سفر يشوع

سفر يشوع | 04 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر يشوع

للقس . وليم مارش

اَلأَصْحَاحُ ٱلرَّابِعُ

١ «وَكَانَ لَمَّا ٱنْتَهَى جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ مِنْ عُبُورِ ٱلأُرْدُنِّ أَنَّ ٱلرَّبَّ أَمَرَ يَشُوعَ».

تثنية ٢٧: ٢ وص ٣: ١٧

وَكَانَ لَمَّا ٱنْتَهَى جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ مِنْ عُبُورِ ٱلأُرْدُنِّ أَنَّ ٱلرَّبَّ أَمَرَ يَشُوعَ الله هنا علّمنا الترتيب ووضع الشيء في محلّه فإنه ما كلّم يشوع والشعب يعبر إذ لا محل لسمع الكلام حينئذ فلو تكلّم لما فهم يشوع ولا فهم الشعب حسناً.

٢ «ٱنْتَخِبُوا مِنَ ٱلشَّعْبِ ٱثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً. رَجُلاً وَاحِداً مِنْ كُلِّ سِبْطٍ».

ص ٣: ١٢

ٱنْتَخِبُوا خاطب يشوع بضمير الجمع للعلاقة التي بين الشعب ورئيسه فالكلام المذكور في (ص ٣: ١٢) لم يقله الله هناك وإنما ذكره الكاتب باعتبار أنه قوله بعد أمر الله وذكره مقدماً للعلاقة ثم رجع إلى بيان أصل مصدره وهو أنه أمر الله. وكان هؤلاء الاثنا عشر المطلوب انتخابهم نواباً عن كل الإسرائيليين كل واحد نائباً عن سبطه في العمل المأمور به في (ع ٣).

٣ «وَأْمُرُوهُمْ قَائِلِينَ: ٱحْمِلُوا مِنْ هُنَا مِنْ وَسَطِ ٱلأُرْدُنِّ مِنْ مَوْقِفِ أَرْجُلِ ٱلْكَهَنَةِ رَاسِخَةً ٱثْنَيْ عَشَرَ حَجَراً، وَعَبِّرُوهَا مَعَكُمْ وَضَعُوهَا فِي ٱلْمَبِيتِ ٱلَّذِي تَبِيتُونَ فِيهِ ٱللَّيْلَةَ».

ص ٣: ١٣ ع ١٩ و٢٠

وَأْمُرُوهُمْ قوله ليشوع «وأمروهم» بضمير الجمع كقوله له «انتخبوا» (انظر تفسير ع ٢).

ٱحْمِلُوا… ٱثْنَيْ عَشَرَ حَجَراً اختار الحجارة من موقف أرجل الكهنة لتكون تذكاراً للعبور بمتعلقاته ذات الشأن. وتذكُّر هذه الحادثة تذكُّر أعظم أمور العناية من محبة الله لهم وصنعه المعجزات وبيان قدرته وجودته والتذكير بعهده وما يشير إليه من إرشاد الروح القدس وأعمال الفداء وتمهيد السبيل إلى كنعان السماوية إلى غير ذلك مما يملأ قلب الحكيم حباً وشكراً للرب.

وَضَعُوهَا فِي ٱلْمَبِيتِ ٱلَّذِي تَبِيتُونَ فِيهِ ٱللَّيْلَةَ هذا المبيت هو الجلجال (ص ٤: ١٩ و٢٠) وكانت على الجانب المقابل وعلى غاية ما يزيد على ثلاثة أميال من الأردن وهي قرية في شرقي أريحا والشمال الشرقي من أورشليم. وكانت مركزاً لإسرائيل مدة محاربة يشوع للكنعانيين وما زالت مستودع تابوت عهد الله إلى أن نُقل إلى شيلوه ثم أُعيد إليها (١صموئيل ١٠: ٨ و١٥: ٣٣). وكان صموئيل يذهب إليها من سنة إلى سنة ويقضي بها للإسرائيليين (١صموئيل ٧: ١٦). وبعد هذا المجد العظيم صارت معبداً للأوثان (هوشع ١٢: ١١ وعاموس ٤: ٤). واليوم في موقعها القديم قرية اسمها جلجليّة أو الجلجليّة.

