إنجيل يوحنا

إنجيل يوحنا | 21 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل يوحنا

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الحادي والعشرون

ظهور يسوع لتلاميذه على بحر طبرية (ع ١ – ١٤)

١ «بَعْدَ هَذَا أَظْهَرَ أَيْضاً يَسُوعُ نَفْسَهُ لِلتّلامِيذِ عَلَى بَحْرِ طَبَرِيَّةَ. ظَهَرَ هَكَذَا».

بَعْدَ هَذَا أي بعد الحوادث التي ذُكرت في أصحاح ٢٠، والوقت ما بين اليوم الثامن من قيامته واليوم الأربعين.

أَظْهَرَ أَيْضاً يَسُوعُ نَفْسَهُ قال «أظهر نفسه» ولم يقل أتى إليهم بسبب التغيير الذي حدث له بعد قيامته، فكان يظهر متى أراد ولمن أراد، ويختفي متى شاء. وقوله «أيضاً» يدل على أنه ظهر قبل ذلك للرسل. وهذا الظهور لم يذكره أحد من البشيرين غير يوحنا. إلا أنهم ذكروا وعد المسيح بالاجتماع في الجليل.

عَلَى بَحْرِ طَبَرِيَّةَ أي على الشاطئ (انظر شرح متّى ٤: ١٨). ويسمّى أيضاً بحر الجليل وبحر جنيسارت ولم يسمِّه أحد بحر طبرية غير يوحنا، نسبة إلى المدينة التي على شاطئه، والمدينة نفسها سميّت طبرية نسبة إلى طيباريوس قيصر الروماني.

٢ «كَانَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ، وَتُومَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ التَّوْأَمُ، وَنَثَنَائِيلُ الَّذِي مِنْ قَانَا الجَلِيلِ، وَابْنَا زَبْدِي، وَاثْنَانِ آخَرَانِ مِنْ تلامِيذِهِ مَعَ بَعْضِهِمْ».

يوحنا ١: ٥٥ متّى ٤: ٢١

تواجد هؤلاء السبعة في الجليل وطنهم، وقد عادوا إليه بعد عيد الفصح. ووعد المسيح أن يجتمع بهم هناك (متّى ٢٦: ٣٢ و٢٨: ١٠ ومرقس ١٤: ٢٨ و١٦: ٧) كما أمرهم الملاك بالذهاب إلى الجليل (متّى ٢٨: ٧). وكان المسيح قد قضى أكثر وقت خدمته الأرضية هناك، وكان أكثر تلاميذه من الجليل. فكان الاجتماع فيه أسهل عليهم من الاجتماع في أي مكان آخر، كما أنه أكثر أمناً لبعده عن تواجد رؤساء اليهود. وكان هذا الاجتماع استعداداً للاجتماع على الجبل الذي ذكره متّى (متّى ٢٨: ١٦) وحضره أكثر من خمس مئة أخ (١كورنثوس ١٥: ٦). وبعد هذا الاجتماع العظيم رجع الرسل إلى أورشليم بأمر المسيح، وشاهدوا صعوده. وكان قد أمرهم بأن لا يبرحوا بعد صعوده من أورشليم حتى يحل عليهم الروح القدس. وقد يثور سؤال: إن الملاك عند القبر أمرهم بالذهاب إلى الجليل، وبهذا أمرهم المسيح قبل موته، فلماذا بقوا ثمانية أيام في أورشليم؟ (يوحنا ٢٠: ٢٦) أجبنا: لم يكن من اللائق أن يتركوا أورشليم قبل نهاية أسبوع الفصح، ولعل من جملة ما عاقهم عن ذلك عدم إيمان توما.

نَثَنَائِيلُ المرجح أنه هو برثولماوس أي ابن ثولماوس (انظر شرح متّى ١٠: ٣). وذُكر هنا فقط أنه من قانا الجليل.

وَابْنَا زَبْدِي هما يعقوب ويوحنا، وذكر يوحنا هنا فقط اسم أبيه.

وَاثْنَانِ آخَرَانِ مِنْ تلامِيذِهِ لا نعرف من هما. وهل هما مِن الرسل، أو من غيرهم من المؤمنين.

٣ «قَالَ لَهُمْ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: أَنَا أَذْهَبُ لأتَصَيَّدَ. قَالُوا لَهُ: نَذْهَبُ نَحْنُ أَيْضاً مَعَكَ. فَخَرَجُوا وَدَخَلُوا السَّفِينَةَ لِلوَقْتِ. وَفِي تِلكَ اللَّيْلَةِ لَمْ يُمْسِكُوا شَيْئاً».

قَالَ لَهُمْ سِمْعَانُ بُطْرُسُ كعادته في سبقه غيره في الكلام والعمل.

أَنَا أَذْهَبُ لأتَصَيَّدَ هذا يتضمن قوله «هل تذهبون معي؟».

نَذْهَبُ لا يدل رجوعهم إلى مهنتهم الأصلية على أنهم تركوا وظيفتهم الرسولية، كما أن اشتغال بولس أحياناً بصناعة الخيام لا يدل على أنه ترك التبشير. وإنما فعلوا ذلك وقتياً وهم يتوقعون مجيء المسيح إليهم ليشغلوا الوقت وليجهزّوا ما يحتاجون إليه.

فِي تِلكَ اللَّيْلَةِ لَمْ يُمْسِكُوا شَيْئاً رتب الله ذلك لتكون معجزة الصيد العظيم صباحاً أغرب وأعجب. ومثل هذا التعب الباطل حدث لبطرس وابني زبدي في تلك البحيرة قبل هذا بنحو ثلاث سنين (لوقا ٥: ٥).

٤ «وَلَمَّا كَانَ الصُّبْحُ، وَقَفَ يَسُوعُ عَلَى الشَّاطِئِ. وَلَكِنَّ التّلامِيذَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَسُوعُ».

يوحنا ٢٠: ١٤

وَقَفَ يَسُوعُ عَلَى الشَّاطِئِ الأرجح أن ظهوره كان بغتة كظهوره سابقاً في البيت (يوحنا ٢٠: ١٩، ٢٦).

وَلَكِنَّ التّلامِيذَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ وكذا لم تعلم مريم المجدلية (يوحنا ٢٠: ٢)، والتلميذان الذاهبان إلى عمواس (لوقا ٢٤: ١٦). وسببه التغيير في هيئته. ومن العجب أنهم لم يعرفوه من صوته.

٥ «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: يَا غِلمَانُ أَلَعَلَّ عِنْدَكُمْ إِدَاماً؟. أَجَابُوهُ: لا!».

لوقا ٢٤: ٤١

عرف المسيح كل أمورهم لكنه سألهم ذلك لفتح الحديث، وليجعله مقدمة لما سيقوله، كما فعل مع المرأة السامرية بقوله «أعطيني لأشرب» (يوحنا ٤: ٧). وكان سؤال المسيح مما يتوقعه الصيادون من المارّة، لأن سؤاله يدل على رغبته في نجاحهم، أو في شراء شيء من السمك.

إِدَاماً هو ما يؤكل مع الخبز، والمراد به هنا السمك.

لا! اقتصروا على ذلك لصعوبة الحوار بسبب المسافة بينهم وبينه (ع ٨).

٦ «فَقَالَ لَهُمْ: أَلقُوا الشَّبَكَةَ إِلَى جَانِبِ السَّفِينَةِ الأَيْمَنِ فَتَجِدُوا. فَأَلقَوْا، وَلَمْ يَعُودُوا يَقْدِرُونَ أَنْ يَجْذِبُوهَا مِنْ كَثْرَةِ السَّمَكِ».

لوقا ٥: ٤، ٦، ٧

الظاهر أنهم كانوا قد يئسوا ورفعوا الشبكة ووضعوها في السفينة وشرعوا يرجعون، لكنهم قبلوا نصحه في الحال مع أنهم كانوا قد تعبوا الليل كله عبثاً.

٧ «فَقَالَ ذَلِكَ التِّلمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ لِبُطْرُسَ: هُوَ الرَّبُّ. فَلَمَّا سَمِعَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ أَنَّهُ الرَّبُّ، اتَّزَرَ بِثَوْبِهِ، لأنَّهُ كَانَ عُرْيَاناً، وَأَلقَى نَفْسَهُ فِي البَحْرِ».

يوحنا ١٣: ٢٣ و٢٠: ٢

فَقَالَ ذَلِكَ التِّلمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ أي يوحنا كاتب هذه البشارة ولم يذكر اسمه كما تعوَّد.

هُوَ الرَّبُّلم يقل كيف عرفه. فإن قيل إن الصيد الكثير ليس دليلاً كافياً على أن ذلك هو المسيح، قلنا إن المعجزة أن المسيح عرف مكان كثرة السمك من بعيد، وهو ما لم يعرفه تلاميذه وهم على البحيرة! وهذا ما عرَّف يوحنا أن ذلك هو المسيح. ولعله تذكّر يوم دعاه يسوع ليكون تلميذاً له. وكان قد تعب هو ورفقاؤه كل الليل عبثاً، ثم ألقى الشبكة بأمر المسيح فصاد كثيراً. ولعل النجاح الذي كان طاعةً لنصح ذلك الرجل جعل يوحنا يمعن النظر فيه، فعرفه من هيئته.

فَلَمَّا سَمِعَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ كان يوحنا أسرع من بطرس في الإدراك (يوحنا ٢٠: ٨)، وكان بطرس أسرع منه في العمل المبني عليه، كما يظهر من هذه الآية ومن مشيه على البحر لملاقاة المسيح (متّى ١٤: ٢٩) ومن سلّه السيف والضرب به (يوحنا ١٨: ١٠).

اتَّزَرَ بِثَوْبِهِ أي شد وسطه به. وكان قد نزعه عنه وهو يصيد، فلبسه احتراماً للمسيح.

لأنَّهُ كَانَ عُرْيَاناً أي من بعض الثياب كالكساء وما شابهه مما تقتضي سهولة الصيد خلعه.

وَأَلقَى نَفْسَهُ فِي البَحْرِ ليصل إلى المسيح سريعاً. فمحبته لسيده ألجأته إلى ذلك، فلم يهتم بالسمك أو الشبكة أو السفينة أو الرفاق.

٨ «وَأَمَّا التّلامِيذُ الآخَرُونَ فَجَاءُوا بِالسَّفِينَةِ، لأنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بَعِيدِينَ عَنِ الأَرْضِ إلا نَحْوَ مِئَتَيْ ذِرَاعٍ، وَهُمْ يَجُرُّونَ شَبَكَةَ السَّمَكِ».

وَهُمْ يَجُرُّونَ شَبَكَةَ السَّمَكِ منعهم ثقل الشبكة لكثرة ما فيها من السمك أن يرفعوها إلى السفينة كعادتهم أحياناً (لوقا ٥: ٧). وذكر البشير قرب السفينة من الشاطئ بياناً لإمكان جر الشبكة وراءهم إليه.

٩ «فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى الأَرْضِ نَظَرُوا جَمْراً مَوْضُوعاً وَسَمَكاً مَوْضُوعاً عَلَيْهِ وَخُبْزاً».

لم يذكر يوحنا من أين أتى المسيح بالسمك والجمر والخبز. ولا نعجب من وجودها هناك بواسطة معجزية. فهذا يشبه إرسال الملاك بالطعام إلى إيليا في البرية (١ملوك ١٩: ٦). وغاية يسوع مما فعل أن يظهر لهم قوته على تهيئة حاجاتهم، واستعداده لذلك، ورغبته فيه.

١٠ «قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: قَدِّمُوا مِنَ السَّمَكِ الَّذِي أَمْسَكْتُمُ الآنَ».

الأرجح أن المسيح قصد بذلك أن يأتوا ببعض ما صادوه هم من السمك ليأكلوه مع ما أعدّه هو. ولعله قصد أن يأتي بالسمك ويريه لهم ليقتنعوا بوفرة الصيد، ويذكروا معجزة السمك التي صنعها حين دعاهم ليكونوا «صيادي الناس».

١١ «فَصَعِدَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَجَذَبَ الشَّبَكَةَ إِلَى الأَرْضِ، مُمْتَلِئَةً سَمَكاً كَبِيراً، مِئَةً وَثلاثاً وَخَمْسِينَ. وَمَعْ هَذِهِ الكَثْرَةِ لَمْ تَتَخَرَّقِ الشَّبَكَةُ».

الظاهر أن التلاميذ لما وقفوا على الشاطئ كانوا أمام المسيح يتوقعون أمره. ولما أمرهم بتقديم السمك أخذوا يجذبون الشبكة إلى الأرض. وقام بطرس بذلك وساعده الباقون لأنه هو الذي دعاهم إلى الصيد (ع ٣). ومن غرائب ذلك ثلاثة أشياء: كثرة السمك، وكبره، وعدم تخرق الشبكة، خلافاً لما كان في لوقا ٥: ٦. وذكر عدد السمك بياناً لعظمة المعجزة، كما ذكر أن الآكلين في معجزة بيت صيدا كانوا خمسة آلاف رجل، وأن الأرغفة خمسة والإدام سمكتان، وأن القفف اثنتا عشرة (يوحنا ٦: ٩، ١٠، ١٣).

١٢ «قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: هَلُمُّوا تَغَدَّوْا. وَلَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ مِنَ التّلامِيذِ أَنْ يَسْأَلَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ إِذْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الرَّبُّ».

أعمال ١٠: ٤١

هَلُمُّوا تَغَدَّوْا أعدّ المسيح الطعام ودعاهم إليه شفقة عليهم لأنه عرف أنهم قد تعبوا وجاعوا بعد ليلة طويلة من الجهد، وليبين أن مشاعره نحوهم لم تتغير. وإن كان قد مات وقام فقد ظل يحبهم ويعتني بهم كما كان في أول الأمر. ولا شك أنه أكل معهم كما قال بطرس (أعمال ١٠: ٤١) وحسبما أنبأ به (لوقا ٢٤: ٤٢، ٤٣) لأنه أراد أن يؤكد لهم صحة قيامته بالجسد، وأن يزيل خوفهم، ويجعلهم يعتبرونه حبيبهم وصديقهم.

وَلَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ لم يكن الرسل حينئذ محتاجين إلى شهادة المسيح بأنه هو، لأنهم تأكدوا من ذلك. لكنه كان يزيدهم تعزية لو سمعوه يقول «أنا هو» كما قال وهو آتٍ إليهم على البحر ليلاً (يوحنا ٦: ٢٠). لكنهم عدلوا عن السؤال خوفاً لما على هيئته من الهيبة والوقار، ومن أنه قد قام من الأموات، وأخذ يحضر ويغيب بطريق عجيبة، ومن المعجزتين اللتين صنعهما حينئذ.

١٣ «ثُمَّ جَاءَ يَسُوعُ وَأَخَذَ الخُبْزَ وَأَعْطَاهُمْ وَكَذَلِكَ السَّمَكَ».

ثُمَّ جَاءَ يَسُوعُ الظاهر أنهم خافوا أن يتقدموا إليه حتى اقترب منهم ليشجعهم.

وَأَخَذَ الخُبْزَ وَأَعْطَاهُمْ كما اعتاد أن يفعل معهم في السابق وهو رئيس المتكإ، ليذكروا الأوقات الكثيرة التي أكلوا فيها معه وحده، وليذكر المعجزتين اللتين أشبع فيهما الألوف من الخبز والسمك. فإن قيل: هل قصد المسيح بما فعله هنا أن يبرهن صحة قيامته ولاهوته وناسوته وصداقته للرسل وعنايته بهم؟ قلنا: لعله علَّمهم وقتئذ نفس ما علمهم يوم دعاهم ليكونوا رسلاً، وهو أنهم صاروا «صيادي الناس» وأن نجاحهم متوقف على حضوره بينهم بالروح وطاعتهم إرشاده. وقال بعضهم «إن في هذه الحادثة رمزاً إلى ما يحدث لكل تلاميذ الرب في نهاية أتعابهم، فيبلغون شاطئ السلام السماوي، ويجدون الرب هنالك يستقبلهم ويدعوهم إلى وليمة عظيمة أعدها لهم، فيتكئون معه ومع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوته». قلنا المشابهة ظاهرة حسنة، ولكن لا دليل على أن المسيح قصدها.

١٤ «هَذِهِ مَرَّةٌ ثَالِثَةٌ ظَهَرَ يَسُوعُ لِتلامِيذِهِ بَعْدَمَا قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ».

يوحنا ٢٠: ١٩، ٢٦

ذكر يوحنا هنا المرات التي ظهر فيها لجماعة من الرسل لا لغيرهم من الأفراد، وعلى هذا لم يحسب معها ظهوره لمريم المجدلية الذي ذكره في يوحنا ٢٠: ١٦، ولا ظهوره لبطرس ولا للتلميذين المسافرين إلى عمواس. ولعله نظر إلى الظهور باعتبار أيامه دون عدده، وباعتبار المشاهدين، فيكون ظهوره ثلاث مرات يوم القيامة مرة، مع أنه شاهده فيه كثيرون على التوالي في أماكن مختلفة، وبعد أسبوع مرة، وهذا اليوم مرة وهي الثالثة.

خطاب المسيح لبطرس (ع ١٥ – ٢٣)

١٥ «فَبَعْدَ مَا تَغَدَّوْا قَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ بُطْرُسَ: يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ لَهُ: نَعَمْ يَا رَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ لَهُ: ارْعَ خِرَافِي».

فَبَعْدَ مَا تَغَدَّوْا أي بعد ما أنسوا به وسكن اضطرابهم بأكله معهم كأحد الأصدقاء، أخذ يخاطبهم بأمور هامة تتعلق بأحوالهم وخدمتهم في المستقبل. ويجب أن لا نحسب أن ما ذُكر هنا من كلام المسيح هو كل ما خاطبهم به وقتئذ.

يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا خصّ يسوع بطرس بالكلام وخاطبه دون الستة الباقين، لأنه ادَّعى أنه يحب المسيح أكثر من سائر التلاميذ، وأنه أكثر ثباتاً منهم في الإيمان، مع أنه كان أقل ثباتاً من الجميع. وخاطبه المسيح ثلاث مرات باسمه الأول وكنيته، لا بالاسم الذي سماه به وهو «بطرس» أي الصخر، لأنه بإنكاره يسوع أعلن أنه لا يستحق أن يسمى بذلك، وناداه بذلك ثلاثاً لأنه أنكره ثلاثاً.

أَتُحِبُّنِي؟ في هذا شيء من اللوم لبطرس لأن إنكاره ليسوع شكَّك في محبته. وفيه تذكير له بذلك الإنكار، وفيه سؤال عن عواطف قلبه وقت السؤال. وسأله المسيح ذلك أمام الستة ليكونوا شهوداً بإقرار بطرس، وبمغفرة المسيح له، وقبوله رسولاً أيضاً. ولم يسأل المسيح بطرس عن إيمانه أو معرفته أو توبته أو مقاصده في المستقبل، إنما سأله عن محبته لأنها الشرط الضروري لقبول المسيح إيّاه ثانية، ولأنها تتضمن سائر الفضائل.

أَكْثَرَ مِنْ هَؤُلاءِ أي أكثر مما يحبني هؤلاء التلاميذ. وغاية المسيح من هذه الزيادة امتحانه ليظهر إن كان قد تواضع بعد سقوطه، فلا يعود يفتخر كما افتخر قبلاً بأن إيمانه به ومحبته له أعظم من إيمان سائر إخوته الرسل ومحبتهم، بقوله «وَإِنْ شَكَّ الجَمِيعُ فَأَنَا لا أَشُكُّ» (مرقس ١٤: ٢٩).

أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ أظهر بطرس بهذا الجواب المحبة والتواضع، لأنه صرّح بمحبته دون أن يدّعي زيادتها على محبة سائر إخوته له، واستشهد بعِلم المسيح بذلك. فكأنه قال: نعم، إن عملي يدل على أني لا أحبك، لكنك أنت تعلم ما في قلبي من المحبة لك. وأظهر تواضعه بأمرين: (١) عدم ادعائه زيادة محبته للمسيح على محبة غيره من الرسل له. (٢) نوع المحبة التي صرح بها، لأن سؤال المسيح «أتحبني؟» في اليونانية غير جواب بطرس «أحبك» فيها. فالكلمة الأولى تتضمن أعظم المحبة، كمحبة الملائكة والقديسين في السماء لله، فلم يدّع بطرس أن محبته تستحق أن تُحسب كتلك المحبة، وبيّن أنها كمحبة الصديق للصديق.

ويحسن بكل مسيحي أن يحسب سؤال المسيح لبطرس سؤالاً له، ويتأمل في قلبه ليرى هل يستطيع أن يطلب شهادة علم المسيح بمحبته؟ ويتبيّن مما قيل هنا ثلاثة أشياء: (١) إن أول ما يطلبه المسيح من تلاميذه هو محبة قلوبهم. (٢) إنه يريد إقرارهم علناً بمحبتهم له، ولا يكتفي بمجرد الشعور القلبي. (٣) إن كل إنسان يقدر أن يتحقق: هل يحب المسيح أو لا.

ارْعَ خِرَافِي أشار بذلك أنه أوكل إليه ثانية الخدمة الرسولية. وحين دعاه أولاً لأن يكون رسولاً شبَّه خدمته بالصيد إذ قال له «مِنَ الآنَ تَكُونُ تَصْطَادُ النَّاس» (لوقا ٥: ١٠). وشبهها هنا بالرعاية. والتشبيه الأول يشير إلى إدخال الناس في الكنيسة، والثاني يشير إلى تعليمهم كلمة الله لتقويتهم ونموهم. وخراف المسيح التي أمر بطرس برعايتها هم تلاميذه أي المؤمنون به. ولا نعرف بالضبط ما أراده المسيح بتسميته بعض التلاميذ «خرافاً» وبعضهم «غنماً» (ع ١٦)، فقال البعض أنه قصد «بالخراف» الأحداث والضعفاء و «بالغنم» البالغين والأقوياء. وما أمره به هنا يوافق ما أمره به قبل سقوطه بقوله «وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ» (لوقا ٢٢: ٣٢).

وعلينا أن نلاحظ هنا أن المسيح لم يسمِّ كنيسته الخراف، ولا خراف بطرس بل «خرافي» (خراف المسيح) لأنها له، وهو الراعي الحقيقي العظيم، وغيره من خدام الدين وكلاؤه. وأن في قوله «ارع» بيان لمسؤولية الرعاة، فهُم لا يترأسون على الكنيسة، ولا يقصدون الربح من رعايتها، بل أن يغذوها بكلمة الحياة. وأن المسيح لم يوكل إلى بطرس رعاية شعبه إلا بعد ما فحص عن محبته، كأن تلك الفضيلة صفة ضرورية للراعي. وأن المسيح يحب خرافه، ولا يكلف أحداً برعايتها إلا إن كان يحبه فيعتني بخراف المسيح بالأمانة. وأن المسيح جعل خدمة بطرس للخراف برهاناً على محبته له، ويتوقع منه تلك العلامة في المستقبل. فالمحبة بالكلام دون العمل لا تستحق أن تُسمى محبة. رغب بطرس في الماضي أن يُظهر محبته للمسيح بأعمال غريبة كمشيه على الماء ليلاقيه، وبما يشبه التواضع مثل رفضه أن يغسل يسوع رجليه، وبافتخاره بثبوته وقت الخطر، وبسلِّ سيفه للمحاماة عن المسيح. ولم يسأله المسيح عن ذلك، بل سأله أن يُظهر محبته له بخدمته لشعبه.

١٦ «قَالَ لَهُ أَيْضاً ثَانِيَةً: يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟ قَالَ لَهُ: نَعَمْ يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ لَهُ: ارْعَ غَنَمِي».

أعمال ٢٠: ٢٨ وعبرانيين ١٣: ٢٠ و١بطرس ٢: ٢٥ و٥: ٢، ٤

ثَانِيَةً كرر المسيح سؤاله الأول ليجعل بطرس يمتحن نفسه، وليوضح أهمية ذلك السؤال وما يُبنى على الجواب. فنوع المحبة الذي سأل عنه هنا كالنوع الذي سأل عنه أولاً. والفرق بين ما ذُكر في ع ١٥ وما ذُكر هنا ثلاثة أشياء: (١) ترك يسوع ما زاده على السؤال الأول من قوله «أكثر من هؤلاء» فقد اقتنع بجواب بطرس أنه تعلم التواضع بسقوطه. (٢) أن المسيح بقوله «ارع غنمي» عبَّر عن الرعاية ثانيةً بغير ما عبر عنه أولاً، فالكلمة الأولى في اليونانية «التغذية فقط» والثانية تفيد فوق ذلك العناية، والإرشاد، والحماية كالسهر على الخراف ووقايتها من الخطر، وطلب الضالة منها ورده إلى الحظيرة. وهذا غير واضح في الترجمة العربية لعدم وجود كلمتين فيها كالكلمتين في اليونانية. (٣) أنه قال في الأول «خرافي» وفي الثاني «غنمي» ولعل هذا التغيير جاء لتشمل هاتان الكلمتان كل صنوف المؤمنين من دونٍ وعالٍ، وضعفاء وأقوياء، وأحداث وبالغين. وكما أنه سأله ثانية عن محبته له، أمره ثانية بخدمة كنيسته، برهاناً على إخلاص تلك المحبة.

١٧ «قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟ فَحَزِنَ بُطْرُسُ لأنَّهُ قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: أَتُحِبُّنِي؟ فَقَالَ لَهُ: يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: ارْعَ غَنَمِي».

يوحنا ٢: ٢٤، ٢٥ و١٦: ٣٠

ثَالِثَةً لا شك أن علة سؤال المسيح لبطرس عن محبته إيّاه ثلاثاً تذكيره إيّاه أنه أنكره ثلاثاً، وإعطاؤه فرصة يصرح بمحبته ليسوع بعدد مرات نفيه العلاقة بينه وبين سيده. وإثباته ثالثةً أنه غفر له وردَّه إلى مقامه بين الرسل، وإرادته أنه بواسطة التكرار يتأكد بطرس أنه يجب عليه أن يكون مستيقظاً أميناً في القيام بما يجب عليه باعتبار أنه راعٍ. وما قيل في هذه الآية يوافق ما قيل لسائر الرسل (متّى ١٨: ١٨). ولا دليل على أن المسيح قصد هنا أن يفضل بطرس على سائر رسله في الرتبة والسلطان.

أَتُحِبُّنِي استعمل المسيح هنا الكلمة التي استعملها بطرس، كما يدل عليه الأصل اليوناني، فكأنه سأل: هل حقاً تحبني كما قلت محبة الصديق لصديقه ومحبة الأخ لأخيه؟

فَحَزِنَ بُطْرُسُ لأنَّهُ قَالَ لَهُ ثَالِثَةً فهم بطرس أن المسيح أشار بالسؤال ثلاثاً إلى إنكاره الثلاثي، فحزن جداً لأن سؤال المسيح ثالثةً يظهر شك المسيح في حقيقة محبته. ولكن مهما كان حزن بطرس وقتئذ شديداً فهو ليس شيئاً بالنسبة إلى الحزن الذي سبَّبه للمسيح بإنكاره في دار قيافا.

أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ شهد بطرس بهذا أن يسوع هو الله، لأن معرفته كل شيء حتى أسرار القلب تثبت بالضرورة أنه الله (يوحنا ١٦: ٣٠ وأعمال ١: ٢٤).

أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ أي إن لم يشهد لساني لصدق اعترافي فانظر داخل قلبي لتعلم إخلاص محبتي. ونتعلم من هذا أن مدح الناس أو لومهم لنا ليسا مهمَّين. أما إن شهد المسيح لنا بحقيقة محبتنا له فلا خوف علينا من حساب يوم الدين.

ارْعَ رجع هنا إلى الكلمة التي استعملها في ع ١٥، أي أطعِم.

غَنَمِي كما في ع ١٥. نسب المسيح غنمه إلى نفسه في كل المرات.

أظهر بطرس بما كتبه في رسالته الأولى أنه أدرك قصد المسيح من هذه التوصية (١بطرس ٥: ١ – ٤) وبيّن في مدة حياته كلها إخلاص محبته بخدمته بأمانة.

١٨ «اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لَمَّا كُنْتَ أَكْثَرَ حَدَاثَةً كُنْتَ تُمَنْطِقُ ذَاتَكَ وَتَمْشِي حَيْثُ تَشَاءُ. وَلَكِنْ مَتَى شِخْتَ فَإِنَّكَ تَمُدُّ يَدَيْكَ وَآخَرُ يُمَنْطِقُكَ، وَيَحْمِلُكَ حَيْثُ لا تَشَاءُ».

يوحنا ١٣: ٣٦ وأعمال ٢: ٣، ٤

أعلن يسوع في هذه الآية أنه يجب على بطرس أن يقتدي به في احتمال الآلام، كما يقتدي به في الخدمة. وفي هذا إنباء بكيفية موت بطرس. فلم يعده المسيح بالراحة والإكرام والرياسة، بل بالمصائب. وكذا أعلن الله لحزقيال أنه عُيّن لاحتمال المشقات (حزقيال ٣: ٢٥) وكذلك بولس (أعمال ٩: ١٦ و٢١: ١١). قال بطرس ليسوع «أنت تعلم كل شيء». فصدق يسوع قوله ببرهان علمه ما في المستقبل.

اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكَ التكرار للتوكيد.

لَمَّا كُنْتَ أَكْثَرَ حَدَاثَةً لا يلزم من هذا أن بطرس كان يومئذ شيخاً، لكن المسيح أشار إلى أيام حداثة بطرس حين كان صياد سمك قبل أن دعاه رسولاً. والمرجح أنه كان حينئذ بالغاً لأنه كان متزوجاً زمن دعوته (لوقا ٤: ٣٨).

كُنْتَ تُمَنْطِقُ ذَاتَكَ وَتَمْشِي حَيْثُ تَشَاءُ يشير هذا إلى الحرية والاستقلال، فكأن المسيح قال له «كنت وقتئذ تلبس كما تريد وتذهب وتجيء كما تشاء».

وَلَكِنْ مَتَى شِخْتَ لم يرد المسيح بذلك أن بطرس يعيش طويلاً إلى سن الهرم، بل أن يبقى سنين بعد وقت ذلك الخطاب.

تَمُدُّ يَدَيْكَ قال أكثر المفسرين إن المسيح قصد بذلك أن بطرس سيُصلب، لأن مد اليدين من لوازم الصلب.

وَآخَرُ يُمَنْطِقُكَ أي الصالب يربطك على خشبة الصليب، فإنهم كثيراً ما كانوا يربطون المصلوب من وسطه فوق تسميره لئلا تتمزق الأيدي بالمسامير ويسقط الجسد من ثقله.

يَحْمِلُكَ حَيْثُ لا تَشَاءُ أي يجبرك على الذهاب إلى محل الصلب. ولا يلزم من قوله «لا تشاء» أن بطرس يقاوم صالبيه ويرفض أن يموت شهيداً، إذ المعنى أنه يقاسي ما لا يحتمله الجسد. وهذا ما حدث، فقد كتب القديس أوريجانس المؤرخ المسيحي أن بطرس صُلب منكوساً (أي ورأسه إلى أسفل). ولا نعلم إن كان المسيح قصد بذلك الكلام صلب بطرس، إنما نعلم أنه قصد أن بطرس سيموت شهيداً.

١٩ «قَالَ هَذَا مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يُمَجِّدَ اللَّهَ بِهَا. وَلَمَّا قَالَ هَذَا قَالَ لَهُ: اتْبَعْنِي».

٢بطرس ١: ١٤

هذا تفسير يوحنا لنبوة المسيح لبطرس.

أَيَّةِ مِيتَةٍ من الميتات الإجبارية والأرجح أنها ميتة الصلب. وأشار بطرس نفسه إلى ما قصده المسيح هنا بقوله «عَالِماً أَنَّ خَلعَ مَسْكَنِي قَرِيبٌ كَمَا أَعْلَنَ لِي رَبُّنَا يَسُوعُ المَسِيحُ أَيْضاً» (٢بطرس ١: ١٤). ولا شك أن يوحنا علم ما قصده المسيح هنا علم اليقين، لأن بطرس كان قد مات قبل أن يكتب يوحنا بشارته بسنين.

يُمَجِّدَ اللَّهَ بِهَا هذا دليل على أن المسيحي يمكنه أن يمجد الله بموته (يوحنا ١٣: ٣١ وفيلبي ١: ٢٠ و١بطرس ٤: ١٦). والذي يمجد الله بموته أكثر من غيره هو من يموت شهيداً للحق لأنه بذلك يقدم أحسن شهادة له. ويمكن المسيحي أن يمجد الله باستعداده للموت دائماً طاعةً لقوله «لتكن أحقاؤكم ممنطقة وسرجكم موقدة» ويمجده أيضاً في وقت النزع إذا احتمله بصبر وشجاعة وإيمان ورجاء، لأنه بذلك يشهد بقوة ديانة المسيح للانتصار على أهوال الموت والقبر.

اتْبَعْنِي استعمال هذه الكلمة بمعنى حرفي في الآية الآتية يجعلنا نفهمها هنا بحرفية معناها، ونفهم منها أن يسوع ذهب من المكان الذي كان فيه، وأمر بطرس بالذهاب وراءه. لكن ذلك لا يمنع أن المسيح قصد أن يتخذها بطرس بالمعنى الروحي أيضاً، أي أن يقتدي به ويطيعه، كما في قوله «هلمّ ورائي» (متّى ٤: ١٩) حين دعاه أولاً ليكون تلميذاً. وكما فسر ذلك بقوله «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَليُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِل صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي» (متّى ١٠: ٣٨ و١٦: ٢٤). وأنه قصد الإشارة إلى موته ميتة كميتته كما أشار إليه سابقاً بقوله «حيث أذهب لا تقدر الآن أن تتبعني، ولكنك ستتبعني أخيراً». ولا يبعد عن الظن أن مشي المسيح وقتئذ كان رمزياً ليعلم بطرس أنه يجب عليه ما دام حياً أن يتبع سيده في طريق الطاعة والقداسة وخدمة الكنيسة والآلام، متمماً إرادة الآب كما تممها المسيح، وأن يتبعه بعد ذلك إلى السماء والمجد ببذل حياته لأجل اسمه مائتاً شهيداً على الصليب.

٢٠ «فَالتَفَتَ بُطْرُسُ وَنَظَرَ التِّلمِيذَ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ يَتْبَعُهُ، وَهُوَ أَيْضاً الَّذِي اتَّكَأَ عَلَى صَدْرِهِ وَقْتَ العَشَاءِ، وَقَالَ: يَا سَيِّدُ، مَنْ هُوَ الَّذِي يُسَلِّمُكَ؟».

يوحنا ١٣: ٢٤، ٢٥ و٢٠: ٢

فَالتَفَتَ بُطْرُسُ وَنَظَرَ هذا يدل على أن المسيح كان يمشي فعلاً، وبطرس يمشي وراءه.

التِّلمِيذَ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ أي يوحنا. (انظر شرح يوحنا ٢٠: ٢).

الَّذِي اتَّكَأَ عَلَى صَدْرِهِ وَقْتَ العَشَاءِ (يوحنا ١٣: ٢٤، ٢٥) وليست الغاية من وصف يوحنا نفسه بهذا وما قبله مجرد تمييز التلميذ الذي تبع المسيح عن سائر التلاميذ، بل إظهار سبب رغبته في أن يبقى قريباً من المسيح، وعلى جسارته أن يفعل ذلك بدون أمره. واتباع يوحنا للمسيح دليل على أن المسيح لم يرد بأمره لبطرس أن يأتي وراءه لينفرد به لأمر سري، ودليل أيضاً على أن يوحنا مستعد أن يتبع سيده حيث يشاء في سبيل الخدمة والألم.

٢١ «فَلَمَّا رَأَى بُطْرُسُ هَذَا، قَالَ لِيَسُوعَ: يَا رَبُّ، وَهَذَا مَا لَهُ؟».

هذا استفهام عن مستقبل يوحنا، فكأنه قال «ماذا يصيب يوحنا بعد، وأية ميتة يموت؟» ولا نعرف السبب الذي دعا بطرس ليسأل هذا السؤال. والأرجح أنه نتج عن محبته الخاصة ليوحنا، ومن اهتمامه بكل ما يأتي على يوحنا، وهو اهتمام الأخ الكبير بأخيه الصغير. فرغب في أن يعلم هل سيموت يوحنا مثله ميتة إجبار؟

٢٢ «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: إِنْ كُنْتُ أَشَاءُ أَنَّهُ يَبْقَى حَتَّى أَجِيءَ، فَمَاذَا لَكَ؟ اتْبَعْنِي أَنْتَ».

متّى ١٦: ٢٧، ٢٨ و٢٥: ٣١ و١كورنثوس ٤: ٥ و١١: ٢٦ ورؤيا ٢: ٢٥ و٣: ١ و٢٢: ٧، ٢٠

لا بد من أن المسيح قصد بقوله لبطرس «فماذا لك؟» توبيخاً لطيفاً له على أنه سأل عما لا حق له أن يسأل عنه، وأنه لم يقصد أن يجيبه صريحاً عن سؤاله.

أَنَّهُ يَبْقَى أي يحيا (فيلبي ١: ٢٤، ٢٥ و١كورنثوس ١٥: ٦) وقصد المسيح أن بطرس «يتبعه» (أي في سبيل الموت إجباراً) وأن يوحنا «يبقى» (أي يموت ميتة طبيعية).

حَتَّى أَجِيءَ معنى هذه العبارة غير واضح، ولم يفهمها التلاميذ، ولم يدَّع يوحنا فهمها. فقد ورد مجيء المسيح في الإنجيل بأربعة معانٍ: (٢) حلول الروح القدس يوم الخمسين (يوحنا ١٤: ١٨ و١٦: ١٦، ٢٢) وليس هذا هو المعنى المقصود هنا (٢) خراب أورشليم (يوحنا ١٠: ٢٣ ومتّى ١٠: ٢٣ و٢٦: ٦٤). وهذا كان بعد أربعين سنة من زمن هذه المخاطبة، والأرجح أن بطرس لم يعش إلى ذلك الوقت. أما يوحنا فقد كان حيّاً، وقال أكثر المفسرين إن المسيح قصد ذلك المجيء. (٣) إتيان المسيح ثانية للدينونة (١يوحنا ٢: ٢٨ و٣: ٢) وفهم التلاميذ هذا المعنى، أي أن يوحنا يبقى حياً إلى اليوم الأخير ويصعد إلى السماء بغير موت. (٤) حضور المسيح الروحي عند موت المؤمن (يوحنا ١٤: ٣).

ولم يقُل المسيح إن يوحنا يبقى إلى أحد الأزمنة المشار إليها، إنما قال «إن شئت أن يبقى حتى أجيء».

اتْبَعْنِي أَنْتَ هذا مكرر قوله في ع ١٩. فيكتفي الاهتمام بطاعة هذا الأمر دون الاهتمام بما يتعلق بصديقه.

٢٣ «فَذَاعَ هَذَا القَوْلُ بَيْنَ الإِخْوَةِ: إِنَّ ذَلِكَ التِّلمِيذَ لا يَمُوتُ. وَلَكِنْ لَمْ يَقُل لَهُ يَسُوعُ إِنَّهُ لا يَمُوتُ، بَل: إِنْ كُنْتُ أَشَاءُ أَنَّهُ يَبْقَى حَتَّى أَجِيءَ، فَمَاذَا لَكَ؟».

ذَلِكَ التِّلمِيذَ لا يَمُوتُ هذا شرح المؤمنين في أيام يوحنا لإنباء المسيح بأن يوحنا يبقى إلى أن يجيء، لأنهم توقعوا مجيء يسوع للدينونة قريباً جداً، وأن يحدث ليوحنا ما يحدث لغيره من المؤمنين «لا نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلَكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ، فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ البُوقِ الأَخِيرِ. فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ الأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ، وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ» (١كورنثوس ١٥: ٥١، ٥٢). ولا عجب من أن الإخوة لم يصيبوا بتفسير كلام المسيح، لأنهم لم يفهموا أن أحد معاني مجيئه هو خراب أورشليم. ونعلم من التواريخ القديمة أن يوحنا مات بعد أن مات كل الرسل، وأنه بقي حياً بعد خراب أورشليم، وتوفي وفاة طبيعية في أفسس في نهاية القرن الأول أو بدء القرن الثاني.

لَمْ يَقُل لَهُ يَسُوعُ قال ذلك بياناً لحقيقة ما قاله المسيح، لئلا ينسب أحد إليه آراء الناس وأوهامهم.

٢٤ «هَذَا هُوَ التِّلمِيذُ الَّذِي يَشْهَدُ بِهَذَا وَكَتَبَ هَذَا. وَنَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ حَقٌّ».

يوحنا ٩: ٣٥ و٣يوحنا ١٢

تكلم يوحنا على نفسه بضمير الغائب بياناً أنه هو كاتب هذه البشارة كشاهد عيان لأعمال المسيح وأنه هو المشار إليه في ع ٢٢، وأن ذلك تواضع منه (يوحنا ١٩: ٢٦).

بِهَذَا أي البشارة كلها.

نَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ حَقٌّ أي أنا وإخوتي. وهذا بيان أن الإخوة يصادقون على ما كتبه يوحنا، حتى أنه استطاع أن يُشهدهم ويضمهم إليه في ما كتب (راجع ١يوحنا ٥: ١٨ – ٢٠).

٢٥ «وَأَشْيَاءُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ، إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ العَالَمَ نَفْسَهُ يَسَعُ الكُتُبَ المَكْتُوبَةَ. آمِينَ».

يوحنا ٢٠: ٣٠ و٧: ١٠

هذا تصريح بأن ما كتبه يوحنا في هذه البشارة عن المسيح وأعماله قليل من كثير. فاللسان لا يستطيع التعبير عن عظمة الرب يسوع، ولا القلم يسطر ما يتعلق بجلاله، وكلاهما قاصر عن بيان الحكمة والرحمة اللتين أظهرهما بأعماله وأقواله، فاختار يوحنا بعضها (يوحنا ٢٠: ٣٠، ٣١) ليؤمن الناس أن يسوع هو المسيح ابن الله، ولتكون لمن يؤمنون حياة باسمه. وما كُتب في بشارة يوحنا وسائر البشائر ذو قيمة أعظم من كل كتب العالم، وهو سبب تأليف كتب كثيرة وأفكار عظيمة ثاقبة، وإجراء أعمال شريفة نافعة، وفيه إعلان حقائق أرضية وسماوية أساسية في الحياة الزمنية والحياة الأبدية.

ولا يستلزم قوله هذا أنه لم يكتب سوى القليل مما يتعلق بيسوع فترك شيئاً من الحقائق الضرورية للإيمان والقداسة والخلاص، أو شيئاً من عقائد دين المسيح الجوهرية، لأنه كتب بإلهام الروح القدس الذي يرشد إلى كل الحق (يوحنا ١٦: ١٣).

إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً ما في هذه الآية مبالغة اعتادها الكُتّاب في تلك الأيام. وكان يوحنا يكتب بشارته إلى أناس مثله بعبارات كعباراتهم. وليس في هذه المبالغة شيء من الكذب أو الخداع أو الغش، فالمقصود بيان الكثرة الكاملة، والتعجب من عظمة الموضوع، وإظهار العجز عن تدوينها كلها. ومن أمثلة هذه المبالغة قوله «هُوَذَا أَنْتُمُ اليَوْمَ كَنُجُومِ السَّمَاءِ فِي الكَثْرَةِ» (تثنية ١: ١٠). وقوله «وَكَانَ المِدْيَانِيُّونَ وَالعَمَالِقَةُ وَكُلُّ بَنِي المَشْرِقِ حَالِّينَ فِي الوَادِي كَالجَرَادِ فِي الكَثْرَةِ، وَجِمَالُهُمْ لا عَدَدَ لَهَا كَالرَّمْلِ الَّذِي عَلَى شَاطِئِ البَحْرِ فِي الكَثْرَةِ» (قضاة ٧: ١٢). وقول المسيح «أَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومَ المُرْتَفِعَةَ إِلَى السَّمَاءِ» (متّى ١١: ٢٣). وقول اليهود «هُوَذَا العَالَمُ قَدْ ذَهَبَ وَرَاءه» (يوحنا ١٢: ١٩). ومما يقرب من قول يوحنا في هذه الآية قول الجامعة «لِعَمَلِ كُتُبٍ كَثِيرَةٍ لا نِهَايَةَ» (جامعة ١٢: ١٢).

آمِينَ هذه الكلمة خاتمة كل البشائر، ومعناها «ليكن ذلك» ويصح أن نقولها أجمعين بمعنى: ليكن لنا إيمان بما كُتب هنا، وطاعة لما أُمر به، وتمتُّع بما وُعد به.

زر الذهاب إلى الأعلى