
ربما لم نتعّود كمسيحيين على أن نتكلّم عن يوسف “كمرسَل”، لكن يبدو أن يوسف قد فهم هذه الحقيقة يقيناً، ربما اقتنع يوسف في نهاية حياته -على وجه التحديد- بأن الله كان من وراء الأحداث التي أجبرته على الحياة في مصر “لأَنَّهُ لاسْتِبْقَاءِ حَيَاةٍ أَرْسَلَنِيَ الله قُدَّامَكُمْ. لأَنَّ لِلْجُوعِ فِي الأَرْضِ الآنَ سَنَتَيْنِ. وَخَمْسُ سِنِينَ أَيْضًا لاَ تَكُونُ فِيهَا فَلاَحَةٌ وَلاَ حَصَادٌ. فَقَدْ أَرْسَلَنِي الله قُدَّامَكُمْ لِيَجْعَلَ لَكُمْ بَقِيّة فِي الأَرْضِ وَلِيَسْتَبْقِيَ لَكُمْ نَجَاةً عَظِيمَةً” (تكوين 45: 5-7).
كان الله هو “الفاعل” في الحقيقة، وكانت كل الأحداث الشريرة التي حدثت ليوسف تحت سلطانه المطلق، فلم يتفاجأ الرَّبّ بشيء. إن العنايّة الإلهيّة لا تأبه لخطط البشر الشريرة وتعرف أن تحوِّل نواياهم السيئة إلى الخير، فلا يقتصر الأمر على نجاة يوسف، بل تصبح جريمة اختطافه وبيعه بيد إخوته وسيلةً في يد الله، إذ أن مجيء بني يعقوب إلى مصر يمهِّد لنشأة شعب الله المختار.
هناك نظرة خلاصيّة؛ أي حفظ شعب كثير العدد على قيد الحياة، هذه النظرة تتجاوز العهد القديم كلِّه وتنفذ متوسِّعة إلى العهد الجديد، وهي رسم أولي للفداء. كما كان سفر الخروج كذلك.
تتميِّز قصة يوسف وإرساليته ب “دور بارز تحتله الأحلام” (أحلام يوسف، وأحلام الفرعون، وأحلام الساقي والخباز … الخ) في الإرشاد الإلهي والإخبار بالمستقبل.
يجب أن نلاحظ أن الله يمكنه الوصول إلى قلوب البشر وأذهانهم في كل زمان ومكان.
إن الوسيلة الأولى والأكثر أهميّة لإرشاد المؤمنين اليوم ليست الأحلام بل الكلمة المقدَّسة. إن للكلمة أولويّة عن أي وسيلة أخرى. هل هناك أعظم من رؤيّة الرَّبّ مُتجلياً؟! لكن اسمع الرسول بطرس الذي رأي الرَّبّ يَسُوع على جبل التجلي يقول: “لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً، إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوع الْمَسِيح وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ. لأَنَّهُ أَخَذَ مِنَ الله الآبِ كَرَامَةً وَمَجْدًا، إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ صَوْتٌ كَهذَا مِنَ الْمَجْدِ الأَسْنَى: «هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي أَنَا سُرِرْتُ بِهِ». وَنَحْنُ سَمِعْنَا هذَا الصَّوْتَ مُقْبِلاً مِنَ السَّمَاءِ، إِذْ كُنَّا مَعَهُ فِي الْجَبَلِ الْمُقَدَّسِ. وَعِنْدَنَا الْكَلِمَةُ النَّبَوِيّة، وَهِيَ أَثْبَتُ، الَّتِي تَفْعَلُونَ حَسَنًا إِنِ انْتَبَهْتُمْ إِلَيْهَا، كَمَا إِلَى سِرَاجٍ مُنِيرٍ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ، إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ النَّهَارُ، وَيَطْلَعَ كَوْكَبُ الصُّبْحِ فِي قُلُوبِكُمْ، عَالِمِينَ هذَا أَوَّلاً: أَنَّ كُلَّ نُبُوَّةِ الْكِتَابِ لَيْسَتْ مِنْ تَفْسِيرٍ خَاصٍّ. لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ الله الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ” (2 بطرس 1: 16 -21).
في إرساليّة يوسف، يستمر الله في الكشف عن ذاته وإعلان هويته، ليس فقط لشعبه بل أيضاً لشعب مصر ولسائر الشعوب المجاورة. إن الله هو إله الخليقة، وهو يعطف على الجميع ويتعامل بنعمته مع الكل، وما اختياره ليوسف ولسائر بني يعقوب إلا ليكونوا قناة للبركة لكل الأرض “فَالآنَ إِنْ سَمِعْتُمْ لِصَوْتِي، وَحَفِظْتُمْ عَهْدِي تَكُونُونَ لِي خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. فَإِنَّ لِي كُلَّ الأَرْضِ” (خروج 19: 5).
كانت مصر في ذلك الزمان سيدةَ العالم، وأرضَ الحضارة، وبلادَ الحكمة والعمران والفلك والسحر (خروج 7: 11، 22، 8: 1؛ 1 ملوك 5: 10؛ إِشَعْيَاء 19: 11-13)، لكن علوم المصريين وحكمتهم توارت خجلاً أمام العلم الذي منحه الله للذين يؤمنون به. ونرى استمراراً لتلك الحقيقة في حياة مُوسَى وقصة الخروج (خروج ص 7، ص 8).
إن وصول يوسف ليكون ثانياً بعد فرعون، مُتسلِّطاً على أعلى ممالك العالم هو إحدى تطبيقات تعليم الكتاب المقدس عن الله؛ الإله العلي المتسلِّط في مملكة الناس وهو يعطيها لمن يشاء. وقد ردّ يوسف كل الفضل لله فيما آلت إليه الأمر في نهايّة القصة.
لا يمكن أن يغيب عن ذهن الدارسين لقصة يوسف قيمة الألم الذي اجتازه بينما كان يوسف في ملء مشيئة الله محققاً المقاصد السماويّة.
إن البعض يظنون أن دعوة الله تضمن للخادم السلامة والسلام والرخاء والرفاهيّة والأمان الشخصي، لكن ذلك الفكر المغلوط ليس هو وجهة نظر الله؛ فلقد تألَّم يوسف ظلماً من إخوته الذين حقدوا عليه وأبغضوه، ومن ثم احتالوا له وباعوه عبداً، ثم تألَّم في بيت فوطيفار وسُجن ظلماً في تهمة “مخلة بالشرف”، وزاد ألمه حينما نسيه “ساقي فرعون لمدة سنتيْن إضافيتيْن”، وبلغ مجموع سنين الغربة والعبوديّة والعذاب ثلاثة عشرة سنة!! لكن تعويضات الله كانت كفيلة لأن تقوده إلى قناعة أن “الله أَنْسَانِي كُلَّ تَعَبِي وَكُلَّ بَيْتِ أَبِي». وَدَعَا اسْمَ الثَّانِى «أَفْرَايِمَ» قَائِلاً: «لأَنَّ الله جَعَلَنِي مُثْمِرًا فِي أَرْضِ مَذَلَّتِي» (تكوين 41: 51، 52).
كيف ثبت يوسف في الألم؟
- ثَبَتَ في الكرمة.
- جَاورَ العين.
- واجه الألم.
- تشدّد بعزيز يعقوب.
“يُوسُفُ، غُصْنُ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ، غُصْنُ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ عَلَى عَيْنٍ. أَغْصَانٌ قَدِ ارْتَفَعَتْ فَوْقَ حَائِطٍ. فَمَرَّرَتْهُ وَرَمَتْهُ وَاضْطَهَدَتْهُ أَرْبَابُ السِّهَامِ. وَلكِنْ ثَبَتَتْ بِمَتَانَةٍ قَوْسُهُ، وَتَشَدَّدَتْ سَوَاعِدُ يَدَيْهِ. مِنْ يَدَيْ عَزِيزِ يَعْقُوبَ، مِنْ هُنَاكَ، مِنَ الرَّاعِي صَخْرِ إِسْرَائِيلَ، مِنْ إِلهِ أَبِيكَ الَّذِي يُعِينُكَ، وَمِنَ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ الَّذِي يُبَارِكُكَ، تَأْتِي بَرَكَاتُ السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَبَرَكَاتُ الْغَمْرِ الرَّابِضِ تَحْتُ. بَرَكَاتُ الثَّدْيَيْنِ وَالرَّحِمِ. بَرَكَاتُ أَبِيكَ فَاقَتْ عَلَى بَرَكَاتِ أَبَوَيَّ. إِلَى مُنْيّة الآكَامِ الدَّهْرِيّة تَكُونُ عَلَى رَأْسِ يُوسُفَ، وَعَلَى قِمَّةِ نَذِيرِ إِخْوَتِهِ” (تكوين 49: 22 – 26).