بقي في هذه الآية قوله «من وسط الأردن من موقف أرجل الكهنة» وأرجل الكهنة على ما فُهم من (ص ٣: ١٥) كانت في «ضفة المياه» وفي ذلك اختلاف ظاهر فقال بعضهم أن الكلمة العبرانية المترجمة «بوسط» لا تعني مكاناً على بعد واحد من الضفتين بل تعني مكاناً داخل مجرى الأردن في الوسط أو غير الوسط. والكلمة العبرانية «توك» تعني داخل الشيء أو وسطه. وقال آخر إن الكهنة لما كان النهر طامياً وقفوا في الضفة ولما وقفت المياه الآتية وبعدت الذاهبة وجف بطن النهر ذهبوا إلى الوسط بدليل ذلك القول وكلا الأمرين يدفع الخلاف. وإن قيل إنه لم يذكر انتقالهم من موضعهم قلنا دلالة الالتزام معتبرة كدلالة التصريح. ومثل هذا قول يشوع «انتخبوا» وسكوته عن أنهم انتخبوا (ع ٢) ثم ذكر أنه دعا الرجال الذين عيّنهم من دون أن يذكر نبأ التعيين.

٤ «فَدَعَا يَشُوعُ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً ٱلَّذِينَ عَيَّنَهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، رَجُلاً وَاحِداً مِنْ كُلِّ سِبْطٍ.

فَدَعَا يَشُوعُ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً ٱلَّذِينَ عَيَّنَهُمْ (انظر آخر تفسير ع ٣) كان يشوع قد عيّنهم على أثر أمر الرب بتعيينهم ولم يذكر ذلك ولكن كلامه هنا دلّ عليه وهم الذين عيّنهم لحمل الحجارة من وسط النهر ووضعها في المبيت (ع ٣) قال بعضهم والمرجّح أن كلاً من تلك الحجارة كان كبيراً إلى حد أن يقدر الرجل القوي على حمله على كتفه.

٥ «وَقَالَ لَهُمْ يَشُوعُ: ٱعْبُرُوا أَمَامَ تَابُوتِ ٱلرَّبِّ إِلٰهِكُمْ إِلَى وَسَطِ ٱلأُرْدُنِّ، وَٱرْفَعُوا كُلُّ رَجُلٍ حَجَراً وَاحِداً عَلَى كَتِفِهِ حَسَبَ عَدَدِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ».

ٱعْبُرُوا أَمَامَ تَابُوتِ ٱلرَّبِّ في هذا إشارة إلى أن أولئك الرجال الاثني عشر دخلوا إلى أن قربوا من التابوت ووقفوا وراءه احتراماً وكانت الحجارة المطلوبة أمامه فأمرهم يشوع بذلك.

٦ «لِكَيْ تَكُونَ هٰذِهِ عَلاَمَةً فِي وَسَطِكُمْ. إِذَا سَأَلَ غَداً بَنُوكُمْ: مَا لَكُمْ وَهٰذِهِ ٱلْحِجَارَةَ؟».

خروج ١٢: ٢٦ و١٣: ١٤ وتثنية ٦: ٢٠ وع ٢١ ومزمور ٤٤: ١ و٧٨: ٣ إلى ٦

عَلاَمَةً أو آية أي ذكرى لما فعله الله لكم من الإحسان والمعجزة وكان مثل ذلك مألوفاً وكثيراً عند الأمم منذ العصور الخالية (انظر تكوين ٣١: ٤٦). نعم إنه لم يكن من كتابة تذكارية على تلك الحجارة لكن يعلم من عددها وموضعها أنه أُقيمت تذكاراً للحادثة فكان كل واحد يذكر بها معجزة قطع الأردن ويقصها على بنيه وبناته وغيرهم من الأحداث والسائلين عن علة إقامتها هناك. فإن قيل أن نبأ ذلك كُتب في السفر فما الحاجة إلى إقامة التذكار. قلنا إن الله الذي خلق البشر يعلم أن من طبعهم أن تؤثر فيهم المنظورات أكثر من المسموعات وأن أبنية التذكار تؤيد الخبر وتقرره في الذهن أحسن تقرير. ومثل ذلك رسم العشاء الربي فإنه يمثل للإنسان المسيح يُكسر جسده ويُراق دمه ويحقق له نبأ الصلب والفداء ويذكّره بحب الله الذي بذل ابنه من أجل العالم. ومن فوائد ذلك أيضاً أن الجاهل يسأل عن علة الذكرى والعالِم يقص عليه النبأ.

غَداً أي الزمان المستبقل لا اليوم التالي بخصوصه. نعم إن الغد وُضع لليوم الذي يأتي على أثر يومك ثم تجوّزوا فيه حتى أُطلق على البعيد المترقب ويوم الدين نفسه. والظاهر أن استعماله للمستقبل مطلقاً من باب المجاز المرسل إذ اعتبروا الزمان متصلاً وأول المستقبل منه الغد. وهذا مثل تجوزّهم في الأمس الماضي فتأمل. وقد استُعمل الغد لمطلق المستقبل في غير هذا الموضع من الكتاب المقدس (تكوين ٣٠: ٣٣) واستُعمل فيه الأمس لمطلق الماضي (عبرانيين ١٣: ٨).

٧ «تَقُولُونَ لَهُمْ: إِنَّ مِيَاهَ ٱلأُرْدُنِّ قَدِ ٱنْفَلَقَتْ أَمَامَ تَابُوتِ عَهْدِ ٱلرَّبِّ. عِنْدَ عُبُورِهِ ٱلأُرْدُنَّ ٱنْفَلَقَتْ مِيَاهُ ٱلأُرْدُنِّ. فَتَكُونُ هٰذِهِ ٱلْحِجَارَةُ تِذْكَاراً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى ٱلدَّهْرِ».

ص ٣: ١٣ و١٦ خروج ١٢: ١٤ وعدد ١٦: ٤٠

ٱنْفَلَقَتْ أَمَامَ تَابُوتِ عَهْدِ ٱلرَّبِّ أي فلقها الرب أمام تابوته فانفلقت.

عِنْدَ عُبُورِهِ ٱلأُرْدُنَّ ٱنْفَلَقَتْ مِيَاهُ ٱلأُرْدُنِّ أي لم يكن ذلك عن سبب آخر غير عبور التابوت فهو عمل قصده الله لم يتفق أن يحدث عن علة أخرى فالتكرار لتأكيد المعجزة.

إِلَى ٱلدَّهْرِ أي الزمن الطويل غير المحدود أو مدة بقاء بني إسرائيل.

٨ «فَفَعَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ كَمَا أَمَرَ يَشُوعُ، وَحَمَلُوا ٱثْنَيْ عَشَرَ حَجَراً مِنْ وَسَطِ ٱلأُرْدُنِّ كَمَا قَالَ ٱلرَّبُّ لِيَشُوعَ، حَسَبَ عَدَدِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَعَبَّرُوهَا مَعَهُمْ إِلَى ٱلْمَبِيتِ وَوَضَعُوهَا هُنَاكَ».

فَفَعَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أي الاثنا عشر رجلاً وأُطلق عليهم «بنو إسرائيل» لأنهم بعضهم ولأنهم نواب كل الشعب كما يُطلق نواب الأمة في المجالس على الأمة كلها.

٩ «وَنَصَبَ يَشُوعُ ٱثْنَيْ عَشَرَ حَجَراً فِي وَسَطِ ٱلأُرْدُنِّ تَحْتَ مَوْقِفِ أَرْجُلِ ٱلْكَهَنَةِ حَامِلِي تَابُوتِ ٱلْعَهْدِ. وَهِيَ هُنَاكَ إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ».

نَصَبَ يَشُوعُ الخ أي نصب الاثني عشر ونُسب الفعل إلى يشوع لأنه أمر به فذلك كقولنا بنى سليمان الهيكل. فكان المبني عمودين الواحد في وسط الأردن والآخر في الجلجال للدلالة على أن المعجزة حصلت في الأردن وأن بني إسرائيل بأسباطهم الاثني عشر عبروه.

وَهِيَ هُنَاكَ إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ هذا إما كلام يشوع قرب موته أي بعد عشرين سنة من وضع الحجارة أو زادها بوحي الله صموئيل أو عزرا أو أحد الكتبة الملهمين والظاهر أن الأول هو الصحيح وأن يشوع كتب هذا السفر في أواخر حياته.

١٠ «وَٱلْكَهَنَةُ حَامِلُو ٱلتَّابُوتِ وَقَفُوا فِي وَسَطِ ٱلأُرْدُنِّ حَتَّى ٱنْتَهَى كُلُّ شَيْءٍ أَمَرَ ٱلرَّبُّ يَشُوعَ أَنْ يُكَلِّمَ بِهِ ٱلشَّعْبَ، حَسَبَ كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى يَشُوعَ. وَأَسْرَعَ ٱلشَّعْبُ فَعَبَرُوا».

حَسَبَ كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى يَشُوعَ لم يُذكر في الأسفار الخمسة أن موسى أمر يشوع بذلك. فهو دليل على أن موسى كان يوصي يشوع بما يُعلنه الله له مما لم يكتبه في توراته أو قال له ذلك ضمناً أو التزاماً من أمره إياه بأن يسلك بمقتضى أوامر الرب.

وَأَسْرَعَ ٱلشَّعْبُ فَعَبَرُوا علّة إسراعهم خوفهم من أن يرجع الماء الذي ارتفع كندٍّ إلى الجريان فيغرقهم ويجرفهم وهذا عجيب الوقوع ممن شاهدوا هذه المعجزة وعرفوا قدرة الله العظمى ولكن الطبيعة البشرية ضعيفة بما عراها من الفساد. وعبور بني إسرائيل نهر الأردن من أرض التيه والعذاب مثال حسن لعبور المسيحي من هذا العالم عالم الإثم والشقاء إلى العالم الآخر عالم البر والسعادة. فالمسيحي مهما كان إيمانه قوياً لا بد من أن يخشى الموت لكنه متى دنا النزع يمدّ الله يده لمساعدته وتشجيعه فلا يخشى شرّاً.

١١ «وَكَانَ لَمَّا ٱنْتَهَى كُلُّ ٱلشَّعْبِ مِنَ ٱلْعُبُورِ أَنَّهُ عَبَرَ تَابُوتُ ٱلرَّبِّ وَٱلْكَهَنَةُ فِي حَضْرَةِ ٱلشَّعْبِ».

عَبَرَ تَابُوتُ ٱلرَّبِّ وَٱلْكَهَنَةُ فِي حَضْرَةِ ٱلشَّعْبِ قُرئ في بعض النسخ «والحجارة» بدلاً من قوله «والكهنة» والأصل العبراني المترجم هنا «في حضرة الشعب» يحتمل معنىً آخر وهو «إلى أمام الشعب» والقرينة تدل أن الشعب عبر إلى الجانب الآخر من النهر ووقف على الشاطئ ثم عبر الكهنة بالتابوت وتقدم الشعب كما كان قبل العبور. ولا ريب في أن الشعب كان واقفاً ينظر إلى الماء الذي كان لم يزل واقفاً نداً ويعجب من تلك المعجزة العظيمة.

١٢ «وَعَبَرَ بَنُو رَأُوبَيْنَ وَبَنُو جَادٍ وَنِصْفُ سِبْطِ مَنَسَّى مُتَجَهِّزِينَ أَمَامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا كَلَّمَهُمْ مُوسَى».

عدد ٣٢: ٢٠ و٢٧ و٢٨

وَعَبَرَ بَنُو رَأُوبَيْنَ وَبَنُو جَادٍ وَنِصْفُ سِبْطِ مَنَسَّى… أَمَامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هذا على خلاف ترتيب الأسباط في الارتحال في البرية فإن هؤلاء لم يكونوا في المقدمة بل كان بنو يهوذا يرتحلون أولاً (عدد ١٠: ١٤). والظاهر أن السبطين ونصف السبط المذكورين تقدموا بني إسرائيل هنا للقيام بما يجب عليهم كأنه من أول الضروريات وللمبالغة في بيان الوفاء بوعدهم أن يساعدوا إخوتهم على إدراك أنصبتهم في أرض الميعاد كما كلمهم موسى (عدد ٣٢: ١ الخ وص ١: ١٢ – ١٨). ومن المحتمل أيضاً أن هذا القول يفيد فقط أن السبطين ونصف السبط عبروا أمام عيون الشعب ليرى الشعب كله أنهم أنجزوا وعدهم ليشوع.

١٣ «نَحْوَ أَرْبَعِينَ أَلْفاً مُتَجَرِّدِينَ لِلْجُنْدِ عَبَرُوا أَمَامَ ٱلرَّبِّ لِلْحَرْبِ إِلَى عَرَبَاتِ أَرِيحَا».

نَحْوَ أَرْبَعِينَ أَلْفاً كان عدد الأسباط الثلاثة رأوبين وجاد ومنسى على الإحصاء الأخير ١٣٦٩٣٠ فكان بنو رأوبين ٤٣٧٣٠ وبنو جاد ٤٠٥٠٠ وبنو منسى ٥٢٧٠٠ فإذا طرحنا من ذلك نصف سبط منسى أي ٢٦٣٥٠ كان عدد السبطين ونصف السبط ١١٠٥٨٠ ونصفهم ٥٥٢٩٠ ولكن الذين تجندوا للحرب كانوا ٤٠٠٠٠ أي أقل من النصف وهذا مخالف لوعدهم والظاهر أن عذرهم حاجة أرضهم إلى من يحميها من الأعداء فذهب فريق لمساعدة إخوتهم وبقي فريق لحماية النساء والأولاد والأملاك (انظر بيان هذا التفصيل في عدد ٣٢: ١٦ – ٢٦).

عَبَرُوا أَمَامَ ٱلرَّبِّ أي الرب الحاضر في التابوت لأن التابوت كان آية حضوره فهم عبروا الأردن والكهنة حاملوا التابوت في موقفهم ثم عبر وراءهم سائر الإسرائيليين على ما ذُكر في الآية الثانية عشرة فارجع إليها وإلى التفسير.

١٤ «فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ عَظَّمَ ٱلرَّبُّ يَشُوعَ فِي أَعْيُنِ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ، فَهَابُوهُ كَمَا هَابُوا مُوسَى كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِهِ».

ص ٣: ٧

فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ أي يوم عبور الإسرائيليين الأردن بمعجزة.

عَظَّمَ ٱلرَّبُّ يَشُوعَ فِي أَعْيُنِ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ أي جعل الرب الإسرائيليين أن يروا يشوع عظيماً في المقام والحكمة والمنزلة عند الله. وجعل الله مئات من الألوف يرون عظمته ويحكمون بها بالإجماع يكاد يكون معجزة كشق نهر الأردن وإيقاف مائه نداً. وهذا بدء تاريخ سلطان يشوع على الإسرائيليين وإعلان أن الله كان معه.

فَهَابُوهُ الفاء هنا سببية أي لذلك هابوه أي لتعظيم الرب إياه في أعينهم. ومعنى الهيبة هنا الخوف المقترن بالإجلال.

كَمَا هَابُوا مُوسَى أي أنزلوه في المهابة والإجلال منزلة موسى إذ علموا أن سلطانه من الله كسلطان موسى وإن الله شق له الأردن كما شق البحر الأحمر لموسى.

كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِهِ الضمير هنا باعتبار القرب يرجع إلى موسى ولكن سياق الكلام يدل على أنه راجع إلى يشوع لأنه مسوق لبيان تعظيمه ومنزلته في عيون الإسرائيليين. والمعنى على الوجهين أن الإسرائيليين كانوا يهابون يشوع كل أيام حياته كما هابوا موسى كذلك. وبداءة تاريخ هذه المهابة وقت عبورهم نهر الأردن.

١٥ «وَقَالَ ٱلرَّبُّ لِيَشُوعَ».

مرّ في الأسفار الخمسة أن هذه العبارة كانت تُذكر مقدمة لأمر جديد. وما بعد هذه العبارة إلى الآية ١٩ تفصيل لما ذُكر في الآية ١١ إجمالاً.

١٦ «مُرِ ٱلْكَهَنَةَ حَامِلِي تَابُوتِ ٱلشَّهَادَةِ أَنْ يَصْعَدُوا مِنَ ٱلأُرْدُنِّ».

خروج ٢٥: ١٦ و٢٢

مُرِ ٱلْكَهَنَةَ… أَنْ يَصْعَدُوا وقفوا في النهر بأمر يشوع عن أمر الرب وكذا كان صعودهم فكان سلطان يشوع على كل الإسرائيليين من كهنتهم إلى عامتهم.

١٧ «فَأَمَرَ يَشُوعُ ٱلْكَهَنَةَ: ٱصْعَدُوا مِنَ ٱلأُرْدُنِّ».

فَأَمَرَ يَشُوعُ ٱلْكَهَنَةَ فعل كما أمره الرب فلّله السلطان الأعلى.

١٨ «فَكَانَ لَمَّا صَعِدَ ٱلْكَهَنَةُ حَامِلُو تَابُوتِ عَهْدِ ٱلرَّبِّ مِنْ وَسَطِ ٱلأُرْدُنِّ، وَٱجْتُذِبَتْ بُطُونُ أَقْدَامِ ٱلْكَهَنَةِ إِلَى ٱلْيَابِسَةِ، أَنَّ مِيَاهَ ٱلأُرْدُنِّ رَجَعَتْ إِلَى مَكَانِهَا وَجَرَتْ كَمَا مِنْ قَبْلُ إِلَى كُلِّ شُطُوطِهِ».

ص ٣: ١٥

فَكَانَ لَمَّا… وَٱجْتُذِبَتْ بُطُونُ أَقْدَامِ ٱلْكَهَنَةِ إِلَى ٱلْيَابِسَةِ، أَنَّ مِيَاهَ ٱلأُرْدُنِّ… جَرَتْ كما أنه كان عند انغماس أرجل الكهنة حاملي التابوت في ضفة المياه أن وقفت المياه المنحدرة (ص ٣: ١٥) كان حين اجتُذبت أقدامهم إلى اليابسة أن جرت تلك المياه. وهذا دليل واضح على أن الحادثة كانت معجزة خالصة لا علاقة للأسباب الطبيعية بها فلا فعل لذلك لغير القدرة الإلهية الصالحة لكل شيء.

وبهذا الفصل (ع ١٥ – ١٨) كرر الكاتب ما ذكره في ع ١١ وزاد عليه أن صعود الكهنة كان بأمر الرب بواسطة يشوع وأن مياه الأردن رجعت إلى مكانها وجرت كما من قبل. فظن بعضهم أن هذا الفصل لكاتب آخر ولكن ليس ظنهم في محله لأن التكرار على هذه الطريقة من اصطلاحات اللغة العبرانية.

حادثة الجلجال ع ١٩ إلى ص ٥: ١٢

١٩ «وَصَعِدَ ٱلشَّعْبُ مِنَ ٱلأُرْدُنِّ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلْعَاشِرِ مِنَ ٱلشَّهْرِ ٱلأَوَّلِ، وَحَلُّوا فِي ٱلْجِلْجَالِ فِي تُخُمِ أَرِيحَا ٱلشَّرْقِيِّ».

ص ٥: ٩

فِي ٱلْيَوْمِ ٱلْعَاشِرِ مِنَ ٱلشَّهْرِ ٱلأَوَّلِ أي العاشر من نيسان من السنة الحادية والأربعين لسنة الخروج من مصر. وهذا اليوم كان سنة الخروج قبل الفصح الأول بأربعة أيام وفيه أمر الله موسى أن يأمر بني إسرائيل بإعداد شاة الفصح (خروج ١٢: ٣) ليكون أول دخولهم أرض الميعاد زمان إعداد خروف الفصح في أرض الميعاد كما كان زمن إعداد ذلك في أرض مصر أرض العبودية.

حَلُّوا فِي ٱلْجِلْجَالِ أي في المكان الذي سُمي على أثر ذلك بالجلجال وهذا من جملة الأدلة على أن هذا السفر كتبه يشوع في نحو أواخر حياته (انظر ص ٥: ٩). وقد تقدّم الكلام على الجلجال في تفسير (ع ٣).

٢٠ «وَٱلاثْنَا عَشَرَ حَجَراً ٱلَّتِي أَخَذُوهَا مِنَ ٱلأُرْدُنِّ نَصَبَهَا يَشُوعُ فِي ٱلْجِلْجَالِ».

ع ٣

نَصَبَهَا يَشُوعُ فِي ٱلْجِلْجَالِ أي أمر بنصبها هناك والظاهر أنها نُصبت على أكمة طبيعية أو صناعية لأن الحجر الذي يستطيع الإنسان حمله ستة أميال لا يُظن أنه كبير حتى إذا نُصب على الأرض يظهر لكل مارٍّ به كما لو وُضع على رأس أكمة. ولعل الحجارة وُضع بعضها فوق بعض حتى صارت كعمود لأنه قصد أن يراها كل إنسان ليذكر حادثة العبور أو يسأل عن علة إقامتها كذلك.

٢١ «وَقَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِذَا سَأَلَ بَنُوكُمْ غَداً آبَاءَهُمْ قَائِلِينَ: مَا هٰذِهِ ٱلْحِجَارَةُ؟».

ع ٦

إِذَا سَأَلَ بَنُوكُمْ غَداً الخ أي في المستقبل (راجع تفسير ع ٦). إنه إذا رأى الإنسان عدد تلك الحجارة ومقاديرها وضعها وانفرادها عن أمثالها في ذلك المكان وغير ذلك من المنبهات سأل طبعاً كيف جيء بها إلى هناك ومن أين أُتي بها وما القصد منها فيكون ذلك خير فرصة للوالدين أن يقصوا على أولادهم أنباء عناية الله بهم وأعماله العجيبة وتدريبهم في عبادته وخوفه وتعظيمه وحمده على مراحمه ومحبته على حسن عنايته. ونحن يجب علينا أن نشجع الصغار ليرغبوا في التعلم والاستفادة ونُسر بأن يسألونا فيعدوا لنا فرصة لتعليمهم وإرشادهم إلى محبة الله وفدائه وغير ذلك من آلائه التي لا تُحصى.

٢٢ «تُعْلِمُونَ بَنِيكُمْ قَائِلِينَ: عَلَى ٱلْيَابِسَةِ عَبَرَ إِسْرَائِيلُ هٰذَا ٱلأُرْدُنَّ».

ص ٣: ١٧

عَلَى ٱلْيَابِسَةِ عَبَرَ إِسْرَائِيلُ هٰذَا ٱلأُرْدُنَّ السؤال «ما هذه الحجارة» (ع ٢١) جوابه بحسب الظاهر على ما يظهر لا يناسب أن يكون جواباً له إنما يحسن أن يكون جواباً «على مَ عبر إسرائيل هذا الأردن» والصحيح أنه لم يُرد به أنه الجواب لذلك السؤال بل أراد أن ذلك السؤال يؤدي بهم إلى أن يعلموهم هذا النبأ أو يمكنهم من إنبائهم بتلك الحادثة العجيبة. وهي التي نُصبت هذه الحجارة من أجلها. وقدم قوله «على اليابسة» للتأكيد لأن قطع النهر على اليابسة مما يحمل على الشك فوجب التأكيد على مقتضى قواعد البلاغة في العربية والعبرانية وغيرها من اللغات المعروفة والظاهر أن ذلك مما يحمل عليه العقل فلم تختلف اللغات فيه.

٢٣ «لأَنَّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكُمْ قَدْ يَبَّسَ مِيَاهَ ٱلأُرْدُنِّ مِنْ أَمَامِكُمْ حَتَّى عَبَرْتُمْ، كَمَا فَعَلَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكُمْ بِبَحْرِ سُوفٍ ٱلَّذِي يَبَّسَهُ مِنْ أَمَامِنَا حَتَّى عَبَرْنَا».

خروج ١٤: ٢١

لأَنَّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكُمْ قَدْ يَبَّسَ مِيَاهَ ٱلأُرْدُنِّ التأكيد في قوله في ع ٢٢ «على اليابسة عبر إسرائيل هذا النهر» يزيل الشك لكن المخاطب مع ذهاب شكه لا يمكنه إلا أن يسأل عن علة هذا الحادث العجيب فأتى هنا ببيانها. وهذه الآية من تتمة أنباء الآباء للأبناء.

مِنْ أَمَامِكُمْ كان مقتضى الظاهر أن يقال من أمام الإسرائيليين لأن هؤلاء البنين لم يكونوا قد خُلقوا وربما كان السؤال الذي أجابوا عليه قبل أن يخلق الآباء أيضاً. فأبان بعضهم أن مسوغ ذلك أنهم كانوا في أصلاب آبائهم يوم عبروا الأردن. والذي نراه أنه خاطبهم كذلك لاعتباره شعب إسرائيل واحداً مثل هذا كثير في الكلام كقولنا اليوم لأهل عصرنا إن الله أرسل إليكم الأنبياء وأرشدكم إلى الحق باعتبار أن الناس جماعة واحدة. فإسرائيل يُطلق على شعب الله القديم في كل وقت ويخاطب به أهل كل عصر من بني إسرائيل. فالذي صُنع للآباء كأنه صُنع للأبناء. ولهذا نظائر في الكتاب المقدس (انظر مزمور ٦٦: ٦ ويوحنا ٦: ٣٢).

كَمَا فَعَلَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكُمْ بِبَحْرِ سُوفٍ ٱلَّذِي يَبَّسَهُ مِنْ أَمَامِنَا حَتَّى عَبَرْنَا هذا نظير آخر لتنزيل الجماعة منزلة الواحد في كل عصر فإن المخاطبين لم ييبس البحر الأحمر أمامهم ولم يعبروه إذا كان ذلك قبل أن يولدوا وربما كانوا ممن وُلدوا بعد قرون من تلك الحادثة العجيبة ولكن كان هذا لهم كما كان لآبائهم. فالمتكلم تصور أن بني إسرائيل جماعة واحدة أبداً وأنهم كلهم عبروا البحر الأحمر في ذلك الزمان. قال بعضهم في هذا مقابلة معجزة عبور الأردن بمعجزة عبور البحر الأحمر «فكما دُعي عبور البحر الأحمر اعتماداً لموسى يُدعى عبور الأردن اعتماداً ليشوع» (١كورنثوس ١٠: ٢).

٢٤ «لِتَعْلَمَ جَمِيعُ شُعُوبِ ٱلأَرْضِ يَدَ ٱلرَّبِّ أَنَّهَا قَوِيَّةٌ، لِكَيْ تَخَافُوا ٱلرَّبَّ إِلٰهَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ».

١ملوك ٨: ٤٢ و٤٣ و٢ملوك ١٩: ١٩ ومزمور ١٠٦: ٨ خروج ١٥: ١٦ و١أيام ٢٩: ١٢ ومزمور ٨٩: ١٢ خروج ١٤: ٣١ وتنثية ٦: ٢ ومزمور ٨٩: ٧ وإرميا ١٠: ٧

لِتَعْلَمَ الخ أي لم تكن تلك المعجزة لمجرد الإعجاب بل بيان قدرة الرب لكل الأمم ولحمل الإسرائيليين على خشية الله.

فوائد

  1. إنه يجب علينا أن نذكر نعم الله علينا. ولهذا وضع الله كثيراً من أمور الذكرى لبني إسرائيل فوضع الختان ذكر لوعده لإبراهيم والفصح ذكرى لإنقاذ الإسرائيليين من مصر وقسط المن ذكرى لإعداد الله لشعبه أسباب المعاش في البرية إلى غير ذلك مما يصعب إحصاؤه. ومن ذلك نصب حجارة الأردن في الجلجال (ع ١ – ٣).
  2. إن ما أسبغه الله على آبائنا من النّعم يصل نفعه إلينا فيُحسب كأنه أسبغه علينا أيضاً (ع ٢٣) فيجب أن نشكره على ذلك كما نشكره على ما ينعم به علينا رأساً.
  3. إن الإنسان ضعيف بالطبع فيخامره بعض الشك والخوف مع علمه الأمن علم اليقين فيجب عليه أن يتضع أمام الله وينسب الفضل إليه تعالى في كل ما يحصل عليه من الخيرات (انظر ع ١٠ والتفسير).
  4. إن هذه الحياة حياة بحث ودرس واختبار والله يُسر بأن نبحث عن الحقائق وندرسها ونختبرها (ع ٢١ وتفسيره).
  5. إن الله يحب أن الناس يُعلنوا اسمه وأعماله ويعرفوا قدرته (ع ٢٤) حُباً لهم لأن ذلك ينفعهم وهو غنيّ عن كل خلقه.
  6. إن أعمال الله العجبية يبقى تأثيرها إلى الأبد ويعمّ كل من عرفها في كل زمان ومكان (ع ٢٤).
  7. إنه يجب أن لا نأبى العمل الذي يدعونا الله إليه لما فيه من الصعوبة فإن الله دعا يشوع إلى أن يقود الإسرائيليين ويأخذ أرض كنعان ويقسمها عليهم فأطاعت حالاً ولم يلتفت إلى الموانع والأهوال من عبور الأردن ومحاربة الكنعانيين.
  8. إنه يجب علينا أن نذكر في كل دعوة إلهية أنه تعالى يعين من دعاه إليها على الصعوبات كما أعان يشوع والإسرائيليين على عبور الأردن والاستيلاء على أرض الميعاد.
  9. إن الله يدّرب من يختاره لعمل قبل أن يختاره له. فإنه اختار يشوع خليفة لموسى بعد أن درّبه سنين كثيرة بالخدمة لموسى فعبر بالإسرائيليين الأردن كما اجتاز بهم موسى البحر الأحمر بجريه على سنن موسى في مراعاته وصايا الله. وأتى سائر أعماله باعتبار كونه قائد إسرائيل على ذلك السنن.
  10. إن الله تعالى يساعدنا على عبور وادي الموت كما أعان الإسرائيليين على عبور الأردن وإن خشيناه لضعف طبيعتنا كما خشي الإسرائيليون جري ندّ مياه الأردن عليهم. إنا نخاف قليلاً ونرجو كثيراً والثقة بالله تغلب الخوف.
  11. إنه يجب على الآباء أن يرشدوا الأبناء إلى الله وحسن عنايته ويقصوا عليهم ما اختبروه من إحسانه. وأن يبذلوا الجهد في تنبيه أذهانهم فيُحلمون على السؤال عن أعمال الله وعنايته ومراحمه (ع ١٥ – ٢٤).
  12. إنه يجب علينا أن نعمل مع الله فإن الإسرائيليين حملوا الحجارة من نهر الأردن إلى الجلجال بواسطة نوابهم بأمر الله مع أن الذي شق النهر وأوقف ماءه نداً بمجرد إراداته وقدرته كان قادراً أن ينقل الحجارة على أجنحة الهواء إلى الجلجال. وهذا موافق كل الموافقة لتعليم العهد الجديد (١كورنثوس ٣: ٩ و٢كورنثوس ٦: ١ وفيلبي ٢: ١٢).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى