الإنجيل إلا في هذا الأصحاح.

٦ «وَكَانَا كِلاَهُمَا بَارَّيْنِ أَمَامَ ٱللّٰهِ، سَالِكَيْنِ فِي جَمِيعِ وَصَايَا ٱلرَّبِّ وَأَحْكَامِهِ بِلاَ لَوْمٍ».

تكوين ٧: ١ و١٧: ١ و١ملوك ٩: ٤ و٢ملوك ٢٠: ٣ وأيام ١: ١ وأعمال ٢٣: ١ و٢٤: ١٦ وفيلبي ٣: ٦

كِلاَهُمَا بَارَّيْنِ أي صالحين غيورين في طاعة الله وبيان برهما في سائر هذه الآية.

وَصَايَا ٱلرَّبِّ يراد غالباً بالوصايا في الإنجيل الواجبات الأدبية.

وَأَحْكَامِهِ يراد غالباً بالأحكام الواجبات الطقسية وهي في الأصل مثل الكلمة المترجمة في رسالة العبرانيين بالفرائض (عبرانيين ٩: ١ و١٠) فوصايا الرب وأحكامه يشتملان على كل الواجبات الدينية.

بِلاَ لَوْمٍ أي في عيون الناس لا في عيني الله وهذا شهادة صريحة بتقوى والدي يوحنا. وليس المعنى أنهما بلا خطية لأن زكريا وقع تحت لوم الملاك (ع ٢٠) فهو مثل قول بولس في نفسه «مِنْ جِهَةِ ٱلْبِرِّ ٱلَّذِي فِي ٱلنَّامُوسِ بِلاَ لَوْمٍ» (فيلبي ٣: ٦). وينتج من ذلك أن زكريا أفضل من أكثر كهنة زمانه لأن أكثرهم كانوا فاسدين.

٧ «وَلَمْ يَكُنْ لَـهُمَا وَلَدٌ، إِذْ كَانَتْ أَلِيصَابَاتُ عَاقِراً. وَكَانَا كِلاَهُمَا مُتَقَدِّمَيْنِ فِي أَيَّامِهِمَا».

وَلَمْ يَكُنْ لَـهُمَا وَلَدٌ كان ذلك يُحسب مصاباً عظيماً في تلك الأيام بناء على رجاء كل عائلة يهودية أن يولد المسيح منها (١صموئيل ١: ١).

٨ «فَبَيْنَمَا هُوَ يَكْهَنُ فِي نَوْبَةِ فِرْقَتِهِ أَمَامَ ٱللّٰهِ».

١أيام ٢٤: ١٩ و٢أيام ٨: ١٤ و٣١: ٢

يَكْهَنُ أي يأتي خدمة الكهنوت من ذبح حيوانات التقدمة ورش دمائها وإحراق الذبائح والتبخير وغيره.

أَمَامَ ٱللّٰهِ أي في هيكله لأن الهيكل كان يُحسب بيت الله لأنه تعالى كان يظهر مجده في قدس الأقداس في الهيكل الأول.

٩ «حَسَبَ عَادَةِ ٱلْكَهَنُوتِ، أَصَابَتْهُ ٱلْقُرْعَةُ أَنْ يَدْخُلَ إِلَى هَيْكَلِ ٱلرَّبِّ وَيُبَخِّرَ».

خروج ٣٠: ٧ و٨ و١صموئيل ٢: ٢٨ و١أيام ٢٣: ١٣ و٢أيام ٢٩: ١١

أَصَابَتْهُ ٱلْقُرْعَةُ كان رؤساء الكهنة يلقون القرعة لتعيين الفرقة التي تخدم وأصابت القرعة حينئذ فرقة أبيّا. ثم أنه كانت الفرقة التي تصيبها القرعة تقترع لتعيّن نوع الخدمة الذي لكل منها. وأصابت القرعة يومئذ زكريا فعينته للتبخير مدة الأسبوع.

هَيْكَلِ ٱلرَّبِّ أي القدس حيث لا يدخل أحد غير الكهنة.

يُبَخِّرَ الأرجح أن مذبح البخور كان في ذلك الهيكل كما كان في هيكل سليمان وكان من خشب الأرز مغشى بالذهب وكان طوله ذراعاً وعرضه ذراعاً وعلوه ذراعين (١ملوك ٦: ٢٠ و١أيام ٢٨: ١٨). وكان موضعه في القدس قدام الحجاب الفاصل بين القدس وقدس الأقداس. وكان البخور مزيجاً من أجزاء عُينت في سفر الخروج (خروج ٣٠: ٣٤ إلى ٣٨). وكانوا يوقدونه مرتين في النهار في الساعة الثالثة والساعة التاسعة منه (خروج ٣٠: ٧ و٨) في مجامر من المعدن كهيئة صحون عميقة صاغها سليمان من الذهب الخالص (١ملوك ٧: ٥٠).

وكانت نار الإيقاد تؤخذ من مذبح المحرقات وجوباً (قابل لاويين ٦: ٩ – ١٢ مع لاويين ١٠: ١ و٢).

وكانت تقدمة البخور رمزاً إلى الصلاة (مزمور ١٤١: ٢ ورؤيا ٥: ٨ و٨: ٣ و٤).

١٠ «وَكَانَ كُلُّ جُمْهُورِ ٱلشَّعْبِ يُصَلُّونَ خَارِجاً وَقْتَ ٱلْبَخُورِ».

لاويين ١٦: ١٧ ورؤيا ٨: ٣ و٤

جُمْهُورِ ٱلشَّعْبِ لا بد من أنه كان بين هؤلاء عُباد مخلصون كسمعان الشيخ وحنة النبية طلبوا في ذلك الوقت إعلان ملكوت الله الموعود به.

يُصَلُّونَ بدون صوت.

خَارِجاً أي في غير دار الكهنة من ديار الهيكل.

١١ «فَظَهَرَ لَـهُ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ وَاقِفاً عَنْ يَمِينِ مَذْبَحِ ٱلْبَخُورِ».

خروج ٣٠: ١

فَظَهَرَ لَـهُ مَلاَكُ هذا أول ملاك ظهر لخدمة المسيح وظهر بعد ذلك الملاك لمريم مبشراً لها بأن يولد المسيح منها (ع ٢٠). وظهر ليوسف لكي يأخذها امرأته (متّى ١: ٢٠) وللرعاة (ص ٢: ٩) وليوسف لكي يذهب إلى مصر (متّى ٢: ١٣). ثم ظهر له ليخبره بموت هيرودس (متّى ٢: ١٩).

١٢ «فَلَمَّا رَآهُ زَكَرِيَّا ٱضْطَرَبَ وَوَقَعَ عَلَيْهِ خَوْفٌ».

قضاة ٦: ٢٢ و١٣: ٢٢ ودانيال ١٠: ٨ وع ٢٩ وص ٢: ٩ وأعمال ١٠: ٤ ورؤيا ١: ١٧

كان كل من الاضطراب والخوف نتيجة غرابة منظر الملاك وظهوره على غير انتظار وما في هيئته من دواعي الوقار والهيبة والعظمة والطهارة ومن توهم الإنسان أن الملاك لم يظهر لإنسان إلا لتبكيته وعقابه. كذا خاف دانيال عند ظهور الملاك له (دانيال ٨: ١٧). وكذلك خافت النساء عند قبر المسيح (متّى ٢٨: ٥). وكذلك رهب يوحنا الرسول في بطمس (رؤيا ١: ١٧). ولعلّ الملاك ظهر لزكريا بهيئة شاب كما ظهر عند قبر المسيح (مرقس ١٦: ١٥). ولا عجب من أن رهب زكريا من مشاهدة الملاك لأنه لم يشاهد ملاكاً قبل ذلك في كل مدته الكهنوتية.

١٣ «فَقَالَ لَـهُ ٱلْمَلاَكُ: لاَ تَخَفْ يَا زَكَرِيَّا، لأَنَّ طِلْبَتَكَ قَدْ سُمِعَتْ، وَٱمْرَأَتُكَ أَلِيصَابَاتُ سَتَلِدُ لَكَ ٱبْناً وَتُسَمِّيهِ يُوحَنَّا».

ع ٦٠ و٦٣

لاَ تَخَفْ اعتاد الملائكة أن يقولوا ذلك للناس تسكيناً لخوفهم (ع ٣٠ وص ٢: ١٠ ومرقس ١٦: ٦).

طِلْبَتَكَ قَدْ سُمِعَتْ أي قبلها الله واستجابها. ومن استجابة الصلاة نعرف ما طُلبت فيها وهي أن يكون له ابن. فلم يقتصر زكريا أن يسأل الله البركة العامة على شعب إسرائيل كما أوجبت عليه وظيفته لكنه سأله ايضاً بركة مخصوصة. ونستنتج من وعد الملاك أنه كان يطلب مجيء المسيح في أيامه وأن يكون له ابن سابق له. ولعلّ تلك طلبته منذ زمان طويل فالله لا ينسى الصلاة مهما مرّ عليها من الزمان.

يُوحَنَّا هو في العبرانية يوحنان (١أيام ٣: ٢٤ و٢أيام ٢٨: ١٢) ومعناه الله حنّان. فكما عيّن اسم يسوع قبل ولادته (متّى ١: ٢١) كذلك عيّن اسم سابقه قبل ولادته.

١٤ «وَيَكُونُ لَكَ فَرَحٌ وَٱبْتِهَاجٌ، وَكَثِيرُونَ سَيَفْرَحُونَ بِوِلاَدَتِهِ».

ع ٥٨

لَكَ فَرَحٌ وَٱبْتِهَاجٌ ولادة ابن أمر سار للوالد ولا سيما إذا كان بلا ولد ولا يرجو أن يولد له وكان المولود جواباً لصلاته وعلامة مسرة الله به. والذي زاد فرح زكريا أن ذلك الولد كان سابقاً لمن هو أعظم منه وهو المسيح المنتظر. وليس كل ولد فرحاً لوالديه لأن «اَلابْنُ ٱلْحَكِيمُ يَسُرُّ أَبَاهُ، وَٱلابْنُ ٱلْجَاهِلُ حُزْنُ أُمِّهِ» (أمثال ١٠: ١). لكن زكريا وُعد بأن يكون ابنه مملوءاً من الروح القدس من بدء حياته وهذا حقق له أن يكون من الصالحين.

كَثِيرُونَ سَيَفْرَحُونَ بِوِلاَدَتِهِ لا الوالدون والأصدقاء وحدهم بل الألوف الذين سمعوا وعظه وانتفعوا به (متّى ٣: ٥) فالفرح لا يكون مقصوراً على وقت ولادته بل يبقى ما بقي حياً.

١٥ «لأَنَّهُ يَكُونُ عَظِيماً أَمَامَ ٱلرَّبِّ، وَخَمْراً وَمُسْكِراً لاَ يَشْرَبُ، وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ».

عدد ٦: ٣ وقضاة ١٣: ٤ وص ٧: ٢٣، إرميا ١: ٥ وغلاطية ١: ١٥

لأَنَّهُ يَكُونُ عَظِيماً هذا علّة فرح الكثيرين به على ما ذُكر. والعظمة المنبإ بها هنا روحية لا تقوم بالغنى والحكمة العالمية.

وخلاصة عظمة يوحنا في الأمور الآتية:

  1. كونه نذيراً كما سيُذكر فغلب بذلك الشهوات البشرية.
  2. تقواه وصلاحه وأمانته لله.
  3. كونه ممتلئاً من الروح القدس.
  4. كونه مهيئاً الطريق أمام المسيح. ونسبة هذا العمل إلى عمل المسيح من أجل أسباب عظمته.

أَمَامَ ٱلرَّبِّ أي في عيني من «لا ينظر إلى العينين لكنه ينظر إلى القلب» (١صموئيل ١٦: ٧). فملوك الأرض وأرباب الفتوحات والفلاسفة والأغنياء عظماء أمام الناس ولكنهم أمام الله بخلاف ما كان يوحنا صغار.

خَمْراً وَمُسْكِراً لاَ يَشْرَبُ المراد بذلك الانباء بأنه يكون نذيراً (عدد ٦: ٣ و٤) أي مفرزاً لخدمة الله طول حياته. ومثله كان شمشون (قضاة ١٣: ٢ – ٥ و١٢ – ٢٣). والأرجح أن صموئيل أيضاً كان كذلك (١صموئيل ١: ١١). والمقصود بالخمر هنا ما يسكر من عصير العنب وبالمسكر الخمر وغيرها من المشروبات المختمرة المغيبة العقل سواء كانت من الحبوب كالمِزر والجعة أم من الفواكه والعسل وغير ذلك. وكانت المسكرات كلها محرمة على الكهنة في وقت ممارسة الخدمة (لاويين ١٠: ٩) وعلى النذر أي المنذورين دائماً (عدد ٦: ٣).

يَمْتَلِئُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ أي أن الروح القدس يمنحه من أول نشأته كل المواهب العقلية والروحية التي تؤهله للقيام بواجبات وظيفته كما ينبغي. ويجب على كل مسيحي أن يرغب في مثل صفات يوحنا وفق قول الرسول «وَلاَ تَسْكَرُوا بِٱلْخَمْرِ ٱلَّذِي فِيهِ ٱلْخَلاَعَةُ، بَلِ ٱمْتَلِئُوا بِٱلرُّوحِ» (أفسس ٥: ١٨).

ونفهم مما ذكر أن قلب يوحنا كان متجدداً منذ الطفولية. وليس من الضرورة أن ينفرد يوحنا بذلك ولعلّ كثيرين من الأطفال جُددت قلوبهم قبل يوحنا وبعده. فيجب على الوالدين أنهم يرجون ذلك ويسألون الله إياه. فمن الخطإ الظن أن الأولاد الصغار لا يقبلون التأثيرات الروحية ولا يستفيدون من التعاليم الدينية. قال الله لإرميا النبي «قَبْلَمَا صَوَّرْتُكَ فِي ٱلْبَطْنِ عَرَفْتُكَ، وَقَبْلَمَا خَرَجْتَ مِنَ ٱلرَّحِمِ قَدَّسْتُكَ» (إرميا ١: ٥).

ويفيدنا أن نعرف الأحوال المقترنة بتجديد يوحنا منذ الطفولية وهي ثلاث الأولى أن والديه كانا تقيين مؤمنين والثانية أنه مُنح لهما إجابة لصلاتهما. والثالثة أنه كُرس لخدمة الله تعالى.

١٦ «وَيَرُدُّ كَثِيرِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى ٱلرَّبِّ إِلٰهِهِمْ».

ملاخي ٤: ٥ و٦

وَيَرُدُّ من نسيان الله والضلال والبرّ الذاتي والعالم والشهوات والشيطان. وثبت هذا النبأ بنجاح يوحنا في خدمته كما يتبين من الآيات الآتية (متّى ٣: ٥ و٦ ومرقس ١: ٥ ولوقا ٣: ٧ و١٠). وثبت أيضاً بشهادة يسوع له (متّى ١١: ٧ – ١٤) وخوف الفريسيين من الاستخفاف به قدام الشعب (متّى ٢١: ٢٥ و٢٦). ونال يوحنا المعمدان بما أتاه العظمة التي في قول دانيال «ٱلَّذِينَ رَدُّوا كَثِيرِينَ إِلَى ٱلْبِرِّ كَٱلْكَوَاكِبِ إِلَى أَبَدِ ٱلدُّهُورِ» (دانيال ١٢: ٣).

١٧ «وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ، لِيَرُدَّ قُلُوبَ ٱلآبَاءِ إِلَى ٱلأَبْنَاءِ، وَٱلْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ ٱلأَبْرَارِ، لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْباً مُسْتَعِدّاً».

ملاخي ٤: ٥ ومتّى ١١: ١٤ ومرقس ٩: ١٢

يَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ أي أمام الرب إلههم (ع ١٦) وهو المسيح الذي هو «ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ» (١تيموثاوس ٣: ١٦). و «يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً» (كولوسي ٢: ٩). وهو «اَللّٰهُ مَعَنَا» (متّى ١: ٢٨). وقوله «يتقدّم أمامه» مجاز مبني على عادة الملوك قديماً وهي أنهم كانوا يرسلون أمامهم في أسفارهم من يهيء لهم الطريق وينبئ الناس بقدومه ليستعدوا لاستبقاله. والأصل مقتبس معنى من نبؤة ملاخي ٤: ٥ و٦.

بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ (انظر الشرح متّى ١١: ١٤). هذا إنباء بأن يوحنا يتم غاية نبوءة ملاخي وتفسير أن المراد بإيليا فيها رجل يشبهه وهو يوحنا المعمدان. وكذا فسر المسيح تلك النبوءة. ووجه الشبه بين إيليا ويوحنا الغيرة والشجاعة وتوبيخ الخطأة من الشرفاء والأدنياء وهداية الضالين إلى سبل الحق.

لِيَرُدَّ قُلُوبَ ٱلآبَاءِ إِلَى ٱلأَبْنَاءِ مضمون هذه الآية كلها إصلاح عظيم في السيرة والسريرة. وأول أثمار هذا الإصلاح تحسين الألفة العائلية لأنه من أول ظواهر فساد الدين انقطاع رُبط الالتئام العائلي. وثانيها رد الوالدين إلى الاعتناء بنفوس الأولاد وهدايتهم إلى عبادة الله لأنه من علامات ذلك الفساد أن يهمل الوالدون الاعتناء بنفوس أولادهم ولا يعلّموهم مخافة الرب. ونتيجة ذلك رد قلوب الجميع والدين وأولاداً إلى الله سبحانه وتعالى.

وظن البعض أن الآباء المذكورين هنا هم إبراهيم وإسحاق ويعقوب وأن النبي شخّصهم كأنهم أحياء آسفون من ضلال أولادهم الإسرائيليين ولذلك أعرضوا عنهم وأنه للتغير العظيم الذي يحدث في قلوب الأولاد بتبشير يوحنا ترجع قلوب أولئك الآباء إليهم بالمحبة والرضى.

وَٱلْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ ٱلأَبْرَارِ معنى ذلك أن الذين تمردوا على الله وزاغوا عن الدين الحق يرجعون بمناداة يوحنا إلى الطاعة والقداسة والإيمان وذلك الرجوع هو الحكمة الحقيقية المشار إليها بقوله فكر الأبرار لأن «بَدْءُ ٱلْحِكْمَةِ مَخَافَةُ ٱلرَّبِّ» (أمثال ٩: ١٠). ولأن مسالك القداسة هي مسالك الحكمة الحقيقية وقول ملاخي أن يرد «قلب الأبناء على آبائهم» (ملاخي ٤: ٦). وذكر الملاك معنى هذه الجملة لا لفظها لأن رجوع الأبناء الضالين إلى إيمان آبائهم الأتقياء هو الحكمة الحقيقية (أي فكر الأبرار). والعصاة المشار إليهم هنا هم يهود عصر يوحنا المعمدان والمسيح. والمراد بالآباء هنا في إما الأتقياء ذلك العصر وإما الآباء الأولون الذين ذكرناهم آنفاً.

لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْباً مُسْتَعِدّاً هذه العبارة مبنية على ما قيل في إشعياء ٤٣: ٢١. ومعناها بيان وظيفة يوحنا وهي أن يعد الناس لقبول المسيح في قلوبهم وذلك بإظهاره لهم خطاياهم واحتياجهم إلى مخلص. فنسبة خدمة يوحنا إلى خدمة المسيح كنسبة الناموس إلى الإنجيل فإنه دعا الناس إلى التوبة لكي يقبلوا المخلص الذي ينقذهم من خطاياهم. وأكمل يوحنا ما كان عليه مع أن النجاح لم يبلغ الكمال وقتئذ وإلى الآن لم يكمل في اليهود لكنه لا بد من أن يكمل بعد.

وما ذكره الملاك من صفات يوحنا يجب أن يكون لكل مبشر بالإنجيل وهو أن «يتقدّم أمام الرب» أي أن يبتهج بكونه رسولاً للمسيح ومبشراً بخلاصه وأن يرد قلوب الناس عن الخطيئة إلى الله. وأن يهيء شعباً من المؤمنين الحقيقيين المستعدين لأن يخدموا الرب على الأرض ثم أن يسبحوه في السماء.

١٨ «فَقَالَ زَكَرِيَّا لِلْمَلاَكِ: كَيْفَ أَعْلَمُ هٰذَا، لأَنِّي أَنَا شَيْخٌ وَٱمْرَأَتِي مُتَقَدِّمَةٌ فِي أَيَّامِهَا؟».

تكوين ١٧: ١٧

كَيْفَ أَعْلَمُ هٰذَا أي ما العلامة التي تبين لي صدق وعدك. ويظهر من هذا أن زكريا كان في ريب من قول الملاك. ويوضح ذلك جواب الملاك له والقصاص الذي وقع عليه فإنه نظر بعين الجسد إلى الموانع من إتمام ذلك الوعد ولم ينظر بعين الإيمان إلى قوة الله. وكان يجب عليه أن يتيقن وعد الله على يد الملاك بلا طلب علامة ظاهرة. نعم إنّ إبراهيم سأل الله علامة ولكنه سأله بالإيمان ولذلك لم يلمه (تكوين ١٥: ٦ و٨ ورومية ٤: ١٩). وكذلك طلب جدعون وحزقيا (قضاة ٦: ١٧ و٣٦ و٣٧ و٣٩ و٢ملوك ٢٠: ٨) والله لم يلمهما. وأعطى الله موسى علامات لصدق قوله من دون طلبه (خروج ٤: ٢ – ٤ و٦ و٧). فالذي جعل طلب زكريا خطيئة ما عراه من الشك.

لأَنِّي أَنَا شَيْخٌ الخ هذا يدل على أنه شك في كلام الله عينه لا في كون المُرسل ملاك الله.

عيّنت الشريعة الموسوية أن لا يخدم اللاويون بعد سن الخسمين (عدد ٤: ٣ و٨: ٢٤). ولكنها لم تقع على الكهنة مثل زكريا. فمهما طعن في السن فما كان يقتضي أن يشك في صدق وعد الله بأن يكون له ولد إذ كان يستطيع أن يذكر أن إبراهيم وُلد له إسحاق وهو شيخ وامرأته عقيم ومثل ذلك كان والدا شمشون.

سأل الله زكريا ولداً (ع ١٣) ثم سأله بركة لم يصدق أنها ممكنة النوال لما وُعد بها.

١٩ «فَأَجَابَ ٱلْمَلاَكُ: أَنَا جِبْرَائِيلُ ٱلْوَاقِفُ قُدَّامَ ٱللّٰهِ، وَأُرْسِلْتُ لأُكَلِّمَكَ وَأُبَشِّرَكَ بِهٰذَا».

دانيال ٨: ١٦ و٩: ٢١ و٢٢ و٢٣ ومتّى ١٨: ١٠ وعبرانيين ١: ١٤

أَنَا جِبْرَائِيلُ أي جبار الله. كان زكريا متعلماً العهد القديم فعرف حالاً من اسمه أنه هو الملاك الذي ظهر لدانيال من ٤٩٠ سنة قبل ذلك وأنبأه بالسبعين أسبوعاً وبمجيء المسيح وبأنه «يُقطَع» (دانيال ٨: ١٦ و٩: ٢١ و٢٤ – ٢٦). ولم يذكر في الكتاب المقدس من أسماء الملائكة سوى جبرائيل وميخائيل (دانيال ١٠: ٢١ و١٢: ١) وذكر جبرائيل غالباً بشيراً أي منبئاً بالأخبار السارة (دانيال ٨: ١٥ – ١٨ و٩: ٢١ – ٢٣ ولوقا ١: ٢٦ – ٢٩). وذكر ميخائيل غالباً يجري الأحكام الإلهية (دانيال ١٢: ١ ويهوذا ٩ ورؤيا ١٢: ٧).

ٱلْوَاقِفُ قُدَّامَ ٱللّٰه هذا مجاز مبني على عوائد دار الملك وذلك أن بعض خدمه يقفون أمامه وهم أعلى شرفاً ورتبة عند الملك من سائر خدمه (متّى ١٨: ١٠ وإشعياء ٦٣: ٩). وظن البعض أن ملائكة الحضرة سبعة بناء على قول صاحب الرؤيا «وَرَأَيْتُ ٱلسَّبْعَةَ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ يَقِفُونَ أَمَامَ ٱللّٰهِ» (رؤيا ٨: ٢).

أُرْسِلْتُ هذا موافق لمعنى الملاك وهو رسول أو مرسل. وقال ذلك بياناً أنه لم يأت من تلقاء نفسه بل بأمر الله وإظهاراً لأهمية أنبائه وصدقه. وهو الملاك الذي ظهر لمريم بعد ذلك (ع ٢٦). وكون هذا الملاك مرسلاً من الله من أشرف الملائكة عظّم خطية زكريا بشكه في كلامه.

وَأُبَشِّرَكَ كان الإنباء بميلاد يوحنا جزءاً من الإنجيل كما أن الفجر جزء من النهار.

٢٠ «وَهَا أَنْتَ تَكُونُ صَامِتاً وَلاَ تَقْدِرُ أَنْ تَتَكَلَّمَ، إِلَى ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي يَكُونُ فِيهِ هٰذَا، لأَنَّكَ لَمْ تُصَدِّقْ كَلاَمِي ٱلَّذِي سَيَتِمُّ فِي وَقْتِهِ».

حزقيال ٣: ٢٦ و٢٤: ٢٧

صَامِتاً أي أخرس والأرجح أنه طرش أيضاً لأنه غلب أن يصحب الطرش الخرس. ويؤكد ذلك ما ذُكر في ع ٦٢ من أن الناس حين أرادوا أن يسألوه بماذا يريد أن يسمي ابنه أومأوا إليه ولم يكلموه لفظاً كما كان لو بقي يسمع. وكان ذلك من تأديب الله له لإهانته إياه تعالى بعدم إيمانه بصدق رسوله. فعوقب على خطاء شفتيه بأن خُتم عليهما مدة. وكان أيضاً علامة له إجابة لقوله «كيف أعلم هذا» واختار الله له هذه العلامة التي هي من صنوف القصاص تأديباً له على عدم إيمانه بنوال ما طلبه.

فلو عاقب الله الناس الذين شكوا في قدرته على الوفاء بمواعيده وإرادته ذلك وأعلنوا شكوكهم بأفواههم بما عاقب به زكريا فما كان أكثر البكم في هذه الأرض. وعدم إجراء الله هذا القصاص اليوم ليس بدليل على أنه لا يغتاظ من كل فكر وكلمة من أفكار الشك وكلماته (عبرانيين ٣: ١٢ و١٩).

إِلَى ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي يَكُونُ فِيهِ هٰذَا اليوم هنا الوقت التقريبي لا يوم ميلاد يوحنا عينه لأنه بقي أخرس إلى اليوم الثامن بعد ذلك الميلاد.

لأَنَّكَ لَمْ تُصَدِّقْ بيّن الملاك جلياً أن خطية زكريا ليست طلبه العلامة بل شكه الذي حمله على ذلك الطلب.

كَلاَمِي ٱلَّذِي سَيَتِمُّ فِي وَقْتِهِ أي كل ما قاله الملاك يجري في حينه على الترتيب من ولادة يوحنا وتسميته وتربيته ونذره ووظيفته ونجاح عمله.

٢١ «وَكَانَ ٱلشَّعْبُ مُنْتَظِرِينَ زَكَرِيَّا وَمُتَعجِّبِينَ مِنْ إِبْطَائِهِ فِي ٱلْهَيْكَلِ».

يظهر من هذه الآية أن الكاهن الذي يبخر في القدس لم يكن يبقى هناك إلا وقتاً قصيراً للقيام بخدمته وأن الشعب يتوقع رجوعه قبل الانصراف وأن زكريا أبطأ أكثر من مقتضى العادة في ذلك المكان فتعجب الناس لجهلهم علّة إبطائه.

٢٢ «فَلَمَّا خَرَجَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ، فَفَهِمُوا أَنَّهُ قَدْ رَأَى رُؤْيَا فِي ٱلْهَيْكَلِ. فَكَانَ يُومِئُ إِلَيْهِمْ وَبَقِيَ صَامِتاً».

رُؤْيَا تمتاز الرؤيا عن الحلم غير المعتاد بأنها إعلان إلهي للمستيقظ وهو إعلان للنائم. وفهم الشعب أنه رأى رؤيا من إمارات الخوف والرهبة على وجهه ومن سكوته الذي ظهر لهم أنه اضطراري ومن إشارات يديه ولا ريب في أن بعضهم سأله عن علّة إبطائه إما بإشارات إو بكتابة أو بصوت إن كان لم يطرش.

٢٣ «وَلَمَّا كَمَلَتْ أَيَّامُ خِدْمَتِهِ مَضَى إِلَى بَيْتِهِ.

٢ملوك ١١: ٥ و١أيام ٩: ٢٥

كَمَلَتْ أَيَّامُ خِدْمَتِهِ أي الأيام السبعة المعيّنة للكاهن للتبخير في الهيكل (٢ملوك ١١: ٥). لم يتخذ زكريا مصابه عذراً لترك عمله مع أنه كان عرضة للوقوع في تلك التجربة لرغبته في أن يبشر امرأته وغيرها من أقربائه وأصحابه بما قاله الملاك له.

ولنا من ذلك أنه خير لنا أن نستمر على القيام بواجباتنا ولو وقعت علينا المصائب لأنّ هذا من أحسن الوسائل التي تجعل الله يرفع المصائب عنا أو يجعلها بركة لنا.

إِلَى بَيْتِهِ كان هذا البيت بين الجبال المختصة بسبط يهوذا (ع ٣٩ و٤٠). ولم يذكر موضعه والأرجح أنه قرب حبرون التي هي الجليل. والذي حمله على الإسراع إلى بيته على أثر تكميل خدمته مصابه ورغبته في إنباء أهل بيته بما كان.

٢٤ «وَبَعْدَ تِلْكَ ٱلأَيَّامِ حَبِلَتْ أَلِيصَابَاتُ ٱمْرَأَتُهُ، وَأَخْفَتْ نَفْسَهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ قَائِلَةً».

أَخْفَتْ نَفْسَهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ أي بقيت منفردة عن الناس كل تلك المدة وعلّة ذلك لم تُذكر. ولعلها أتت ذلك تواضعاً دفعاً لإظهار افتخارها بما أنعم الله عليها به. ولعلها لم ترد أن تعرض نفسها للعار لكونهم كانوا يدعونها عاقراً (ع ٣٦) فبقيت في البيت حتى يتضح أنها ليست كذلك. والأرجح أن الأخير هو السبب الصحيح لأنها لم تخفِ نفسها سوى خمسة أشهر.

٢٥ «هٰكَذَا قَدْ فَعَلَ بِيَ ٱلرَّبُّ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلَّتِي فِيهَا نَظَرَ إِلَيَّ، لِيَنْزِعَ عَارِي بَيْنَ ٱلنَّاسِ».

تكوين ٣٠: ٢٣ وإشعياء ٤: ١ و٥٤: ١ و٤

هٰكَذَا قَدْ فَعَلَ أي رحمني بأن وعدني بابنٍ يزيل عاري.

نَظَرَ إِلَيَّ أي نظر المحبة والشفقة.

لِيَنْزِعَ عَارِي بَيْنَ ٱلنَّاسِ أي عار العقم لأنهم كانوا يحسبون العقم علامة غضب الله فيعيرون العقيم (تكوين ٣٠: ٢ و٢٣ و١صموئيل ١: ٦ و٧). وحسبوا الولادة علامة رضى الله (لاويين ٢٦: ٩ ومزمور ١١٣: ٩ و١٢٧: ٣ و١٢٨: ٣ وإشعياء ٤٤: ٣ و٤). وتظهر شدة تأثر أليصابات من ذلك من موضوع فرحها ليس أن يكون لها ابن تحبه ولا أن يكون ذلك الولد ذائع الصيت بل كان موضوع ذلك الفرح مجرد نزع العار. وبما أن الله أراد نزع ذلك العار عنها لم يبقَ من الاضطرار أن تتعرض له من جيرانها ولذلك أخفت نفسها تخلصاً منه إلى وقت ظهور حبلها.

وكانت ولادة يوحنا مثل ولادة إسحاق بقوة إلهية خاصة وليس في ذلك ما هو خارق الطبيعة. وهو خلاف ولادة يسوع فإنها معجزة وتشبه إنشاء آدم من تراب الأرض أكثر مما تشبه ولادة يوحنا أو ولادة إسحاق لكي يكون هو بداءة خليقة جديدة. وجعل الله يسوع مولوداً من امرأة ليقترن بها الجنس البشري ويكون ابن إنسان وجعله يولد من عذارء ليكون طاهراً بلا دنس.

تبشير الملاك لمريم بأنها تلد المسيح ع ٢٦ إلى ٣٨

٢٦ «وَفِي ٱلشَّهْرِ ٱلسَّادِسِ أُرْسِلَ جِبْرَائِيلُ ٱلْمَلاَكُ مِنَ ٱللّٰهِ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ ٱلْجَلِيلِ ٱسْمُهَا نَاصِرَةُ».

فِي ٱلشَّهْرِ ٱلسَّادِسِ أي من وقت حبلت إليصابات (كالخمسة الأشهر المذكورة آنفاً) وذلك شهر بعد إظهارها نفسها للناس. وبما أن لوقا صرّح أنه كتب ما رواه عن شهود العين يرجح أنه نقل ما كتبه هنا من شفتي مريم أم يسوع نفسها.

جِبْرَائِيلُ أي الملاك الذي ظهر لزكريا (ع ١٩).

مَدِينَةٍ مِنَ ٱلْجَلِيلِ هذا يدل على أن لوقا لم يكتب بشارته إلى اليهود لأنهم ما كانوا في حاجة إلى هذا البيان بل كتبها للقراء من الأمم.

نَاصِرَةُ هي المعروفة بالناصرة اليوم (متّى ٢: ٢٢ و٢٣ ومرقس ١: ٩). وكانت مسكن يوسف ومريم قبل ميلاد يسوع (متّى ٢: ٢٣). وهي واقعة بين الجبال شمالي مرج ابن عامر وترتفع نحو ٥٠٠ قدم فوق سطح البحر وعلى مسافة نحو ثلاثة أيام من أورشليم ونحو ساعة ونصف ساعة من جبل تابور.

٢٧ «إِلَى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُلٍ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ ٱسْمُهُ يُوسُفُ. وَٱسْمُ ٱلْعَذْرَاءِ مَرْيَمُ».

متّى ١: ١٨ وص ٢: ٤ و٥

عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ انظر الشرح متّى ١: ١٨ و١٩. وإذا اعتبرنا جدول نسب المسيح في الأصحاح الثالث من هذه البشارة جدول نسب مريم كان أبوها هالي وهي نسيبة إليصابات بالزيجة (ع ٣٦).

ووُلد المسيح من امرأة لكي يشترك في الطبيعة البشرية (غلاطية ٤: ٤). ووُلد من عذراء لكي يكون ممتازاً على غيره من الناس بولادته كما يليق بمقامه. ولكي لا يكون شريكاً في طبيعة آدم الخاطئة كما وجب أن يكون لو وُلد ولادة طبيعية. ووُلد من مخطوبة دفعاً للأوهام وحفظاً لشرفها ولكي يكون لها من يعتني بها بعد.

مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ أي رجل من نسل داود. وكان يوسف الذي حُسب أبا يسوع كذلك كما ثبت مما ذكره متّى في الأصحاح الأول من بشارته. وكانت مريم نفسها من نسل داود كما يتضح من ع ٣٢ و٦٩. ومن قول النبي «أَقْسَمَ ٱلرَّبُّ لِدَاوُدَ بِٱلْحَقِّ، لاَ يَرْجِعُ عَنْهُ: مِنْ ثَمَرَةِ بَطْنِكَ أَجْعَلُ عَلَى كُرْسِيِّكَ» (مزمور ١٣٢: ١١). ولا تصح هذه النبوءة إلا بأن تكون مريم من نسل داود (وانظر أيضاً ص ٣: ٢٣ – ٣٨ والشرح هناك وأعمال ٢: ٣٠ ورومية ١: ٣ و١١ وعبرانيين ٧: ١٤).

٢٨ «فَدَخَلَ إِلَيْهَا ٱلْمَلاَكُ وَقَالَ: سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا ٱلْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي ٱلنِّسَاءِ».

دانيال ٩: ٢١ و١٠: ١٩، قضاة ٦: ١٢ وراعوث ٢: ٤

فَدَخَلَ إِلَيْهَا أي إلى البيت الذي كانت مريم فيه وهذا من الحوادث الحقيقية لا من الرؤى. ونستنتج مما قيل هنا أن الملاك ظهر في هيئة إنسان. ودخل البيت كأحد الناس وخاطب مريم كمخاطبة سائر الناس ويحقق لنا ذلك أنها لم تخف من مشاهدته بل من كلامه وأنبائه. وظهر الملائكة كالناس لجدعون ومنوح وقضاة (ص ٦ و١٣).

وَقَالَ سَلاَمٌ كان هذا تحية عاديّة للمحبين والمكرمين وحيّا الملاك دانيال بمثلها (دانيال ١٠: ١٨ و١٩).

أَيَّتُهَا ٱلْمُنْعَمُ عَلَيْهَا لم يعنِ بالإنعام عليها هنا ما كان لها من الصفات الحسنة بل النعمة التي وهبها الله لها باختياره إياها أمّاً للمسيح المخلص. ووصف الرسول غيرها من المؤمنين بمثل ما وصفها الملاك به (أفسس ١: ٦).

اَلرَّبُّ مَعَكِ هذا إما خبرٌ بما حدث وإما دعاء وهو مثل خطاب الملاك لجدعون (قضاة ٦: ١٢). ومثل خطاب بوعز للحصادين في حقله (راعوث ٢: ٤). وهذا يتضمن كل البركات لأن كون الرب مع أحد من الناس يحقق له الحماية والنجاح والسعادة والقداسة كما كان لإبراهيم ويوسف ودانيال.

إذا كـان عـــون الله للـمـرء مســـعفاً تأتى لـه من كــل أمر مراده
وإن لم يكن عونٌ من الله للتقى فأول ما يجني عليه اجتهاده


مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي ٱلنِّسَاءِ اختارها الله أُماً للمسيح فباركها بذلك أكثر مما بارك غيرها من النساء. وكانت من المباركات في النساء أم إبراهيم وأم داود أبوي المسيح بالجسد فبالحري أن تكون أم المسيح عينهِ مباركة كذلك. ولا دليل من هذه التهنئة على أن مريم كانت ممتازة بالطبيعة على غيرها من النساء التقيات ولا على أنها وُلدت بلا خطيئة والملاك لم يقدّم لها شيئاً من العبادة بل أكرمها إكرام الناس الأتقياء العادي.

٢٩ «فَلَمَّا رَأَتْهُ ٱضْطَرَبَتْ مِنْ كَلاَمِهِ، وَفَكَّرَتْ مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هٰذِهِ ٱلتَّحِيَّةُ!».

ع ١٢

ٱضْطَرَبَتْ مِنْ كَلاَمِهِ نشأ اضطرابها من ريبها في معنى الملاك ومن امتزاج خوفها برجائها ولم يظهر أنها اضطربت من منظره وهذا يدل على أن جبرائيل ظهر لها مبشراً لكن كلامه أنشأ اضطراب أفكارها لأنه كان مبهماً عندها وغريباً عن سمعها.

مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هٰذِهِ ٱلتَّحِيَّةُ قالت ذلك لأن الملاك هنأها ببركة عظيمة ولم يبيّن لها موضوع التهنئة وهي لم تكن تعهد شيئاً في ماضيها يوجب ذلك ولم تتوقع شيئاً عظيماً في مستقبلها.

٣٠ «فَقَالَ لَهَا ٱلْمَلاَكُ: لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ ٱللّٰهِ».

كلمها الملاك بذلك بياناً أنه أُرسل إليها بشيراً لا نذيراً فأزال به خوفها وسكّن اضطرابها.

٣١ «وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ٱبْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ».

إشعياء ٧: ١٤ ومتّى ١: ٢١ ص ٢: ٢١

وعد الملاك لمريم بابنٍ كوعده لزكريا بابنه لكنّ وعده لمريم امتاز عنه كل الامتياز لأن ما كان لزكريا إنما تم بواسطة طبيعية. وأما ما كان لمريم فتم بوسائط خارقة الطبيعة وكان ابن زكريا إنساناً كسائر الناس. وأما ابن مريم فكان ابن الإنسان وابن الله.

وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ أي مخلصاً كما وعد الملاك يوسف بعد ذلك (متّى ١: ٢٠). وتقدّم معنى هذا الاسم في الشرح هناك (ع ٣٢ و٣٣).

٣٢، ٣٣ «٣٢ هٰذَا يَكُونُ عَظِيماً، وَٱبْنَ ٱلْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، ٣٣ وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ».

مرقس ٥: ٧، ٢صموئيل ٧: ١١ و١٢ ومزمور ١٣٢: ١١ وإشعياء ٩: ٦ و٧ و١٦: ٥ وإرميا ٢٣: ٥ ورومية ٣: ٧، دانيال ٢: ٤٤ و٧: ١٤ و٢٧ وعوبديا ٢١ وميخا ٤: ٧ ويوحنا ١٢: ٣٤ وعبرانيين ١: ٨

هٰذَا يَكُونُ عَظِيماً هذا وفق الأنباء به في إشعياء ٥: ٦ و٧. وأنبأ الملاك بمثل ذلك في شأن يوحنا (ع ١٥) ولكن عظمة يسوع فاقت عظمة يوحنا كما تفوق عظمة الملك عظمة سابقه وعظمة السيد عظمة عبده. وعظمة يوحنا كانت هبة من الله وعظمة المسيح كانت ذاتية.

وَٱبْنَ ٱلْعَلِيِّ أي ابن الله (عدد ٢٤: ١٦ و٢صموئيل ٢٢: ١٤ ومزمور ٧: ١٧ و٥٧: ٢). ومما تقوم به عظمة المسيح أربعة أمور:

  • الأول: طبيعته الإلهية كما تدل عليه تسميته «ابن العلي».
  • الثاني: تسلسل طبيعته البشرية من أعظم الملوك كما يظهر من قوله «داود أبيه» لأنه نسله بحسب الجسد (٢صموئيل ٧: ١٣ ومزمور ٨٩: ٣ و٤ وإشعياء ٩: ٧ وإرميا ٣٣: ١٥ ومتّى ١: ١ ولوقا ٣: ٣١). فاتضح من قول الملاك «داود أبيه» أن مريم من بيت داود. ومريم لم تتعجب من قوله هذا مع أنه ظهر من سؤالها للملاك على أثر ذلك أنها لم تتوقع أن يكون الولد الذي بُشرت به نتيجة اقترانها بيوسف.
  • الثالث: اتساع مملكته ودوامها كما دل عليه قول الملاك يَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ. وليس المراد بيت يعقوب نسل إسرائيل الجسدي بل كل نسل إسرائيل الروحي وهو كل أولاد إبراهيم بالإيمان وهذا يشتمل على اليهود والأمم أيضاً وهو عبارة عن شعب الله في كل مكان وزمان. ويملك يسوع عليهم بإعطائه إياهم شريعته وجذبه إياهم إلى طاعتها وبحمايته لهم وإرشاده إياهم في هذا العالم الزائل إلى عالم السعادة الابدي.
  • الرابع: صفاته الشخصية كالحكمة والجودة والرحمة والحلم والقداسة وغيرها. ووظائفه الثلاث وهي كونه كاهناً ونبياً وملكاً. وسمو البركات التي حصّلها لشعبه.

لاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ وعد الله داود بتثبيت كرسي مملكته إلى الأبد (٢صموئيل ٧: ١٣ و١٦). وتم هذا الوعد بيسوع المسيح إذ «رَفَّعَهُ ٱللّٰهُ بِيَمِينِهِ رَئِيساً وَمُخَلِّصاً» (أعمال ٥: ٣١) فهو يملك إلى الأبد سائداً على قلوب شعبه. ومملكته هي المملكة الوحيدة التي لا تنقرض لأن المسيح لا يضطر إلى ترك مملكته بالموت كملوك البشر.

ولا مناقضة بين قول الملاك هنا وقول بولس الرسول في ١كورنثوس ١٥: ٢٤ – ٢٨. لأن كلام بولس يشير إلى نهاية بعض أعراض ملكوت المسيح لا جوهره، ومن ذلك محاربته للممالك المقاومة له. فإن هذه المحاربة تنتهي بغلبة المسيح حيئنذ على أعدائه. ومنه ممارسة المسيح وظيفته باعتبار كونه وسيطاً لشعبه وهم على الأرض ليحفظهم ويرشدهم ويؤدبهم ويشفع فيهم عند الآب فهذه تنتهي لأن كل شعبه يكون معه حيئنذ في السماء في الأمن والطهارة والسعادة. فيكون الذي ينتهي ما كان موقوتاً من متعلقات ذلك الملكوت ويُكمل بالاتحاد بملكوت الله العام فالنهاية في كلام بولس كالفجر في النهار الكامل.

وحاصل ما في كلام الملاك أربعة أمور تسكين اضطراب مريم ووعدها بابن وتسميته والإنباء بعظمته.

والأرجح أن مريم لم تفهم كل معنى كلام الملاك. والذي فهمته أن ابنها يكون المسيح المنتظر. ولا ريب في أنها توقعت أن يكون ملكاً زمنياً كما كان اليهود يتوقعون أن يكون المسيح. ولو عرفت مريم وعرف يوسف كل ما يختص بجلال طبيعة يسوع لاستحال عليهما أن يخدماه الخدمة التي يقتضيها جلاله طفلاً وولداً.

٣٤ «فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلاَكِ: كَيْفَ يَكُونُ هٰذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟».

لم يكن سؤال مريم كسؤال زكريا نتيجة الريب (ع ١٨) فإنها لم تسأل علامة كما سأل لتكون برهاناً على صحة الوعد لكنها فهمت أنها تلد ولداً بلا زواج فسألت بكل احترام كيف يجب أن تتوقع إتمام هذا الوعد. ولعلّ غايتها من ذلك معرفة ما يجب أن تفعله لئلا تقصر بجهلها عن القيام بواجباتها. وهذا السؤال لا بد منه طبعاً من عذراء عفيفة لم تسمع بأنه وُلد ولدٌ بلا زواج منذ خلق الله آدم وحواء بقوته الإلهية بلا واسطة.

٣٥ «فَأَجَابَ ٱلْمَلاَكُ: اَلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ ٱلْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذٰلِكَ أَيْضاً ٱلْقُدُّوسُ ٱلْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ٱبْنَ ٱللّٰهِ».

متّى ١: ٢٠ و٤: ٣٣ و٢٦: ٦٣ و٦٤ ومرقس ١: ١ ويوحنا ١: ٣٤ و٢٠: ٣١ وأعمال ٨: ٣٧ ورومية ١: ٤

انظر الشرح متّى ١: ١٨ و٢٠.

اَلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ كثيراً ما عبّر الكتاب المقدس عن قدرة الله على الخلق بالروح (تكوين ١: ٢ ومزمور ١٠٤: ٣٠). فمعنى الملاك أن الولد يُخلق بقدرة الله رأساً وأن حبلها به معجزة.

قُوَّةُ ٱلْعَلِيِّ هذا شرح للقول السابق أنه ليس المراد بالروح القدس مجرد الأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس.

يُدْعَى ٱبْنَ ٱللّٰهِ لأن له الحق بهذا الاسم فليست ولادته الخارقة الطبيعة علّة تسميته بابن الله لأنه كان ابن الله قبل أن يتجسد لكونه أزلياً (يوحنا ١: ١ و٨: ٥٨ و١٧: ٥). ولأنه ابن كذلك منذ الأزل. وابن الله الأزلي حلّ في جسد بشري وولادته الخارقة دليل للناس على أنه ليس إنساناً مجرداً بل هو ابن الله العلي أيضاً.

٣٦ «وَهُوَذَا أَلِيصَابَاتُ نَسِيبَتُكِ هِيَ أَيْضاً حُبْلَى بِٱبْنٍ فِي شَيْخُوخَتِهَا، وَهٰذَا هُوَ ٱلشَّهْرُ ٱلسَّادِسُ لِتِلْكَ ٱلْمَدْعُوَّةِ عَاقِراً».

لم تطلب مريم علامة لكن الملاك أعطاها علامة من تلقاء نفسه وهي أن أليصابات حبلى. فأراد الملاك انها تتحقق صحة كلامه مما تقف عليه من أمر أليصابات.

نَسِيبَتُكِ لم يظهر لنا ما هذه النسبة. وكون أليصابات من سبط لاوي لا ينفي كون مريم من سبط يهوذا لأن الكهنة لم يكونوا ممنوعين من أن يتزوجوا نساء من غير سبطهم بدليل أن امرأة هارون كانت من سبط يهوذا (خروج ٦: ٢٣). أو لعلّ هالي أبا مريم الذي هو من سبط يهوذا أخذ امرأة من سبط لاوي. وعلى الاحتمالين يصح أن تكون أليصابات نسيبة لمريم.

ٱلشَّهْرُ ٱلسَّادِسُ وهذه المدة هي الفرق بين عمر يوحنا المعمدان وعمر يسوع.

٣٧ «لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى ٱللّٰهِ».

تكوين ١٨: ١٤ وإرميا ٣٢: ١٧ وزكريا ٨: ٦ ومتّى ١٩: ٢٦ ومرقس ١٠: ٢٧ وص ١٨: ٢٧ ورومية ٤: ٢١

قول جبرائيل ذلك كان جواباً كافياً لسؤال مريم وأزال كل اضطرابها. وهو كاف لنفي كل ريب من أفكار الناس في شأن سر التجسد وكل شك في أمر إتمام الله مواعيده لأن الله غير المحدود في قدرته يجري كل ما يشاء. وما نسميها بالنواميس الطبيعية ليست بقيود ربط الله بها نفسه فمنعته عن اختياره المطلق إنما هي أمثال الحبال في يده تعالى يطوّلها أو يقصّرها كما يقتضيه إجراء مقاصده.

٣٨ «فَقَالَتْ مَرْيَمُ: هُوَذَا أَنَا أَمَةُ ٱلرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ. فَمَضَى مِنْ عِنْدِهَا ٱلْمَلاَكُ».

أعلنت مريم بهذا الكلام تسليمها إلى إرادة الله وإيمانها بما وُعدت به و بعناية الله بها وتواضعها بتسمية نفسها أَمة الرب. وقد تركت أمر صيتها في يدي الله بلا سؤال.

زيارة مريم لأليصابات ع ٣٩ إلى ٥٦

٣٩، ٤٠ «٣٩ فَقَامَتْ مَرْيَمُ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ وَذَهَبَتْ بِسُرْعَةٍ إِلَى ٱلْجِبَالِ إِلَى مَدِينَةِ يَهُوذَا، ٤٠ وَدَخَلَتْ بَيْتَ زَكَرِيَّا وَسَلَّمَتْ عَلَى أَلِيصَابَاتَ».

يشوع ٢١: ١١ و١٣

فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ أي في أثر وقت البشارة حالما استطاعت التأهب للسفر مسافة أربعة أيام.

وَذَهَبَتْ بِسُرْعَةٍ هذا يدل على أنها لم تمكث في الناصرة بعد البشارة إلا قليلاً. وأنه ألجأتها إلى الإسراع إلى السفر رغبتها في تهنئة أليصابات بما أعلمها الملاك وفي أن تجد بمشاهدتها ما يحقق بشارة الملاك لها. ولم تكن تلك الرغبة دلالة على ريبها في كلام الملاك لكنه لتبرعه بتلك العلامة لاق بها أن تستفيد منها. ولعله لم يكن في الناصرة من يليق أن تنبئها بوعد الملاك لها.

إِلَى مَدِينَةِ يَهُوذَا هي مدينة في الأرض الجبلية المختصة بقسم يهوذا. والمظنون أنها كانت قرب مدينة حبرون (التي هي مدينة الخليل) لأن تلك الأرض وُهبت لهرون (يشوع ٢١: ١١). وهي مسكن زكريا وأليصابات.

وَسَلَّمَتْ عَلَى أَلِيصَابَاتَ الأرجح أنها سلمت عليها السلام المعتاد وهنأتها بما رفع العار عنها.

٤١ «فَلَمَّا سَمِعَتْ أَلِيصَابَاتُ سَلاَمَ مَرْيَمَ ٱرْتَكَضَ ٱلْجَنِينُ فِي بَطْنِهَا، وَٱمْتَلأَتْ أَلِيصَابَاتُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ».

ٱرْتَكَضَ أي تحرك. والارتكاض خاص بحركة الجنين. والحركة المذكورة هنا إما أول حركة للجنين وإما حركة غير عادية حتى نسبتها أليصابات إلى مجيء مريم وعدّتها علّة لها. ولو لم تكن تلك الحركة غير عادية لم تُذكر في هذا المقام.

ٱمْتَلأَتْ أَلِيصَابَاتُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ تم لأليصابات مثلما وُعد به لابنها (ع ١٥) ومعنى ذلك أنه حل عليها روح النبوءة أو ارتفاع النفس غير المعتاد إلى التسبيح لله كما كان للأنبياء القدماء ولمريم أخت موسى (خروج ١٥: ٢٠) ولشيوخ إسرائيل (عدد ١١: ٢٧). ولشاول الملك (١صموئيل ١٠: ٦). ولرسله (١صموئيل ١٩: ٢٠ و٢١). وبواسطة حلول الروح القدس عليها فهمت المراد من ارتكاض الجنين وأن التي أتت إليها هي التي تلد المسيح. ولا دليل على أنه كان بين أليصابات ومريم أدنى مراسلة أو مكالمة قبل أن رأت مريم وابتدأت تتنبأ بالكلام المذكور هنا.

٤٢ «وَصَرَخَتْ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَتْ: مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي ٱلنِّسَاءِ وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ».

قضاة ٥: ٢٤ وع ٢٨

مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي ٱلنِّسَاءِ كان مثل هذه البركة لياعيل امرأة حابر القيني (قضاة ٥: ٢٤). ونرى كثيراً أن الذين تعلّموا أقوال الأسفار الإلهية متى حل عليهم الروح القدس وتنبأوا اقتبسوا في نبوءاتهم بعض الآيات الشعرية من تلك الأسفار وأليصابات أتت مثل ذلك.

وقول أليصابات لمريم «مباركة أنت في النساء» إما خبر بإنعام الله عليها بالبركة التي لم يهبها لغيرها من النساء أو دعاء لها بأن تحسبها النساء كلها مباركة وتدعوها كذلك.

مُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ هذه العبارة تعليل لقولها مباركة أنت في النساء. لأن أليصابات عرفت بروح النبوءة أن مريم ستلد المسيح الذي هو المراد بثمرة بطنها. وليس في كلام أليصابات شيء من الحسد لحصول مريم على بركة أعظم من بركتها بل كلامها كله دالٌّ على التواضع والشكر لله والفرح والإيمان والرجاء.

٤٣ «فَمِنْ أَيْنَ لِي هٰذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟».

فَمِنْ أَيْنَ لِي هٰذَا هذا إقرار من أليصابات بأن زيارة مريم لها تنازل عظيم وتعجب من غرابته. ومثل هذا قول ابنها يوحنا ليسوع عندما أتى ليعتمد منه «وأنت تأتي إليّ» (متّى ٣: ١٤). ولعلّ في ذلك السؤال إقرار بنعمة إلهية لها وأن جوابه كان مضمراً في قلبها وهو أن تلك الزيارة ليست من بشر بل من عنايته تعالى.

أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ ألهمها الروح القدس أن تعلم ان الذي سيولد من مريم هو ابن العلي. نعم إنها علمت أن ابنها يكون عظيماً (ع ١٥) لكنها علمت أن ابن مريم يكون أعظم منه.

٤٤ «فَهُوَذَا حِينَ صَارَ صَوْتُ سَلاَمِكِ فِي أُذُنَيَّ ٱرْتَكَضَ ٱلْجَنِينُ بِٱبْتِهَاجٍ فِي بَطْنِي».

ذكرت ذلك علامة من الروح القدس حققت لها ما علمته في العدد السابق (أي أنّ مريم أم ربها). فروح النبوءة هو الذي قدرها على إدراك الغرض من تلك العلامة. ولا بد من أن في كلام أليصابات ما قوّى إيمان مريم وزادها ابتهاجاً.

٤٥ «فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَـهَا مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ».

فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أي لمريم لأن علامات إيمانها وابتهاجها ظهرت على وجهها حتى تحققت أليصابات أنها واثقة بوعد الله وأنّها شريكة للمؤمنين في فوائد مواعيده تعالى.

ولعلّ في قولها هذا تلميحاً إلى الفرق بين إيمان مريم بوعد الله وعدم إيمان زوجها زكريا بما وعده تعالى حتى أُدّبَ. وكان إيمان مريم من أمثلة الإيمان الذي ذكره بولس «أَمَّا ٱلإِيمَانُ فَهُوَ ٱلثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَٱلإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى» (عبرانيين ١١: ١) وهي لم تلتفت إلى الموانع من إكمال الوعد بل نظرت إلى قوة الواعد. ولنا من ذلك أن الإيمان مصدر كل سعادة حقيقية. وهذا مثل قول المسيح لتوما «طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا» (يوحنا ٢٠: ٢٩).

مَا قِيلَ لَـهَا مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ عرفت إليصابات من زوجها زكريا ما قاله الملاك له من أمر المسيح ولكن ما قيل لمريم لم تعرفه إلا بوحي الروح القدس.

٤٦ «فَقَالَتْ مَرْيَمُ: تُعَظِّمُ نَفْسِي ٱلرَّبَّ».

١صموئيل ٢: ١ ومزمور ٣٤: ٢ و٣ و٣٥: ٩

تسبيحة مريم من ع ٤٦ إلى ٥٦ شعر مقدس من أعلى مراتب الأشعار ويذكرنا بعض عباراتها كلام حنة في سفر صموئيل الأول ٢: ١ – ١١ وكلام داود في سفر صموئيل الثاني ٧: ١٨ – ٢١ وبعض جمل المزمور ٣١ والمزمور ١١٢ والمزمور ١٢٦. ولم يقل البشير أن روح الله حل على مريم حين سبّحت كما قيل أنه حل على أليصابات (ع ٤١) وعلى زكريا (ع ٦٧) ولكن لا ريب في أنه حل عليها ولكنه حل عليها طويلاً وحل عل أليصابات وقتاً قصيراً (ع ٣٥). ولا عجب من أن اقتبست مريم في تسبيحها كثيراً من آيات العهد القديم لأن أولاد اليهود الصبيان والصبايا كانوا يحفظون كثيراً من تلك الآيات على ظهور قلوبهم كقصيدة دبورة وقصيدة حنة ومزامير داود واعتادوا أن يترنموا بها في العبادة لله كل يوم عند تقديم ذبيحة الصباح وفي ذبيحة المساء وفي الاحتفالات السنوية أيضاً. وبداءة تسبيحة مريم التعظيم للرب لأنه هو علّة سرورها باختياره إياها واسطة مكرمة لإجراء مقاصده العظمى. ولم تقتصر على التسبيح لله بشفتيها بل اشتركت في ذلك نفسها أي قواها الباطنة. وقولها هنا مثل قول داود «أَبْتَهِجُ وَأَفْرَحُ بِرَحْمَتِكَ لأَنَّكَ نَظَرْتَ إِلَى مَذَلَّتِي» (مزمور ٣١: ٧).

٤٧ «وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِٱللّٰهِ مُخَلِّصِي».

رُوحِي أي كل قواي الباطنة. والروح هي التي تدرك ما لا يدرك بالحواس الظاهرة وهي التي تؤمن وترجو وتحب.

بِٱللّٰهِ مُخَلِّصِي الله مخلص لأنه يفدي شعبه من الخطيئة والموت ويعطيهم نصيباً في الحياة الأبدية. وفي قول مريم هنا إقرار بأنها محتاجة إلى مخلص وأنها نالت من الله الخلاص الذي هو أتى به لشعبه. فإذاً في قول مريم نفسها رد كاف على دعوة بعضهم أن مريم ليست كسائر البشر في الطبيعة. فإنها كانت كسائر المؤمنات في إسرائيل تتوقع الخلاص من الله وقد كُرر الوعد لها بذلك باسم المولود منها الذي هو يسوع أي مخلص (ع ٣١). فابتهجت بأن الله مخلص لها أكثر مما ابتهجت بأن يسوع مولود منها.

٤٨ «لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى ٱتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَذَا مُنْذُ ٱلآنَ جَمِيعُ ٱلأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي».

١صموئيل ١: ١ و١١ ومزمور ١٣٨: ٦، ملاخي ٣: ١٢ وص ١١: ٢٧

نَظَرَ إِلَى ٱتِّضَاعِ أَمَتِهِ نظر الحنو بغية أن يرفعها من ذلها وأكرمها على حقارتها بين الناس بما أنعم به عليها فتيقنت أن ذلك تنازل ولطف من الله فأظهرت تواضعها بإقرارها أنها ليست مستحقة ذلك الإكرام.

جَمِيعُ ٱلأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي أي أن أهل كل عصر تقتدي بأليصابات في غبطتها لي. ومعنى قوله «تطوبني» تحسبني سعيدة. فمعنى مريم أنه كما أن النساء كلها في العصور الماضية قبلها كانت ترغب في أن يولد المسيح منها ستكون النساء بعدها في كل عصر حاسبة إياها سعيدة على ولادته منها. نعم إنّها حصلت على ما تنبأت لكن بقي غبطة أكثر من غبطتها بتلك الولادة وهي ما أبانها المسيح عندما قال له بعضهم «طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما» بقوله «بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه».

وعلمت مريم بروح النبوءة عظمة يسوع وأن تلك العظمة تدوم إلى الأبد وتيقنت أن اسمها يُذكر بين الناس باعتبار أنها مختارة أُماً للمسيح في الجسد.

نعم إنّ مريم كانت مغبوطة حقاً ولا تزال كذلك إلى الأبد لكنّ هذه الغبطة لا تجيز أن تكون مريم معبودة، فغبط إيراهيم بكونه أبا المؤمنين ويوحنا الرسول بأن كان التلميذ المحبوب وبطرس بكونه رسول اليهود وبولس بكونه رسول الأمم ولكنه لم يلزم مما ذكر أن يُعبدوا.

٤٩ «لأَنَّ ٱلْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ، وَٱسْمُهُ قُدُّوسٌ».

مزمور ٧١: ١٩ و١٢٦: ٢، مزمور ١١١: ٩

ٱلْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ هذه العلامة الثانية لنظر الله بحنوه إلى ذلها. ومرادها بالقدير هنا هو الله سبحانه وتعالى وأشارت بذلك القول إلى ما ذكره الملاك لها بقوله «قوة العلي تظللك» الخ (ع ٣٥). وعبّرت عن البركة التي وهبها الله بالعظائم لأنها رأتها عظيمة وعجيبة جداً.

وَٱسْمُهُ قُدُّوسٌ مجّدت مريم الباري تعالى بكونه قديراً ومجّدته هنا بكونه قدوساً أي ذا قداسة أي طهارة أسمى من كل قداسة وأنه منزّه عن كل خطيئة وظلم. والمراد باسمه هنا ذاته العلية. وهذا وفق قول الكتاب «لَيْسَ قُدُّوسٌ مِثْلَ ٱلرَّبِّ» (١صموئيل ٢: ٢).

وأظهر الله قدرته بأنه أنشأ جسد المسيح بأسلوب خارق الطبيعة وأظهر قداسته بالفداء الذي أكمله بيسوع المسيح لأنه أعلن بغضه الشديد للخطيئة ببذله ابنه كفارة عن الخطاة.

٥٠ «وَرَحْمَتُهُ إِلَى جِيلِ ٱلأَجْيَالِ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ».

تكوين ١٧: ٧ وخروج ٢٠: ٦ ومزمور ١٠٣: ١٧

وَرَحْمَتُهُ مجدت مريم الله قبلاً بقدرته وقداسته ومجدته هنا برحمته. وتجلت رحمة الله للعالمين بالمسيح لأن غاية الفداء به خلاص الهالكين.

إِلَى جِيلِ ٱلأَجْيَالِ سبّحت مريم الله ومجدته في ما سبق لإنعامه عليها بولادة يسوع منها وأخذت هنا تسبّحه وتمجده لإنعامه على غيرها من الناس بميلاد يسوع وملكه. ومرادها «بجيل الأجيال» آخر صنف من الناس. ولعلّ مرادها أن رحمة الله تدوم للأتقياء ميراثاً من الوالدين إلى أولادهم وأولاد أولادهم إلى نهاية العالم كما جاء في سفر الخروج ٢٠: ٦.

لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ أي الذين هم أهل لتلك الرحمة لا المتكبرين والعصاة. ولعلها قصدت «بالذين يتقونه» أمثال زكريا وأليصابات وغيرهما ممن كانوا ينتظرون خلاص إسرائيل.

٥١ «صَنَعَ قُوَّةً بِذِرَاعِهِ. شَتَّتَ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ بِفِكْرِ قُلُوبِهِمْ».

مزمور ٩٨: ١ و١١٨: ١٥ وإشعياء ٤٠: ١٠، مزمور ٣٣: ١٠ و١بطرس ٥: ٥

صَنَعَ قُوَّةً مجّدت هنا مريم قدرة الله وبأنه أذل العصاة المتمردين.

بِذِرَاعِهِ الذراع هنا مجاز حقيقته القدرة عند العمل.

ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ نعتت مريم الأثمة بالكبرياء لأنه يتميزون عن غيرهم بهذه الصفة كما أن الصالحين يمتازون بالتواضع. والكبرياء من أعظم المهيجات لغضب الله ومما يقود الناس إلى عصيانه تعالى.

بِفِكْرِ قُلُوبِهِمْ أشارت بهذا إلى علّة الكبرياء ومصدرها. فالناس يحسبون أنهم عظماء مقتدرون وبذلك يتجاسرون على الله. والذين قصدتهم مريم بهذا الكلام هم أناس كفرعون وسيحون ملك الأموريين وعوج ملك باشان وسنحاريب ملك الأشوريين وأنطيوخوس ملك سورية وغيرهم من الملوك القساة الذين قاوموا الله والله نزع قوتهم منهم. وقولها هنا مثل قول حنة «لاَ تُكَثِّرُوا ٱلْكَلاَمَ ٱلْعَالِيَ ٱلْمُسْتَعْلِيَ، وَلْتَبْرَحْ وَقَاحَةٌ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ» (١صموئيل ٢: ٣).

٥٢ «أَنْزَلَ ٱلأَعِزَّاءَ عَنِ ٱلْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ ٱلْمُتَّضِعِينَ».

١صموئيل ٢: ٦ الخ وأيوب ٥: ١١ ومزمور١١٣: ٦

ٱلأَعِزَّاءَ أشارت بهؤلاء إلى ملوك الأرض وعظمائها عند أنفسهم وأمثالهم كقيصر وهيرودس ووزرائهما والفريسيين والصدوقيين في أيامهما.

أَنْزَلَ عَنِ ٱلْكَرَاسِيِّ أي عن مناصبهم ومراتبهم حيث يجرون أعمال قوتهم وسلطتهم ويظهرون ثروتهم وعظمتهم. فإن الله بواسطة مجيء المسيح وقيام ملكوته في العالم يقلب كل كراسي الإثم والكبرياء. ومعنى هذه الآية كمعنى الآية التي قبلها والفرق بينهما لفظي. فإنها ذُكرت في تلك أفكار قلوبهم الكبريّة وفي هذه أحوال عظمتهم.

وَرَفَعَ ٱلْمُتَّضِعِينَ هذا مقابل لقولها «أنزل الأعزاء». إن الله يُجري التقلبات في ممالك الأرض يُجلس الأدنياء على عروش العظماء كما فعل بشاول الملك فإنه رفضه واختار داود راعي الغنم رئيساً على شعبه (٢صموئيل ٧: ٨). وذلك مثل قوله «ٱنْزِعِ ٱلْعِمَامَةَ. ٱرْفَعِ ٱلتَّاجَ. هٰذِهِ لاَ تِلْكَ. ٱرْفَعِ ٱلْوَضِيعَ، وَضَعِ ٱلرَّفِيعَ» (حزقيال ٢١: ٢٦ و٢٧).

ولعلّ مريم نظرت في رفض الله لهيرودس ملك شعبه يومئذ واختياره بدلاً منه طفلاً وُلد من عذراء الناصرة البائسة. ولا ريب في أنها كانت كسائر اليهود تتوقع أن المسيح يملك على الأرض ملكاً زمنياً لينقذ إسرائيل من نير الرومانيين الظالمين ونير بيت هيرودس الآدومي ويرد الملك إلى الوارث الحقيقي من بيت داود.

٥٣ «أَشْبَعَ ٱلْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ وَصَرَفَ ٱلأَغْنِيَاءَ فَارِغِينَ».

١صموئيل ٢: ٥

هذا بيان لعمل الله احياناً حقيقة. ولكن أكثر ما يراد هنا إشباع جياع النفوس خيرات روحية. وهؤلاء هم الذين يتقونه (ع ٥٠). ولا ريب في أن مريم أدخلت نفسها وأليصابات وزكريا بين أولئك الجياع. والمقصود بالأغنياء الذين اكتفوا بخيراتهم الزمنية ولم يشعروا باحتياجهم إلى البركات الروحية. ومثل الفريقين العشار والفريسي لأن العشار نزل إلى بيته مبرراً دون الفريسي (ص ١٨: ٩ – ١٤ وانظر أيضاً ١صموئيل ٢: ٤ – ٧ ومزمور ١٠٧: ٣٣ – ٤١ و١١٣: ٧ – ٩).

٥٤، ٥٥ «٥٤ عَضَدَ إِسْرَائِيلَ فَتَاهُ لِيَذْكُرَ رَحْمَةً، ٥٥ كَمَا كَلَّمَ آبَاءَنَا. لإبْراهِيمَ وَنَسْلِهِ إِلَى ٱلأَبَدِ».

مزمور ٩٨: ٣ وإرميا ٣١: ٣، تكوين ١٧: ١٩ ومزمور ١٣٢: ١١ ورومية ١: ٢٨ وغلاطية ٣: ١٦

في هذين العددين مجّدت مريم الله واثقةً لأمانته في وفاء مواعيده. وأشارت بذلك إلى ما فعله تعالى سابقاً برحمته لشعبه المختار بمقتضى مواعيده لآبائهم ولما أزمع أن يفعله من مثل ذلك في إعطائه ذلك الشعب ملكاً ومخلصاً. ففرحها بالعظائم التي وُعدت بها (ع ٤٩) لم يكن لنفعها الذاتي إلا أقل مما كان لنفع شعبها.

فَتَاهُ أي عبده (إشعياء ٤١: ٨).

لِيَذْكُرَ رَحْمَةً أي مواعيد سببها رحمته (ع ٧٢) ولا سيما المواعيد المتعلقة بالمسيح (تكوين ١٢: ٣ و١٥: ١٨ و٢٢: ١٨). وعضد الله شعبه هنا إما نتيجة ذكره عهد الرحمة وإما برهان على ذلك.

كَمَا كَلَّمَ آبَاءَنَا أي أن الرحمة التي أظهرها الله في أيام مريم هي عين الرحمة التي وعد بها إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فمواعيد الفريقين أنهار من ينبوع واحد. وجوهر تلك الرحمة المسيح (تكوين ١٧: ١٩ وإشيعاء ٥٤: ١٠ و٥٥: ٣ ورومية ١١: ٢٩).

إِلَى ٱلأَبَدِ هذا متعلق «بيذكر» في قوله «ليذكر رحمة» لأن الله يذكر عهده إلى الأبد.

٥٦ «فَمَكَثَتْ مَرْيَمُ عِنْدَهَا نَحْوَ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا».

نَحْوَ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ أي أقامت مريم في بيت زكريا إلى قرب ولادة أليصابات.

إِلَى بَيْتِهَا أي مسكنها في الناصرة (ع ٢٦). والأرجح أنه حدث بعد رجوعها ما ذُكر في (متّى ١: ١٨ – ٢٤).

ميلاد يوحنا المعمدان ع ٥٧ إلى ٦٦

٥٧، ٥٨ «٥٧ وَأَمَّا أَلِيصَابَاتُ فَتَمَّ زَمَانُهَا لِتَلِدَ، فَوَلَدَتِ ٱبْناً. ٥٨ وَسَمِعَ جِيرَانُهَا وَأَقْرِبَاؤُهَا أَنَّ ٱلرَّبَّ عَظَّمَ رَحْمَتَهُ لَهَا، فَفَرِحُوا مَعَهَا».

ع ١٤

عَظَّمَ رَحْمَتَهُ لَـهَا ذلك بإعطائه إياها ابناً.

فَفَرِحُوا مَعَهَا ذُكر فرحهم هنا لأن المولود كان علّة فرح بنفسه ولأن ولادته كانت غير عادية لأنه يندر أن يُولد للشيوخ كزكريا وأليصابات ولأنهم سمعوا (كما هو الأرجح) بالرؤيا التي كانت لزكريا في الهيكل والوعد بعظمة المولود له. وهذا الفرح بداءة إنجاز الوعد في الآية ١٤ وهو قوله «وكثيرون سيفرحون بولادته».

٥٩ «وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّامِنِ جَاءُوا لِيَخْتِنُوا ٱلصَّبِيَّ، وَسَمَّوْهُ بِٱسْمِ أَبِيهِ زَكَرِيَّا».

تكوين ١٧: ١٢ ولاويين ١٢: ٣

فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّامِنِ أي اليوم المعيّن للختان في الشريعة الموسوية (خروج ٢١: ٤ ولاويين ١٢: ٣ وص ٢: ٢١ وفيلبي ٣: ٥).

جَاءُوا أي الأقرباء.

وَسَمَّوْهُ هذا يدلنا على أن المولود كان يسمى عند اختتانه ولعلّ سبب ذلك تسمية أبرام بإبراهيم عند ختانه (تكوين ١٧: ٥) ثم ان الولد بواسطة الختان يدخل تحت العهد الذي عاهد الله إبراهيم (عدد ١٧: ٩ – ١٣).

ِبِٱسْمِ أَبِيه أي أرادوا تسميته زكريا وكانوا على وشك أن يسموه بذلك. ولعلّ سبب ذلك اعتبارهم لزكريا ولحفظ اسمه بين الناس.

٦٠ «فَقَالَتْ أُمُّهُ: لاَ بَلْ يُسَمَّى يُوحَنَّا».

ع ١٣

لا ريب أن أليصابات عرفت ذلك من زكريا بواسطة كتابته الاسم الذي عيّنه الملاك فلذلك قالت بأن يُسمى بيوحنا (ع ١٣) ومعنى يوحنا الرب حنّان.

٦١ «فَقَالُوا لَـهَا: لَيْسَ أَحَدٌ فِي عَشِيرَتِكِ تَسَمَّى بِهٰذَا ٱلاسْمِ».

اجتهد اليهود في حفظ جداول الأنساب لكل سبط ولكل بيت على حدته لبيان حقوق الوراثة ولذلك حفظوا أسماء أفراد كل بيت اتقاء من الغلط والريب ولذلك اعترض الأقرباء على ذلك الاسم الذي لم يسم به أحد من عشيرتهم في تلك الأيام منذ زمن طويل. ولكن اسم يوحنا استعمل كثيراً في أسباط مختلفة قبل يوحنا المعمدان حتى بين الذين من سبط لاوي (نحميا ١٢: ٢٢ و٢٣). وكثيراً ما سموا الأولاد قديماً بأسماء بعض أسلافهم الذين اشتهروا بالفضائل رغبة في أن يكون المولود مثل المسمى باسمه في فضائله. وكانت تسمية الولد باسم لم يسم به أحد من أقربائه عرضة للظن أنه لم يكن منهم من يستحق أن يتمثل به.

٦٢ «ثُمَّ أَوْمَأُوا إِلَى أَبِيهِ، مَاذَا يُرِيدُ أَنْ يُسَمَّى».

يُستنتج من إيمائهم له أنه صمّ فوق بكمه وإلا لم يحتاجوا إلى الإيماء للاستفهام منه بل كانوا استغنوا عنه بالكلام.

٦٣ «فَطَلَبَ لَوْحاً وَكَتَبَ: ٱسْمُهُ يُوحَنَّا. فَتَعَجَّبَ ٱلْجَمِيعُ».

ع ١٣

لَوْحاً غلب في تلك الأيام أن يتخذوا للكتابة لوحاً رقيقاً من الخشب مائل الحواشي قليلاً مغشى الوجه بشمع. وكان القلم لذلك من حديد أحد طرفيه محدد للكتابة وطرفه الآخر مسطح للمحو (أيوب ١٩: ٢٤ وإرميا ١٧: ١).

ٱسْمُهُ يُوحَنَّا أي أن الأمر مقضى من رب الأمر فلا محل للاختيار (ع ١٣). ولا ريب في أن زكريا رضي ما كان قد قاله ملاك الرب. ومعنى «يوحنا» الرب حنان (انظر ع ١٣).

تَعَجَّبَ ٱلْجَمِيعُ علّة تعجبهم تسميته باسم لم يعهد في تلك العائلة واتفاق الوالدين عليه والقضاء به سابقاً. ويحتمل أن علّة تعجبهم أيضاً تكلُم زكريا بعد سكوته عدة أشهر بعد ظنهم أنه مصاب بشلل دائم.

٦٤ «وَفِي ٱلْحَالِ ٱنْفَتَحَ فَمُهُ وَلِسَانُهُ وَتَكَلَّمَ وَبَارَكَ ٱللّٰهَ».

ع ٢٠

ٱنْفَتَحَ فَمُهُ وَلِسَانُهُ أي وانطلق لسانه وذلك نتيجة انفتاح فمه. والقوة الإلهية التي أغلقت فاه هي التي فتحته. والوقت الذي حُكم عليه بالصمت فيه كان قد انتهى (انظر ع ١٣ و٢٠ معاً).

وَتَكَلَّمَ وَبَارَكَ ٱللّٰهَ الأرجح أن الذي تكلم به حينئذ هو ما في العدد الثامن والستين وما بعده إلى التاسع والسبعين.

وابتداء زكريا في التكلم بعد ربط لسانه تلك المدة الطويلة لم يكن في مخاطبة امرأته أو أحد أقربائه أو في الكلمات المعربة عن ابتهاجه بانطلاق لسانه أو ألفاظ التذمر على الله لإنزاله ذلك المصاب بل كان تسبيحاً له تعالى. فعلى كل مسيحي برئ من مرض ونجا من مصيبة أن يشغل لسانه بتسبيح الله (مزمور ٦٦: ١٠ و١١ مع ١٦).

٦٥ «فَوَقَعَ خَوْفٌ عَلَى كُلِّ جِيرَانِهِمْ. وَتُحُدِّثَ بِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ جَمِيعِهَا فِي كُلِّ جِبَالِ ٱلْيَهُودِيَّةِ».

ع ٣٩

وَقَعَ خَوْفٌ سبب هذا الخوف جميع الحوادث التي اقترنت بميلاد يوحنا وتسميته وهي ظهور الملاك وإنباؤه وقصاص زكريا المشاهد وولادة يوحنا من والدين طاعنين في السن وانطلاق لسان زكريا عند اختتان ولده.

وقد اعتاد لوقا عند ذكره بعض المعلنات السماوية الغريبة تبيين أن أول تأثير تلك المعلنات هو خوف الذين شاهدوها (ع ١٢ و٢٩ و٣٠ وص ٢: ٩ و٢٤: ٢٥) وكان ذلك الخوف خشوعاً دينياً ناتجاً عن الشعور بالقرب من الله جل وعلا.

جِبَالِ ٱلْيَهُودِيَّةِ هي البلاد من جنوبي أورشليم إلى حبرون (التي هي الخليل). وكلام البشير هنا يدل على أن خبر الحوادث في ولادة يوحنا انتشر شيئاً فشيئاً من بيت ميلاده إلى كل تلك الكورة.

٦٦ «فَأَوْدَعَهَا جَمِيعُ ٱلسَّامِعِينَ فِي قُلُوبِهِمْ قَائِلِينَ: أتُرَى مَاذَا يَكُونُ هٰذَا ٱلصَّبِيُّ؟ وَكَانَتْ يَدُ ٱلرَّبِّ مَعَهُ».

ص ٢: ١٩ و٥١، تكوين ٣٩: ٢ ومزمور ٨٠: ١٧ و٨٩: ٢١ وأعمال ١١: ٢١

فَأَوْدَعَهَا… فِي قُلُوبِهِمْ أي تأملوا فيها وبحثوا عن غايتها وانتظروا نتائجها.

مَاذَا يَكُونُ هٰذَا ٱلصَّبِيُّ أي متى كبر. وعنوا بذلك الأمور التي قصد الله إجراءها بعد حين على يد الصبي لأنه إذا كانت هذه الغرائب مقترنة بميلاده فماذا يكون منه عند بلوغه.

يَدُ ٱلرَّبِّ مَعَهُ استعار «يد الرب» لقوة الرب (قضاة ٢: ١٥ و١٣: ٢٥ و٢أيام ٣٠: ١٢ وعزرا ٧: ٩). وهي هنا تتضمن عناية الله به ومنحه إياه كل بركة ضرورية لجسده وعقله وروحه. وهذا وفق النبوءة التي في الآية الخامسة عشرة. وهذا مختصر تاريخ صبوة يوحنا.

تسبيحة زكريا ع ٦٧ إلى ٨٠

٦٧ «وَٱمْتَلأَ زَكَرِيَّا أَبُوهُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَتَنَبَّأَ قَائِلاً».

يوئيل ٢: ٢٨

هذه الآية متعلقة بالآية الرابعة والستين ولعلّ زكريا تأمل مدة أشهر صمته في الحقائق التي تكلم الآن عليها بوحي الروح القدس.

تَنَبَّأَ أي سبّح الله بإلهام الروح كما في سفر صموئيل الأول (١صموئيل ١٩: ٢٠). ويطلق التنبوء على كل تكلم في مواضيع دينية بالوحي (١كورنثوس ١٤: ٢٤ و٢٥) ونستدل من إحساسات زكريا التي ظهرت في هذا الخطاب على ماهية تعليمه لابنه يوحنا فيما بعد.

٦٨ «مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ إِلٰهُ إِسْرَائِيلَ لأَنَّهُ ٱفْتَقَدَ وَصَنَعَ فِدَاءً لِشَعْبِهِ».

١ملوك ١: ٤٨ ومزمور ٤١: ١٣ و٧٢: ١٨ و١٠٦: ٤٨، خروج ٣: ١٦ و٤: ٣١ ومزمور ١١١: ٩ وص ٧: ١٦

مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ أي الآب الذي أرسل ابنه لكي يكون «قرن خلاص» و «المشرق من العلى». فزكريا بارك الله من ع ٦٨ إلى ع ٧٠ على إرساله المسيح. وذكر من ع ٧١ إلى ع ٧٥ النجاة العظيمة الناتجة من مجيئه المبارك.

لأَنَّهُ ٱفْتَقَدَ أي افتقد شعبه لأجل المساعدة كما في بشارة متّى (متّى ٢٥: ٣٦). وسفر الأعمال (أعمال ٧: ٢٣) ورسالة يعقوب (يعقوب ١: ٢٧). واعتبر زكريا إلغاء النبوءة منذ أربع مئة سنة ابتعاداً بين الله وبني إسرائيل وحسب علامات نعمته عليهم يومئذ كرجوعه إليهم ثانية.

ِوَصَنَعَ فِدَاءً لِشَعْبِه أنزل زكريا هنا إعداد مجيء الفادي منزلة المجيء عينه. وعبّر بالفداء عن كل عمل المسيح وهو يتضمن التحرير من كل عبودية الخطية (يوحنا ٨: ٣٤ – ٣٦) أما اليهود فحصروا معنى الفداء بالمسيح في التحرير من عبوديتهم للرومانيين. ولعلّ زكريا لم يدرك كل معنى ما تفوه به هنا.

٦٩ «وَأَقَامَ لَنَا قَرْنَ خَلاَصٍ فِي بَيْتِ دَاوُدَ فَتَاهُ».

مزمور ٣٢: ١٧

في هذه الآية تفصيل ما سبق.

قَرْنَ خَلاَصٍ أراد «بقرن الخلاص» المسيح. وبنى كلامه في ذلك على قول النبي «هُنَاكَ أُنْبِتُ قَرْناً لِدَاوُدَ» (مزمور ١٣٢: ١٧). ويستعار قرن الحيوان لقوته كما تستعار يد الإنسان لقوته (تثنية ٣٣: ١٧ ومزمور ٧٥: ١٠ وإرميا ٤٨: ٢٥ وحزقيال ٢٩: ٣١ ودانيال ٧: ٧ و٨ و٨: ٣ – ١٢) معناه هنا أن المسيح يكون مخلصاً قديراً وأن له قوة الله (رومية ١: ١٦ ورؤيا ٥: ١٢).

فِي بَيْتِ دَاوُدَ فَتَاهُ هذا دليل على أن زكريا اعتقد أن مريم هي من نسل داود.

٧٠ «كَمَا تَكَلَّمَ بِفَمِ أَنْبِيَائِهِ ٱلْقِدِّيسِينَ ٱلَّذِينَ هُمْ مُنْذُ ٱلدَّهْرِ».

إرميا ٢٣: ٥ و٦ و٣٠: ١٠ ودانيال ٩: ٢٤ وأعمال ٣: ٢١ ورومية ١: ٢

أَنْبِيَائِهِ أشار زكريا بهذا إلى أنّه يتم بالمسيح كل ما تعلق به من النبوات منذ سقوط آدم إلى نهاية عمله الفداء. وذلك يشتمل على ولادته وحوادث حياته وآلامه وموته وانتصاره وتكليله رباً على الجميع. وأخص أولئك الأنبياء يعقوب (تكوين ٤٩: ١٠) وموسى (تثنية ١٨: ١٥) وإشعياء (إشعياء ٩: ٦ و٧ وص ٥٣). ومن النبوءات ما أعلنه الله لإبراهيم (تكوين ١٢: ٣ و٢٢: ١٨) ولإسحاق (تكوين ٢٦: ٤) وليعقوب (تكوين ٢٨: ١٤).

ومما يستحق الملاحظة هنا أن زكريا لم يقل كما تكلم الأنبياء بل «كما تكلم الله بفم الأنبياء» فإذاً كلما قرأنا النبوءات نكون قد قرأنا كلمات الله.

مُنْذُ ٱلدَّهْرِ أي منذ ما تكلم أول الأنبياء. وهنا ذكر زكريا أربعة أمور بارك الله من أجلها:

  1. عود الله إلى إسرائيل بالرحمة.
  2. إرساله مخلصاً قديراً.
  3. أن ذلك المخلص يكون من نسل داود ووارث مجده.
  4. أن كل النبوءات المجيدة تتم به.

٧١ «خَلاَصٍ مِنْ أَعْدَائِنَا وَمِنْ أَيْدِي جَمِيعِ مُبْغِضِينَا».

في هذا العدد وما بعده إلى العدد الخامس والسبعين ذكر الفوائد الناتجة من مجيء المسيح. وأول تلك الفوائد «الخلاص من أعدائنا» وهم:

  1. ظالموهم الأجنبيون أي الرومانيون.
  2. ظالموهم الوطنيون وهم هيرودس وجماعته الآدومّيون الذين وإن كانوا دخلاء ليسوا بإسرائيليين.
  3. أعداؤهم الروحية أي الشيطان وشهواتهم (تكوين ٣: ١٥ ومتّى ١: ١٢). وهذا الخلاص بيان للخلاص المذكور في الآية ٦٩ وغلط اليهود العظيم أنهم توقعوا من المسيح الخلاص الزمني فقط.

٧٢ «لِيَصْنَعَ رَحْمَةً مَعَ آبَائِنَا وَيَذْكُرَ عَهْدَهُ ٱلْمُقَدَّسَ».

لاويين ٢٦: ٤٢ ومزمور ٩٨: ٣ و١٠٥: ٨ و٩ و١٠٦: ٤٥ وحزقيال ١٦: ٦ وع ٥٤

رَحْمَةً مَعَ آبَائِنَا لم يحسب زكريا مجيء المسيح رحمة للأحياء فقط بل للموتى أيضاً لأن آباء اليهود كانوا يتوقعون منذ قرون كثيرة إتيان المخلص فجعلهم زكريا شركاء أولادهم في تلك الرحمة. «والموتى عند الناس أحياء عند الله».

وَيَذْكُرَ عَهْدَهُ أي وعده بإرسال المسيح. والمراد بقوله «يذكر» ينجز كمن نسي وعده ثم ذكره ووفى به. وهذا هنا من باب الكتابة لأنه سبحانه تعالى لا ينسى بل يجري كل مقاصده في أوقاتها المعينة.

٧٣ «ٱلْقَسَمَ ٱلَّذِي حَلَفَ لإبْرَاهِيمَ أَبِينَا».

تكوين ١٢: ٣ و١٧: ٤ و٢٢: ١٦ و١٧ وعبرانيين ٦: ١٣ و١٧

ٱلْقَسَمَ هنا بدل من العهد في الآية السابقة وتوكيد له. وهذا القسم ذُكر في سفر التكوين (تكوين ٢٢: ١٦ و١٧ و٢٤: ١٦ – ١٨) وهو موافق لقول بولس في الرسالة إلى (غلاطية ٣: ١٣ – ١٧) ولما قيل في رسالة العبرانيين (عبرانيين ٦: ١٣ و١٤). فكل شيء في عهد الله به وأثبته بقسمٍ تمّ بالمسيح.

٧٤ «أَنْ يُعْطِيَنَا إِنَّنَا بِلاَ خَوْفٍ، مُنْقَذِينَ مِنْ أَيْدِي أَعْدَائِنَا، نَعْبُدُهُ».

رومية ٦: ١٨ و٢٢ وعبرانيين ٩: ١٤

هذا نتيجة إنجاز الوعد.

بِلاَ خَوْفٍ أي من الأعداء. والذي يعطيه هو الأمن التام لأجل العبادة بالسكينة والاطمئنان أي هبة الراحة الجسدية وسيلة إلى الخير الروحي لا لمجد الأمة أو انتصارها على غيرها من الأمم أو الانتقام منهم.

تبيّن مما ذُكر أن الحرّية الدينية من البركات التي وهبها المسيح.

٧٥ «بِقَدَاسَةٍ وَبِرٍّ قُدَّامَهُ جَمِيعَ أَيَّامِ حَيَاتِنَا».

إرميا ٣٢: ٣٩ و٤٠ وأفسس ٤: ٢٤ و٢تسالونيكي ٢: ١٣ و٢تيموثاوس ١: ٩ وتيطس ٢: ١٢ و١بطرس ١: ١٥ و٢بطرس ١: ٤

بِقَدَاسَةٍ لأفراد الأمة ولجميعها.

وَبِرٍّ الفرق بين القداسة والبرّ أن القداسة هي الطهارة الداخلية والبرّ ظهور تلك الطهارة في الخارج.

قُدَّامَهُ أي قدام الله وذلك يستلزم كمال البرّ والقداسة.

جَمِيعَ أَيَّامِ حَيَاتِنَا أي ما دامت الأمة الإسرائيلية على الأرض. ولكن الإسرائيليين لم يحصلوا على ذلك لعدم إيمانهم على أنهم لا بد من أن يحصلوا عليه أخيراً والفوائد من مجيء المسيح على ما ذُكرت هنا خمس:

  • الأولى: التحرير من العبودية.
  • الثانية: إنجاز عهد الله الذي أثبته بالقَسم.
  • الثالثة: الأمن.
  • الرابعة: العبادة بلا معارض.
  • الخامسة: القداسة.

٧٦ «وَأَنْتَ أَيُّهَا ٱلصَّبِيُّ نَبِيَّ ٱلْعَلِيِّ تُدْعَى، لأَنَّكَ تَتَقَدَّمُ أَمَامَ وَجْهِ ٱلرَّبِّ لِتُعِدَّ طُرُقَهُ».

إشعياء ٤٠: ٣ وملاخي ٣: ١ و٤: ٥ ومتّى ١١: ١٠ وع ١٧

وَأَنْتَ أَيُّهَا ٱلصَّبِيُّ التفت زكريا في هذه الآية والتي تليها إلى الطفل يوحنا الذي كان أمامه وذكر العمل الذي سيجريه يوحنا في سبيل الفداء الإلهي. ولم يذكر أن ذاك الصبي سيكون علّة تعزية له في شيخوخته إنما افتكر في خدمته للمسيح.

نَبِيَّ ٱلْعَلِيِّ أنزل زكريا ابنه منزلة واحد من أنبياء العهد القديم الذين ذكرهم في الآية السبعين لكن المسيح قال بعد ذلك أنه أعظم من جميع الأنبياء السالفين (ص ٧: ٢٨).

والمراد «بالعلي» هنا هو الله والمسيح «ابن العلي» (ع ٣٢). وأما يوحنا فهو «نبي العلي».

تَتَقَدَّمُ الخ الكلام هنا مبنيٌّ على ما قيل في نبوءة إشعياء (إشعياء ٤٠: ٣ و٤) وسبق تفسيره في شرح بشارة متّى (متّى ٣: ٣).

٧٧ «لِتُعْطِيَ شَعْبَهُ مَعْرِفَةَ ٱلْخَلاَصِ بِمَغْفِرَةِ خَطَايَاهُمْ».

مرقس ١: ٤ وص ٣: ٣

مَعْرِفَةَ ٱلْخَلاَصِ هذه العبارة مظهرة علّة حاجة المسيح إلى سابق لأن بني إسرائيل جهلوا حقيقة الخلاص الذي يحتاجون إليه فظنوه النجاة من نير الرومانيين. والحق أنهم كانوا في شديد الحاجة إلى الخلاص من نير الخطية والدينونة عليها. وخلاصة جهلهم أنهم بدلوا النجاة الروحية بالنجاة السياسية.

والفرق بين المسيح وسابقه أن المسيح يعطي الخلاص (متّى ١: ٢١) وأن سابقه يعطي معرفة الخلاص.

بِمَغْفِرَةِ خَطَايَاهُمْ وهي أعظم ما يفتقر إليه الإسرائيليون لكنهم جهلوا هذا الافتقار وظنوا أنه لا يفتقر إلى تلك المغفرة إلا الأمم. وقد أتى المسيح ليمنح تلك البركة للجميع. وأتى يوحنا ليخبرهم بها دفعاً للوهم والغلط ولذلك نادى «بِمَعْمُودِيَّةِ ٱلتَّوْبَةِ لِمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا» (مرقس ١: ٤).

أما المغفرة فهي أعظم حاجات الإنسان وأعظم مواهب الله في المسيح. وفي هذا الخبر مختصر الإنجيل لأنه ذُكر فيه أربع حقائق عظيمة.

  • الأولى: الخلاص الذي هو موضوع الإنجيل.
  • الثانية: أن الخلاص بمغفرة الخطايا.
  • الثالثة: أن علّة منح الخلاص رحمة الله (يوحنا ٣: ١٦ وأفسس ٢: ٤ – ٨).
  • الرابعة: نتائج الخلاص. وخلاصتها نور الضالين وسلام للمضطربين. فما أعظم البركات الثلاث المذكورة هنا وهي المغفرة والنور والسلام. فيجب على كل منا أن يسأل نفسه هل حصلت على تلك البركات العظمى.

٧٨، ٧٩ «٧٨ بِأَحْشَاءِ رَحْمَةِ إِلٰهِنَا ٱلَّتِي بِهَا ٱفْتَقَدَنَا ٱلْمُشْرَقُ مِنَ ٱلْعَلاَءِ. ٧٩ لِيُضِيءَ عَلَى ٱلْجَالِسِينَ فِي ٱلظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ ٱلْمَوْتِ، لِكَيْ يَهْدِيَ أَقْدَامَنَا فِي طَرِيقِ ٱلسَّلاَمِ».

عدد ٢٤: ١٧ وإشعياء ١١: ١ وزكريا ٣: ٨ و٦: ١٢ وملاخي ٤: ٢، إشعياء ٩: ٢ و٤٢: ٧ و٤٩: ٩ ومتّى ٤: ١٦ وأعمال ٢٦: ١٨

ذكر زكريا في العددين السابقين ما يتعلق بيوحنا على وجه الاختصار ثم عاد إلى موضوعه الأول وهو مجد إتيان المسيح وخلاصه.

بِأَحْشَاءِ رَحْمَةِ إِلٰهِنَا ذكر أولاً مصدر كل البركات المتوقعة على مجيء المخلص «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ» الخ (يوحنا ٣: ١٦).

ٱلْمُشْرَقُ المراد بهذا المشرق المسيح على سبيل المجاز. وقد تنبأ ملاخي عنه بقوله «تُشْرِقُ شَمْسُ ٱلْبِرِّ» (ملاخي ٤: ٢) واستعار له بطرس ويوحنا «كَوْكَبُ ٱلصُّبْحِ ٱلْمُنِيرُ» (٢بطرس ١: ١٩ ورؤيا ٢٢: ١٦). وأشار إليه زكريا بالشمس في أول طلوعها. فالمسيح لقلوب الناس بمنزلة الشمس للعالم الطبيعي. وغاية كل ذلك أن يسوع هو «نور العالم» (يوحنا ٨: ١٢).

ِمِنَ ٱلْعَلاَء أي من السماء التي منها يأتي المسيح لا كالشمس الطبيعية التي تظهر عند طلوعها كأنها تصعد من تحت الأفق.

ِلِيُضِيءَ عَلَى ٱلْجَالِسِينَ فِي ٱلظُّلْمَة (انظر شرح بشارة متّى ٤: ١٦).

لِكَيْ يَهْدِيَ أَقْدَامَنَا هذا مجاز بيانه أنه كما أن الجالسين في الظلمة لا يستطيعون أن ينقلوا أقدامهم في طريق مجهولة ما لم يطلع الصباح كذلك الخطأة الجاهلون لا يقدرون أن يسيروا إلى السماء ما لم يضيء لهم المشرق من العلاء أي المسيح. فبهِ يذهبون بأمان إلى موطن السعادة الأبدي.

فِي طَرِيقِ ٱلسَّلاَمِ عبّر بلفظة السلام عن كل بركة وسعادة.

٨٠ «أَمَّا ٱلصَّبِيُّ فَكَانَ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِٱلرُّوحِ، وَكَانَ فِي ٱلْبَرَارِي إِلَى يَوْمِ ظُهُورِهِ لإسْرَائِيلَ».

ص ٢: ٤٠، متّى ٣: ١ و١١: ٧

يَنْمُو أي نمواً جسدياً.

يَتَقَوَّى بِٱلرُّوحِ أي يزيد معرفة وشجاعة وسائر الأخلاق الحسنة. واقتصر لوقا في هذا العدد والعدد السادس والستين على خلاصة ما يتعلق بصبوة يوحنا وحداثته.

وَكَانَ فِي ٱلْبَرَارِي أي كان هنالك وقتاً معيناً. وغاية البشير بهذا أن يبيّن انفراد يوحنا عن الناس مدة. ولا ريب أن يوحنا صرف زمن صبوته في بيت والديه في جبال اليهودية قرب حبرون (التي هي مدينة الخليل). وأنه تعلّم منهما ما استطاع أن يعلمه أتقياء اليهود يومئذ من العهد القديم ونبوءاته عن نفسه وعن المسيح. وأنهما ماتا وهو صغير لأنهما كانا قد طعنا في السن عند ولادته. وأن يوحنا انتقل حينئذ إلى براري اليهودية غربي الأردن (متّى ٢: ١) حيث انفرد عن الناس لكي يدرس الأسفار الإلهية ويعاهد الله على الصلاة ويستعد لعمله المعيّن من الله. وكذا فعل موسى فإنه صرف مدة في البرية قبل أن بلغ درجة النبوة وتبليغ شريعة الله وإرشاد الإسرائيليين. وقرن يوحنا انفراده بالقشف والزهد كما يليق بالنذير وبخليفة إيليا في وظيفته. وأن يوحنا مع كونه لاوياً لم يظهر انه تعلّم من الكتبة أو أنه مارس شيئاً من خدمة اللاويين في الهيكل وذلك لأن يوحنا حسب وظيفة النبي أعظم من وظيفة اللاويين وهو الحق.

إِلَى يَوْمِ ظُهُورِهِ لإسْرَائِيلَ أي إلى حين ابتدائه الخدمة العلنية. وبداءة تلك الخدمة حسب شريعة موسى تكون عند بلوغ الخادم سن الثلاثين (عدد ٤: ٣ ولوقا ٣: ٢ و٢٣). وما ذُكر هنا يدل على أنه لم تقع المعرفة الشخصية بين يوحنا والمسيح إلى هذا الوقت لئلا يظن أحد أن شهادة يوحنا للمسيح نتيجة اتفاق سابق بينهما أو صداقة.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى