سفر القضاة | 07 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر القضاة
للقس . وليم مارش
اَلأَصْحَاحُ ٱلسَّابِعُ
مشتملات هذا الأصحاح ثمانية حوادث:
- الجيشان والمعسكران (ع ١).
- أمر جدعون بصرف الخائفين من الجنود (ع ٢ و٣).
- اختيار ثلاث مئة من عشرة الآلاف الباقين للحرب بطريق الشرب من عين حرود (ع ٤ – ٨).
- تشجيع الله لجدعون بتمكينه من سمع قصة الحلم في معسكر المديانيين (ع ٩ – ١٤).
- خدعة جدعون بالمصابيح (ع ١٥ – ١٨).
- الهول والاضطراب والقتل في جيش المديانيين (ع ١٩ – ٢١).
- هرب المديانيين وتباع الإسرائيليين إياهم (ع ٢٢ و٢٣).
- أسر غراب وذئب وقتلهما (ع ٢٤ و٢٥).
اختيار المحاربين ع ١ إلى ٨
١ «فَبَكَّرَ يَرُبَّعْلُ (أَيْ جِدْعُونُ) وَكُلُّ ٱلشَّعْبِ ٱلَّذِي مَعَهُ وَنَزَلُوا عَلَى عَيْنِ حَرُودَ. وَكَانَ جَيْشُ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ شِمَالِيَّهُمْ عِنْدَ تَلِّ مُورَةَ فِي ٱلْوَادِي».
ص ٦: ٣٢
يَرُبَّعْلُ (أَيْ جِدْعُونُ) يربّعل لقب جدعون لُقب به بسبب هدمه مذبح البعل (ص ٦: ٣٢). وكان مثل هذا كثيراً بين العبرانيين والعرب وغيرهم من أهل المشرق فكان لكثيرين إسمان أو عدة أسماء لكل واحد منهم ومن الذين سُموا بإسمين من العبرانيين إبراهيم وسارة ويعقوب ويوسف وأستير ودانيال وبولس وبطرس. وممن سُمي من العرب بعدة أسماء عديّ بن ربيعة وعُرف بالزير والمهلهل وهما لقبان له وسليمان بن حجر الشاعر ويُعرف بامرء القيس والملك الضليل وأمثالهما كثيرون.
عَلَى عَيْنِ حَرُودَ أي في الأرض المجاورة لعين حرود المرتفعة عنها وهي جبل جلبوع أي جبل جلعاد (ع ٣). وكانت تلك العين قريبة من جلبوع وعلى تخم منسى، ومعنى «حرود» اضطراب أو قلق فالظاهر أنها سميت كذلك من الاضطراب الذي نشأ في معسكر المديانيين (ع ١٩ – ٢٢). وسمي كثير من الناس والأماكن في الكتاب بما يُذكر بالحوادث ذات الشأن. في حضيض ذلك الجبل اليوم عين غزيرة الماء تسمى عين جالود أو جالوت وهو اسم جليات عند العرب ولعل العامة توهمت أن جدعون جالوت فنسبوها إليه أو لعلهم حرّفوا حرود فقالوا جلود ثم جالود عن غير عمد أو لخطإ السمع فنُقل عن السامع فشاع الاسم بحسب ما أوهمه سمعه أو لغير ذلك من الأسباب.
عِنْدَ تَلِّ مُورَةَ أي قرب هذا التلّ والأصح أنه جبل الدوخي شمالي وادي يزرعيل وعلوه عن سطح البحر ١٨١٥ قدماً وهو بين جبل تابور المعروف اليوم بالطور وجبل جلبوع المعروف اليوم بجبل فرقوع. ولا ريب في أن العامة حرّفت الإسمين فجعلت تابور الطور وجلبوع فرقوع حتى غلب المحرّف على أصله.
فِي ٱلْوَادِي أي وادي يزرعيل (انظر ص ٦: ٣٣ والتفسير).
٢ «وَقَالَ ٱلرَّبُّ لِجِدْعُونَ: إِنَّ ٱلشَّعْبَ ٱلَّذِي مَعَكَ كَثِيرٌ عَلَيَّ لأَدْفَعَ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ بِيَدِهِمْ، لِئَلاَّ يَفْتَخِرَ عَلَيَّ إِسْرَائِيلُ قَائِلاً: يَدِي خَلَّصَتْنِي.
تثنية ٨: ١٧ وإشعياء ١٠: ١٣ و١كورنثوس ١: ٢٩ و٢كورنثوس ٤: ٧
وَقَالَ ٱلرَّبُّ لِجِدْعُونَ: إِنَّ ٱلشَّعْبَ ٱلَّذِي مَعَكَ كَثِيرٌ لا ريب في أن هذا كان امتحاناً لإيمان جدعون شديداً فجعل الله امتحان إيمان عبده على قدر البيّنات التي طلبها. فإن رجال الحرب المديانين كانوا ١٣٥٠٠٠ (ص ٨: ١) ورجال جدعون لم يكونوا أكثر من ٣٢٠٠٠ (ع ٣). قال الأسقف هول «لما رأى إسرائيل أنهم قليلون بالنسبة إلى الأعداء قال الرب إنكم كثيرون» أراد أن قوة الله لا تحتاج إلى الكثرة فهي تغلب الأكثرين بأقلّ من القليلين.
لِئَلاَّ يَفْتَخِرَ عَلَيَّ إِسْرَائِيلُ كان الإسرائيليون عرضة للافتخار بنفوسهم فالله كان يكثر من الأمور التي تدلهم على ضعفهم لكي ينتبهوا لوهنهم ويعرفوا أن القوة والمجد لله وحده وإن لا فضل لهم في شيء (انظر تثنية ٨: ١٧).
٣ «وَٱلآنَ نَادِ فِي آذَانِ ٱلشَّعْبِ: مَنْ كَانَ خَائِفاً وَمُرْتَعِداً فَلْيَرْجِعْ وَيَنْصَرِفْ مِنْ جَبَلِ جِلْعَادَ. فَرَجَعَ مِنَ ٱلشَّعْبِ ٱثْنَانِ وَعِشْرُونَ أَلْفاً. وَبَقِيَ عَشَرَةُ آلاَفٍ».
تثنية ٢٠: ٨
مَنْ كَانَ خَائِفاً وَمُرْتَعِداً فَلْيَرْجِعْ هذا على وفق قول الرب في سفر تثنية الاشتراع «مَنْ هُوَ ٱلرَّجُلُ ٱلْخَائِفُ وَٱلضَّعِيفُ ٱلْقَلْبِ؟ لِيَذْهَبْ وَيَرْجِعْ إِلَى بَيْتِهِ لِئَلاَّ تَذُوبَ قُلُوبُ إِخْوَتِهِ مِثْلَ قَلْبِهِ» (تثنية ٢٠: ٨). فداء الجبن يعدي والجبان الواحد في الجيش يجعل الكثيرين جبناء.
مِنْ جَبَلِ جِلْعَادَ الأرجح أنه هو الاسم القديم لجبل جلبوع ولعله نُسب إلى جلعاد بن ماكير بن منسى لأنه على تخم منسى. ولنا جبل آخر يُعرف بجبل جلعاد وهو جنوبي يبوق. وجبل جلعاد في الآية هو غربي الأردن وفي الجنوب من يزرعيل ويُعرف اليوم بجبل فرقوع. وتسمية موضعين أو مواضع باسم واحد كثير في الكتاب المقدس وغيره ولا يزال ذلك إلى هذا اليوم كالمعرة وعرمون وغيرهما.
فَرَجَعَ مِنَ ٱلشَّعْبِ ٱثْنَانِ وَعِشْرُونَ أَلْفاً فكان الخائفون أكثر من ثلثي الجيش كله فالظاهر أنه قد جبن أكثر الإسرائيليين من توالي الجور والذلّ عليهم سبع سنين وقد عرفوا أن المديانيين كثيرو العدد وهم بالنسبة إليه كالعدم على أن هؤلاء ربما رجعوا إلى الجيش للنهب حين خُدع المديانيون وقتل بعضهم بعضاً وفرّ الباقون بغية النجاة.
٤ «وَقَالَ ٱلرَّبُّ لِجِدْعُونَ: لَمْ يَزَلِ ٱلشَّعْبُ كَثِيراً. اِنْزِلْ بِهِمْ إِلَى ٱلْمَاءِ فَأُنَقِّيَهُمْ لَكَ هُنَاكَ. وَيَكُونُ أَنَّ ٱلَّذِي أَقُولُ لَكَ عَنْهُ: هٰذَا يَذْهَبُ مَعَكَ فَهُوَ يَذْهَبُ مَعَكَ. وَكُلُّ مَنْ أَقُولُ لَكَ عَنْهُ: هٰذَا لاَ يَذْهَبُ مَعَكَ فَهُوَ لاَ يَذْهَبُ».
وَقَالَ ٱلرَّبُّ لِجِدْعُونَ: لَمْ يَزَلِ ٱلشَّعْبُ كَثِيراً أي لم يزل المحاربون من شعب إسرائيل كثيرين. وهذا امتحان ثانٍ لإيمان جدعون. وقوله حق لأنهم مع عنايته ومحاربته معهم كثيرون وإن كانوا بالنسبة إلى قوتهم البشرية ووفرة الأعداء كلا شيء. إن جدعون ومن بقي من جنوده كانوا قليلين والله كان يراهم كثيرين وأمره بتقليلهم لئلا يتوهموا أن القوة لهم.
اِنْزِلْ بِهِمْ إِلَى ٱلْمَاءِ أي إلى عين حرود (ع ١).
فَأُنَقِّيَهُمْ لَكَ أي أختار لك أحسنهم. أو أصفيهم كما يُصفى الذهب من الغواشي.
٥، ٦ «٥ فَنَزَلَ بِٱلشَّعْبِ إِلَى ٱلْمَاءِ. وَقَالَ ٱلرَّبُّ لِجِدْعُونَ: كُلُّ مَنْ يَلَغُ بِلِسَانِهِ مِنَ ٱلْمَاءِ كَمَا يَلَغُ ٱلْكَلْبُ فَأَوْقِفْهُ وَحْدَهُ. وَكَذَا كُلُّ مَنْ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ لِلشُّرْبِ. ٦ وَكَانَ عَدَدُ ٱلَّذِينَ وَلَغُوا بِيَدِهِمْ إِلَى فَمِهِمْ ثَلاَثَ مِئَةِ رَجُلٍ. وَأَمَّا بَاقِي ٱلشَّعْبِ جَمِيعاً فَجَثَوْا عَلَى رُكَبِهِمْ لِشُرْبِ ٱلْمَاءِ».
كُلُّ مَنْ يَلَغُ بِلِسَانِهِ مِنَ ٱلْمَاءِ وَلغَ الماء أخذه باللسان كما يفعل الكلب. وكان ولوغ الرجال الوالغين أخذهم الماء بألسنتهم من أكفهم أو برميه به بأكفهم إلى ألسنتهم كما شوهد ذلك من بعض أهل البادية لا من العين رأساً كما صرّح في الآية التالية (ع ٦) وهؤلاء هم الذين اختارهم الرب.
قال أحد المفسرين إن الأقرب إلى العقل إن الذين لعقوا الماء من أيديهم أعظم ضبطاً لنفوسهم ممن جثوا وانحنوا وعبّوا الماء من مجراه العين مما هو عادة الظمآن الذي لا صبر عنده على العطش. وعلى هذا يكون المختارون من رجال جدعون هم الأشد صبراً واحتمالاً وهم الشجعان. وهذا موافق لعناية الله باختياره لإنفاذ مقاصده من هم أهل للإنقاذ وإن كان غنياً عنهم.
ثَلاَثَ مِئَةِ رَجُلٍ هؤلاء هم المختارون لمحاربة المديانيين والعمالقة وبني المشرق. «الذين كانوا حَالِّينَ فِي ٱلْوَادِي كَٱلْجَرَادِ فِي ٱلْكَثْرَةِ» (ع ١٢). فهل كان أشد من هذا الامتحان لإيمان جدعون. ولكن إيمانه كان حينئذ وطيداً وقد أذهب الله من نفسه كل شك من الطاعة بلا سؤال ولا اعتراض ومع ذلك لم يتركه الله بلا تشجيع ولم يقطع عنه الآيات. إن الله يعلم ضعف البشر ويعين الذين له ويزيدهم ثقة وإيماناً ما داموا ملتصقين به (انظر ع ٩ – ١٥).
بَاقِي ٱلشَّعْبِ أي الباقون بعد الثلاث المئة وهم ٩٧٠٠. إن الله اختار من جنود جدعون أولاً نحو الثلث ثم اختار من هذا الثلث ٣٠٠. ولم يعترض جدعون بشيء لثقته بحسن عناية الرب وحكمته وقدرته وتيقنه مما رأى من الآيات أن الله لا بد من أن ينصره على الأعداء وينقذ شعبه الصارخ إليه بالتوبة والأسف من عبودية المديانيين. إن رحمة الله أكبر من معاصي الراجعين إليه عن معاصيهم.
٧ «فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِجِدْعُونَ: بِٱلثَّلاَثِ مِئَةِ ٱلرَّجُلِ ٱلَّذِينَ وَلَغُوا أُخَلِّصُكُمْ وَأَدْفَعُ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ لِيَدِكَ. وَأَمَّا سَائِرُ ٱلشَّعْبِ فَلْيَذْهَبُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَكَانِهِ».
١صموئيل ١٤: ٦
بِٱلثَّلاَثِ مِئَةِ ٱلرَّجُلِ ٱلَّذِينَ وَلَغُوا أُخَلِّصُكُمْ أي أخلّص بني إسرائيل من عبودية المديانيين الذي هم وأنصارهم كالجراد في الكثرة وهم على أحسن الأهبة والعِدد ليظهر أن النصر لله لا لجنود إسرائيل فيعرفوا أن الرب هو قوتهم ومنقذهم وأن العبادة تجب له وحده وإنه يخلّص بالقليل كما يخلص بالكثير (١صموئيل ١٤: ٦ و٢أيام ١٤: ١١).
فَلْيَذْهَبُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَكَانِهِ أي إلى وطنه من بيت أو قرية أو مدينة أو إلى أين شاء من الأمكنة. ودعاه «مكانه» لأنه يكون محلّه متى حلّ به.
٨ «فَأَخَذَ ٱلشَّعْبُ زَاداً بِيَدِهِمْ مَعَ أَبْوَاقِهِمْ. وَأَرْسَلَ سَائِرَ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ كُلَّ وَاحِدٍ إِلَى خَيْمَتِهِ، وَأَمْسَكَ ٱلثَّلاَثَ مِئَةِ ٱلرَّجُلِ. وَكَانَتْ مَحَلَّةُ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ تَحْتَهُ فِي ٱلْوَادِي».
فَأَخَذَ ٱلشَّعْبُ أي الرجال الثلاث المئة المختارون لا كل شعب إسرائيل. وهذا من باب تسمية الجزء باسم الكل وهو نوع من أنواع المجاز المرسل أو سموا شعباً لانفرادهم جماعة مستقلة وذلك على سبيل التشبيه.
زَاداً بِيَدِهِمْ أي ما تيسر لهم من الزاد قوت يومهم.
مَعَ أَبْوَاقِهِمْ فإن قلت إن تلك الأبواق ثلاث مئة لكل واحد بوق فمن أين أتوا بها في جبل جلبوع. قلنا بعضها وهو القليل كان معهم وسائرها وهو الكثير أخذوه ممن رجع عنهم وهم ٣١٧٠٠ وهذه الأبواق ليست بكثيرة على ٣٢٠٠٠ جندي إذ يكون بوق واحد لأكثر من مئة وعلى هذا جاء في السبعينية والكلدانية والفلغاتا «وأخذوا (أي الثلاث المئة) بأيديهم». وقوله إنهم أخذوا «بيدهم» يدل على أنهم تناولوه من غيرهم ولو دلالة خفية وإضافة اليد على الجمع والمراد الأيدي تصويراً للمتعدد في صورة الواحد لاتحادهم في العمل. وجاء مثل هذا كثير في اللغات السامية وغيرها. وكان أبواق القوم من قرون الكباش. وكانت محلة المديانيين في وادي يزرعيل.
الحلم وتشجُّع جدعون به ع ٩ إلى ١٤
٩ «وَكَانَ فِي تِلْكَ ٱللَّيْلَةِ أَنَّ ٱلرَّبَّ قَالَ لَهُ: قُمِ ٱنْزِلْ إِلَى ٱلْمَحَلَّةِ، لأَنِّي قَدْ دَفَعْتُهَا إِلَى يَدِكَ».
تكوين ٤٦: ٢ و٣
فِي تِلْكَ ٱللَّيْلَةِ أي مساء يوم التنقية أو اختيار ٣٠٠ من ١٠٠٠٠.
قُمِ ٱنْزِلْ إِلَى ٱلْمَحَلَّةِ أي انزل أنت ومن معك إلى محلة المديانيين في الوادي وادي يزرعيل فإن الخطاب لقائد الجيش كثيراً ما يكون له ولجيشه لأنه مع الجيش كواحد. ولم ينبئ الكتاب بأن جدعون توقف عن ذلك أو خاف. ولكن لما كان ترك ٣١٧٠٠ من الجيش مما يجعل جدعون عرضة للخوف أو تزعزع الثقة أمره الله بما يأتي في الآية التالية زيادة لأمنه واطمئنانه.
لأَنِّي قَدْ دَفَعْتُهَا إِلَى يَدِكَ أي دفعت المحلة والمراد جنودها وسائر ما فيها من الأهبة والعدة. والدفع إلى اليد كناية عن التمكين من الاستيلاء وهو تقدير الدافع ومؤازرته. والكلام هنا تعليل لأمره بالنزول إلى المحلة وقوله تعالى هذا كاف لأن ينزل إلى المحلة بكل أمن وثقة بالفوز ولكن الله يعلم أن الإنسان ضعيف مهما كان قوي الإيمان في مثل أحوال جدعون ولهذا شجعه بالآية الآتية.
١٠ «وَإِنْ كُنْتَ خَائِفاً مِنَ ٱلنُّزُولِ، فَٱنْزِلْ أَنْتَ وَفُورَةُ غُلاَمُكَ إِلَى ٱلْمَحَلَّة».
وَإِنْ كُنْتَ خَائِفاً «إن» هنا للشكّ بوقوع الخوف والله لا يعتريه شك لكنه جاء بها بياناً لكون حال جدعون بما كان له من الآيات البيّنات والتشجيع الكامل مما يحمل الناس على الشك في أنه يخاف من أن ينزل إلى محلة المديانيين. وفي هذا الأسلوب من الخطاب تشجيع آخر لجدعون كما لا يخفى على المتأمل.
والذي كان به جدعون عرضة للخوف أمور:
- إنه كان عليه بمقتضى أمر الله أن يهجم لا أن يدفع.
- إنه كان الهجوم في السهل حيث لا متاريس ولا موانع من سهام العدوّ.
- إن جيشه ثلاث مئة نفس والأعداء كالجراد في الكثرة.
- إن أسلحتهم دون أسلحة المديانيين وكلهم مشاة لأنهم كانوا أذلاء ضعفاء نهب المديانيون كل ما عندهم ولم يبق لهم إلا ما تمكنوا من تخبئته في الكهوف وشقوق الصخور (ص ٦: ١ – ٦).
