سفر القضاة

سفر القضاة | 04 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر القضاة

للقس . وليم مارش

اَلأَصْحَاحُ ٱلرَّابِعُ

مضايقة يابين للإسرائيليين وانتصار باراق عليه

وبسط ذلك ارتداد بني إسرائيل ومضايقة يابين (ع ١ – ٣). ودبورة النبية (ع ٤ و٥). ودعوتها باراق لإنقاذ بني إسرائيل (ع ٦ – ٩). وجيش باراق (ع ١٠). وحابر القيني (ع ١١). وجمع سيسرا الجنود (ع ١٢ و١٣). وانكسارهم (ع ١٤ – ١٦). وهرب سيسرا (ع ١٧). وقتل باعيل إياه (ع ١٨ – ٢٢). والنصر التام (ع ٢٣ و٢٤).

١ «وَعَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَعْمَلُونَ ٱلشَّرَّ فِي عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ بَعْدَ مَوْتِ إِهُود».

ص ٢: ١٩

وَعَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَعْمَلُونَ ٱلشَّرَّ فِي عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ تكرر ذلك كثيراً فدل على فساد قلوبهم الشديد بمخالطة الوثنيين (انظر ص ٢: ١١ و١٧ و٣: ٥ – ٧ و١٢ وص ٦: ١ و٨: ٣٣ و١٠: ٦ و٧ و١٣: ١ ومزمور ٧٨: ٥٧).

بَعْدَ مَوْتِ إِهُودَ هذا يصح أن يُستدل به على أن شمجر حارب وأهود حيٌّ.

٢ «فَبَاعَهُمُ ٱلرَّبُّ بِيَدِ يَابِينَ مَلِكِ كَنْعَانَ ٱلَّذِي مَلَكَ فِي حَاصُورَ. وَرَئِيسُ جَيْشِهِ سِيسَرَا. وَهُوَ سَاكِنٌ فِي حَرُوشَةِ ٱلأُمَمِ».

ص ٢: ١٤ يشوع ١١: ١ و١٠ و١٩: ٣٦ و١صموئيل ١٢: ٩ ومزمور ٨٣: ٩ ع ١٣ و١٦

بَاعَهُمُ (انظر تفسير ص ٢: ١٤).

يَابِينَ معناه حكيم أو نبيه وهو لقب أو اسم لكل ملك من ملوك حاصور كفرعون لكل من ملوك مصر (انظر يشوع ١١: ١).

مَلِكِ كَنْعَانَ أي ملك أمة كبيرة من الكنعانيين فكان كأنه ملك الجميع. ففي (يشوع ١١: ١) أنه أرسل رسائل إلى سائر ملوك كنعان كأنه رأسهم.

مَلَكَ فِي حَاصُورَ أي كانت حاصور عاصمة ملكه ودُعي ملك حاصور (يشوع ١١: ١) وكانت حاصور في أرض نفتالي (يشوع ١٩: ٣٢ – ٣٦). وكانت تشرف على مياه ميروم وعلى ما قال يوسيفوس. وقد عُرف من كتابات رعمسيس الثاني أحد ملوك مصر الأقدمين أنها كانت مدينة عظيمة في العصور الخالية. ولأنها كانت ذات شأن حصنها سليمان (١ملوك ٩: ١٥). وفي أيام فقح ملك إسرائيل سبى تغلث فلاسر أهلها إلى أشور (٢ملوك ١٥: ٢٩). وآخر كتاب ذُكرت فيه سفر المكابيين الأول (١مكا ٩: ٢٧). وقد اكتشف سلسي أطلالاً قديمة من كبار الأطلال شمالي ميروم هي أطلال حاصور.

قال يوسيفوس في كلامه على حرب حاصور كعادته في المبالغة أن مشاة الكنعانيين كانوا ٣٠٠٠٠٠ وفرسانهم ١٠٠٠٠ ومركباتهم ٣٠٠٠.

قال بعضهم إن معنى حاصور محاط أي مُسوّر فكانت بمنزلة معقل أو حصن. وإن الباحثين وقفوا على أطلالها وإن يشوع ويوسيفوس اتفقا على أن موقعها قرب بحيرة ميروم المعروفة اليوم ببحيرة الحولة (يشوع ١١: ١ – ٥). وفي قاموس الكتاب رأى بعضهم أنها ما تُعرف اليوم بتل الخريبة. ورأى آخر أنها ما يُعرف بحضيرة. وآخر أنها خربة صرّة.

رَئِيسُ جَيْشِهِ سِيسَرَا يراد برئيس الجيش رئيس قوّاد الجيش لا مجرد القائد. وسيسرا اسم سمّى اليهود به (عزرا ٢: ٥٣) وهو سلف قديم لبعض النثينيم وهم خدَمة صغار من اللاويين (عزرا ٢: ٤٣ – ٥٣) وهم كنعانيون أصلاً فتهودوا (٢صموئيل ٢١: ٢ وعزرا ٢: ٤٣ و١أيام ٩: ٢). وادعى عدة من ربانيي اليهود أنهم من نسل سيسرا ومنهم الرباني أكيوا أو أكيبا الذي قُتل أو مات في عصيان بركوكب في ملك هدر بان فهذا قال أنه من أبٍ من نسل سيسرا وأم يهودية.

حَرُوشَةِ ٱلأُمَمِ أي لفيف الأمم أو خليطهم والحرش في العربية الجماعة ولعلها الحباشة. وفي قاموس الكتاب «حروشة الأمم اسم مكان في شمالي فلسطين سُمي بهذا الاسم نظراً لاختلاف أجناس سكانه». وقال بعض المفسرين «معنى حروشة الأمم لفيف من أمم مختلفة اختلطت فصارت كأنها أمة واحدة ونشأت مملكة مستقلة». وموقع حروشة الأمم مجهول لكن رأى الدكتور طمسن أنها كانت في الممر بين سهل يزرعيل وعكا عند سفح جبل الكرمل حيث يجري نهر قيشون المعروف اليوم بالمقطّع (ع ١٣). وظنّ كُندر أنها الحارثية وهي قرية صغيرة غربي الناصرة وعلى غاية ١١ ميلاً منها.

٣ «فَصَرَخَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى ٱلرَّبِّ، لأَنَّهُ كَانَ لَهُ تِسْعُ مِئَةِ مَرْكَبَةٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَهُوَ ضَايَقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِشِدَّةٍ، عِشْرِينَ سَنَةً».

ص ١: ١٩ ص ٥: ٨ ومزمور ١٠٦: ٤٢

صَرَخَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى ٱلرَّبِّ كعادتهم عند البلاء (انظر ص ٣: ٩ و١٥ ومزمور ١٠٧: ١٣).

لَهُ تِسْعُ مِئَةِ مَرْكَبَةٍ مِنْ حَدِيدٍ قال يوسيفوس كان له ٣٠٠٠ مركبة فإن صحّ قوله كان غير التسع المئة منها ليست بمركبات من حديد (انظر ص ١: ١٩ ويشوع ١٧: ١٦). ويجب أن يُعلم أن تلك المركبات لم تكن من الحديد الخالص المُصمَت ولعلها كانت مغشاة بالحديد كالسفن المدرّعة اليوم. وقد تقدّم الكلام على هذه المركبات في تفسير ص ١: ١٩).

ضَايَقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِشِدَّةٍ، عِشْرِينَ سَنَةً كان الإسرائيليون لمعاصيهم ينهضون من هاوية بلاء فيقعون في أخرى أعمق منها فإنهم عبدوا كوشان رشعتايم ثماني سنين (ص ٣: ٨) وملك عجلون ثماني عشرة سنة (ص ٣: ١٤) وهنا استعبدهم يابين وشدّد مضايقتهم. وأخيراً استعبدتهم الأمم منذ دهور إلى هذه الساعة واحتملوا آلاماً وقاسوا أتعاباً شديدة واضطُهدوا اضطهاداً ما عليه مزيد كما أنبأهم موسى بإنذاره في مواضع لا سيما سفر التثنية (تثنية ٢٨: ١٥ – ٦٨) غير أنه كان بين مدّات المضايقة مدّات راحة. فكان بين كوشان رشعتايم وعجلون راحة ٤٠ سنة (ص ٣: ١١) وبين عجلون ويابين راحة ٨٠ سنة (ص ٣: ٣٠).

٤ «وَدَبُورَةُ ٱمْرَأَةٌ نَبِيَّةٌ زَوْجَةُ لَفِيدُوتَ، هِيَ قَاضِيَةُ إِسْرَائِيلَ فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ».

دَبُورَةُ معنى هذا الاسم نحلة بالحاء المهملة لا بالخاء المعجمة كما وقع في قاموس الكتاب سهواً وأوهم تأكيده ذلك أنها كانت تجلس تحت نخلة تُعرف باسمها والصواب أنها تُنسب إلى اسمها وهي «نخلة دبورة» (ع ٥). وكان اليهود كثيراً ما يسمون نساءهم بأسماء الحيوانات والنباتات والمواد الطبيعية كراحيل (ورسمها في العبراني (رَحِل) كرَخِل في العربية وهي الأنثى من أولاد الضأن. وفسرها صاحب قاموس الكتاب بالشاة وهي الواحدة من الغنم للذكر والأنثى. وتامار (ورسمها في العبرانية تمر) أي تمر أو تمرة أو نخلة وجاءت في الترجمة العربية ثامار بالثاء (تكوين ٣٨: ٦). قال بعضهم وربما كانت دبورة أي نحلة لقباً لها باعتبار أنها نبية كما كانت كاهنات دلفي تلقب بالنحلات. ولقد أجاد بعضهم بقوله «لُقبت بالنحلة لأنها كانت حمةً للأعداء وعسلاً للأصدقاء».

ٱمْرَأَةٌ نَبِيَّةٌ كمريم أخت هارون (خروج ١٥: ٢٠). وخلدة امرأة شلوم (٢ملوك ٢٢: ١٤). ونوعدية (نحميا ٦: ١٤). وحنة بنت فنوئيل (لوقا ٢: ٣٦). وهي المرأة الوحيدة بين قضاة إسرائيل وإليها وحدها من أولئك القضاة نُسبت النبوءة. قال أحد المفسرين إنها كانت تشبه مريم أخت هارون في كونها كانت قاضية وإن مريم لم تكن إلا من أيّمة الحمد ودبورة أنها كانت قائدة حرب ورئيسة بإلهام. وتختلف عن خلدة في أن خلدة كان ميلها كاهنياً وكانت مقيمة في مدرسة الهيكل المقدس وكان كلامها في التوبة والخشوع. وإن دبورة كانت تتغنى بأغنية المجد والنصر قدّام الرجال والنبي له معان في الكتاب منها الأول من يبلّغ الناس أقوال الله ويبينها لهم بمساعدته تعالى (خروج ٧: ١ و١كورنثوس ١٤: ١ الخ). والثاني من ينبئ بالآتيات كإشعياء ودانيال وغيرهم من كتبة الأسفار المقدسة.

زَوْجَةُ لَفِيدُوتَ معنى «لفيدوت» مصابيح أو سُرج أو مشاعل أو الهاب أي ألسنة النار أو أبهّات جمال وجلال. وفسر راسي العبارة بامرأة مصابيح وقال دُعيت «امرأة مصابيح» لأنها كانت تصنع الفتائل لسُرُج القدس. وترجم آخرون العبارة بقوله «امرأة مواهب مضيئة وروح نشيطة نارية» أي كأنها نار وهذا موافق لما في (إشعياء ٦٢: ١). وبعض الربانيين رأى أنها زوجة باراق إذ معناه بُرق أو بارق وذُكرت معه (ص ٥: ١) والأرجح أن لفيدوت اسم زوجها كما يظهر في الترجمة العربية. ولم يتحقق أمن سبط أفرايم هي أم من سبط يساكر (ع ٥ وص ٥: ١٥).

هِيَ قَاضِيَةُ إِسْرَائِيلَ فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ إنها مع اهتمامها بإنقاذ إسرائيل من الأعداء ومحاربة المستعبدين والانتصار عليهم كانت تنظر في دعاوي الشعب وتبث الخصام بين المتخاصمين فعل القضاة وتجري الأحكام الشرعية كما يظهر من الآية التالية (انظر ع ٥ وتفسير ص ٢: ١٦).

٥ «وَهِيَ جَالِسَةٌ تَحْتَ نَخْلَةِ دَبُورَةَ بَيْنَ ٱلرَّامَةِ وَبَيْتِ إِيلَ فِي جَبَلِ أَفْرَايِمَ. وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَصْعَدُونَ إِلَيْهَا لِلْقَضَاءِ».

إشعياء ٢٨: ٦ تكوين ٣٥: ٨

وَهِيَ جَالِسَةٌ تَحْتَ نَخْلَةِ دَبُورَةَ جاءت هذه الآية وما قبلها في بعض الترجمات الأوربية «ودبورة نبية زوجة لفيدوت قضت لإسرائيل في ذلك الوقت وهي سكنت تحت نخلة دبورة بين الرامة وبيت إيل في جبل أفرايم وبنو إسرائيل صعدوا إليها للقضاء». وهذا يفيد أن مسكنها ومجلس قضائها أي محكمتها تحت تلك النخلة. وهذا المعنى يستلزمه جلوسها تحت تلك النخلة فالمعنى أنها كانت قاضية إسرائيل وهي في مجلسها تحت النخلة المنسوبة إليها لأنه لو لم يكن مسكنها ومجلس قضائها هناك ما كان من داعٍ لجلوسها تحت تلك النخلة ولا إشارة إلى سبب لذلك في الكتاب. والعبارة تدل على الاستمرار ولعل هذا علة نسبة النخلة إليها. على أن الجلوس كثيراً ما جاء كناية عن المُقام أي محل الإقامة وكان بعض المشهورين من الرؤساء والحكام يسكنون قرب الأشجار. فكان مسكن إبراهيم عند بلوطات ممرا (تكوين ١٣: ١٨ و١٤: ١٣) وفي بعض الترجمات تحت بلوطة ممرا. وكان مسكن شاول تحت الرمانة التي في مغرون (١صموئيل ١٤: ٢).

بَيْنَ ٱلرَّامَةِ وَبَيْتِ إِيلَ هاتان المدينتان على التخم بين بنيامين وأفرايم (انظر يشوع ١٨: ٢٥ و١٦: ٢). والرامة على تلّ مستدير شرقي جبعون وعلى غاية خمسة أميال منها. وعلى مقربة منها شمالاً وادٍ عميق بينها وبين بيت إيل فيه نخلة دبورة ومدفن مرضعة رفقة على ما قال ترسترام (انظر تكوين ٣٥: ٨).

كان اسم مرضعة رفقة دبورة لكن النخلة نُسبت إلى دبورة النبية لا إليها لأن مجلس النبية كان تحتها ومدفن دبورة المرضعة كان تحت بلوطة لا نخلة. وسُميت تلك البلوطة «ألّون باكوت» أي بلوطة البكاء. و«بيت إيل» مرّ الكلام عليها في تفسير (ص ١: ٢٢).

جَبَلِ أَفْرَايِمَ أي أرض أفرايم الجبلية وهي أحصن أرض في فلسطين وأكثرها أمناً (انظر تفسير ص ٣: ٢٧). وجاء في الكلدانية ما معناه أن دبورة النبية كانت ساكنة في عطاروت (يشوع ١٦: ٢) ولها وسائل الاستقلال ونخل في أريحا وبساتين في الرامة وزيتون في الوادي وسقي في بيت إيل وصلصال أبيض في جبل الملك (والكلدانية مزيج من المتن والتفسير).

وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَصْعَدُونَ إِلَيْهَا في العبرانية والعربية يعبّرون عن الذهاب إلى مقام الأعلين في القدر بالصعود ولو كان في بطن أعمق الأودية. ومعنى الصعود في الآية هنا الذهاب إلى دبورة الرفيعة القدر والشأن (انظر عدد ١٦: ١٢ وتثنية ٢٥: ٧) فلا ينافي ذلك أن النخلة التي كانت تجلس تحتها للقضاء في غور أو وادٍ. وإن كانت في نجدٍ وافق الصعود إليها حقيقة ومجازاً.

٦ «فَأَرْسَلَتْ وَدَعَتْ بَارَاقَ بْنَ أَبِينُوعَمَ مِنْ قَادِشِ نَفْتَالِي، وَقَالَتْ لَهُ: أَلَمْ يَأْمُرِ ٱلرَّبُّ إِلٰهُ إِسْرَائِيلَ: اِذْهَبْ وَٱزْحَفْ إِلَى جَبَلِ تَابُورَ، وَخُذْ مَعَكَ عَشَرَةَ آلاَفِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي نَفْتَالِي وَمِنْ بَنِي زَبُولُونَ».

عبرانيين ١١: ٣٢ يشوع ١٩: ٣٧

بَارَاقَ معنى هذا الاسم برق أو بارق فهو يقرب من معنى لفيدوت (ع ٤) ولذلك رأى بعض الربانيين أن دبورة امرأة باراق (انظر تفسير ع ٤). ولعله لُقب بذلك لنشاطه وسرعته في الحرب وسائر الأعمال ذات الشأن. فإن الإسرائيليين كثيراً ما كانوا يسمون الإنسان بما يدل على شيء من أمره.

أَبِينُوعَمَ معناه أبو نعيم أو أبو أُنس.

قَادِشِ نَفْتَالِي أُضيفت قادش إلى نفتالي لأنها كانت مدينة حصينة لهذا السبط ولتمييزها عن قادشين أُخريين إحداهما في أرض يساكر والآخرى في أرض يهوذا (يشوع ١٢: ٢٢ و١أيام ٦: ٧٢ وعدد ٢٠: ١٦). وهي اليوم قرية اسمها قادس وهي في الشمال الغربي منها وهي على قنة قُفّ أي أكمة صخرية تشرف على مرج عيون والحولة وحولها كثير من الأطلال ورموس وتوابيت حجرية قديمة محكمة الصنع موضوعة على قواعد من المرمر. وجدران بعض الأطلال لم تزل كاملة. ورسم قادش في العبرانية قدش ومعناها قدس أو مدينة مقدسة. وكانت مدينة ملجإ للاويين (يشوع ٢٠: ٧ و٢١: ٣٢). وهذه العبارة وما ذكر في أول الآية دليل على أن باراق من سبط نفتالي.

أَلَمْ يَأْمُرِ ٱلرَّبُّ إِلٰهُ إِسْرَائِيلَ الاستفهام هنا إنكاري أُريد منه إثبات أن الرب أمر. ولم يتبين من سياق الحديث مَن المأمور ولكن العقل يدل على اثنين إما إسرائيل لأنه أُمر بمحاربة الأمم وطردهم من كنعان وإما هي نفسها لأنها كانت نبية وقائدة الجنود. وفي بعض الترجمات ما يفيد أن المأمور باراق إذ فيها «أما أمر الرب قائلاً اذهب الخ» ولكن لفظة «قائلاً» ليست في الأصل فزيدت لهذا البيان.

اِذْهَبْ وَٱزْحَفْ أي وامش بجيش وافر. ففي بعض كتب اللغة العربية الزحف مصدر (زحف أي مضى قليلاً فقليلاً) والجيش يزحف إلى العدوّ تسمية بالمصدر لأنه لكثرته وثقل حركته كأنه يزحف زحفاً.

جَبَلِ تَابُورَ هو جبل في الجليل اسمه اليوم جبل الطور يشرف على سهل يزرعيل وهو مرج ابن عامر محيطه نحو ميل وعلوه ١٣٧٥ قدماً فوق السهل و١٨٤٣ قدماً فوق سطح البحر وهو منفرد عن الجبال ومستدير كهيئة الثدي. وكان صالحاً لأمرين الحراسة والتحصن. وكان في أرض يساكر وهو في الجنوب الشرقي من الناصرة وعلى غاية ستة أميال منها. وكان يحسب أنه جبل التجلي ولكن المحققين نفوا ذلك وأثبتوا أن جبل التجلي حرمون المعروف اليوم بجبل الشيخ.

عَشَرَةَ آلاَفِ رَجُلٍ وهذا جيش كبير يضطر أن يكون مشية زحفاً كما ذُكر في تفسير الجزء الثاني من هذه الآية.

مِنْ بَنِي نَفْتَالِي وَمِنْ بَنِي زَبُولُونَ هما سبطان في الشمال فلا بد أنهما كانا في شديد الألم من ظلم يابين وإنهما كانا يميلان كل الميل إلى محاربته. والذي يتبين لنا من الكتاب أنه كان على حدود جبل تابور ثلاثة أسباط زبولون ويساكر ونفتالي (يشوع ١٩: ١٢ و٢٢ و٣٤) فذكر هنا الاثنان الأول والآخر دون الثاني. ولكن ظهر لنا من (ص ٥: ١٥) أنه كان في تلك الحرب الرؤساء من يساكر فالظاهر أنهم تطوعوا للمساعدة. على أن حروب إسرائيل في زمان القضاة لم تكن إلا محلية ينهض فيها المظلوم للحرب وسائر الشعب لا يتلفت إليه إلا ما ندر فغيرة إسرائيل القديمة خمدت يومئذ. قال بعض المفسرين وكان غير رؤساء يساكر في تلك الحرب من أفرايم وبنيامين ومنسى كما يظهر من (ص ٥: ١٤ – ٢٣) يساعدون رجال زبولون ونفتالي ولكنهم قليلون بالنسبة إلى ذينك السبطين ولأن ذينك السبطين في أشد الإيلام من أعدائهم لأنهما كانا الأقربين فأعرض الكاتب هنا عن ذكر المساعدين. ولا ريب في أن باراق إذ كان من سبط نفتالي كان أخبر من غيره بأبطالهم فلا بد من أنه اختار أكثر جيشه أو قواده من أبطالهم المجرّبين.

٧ «فَأَجْذِبَ إِلَيْكَ إِلَى نَهْرِ قِيشُونَ سِيسَرَا رَئِيسَ جَيْشِ يَابِينَ بِمَرْكَبَاتِهِ وَجُمْهُورِهِ وَأَدْفَعَهُ لِيَدِكَ؟».

خروج ١٤: ٤ ص ٥: ٢١ و١ملوك ١٨: ٤٠ ومزمور ٨٣: ٩ و١٠

فَأَجْذِبَ إِلَيْكَ بطريق من طرق قدرته وعنايته كما فعل غير مرة (انظر خروج ١٤: ٤).

نَهْرِ قِيشُونَ وفي العبرانية «نهل قيشون» ومعناه مسيل أو وادي وهو موافق لنهر قيشون لأنه في وادي يزرعيل (أي مرج ابن عامر) منبعه قرب حضيض جبل تابور المعروف اليوم بجبل الطور يجري إلى الغرب في منحنيات كثيرة في مرج ابن عامر ثم يصب في البحر المتوسط تحت جبل الكرمل بين حيفا وعكا ويُسمى اليوم المقطّع وجريانه في تلك المنحنيات يوافق معنى قيشون أي منحنِ.

قال أحد المسافرين رأيت ينابيع قيشون ثلاثة أو أربعة متجاورة في مسافة لا تزيد على ثُمن ميل يسمونها هنالك رأس القيشون أي منبعه أو مخرجه وهذا استعمال شائع بين العامة لمخارج الأنهر وأول الينابيع التي تجري منها ويسمون واحدها رأس النبع. وهذا الاستعمال قديم عند المتكلمين في العربية كرأس العين في سورية وغيرها. وهذه التسمية المحفوظة إلى اليوم تحقق أن المقطع هو نهر قيشون القديم. وسهل يزرعيل المشهور اليوم بمرج ابن عامر الذي يجري فيه كان في كل العصور حومة القتال في فلسطين.

سِيسَرَا رَئِيسَ جَيْشِ يَابِينَ (انظر تفسير ع ٢).

بِمَرْكَبَاتِهِ وَجُمْهُورِهِ (انظر ع ١٣ والتفسير).

٨ «فَقَالَ لَهَا بَارَاقُ: إِنْ ذَهَبْتِ مَعِي أَذْهَبْ، وَإِنْ لَمْ تَذْهَبِي مَعِي فَلاَ أَذْهَبُ».

إِنْ ذَهَبْتِ مَعِي أَذْهَبْ هذا يدل على أن الحرب كانت مخيفة فرأى باراق أن ذهاب النبية معه من أحسن وسائل التشجيع له ولجنوده لثقته أن الله مع نبيته فإن كانت معهم كان معهم. إن هذا يدل على أن باراق لم يكن شجاعاً كجدعون وإن عُدّ معه ومع شمشون ويفتاح وداود وهذا أوضح بيان أن النصر كان فعل الله وإنه كان له بواسطة الإيمان وإن كان ضعيفاً لأن النبية أنبأته بأنه ينتصر فتقوّى من ضعف (عبرانيين ١١: ٣٢ – ٣٤).

٩ «فَقَالَتْ: إِنِّي أَذْهَبُ مَعَكَ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ لَكَ فَخْرٌ فِي ٱلطَّرِيقِ ٱلَّتِي أَنْتَ سَائِرٌ فِيهَا. لأَنَّ ٱلرَّبَّ يَبِيعُ سِيسَرَا بِيَدِ ٱمْرَأَةٍ. فَقَامَتْ دَبُورَةُ وَذَهَبَتْ مَعَ بَارَاقَ إِلَى قَادِشَ».

ص ٢: ١٤

أَذْهَبُ مَعَكَ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ لَكَ فَخْرٌ أي النصر لا بد منه فإن ذهبت أنا وإني ذاهبة لا يُنسب إليك فلا تُمجد به.

لأَنَّ ٱلرَّبَّ يَبِيعُ سِيسَرَا (انظر تفسير ص ٢: ١٤).

بِيَدِ ٱمْرَأَةٍ لا بطل من أبطال الرجال فلا يبقى لك شيء من الشرف والمدح. ومعلوم أن المرأة مشهورة بالضعف وكانت في منزلة سافلة عند أكثر أهل الشرق ولا تزال كذلك في أكثر البلاد الشرقية. فكيف تكون نفسك يا باراق إذا نُسب هذا الفخر إلى امرأة ضعيفة وحُرمته أنت ولا يخفى ما في هذا الكلام من التوبيخ على أسلوب لطيف. وقال بعضهم أن دبورة لم تعنِ بالمرأة نفسها بل غيرها ولعل باراق ظن أنها عنت نفسها فلم يصعب عليه الأمر لأنها نبية وأما هي فأرادت ياعيل امرأة حابر القيني (ع ١٧ – ٢١).

١٠ «وَدَعَا بَارَاقُ زَبُولُونَ وَنَفْتَالِيَ إِلَى قَادِشَ، وَصَعِدَ وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلاَفِ رَجُلٍ. وَصَعِدَتْ دَبُورَةُ مَعَهُ».

ص ٥: ١٨ و١ملوك ٢٠: ١٠

دَعَا بَارَاقُ إلى الحرب (٢صموئيل ٢٠: ٤ و٥).

زَبُولُونَ وَنَفْتَالِيَ أي القوّاد وهو والقوّاد اختاروا الجنود.

وَصَعِدَ وَمَعَهُ وفي الأصل العبراني «وعند رجليه» واختلف المفسرون بمعناه فرأى بعضهم أنه ماش على رجليه وعنى بذلك أن جيشه كانوا مشاة لا فرساناً. والذي يصح بمقتضى بيان اللغتين العبرانية والعربية أن كون الجنود عند رجليه كناية عن كونهم تابعين له ومقتفين طريق قدميه أو إنهم ذاهبون وراءه حيث انتقلت رجلاه إذ كان قائدهم وهذا يؤيده قوله «فَنَزَلَ بَارَاقُ مِنْ جَبَلِ تَابُورَ وَوَرَاءَهُ عَشَرَةُ آلاَفِ رَجُلٍ» (ع ١٤). وكان صعوده إلى جبل تابور (ع ١٢) وهو المعروف بالطور كما ذُكر في تفسير (ع ٦).

وَصَعِدَتْ دَبُورَةُ مَعَهُ قال أحد المفسرين إن هذه الحادثة بُني تذكاراً لها قرية عند حضيض جبل تابور اسمها دبورة مع حفظ تذكارها في الكتاب. وهل «صعدت دبورة معه» ماشية وهل مشت وراءه أو أمامه ذلك لم يُبين والأرجح أنها سارت أمامه لتشجعه وتشجع الجيش كله.

١١ «وَحَابِرُ ٱلْقِينِيُّ ٱنْفَرَدَ مِنْ قَايِنَ مِنْ بَنِي حُوبَابَ حَمِي مُوسَى وَخَيَّمَ حَتَّى إِلَى بَلُّوطَةٍ فِي صَعْنَايِمَ ٱلَّتِي عِنْدَ قَادِشَ».

ص ١: ١٦ عدد ٢٤: ٢١ و٢٢ عدد ١٠: ٢٩ يشوع ١٩: ٣٣ ع ٦

حَابِرُ ٱلْقِينِيُّ (انظر ص ١: ١٦) ونبأ حابر القيني هنا كلام معترض أُتي به تمهيداً للكلام على ياعيل امرأته ودفعاً لإياهم الاختلاف بين قوله قبلاً «بنو القيني… صعدوا من مدينة النخل مع بني يهوذا إلى برية يهوذا» وقوله في ياعيل ما يلزم منه أنها كانت وهي قينية في أرض نفتالي فأبان في نبإ حابر علة وجودها هناك وهو انفراد حابر عن إخوته كما يأتي. ومعنى «حابر» محالفة. ومعنى «ياعيل» وَعل أو وعلة.

ٱنْفَرَدَ مِنْ قَايِنَ أي العشيرة المنسوبة إلى قاين ورسمه في العبرانية «قين» وهم القينيون.

مِنْ بَنِي حُوبَابَ حوباب بدل من قاين (أو قين) بدل بعض من كل إعادة حرف الجر وهو «من» والمعنى أن حابر انفرد عن بني حوباب الذين هم قسم من القينيين.

حَمِي مُوسَى أي أخي امرأته فإن حما الرجل يُطلق على أبي امرأته وأخيها وغيرهما من الأقرباء (انظر تفسير ص ١: ١٦).

وَخَيَّمَ أي نصب خيمته ويُراد بالخيمة هنا بيت من منسوجات شعر المعزى كبيوت أهل البادية من إطلاق الخاص على العامّ وإلا فالخيمة على ما نقل رواة اللغة العربية كل بيت مستدير أو ثلاثة أعواد أو أربعة يُلقى عليها التمام (وهو نبت له مثل الخوص تُسدّ به خصاص البيوت ونحوها). وقال ابن الأعرابي «الخيمة عند العرب لا تكون إلا من أربعة أعواد ثم تُسقف بالثمام ويُستظلُّ بها في الحرّ ولا تكون من ثياب». قلنا ثم تجوز الناس بها فأطلقوها على كل بيت يُنقل من عيدان وثياب وجلد. وكان حابر مثل عرب البادية ينقل بيته من مكان إلى آخر أو يخيّم حيث أراد.

حَتَّى إِلَى بَلُّوطَةٍ فِي صَعْنَايِمَ أي كان يخيّم في مكان ثم في آخر حتى وصل إلى بلوطة في صعنايم وخيّم عندها أو تحتها. وفي السبعينية والترجوم وتلمود أورشليم «حتى بلوطة صعنايم» بإضافة بلوطة إلى صعنايم فالعبارة فيها علم مركب إضافي أي اسم موضع معيّن. وفي الأصل العبراني «بلوطة في صعنايم» كما في ترجمتنا. وصعنايم أو بلوطة صعنايم (على ما في السبعينية والترجوم وتلمود أورشليم) رأى بعضهم أنه اسم مكان ورأى آخر أنه السهل الذي على غاية نحو ثلاثة أميال من بحيرة الحولة غرباً. وطول هذا السهل ميلان وعرضه ميل تحيط بها تلال يغطيها شجر البلوط. وقال كُندر أن صعنايم هي بسّوم شرقي تابور.

ٱلَّتِي عِنْدَ قَادِشَ (انظرع ٦). قال بعضهم ولا يزال البلوط كثيراً في جوارها ولذلك كانت تلك الأرض من أحسن المخيمات للكنعانيين.

١٢ «وَأَخْبَرُوا سِيسَرَا بِأَنَّهُ قَدْ صَعِدَ بَارَاقُ بْنُ أَبِينُوعَمَ إِلَى جَبَلِ تَابُورَ».

وَأَخْبَرُوا سِيسَرَا… صَعِدَ بَارَاقُ هذه الآية تابعة للآية العاشرة والآية بينهما كلام معترض لما علمت. وسيسرا هو قائد جيش يابين ورئيس قواده (ع ١).

جَبَلِ تَابُورَ (انظر تفسير ع ٦). وصعد باراق إلى ذلك الجبل للوقاية والأمن لأنه يصعب على سيسرا بل يتعذر عليه أن يصعد إليه بالمركبات التي كان يخشاها الإسرائيليون (ص ١: ١٩).

١٣ «فَدَعَا سِيسَرَا جَمِيعَ مَرْكَبَاتِهِ، تِسْعَ مِئَةِ مَرْكَبَةٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَجَمِيعَ ٱلشَّعْبِ ٱلَّذِي مَعَهُ مِنْ حَرُوشَةِ ٱلأُمَمِ إِلَى نَهْرِ قِيشُونَ».

فَدَعَا سِيسَرَا بواسطة رسل أو منادين.

جَمِيعَ مَرْكَبَاتِهِ أي جنود المركبات بقرينة أن الدعوة للناس لا للجماد. ومُحصل المعنى أنه دعا رجال المركبات المحاربين أن يجتمعوا إليه بمركباتهم.

مِنْ حَرُوشَةِ ٱلأُمَمِ وهي التي كان سيسرا ساكناً فيها (انظر ع ٢ والتفسير). وحرف الجر «من» متعلق بقوله «دعا» فليس المعنى أن جميع الذين كانوا معه كانوا منتشرين من حروشة الأمم إلى نهر قيشون.

إِلَى نَهْرِ قِيشُونَ (انظر تفسير ع ٧). وحرف الجر «إلى» متعلق بقوله «دعا» ودعا سيسرا كل جنوده من مركبيين وغيرهم لأنه عند سمعه ذلك النبأ البغتي حسب أن باراق جمع جنوداً كثيرة يخشى بأسها فلجأ إلى دعوة كل جيشه ليتمكن من إخراج باراق وجنوده من متحصنهم في جبل تابور.

١٤ «فَقَالَتْ دَبُورَةُ لِبَارَاقَ: قُمْ، لأَنَّ هٰذَا هُوَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي دَفَعَ فِيهِ ٱلرَّبُّ سِيسَرَا لِيَدِكَ. أَلَمْ يَخْرُجِ ٱلرَّبُّ قُدَّامَكَ؟ فَنَزَلَ بَارَاقُ مِنْ جَبَلِ تَابُورَ وَوَرَاءَهُ عَشَرَةُ آلاَفِ رَجُلٍ».

تثنية ٩: ٣ و٢صموئيل ٥: ٢٤ ومزمور ٦٨: ٧ وإشعياء ٥٢: ١٢

فَقَالَتْ دَبُورَةُ لِبَارَاقَ وكَلّ باراق الأمر كله إلى دبورة فكان لا يأتي شيئاً إلا بأمرها. وهذا دل على أنه كان قليل التدبير والمعرفة العسكرية. ولا ريب بأن دبورة علمت ذلك فكانت تدربه وتعلمه وتبين له العمل بمقتضى إلهام الرب. وهذا دليل أيضاً على أن الإسرائيليين انحطوا عما كانوا عليه فلم يكن لهم حبر أعظم يقف أمام مذبح الله ويعلم إرادته بالأوريم والتميم كما كانوا في أيام يشوع بل في أيام فنحاس أيضاً فلذلك كان عمدة باراق قول دبورة النبية.

قُمْ أمر من قام بالأمر أي تولاه أو من قام بمعنى انتصب الذي هو ضد قعد وإن كان الأصل هذا فمعناها تولّ الحرب وخذ فيها.

لأَنَّ هٰذَا هُوَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي دَفَعَ فِيهِ ٱلرَّبُّ سِيسَرَا لِيَدِكَ هذا تعليل لقولها لباراق «قم» فكأنها قالت يا باراق هذا يوم الظفر الذي عيّنه الرب لنصرك على جيش سيسرا فتولّ الحرب واثقاً كل الثقة بالفوز. وقولها «دفع» معناه لا شك في أن يدفع وعبّرت عن المستقبل بالماضي للتأكيد ونفي الشك لأن الماضي لا يُشكّ في وقوعه. وأرادت بدفع الرب سيسرا ليد باراق ودفع جيشه ليده لأن سيسرا لم يُدفع ليد باراق بل ليد باعيل (ع ١٧ – ٢١).

ولا نرى من دليل هنا قول بعض المعترضين أن اليهود ونبيّتهم كانوا كالأمم يحسبون بعض الأيام أيام سعد وبعضها أيام نحس وإن دبورة شجعت باراق بأن هذا اليوم من أيام السعد والتوفيق. قلنا إن هذا باطل لأن دبورة كانت تتكلم بإلهام الرب ووحي والله لا يقول قول الأمم الوثنية. والثاني إن النص يبين أن هذا اليوم هو الذي عيّنه الرب لنصر باراق على جيش سيسرا.

أَلَمْ يَخْرُجِ ٱلرَّبُّ قُدَّامَكَ الاستفهام إنكاري أرادت به أن الرب خرج أمامك للقتال فإن من العناية الإلهية بالشعب أنه يقويه «فَيَخْرُجُ ٱلرَّبُّ وَيُحَارِبُ تِلْكَ ٱلأُمَمَ كَمَا فِي يَوْمِ حَرْبِهِ يَوْمَ ٱلْقِتَالِ» (زكريا ١٤: ٣). هذه العبارة ترك أكثر المفسرين الكلام عليها لصعوبة البيان لأن الكلام يدل على أمر مضى إلا أن يقال أن مراد النبية أن الرب يخرج قدامك للقتال بلا شك فكيف تشك في ذلك وعبّر عن المستقبل بالماضي للتحقيق. والذي يقتضيه المقام أنت علمت يقيناً أن الرب خرج قدامك للقتال أفلا تتبعه وتقاتل معه. قال الرب «فَأَجْذِبَ إِلَيْكَ إِلَى نَهْرِ قِيشُونَ سِيسَرَا رَئِيسَ جَيْشِ يَابِينَ بِمَرْكَبَاتِهِ وَجُمْهُورِهِ وَأَدْفَعَهُ لِيَدِكَ» (ع ٧) فإن وعده حق كأمر وقع وقد أعد له كل الوسائل الممكنة من إنجاز هذا الوعد. وبقي هنا ما نرجحه وهو أن الرب خرج أمامه بإظهار حضوره في نبيته دبورة فكانت تسير أمام باراق والجيش كالتابوت أمام بني إسرائيل إذ كان التابوت آية حضوره فكان إذا حُمل يقول موسى «قُمْ يَا رَبُّ فَلْتَتَبَدَّدْ أَعْدَاؤُكَ وَيَهْرُبْ مُبْغِضُوكَ مِنْ أَمَامِكَ» (عدد ١٠: ٣٥).

فَنَزَلَ بَارَاقُ مِنْ جَبَلِ تَابُورَ ونزلت دبورة قدامه كما نرجّح لأنها هي كانت قائدته وهو كان قائد الجيش. وهذا وما قالته دبورة هو الذي شجعه على النزول من متحصنه ومأمنه في تابور إلى ملاقاة الجيش العظيم ومركبات الحديد التي كانت رهبة إسرائيل (ص ١: ١٩). ولا ريب في أنه كان قد قوي إيمانه إذ ترك الحصن المنيع ولا فرسان معه ولا مركبات فغلب بذلك الإيمان (عبرانيين ١١: ٣٢). قال الدكتور فرار إن كان ابتداء الحرب عند تعنك فالإسرائيليون ساروا ١٣ ميلاً على طريق القافلة. والمرجّح أن الكنعانيين شاهدوا جسارة الإسرائيليين وحركتهم غير المنتظرة بحيرة لا توصف كما رأى جيش الفرس العظيم شرذمة قليلة من الأثينيين نازلة إليه من سفح الأكمة إلى سهل مرثون.

إنه لا شيء يشجع الإنسان على المخاطر التي لا بدّ منها مثل تيقنه أن الرب قدّامه.

وَوَرَاءَهُ عَشَرَةُ آلاَفِ قلنا ذلك جيش وافر ولكنه قليل بالنسبة إلى جيش الأعداء ومع ذلك إن باراق من الذين أخذوا في أن يتعلموا الحرب لا من المتدربين فيها (انظر ص ٣: ٢).

١٥ «فَأَزْعَجَ ٱلرَّبُّ سِيسَرَا وَكُلَّ ٱلْمَرْكَبَاتِ وَكُلَّ ٱلْجَيْشِ بِحَدِّ ٱلسَّيْفِ أَمَامَ بَارَاقَ. فَنَزَلَ سِيسَرَا عَنِ ٱلْمَرْكَبَةِ وَهَرَبَ عَلَى رِجْلَيْهِ».

يشوع ١٠: ١٠ ومزمور ٨٣: ٩ و١٠

فَأَزْعَجَ ٱلرَّبُّ سِيسَرَا وَكُلَّ ٱلْمَرْكَبَاتِ… بِحَدِّ ٱلسَّيْفِ أي أقلق الرب سيسرا وكل جنود المركبات وقلعهما من مكانهما بحدود السيوف. والظاهر أن الأعداء لما رأوا جيش الإسرائيليين اندفع إليهم بغتة اضطربوا ولم يستطيعوا أن يتدبروا أمرهم لحيرتهم فهربوا مركبة تصدم مركبة حتى تكسرت مركبات الحديد واغتنم الإسرائيليون الفرصة فأعملوا السيوف في أقفية أعدائهم وما كان الفضل في ذلك لباراق بل لله لأنه هو الذي ألقى الرعب في قلوب الجود اليابينية وشوّش أمورهم ومكّن شعبه من قتلهم فكانوا غنيمة باردة للإسرائيليين.

قال يوسيفوس في ارتباك الأعداء «إنهم لما وقعت الحرب وقع عليهم من السماء مطر غزير وبرَد عظيم وضربت الرياح بالمطر والبرَد وجوههم وأغلقت عيونهم فمنعتهم من الإبصار فلم يبق لهم نفع من قسيّهم ومقاليعهم ومنع البرد الشديد الجنود من استعمال سيوفهم. ولم يصب الإسرائيليون ضررٌ من ذلك إذ كانوا وراءهم وزادوا شجاعة ونشاطاً لتيقنهم أن الله مساعد لهم على أعدائهم فذبحوا كثيرين ومن لم يذبحوهم وطئتهم الخيل وحطمتهم المركبات». قال بعض المفسرين المرجّح أن ما قاله يوسيفوس من الواقعات في تلك الواقعة. وما أحسن هنا قول المرنم «هٰؤُلاَءِ بِٱلْمَرْكَبَاتِ وَهٰؤُلاَءِ بِٱلْخَيْلِ أَمَّا نَحْنُ فَٱسْمَ ٱلرَّبِّ إِلٰهِنَا نَذْكُرُ» (مزمور ٢٠: ٧ قابل هذا بما في مزمور ٣٣: ١٦ و١٧ وأمثال ٢١: ٣١).

فَنَزَلَ سِيسَرَا الخ لماذا لم يهرب بالمركبة بل على رجليه. ذلك لأسباب الأول إن مركبة القائد معروفة وقد قرب الإسرائيليون منها والقائد هو أكبر الغنائم. والثاني إنها كانت على وشك أن تنكسر به. والثالث إنه أسهل عليه وهو على رجليه أن يجد مخبأ من أن يجده وهو على مركبته. وبقي احتمالات كثيرة مثل أن تكون المركبة أُعيقت عن الجري لوقوعها في مستنقع أو وهدة والسهل كله مستوحل لسبب المطر الكثير. وهكذا علّمه الله بُطل ما كان اتكل عليه وافتخر به.

١٦ «وَتَبِعَ بَارَاقُ ٱلْمَرْكَبَاتِ وَٱلْجَيْشَ إِلَى حَرُوشَةِ ٱلأُمَمِ. وَسَقَطَ كُلُّ جَيْشِ سِيسَرَا بِحَدِّ ٱلسَّيْفِ. لَمْ يَبْقَ وَلاَ وَاحِدٌ».

لَمْ يَبْقَ وَلاَ وَاحِدٌ أي لم يبقَ أحد من الجيش والواو ولا زائدتان للتأكيد. والتركيب الفصيح في العربية «حتى لم يبق أحدٌ».

قال يوسيفوس إنه كان عدد الجنود التي قادها سيسرا في هذه الواقعة ثلاث مئة ألف راجل وعشرة آلاف فارس وثلاثة آلاف مركبة تسع مئة منها من حديد كما قال المؤرخون المقدسون.

١٧ «وَأَمَّا سِيسَرَا فَهَرَبَ عَلَى رِجْلَيْهِ إِلَى خَيْمَةِ يَاعِيلَ ٱمْرَأَةِ حَابِرَ ٱلْقِينِيِّ، لأَنَّهُ كَانَ صُلْحٌ بَيْنَ يَابِينَ مَلِكِ حَاصُورَ وَبَيْتِ حَابِرَ ٱلْقِينِيِّ».

وَأَمَّا سِيسَرَا فَهَرَبَ عَلَى رِجْلَيْهِ إِلَى خَيْمَةِ يَاعِيلَ (انظر تفسير ع ١١) هرب إلى خيمة ياعيل لكي لا يصل إليه أحد من المنتصرين لأن القبائل في تلك الأيام كانوا يأنفون أن يدخلوا مخادع النساء كما هي العادة اليوم بين العرب وكثيرين من أمم المشرق. وكانت النساء تجير اللاجئ إليها إذ التجاؤه إليها لطلب النجاة لا لشيء آخر. ولم يخشَ بطش زوجها حابر القيني «لأنه كان صلح بين يابين ملك حاصور وبيت حابر القيني» ولكنه خاف أن يكون أحد ظن أنه لجأ إلى مخدع نساء فيحتالون على أخذه فعلّم ياعيل ما يدفع عنه ذلك (انظر ع ٢٠).

لأَنَّهُ كَانَ صُلْحٌ الخ أي لم تكن حرب بينهما لا إنهما كانا متحالفين. فإن القينيين وإن كانوا من المهتدين لعابدين الإله الحق ما كان لهم أن يدّعوا ميراثاً في أرض الموعد فكانوا دخلاء وغرباء فاضطروا إلى الاعتصام بالسلم بين سكان كنعان على اختلاف صنوفهم وأديانهم فكانوا مسالمين للإسرائيليين وللأمم معاً وعلى هذا لم يتعرض لهم يابين بأذىً فلم يرَ سيسرا من بأس أن يلجأ إلى بعض مقاصير نسائهم. وغاب عنه أنهم يريدون نجاح إسرائيل لأن شعب الإله الحق الذي هم يعبدونه أيضاً. ولا ريب في أنه قطع شقة طويلة إلى الخيمة التي لجأ إليها ووصل إليها جائعاً معيياً والخوف ملء فؤاده.

١٨ «فَخَرَجَتْ يَاعِيلُ لاسْتِقْبَالِ سِيسَرَا وَقَالَتْ لَهُ: مِلْ يَا سَيِّدِي، مِلْ إِلَيَّ. لاَ تَخَفْ. فَمَالَ إِلَيْهَا إِلَى ٱلْخَيْمَةِ وَغَطَّتْهُ بِٱللِّحَافِ».

فَخَرَجَتْ يَاعِيلُ لاسْتِقْبَالِ سِيسَرَا لعلها كانت قد عزمت على إجراء مقصدها قبل أن يدخل سيسرا خيمتها. وإذ لم يُذكر شيء من أمر زوجها نرجّح أنه كان غائباً أو أنه توارى حتى تتم ياعيل مقصدها. وعلى الفرض الثاني نقطع بأن حابر كان واثقاً بمقدرة امرأته على إجراء ما قصدته وحدها وإنها كانت من أقوياء النساء.

مِلْ يَا سَيِّدِي، مِلْ إِلَيَّ عرفت ياعيل أنه عدوّ من أعداء إسرائيل وإنه كان هارباً من خطر من زيه المختلف عن زي إسرائيل وإمارات وجهه وإنه قائد جيش الأعداء من علامات معروفة عندهم يومئذ كما يُعرف قوّاد العسكر اليوم من ملبوساتهم وكان نبأ الحرب بين الإسرائيليين قد بلغ القينيين. ولا ريب في أن سيسرا لما سمع كلماتها اللطيفة اطمأن ووثق بها. إن عرب البادية ما كانت نساؤهم تتحجب عن الرجال الأجانب ولا يزالون كذلك إلى هذا اليوم وإن كان لهنّ موضع مخصوص في الخيمة لا يدخل غريب إليه إلا بإذن ما لم يكن هارباً من خطر ولكن كان لا بد له من أن ينبّه على أمره برفع صوته والاستغاثة إذا مكنته الفرصة كان يقول لاجئ مقصورة الكرائم أو ما أشبه ذلك لئلا ترهب النساء بدخوله بغتة أو تكون عارية لأمر من الأمور المختصة بها. فياعيل بخروجها لاستقباله أغنته عن ذلك. على أنه كان من عادة البدو رجالاً ونساءً أن يقوا من دخل بيوتهم ويجعلوه في آمن ما دام نزيلاً ولذلك مال سيسرا إلى خيمة ياعيل.

فَمَالَ إِلَيْهَا إِلَى ٱلْخَيْمَةِ أي فمال إلى ياعيل سائراً إلى خيمتها.

لاَ تَخَفْ من أن يدخل إليك من هربت منه أو أن يُوقع فيك أذًى.

وَغَطَّتْهُ بِٱللِّحَافِ اللحاف كل ثوب يغطى به فربما كان اللحاف الذي غطته به نسيجاً من شعر المعزى أو وبر الإبل. وفي السبعينية «غطته بجلد» ويحتمل الأصل العبراني معنى البساط أو الطنفسة. ولماذا غطته أن أمنه بدخوله الخباء لا بالغطاء فلا ريب أن في الكلام إيجاز الحذف يعين المحذوف به قرينة الحال والعقل وتتمة القصة فتكون العبارة فمال… إلى الخيمة معيياً ناعساً (ع ١) فاضطجع على الأرض للراحة والنوم وغطته الخ.

١٩ «فَقَالَ لَهَا: ٱسْقِينِي قَلِيلَ مَاءٍ لأَنِّي قَدْ عَطِشْتُ. فَفَتَحَتْ قِرْبَةَ ٱللَّبَنِ وَأَسْقَتْهُ ثُمَّ غَطَّتْهُ».

ص ٥: ٢٥

ٱسْقِينِي قَلِيلَ مَاءٍ وكان سيسرا قد جرى طويلاً حتى بلغ الخيمة. وقوله «قليل ماء» يدل على أنه لم يُرد أن يكلفها بذل ثمين أو ما فيه مشقة وأن إيواءها له هو كل ما أراده من معروفها.

فَفَتَحَتْ قِرْبَةَ ٱللَّبَنِ وهو ظرف من جلد يوضع فيه اللبن ويقال له سقاء اللبن وهو هنا اللبن الرائب على ما يظن. ومن عادة عرب البادية أن يسقوه من اشتد عطشه دفعاً لضرر زيادة شرب الماء ولا يزالون يأتون هذا إلى اليوم وفعلت ذلك لتزيده أمناً لأن ما أتته دليل حرصها على صحته وإكرامها له.

وَأَسْقَتْهُ أي سقته فقد يجيء أسقى بمعنى سقى قال لبيد:

سقى قومي بني مجدٍ وأسقى نميراً والقبائل من هلالِ


ولعل المترجم أراد المبالغة بناء على أن الزيادة في الصيغة للزيادة في المعنى. كأنه رأى مقصود الكاتب أن يبين أن سيسرا طلب قليلاً من الماء فسقته كثيراً من اللبن.

ورأى بعض الربانيين ما معناه إن اللبن كان قد اختمر وصار مسكراً فسقته كثيراً منه ليسكر ويستغرق في النوم فلا يستطيع الدفاع عندما تضرب الوتد في صدغه أو لكي لا يشعر بها عند دنوها منه لتقتله بذلك. ولعل الوطب المذكور في هذه الآية هو المعروف عندهم بالمُؤتَبَثة وهو وطب يُملأُ لبناً ويُترك فينتفخ باختمار ما فيه. ولكن لا ضرورة تلجئ إلى القول أنه سكر فإن ما اعترى سيسرا من الإعياء كافٍ لأن يجعل نومه كالموت.

ثُمَّ غَطَّتْهُ لما نهض من مضجعه ليشرب نُحي اللحاف عنه ثم اضطجع لشدة نعاسه غير ملتفت إلى اللحاف فغطته ثانية. فانظر كم كان لنساء البدو من الاختيار المعروف بالحرية في أيامنا. ولا يزال هذا شأن البدويات إلى هذا اليوم مع أن رجال البدو من أشد الناس عقاباً للزوجة إذا خانت زوجها.

٢٠ «فَقَالَ لَهَا: قِفِي بِبَابِ ٱلْخَيْمَةِ، وَيَكُونُ إِذَا جَاءَ أَحَدٌ وَسَأَلَكِ: أَهُنَا رَجُلٌ؟ أَنَّكِ تَقُولِينَ لاَ».

قِفِي بِبَابِ ٱلْخَيْمَةِ لئلا يدخلها أحد.

إِذَا جَاءَ أَحَدٌ من الرجال.

وَسَأَلَكِ أَهُنَا رَجُلٌ أَنَّكِ تَقُولِينَ لاَ أي لم يدخل أحد خيمتها أو لأنه إذا عرف أن لا رجل في الخيمة امتنع من دخولها بناء على عادة البدو ولكن إذا كان فيها رجل كان له أن يدخلها إلا ما ندر. وقال سيسرا ذلك لتيقنه أنه لا بد من أن أعداءه يطلبونه ويفتشون عنه لأنه قائد جيش يابين.

وهنا لم يذكر ما يدل على أن ياعيل أظهرت له أنها تفعل ما أوصاها به على أن مثل هذا الكذب كان جائزاً عند الأمم لأن به نجاة من الموت بل أجازه كثيرون من المسيحيين بناء على القاعدة الفلسفية المشهورة «إذا وقع الإنسان بين شرّين فليختر أصغرهما» لأنهم رأوا أن الكذب أصغر من تسليم نفس للقتل.

وللناس قاعدة أخرى وهي أن بعض الأحوال يجيز الكذب كما أن بعضها يجيز القتل فيقولون إن الضرورات تبيح المحظورات. ولكن الذين يتبعون هذه القواعد يخفى عليهم أن خطيئة الكذب لا تضر بالمكذوب عليه فقط بل بالمتكلم أيضاً فالكاذب ينجس نفسه بكذبه ويغفلون أيضاً عن أن قتل القاتل والحماية عن النفس هما من خصائص الولاة لا الأفراد. وأعظم الشرور هو مخالفة الله وإهمال شريعته التي تنهي عن الكذب. فعلينا أن نصدُق في جميع أقوالنا وفي جميع الأحوال والله ينجي المتكلمين عليه. وما أحسن قول أحد الشعراء هنا:

عليك بالصدق ولو أنه أحرقك الصدق بنار الوعيد
واكسب رضا المولى فاشقى الورى من أسخط المولى وأرضى العبيد


٢١ «فَأَخَذَتْ يَاعِيلُ ٱمْرَأَةُ حَابِرَ وَتَدَ ٱلْخَيْمَةِ وَالميتدة (ٱلْمِطْرَقَةَ) فِي يَدِهَا، وَقارت (سَارَتْ) إِلَيْهِ بِهُدُوءٍ وَضَرَبَتِ ٱلْوَتَدَ فِي صُدْغِهِ فَنَفَذَ إِلَى ٱلأَرْضِ وَهُوَ مُتَثَقِّلٌ فِي ٱلنَّوْمِ وَمُتْعَبٌ فَمَاتَ».

ص ٥: ٢٦

فَأَخَذَتْ عندما تيقنت أنه استغرق في النوم كما يظهر من آخر الآية.

وَتَدَ ٱلْخَيْمَةِ الوتد ما رُزّ في الأرض أو الحائط من خشب ويختارون أوتاد الخيمة من الخشب الصلب المحدد أحد الطرفين ليدخل في ما رُزّ فيه بسهولة فيشبه محدّد الحديد. قال بعض المفسرين قد يكون وتد الخيمة من الحديد أو الخشب الصلب ورأى يوسيفوس أنه كان من حديد.

الميتدة (ٱلْمِطْرَقَةَ) آلة يُضرب بها الوتد ليُرزّ.

قارت (سَارَتْ) أي مشت على أطراف قدميها لئلا يُسمع وقعهما فينتبه سيسرا من نومه.

ضَرَبَتِ ٱلْوَتَدَ فِي صُدْغِهِ الصدغ ما بين العين والأذن. كأنها وضعت طرف الوتد المحدد على صدغه وضربته بكل قوتها خوفاً من أن ينتبه قبل أن تنجز عملها. وقد يضرب الضعيف الحَذِر ضربة لا يأتيها القوي الآمن.

وضعيفة فإذا أصابت فرصة قتلت كذلك فرصة الضعفاء


فَنَفَذَ إِلَى ٱلأَرْضِ أظن لهذا قال يوسيفوس إن الوتد كان من حديد. وحمله بعضهم على المبالغة الشعرية.

وَهُوَ مُتَثَقِّلٌ فِي ٱلنَّوْمِ قال بعضهم في تفسير هذا إن الله ألقى على سيسرا سباتاً كالذي ألقاه على آدم حين أخذ أحد أضلاعه وجعله امرأة. وهذا ممكن ولكنه غير ضروري إذ العبارة حال من فاعل «قارَت» لا فاعل «نفذ» على أن الكلمة المستعملة هنا كالكلمة المستعملة لسبات آدم عند خلق حواء وهو ما يرجّح ما قاله ذلك البعض (انظر أيضاً دانيال ٨: ١٨ و١٠: ٩).

وَمُتْعَبٌ أو مغشيٌ عليه على ما يحتمله الأصل العبراني (انظر حاشية الكتاب ذي الشواهد) هذا مؤيد لقول بعضهم بأن نوم سيسرا الثقيل كان كسبات آدم يوم أُخذت منه حواء.

فَمَاتَ قبل أن يتمكن من الدفاع لأن الوتد نفذ دماغه إلى الأرض. نمدح ياعيل (ص ٥: ٢٤) على شجاعتها وميلها إلى شعب الله دون الميل إلى الكنعانيين ولكننا لا نقدر أن نبررها في كل ما فعلته فإنها قبلت سيسرا في خيمتها (ع ١٨) ومن عادة البدو ومن واجبات الضيافة عند جميع الناس وقاية الضيف وجعله في أمن ما دام نزيلاً. ثم خدعته وقتلته غدراً وهو مستغرق بالنوم. إن الله يستعمل آلات بشرية ولكن هذه الآلات ليست كاملة وأحياناً تعمل ما ليس بحسب إرادته. فلا شك أن الرب يقدر أن يخلّص شعبه من تسلط يابين وسيسرا بلا خطيئة الخديعة ونكث عهود الضيافة.

٢٢ «وَإِذَا بِبَارَاقَ يُطَارِدُ سِيسَرَا، فَخَرَجَتْ يَاعِيلُ لاسْتِقْبَالِهِ وَقَالَتْ لَهُ: تَعَالَ فَأُرِيَكَ ٱلرَّجُلَ ٱلَّذِي أَنْتَ طَالِبُهُ. فَجَاءَ إِلَيْهَا وَإِذَا سِيسَرَا سَاقِطٌ مَيِّتاً وَٱلْوَتَدُ فِي صُدْغِهِ».

وَإِذَا بِبَارَاقَ يُطَارِدُ سِيسَرَا أي كان حاملاً عليه ليلحقه ويقتله. وقد رأته ياعيل فجأة.

وَإِذَا سِيسَرَا سَاقِطٌ مَيِّتاً وَٱلْوَتَدُ فِي صُدْغِهِ فعلم باراق حينئذ تمام ما أنبأته به دبورة من أنه لا يكون له فخر وإن الرب باع سيسرا قائد جيش يابين بيد امرأة (ع ٩) ولا ريب في أن باراق دهش من ذلك المشهد من أن جباراً عنيداً وبطلاً مشهوراً قتلته امرأة قتلة لا يستطيعها على ما ظهر له في أول الأمر عدة رجال متأزرين على ذلك العمل. وتيقّن أن العزّة والقدرة والنصر لله لا للإنسان.

٢٣ «فَأَذَلَّ ٱللّٰهُ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ يَابِينَ مَلِكَ كَنْعَانَ أَمَامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ».

مزمور ١٨: ٤٧

فَأَذَلَّ ٱللّٰهُ… مَلِكَ كَنْعَانَ وفي العبرانية يكنع… ملك كنعان. ففي العبارة نوعان بديعيان الجناس والاتفاق فإن معنى «كنعان» ذليل أو ذلك فكأنه قال أذلّ الله… ملك الذلّ أي أذله الله حسب اسم قومه.

٢٤ «وَأَخَذَتْ يَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَتَزَايَدُ وَتَقْسُو عَلَى يَابِينَ مَلِكِ كَنْعَانَ حَتَّى قَرَضُوا يَابِينَ مَلِكَ كَنْعَانَ».

وَأَخَذَتْ يَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَتَزَايَدُ وَتَقْسُو أي أخذت قوة الإسرائيليين تزيد على توالي الأوقات فكانوا يفتكون بالكنعانين بلا رفق ولا رحمة. ويُفهم من ذلك أن واقعة قيشون كانت بداءة إنقاذ إسرائيل من نير الكنعانيين الإنقاذ التام. عبّر عن القوة باليد لأنها آلة العمل والحرب وأسند إليها القسوة مجازاً والمراد قسوة أصحابها.

حَتَّى قَرَضُوا يَابِينَ أي أبادوا قومه وأبادوه جميعاً.

فوائد

  1. إن الله يستخدم آلات ضعيفة فعندما أراد تخليص شعبه من تسلط يابين استخدم امرأتين ورجلاً ضعيف الإيمان. وشمجر خلّص إسرائيل وبيده منساس البقر (ص ٣: ٣١). وجدعون انتصر على المديانيين بواسطة الجرار والأبواق والمصابيح ومعه ٣٠٠ رجل فقط (ص ٧: ١٦). وشمشون ضرب ألفاً من الفلسطينيين بلحي حمار (ص ١٥: ١٥). فلا ننظر إلى ضعفنا وضعف البشر فنخاف بل إلى الرب القادر على كل شيء فنتشجع.
  2. على الإنسان أن يستنظر وقت الرب ويستغنم الفرصة. إن الرب جذب جيش سيسرا إلى نهر قيشون وأعدّ الرياح والأمطار والبرَد لإهلاكهم فاستغنم باراق هذه الفرصة وأطاع الرب للوقت فصار عاملاً معه فنجح في عمله.
  3. إن المرأة عند الله كالرجل لأنه أقام منهم نبيات كما أقام من الرجال أنبياء. فنفس المرأة ثمينة عند الله كنفس الرجل والمؤمنات كالمؤمنين في ميراث الملكوت السماوي.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى