سفر القضاة | 19 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر القضاة
للقس . وليم مارش
اَلأَصْحَاحُ ٱلتَّاسِعُ عَشَرَ
محتويات هذا الأصحاح:
- ذهاب لاويّ من متغربي جبل أفرايم إلى بيت لحم ليأتي بسرّيته الخائنة ونزوله ضيفاً على أبيها (ع ١ – ٤).
- شروعه في السفر بعد ظهر اليوم الخامس من الضيافة ورجوعه وبلوغه مقابل يبوس أي أورشليم (ع ٥ – ٩).
- إباؤه أن ينزل في يبوس المدينة الوثنية وعبوره إلى جبعة حيث لم يأوه أحد (ع ١٠ – ١٥).
- دعوة شيخ أفرايمي له وإتيانه به إلى بيته (ع ١٦ – ٢١)
- شرّ رجال جبعة وإماتتهم سرّيته بقباحتهم (ع ٢٢ – ٢٨).
- توزيعه قِطع سرّيته على الأسباط ودعوته إياهم إلى الانتقام (ع ٢٩ و٣٠).
القباحة في جبعة ع ١ إلى ٣٠
١ «وَفِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ حِينَ لَمْ يَكُنْ مَلِكٌ فِي إِسْرَائِيلَ، كَانَ رَجُلٌ لاَوِيٌّ مُتَغَرِّباً فِي عِقَابِ جَبَلِ أَفْرَايِمَ، فَٱتَّخَذَ لَهُ ٱمْرَأَةً سُرِّيَّةً مِنْ بَيْتِ لَحْمِ يَهُوذَا».
ص ١٧: ٦ و١٨: ١ و٢١: ٢٥ ص ١٧: ٧
حِينَ لَمْ يَكُنْ مَلِكٌ فِي إِسْرَائِيلَ (انظر تفسير ص ١٧: ٦ و١٨: ١). المرجّح أن الحوادث التي سيأتي ذكرها حدثت بعد موت يشوع ولكن في زمن ليس بعيد عنه (انظر تفسير ص ١٧).
عِقَابِ جَبَلِ أَفْرَايِمَ وفي بعض الترجمات الأوربية «سفح جبل أفرايم» وفي حاشية الكتاب ذي الشواهد «أو أقفية» جبل أفرايم. والعقاب جمع عقبة وهي المرقى الصعب إلى الجبل أو الطريق في أعلاه. والمراد أن اللاوي كان نزيلاً في مكان يُعرف بعقاب جبل أفرايم أو في موضع ملتقى العقاب أو موضع يصعب المرتقى إليه.
سُرِّيَّةً كان التسرّي أو التسرّر كثيراً بين الإسرائيليين والعرب وهو غير محظور في الشريعة الموسوية. والسرّية هي الزوجة الأَمة أي هي زوجة لكنها بمنزلة الأَمة لا بمنزلة الحرّة.
بَيْتِ لَحْمِ يَهُوذَا هي قرية جنوبي أورشليم وعلى غاية ستة أميال منها ولا تزال تُعرف ببيت لحم وأضيفت إلى «يهوذا» تمييزاً لها عن بيت لحم «زبولون» (يشوع ١٩: ١٥).
٢ «فَزَنَتْ عَلَيْهِ سُرِّيَّتُهُ وَذَهَبَتْ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى بَيْتِ أَبِيهَا فِي بَيْتِ لَحْمِ يَهُوذَا، وَكَانَتْ هُنَاكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ».
وَكَانَتْ هُنَاكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أربعة أشهر بيان للأيام قبلها والمعنى أنها كانت هناك أياماً أي أربعة أشهر. وترجم بعضهم هذه العبارة بقوله «سنة وأربعة أشهر» بناء على أنه يُراد بالأيام سنة وإن العاطف محذوف. ويظهر من حاشية ذي الشواهد أن الأصل العبراني يحتمل هذا المعنى.
٣ «فَقَامَ رَجُلُهَا وَسَارَ وَرَاءَهَا لِيُطَيِّبَ قَلْبَهَا وَيَرُدَّهَا، وَمَعَهُ غُلاَمُهُ وَحِمَارَانِ. فَأَدْخَلَتْهُ بَيْتَ أَبِيهَا. فَلَمَّا رَآهُ أَبُو ٱلْفَتَاةِ فَرِحَ بِلِقَائِهِ».
تكوين ٣٤: ٣
ليُطَيِّبَ قَلْبَهَا الظاهر أنها لما خانته هربت إلى أهلها لئلا يقتلها على خيانتها له وكانت هناك حزينة على ما فعلت فذهب زوجها إليها ليذهب خوفها منه ويسرّي عن قلبها الهمّ فيسرّها ويشرح فؤادها.
مَعَهُ.. حِمَارَانِ واحد له والآخر لامرأته لتيقنه أنها ترجع معه.
فَأَدْخَلَتْهُ بَيْتَ أَبِيهَا على سبيل الضيافة ولا ريب في أنها كانت مسرورة برضاه عنها.
أَبُو ٱلْفَتَاةِ فَرِحَ بِلِقَائِهِ لأنه يستر عرض ابنته ويخلّصها من غمها ويعتني بها.
٤ «وَأَمْسَكَهُ حَمُوهُ فَمَكَثَ مَعَهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا وَبَاتُوا هُنَاكَ».
فَمَكَثَ مَعَهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ أمسكه للضيافة حسب العادة الشرقية التي يعدُّون عدم مراعاتها عاراً وكان مع ذلك راغباً في أن يصالح ابنته بزيادة إكرامه له فمكث عنده ثلاثة أيام وهي أيام الضيافة التي لا يُسأل فيها الضيف عن غرضه ولا يُظهر له فيها سوى الترحيب على ما هو مشهور بين خاصة الشرقيين وعامتهم. ولم يزل من الأقوال المشهورة بينهم «زمن الضيافة ثلاثة أيام». والرأي بعد ذلك لرب البيت إن شاء قبل الضيف وإن شاء صرفه بلطف ولا عار عليه ما لم يكن من أكابر القوم وأغنيائهم.
٥ «وَكَانَ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلرَّابِعِ أَنَّهُمْ بَكَّرُوا صَبَاحاً وَقَامَ لِلذَّهَابِ. فَقَالَ أَبُو ٱلْفَتَاةِ لِصِهْرِهِ: أَسْنِدْ قَلْبَكَ بِكِسْرَةِ خُبْزٍ، وَبَعْدُ تَذْهَبُونَ».
تكوين ١٨: ٥
بَكَّرُوا صَبَاحاً وَقَامَ لِلذَّهَابِ بكّر أهل البيت لعلمهم أن الضيف يسافر في اليوم الرابع على ما جرت العادة. وإنما يبكر المسافر لأن السفر صباحاً يخلصه من قسم كبير من الحر ما لم يكن الفصل شتاء والبرد قارساً.
أَسْنِدْ قَلْبَكَ بِكِسْرَةِ خُبْزٍ أي أدعمه لئلا يميل فيهبط. شبّه القلب عند الجوع بشيء يميل إلى الهبوط وشبّه تناول الطعام بالدعم أو الإسناد. والمعنى قوّ نفسك بالطعام قبل الذهاب لئلا تخور من الجوع على الطريق (انظر تكوين ١٨: ٥).
٦، ٧ «٦ فَجَلَسَا وَأَكَلاَ كِلاَهُمَا مَعاً وَشَرِبَا. وَقَالَ أَبُو ٱلْفَتَاةِ لِلرَّجُلِ: ٱرْتَضِ وَبِتْ، وَلْيَطِبْ قَلْبُكَ. ٧ وَلَمَّا قَامَ ٱلرَّجُلُ لِلذَّهَابِ أَلَحَّ عَلَيْهِ حَمُوهُ فَعَادَ وَبَاتَ هُنَاكَ».
وَلْيَطِبْ قَلْبُكَ أي لينبسط وينشرح أي وكن مسروراً.
٨ – ١٠ «٨ ثُمَّ بَكَّرَ فِي ٱلْغَدِ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلْخَامِسِ لِلذَّهَابِ. فَقَالَ أَبُو ٱلْفَتَاةِ: أَسْنِدْ قَلْبَكَ، وَتَوَانَوْا حَتَّى يَمِيلَ ٱلنَّهَارُ. وَأَكَلاَ كِلاَهُمَا. ٩ ثُمَّ قَامَ ٱلرَّجُلُ لِلذَّهَابِ هُوَ وَسُرِّيَّتُهُ وَغُلاَمُهُ، فَقَالَ لَهُ حَمُوهُ: إِنَّ ٱلنَّهَارَ قَدْ مَالَ إِلَى ٱلْغُرُوبِ. بِيتُوا ٱلآنَ. هُوَذَا آخِرُ ٱلنَّهَارِ. بِتْ هُنَا وَلْيَطِبْ قَلْبُكَ، وَغَداً تُبَكِّرُونَ فِي طَرِيقِكُمْ وَتَذْهَبُ إِلَى خَيْمَتِكَ. ١٠ فَلَمْ يُرِدِ ٱلرَّجُلُ أَنْ يَبِيتَ، بَلْ قَامَ وَذَهَبَ وَجَاءَ إِلَى مُقَابِلِ يَبُوسَ (هِيَ أُورُشَلِيمُ) وَمَعَهُ حِمَارَانِ مَشْدُودَانِ وَسُرِّيَّتُهُ مَعَهُ».
يشوع ١٨: ٢٨
في هذه الآية كان حمو اللاوي يلحّ على صهره أن يطيل الإقامة بمنزله ولكن اللاوي كان رقيق القلب ويكره التثقيل على حميه فلم يرد أن يزيد أيام الضيافة الثلاثة سوى يوم وبعض اليوم وحمل امرأته على أحد الحمارين وذهب بها إلى خيمته. والظاهر أنه كان ضارباً خيمته على ملتقى العقاب في الجبل أو ساكناً بيتاً هنالك لأن البيوت كانت في الأصل خياماً ولا تزال بيوت عرب البادية كذلك وبقي كثير منها بين الإسرائيليين كذلك مدة طويلة. وظلوا يعبّرون عن المساكن بالخيام بعد أن بنوا البيوت من الحجارة (انظر ١ملوك ١٢: ١٦). ومعنى قوله «مال النهار إلى الغروب» إن الشمس مالت الخ فأسند الفعل إلى الزمان مجازاً.
١١ «وَفِيمَا هُمْ عِنْدَ يَبُوسَ وَٱلنَّهَارُ قَدِ ٱنْحَدَرَ جِدّاً، قَالَ ٱلْغُلاَمُ لِسَيِّدِهِ: تَعَالَ نَمِيلُ إِلَى مَدِينَةِ ٱلْيَبُوسِيِّينَ هٰذِهِ وَنَبِيتُ فِيهَا».
يشوع ١٥: ٨ و٦٣ وص ١: ٢١ و٢صموئيل ٥: ٦
يَبُوسَ اسم أورشليم الكنعاني. ومعنى هذا الاسم يدل على أنها بُنيت على موضع كانت فيه البيادر لأن معنى يبوس بيدر أو أرض مدوسة على أنه كانت أمة تُعرف باليبوسيين فهي إما نسبة إلى هذه المدينة لأنها كانت عاصمتهم أو نُسبت إلى رجل اسمه يبوس وتسمى أيضاً باليبوسي (انظر يشوع ١٥: ٨).
وَٱلنَّهَارُ قَدِ ٱنْحَدَرَ أي والشمس قد انحدرت إلى أفق المغرب فالإسناد إلى النهار مجازي لأنه زمان ظهور الشمس كما ذُكر. نعم إن بيت لحم لا تبعد سوى مسير ساعتين عن أورشليم لكن اللاوي خرج منها بعد الظهر.
قَالَ ٱلْغُلاَمُ لِسَيِّدِهِ لا يلزم من هذا أن الغلام عبدُ فيحتمل أنه خادم بالأجرة فدعوة اللاوي بالسيد دعوة اعتبار واحترام فإن الغلام يُستعار للعبد والأجير ويكون غير عبد وغير أجير لأنه يدل بالوضع على من نبت شاربه أو على الإنسان من حين يولد إلى أن يشبّ وهو الكثير وقد يُطلق على الكهل وهو قليل جداً.
١٢ «فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: لاَ نَمِيلُ إِلَى مَدِينَةٍ غَرِيبَةٍ حَيْثُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُنَا. نَعْبُرُ إِلَى جِبْعَةَ».
يشوع ١٨: ٢٨
جِبْعَةَ هي جبعة شاول المكان الذي سكن فيه أول ملوك إسرائيل (١صموئيل ١٠: ٢٦) وكانت من مدن بنيامين الأربع عشرة (يشوع ١٨: ٢٨). واسمها اليوم تُليَل الفول وهي على غاية أربعة أو خمسة أميال من يبوس أو أورشليم وهي جبعة بنيامين كما سيأتي في تفسير (ع ١٣).
١٣ «وَقَالَ لِغُلاَمِهِ: تَعَالَ نَتَقَدَّمُ إِلَى أَحَدِ ٱلأَمَاكِنِ وَنَبِيتُ فِي جِبْعَةَ أَوْ فِي ٱلرَّامَةِ».
يشوع ١٨: ٢٥
أَوْ فِي ٱلرَّامَةِ وهي قرية على هضبة في نصيب بنيامين شمالي جبعة وعلى غاية نحو ميلين منها وشمالي أورشليم تُذكر جبعة والرامة معاً (هوشع ٥: ٨). وكان اللاوي يسرع على قدر الطاقة ليمكنه أن يبيت في الرامة. ولعل العلة أنه كان يعلم أن أهل جبعة يكرهون الصلاح فودّ أن يجاوزها إلى الرامة. فإنه لم يكن هنالك فنادق يومئذٍ. فكان المسافرون يصفون أحوال كل قرية يمرون بها فعرف الناس كثيراً من أحوال أهل القرى في ذلك العصر.
١٤ «فَعَبَرُوا وَذَهَبُوا. وَغَابَتْ لَهُمُ ٱلشَّمْسُ عِنْدَ جِبْعَةَ ٱلَّتِي لِبِنْيَامِينَ».
وَغَابَتْ لَهُمُ ٱلشَّمْسُ عِنْدَ جِبْعَةَ ٱلَّتِي لِبِنْيَامِينَ وهي جبعة شاول (ع ١٢). وقوله «التي لبنيامين» قيد مميز لها عن غيرها من المسميات بجبعة. فإن الكتاب ذكر عدة أماكن بهذا الاسم (انظر قاموس الكتاب).
١٥ «فَمَالُوا إِلَى هُنَاكَ لِيَدْخُلُوا وَيَبِيتُوا فِي جِبْعَةَ. فَدَخَلَ وَجَلَسَ فِي سَاحَةِ ٱلْمَدِينَةِ وَلَمْ يَضُمَّهُمْ أَحَدٌ إِلَى بَيْتِهِ لِلْمَبِيتِ».
متّى ٢٥: ٤٣ وعبرانيين ١٣: ٢٠
جَلَسَ فِي سَاحَةِ ٱلْمَدِينَةِ الساحة فضاء بين البيوت لا بناء فيه ولا سقف. كان المسافرون فيها ينتظرون من يدعوهم من أهل القرية للمبيت في منزله وربما كانت عند مدخل القرية أو المدينة. وهذه العادة قديمة جداً (انظر تكوين ١٩: ١ و٢ و٢أيام ٣١: ٣٢).
وَلَمْ يَضُمَّهُمْ أَحَدٌ إِلَى بَيْتِهِ لِلْمَبِيتِ أي ولم يأو أحد من أهل جبعة اللاوي وسرّيته وغلامه فاستعار الضم وهو الجمع للإواء لأن غير المأوي يبقى منفرداً عن أهل المكان الذي نزله فإواهُ بمنزلة الجمع. وهذا مخالف لما هو من أحسن أنواع المروءة والإنسانية عند أهل المشرق فدل بذلك على أن الجبعيين كانوا يومئذ من أسافل الناس وإنهم بلا مروءة ولا شرف نفس. وقد قال المسيح ما دلّ على أن عدم إواء الغريب من النقائص والآثام (متّى ٢٥: ٤٣). وقد نهى عن ذلك كاتب الرسالة إلى العبرانيين (عبرانين ١٣: ٢). فإواء الغريب الذي لا يجد مأوى لا يزال من الواجبات المسيحية كما كان من الواجبات الموسوية ومن الأمور التي أوجبتها الإنسانية والحكمة الأدبية. وما أفظع العار على مدينة أو قرية لا مأوى فيها للغريب فيترك عرضة للبرد والجوع واللصوص.
١٦ «وَإِذَا بِرَجُلٍ شَيْخٍ جَاءَ مِنْ شُغْلِهِ مِنَ ٱلْحَقْلِ عِنْدَ ٱلْمَسَاءِ. وَٱلرَّجُلُ مِنْ جَبَلِ أَفْرَايِمَ، وَهُوَ غَرِيبٌ فِي جِبْعَةَ، وَرِجَالُ ٱلْمَكَانِ بِنْيَامِينِيُّونَ».
مزمور ١٠٤: ٢٣
وَإِذَا بِرَجُلٍ شَيْخٍ جَاءَ مِنْ شُغْلِهِ مِنَ ٱلْحَقْلِ عِنْدَ ٱلْمَسَاءِ لا ريب في أن هذا الرجل كان من الفقراء في تلك القرية والدليل على ذلك ما يقاسيه من تعب العمل في الحقل من الصباح إلى المساء وهو شيخ أي متقدم في السن ضعيف. ولو كان غنياً لاستراح من ذلك العناء ووصفه الكاتب ليبين عدم مروءة الذين لم يأووا اللاوي ومن معه من الأغنياء والأقوياء على الأعمال أكمل تبيين.
وَهُوَ غَرِيبٌ فِي جِبْعَةَ فأتى ما لم يأتيه الوطنيون من إضافة الغرباء وهذا خزي آخر على أهل جبعة يومئذ وما أحسن قول أمرء القيس هنا:
أجارتنا إنّا غريبان ها هنا | وكلُّ غريبٍ للغريبِ نسيبُ |
فإنه دعاه إلى بيته قبل أن يعرف أن اللاوي من جبل أفرايم الذي هو وطنه الأصلي لأن مجرد السؤال كان مقدمة الدعوة على ما عرف من العادة.
وَرِجَالُ ٱلْمَكَانِ بِنْيَامِينِيُّونَ من نسل بنيامين محبوب إسرائيل ويوسف وقد صاروا مكروهين فشرف الأصل لا يغني شيئاً دون شرف العمل.
لا تقل أصلي وفصلي أبداً | إنما أصل الفتى ما قد حصل |
قد يسود المرء من غير أبٍ | وبحسن السبك قد ينفى الزّغل |
وكذا الورد من الشوك وما | يطلع النرجس إلا من بصل |
١٧ «فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ وَرَأَى ٱلرَّجُلَ ٱلْمُسَافِرَ فِي سَاحَةِ ٱلْمَدِينَةِ، فَسَأَلَهُ ٱلشَّيْخُ: إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ، وَمِنْ أَيْنَ أَتَيْتَ؟».
إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ، وَمِنْ أَيْنَ أَتَيْتَ هذا السؤال كان مقدمة الدعوة ولا يزال كذلك إلى هذا اليوم ولو لم يرد أن يدعوه لم يسأله ولعل ذلك كان إيناساً للغريب وبيان لأن السائل يريد أن يعرف أمره ليساعده. ومن الطبع أن الذي يهمه أمر إنسان يراه غريباً لا بد من أن يسأله عن حاله ليعرف حاجته.
١٨ «فَقَالَ لَهُ: نَحْنُ عَابِرُونَ مِنْ بَيْتِ لَحْمِ يَهُوذَا إِلَى عِقَابِ جَبَلِ أَفْرَايِمَ. أَنَا مِنْ هُنَاكَ، وَقَدْ ذَهَبْتُ إِلَى بَيْتِ لَحْمِ يَهُوذَا، وَأَنَا ذَاهِبٌ إِلَى بَيْتِ ٱلرَّبِّ وَلَيْسَ أَحَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى ٱلْبَيْتِ».
يشوع ١٨: ٢ وص ١٨: ٣١ و٢٠: ١٨ و١صموئيل ١: ٣ و٧ ع ١٥
عِقَابِ جَبَلِ أَفْرَايِمَ (انظر تفسير ع ١).
وَأَنَا ذَاهِبٌ إِلَى بَيْتِ ٱلرَّبِّ أي إلى شيلوه حيث قبة الشهادة وتابوت العهد وهو تابوت الرب على أن القبة كلها كانت تسمى بيت الرب لأنها موضع عبادته الجمهورية وتقديم الذبائح والقرابين والظاهر أن اللاوي كان من خدمة ذلك البيت وفي هذا البيان خزيٌ آخر للبنيامينيين لأنهم فوق أنهم لم يضيفوا الغريب لم يلتفتوا إلى إكرام كاهن الرب أو أحد خدَم بيته. فإن قيل إن المعلوم من الفصة إن اللاوي كان راجعاً إلى مسكنه في عقاب جبل أفرايم فكيف يكون ذاهباً إلى شيلوه. قلنا أن شيلون قرب مسكنه المذكور لأنها كانت في جبل أفرايم قرب تلك العقاب (انظر ص ٢١: ١٩) فلا منافاة بين القولين. وقال بعضهم أن معنى قوله أنه خادم بيت الرب وهو ذاهب إليه وإن كان ذاهباً أولاً إلى بيته.
١٩ «وَأَيْضاً عِنْدَنَا تِبْنٌ وَعَلَفٌ لِحَمِيرِنَا، وَأَيْضاً خُبْزٌ وَخَمْرٌ لِي وَلأَمَتِكَ وَلِلْغُلاَمِ ٱلَّذِي مَعَ عَبِيدِكَ. لَيْسَ ٱحْتِيَاجٌ إِلَى شَيْءٍ».
وَأَيْضاً عِنْدَنَا تِبْنٌ وَعَلَفٌ لِحَمِيرِنَا الخ تقدّم أن كان معه حماران (ع ٣) وهنا تبيّن أن معه حميراً ولعل الكاتب لم يقصد التدقيق في الألفاظ لما قال حمير. ومن المحتمل أيضاً أنه كان للاوي حماران للركوب وحمار آخر ليحمل الزاد. وهذا البيان خزيٌ آخر للبنيامينيين فإنه ما كان محتاجاً إلا إلى المبيت فلا يكلفهم علف حميره ولا طعامه وطعام من معه كما كانت تقتضي الضيافة في تلك الأيام. ولا يزال كثيرون في هذه البلاد يفعلون كذلك. فقد صدق المثل العاميّ على الجبعيين «يكرهون الضيف وزاده معه». وقوله «لأَمتك» عن امرأته من آداب الشرقيين يومئذ ولا يزال قليلون يقولون ذلك اليوم (تكوين ١٨: ٣).
لَيْسَ ٱحْتِيَاجٌ إِلَى شَيْءٍ سوى المأوى.
٢٠ «فَقَالَ ٱلشَّيْخُ: ٱلسَّلاَمُ لَكَ. إِنَّمَا كُلُّ ٱحْتِيَاجِكَ عَلَيَّ، وَلٰكِنْ لاَ تَبِتْ فِي ٱلسَّاحَةِ».
تكوين ٤٣: ٢٣ وص ٦: ٢٣ تكوين ١٩: ٢
ٱلسَّلاَمُ لَكَ هذا ليس تحية هنا بل خبراً أراد به أنه لا يهتم بشيء وإنه هو يقوم بكل ما يحتاج إليه من طعام وشراب وعَلَف. فانظر إلى كَرَم هذا الشيخ الفلاح المسكين ومروءته وتعجّب من بخل البنيامينيين ولؤمهم.
وَلٰكِنْ لاَ تَبِتْ فِي ٱلسَّاحَةِ جاء بهذا الاستدراك دفعاً لتوهم أنه يقوم بذلك دون أن يدعوهم إلى بيته. وكان تركهم يبيتون في الساحة عاراً على أهل القرية فأراد الشيخ أن يمنع وقوع هذا العار ولعله أشار إلى ما كان عليهم من الخطر من أهل القرية الأشرار إذا باتوا في الساحة. والمبيت في الساحة يفضله على المبيت في البيت من اعتادوه كأهل البادية. فقد شوهد القوافل ينامون تحت السماء في ليالي الصيف خارج القرية التي يدركهم الليل عندها ما لم يدعُ أهلها المسافرين أو بعضهم إلى المبيت في مساكنهم.
٢١ «وَجَاءَ بِهِ إِلَى بَيْتِهِ، وَعَلَفَ حَمِيرَهُمْ، فَغَسَلُوا أَرْجُلَهُمْ وَأَكَلُوا وَشَرِبُوا».
تكوين ٢٤: ٣٢ تكوين ١٨: ٤ ويوحنا ١٣: ٥
وَعَلَفَ حَمِيرَهُمْ اعتنى بالحمير أولاً ليكمل هذه الخدمة الضرورية قبل إقبال الليل ووقت العشاء والراحة ولأنها إذا أخرت العناية بها تضر فلا تستطيع أن تحملهم في ما بقي من السفر.
فَغَسَلُوا أَرْجُلَهُمْ كان ذلك من أحسن مريحات المسافر في البلاد الحارة فإنهم كانوا يحتذون النعال وهي جلود تقي بطون الأقدام وتُربط إلى ظهورها بسيور فتصيبها الشمس ويعلوها الغبار. وهي من أقدم العادات في الشرق (تكوين ١٨: ٤).
٢٢ – ٢٥ «٢٢ وَفِيمَا هُمْ يُطَيِّبُونَ قُلُوبَهُمْ إِذَا بِرِجَالِ ٱلْمَدِينَةِ، رِجَالِ بَنِي بَلِيَّعَالَ، أَحَاطُوا بِٱلْبَيْتِ قَارِعِينَ ٱلْبَابَ وَقَالُوا لِصَاحِبِ ٱلْبَيْتِ ٱلشَّيْخَ: أَخْرِجِ ٱلرَّجُلَ ٱلَّذِي دَخَلَ بَيْتَكَ فَنَعْرِفَهُ. ٢٣ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ صَاحِبُ ٱلْبَيْتِ وَقَالَ: لاَ يَا إِخْوَتِي. لاَ تَفْعَلُوا شَرّاً. بَعْدَمَا دَخَلَ هٰذَا ٱلرَّجُلُ بَيْتِي لاَ تَفْعَلُوا هٰذِهِ ٱلْقَبَاحَةَ. ٢٤ هُوَذَا ٱبْنَتِي ٱلْعَذْرَاءُ وَسُرِّيَّتُهُ. دَعُونِي أُخْرِجْهُمَا، فَأَذِلُّوهُمَا وَٱفْعَلُوا بِهِمَا مَا يَحْسُنُ فِي أَعْيُنِكُمْ. وَأَمَّا هٰذَا ٱلرَّجُلُ فَلاَ تَعْمَلُوا بِهِ هٰذَا ٱلأَمْرَ ٱلْقَبِيحَ. ٢٥ فَلَمْ يُرِدِ ٱلرِّجَالُ أَنْ يَسْمَعُوا لَهُ. فَأَمْسَكَ ٱلرَّجُلُ سُرِّيَّتَهُ وَأَخْرَجَهَا إِلَيْهِمْ خَارِجاً، فَعَرَفُوهَا وَتَعَلَّلُوا بِهَا ٱللَّيْلَ كُلَّهُ إِلَى ٱلصَّبَاحِ. وَعِنْدَ طُلُوعِ ٱلْفَجْرِ أَطْلَقُوهَا».
تكوين ١٩: ٤ وص ٢٠: ٥ وهوشع ٩: ٩ و١٠: ٩ تثنية ١٣: ١٣ تكوين ١٩: ٥ ورومية ١: ٢٦ و٢٧ تكوين ١٩: ٦ و٧ و٢صموئيل ١٣: ١٢ تكوين ١٩: ٨ تكوين ٣٤: ٢ وتنثية ٢١: ١٤ تكوين ٤: ١
بَنِي بَلِيَّعَالَ معنى بليعال «بلا نفع» فيراد ببني بليعال البطالون والعياّرون والأشرار والخبثاء. وكان كتبة الأسفار المقدسة يكنون ببني بليعال كل المذمومين الذين لا يخافون الله وهو نكرة لا عَلَم في الحقيقة لكنه جرى مجرى الإعلام حتى ظنّ بعضهم أنه من أسماء الشيطان.
أَحَاطُوا بِٱلْبَيْتِ الخ قصة اللاوي والشيخ هنا تشبه قصة الملاكين ولوط كثيراً (انظر تكوين ١٩: ٥ – ١٢). وهذا غاية الخزي وأفظع الآثام على البنيامينيين فلم يبق للعقل أن يتصور ما وراء ذلك من الشرور. ولم يُذكر هنا حكومة أو نظام في المدينة.
فَأَمْسَكَ ٱلرَّجُلُ سُرِّيَّتَهُ الرجل هو اللاوي أو الشيخ برضى اللاوي وكان عملهما دنيئاً وقبيحاً يدل على انحطاط جنس النساء في الزمان المذكور. والفساد الأدبي والديني يؤثر في النساء وإن كان أكثر اللوم على الرجال.
٢٦ «فَجَاءَتِ ٱلْمَرْأَةُ عِنْدَ إِقْبَالِ ٱلصَّبَاحِ وَسَقَطَتْ عِنْدَ بَابِ بَيْتِ ٱلرَّجُلِ حَيْثُ سَيِّدُهَا هُنَاكَ إِلَى ٱلضَّوْءِ».
وَسَقَطَتْ الخ هذا عقاب على إثمها وخيانتها لرجلها فلا إثم بلا عقاب.
٢٧ «فَقَامَ سَيِّدُهَا فِي ٱلصَّبَاحِ وَفَتَحَ أَبْوَابَ ٱلْبَيْتِ وَخَرَجَ لِلذَّهَابِ فِي طَرِيقِهِ، وَإِذَا بِسُرِّيَّتِهِ سَاقِطَةٌ عَلَى بَابِ ٱلْبَيْتِ، وَيَدَاهَا عَلَى ٱلْعَتَبَةِ».
خَرَجَ لِلذَّهَابِ لأنه كان قد يئس من عَود امرأته إليه.
وَيَدَاهَا عَلَى ٱلْعَتَبَةِ كأنها مدتهما للاستغاثة برجلها عند النفس الأخير.
٢٨ «فَقَالَ لَهَا: قُومِي نَذْهَبْ. فَلَمْ يَكُنْ مُجِيبٌ. فَأَخَذَهَا عَلَى ٱلْحِمَارِ وَذَهَبَ إِلَى مَكَانِهِ».
ص ٢٠: ٥
فَقَالَ لَهَا: قُومِي نَذْهَبْ ما أقسى قلب هذا الرجل فإنه كان سلّم امرأته للأوباش فتعللوا بها الليل كله وهو نائم مستريح في البيت ثم قام صباحاً للسفر ولما وجدها ساقطة على باب البيت قال قومي نذهب كأنه لم يحدث شيء.
فَلَمْ يَكُنْ مُجِيبٌ أي إنها كانت قد ماتت ولهذا زيد في الترجمة السبعينية «لأنها كانت ميتة».
فَأَخَذَهَا عَلَى ٱلْحِمَارِ الذي حملها وهي حيّة.
وَذَهَبَ أي شرع في الذهاب أو قام في طريقه.
٢٩ «وَدَخَلَ بَيْتَهُ وَأَخَذَ ٱلسِّكِّينَ وَأَمْسَكَ سُرِّيَّتَهُ وَقَطَّعَهَا مَعَ عِظَامِهَا إِلَى ٱثْنَتَيْ عَشَرَةَ قِطْعَةً، وَأَرْسَلَهَا إِلَى جَمِيعِ تُخُومِ إِسْرَائِيلَ».
ص ٢٠: ٦ و١صموئيل ١١: ٧
وَقَطَّعَهَا مَعَ عِظَامِهَا أي قطعها قطعاً كل قطعة مع عظمٍ. وهذا عمل وحشي حملته عليه شدة غيظه ليشدد هيجان إسرائيل على أهل جبعة (انظر ١صموئيل ١١: ٧).
إِلَى ٱثْنَتَيْ عَشَرَةَ قِطْعَةً على عدد الأسباط لتكون لكل سبط قطعة كأنها تطالبهم بأخذ الثأر وتشكو لهم فظاعة قاتليها ولا ريب في أن إحدى تلك القطع أُرسلت إلى سبط بنيامين الذي كان الجبعونيون بنو بليعال منهم.
٣٠ «وَكُلُّ مَنْ رَأَى قَالَ: لَمْ يَكُنْ وَلَمْ يُرَ مِثْلُ هٰذَا مِنْ يَوْمِ صُعُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ. تَبَصَّرُوا فِيهِ وَتَشَاوَرُوا وَتَكَلَّمُوا».
ص ٢٠: ٧ وأمثال ١٣: ١٠
وَكُلُّ مَنْ رَأَى أي علم القصة ونظر شيئاً من قطع المرأة.
لَمْ يَكُنْ أي لم يحدث.
وَلَمْ يُرَ أي يُعلم أو يُشاهد.
مِثْلُ هٰذَا الحادث الفظيع.
تَبَصَّرُوا فِيهِ وَتَشَاوَرُوا وَتَكَلَّمُوا أي ذلك أمر يستحق أن يُهتم به ويُنتقم من الأشرار الذين ارتكبوا ذلك الإثم العظيم والظلم الذي لم يسبق له من نظير منذ خروج إسرائيل من مصر إلى هذا اليوم. أثار اللاوي كل بني إسرائيل بما فعله. والغيظ الشديد من عموم بني إسرائيل على الذين فعلوا هذا الأمر مما يدل على وجود ضمير حي وقلّة وقوع مثل هذه الفواحش.
فوائد
- أنباء الأشرار عِبر للأخيار (ع ١ – ٣٠).
- تأخير الواجبات يؤدي إلى المهلكات (ع ٤ – ١٠ و١١ – ٢٤).
- إن الإضافة الحقيقية تطلب ما يوافق الضيف فيجب قبوله وخدمته وتسهيل طريقه متى حان وقت السفر.
- إن اتحاد الأشرار يزيد شرورهم كما يزيد اتحاد الصالحين صلاحهم.
- إنه قد يكون صالح بين الطالحين.
- إن الغريب للغريب نسيب.
- المختبر الضيقات يؤاسي المتضايقين.
- لا تستخف بشيخ مسكين فربما يستطيع ما لا يستطيعه أهل الثراء.
- المكان الخالي من المحبة الطاهرة غاصٌ بالشهوة النجسة فاهرب منه.
- إن المرأة الخائنة لزوجها تُعاقب عقاباً شديدا.
- إن الغيظ في وقته من الواجبات (ع ٣٠).
-
القلب أخدع من كل شيء وهو نجس من يعرفه فعلينا أن نعرف قلوبنا بما أُعلن لنا في الكتاب ونقرّ بأننا لولا نعمة الله لكنّا كأهل جبعة ونسعى في انتشار إنجيل المسيح في العالم لأن فيه وحده الخلاص والصلاح.
السابق |
التالي |