- إنهم كانوا يجهلون الحرب بالنسبة إلى المديانيين إذ كانوا لم يأتوا حرباً ولم يتعلموا حرباً مدة سبع سنين. فهذا وغيره مما لم نذكره يجعل الإنسان عرضة للخوف ولو كان من أشد الناس إيماناً لأن الجسد ضعيف وإن كان الروح نشيطاً.
فَٱنْزِلْ أَنْتَ وَفُورَةُ غُلاَمُكَ إِلَى ٱلْمَحَلَّةِ متنكرين ومتواريين كإنكما جاسوسان كما تدل القرينة فإن نزول فورة معه يقلل خوفه ويكونان به شاهدين لسائر رجاله بما سمعاه فيتشجعون. و«فورة» اسم الغلام ومعناه غصنٌ و«الغلام» الفتى أو الذي طلع شاربه ويستعار للعبد والأجير ولذلك جاء في بعض الترجمات «أنت وفورة خادمك» والمرجّح أن المراد به هنا حامل سلاح جدعون فإنه كان من عادة القواد أن يكون لهم حامل سلاح (انظر ١أيام ١٠: ٤ و٥).
١١ «وَتَسْمَعُ مَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ، وَبَعْدُ تَتَشَدَّدُ يَدَاكَ وَتَنْزِلُ إِلَى ٱلْمَحَلَّةِ. فَنَزَلَ هُوَ وَفُورَةُ غُلاَمُهُ إِلَى آخِرِ ٱلْمُتَجَهِّزِينَ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْمَحَلَّةِ».
تكوين ٢٤: ١٤ وع ١٣ و١٤ و١٥ و١صموئيل ١٤: ٩ و١٠ خروج ١٣: ١٨
وَتَسْمَعُ مَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ أي وتسمع ما يتكلم به بعض المديانيين أنت وغلامك فورة وهو مما يشجعك ويزيل كل خوف من نفسك ونفوس جنودك ويجعلكم شديدي الثقة بالفوز والنصر.
وَبَعْدُ أي بعد ما تسمع ما يتكلم به المديانيون أي بعضهم.
تَتَشَدَّدُ يَدَاكَ أي تتقويان بعد ضعف (عبرانيين ١١: ٣٤) وقوّة اليد كناية عن الشجاعة والعزم على إمضاء العمل لأن قويّ اليدين يسهل عليه العمل بهما.
وَتَنْزِلُ إِلَى ٱلْمَحَلَّةِ أي أنت وجنودك وإلا فهو يكون قد نزل إلى المحلة وسمع ما سمع فلا داعي إلى أن ينزل وحده أيضاً. وهذا دليل على أن أمر الله له بالنزول في الآية التاسعة كان أمراً له ولجنوده.
إِلَى آخِرِ ٱلْمُتَجَهِّزِينَ وفي العبرانية «ال قصه هخشيم» أي إلى قصا الأخمسة جمع خميس وهو الجيش. وسُمي الجيش بالخميس لأنه خمس فرق المقدمة والقلب والميمنة والميسرة والساقة. والمراد بالقصا هنا الساقة لانها تكون في آخر الجيش ولا يكون الجيش خميساً ما لم يكن مترتباً ومتجهزاً أي متهيأ للحرب بما تقتضيه من الأسلحة وغيرها. ولهذا جاء في بعض الترجمات إلى «آخر الكماة» أو المتسلحين. ولا شك في أنه أمره بالنزول إلى هناك خفية بدليل أنه أمره أن ينزل ليلاً لئلا يُرى (ع ٩).
١٢ «وَكَانَ ٱلْمِدْيَانِيُّونَ وَٱلْعَمَالِقَةُ وَكُلُّ بَنِي ٱلْمَشْرِقِ حَالِّينَ فِي ٱلْوَادِي كَٱلْجَرَادِ فِي ٱلْكَثْرَةِ، وَجِمَالُهُمْ لاَ عَدَدَ لَهَا كَٱلرَّمْلِ ٱلَّذِي عَلَى شَاطِئِ ٱلْبَحْرِ فِي ٱلْكَثْرَةِ».
ص ٦: ٥ و٣٣ و٨: ١٠
وَكَانَ ٱلْمِدْيَانِيُّونَ الخ قابل هذه الآية بما في (ص ٦: ٥ و٣٣ وعدد ٢٢: ٤ و٥ ويشوع ١١: ٤ وراجع التفسير).
١٣ «وَجَاءَ جِدْعُونُ فَإِذَا رَجُلٌ يُخَبِّرُ صَاحِبَهُ بِحُلْمٍ وَيَقُولُ: هُوَذَا قَدْ حَلُمْتُ حُلْماً، وَإِذَا رَغِيفُ خُبْزِ شَعِيرٍ يَتَدَحْرَجُ فِي مَحَلَّةِ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ وَجَاءَ إِلَى ٱلْخَيْمَةِ وَضَرَبَهَا فَسَقَطَتْ، وَقَلَبَهَا إِلَى فَوْقٍ فَسَقَطَتِ ٱلْخَيْمَةُ».
فَإِذَا رَجُلٌ يُخَبِّرُ صَاحِبَهُ بِحُلْمٍ كان الله يُعلن ما يريد إعلانه للناس أو لبعضهم بأربع وسائل الأنبياء والأحلام والأوريم والصوت وسمّى اليهود الرابع «بت قول» أي بنت قول أو بنت صوت ولكنهم لم يعرّفوه تعريفاً يجمع عليه. ورأى بعضهم أنه صدى صوت الله وسُمي ببنت الصوت لأنه يصدر عن الصوت. ورأى بعض المسيحيين أنه الصوت الذي يسمعه الإنسان ولا يُرى قائله لا لحاجز للنظر بل أنه غير مرئي. وقالوا إن الله كثيراً ما أعلن إرادته بالصوت للأنبياء كإبراهيم ومن بعده من الأنبياء.
وكان الله يعلن بعض الأمور بالأحلام سواء أأراها لنبي أو لصالح أو لشرير كما أرى يعقوب ويوسف وساقي فرعون وخبازه وسليمان ونوخذنصر وغيرهم وكان كثيراً ما يقصد بها التشجيع والإنذار والحلم في آية التفسير إنذار للمديانيين وتشجيع للإسرائيليين.
وَإِذَا رَغِيفُ خُبْزِ شَعِيرٍ يَتَدَحْرَجُ أي يدور على محيطه منحدراً من التل إلى الوادي ومعلوم أن جدعون ورجاله كانوا على تل مورة والمديانيين كانوا في الوادي فبالضرورة يحكم بأنه من موضع جدعون. وكان رغيف الشعير إشارة إلى بطش الضعيف بالقوي لأنه لو قال وإذا صخر عظيم يتدحرج وفعل ما فعل كما يأتي لدل على قوة وما كان في الحادث شيء من العجب. وقد علم المديانيون أن أولئك الإسرائيليين جدعون ورجاله على غاية الضعف بالنسبة إلى كثرتهم وعددهم وقوتهم. ومما دل عليه خبز الشعير فقر جدعون ورجاله فإن ذلك الخبز كان خبز الفقراء والبائسين وكان الإسرائيليون يومئذ في حضيض البؤس والمسكنة.
وَجَاءَ إِلَى ٱلْخَيْمَةِ وَضَرَبَهَا «اللام» أما للعهد فيكون المراد خيمة القائد وهو الأرجح وأما للجنس فتكون غير مقصورة على واحدة. والمعنى على هذا أن الرغيف ضرب كل خيمة في سبيله. ورأى يوسيفوس أن اللام للعهد الذهني وإن الخيمة المقصودة هي الخيمة الملكية أي خيمة زبح وصلمناع وقال باحتمال المعنى السابق.
فَسَقَطَتْ، وَقَلَبَهَا إِلَى فَوْقٍ أي جعل أسفلها أعلاها.
فَسَقَطَتِ ٱلْخَيْمَةُ هذه الجملة مؤكدة لما قبلها أي كرر الكلام للتأكيد.
١٤ «فَأَجَابَ صَاحِبُهُ: لَيْسَ ذٰلِكَ إِلاَّ سَيْفَ جِدْعُونَ بْنِ يُوآشَ رَجُلِ إِسْرَائِيلَ. قَدْ دَفَعَ ٱللّٰهُ إِلَى يَدِهِ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ وَكُلَّ ٱلْجَيْشِ».
لَيْسَ ذٰلِكَ أي ذلك الرغيف أو معنى الحلم والأول هو الأرجح لموافقته النص فإن تدحرّج ذلك الرغيف كان إشارة إلى تقلّب سيف جدعون.
سَيْفَ جِدْعُونَ كنى بالسيف عن الانتصار لأنه آلة الحرب والظفر. فترى هنا أن الله أرى أحد الأعداء الحلم وقدر الآخر على تفسيره ليفهم جدعون ما يشجعه ويحمله على تيقُّن انتصاره.
قَدْ دَفَعَ ٱللّٰهُ إِلَى يَدِهِ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ وَكُلَّ ٱلْجَيْشِ أي قوّاه الله على المديانيين وكل جيشهم يتصرف بهم كيف شاء كأنهم شيء في يده. كان المديانيون يعبدون البعل وعشتاروث أو الشمس والقمر ولكنه أراد بالله إله العبرانيين كأنه قال إن إله العبرانيين نصر جدعون ورجاله.
انكسار المديانين ع ١٥ إلى ٢٥
١٥ «وَكَانَ لَمَّا سَمِعَ جِدْعُونُ خَبَرَ ٱلْحُلْمِ وَتَفْسِيرَهُ أَنَّهُ سَجَدَ وَرَجَعَ إِلَى مَحَلَّةِ إِسْرَائِيلَ وَقَالَ: قُومُوا لأَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ دَفَعَ إِلَى يَدِكُمْ جَيْشَ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ».
لَمَّا سَمِعَ جِدْعُونُ خَبَرَ ٱلْحُلْمِ وَتَفْسِيرَهُ أي قصه وبيان معناه. وتفسيره في الأصل العبراني «شبرو» أي كسره مستعار من كسر الجوزة ونحوها لإخراج لبها.
سَجَدَ احتراماً لله وعبادة له وشكراً على تشجيعه إياه بما سمعه من الحلم وتفسيره.
١٦ «وَقَسَمَ ٱلثَّلاَثَ مِئَةِ ٱلرَّجُلِ إِلَى ثَلاَثِ فِرَقٍ، وَجَعَلَ أَبْوَاقاً فِي أَيْدِيهِمْ كُلِّهِمْ، وَجِرَاراً فَارِغَةً وَمَصَابِيحَ فِي وَسَطِ ٱلْجِرَارِ».
قَسَمَ ٱلثَّلاَثَ مِئَةِ أي رجاله الثلاث المئة الذين بقوا معه من الاثنين والثلاثين ألفاً (ع ٣ – ٨) ثلاث فرق كل فرقة مئة (ع ١٩).
أَبْوَاقاً من قرون الكباش (انظر تفسير ع ٨).
وَجِرَاراً فَارِغَةً من أين أتى بهذا الجرار كلها في ذلك المكان والجواب إن الجيش كان أول أمره ٣٢٠٠٠ ألفاً رجع منهم ٣١٧٠٠ فهؤلاء لا يستغنون عن آنية كثيرة للماء فلما رجعوا تركوا جرارهم أو أكثرها في المعسكر.
وَمَصَابِيحَ فِي وَسَطِ ٱلْجِرَارِ الجرار في العبرانية «كديم» أي كدود جمع كدّ والكدّ في العربية ما يدق فيه كالهاون وفسره بعضهم بالبرنية وهو إناء من الخزف يشبه الجرّة ولا يزال بعض العامة يسميه بالبرنية وبعضه يسميه بالزلعة. فهذا الإناء يقي المصباح من أن تُطفئه الريح ويحجب لهبه عن الأبصار. وترجم كثيرون المصابيح بُلُهب المواد المحترقة المكسوة بالزفت كالمعروفة عند العامة بالمشاعل بناء على أن الريح لا تقوى عليها بخلاف المصابيح التي موادها المشتعلة الفتائل والزيت. ولعل هذا هو المراد باللفظة العبرانية «لفاديم» وهي التي تبقى مضيئة إذا كُسرت الجرار الموضوعة هي فيها. وهي يصح أن تسمى بالمصابيح بحسب وضعها اللغوي.
والمقصود من النفخ بالقرون وكسر الجرار دفعة وظهور الأضواء بغتة كما سيأتي إقلاق المديانيين وعربستهم.
١٧ «وَقَالَ لَهُمُ: ٱنْظُرُوا إِلَيَّ وَٱفْعَلُوا كَذٰلِكَ. وَهَا أَنَا آتٍ إِلَى طَرَفِ ٱلْمَحَلَّةِ، فَيَكُونُ كَمَا أَفْعَلُ أَنَّكُمْ هٰكَذَا تَفْعَلُونَ».
ٱنْظُرُوا إِلَيَّ وَٱفْعَلُوا كَذٰلِكَ أي انظروا إليّ وافعلوا كما أفعل. وفي العبرانية «انظروا مني الخ» أي انظروا ما يكون منى وافعلوا مثله. وقال هذا بعدما أوضح لهم كل أجزاء العمل. وفسر هذه العبارة ببقية الآية. ووأتوا ذلك ليلاً (ع ١٩) منفرداً كل منهم عن الآخر ليوهموا الأعداء أنهم كثيرون وأعطاهم علامة ليفعلوا فعله دفعة واحدة لتكون أصوات الأبواق كثيرة والأضواء وافرة للنظر في ظلام الليل وكانت علامة الآخذ في العمل الأخير النفخ بالأبواق والقول على أثر ذلك «للرب ولجدعون» (ع ١٨).
١٨ «وَمَتَى ضَرَبْتُ بِٱلْبُوقِ أَنَا وَكُلُّ ٱلَّذِينَ مَعِي فَٱضْرِبُوا أَنْتُمْ أَيْضاً بِٱلأَبْوَاقِ حَوْلَ كُلِّ ٱلْمَحَلَّةِ، وَقُولُوا: لِلرَّبِّ وَلِجِدْعُونَ».
لِلرَّبِّ وَلِجِدْعُونَ «اللام» متعلقة بنعت لمنعوت محذوف هو فاعل فعل محذوف والتقدير أتاكم أيها المديانيون سيف لله ولجدعون تنبيهاً للأعداء على أن هذا السيف هو الذي فسر به مفسر الحلم رغيف الشعير المتدحرج (ع ١٣ و١٤) ويدل على هذا المعنى إتيانهم ذلك وذكرهم لفظ السيف (ع ٢٠) وعلى ذلك جاء في الترجمتين الكلدانية والسريانية «قولوا سيف للرب ولجدعون».
١٩ «فَجَاءَ جِدْعُونُ وَٱلْمِئَةُ ٱلرَّجُلِ ٱلَّذِينَ مَعَهُ إِلَى طَرَفِ ٱلْمَحَلَّةِ فِي أَوَّلِ ٱلْهَزِيعِ ٱلأَوْسَطِ، وَكَانُوا إِذْ ذَاكَ قَدْ أَقَامُوا ٱلْحُرَّاسَ، فَضَرَبُوا بِٱلأَبْوَاقِ وَكَسَّرُوا ٱلْجِرَارَ ٱلَّتِي بِأَيْدِيهِمْ».
خروج ١٤: ٢٤ و١صموئيل ١١: ١١ ومراثي ٢: ١٩
وَٱلْمِئَةُ (انظر ع ١٦).
فِي أَوَّلِ ٱلْهَزِيعِ ٱلأَوْسَطِ قسم اليهود الليل قديماً إلى ثلاثة أقسام كل قسم أربع ساعات فالهزيع الأوسط القسم الثاني وأوله بدء الساعة الخامسة من الليل ثم اتبعوا الرومانيين في قسمته إلى أربعة أقسام كل ثلاث ساعات. وكان ذلك الوقت وقت النوم فكان الأعداء في مضاجعهم والجدعونيين متهيئون للعمل وهذا مما زاد ارتباك المديانيين.
إِذْ ذَاكَ أي حين جاء جدعون والمئة الذين معه.
قَدْ أَقَامُوا ٱلْحُرَّاسَ أي قد أقام الأعداء الحراس. وتدل لفظة «قد» على اتصال زمن إقامتهم حراسهم بالزمن الحال. ولعل المراد أن جدعون أتى بفرقته المئة والمديانيون يبدلون الحراس وهذا أيضاً مما يزيد ارتباك الأعداء وقلقهم عند النفخ في الأبواق وتكسير الجرار وارتفاع الهتاف وإضاءة المصابيح المتفرقة ليلاً التي توهم كثرة جيش جدعون. والخلاصة أن رجال جدعون كانوا مستعدين تمام الاستعداد للقيام بما أُمروا به والأعداء بين نيام وبين مشتغلين بإقامة الحراس فكانوا عرضة للتشوش والاضطراب لأقل الفواجئ والطوارئ.
فَضَرَبُوا بِٱلأَبْوَاقِ أي نفخوا فيها فضرب الهواء أجوافها فكان المناسب أن يقال فضربوا في الأبواق وهذا يحتمله الأصل العبراني فالباء الداخلة على الأبواق في العبارة العربية بمعنى «في» وهي كثيراً ما تجيء بهذا المعنى في اللغتين العبرانية والعربية.
وَكَسَّرُوا ٱلْجِرَارَ ٱلَّتِي بِأَيْدِيهِمْ لم يبين الكاتب طريق كسرهم الجرار لأن غايته مجرد كسرها وكثرة الطقطقة. ولكن رغبتهم في السرعة والمفاجأة ترجح لنا أن كلاً منهم ضرب بجرته جرة جاره فكُسرت الجرار دفعة بأسرع ما يمكن وأسهل طريق.
٢٠ «فَضَرَبَتِ ٱلْفِرَقُ ٱلثَّلاَثُ بِٱلأَبْوَاقِ وَكَسَّرُوا ٱلْجِرَارَ، وَأَمْسَكُوا ٱلْمَصَابِيحَ بِأَيْدِيهِمِ ٱلْيُسْرَى وَٱلأَبْوَاقَ بِأَيْدِيهِمِ ٱلْيُمْنَى لِيَضْرِبُوا بِهَا، وَصَرَخُوا: سَيْفٌ لِلرَّبِّ وَلِجِدْعُونَ».
فَضَرَبَتِ ٱلْفِرَقُ ٱلثَّلاَثُ بِٱلأَبْوَاقِ هذا تفسير وتفصيل لما في (ع ١٩) وهو أن النفخ بالأبواق كان من الفرق الثلاث في وقت واحد.
وَكَسَّرُوا ٱلْجِرَارَ في وقت واحد.
وَأَمْسَكُوا ٱلْمَصَابِيحَ بِأَيْدِيهِمِ ٱلْيُسْرَى ليتركوا الأيدي اليمنى متفرغة للأبواق لأنها تحتاج إلى إحكام المسك والحركة بخلاف المصابيح.
وَصَرَخُوا: سَيْفٌ لِلرَّبِّ وَلِجِدْعُونَ أي هتفوا بأصوات عالية قائلين هذه العبارة. والسيف إما فاعل لفعل محذوف تقديره «أتى» أو بما هو في معناه أو خبر لمبتدإ محذوف تقديره «هذا» أو الرغيف الذي رآه بعضهم في الحلم وفسره آخر بسيف جدعون. أو مبتدأ لخبر محذوف أي عندنا أو لنا سيف الخ. والمعنى أن ذلك السيف سيف الله قلده جدعون فالمحارب هو الله بواسطة جدعون ورجاله. واختصر الكلام بالحذف لضيق المقام واغتنام فرصة التبليغ بسرعة كما اقتضت الحال.
٢١ «وَوَقَفُوا كُلُّ وَاحِدٍ فِي مَكَانِهِ حَوْلَ ٱلْمَحَلَّةِ. فَرَكَضَ كُلُّ ٱلْجَيْشِ وَصَرَخُوا وَهَرَبُوا».
خروج ١٤: ١٣ و١٤ و٢أيام ٢٠: ١٧
وَوَقَفُوا كُلُّ وَاحِدٍ فِي مَكَانِهِ حَوْلَ ٱلْمَحَلَّةِ أي وقف كل رجل من رجال جدعون في مكانه لم يتحول عنه وهم متفرقون حول المحلة التي هي محلة المديانيين فكان الأعداء يسمعون الأصوات من كل جهة فتوهموا أن جيشاً عظيماً أحاط بهم والذي أوهمهم ما سمعوه من الأبواق الكثيرة وما رأوه من كثرة المصابيح وسعة المكان التي رأوها فيه وكانوا قد نهضوا فجأة من مضاجعهم فلم يدركوا حق الإدراك ولم يبق لهم الخوف وقتاً للتأمل والتدبر وظنوا أن الأعداء وصلوا إليهم وصاروا بينهم.
فَرَكَضَ كُلُّ ٱلْجَيْشِ أي جيش المديانيين.
وَصَرَخُوا وَهَرَبُوا خوفاً من سيف الله وجدعون.
٢٢ «وَضَرَبَ ٱلثَّلاَثُ ٱلْمِئِينَ بِٱلأَبْوَاقِ، وَجَعَلَ ٱلرَّبُّ سَيْفَ كُلِّ وَاحِدٍ بِصَاحِبِهِ وَبِكُلِّ ٱلْجَيْشِ. فَهَرَبَ ٱلْجَيْشُ إِلَى بَيْتِ شِطَّةَ إِلَى صَرَدَةَ حَتَّى إِلَى حَافَةِ آبَلَ مَحُولَةَ إِلَى طَبَّاةَ».
يشوع ٦: ٤ و١٦ و٢٠ و٢كورنثوس ٤: ٧ مزمور ٨٣: ٩ وإشعياء ٩: ٤ و١صموئيل ١٤: ٢٠ و٢أيام ٢٠: ٢٣
وَضَرَبَ ثانية أو استمروا يضربون في الأبواق لتأكيد ما توهمه الأعداء وتمكين الرعب من قلوبهم وزيادته إلى غاية الإمكان.
وَجَعَلَ ٱلرَّبُّ سَيْفَ كُلِّ وَاحِدٍ بِصَاحِبِهِ أي جعل كل واحد من الأعداء يدخل سيفه في صاحبه لتوهمه أنه من الأعداء لقلقهم وعدم تأملهم لما كانوا عليه من الحيرة والخوف المفاجئ ولأن الأضواء البعيدة تعمي ليلاً طريق من يرى أشعتها وتُضعف بصره فلا يميز القريب منه وزد على ذلك إن الله أعمى الأعداء وزادهم تلبالاً وهولاً حتى لم يستطيعوا الاستدلال والانتباه لما يفعلون فجعل الذين عزموا على قتل شعبه يقتل بعضهم بعضاً فكانت سيوفهم سيف الله وجدعون.
إذا كان غير الله في عدة الفتى | أتته الرزايا من وجوه المطالب |
وَبِكُلِّ ٱلْجَيْشِ أي جعل سيف كل واحد من الجيش يدخل في كل من في قربه فاعمل السيف في كل واحد من الجيش (انظر ٢أيام ٢٠: ٢٠ – ٢٣).
فَهَرَبَ ٱلْجَيْشُ إِلَى بَيْتِ شِطَّةَ وفي العبرانية «بيت هشطه» أي بيت السنط. والسنط شجر شوهد حول بحر لوط في غور الأردن في بادية التيه وسيناء وهو ثقيل الخشب صلبه كثير القوة طويل البقاء قلبه أسمر ضارب إلى الحمرة شائك الأغصان ريشي الأوراق صغير الأزهار أبيضها يحمل قروناً وصمغه يُعرف بالصمغ العربي. والظاهر أنها قرية سميت بذلك لكثرة ما فيها وحولها من أشجار السنط وهي في الوادي أو سهل يزرعيل. وفي قاموس الكتاب ربما هي قرية شطة شرقي يزرهيل.
إِلَى صَرَدَةَ هي في سهل أفرايم في غور الأردن. والمظنون أنها هي صرتان وهي مدينة في وادي الأردن. ومعنى صردة مُبرَّد. في العربية الصَّرد البَرد.
إِلَى حَافَةِ آبَلَ مَحُولَةَ قوله «حافة» يدل على أن «آبل محولة» كانت قرب حافة وادٍ. وفي قاموس الكتاب أنها موضع في وادي الأردن بين بحر طبرية وبحر لوط. ورأى أحدهم أنها عين حلوة. وهي موطن أليشع (١ملوك ١٩: ١٦) ورأى كل من أوسابيوس وجيروم إنها جنوبي بيت شان (المعروفة اليوم ببيسان) وعلى غاية عشرة أميال منها ومعنى «آبل محولة» مرج الرقص. ورسم آبل في العبرانية أبل والأبل في العربية الشعب الأخضر.
إِلَى طَبَّاةَ وهي اليوم مجهولة.
٢٣ «فَٱجْتَمَعَ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ مِنْ نَفْتَالِي وَمِنْ أَشِيرَ وَمِنْ كُلِّ مَنَسَّى وَتَبِعُوا ٱلْمِدْيَانِيِّينَ».
فَٱجْتَمَعَ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ مِنْ نَفْتَالِي الخ لا ريب في أن هؤلاء المجتمعين كانوا بعض الذين تركوا معسكر جدعون قبل هذا الانتصار. ولعل الذين تبعوا المديانيين من نفتالي وأشير تبعوهم من الشمال والذين تبعوهم من منسى تبعوهم من الجنوب إلى المخاوض السفلى.
٢٤ «فَأَرْسَلَ جِدْعُونُ رُسُلاً إِلَى كُلِّ جَبَلِ أَفْرَايِمَ قَائِلاً: ٱنْزِلُوا لِلِقَاءِ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ وَخُذُوا مِنْهُمُ ٱلْمِيَاهَ إِلَى بَيْتِ بَارَةَ وَٱلأُرْدُنِّ. فَٱجْتَمَعَ كُلُّ رِجَالِ أَفْرَايِمَ وَأَخَذُوا ٱلْمِيَاهَ إِلَى بَيْتِ بَارَةَ وَٱلأُرْدُنِّ».
ص ٣: ٢٧ ص ٣: ٢٨ يوحنا ١: ٢٨
فَأَرْسَلَ جِدْعُونُ رُسُلاً إِلَى كُلِّ جَبَلِ أَفْرَايِمَ أي إلى كل أرض أفرايم الجبلية فليس المراد بالجبل جبل بعينه ولكن سُميت أرض أفرايم بالجبل لأنها كثيرة الجبال أو لأنها أرض جبلية (انظر تفسير ص ٣: ٢٧). وكان رجال أفرايم أشداء البأس ومن نخبة الأبطال. ولهذا لم يجسر أن يدعوهم جدعون قبل هذه النصرة لأن الله أراد أن يغلب الكثيرين بالقليلين والأقوياء بالضعفاء إلى قوتهم فيتحققوا ضعفهم وشدة افتقارهم إلى الرب (انظر ع ٢ والتفسير).
خُذُوا مِنْهُمُ ٱلْمِيَاهَ إِلَى بَيْتِ بَارَةَ وَٱلأُرْدُنِّ الخ أي استولوا على المخاوض من المياه التي في سبيل المديانيين إلى مخاوض بيت بارة والأردن. ويُظن أن مخاضة بيت بارة في الشمال الشرقي من مدينة أورشليم وعلى غاية ثلاثين ميلاً منها والغاية من أخذ المياه أن يمنعوهم من الهرب.
وبقي هنا أن بعض المفسرين رأى إن بيت بارة هي بيت عبرة لأن معناها بيت المخاضة والصحيح أن بيت عبرة غيرها وأبعد منها إلى الجنوب. ومعنى بيت بارة بيت البور أي الأرض الخراب التي لم تُزرع ولم تُعمر. وإن بعضهم رأى أن المياه قبل بيت بارة والأردن المستنقعات المتجمعة من سيول جبل أفرايم أو تلاله. وترجم بعضهم الآية بقوله «اشغلوا كل المخاوض التي في الطريق إلى أن تصلوا إلى بيت بارة ولا سيما مخاوض الأردن». وأتى الإسرائيليون مثل هذا في حرب الموآبيين (انظر ص ٣: ٢٨).
٢٥ «وَأَمْسَكُوا أَمِيرَيِ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ غُرَاباً وَذِئْباً، وَقَتَلُوا غُرَاباً عَلَى صَخْرَةِ غُرَابٍ، وَأَمَّا ذِئْبٌ فَقَتَلُوهُ فِي مِعْصَرَةِ ذِئْبٍ. وَتَبِعُوا ٱلْمِدْيَانِيِّينَ وَأَتَوْا بِرَأْسَيْ غُرَابٍ وَذِئْبٍ إِلَى جِدْعُونَ مِنْ عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ».
ص ٨: ٣ ومزمور ٨٣: ١١ إشعياء ١٠: ٢٦ ص ٨: ٤
وَأَمْسَكُوا أَمِيرَيِ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ أي قائدَيهم الأكبرين.
غُرَاباً وَذِئْباً وفي العبرانية «عورب وزيب» ومعناهما غراب وذئب والتسمية باسم الطيور والوحوش كثيرة في كل لغة ولا يزال السوريون ولا سيما أهل القرى منهم يسمون بذئب ونمر وأسد وسبع وفهد وسقر وشاهين وباز إلى هذا اليوم.
وَقَتَلُوا غُرَاباً عَلَى صَخْرَةِ غُرَابٍ الظاهر أنه اختبأ في كهف تحت صخرة أو بين الصخرة فأخرجوه منه وقتلوه على صخرة فسموها لذلك صخرة غراب وكانت معروفة عند كتابته هذا السفر. وهذا يدل أنه كُتب بعد هذه الحادثة وانتشار نبأها.
وَأَمَّا ذِئْبٌ فَقَتَلُوهُ فِي مِعْصَرَةِ ذِئْبٍ والظاهر أن هذا اختبأ في معصرة فدخلوها وقتلوه فيها وسموها معصرة ذئب. ويقال في كتابة هذا السفر ما قيل في تفسير العبارة السابقة.
وَتَبِعُوا ٱلْمِدْيَانِيِّينَ لأنه لم يبق من خوف منهم لأنهم قلّوا بأن قتل بعضهم بعضاً وتشتت الباقون خوفاً وربما ألقوا سلاحهم في الطريق لئلا يعيقهم عن الجري وسرعة الهرب.
وَأَتَوْا بِرَأْسَيْ غُرَابٍ وَذِئْبٍ إِلَى جِدْعُونَ مِنْ عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ تحقيقاً قتلهم إياهما وإبهاجاً لجدعون وتنكيلاً بهما. ومثل هذا لا يزال بين عرب البادية وغيرهم وجاء نبأ مثله في الكتاب. فداود قطع رأس جليات ولعله قصد أن يذهب به إلى شاول والفلسطينيون قطعوا رأس شاول وأرسلوه إلى بلادهم. ولكن الديانة المسيحية أزالت هذا لأن ذلك مغاير التمدن كل المغايرة.
فوائد
- يجب أن لا ننظر إلى الكثيرين لنتحد معهم بل إلى الحق لنتحد مع الرب (ع ٢).
- إن الله يمتحن الناس بوضعه أمامهم صعوبات لكي يظهر إيمانهم وثباتهم (ع ٣ – ٧).
- إن الله يفضل القليلين وهم أقوياء في الإيمان على الكثيرين وهم خائفون.
- قد تكون أعمال الناس الزهيدة دليلاً على ما فيهم من السجايا (ع ٧).
- إنه يجب النظر إلى قوة العدو لكي نستعد لمقاومته ومعرفة مبادئه الباطلة لكي تُظهر بطلها (ع ٩).
- يجب على عبيد الرب الطاعة له وللذين اختارهم مرشدين لهم (ع ١٧).
- لا نجاح بلا ثقة والثقة أولاً بالله ثم بنفوسنا لكوننا خدامه (ع ١٨).
- يجب استخدام حكمتنا واستعمال الوسائل البشرية وإن كانت النصرة من الرب (ع ١٦ – ١٨).
- إن الأشرار جبناء وإن كانوا كثيرين (ع ٢١).
-
ليس للأشرار اتحاد حقيقي بعضهم مع بعض (ع ٢٢).
السابق |
التالي |