سفر يشوع

سفر يشوع | 02 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر يشوع

للقس . وليم مارش

اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّانِي

الجاسوسان وراحاب

١ «فَأَرْسَلَ يَشُوعُ بْنُ نُونٍ مِنْ شِطِّيمَ رَجُلَيْنِ جَاسُوسَيْنِ سِرّاً، قَائِلاً: ٱذْهَبَا ٱنْظُرَا ٱلأَرْضَ وَأَرِيحَا. فَذَهَبَا وَدَخَلاَ بَيْتَ ٱمْرَأَةٍ زَانِيَةٍ ٱسْمُهَا رَاحَابُ وَٱضْطَجَعَا هُنَاكَ».

عدد ٢٥: ١ وعبرانيين ١١: ٣١ ويعقوب ٢: ٢٥ متّى ١: ٥

فَأَرْسَلَ أرسل الجاسوسين قبل أن يرحل الإسرائيليون من المحلة التي كانوا قد تقضى عليهم أشهر فيها (عدد ٢٢: ١ و٣٣: ٤٩).

شِطِّيمَ جمع شطه في العبرانية مخفف أو مختصر من شنطه أو سنطه وهي السنطة أي واحدة شجر السنط كما قالوا (أي العبرانيون) حطة في حنطة وهو اسم مكان كان كثير شجر السنط ولم يزل بعض أشجاره فيه وهو آخر محلات بني إسرائيل واسمه اليوم غور السيسبان يمتد من بحر لوط والأردن إلى جبال موآب. وظن بعضهم أنه بلدة اسمها بيت يشيموت وهو ظن ضعيف. وهل أرسل يشوع الجاسوسين بأمر الرب ذلك لا دليل لفظي عليه ولكنا لا نشك في أنه كان بإلهام الله إياه لأنه جاء بالنفع ولم يُشر أدنى إشارة إلى أن يشوع أخطأ به. وقد جرت العادة عندهم بإرسال الجواسيس في مثل تلك الحال. ولنا لذلك ثلاثة أمثلة تتعلق بأرض كنعان الأول إرسال موسى اثني عشر جاسوساً من قادش برنيع (عدد ١٣: ٢ وتثنية ١: ٢٢). والثاني إرسال الجاسوسين هنا. والثالث إرسال الرجال ليتجسسوا عاي (ص ٧: ٢ و٣).

أَرِيحَا هي مدينة من أقدم مدن الأرض المقدسة كانت في سهم بنيامين على غاية عشرين ميلاً من أورشليم وميلين من الأردن والمرجّح أنها من «روح» في العبرانية أي رائحة لأن أرضها كانت كثيرة الأشجار الطيبة برائحة الأزهار. ورأى آخرون أنها من «يرح» في تلك اللغة أي القمر أو الشهر القمري ورأوا من ذلك أن سكانها كانوا يعبدون القمر. وقال بعضهم سُميت بذلك لأن الأرض التي فيها تشبه القمر شكلاً. وهي تتلي أورشليم في السعة. ويُظن أن موقعها كان عند مدخل وادي كلت. وسُميت أيضاً «مدينة النخل» (تثنية ٣٤: ٣) وقيل إنها في بقعة مدينة النخل.

رَاحَابُ كانت صاحبة خان في أريحا ولهذا نزل الجاسوسان عندها. آمنت بالله وكانت بعد ذلك زوجة لأحد أسلاف المسيح. ولعل سلمون (متّى ١: ٥) الذي تزوجها كان أحد الجاسوسين.

٢ «فَقِيلَ لِمَلِكِ أَرِيحَا: هُوَذَا قَدْ دَخَلَ إِلَى هُنَا ٱللَّيْلَةَ رَجُلاَنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيَتَجَسَّسَا ٱلأَرْضَ».

مزمور ١٢٧: ١ وأمثال ٢١: ٣٠

فَقِيلَ لِمَلِكِ أَرِيحَا كانت كنعان أقساماً كثيرة يُسمّى حاكم كل قسم ملكاً وكانت أريحا مدينة كبيرة تقرب من أورشليم سعة فكانت جديرة بأن تكون في ذلك العصر عاصمة ملك.

رَجُلاَنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيَتَجَسَّسَا ٱلأَرْضَ إن قيل كيف عرفوا أنّ الرجلين من بني إسرائيل وإنهما جاسوسان. قلنا إن خبر بني إسرائيل كان قد ملأ الأرض المقدسة وكانت راحاب نفسها تعلم ذلك وإن الله أعطى الإسرائيليين أرض كنعان وصنع لهم المعجزات (ع ٩ – ١٣) وكان الإسرائيليون قريبين من أريحا وأهلها خافوا منهم وتوقعوا زحف الإسرائيليين عليهم فكانوا يرقبون الطرق والداخل إلى المدينة والخارج منها.

٣ «فَأَرْسَلَ مَلِكُ أَرِيحَا إِلَى رَاحَابَ يَقُولُ: أَخْرِجِي ٱلرَّجُلَيْنِ ٱللَّذَيْنِ أَتَيَا إِلَيْكِ وَدَخَلاَ بَيْتَكِ، لأَنَّهُمَا قَدْ أَتَيَا لِيَتَجَسَّسَا ٱلأَرْضَ كُلَّهَا».

أَخْرِجِي ٱلرَّجُلَيْنِ… لأَنَّهُمَا قَدْ أَتَيَا لِيَتَجَسَّسَا ٱلأَرْضَ هذا يدل على أن الملك اعتقد أن راحاب لم تعلم أنهما جاسوسان ولا من أين هما وهذا الذي خلصها من الملك بعد ما أتته من الحيلة والكذب.

٤ «فَأَخَذَتِ ٱلْمَرْأَةُ ٱلرَّجُلَيْنِ وَخَبَّأَتْهُمَا وَقَالَتْ: نَعَمْ جَاءَ إِلَيَّ ٱلرَّجُلاَنِ وَلَمْ أَعْلَمْ مِنْ أَيْنَ هُمَا».

٢صموئيل ١٧: ١٩ و٢٠

نَعَمْ جَاءَ إِلَيَّ ٱلرَّجُلاَنِ هذا يدل على أن رآهما بعض أهل أريحا وإنّ راحاب علمت ذلك وإلا لأنكرت وكذبت كما كذبت بقولها «لم أعلم من أين هما». والظاهر أن راحاب استحلت الكذب لأن نتيجته نجاة الرجلين اللذَين اعتقدت صحة دينهما فكان عندها أن الغاية تبرر الواسطة وهذا لا يجوز ولكنها عُذرت لجهلها وضلال قومها الذين لم يحرّموا مثل ذلك الكذب.

٥ «وَكَانَ نَحْوَ ٱنْغِلاَقِ ٱلْبَابِ فِي ٱلظَّلاَمِ أَنَّهُمَا خَرَجَا. لَسْتُ أَعْلَمُ أَيْنَ ذَهَبَا. ٱسْعُوا سَرِيعاً وَرَاءَهُمَا حَتَّى تُدْرِكُوهُمَا».

ٱنْغِلاَقِ ٱلْبَابِ أي باب المدينة فكانوا يغلقون أبواب المدينة ليلاً وهذه العادة معهودة في عصرنا في كثير من بلاد الشرق.

أَنَّهُمَا خَرَجَا يجوز هذا الكذب عند الوثنيين وكان أمراً سهلاً عند الكنعانيين وراحاب لم تكن قد عرفت أن الكذب محرّم في شريعة الله فهي معذورة لجهلها ولذلك لم يُحسب ذلك عليها كما يُحسب علينا.

ٱسْعُوا سَرِيعاً وَرَاءَهُمَا حَتَّى تُدْرِكُوهُمَا وهذا احتيال على إبعادهم حتى تتمكن مما أتته بعد ذهابهم.

٦ «وَأَمَّا هِيَ فَأَطْلَعَتْهُمَا عَلَى ٱلسَّطْحِ وَوَارَتْهُمَا بَيْنَ عِيدَانِ كَتَّانٍ لَهَا مُنَضَّدَةً عَلَى ٱلسَّطْحِ».

خروج ١: ١٧ و٢صموئيل ١٧: ١٩

فَأَطْلَعَتْهُمَا عَلَى ٱلسَّطْحِ الخ لندرة أن يفطن أحد أنهما يتواريان على السطح لأنه ليس المختبأ المناسب وتغطيتها إياهما بقضبان الكتان يبعد الظن أنهما هناك إذ كان السطح ولا يزال إلى الآن محل التجفيف والتيبيس لأنه بسيط وعرضة للشمس. وكانت السطوح المسنمة غير معروفة يومئذ أو نادرة كل الندرة ويُعرف واحدها عند العامة بالجملول وعند بعضهم بالجملون. وكانت راحاب قد نضدت قضبان الكتان على السطح لتيبس.

وذكر الكتان هنا يذكّرنا ما أتى في (أمثال ٣١: ١٣) في المرأة الفاضلة التي تطلب صوفاً وكتاناً وتعمل بيدين راضيتين. فلم تكن راحاب كالزواني الشريرات المتكاسلات في المدن في هذه الأيام بل كانت رئيس بيت زكية ونشيطة وكانت تعتني بأهل بيتها وزناها مع أنه خطيئة عظيمة لم يكن خطيئة حسب عادات الكنعانيين.

وليُعلم هنا أن غلة الشعير والكتان من أول غلال أرض كنعان (خروج ٩: ٣١) وكان الشهر الأول من شهور السنة اليهودية الدينية أي نيسان (ص ٩: ١٤) وقت حصاد الشعير (قابل هذا بما في ٢صموئيل ٢١: ٩).

مُنَضَّدَةً موضوعاً بعضها فوق بعض.

٧ «فَسَعَى ٱلْقَوْمُ وَرَاءَهُمَا فِي طَرِيقِ ٱلأُرْدُنِّ إِلَى ٱلْمَخَاوِضِ. وَحَالَمَا خَرَجَ ٱلَّذِينَ سَعَوْا وَرَاءَهُمَا أَغْلَقُوا ٱلْبَابَ».

ٱلْمَخَاوِضِ وفي العبرانية «همبعروت» أي المعابر. وهذا يحتمل الأماكن التي يُقطع بها الأردن على الجسور أو الخيل أو القوارب أو خوضاً بالقدمين. والمخاوض جمع مخاضة وهي ما جاز فيه الناس مشاة وركباناً. وهذا يقتضي أن الباحثين عن الجاسوسين تفرقوا على قدر عدد المخاوض والظاهر أنها كثيرة.

أَغْلَقُوا ٱلْبَابَ أي باب المدينة لكي يمنعوا الجاسوسين من الخروج إن كانا باقيين في المدينة ويمنعوهما من الدخول إن كانا خارجها وربما وضعوا عند الباب حرّاساً.

٨ «وَأَمَّا هُمَا فَقَبْلَ أَنْ يَضْطَجِعَا صَعِدَتْ إِلَيْهِمَا إِلَى ٱلسَّطْحِ».

يَضْطَجِعَا يضعا جنبيهما على السطح ليناما.

إِلَيْهِمَا إِلَى ٱلسَّطْحِ أي إلى مكانهما الذي هو السطح.

٩ «وَقَالَتْ: عَلِمْتُ أَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ أَعْطَاكُمُ ٱلأَرْضَ، وَأَنَّ رُعْبَكُمْ قَدْ وَقَعَ عَلَيْنَا، وَأَنَّ جَمِيعَ سُكَّانِ ٱلأَرْضِ ذَابُوا مِنْ أَجْلِكُمْ».

تكوين ٣٥: ٥ وخروج ٢٣: ٢٧ وتثنية ٢: ٢٥ و١١: ٢٥ خروج ١٥: ١٥

عَلِمْتُ أَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ أَعْطَاكُمُ ٱلأَرْضَ لعلها أول ما دخل الجاسوسان بيتها سألتهما عن شعبهما وغايتهما في إتيانهما وأظهرت أفكارها من جهة بني إسرائيل فوثقا بها وعلماها بعض التعليم بشأن الإله الحقيقي. قالت «أعطاكم» ولم تقل أعطاكما لاعتبارها معها سائر بني إسرائيل لأن الرب أعطى الإسرائيليين كلهم تلك الأرض. وفي كلامها تأكيد كأنها قالت إني موقنة أن الرب أعطاكم أرض كنعان فلا يعروني أقل شك في ذلك وهذا دليل على قوة إيمانها برب الإسرائيليين وصدقه وقدرته.

رُعْبَكُمْ قَدْ وَقَعَ عَلَيْنَا أي على سكان كل أرض كنعان. وهذا تصديق لنشيد موسى النبوي وهو قوله «يَسْمَعُ ٱلشُّعُوبُ فَيَرْتَعِدُونَ. تَأْخُذُ ٱلرَّعْدَةُ سُكَّانَ فِلِسْطِينَ. حِينَئِذٍ يَنْدَهِشُ أُمَرَاءُ أَدُومَ. أَقْوِيَاءُ مُوآبَ تَأْخُذُهُمُ ٱلرَّجْفَةُ. يَذُوبُ جَمِيعُ سُكَّانِ كَنْعَانَ. تَقَعُ عَلَيْهِمِ ٱلْهَيْبَةُ وَٱلرُّعْبُ» (خروج ١٥: ١٤ – ١٦).

جَمِيعَ سُكَّانِ ٱلأَرْضِ ذَابُوا مِنْ أَجْلِكُمْ كأن راحاب كانت تعرف تسبحة موسى أو نشيده فأخذت هذه العبارة منه بالمعنى وهو قوله «يَذُوبُ جَمِيعُ سُكَّانِ كَنْعَانَ» (خروج ١٥: ١٥ انظر التفسير أيضاً).

١٠ «لأَنَّنَا قَدْ سَمِعْنَا كَيْفَ يَبَّسَ ٱلرَّبُّ مِيَاهَ بَحْرِ سُوفَ قُدَّامَكُمْ عِنْدَ خُرُوجِكُمْ مِنْ مِصْرَ، وَمَا عَمِلْتُمُوهُ بِمَلِكَيِ ٱلأَمُورِيِّينَ ٱللَّذَيْنِ فِي عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ: سِيحُونَ وَعُوجَ، ٱللَّذَيْنِ حَرَّمْتُمُوهُمَا».

خروج ١٤: ٢١ وص ٤: ٢٣ عدد ٢١: ٢٤ و٣٤ و٣٥ تثنية ٢: ٤٣ و٣: ٦ و٧: ٢ و٢٠: ١٧

يَبَّسَ ٱلرَّبُّ مِيَاهَ بَحْرِ سُوفَ الخ هذا دليل قاطع على شيوع أنباء إسرائيل ومؤيد أنهم كانوا يعرفون نشيد موسى فإن بني إسرائيل ترنموا بذلك النشيد على أثر قطعهم البحر الأحمر وهو المراد ببحر سوف هنا.

سِيحُونَ وَعُوجَ، ٱللَّذَيْنِ حَرَّمْتُمُوهُمَا أي وقفتموهما للهلاك والتدمير (انظر عدد ٢١: ٢٤ و٣٤ و٣٥ وتثنية ٢: ٣٤ و٣: ٦ و٧: ٢ و٢٠: ١٧ والتفسير).

١١ «سَمِعْنَا فَذَابَتْ قُلُوبُنَا وَلَمْ تَبْقَ بَعْدُ رُوحٌ فِي إِنْسَانٍ بِسَبَبِكُمْ، لأَنَّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكُمْ هُوَ ٱللّٰهُ فِي ٱلسَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَعَلَى ٱلأَرْضِ مِنْ تَحْتُ».

خروج ١٥: ١٤ و١٥ وص ٥: ١ و٧: ٥ وإشعياء ١٣: ٧ تثنية ٤: ٣٩

ٱلرَّبَّ إِلٰهَكُمْ هُوَ ٱللّٰهُ فِي ٱلسَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَعَلَى ٱلأَرْضِ مِنْ تَحْتُ أي هو القادر على كل شيء والحاضر في كل مكان. وكونه «على الأرض من تحت» دليل على أنه مع سموه يتنازل للعناية بخليقته السافلة بالنظر إلى علوه. ويظهر هنا أن الأمم كلها كانت تؤمن بوجود خالق واحد أعظم من كل الكائنات ولكن كل أمة وصفته بصفات خاصة وأشركت به من دونه. وإن راحاب رأت أن ذلك الخالق هو إله الإسرائيليين لما عرفته من قدرته ومحبته لعبيده وعنايته بهم. وفي كلامها ما يستلزم اعترافها بأن آلهة شعبها باطلة وعبادتهم الوثنية إثم فظيع وإن نفسها امتلأت عجباً من أعمال الإله الحق وقلبها امتلأ حباً له. وذلك دليل قاطع على قوة عقلها ومداركها وإصابتها في الاستدلال ولا يعترض على ذلك أنها كانت زانية والمرأة الحكيمة لا ترضى ذلك. قلنا إن الإنسان قد يكون عاقلاً ويخطأ للجهل وهذه المرأة غُذيت مبادئ الوثنية الباطلة مع لبن الثدي ولكنها لما وقفت على الواقعات استدلت بها على بطلان مبادئها وكون إله إسرائيل هو الله. وأما الزناء فربما كان عملاً دينياً عند قومها الوثنيين وهم يسمونها بالزناء المقدس أو أُريد أنها زانية المعنى المجازي وهو أنها تعبد الأوثان أو أنها كانت من قبل زانية معروفة فصار الزنى لقباً لها. وكيف كان الأمر أن الله يغفر خطايا الجهل إذا رجع الجاهل عنها عند علمه أنها تغيظ الله.

وكان اعتراف راحاب بأن إله العبرانيين هو الإله الحق وأن دينهم هو الدين الحق واحد من أمثال كثيرة عهدت من عقلاء الأمم الضالة عند الوقوف على البراهين أو معرفتهم عقائد شعب الله فاعترف بذلك كثيرون من قدماء المصريين والفلسطينيين والسوريين والآشوريين والبابليين والفرس. وقد أبان هذا السفر أن عناية الله بشعبه كان المقصود منها أن «تَعْلَمَ جَمِيعُ شُعُوبِ ٱلأَرْضِ يَدَ ٱلرَّبِّ أَنَّهَا قَوِيَّةٌ» (ص ٤: ٢٤) فيجب على شعب الله في كل زمان ومكان أن يُعلنوا لغيرهم ما صنعه الله لهم فيهدوا كثيرين. ولهذا قال رب الفداء والمجد «ٱذْهَبُوا إِلَى ٱلْعَالَمِ أَجْمَعَ وَٱكْرِزُوا بِٱلْإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا» (مرقس ١٦: ١٥).

١٢ «فَٱلآنَ ٱحْلِفَا لِي بِٱلرَّبِّ وَأَعْطِيَانِي عَلاَمَةَ أَمَانَةٍ. لأَنِّي قَدْ عَمِلْتُ مَعَكُمَا مَعْرُوفاً. بِأَنْ تَعْمَلاَ أَنْتُمَا أَيْضاً مَعَ بَيْتِ أَبِي مَعْرُوفاً».

١صموئيل ٢٠: ١٤ و١٥ و١٧ ع ١٨ و١تيموثاوس ٥: ٨

ٱحْلِفَا لِي بِٱلرَّبِّ بعد أن أعلنت لهم أن إلههم هو الله في السماء الخ سألتهما الحلف فهي بلغت بذلك مطلبين الأول بيان إيمانها والثاني إرهابهم من الحلَف باطلاً لأن المحلوف به الإله الحق القدير الحاضر في كل مكان العالم السرائر والأفكار القاضي العادل المنتقم الشديد العقاب. على أنه في الحلف لها اطمئنان لنفسها وتقوية لرجائها أنهما يخلصانها هي ومن طلبت خلاصهم.

عَلاَمَةَ أَمَانَةٍ علامة آمن بها أنكما تعرفان مكاني وتأتيان إليّ لإنقاذي وإنقاذ من لي.

١٣ «وَتَسْتَحْيِيَا أَبِي وَأُمِّي وَإِخْوَتِي وَأَخَوَاتِي وَكُلَّ مَا لَهُمْ وَتُخَلِّصَا أَنْفُسَنَا مِنَ ٱلْمَوْتِ».

تَسْتَحْيِيَا أَبِي وَأُمِّي وَإِخْوَتِي وَأَخَوَاتِي من عرف صفات الكنعانيين ووقف على هذا الكلام حكم بأن راحاب كانت أسمى من سواها من رجال الكنعانيين ونسائهم (انظر لاويين ١٨: ٢٢ – ٢٨). فإن هذا لا يخرج من فم زانية يهجرها أهلها فهي كانت مع جهلها السابق أفضل من سائر أمتها. ولم تذكر مع من ذكرت زوجاً ولا ابناً فهي إما أرملة لا أولاد لها وأما عزب. وإضافتها للجاسوسين تدل على أنها لم تكن منفردة بذلك المسكن لأن الشرقيين كانوا لا يسمحون لابنة أن تقيم وحدها وتقبل ضيوفاً مهما كانت صفاتها. وعلى فرض أن بيتها كان فندقاً زاد كره انفرادها فيه فالمرجح أن أباها وأمها وإخوتها وأخواتها كانوا ساكنين معها. فوصفها بالزانية لا يحطها عن سواها من أفراد أمتها على أن أعمالها دلت على حكمتها وفضلها بالنسبة إلى سائر أمتها. وهنا بيان أن إيمان راحاب كان مثمراً لأن المؤمن يبذل الجهد في إنقاذ أهله وأقربائه ويردهم عن جهلهم ببيان طريق الحق.

١٤ «فَقَالَ لَهَا ٱلرَّجُلاَنِ: نَفْسُنَا عِوَضَكُمْ لِلْمَوْتِ إِنْ لَمْ تُفْشُوا أَمْرَنَا هٰذَا. وَيَكُونُ إِذَا أَعْطَانَا ٱلرَّبُّ ٱلأَرْضَ أَنَّنَا نَعْمَلُ مَعَكِ مَعْرُوفاً وَأَمَانَةً».

قضاة ١: ٢٤ ومتّى ٥: ٧

فَقَالَ لَهَا ٱلرَّجُلاَنِ: نَفْسُنَا عِوَضَكُمْ لِلْمَوْتِ أي كل منا يفديكم بنفسه وأفرد النفس كأنهما شخص واحد لاتفاقهما على تخليصهم. وهذا تأكيد عظيم يحملها على شديد الثقة بوعدهما.

إِنْ لَمْ تُفْشُوا خاطبها بالجمع وهذا يدل على أن من معها عرفوا بأمرهما لكنها هي التي بذلت الجهد في وقايتهما (على أنه قُرئ أن تفشي وهي قراءة ضعيفة). وفي هذه العبارة إمارة على الريب من والديها وإخوتها وأخواتها وربما كان لمجرد التحذير والتنبيه ليحرصوا على كتم أمرها فإنهم إن بدت منهم أدنى إمارة على معرفة طريقهم في الخروج من أريحا اهتدى قومها إليهما وقتلوهما. والمظنون أن هذه العبارة معترضة والكلام بعدها متصل بما قبلها.

وَيَكُونُ إِذَا أَعْطَانَا ٱلرَّبُّ ٱلأَرْضَ جاءا «بإذا» لا بإن لتيقن أن الرب يعطيهم الأرض ولهذا عينه قالا «أعطانا» بدلاً من يعطينا.

١٥ «فَأَنْزَلَتْهُمَا بِحَبْلٍ مِنَ ٱلْكُوَّةِ، لأَنَّ بَيْتَهَا بِحَائِطِ ٱلسُّورِ، وَهِيَ سَكَنَتْ بِٱلسُّورِ».

أعمال ٩: ٢٥

فَأَنْزَلَتْهُمَا الخ بمساعدة من معها في البيت لكي لا يمرا من باب المدينة فيُمسكا فكان إنقاذهما مثل إنقاذ بولس من دمشق (أعمال ٩: ٢٥).

١٦ «وَقَالَتْ لَهُمَا: ٱذْهَبَا إِلَى ٱلْجَبَلِ لِئَلاَّ يُصَادِفَكُمَا ٱلسُّعَاةُ، وَٱخْتَبِئَا هُنَاكَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى يَرْجِعَ ٱلسُّعَاةُ، ثُمَّ ٱذْهَبَا فِي طَرِيقِكُمَا».

ٱذْهَبَا إِلَى ٱلْجَبَلِ أي الأرض الجبلية بين أريحا وأورشليم فطالما كانت تلك الأرض ملجأ للخائفين وهي ذات كهوف يتاورون فيها.

ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ الخ الظاهر أن هذه المدة كانت معيّنة للتفتيش عن الجواسيس أو إنها كانت كافية عندهم.

١٧ «فَقَالَ لَهَا ٱلرَّجُلاَنِ: نَحْنُ بَرِيئَانِ مِنْ يَمِينِكِ هٰذَا ٱلَّذِي حَلَّفْتِنَا بِهِ».

خروج ٢٠: ٧

نَحْنُ بَرِيئَانِ مِنْ يَمِينِكِ هٰذَا أي نحن غير مسؤولَين بما يلحقكم من الشر وما علينا إثم إن لم نقم بما حلّفتنا عليه فلا يقال إنا حنثنا إن لم تفعلي ما يأتي. وأضاف اليمين إليها لأنها هي علتها ولأن اليمين مطلوبها.

١٨ «هُوَذَا نَحْنُ نَأْتِي إِلَى ٱلأَرْضِ، فَٱرْبِطِي هٰذَا ٱلْحَبْلَ مِنْ خُيُوطِ ٱلْقِرْمِزِ فِي ٱلْكُوَّةِ ٱلَّتِي أَنْزَلْتِنَا مِنْهَا، وَٱجْمَعِي إِلَيْكِ فِي ٱلْبَيْتِ أَبَاكِ وَأُمَّكِ وَإِخْوَتَكِ وَسَائِرَ بَيْتِ أَبِيكِ».

ع ١٢ ص ٦: ٢٣

ٱرْبِطِي هٰذَا ٱلْحَبْلَ مِنْ خُيُوطِ ٱلْقِرْمِزِ أي المُبرم من هذه الخيوط الحمراء المصبوغة بالقرمز وهو صبغ من عصارة دود يكثر في آجام أرمينية.

قال بعض المفسرين إن الإشارة تدل على أن ذلك الحبل هو الحبل الذي أنزلتهما به من الكوة وقال آخرون يحتمل أنه حبل آخر أشار إليه واختار الحبل القرمزي لأنه يظهر على الجدار فلا يُضَلّ عنه فيكون علامة لبيتها فلا يقربه أحد من الجنود ويهدمه. فهو يشبه دم الفصح الذي وُضع على القائمتين والعتبة العليا على بيوت الإسرائيليين في مصر فنجا به أبكارهم من الملاك المهلك.

وَٱجْمَعِي… أَبَاكِ وَأُمَّكِ الخ وهم الذين طلبت نجاتهم معها.

١٩، ٢٠ «١٩ فَيَكُونُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ أَبْوَابِ بَيْتِكِ إِلَى خَارِجٍ، فَدَمُهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَنَحْنُ نَكُونُ بَرِيئَيْنِ. وَأَمَّا كُلُّ مَنْ يَكُونُ مَعَكِ فِي ٱلْبَيْتِ فَدَمُهُ عَلَى رَأْسِنَا إِذَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ يَدٌ. ٢٠ وَإِنْ أَفْشَيْتِ أَمْرَنَا هٰذَا نَكُونُ بَرِيئَيْنِ مِنْ حَلْفِكِ ٱلَّذِي حَلَّفْتِنَا».

متّى ٢٧: ٢٥ ع ١٤

هذا تأكيد لما في (ع ١٧).

فَدَمُهُ عَلَى رَأْسِهِ أي هو المطالب بدم نفسه فإثمه عليه لا علينا.

٢١ «فَقَالَتْ: هُوَ هٰكَذَا حَسَبَ كَلاَمِكُمَا. وَصَرَفَتْهُمَا فَذَهَبَا. وَرَبَطَتْ حَبْلَ ٱلْقِرْمِزِ فِي ٱلْكُوَّةِ».

فَقَالَتْ: هُوَ هٰكَذَا أي هذا هو الحق.

وَرَبَطَتْ حَبْلَ ٱلْقِرْمِزِ فِي ٱلْكُوَّةِ أي ربطته في الوقت المعيّن لا في الحال وإلا وقعت عليها الشبهة وكثرت الظنون.

٢٢ «فَٱنْطَلَقَا وَجَاءَا إِلَى ٱلْجَبَلِ وَلَبِثَا هُنَاكَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى رَجَعَ ٱلسُّعَاةُ. وَفَتَّشَ ٱلسُّعَاةُ فِي كُلِّ ٱلطَّرِيقِ فَلَمْ يَجِدُوهُمَا».

ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ (انظر تفسير ص ١: ١١).

٢٣ «ثُمَّ رَجَعَ ٱلرَّجُلاَنِ وَنَزَلاَ عَنِ ٱلْجَبَلِ وَعَبَرَا وَأَتَيَا إِلَى يَشُوعَ بْنِ نُونٍ وَقَصَّا عَلَيْهِ كُلَّ مَا أَصَابَهُمَا».

عَبَرَا أي قطعا الأردن.

قَصَّا عَلَيْهِ وحده أو وهو مع الشيوخ.

٢٤ «وَقَالاَ لِيَشُوعَ: إِنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ دَفَعَ بِيَدِنَا ٱلأَرْضَ كُلَّهَا، وَقَدْ ذَابَ كُلُّ سُكَّانِ ٱلأَرْضِ بِسَبَبِنَا».

خروج ٢٣: ٣١ وص ٦: ٢ و٢١: ٤٤ ع ٩

إِنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ دَفَعَ بِيَدِنَا ٱلأَرْضَ أي ولاّنا إيّاها أو ملّكنا إياها وعبّر عن المضارع بصيغة الماضي للتحقيق حتى كأن الاستيلاء وقع فعلاً. وهذا لا يُبقي لهم فخراً بالاستيلاء عليها لأنه عمل الرب لا عملهم.

ذَابَ كُلُّ سُكَّانِ ٱلأَرْضِ أي خافونا خوفاً شديداً حتى صاروا إلى غاية الوهن والضعف.

فوائد

  1. إن يشوع مع عناية الله به ووعده له بالنصر والاستيلاء على أرض الموعد لم يترك الوسائل بل بذل جهده في إدراك الموعد فعلينا أن نستعمل كل ما لنا من الوسائل مع الاتكال على الله أن نعمل ونتوكل لا أن نتوكل ولا نعمل. قال الكتاب «تمموا خلاصكم» مع أن الخلاص كله بالمسيح لأن المسيحي يجب أن يكون غصناً حياً في الكرمة وهو مخلوق لأعمال صالحة.

    قيل إن الإنسان يختلف عن الحيوان لكونه يفتكر بالغد وأما الحيوان فباليوم وأمس فقط. يجب على الإنسان أن يستعد للغد ولا يهتم به. فيكفي جاسوسان فقط ويكفي إرسالهما أمامنا. هما جاسوس الإيمان وجاسوس الطاعة فإن المؤمن يعرف بإيمانه الأمور الآتية. والطاعة رفيقة الإيمان لأنها مستعدة أن تعمل ما يُطلب لما تعرفه.

  2. إن الجاسوسين آثرا القيام بما عليهما على حسن الصيت فدخلا ذلك البيت الساقط وعرفا منه أحوال القوم وكان سبباً لخلاص تلك المرأة ومن لها. وكذا فعل تلاميذ المسيح والمسيح نفسه فكانوا يبشرون ويعلّمون شر الخطأة ليخلصوهم من الهلاك. وشرعوا في ما أُرسلوا لأجله غير مكترثين بالخطر واتخذوا الوسائل الواقية ولم يقتصروا على التسليم لقضاء الله.
  3. إن راحاب آمنت بإله إسرائيل وعملت فكان إيمانها هو الإيمان الحي المطلوب لأن الإيمان بلا أعمال ميت (يعقوب ٢: ٢٥ و٢٦).
  4. إن راحاب آثرت غيرها على نفسها بخلاف الأكثرين الذين يؤثرون نفوسهم على غيرهم فإنها عرّضت نفسها للخطر العظيم لتنقذ الجاسوسين وأتت المؤاساة من أحسن أبوابها فلم تقتصر على طلب نجاة نفسها بل طلبت مع ذلك نجاة والديها وإخوتها وأخواتها فصارت تلك المرأة التي كانت تُحسب ساقطة خير مثال للذين يحبون البر.
  5. إن كذب راحاب وإن كان قصدها منه الخير لا يبرّرها لو عرفت شريعة الله حق المعرفة لكنها غُفر لها لجهلها وإن الله يتغاضى عن خطايا الجهل غير المقصود فيجب أن نحذر الكذب وأن نغلب التجربة على أن بعض العلماء اعتذر عن راحاب بأن وقعت بين شرين قتل الجاسوسين والكذب فاختارت أصغر الشرّين فتأمل وانظر مع هذا ما كانت عليه من المبادئ.
  6. إن لنا من قبول راحاب في جماعة إسرائيل إن الله يقبل الراجعين إليه من الأمم ويقبل توبة التائبين ولو كانوا أشراراً.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى