سفر القضاة

سفر القضاة | 16 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر القضاة

للقس . وليم مارش

اَلأَصْحَاحُ ٱلسَّادِسُ عَشَرَ

محتويات هذا الأصحاح:

  1. ذهاب شمشون إلى غزة وهربه منها (ع ١ – ٣).
  2. رشوة أقطاب الفلسطينيين لدليلة للتمكن من إذلاله (ع ٤ و٥).
  3. خداع شمشون إيّاها ثلاثاً (ع ٦ – ١٤).
  4. إعلان شمشون لدليلة سرّ قوّته وأخذ الفلسطينيين إياه وقلعهم عينيه وطحنهم عليه (ع ١٥ – ٢١).
  5. انتقامه الأخير وموته ودفنه (ع ٢٢ – ٣١).

عمل شمشون الغريب في غزّة ع ١ إلى ٣

١ «ثُمَّ ذَهَبَ شَمْشُونُ إِلَى غَزَّةَ وَرَأَى هُنَاكَ ٱمْرَأَةً زَانِيَةً فَدَخَلَ إِلَيْهَا».

غَزَّةَ هي مدينة عامرة لم تزل إلى هذا اليوم تُعرف بهذا الاسم ولكنها فقدت كبرها وعظمتها القديمة. وهي على مقربة من شاطئ بحر الروم فلا تبعد عنه إلا نحو ثلاثة أميال. وهي جنوبي أشقلون أي عسقلان وعلى غاية عشرة أميال منها. وكانت المدينة الأولى بين مدن الفلسطينيين الخمس. وهي من أقدم مدن الدنيا (تكوين ١٠: ١٩). ذُكرت في العهد القديم مراراً ولم تُذكر في العهد الجديد سوى مرة واحدة (أعمال ٨: ٢٦) وهي مشهورة اليوم بزيتونها.

وقصة ذهاب شمشون إلى هذه المدينة مختصرة كثيراً فلم يُذكر فيها غايته من ذهابه إليها ولا طريق ذلك الذهاب. وكيف ذهب إلى أولى مدن الفلسطينيين بعد ما صار بينه وبينهم من العداء الشديد وقتله الكثيرين منهم. ذلك لم يُعلم من القصة والمرجّح أنه كان متكلاً على قوته وزيادة شجاعته وبطشه بهم حتى صار لا يعبأ بهم.

رَأَى هُنَاكَ ٱمْرَأَةً زَانِيَةً فَدَخَلَ إِلَيْهَا إن أميال شمشون الجسدية أوصلته إلى أعظم الأخطار وأوردته أخيراً موارد الحتف. قال أمبروسيوس «إن شمشون القادر الشجاع غلب الأسد ولكنه لم يستطع أن يغلب هواه. وقطع وُثُق أعدائه لكنه عجز عن قطع حبال شهوته. وأحرق أكداس الظالمين الكثيرين ولكن أحرقه لهيب اللذّة المحظورة التي أوقدتها فيه امرأة واحدة». وقال الأسقف هُول «لم يكن أحد من كل منقذي إسرائيل قوياً كشمشون وما كان أحد منهم ضعيفاً مثله».

٢ «فَقِيلَ لِلْغَزِّيِّينَ: قَدْ أَتَى شَمْشُونُ إِلَى هُنَا. فَأَحَاطُوا بِهِ وَكَمَنُوا لَهُ ٱللَّيْلَ كُلَّهُ عِنْدَ بَابِ ٱلْمَدِينَةِ. فَهَدَأُوا ٱللَّيْلَ كُلَّهُ قَائِلِينَ: عِنْدَ ضَوْءِ ٱلصَّبَاحِ نَقْتُلُهُ».

١صموئيل ٢٣: ٢٦ ومزمور ١١٨: ١ و١١ و١٢ وأعمال ٩: ٢٤

فَقِيلَ لِلْغَزِّيِّينَ لا نعلم من قال لهم والذي يرجّح من النصّ أن بعض الفلسطينيين من غير أهل غزة رآه يدخل غزة فأخبر أهلها بدخوله.

فَأَحَاطُوا بِهِ أي أحاطوا بالمدينة لكي لا يستطيع أن يخرج منها دون أن يروه فبذلك أحاطوا به.

وَكَمَنُوا لَهُ ٱللَّيْلَ كُلَّهُ عِنْدَ بَابِ ٱلْمَدِينَةِ فَهَدَأُوا ٱللَّيْلَ كُلَّهُ أي كانوا الليل كله سكوتاً لئلا يشعر بهم فيتوارى عنهم. وقوله «عند باب المدينة» يدل ظاهره إنه لم يكن للمدينة سوى باب واحد ولكن قوله قبلاً «فأحاطوا به» يدل على أنهم كمنوا له في كل جهة من جهات المدينة فيكون المراد بذلك أنهم كمنوا له عند كل باب ومخرج من أبواب المدينة وخارجها. وخصّ بالذكر ذلك الباب لأن المخبرين رأوه دخل المدينة منه.

عِنْدَ ضَوْءِ ٱلصَّبَاحِ نَقْتُلُهُ أي عند الفجر نراه خارجاً فنقتله.

٣ «فَٱضْطَجَعَ شَمْشُونُ إِلَى نِصْفِ ٱللَّيْلِ، ثُمَّ قَامَ فِي نِصْفِ ٱللَّيْلِ وَأَخَذَ مِصْرَاعَيْ بَابِ ٱلْمَدِينَةِ وَٱلْقَائِمَتَيْنِ وَقَلَعَهُمَا مَعَ ٱلْعَارِضَةِ، وَوَضَعَهَا عَلَى كَتِفَيْهِ وَصَعِدَ بِهَا إِلَى رَأْسِ ٱلْجَبَلِ ٱلَّذِي مُقَابِلَ حَبْرُونَ».

قَامَ فِي نِصْفِ ٱللَّيْلِ على خلاف ما انتظروا. وقصد الباب الذي كمنوا له عنده ولا ريب في أنه كان موصداً وهم داخله.

وَأَخَذَ مِصْرَاعَيْ بَابِ ٱلْمَدِينَةِ أي قلعهما وهم لم يشعروا به لأنهم كانوا نياماً أو قتلهم جميعاً وأخذ المصراعين. فالكاتب لم يفصّل النبأ بغية الاختصار.

ٱلْعَارِضَةِ الخشبة العليا التي يدور فيها الباب. وهذا يدلك على ما كان لشمشون من القوة العجبية. فإن أبواب المدينة كبيرة جداً وكثيراً ما تكون مغشاة بالحديد.

وَوَضَعَهَا عَلَى كَتِفَيْهِ وَصَعِدَ بِهَا إِلَى رَأْسِ ٱلْجَبَلِ هذا زيادة بيان لوفرة قدرته فإن الإنسان يتعب بمجرد حمله جسمه إلى رأس الجبل.

ٱلَّذِي مُقَابِلَ حَبْرُونَ حبرون مدينة تُعرف اليوم بالخليل وهي على غاية أربعين ميلاً من غزة. وليس المعنى أنه حمل ذلك وقطع به تلك الأميال إلى حبرون بل إلى جبل يقابل حبرون وتُرى جبالها منه ويُرى من جبالها وهو ما يُعرف اليوم بالمنطَر على ما يعتقده الناس تقليداً.

كَلَف شمشون بدليلة وخيانتها إياه ع ٤ إلى ٢٢

٤ «وَكَانَ بَعْدَ ذٰلِكَ أَنَّهُ أَحَبَّ ٱمْرَأَةً فِي وَادِي سَوْرَقَ ٱسْمُهَا دَلِيلَةُ».

وَكَانَ بَعْدَ ذٰلِكَ أَنَّهُ أَحَبَّ ٱمْرَأَةً المرجّح أنها كانت خليلة شمشون لا حليلة وإنها كانت زانية فلسطينية.

فِي وَادِي سَوْرَقَ قال كندر بعد البحث والتحقيق أنه الوادي المعروف اليوم بوادي سرار وهو قرب بيت شمس وصرعة. ولعل سورق مدينة أو قرية أُضيف إليها لقربه منها فإنه على عدوة ذلك الوادي الشمالية أطلال بلدة يسمونها اليوم سورك أو سورق. وكان ذلك الموضع مشهوراً بالكروم (تكوين ٤٩: ١١ وإشعياء ٥: ٢ وإرميا ٢: ٢١) واسمه يدل على ذلك فإن معنى سورق «كرم مختار».

ٱسْمُهَا دَلِيلَةُ ومعناه معشوقة وقال بعضهم إن معنى دليلة خائنة. وقال غيرهم أن معناه مضعفة والمعاني الثلاث تناسب صفاتها. ولربما كان لها اسم في صغرها غير دليلة ولما كبرت وبلغت أشدها كثر عشاقها فسميت دليلة.

٥ «فَصَعِدَ إِلَيْهَا أَقْطَابُ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ وَقَالُوا لَهَا: تَمَلَّقِيهِ وَٱنْظُرِي بِمَاذَا قُوَّتُهُ ٱلْعَظِيمَةُ، وَبِمَاذَا نَتَمَكَّنُ مِنْهُ لِنُوثِقَهُ لإِذْلاَلِهِ، فَنُعْطِيَكِ كُلُّ وَاحِدٍ أَلْفاً وَمِئَةَ شَاقِلِ فِضَّةٍ».

يشوع ١٣: ٣ وص ٣: ٣ ص ١٤: ١٥ وأمثال ٢: ١٦ إلى ١٩ و٥: ٣ إلى ١١ و٦: ٢٤ و٢٥ و٢٦ و٧: ٢١ و٢٢ و٢٣ ص ١٧: ٢

فَصَعِدَ إِلَيْهَا أَقْطَابُ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ هم أمراء مدنهم الخمس جتّ وأشدود وغزة وأشقلون وعقرون (انظر تفسير ع ٢٣ وص ٣: ٣ ويشوع ١٣: ٣). وهذا يحمل على القول بأن دليلة فلسطينية. ولعل تأثيرها في نفس شمشون كان أعظم من تأثير امرأته التمنيّة فيها (ص ١٤: ١٥). وما ذلك إلا لأنه ترك سبيل الاستقامة (أمثال ٢: ١٦ – ١٩).

تَمَلَّقِيهِ أي تودّدي إليه وتلطفي له وليّني كلامك وتذلّلي. والتملّق إظهار الإنسان بلسانه وحركاته ما ليس في قلبه من التودُّد.

وَٱنْظُرِي بِمَاذَا قُوَّتُهُ ٱلْعَظِيمَةُ كان أولئك الأقطاب لجهلهم يعتقدون أن قوة شمشون وبطشه وشجاعته الغريبة نتيجة كتابة سحرية يمكن تعريته منها.

فَنُعْطِيَكِ كُلُّ وَاحِدٍ أَلْفاً وَمِئَةَ شَاقِلِ فِضَّةٍ فيكون المجموع خمسة آلاف وخمس مئة شاقل فضة وقيمة ذلك نحو ٦٦٠ ليرة إنكليزية. وهذا كثير جداً بالنسبة إلى رخص أسباب المعاش في تلك الأيام.

٦ «فَقَالَتْ دَلِيلَةُ لِشَمْشُونَ: أَخْبِرْنِي بِمَاذَا قُوَّتُكَ ٱلْعَظِيمَةُ وَبِمَاذَا تُوثَقُ لإِذْلاَلِكَ؟».

بِمَاذَا قُوَّتُكَ ٱلْعَظِيمَةُ قال بعضهم في النساء اللاواتي لا يخفن الله «إذا ابتغى الشيطان صيد أمرء جعل طعم صنارته امرأة».

٧، ٨ «٧ فَقَالَ لَهَا شَمْشُونُ: إِذَا أَوْثَقُونِي بِسَبْعَةِ أَوْتَارٍ طَرِيَّةٍ لَمْ تَجِفَّ أَضْعُفُ وَأَصِيرُ كَوَاحِدٍ مِنَ ٱلنَّاسِ. ٨ فَأَصْعَدَ لَهَا أَقْطَابُ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ سَبْعَةَ أَوْتَارٍ طَرِيَّةٍ لَمْ تَجِفَّ فَأَوْثَقَتْهُ بِهَا».

إِذَا أَوْثَقُونِي بِسَبْعَةِ أَوْتَارٍ طَرِيَّةٍ الكلمة العبرانية المترجمة «أوتار» تحتمل معنى حبال من الكتان أو غيره من النباتات والمرجّح أن المقصود أوتار كأوتار لقسيّ أو أوتار آلات الموسيقى تُصنع من إمعاء الحيوانات. والعدد «سبعة» يدل على الكمال أو القوّة. كذب عليها حرصاً على سرّ قوته فكان شاكلها في أخلاقه. ولو كان رجلاً في آدابه لمنعها من إعادة ذلك السؤال وما أجابها بكذب ولا بصدق ولكن الشهوة القبيحة تذهب بالحكمة والقوّة والهيبة.

كَوَاحِدٍ مِنَ ٱلنَّاسِ أي أكون رجلاً عادياً. وهذا دليل على أن قوّته كانت خارقة للعادة.

٩ «وَٱلْكَمِينُ لاَبِثٌ عِنْدَهَا فِي ٱلْحُجْرَةِ. فَقَالَتْ لَهُ: ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ عَلَيْكَ يَا شَمْشُونُ. فَقَطَعَ ٱلأَوْتَارَ كَمَا يُقْطَعُ فَتِيلُ ٱلْمَشَاقَةِ إِذَا شَمَّ ٱلنَّارَ وَلَمْ تُعْلَمْ قُوَّتُهُ».

وَٱلْكَمِينُ لاَبِثٌ عِنْدَهَا فِي ٱلْحُجْرَةِ اختصر الكاتب كثيراً إذ لم تكن غايته التفصيل بل خلاصة ما كان من أمر شمشون عند المعشوقة. فإن دليلة على ما يرجّح كانت تُدخل حجرتها بعض رجال الفلسطينيين ليلاً وشمشون نائم على سريره ثم تأتيه وتتملقه كما يدل على ذلك ما في (ع ١٢ و١٤ و٢٠). وكانت تشد وثاقه وهو نائم وتوقظه لتتحقق قوله. وهذا يدل على خوف الفلسطينيين من قوّته السحرية كما اعتقدوا وكان خوفه قد ملأ قلوبهم بما اختبروه من بطشه حتى لم يجسروا على لقائه.

فَقَطَعَ ٱلأَوْتَارَ كَمَا يُقْطَعُ فَتِيلُ ٱلْمَشَاقَةِ المسافة هنا ما يسقط من الكتّان عند مشقه أو تمشيطه ليُغزَل ويتخذون من تلك السقاطة فتائل للسّرج أي يفتلونها فتلاً ويضعونها في المصابيح.

إِذَا شَمَّ ٱلنَّارَ إذا أحمي قليلاً فيهون قطعه. ولا ريب في أن الكمين كان يرى ذلك من وصواصٍ إلى مضجع شمشون.

وَلَمْ تُعْلَمْ قُوَّتُهُ أي لم يُعلم سرها أو علّتها.

١٠ «فَقَالَتْ دَلِيلَةُ لِشَمْشُونَ: هَا قَدْ خَتَلْتَنِي وَكَلَّمْتَنِي بِٱلْكَذِبِ! فَأَخْبِرْنِيَ ٱلآنَ بِمَاذَا تُوثَقُ».

قَدْ خَتَلْتَنِي أي خدعتني.

وَكَلَّمْتَنِي بِٱلْكَذِبِ عاتبته لا لمجرد أنه خدع وكذب لأن ذلك كان من مذهبها لكن لأن خداعه لها وكذبه كان عليها وهو قد أعلن لها أنه يحبها. كأنها قالت له هذا ليس فعل المحبين.

فَأَخْبِرْنِيَ ٱلآنَ بِمَاذَا تُوثَقُ أي أخبرني بالوثاق الذي لا تقدر على قطعه. وبلا ريب عرف شمشون قصدها وكان من الحكمة أن يتركها في الحال ولكنه مال إلى المُنكر والتذّ بالاقتراب إليه وهو متكل على نفسه إنه يقدر أن يخلّص نفسه بقوّته العظيمة. وأما دليلة فان غايتها الكبرى أن تأخذ المال الذي وعدها به أقطاب الفلسطينيين.

١١، ١٢ «١١ فَقَالَ لَهَا: إِذَا أَوْثَقُونِي بِحِبَالٍ جَدِيدَةٍ لَمْ تُسْتَعْمَلْ أَضْعُفُ وَأَصِيرُ كَوَاحِدٍ مِنَ ٱلنَّاسِ. ١٢ فَأَخَذَتْ دَلِيلَةُ حِبَالاً جَدِيدَةً وَأَوْثَقَتْهُ بِهَا، وَقَالَتْ لَهُ: ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ عَلَيْكَ يَا شَمْشُونُ، وَٱلْكَمِينُ لاَبِثٌ فِي ٱلْحُجْرَةِ. فَقَطَعَهَا عَنْ ذِرَاعَيْهِ كَخَيْطٍ».

بِحِبَالٍ جَدِيدَةٍ (انظر ص ١٥: ١٣).

كَخَيْطٍ الخيط هنا السلك الذي يدخل في سمّ الإبرة أي ثقبها ويخاط به وهو قليل القوة مهما كان جنسه ولا سيما إذا كان القاطع له مثل شمشون.

١٣ «فَقَالَتْ دَلِيلَةُ لِشَمْشُونَ: حَتَّى ٱلآنَ خَتَلْتَنِي وَكَلَّمْتَنِي بِٱلْكَذِبِ! فَأَخْبِرْنِي بِمَاذَا تُوثَقُ. فَقَالَ لَهَا: إِذَا ضَفَرْتِ سَبْعَ خُصَلِ رَأْسِي مَعَ ٱلسَّدَى».

إِذَا ضَفَرْتِ سَبْعَ خُصَلِ رَأْسِي مَعَ ٱلسَّدَى الظاهر إن شعر شمشون كان سبع ضفائر أو غرانيق أي خُصل مفتّلة واختير أن يكون عددها كذلك لأن السبعة عدد مقدس فوق كونه كاملاً. والسدى ما مدّ من الخيوط للحياكة وهو خلاف اللحمة ويُعرف عند عاّمة لبنان وبيروت بالمدّة. وضفر الشعر معه أن تجمع منه خيوط إلى كل خصلة من الشعر وتُضفر معاً. وكان في ذلك البيت نولٌ على ما يستلزمه النص ولعل دليلة كانت تحيك به. ولا يزال بعض النساء في هذه البلاد وسائر سورية تنسج بأنوال في البيوت.

ولما ذكر شعره اقترب إلى إفشاء سره. ومن ينظر إلى الخطيئة ويتأمل فيها ويتقدم نحوها ويقول في نفسه دعني ألتذّ بها قليلاً ثم أرجع عنها فلا بدّ من سقوطه.

١٤ «فَمَكَّنَتْهَا بِٱلْوَتَدِ. وَقَالَتْ لَهُ: ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ عَلَيْكَ يَا شَمْشُونُ. فَٱنْتَبَهَ مِنْ نَوْمِهِ وَقَلَعَ وَتَدَ ٱلنَّسِيجِ وَٱلسَّدَى».

فَمَكَّنَتْهَا بِٱلْوَتَدِ أي فضفرتها مع السّدى وهو نائم ومكنتها بالوتد فحذف للإيجاز اعتماداً على القرينة. والوتد هنا إما الوتد في الحائط الذي يُربط به السّدى أو أحد أوتاد النول الأربعة التي في الأرض وهو المناسب. وجاء في السبعينية «فمكنتها بالوتد ورزّت الوتد في الحائط». وجاء في الفلغاتا «ورزّت الوتد في الأرض». ويظن البعض أن الكلمة المترجمة «وتد» تحتمل معنى المدقة وهي الآلة التي يدق الحائك خيطان اللحمة فيمكّنها أي ضفرت دليلة خصل شمشون السبعة مع السّدى ثم دقتها بالمدقة فمكنتها وصارت من المنسوج ولما قام شمشون قلع السّدى والمدقة معاً.

فَٱنْتَبَهَ مِنْ نَوْمِهِ وَقَلَعَ وَتَدَ ٱلنَّسِيجِ وَٱلسَّدَى هذا يدل على أن الوتد أحد الأوتاد الأربعة التي في الأرض وأحد الوتدين اللذّين تجور في حفرتيهما المطواة لأنهما هما وتدا النسيج والسدى وتُعرف هذه الأوتاد عند حاكة هذا العصر في كثير من جهات سورية بالغروز وأحدها غِرز. وهذه الأوتاد كبيرة نازلة في الأرض كثيراً بخلاف ما يُرز في الأرض أو الحائط. وما ذُكر ذلك إلا للدلالة على قدرته الغريبة الخارقة العادة.

١٥ «فَقَالَتْ لَهُ: كَيْفَ تَقُولُ أُحِبُّكِ، وَقَلْبُكَ لَيْسَ مَعِي؟ هُوَذَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ قَدْ خَتَلْتَنِي وَلَمْ تُخْبِرْنِي بِمَاذَا قُوَّتُكَ ٱلْعَظِيمَةُ».

ص ١٤: ١٦

كَيْفَ تَقُولُ أُحِبُّكِ، وَقَلْبُكَ لَيْسَ مَعِي أي إن المحبة تقتضي أن المحبّ يُعلن أسرار قلبه للمحبوب كأنه أعطاه قلبه ليعرف كل ما فيه. وأنت كتمت عنّي سرّ قوتك فقولك أنك تحبني لا يوثق به.

١٦ «وَلَمَّا كَانَتْ تُضَايِقُهُ بِكَلاَمِهَا كُلَّ يَوْمٍ وَأَلَحَّتْ عَلَيْهِ، ضَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَى ٱلْمَوْتِ».

ضَاقَتْ نَفْسُهُ لضيق حكمته ووسعة شهوته ولو اتسعت حكمته وضاقت بشهوته لتركها وهرب منها. ولكن لما كان حبه فاسداً شيطانياً كان عمله مثله. وقوله «ضاقت نفسه» استعارة شبّه نفسه بوعاء وإلحاحها بما يوضع فيه فلم يمكن أن يسع زيادة على ما وسع وهذا شأن النفس الجاهلة.

إِلَى ٱلْمَوْتِ أي ضاقت إلى أن قرب من الموت بما عرا نفسه من الضيق.

١٧ «فَكَشَفَ لَهَا كُلَّ قَلْبِهِ، وَقَالَ لَهَا: لَمْ يَعْلُ مُوسَى رَأْسِي لأَنِّي نَذِيرُ ٱللّٰهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، فَإِنْ حُلِقْتُ تُفَارِقُنِي قُوَّتِي وَأَضْعُفُ وَأَصِيرُ كَأَحَدِ ٱلنَّاسِ».

ميخا ٧: ٥ عدد ٦: ٥ وص ١٣: ٥

لأَنِّي نَذِيرُ ٱللّٰهِ الخ هذا أوضح دليل على أن قوته كانت غير عادية أي إنها كانت من الله على طريق الإعجاز. فلهذا لم يبقَ من اعتراض على ما كان منه من الأفعال العجبية. وما أتاه إن كان يستحيل على المخلوق لا يستحيل على الخالق.

١٨ «وَلَمَّا رَأَتْ دَلِيلَةُ أَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَهَا بِكُلِّ مَا بِقَلْبِهِ، أَرْسَلَتْ فَدَعَتْ أَقْطَابَ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ وَقَالَتِ: ٱصْعَدُوا هٰذِهِ ٱلْمَرَّةَ فَإِنَّهُ قَدْ كَشَفَ لِي كُلَّ قَلْبِهِ. فَصَعِدَ إِلَيْهَا أَقْطَابُ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ وَأَصْعَدُوا ٱلْفِضَّةَ بِيَدِهِمْ».

وَلَمَّا رَأَتْ الخ علمت صدقه من إمارات وجهه وكانت قد اختبرت كل إماراته.

١٩ «وَأَنَامَتْهُ عَلَى رُكْبَتَيْهَا وَدَعَتْ رَجُلاً وَحَلَقَتْ سَبْعَ خُصَلِ رَأْسِهِ، وَٱبْتَدَأَتْ بِإِذْلاَلِهِ، وَفَارَقَتْهُ قُوَّتُهُ».

أمثال ٧: ٢٦ و٢٧

وَأَنَامَتْهُ عَلَى رُكْبَتَيْهَا يستلزم هذا النبأ أنها مزجت شرابه بشيء من المنومات لأنه لا يمكن أن تحلق خصل شعره ولا ينتبه إذا كان نومه عادياً. والكاتب غرضه بيان الحادثة بالاختصار فترك التفصيل في مواضع كثيرة كما مرّ بك اعتماداً على القرينة على اختلاف أنواعها من عقلية ولفظية. والقرينة هنا عقلية. فإن قلت إذا كان الأمر كذلك فما حاجتها إلى حلق شعره فكان عليها أن تستدعي الفلسطينيين فيأخذوه وهو مستغرق بذلك النوم الثقيل. قلنا إن غاية الفلسطينيين أن يأخذوه حياً ويشهروه ويعذبوه ويمثلوا به (ع ٥) فلو أوثقوه وهو نائم ونبهوه قطع الوثاق وقطّعهم. إلا فلو كان قصدهم قتله يصعب بواسطة تلك المعشوقة الخائنة بطرق كثيرة.

وَدَعَتْ رَجُلاً هو أحد الفلسطينيين الذي كان كامناً في حجرتها.

وَحَلَقَتْ سَبْعَ خُصَلِ رَأْسِهِ أي أمرت ذلك الرجل بحلقها.

وَٱبْتَدَأَتْ بِإِذْلاَلِهِ أي شرعت في أن تسلّمه لمن يذلونه وكانت غايتهم من أول الأمر إذلاله (ع ٥) أي إن ما فعلته كان أول إذلاله.

فَارَقَتْهُ قُوَّتُهُ لأنه خالف آخر شروط نذره لا أن قوته كانت في شعره. وما أحسن قول بعضهم هنا «أن من ينام في الإثم يستيقظ في الخسران والضعف».

٢٠ «وَقَالَتِ: ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ عَلَيْكَ يَا شَمْشُونُ. فَٱنْتَبَهَ مِنْ نَوْمِهِ وَقَالَ: أَخْرُجُ حَسَبَ كُلِّ مَرَّةٍ وَأَنْتَفِضُ. وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ فَارَقَهُ!».

عدد ١٤: ٩ و٤٢ و٤٣ ويشوع ٧: ١٢ و١صموئيل ١٦: ١٤ و١٨: ١٢ و٢٨: ١٥ و١٦ و٢أيام ١٥: ٢

أَخْرُجُ حَسَبَ كُلِّ مَرَّةٍ وَأَنْتَفِضُ أي أخرج من نومي وأنتفض من آثاره. فانتفض مطاوع نفض الثوب أي حرّكه ليزول عنه الغبار ونحوه فاستعاره للتخلص من التواني الباقي من تأثير النوم. أو انتفض من وُثق أوثقته بها دليلة أو الفلسطينيون. أو انتفض من الفلسطينيين كما ينتفض الحصان أو الثور من الذباب.

وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ فَارَقَهُ أي قال اخرج الخ وهو غير عالم ترك الرب إياه ولكنه علم ذلك حين شعر بضعفه ووهنه. وعرف أن قوّته كانت من الرب لا من نفسه بالاختبار وكان قد عرف ذلك بمجرد العقل والخبر (ع ١٦). فكان بقاء شعره دليلاً على تلك القوة أو علامة لها. فلم يبق في تلك الحال نذيراً لله ففارقته قوة النذير.

٢١ «فَأَخَذَهُ ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ وَقَلَعُوا عَيْنَيْهِ، وَنَزَلُوا بِهِ إِلَى غَزَّةَ وَأَوْثَقُوهُ بِسَلاَسِلِ نُحَاسٍ. وَكَانَ يَطْحَنُ فِي بَيْتِ ٱلسِّجْنِ».

فَأَخَذَهُ ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ لأن الرب تركه.

وَقَلَعُوا عَيْنَيْهِ تمثيلاً به وإذلالاً له. وكان قلع العينين من أشد أنواع الإذلال (انظر ٢ملوك ٢٥: ٧). ولعلهم قلعوها لغرض آخر وهو أن يقوه من الدوار وهو يدرو ليدير الرحى كما سيأتي.

وَأَوْثَقُوهُ بِسَلاَسِلِ نُحَاسٍ وهذا تنكيل وإذلال آخر يجريه الغالب على من يدري جعله من أسافل الناس. فإن الإثم يزيل الكرامة. وما أحسن قول بعضهم:

إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النِعم
وحافظ عليها بتقوى الإله فإن الإله سريع النِقم


وَكَانَ يَطْحَنُ فِي بَيْتِ ٱلسِّجْنِ قال أحد المفسرين هذا إذلال آخر لأن الطحن كان من عمل الأجراء والعبيد والإماء. والذي ظهر من قلع عينيه أنهم كانوا يربطونه إلى مثل دولاب يديره بدورانه حول الرحى والدولاب يديرها بدورانه فيستخدمونه استخدام الحمار أو البغل أو غيرهما من الكراع. وكانت تلك الرحى في البيت الذي يُسجن به المجرمون وهذا شر أنواع الذلّ. وكان ذلك عملاً شاقاً عليه لأن قوّته غير العادية كانت قد فارقته فانظر كيف عاقبة المجرمين. على أن بعضهم رأى أنه كان يطحن برحى اليد التي تطحن بها النساء والخدم والعبيد وكلا الأمرين إذلال ولا تزال إلى هذا اليوم في بعض سورية وفلسطين.

٢٢ «وَٱبْتَدَأَ شَعْرُ رَأْسِهِ يَنْبُتُ بَعْدَ أَنْ حُلِقَ».

وَٱبْتَدَأَ شَعْرُ رَأْسِهِ يَنْبُتُ تقدّم الكلام إن قوة شمشون لم تكن في شعره بل كانت هبة من الله غير عادية لنذيره وكان ترك الشعر بلا حلق من شروط النذر وشمشون خالف كل الشروط ومنها حلق شعره الذي هو أظهر الشروط على النذير فمنع الله عنه تلك الهبة. ولا ريب في أن شمشون لما صار إلى تلك الحال من الآلام والضعف والذل ندم على ما ارتكب من الخطايا وتاب إلى الله فتاب عليه عندما نبت شعره وردّ إليه القوة غير العادية فليس نبت شعره علة عَود قوّته.

بَعْدَ أَنْ حُلِقَ أو كما حُلق على ما يحتمله الأصل العبراني أي عاد شعره نذير كما كان.

انتقام شمشون وموته ع ٢٣ إلى ٣١

٢٣ «وَأَمَّا أَقْطَابُ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ فَٱجْتَمَعُوا لِيَذْبَحُوا ذَبِيحَةً عَظِيمَةً لِدَاجُونَ إِلٰهِهِمْ وَيَفْرَحُوا، وَقَالُوا: قَدْ دَفَعَ إِلٰهُنَا لِيَدِنَا شَمْشُونَ عَدُوَّنَا».

أَقْطَابُ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ القطب حديدة على الطبق الأسفل من الرحى يدور عليها الطبق الأعلى استُعيرت لسيد القوم الذي يدور عليه أمرهم وغلب هذا المجاز حتى صار حقيقة عرفيّة. والمراد بهؤلاء الأقطاب أمراء مدن الفلسطينيين الخمس (انظر تفسير ع ٥).

فَٱجْتَمَعُوا لِيَذْبَحُوا ذَبِيحَةً لابتهاجهم بفوزهم وتمكنهم من أسر شمشون وشكراً لإلههم.

لِدَاجُونَ إِلٰهِهِمْ كان داجون إله الفلسطينيين وتمثاله مركّب من إنسان وسمكة فنصفه الأعلى النصف الأعلى من الإنسان والأسفل بدن سمكة.

قَدْ دَفَعَ إِلٰهُنَا لِيَدِنَا شَمْشُونَ عَدُوَّنَا ليس داجون دفعه ليدهم بل الرب لأن الرب فارق شمشون عندما ترك شمشون الرب وأخبر دليلة عن سرّ قوته العظيمة فصار كأحد الناس.

٢٤ «وَلَمَّا رَآهُ ٱلشَّعْبُ مَجَّدُوا إِلٰهَهُمْ، لأَنَّهُمْ قَالُوا: قَدْ دَفَعَ إِلٰهُنَا لِيَدِنَا عَدُوَّنَا ٱلَّذِي خَرَّبَ أَرْضَنَا وَكَثَّرَ قَتْلاَنَا».

دانيال ٥: ٤

وَلَمَّا رَآهُ ٱلشَّعْبُ مَجَّدُوا إِلٰهَهُمْ لما رأى الفلسطينيون شمشون القوي الذي كانت رهبته في قلب كل منهم عبداً ذليلاً أعمى بين أيديهم نسبوا ذلك إلى قوة إلههم الباطل ومجدوه على قدرته العظمى وإحسانه إليهم على ما توهموا. ولكن الله الإله الحق أبطل اعتقادهم سريعاً بما فعله بواسطة شمشون كما يأتي.

٢٥ «وَكَانَ لَمَّا طَابَتْ قُلُوبُهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: ٱدْعُوا شَمْشُونَ لِيَلْعَبَ لَنَا. فَدَعَوْا شَمْشُونَ مِنْ بَيْتِ ٱلسِّجْنِ، فَلَعِبَ أَمَامَهُمْ. وَأَوْقَفُوهُ بَيْنَ ٱلأَعْمِدَةِ».

ص ٩: ٢٧

وَكَانَ لَمَّا طَابَتْ قُلُوبُهُمْ أي انبسطت وانشرحت (انظر راعوث ٣: ٧ و١صموئيل ٢٥: ٣٦ وأستير ١: ١٠).

لِيَلْعَبَ لَنَا والأصل العبراني يحتمل ليرقص لنا. أي ليُلعِبوه وليُرقصوه كما يُلعبون ويرقصون القرد والدب ليضحكوا عليه ويسروا بإذلاله وإهانته ورميه بسهام الهزء واللعنات.

فَلَعِبَ أو فرقص.

بَيْنَ ٱلأَعْمِدَةِ التي في هيكل داجون. ولا ريب أن شمشون كان قد عرف أن في بيت داجون أو هيكله أعمدة إما بالمشاهدة قبل أن قُلعت عيناه وإما بالسمع قبل ذلك وبعده.

٢٦ «فَقَالَ شَمْشُونُ لِلْغُلاَمِ ٱلْمَاسِكِ بِيَدِهِ: دَعْنِي أَلْمِسِ ٱلأَعْمِدَةَ ٱلَّتِي ٱلْبَيْتُ قَائِمٌ عَلَيْهَا لأَسْتَنِدَ عَلَيْهَا».

فَقَالَ شَمْشُونُ لِلْغُلاَمِ ٱلْمَاسِكِ بِيَدِهِ لأنه مقلوع العينين ولعل ذلك الغلام كان يلعبه ويرقصه لشدة إذلاله حتى صار الصبي يلعب بذلك الرجل الجبار ويضحك الناس منه.

دَعْنِي أَلْمِسِ ٱلأَعْمِدَةَ الخ قال له ذلك على سبيل الاسترحام إيماء إلى أنه تعب وأمل منه أن يسمح له بذلك ليستريح قليلاً ويظهر مما يأتي أنه سمح له بذلك.

٢٧ «وَكَانَ ٱلْبَيْتُ مَمْلُوءاً رِجَالاً وَنِسَاءً، وَكَانَ هُنَاكَ جَمِيعُ أَقْطَابِ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ، وَعَلَى ٱلسَّطْحِ نَحْوُ ثَلاَثَةِ آلاَفِ رَجُلٍ وَٱمْرَأَةٍ يَنْظُرُونَ لُعْبَ شَمْشُونَ».

تثنية ٢٢: ٨

وَكَانَ ٱلْبَيْتُ مَمْلُوءاً رِجَالاً وَنِسَاءً للتفرج على شمشون والضحك عليه والشماتة به وزيادة تعذيبه.

وَعَلَى ٱلسَّطْحِ نَحْوُ ثَلاَثَةِ آلاَفِ رَجُلٍ وَٱمْرَأَةٍ كان ذلك الهيكل واسعاً جداً ولهذا كان على الأعمدة. والظاهر أنه كان في وسطه عمودان أقوى سائر الأعمدة وكانا متقاربين حتى يمكن الإنسان أن يمسك أحدهما بإحدى يديه والآخر بالأخرى. وكان سطحه كسائر سطوح المشرق يومئذ أي مسطحاً مستوياً ولم يزل أكثر سطوح بيوت سورية وفلسطين كذلك. والناس إلى الآن يصعدون إلى السطوح للتفرّج. وكانوا قد سمعوا نبأه وقُصّت عليهم قصصاً غريبة عن أعماله العجيبة فرغب كل إنسان في أن يراه. ولعلهم كانوا على سطح الرواق وكان ذلك الرواق كما وصفنا الهيكل.

لُعْبَ شَمْشُونَ أو رقص شمشون. كانوا يلعبونه ويرقصونه خارجاً كما ألعبوه وأرقصوه داخلاً فرآه الذين في الخارج والذين في الداخل.

٢٨ «فَدَعَا شَمْشُونُ ٱلرَّبَّ: يَا سَيِّدِي ٱلرَّبَّ، ٱذْكُرْنِي وَشَدِّدْنِي يَا اَللّٰهُ هٰذِهِ ٱلْمَرَّةَ فَقَطْ فَأَنْتَقِمَ نَقْمَةً وَاحِدَةً عَنْ عَيْنَيَّ مِنَ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ».

إرميا ١٥: ١٥

فَدَعَا شَمْشُونُ ٱلرَّبَّ عرف شمشون أن قوته كانت من الرب لا من بنيته الطبيعية وعرف أنها فارقته لإثمه وجهله فتاب إلى الله توبة حقّة وسأل الله التقوية.

ٱذْكُرْنِي استعار النسيان لإهمال الله إياه على آثامه فقال «اذكرني».

وَشَدِّدْنِي يَا اَللّٰهُ أي قوّني عرف ضعفه فطلب القوة. وذكر في العبارة الأولى من هذه الآية وهذه العبارة الواجب الأزلي بأسمائه الثلاثة السيد والرب والله وهي ترجمة أسمائه الثلاثة في العبرانية أدوناي ويهوه وإلوهيم.

هٰذِهِ ٱلْمَرَّةَ فَقَطْ يريد أنه لا يحق له أن يسأل الله القوة بعد ارتكابه ما أذهبها عنه ولكن رجا من كرمه أن يقوّيه وقتاً قصيراً. ولا يخفى ما في كلامه من الخشوع والتواضع أمام الله.

فَأَنْتَقِمَ نَقْمَةً وَاحِدَةً عَنْ عَيْنَيَّ مِنَ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ أي فانتقم منهم انتقامة على قلعهم عينيّ.

٢٩، ٣٠ «٢٩ وَقَبَضَ شَمْشُونُ عَلَى ٱلْعَمُودَيْنِ ٱلْمُتَوَسِّطَيْنِ ٱللَّذَيْنِ كَانَ ٱلْبَيْتُ قَائِماً عَلَيْهِمَا، وَٱسْتَنَدَ عَلَيْهِمَا ٱلْوَاحِدِ بِيَمِينِهِ وَٱلآخَرِ بِيَسَارِهِ. ٣٠ وَقَالَ شَمْشُونُ: لِتَمُتْ نَفْسِي مَعَ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ. وَٱنْحَنَى بِقُوَّةٍ فَسَقَطَ ٱلْبَيْتُ عَلَى ٱلأَقْطَابِ وَعَلَى كُلِّ ٱلشَّعْبِ ٱلَّذِي فِيهِ، فَكَانَ ٱلْمَوْتٰى ٱلَّذِينَ أَمَاتَهُمْ فِي مَوْتِهِ أَكْثَرَ مِنَ ٱلَّذِينَ أَمَاتَهُمْ فِي حَيَاتِهِ».

وَقَبَضَ شَمْشُونُ عَلَى ٱلْعَمُودَيْنِ ٱلْمُتَوَسِّطَيْنِ… وَٱنْحَنَى بِقُوَّةٍ كان معظم الثقل على هذين العمودين فانحنى لدفعهما.

فَكَانَ ٱلْمَوْتٰى ٱلَّذِينَ أَمَاتَهُمْ فِي مَوْتِهِ أي في وقت موته.

أَكْثَرَ مِنَ ٱلَّذِينَ أَمَاتَهُمْ فِي حَيَاتِهِ أي مدة حياته في حرب الفلسطينيين. وهذه انتقامة تعدل ألوفاً من الانتقامات وفوق ذلك سقط هيكل داجون إلههم الذي افتخروا به واتكلوا عليه فظهر لهم أن إله إسرائيل الإله الحقيقي وحده هو أعظم من إلههم.

٣١ «فَنَزَلَ إِخْوَتُهُ وَكُلُّ بَيْتِ أَبِيهِ وَحَمَلُوهُ وَصَعِدُوا بِهِ وَدَفَنُوهُ بَيْنَ صُرْعَةَ وَأَشْتَأُولَ فِي قَبْرِ مَنُوحَ أَبِيهِ. وَهُوَ قَضَى لإِسْرَائِيلَ عِشْرِينَ سَنَةً».

ص ١٣: ٢٥

فَنَزَلَ إِخْوَتُهُ وَكُلُّ بَيْتِ أَبِيهِ لم يذكر الكاتب هنا والدَي شمشون منوح وامرأته فالظاهر أنهما كانا قد ماتا وذلك خير لهما من أن يشاهدا عاقبة شمشون المحزنة. والمراد «بإخوته» أبناء عشيرته «وبيت أبيه» أقرباءه من أسرة أبيه لأن المرجّح أن امرأة منوح العاقر لم تلد غيره ولم يمنعهم الفلسطينيون من أخذ جثته لأن الذين نزلوا ليأخذوها كانوا كثيرين فخافوا منهم ولا سيما بعد سقوط هيكلهم وموت عظماءهم.

والقصة تدلنا على أن شمشون مات تائباً إلى الله نادماً على معاصيه وجهله. وإنه لم يقصد الانتحار إنما قصد الانتقام من أعداء الله على قلعهم عينيه حتى منعوه من الانتصار لربه وشعبه ولكن الحال اقتضت أن يُقتل مع الأعداء فمثله مثل من استبسل في الحرب العادلة فقُتل فيها وهو يعلم أنه لا بد من أن يُقتل. فإن كاتب رسالة العبرانيين عدّه مع «ٱلَّذِينَ بِٱلإِيمَانِ قَهَرُوا مَمَالِكَ، صَنَعُوا بِرّاً، نَالُوا مَوَاعِيدَ» (عبرانيين ١١: ٣٢ و٣٣).

وَدَفَنُوهُ بَيْنَ صُرْعَةَ وَأَشْتَأُولَ صُرعة مدينة في ساحل يهوذا وهي مولد شمشون واسمها اليوم سورة وهي غربي القدس وعلى غاية ثلاثة عشر ميلاً منها وقد مرّ الكلام عليها. وأشتأول مدينة في سهول يهوذا قرب صرعة.

فوائد

  1. إن المواهب بلا نعمة لا تنفع صاحبها وقد تكون علّة لهلاكه.
  2. لا يليق بقاضي إسرائيل أن يكون في وادي سورق ولا يليق وجود المسيحي في الحانات والمواخير (ع ٤).
  3. يتسلط الرجل على المرأة بالقوة وتتسلط المرأة على الرجل بالمحبة وتسلُّطها أعظم من تسلطه فعليه أن يطلب امرأة فاضلة.
  4. من يتكل على نفسه يستخفّ بالتجارب ويقترب إليها ويسقط فيها وأما الحكيم فيعرف ضعفه ويهرب من التجارب حالما يراها.
  5. إن خطيئة واحدة وإن ظهرت صغيرة تعبّر عما في قلب الإنسان من العصيان على الله (ع ١٧).
  6. نتعلم من القول «فارقه الرب» (١) إن من يفارقه الرب يفارقه كل خير وبركة وقوة (٢) إن الرب لا يفارق الإنسان ما لم يكن الإنسان قد فارقه أولاً. (٣) إن الإنسان لا يشعر بعظمة خسارته إذا فارقه الرب لأن هذه الخسارة إنما هي روحية وغير محسوسة (ع ٢٠).
  7. إن عقاب الخطيئة الانحطاط والهوان (ع ٢١)
  8. إن الرب كثير الرحمة فيرجع إلى من يرجع إليه (ع ٢٨).
  9. إن الذين يتكلون على الرب أقوى من الذين يتكلون على الأوثان (ع ٣٠).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى