إنجيل يوحنا | 17 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح إنجيل يوحنا
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح السابع عشر
صلاة المسيح الشفاعية طلبه تمجيده بالمجد الأصلي (ع ١ – ٥)
١ «تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهَذَا وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَالَ: أَيُّهَا الآبُ، قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ. مَجِّدِ ابْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابْنُكَ أَيْضاً».
يوحنا ١٢: ٢٣ و١٣: ٣٢
هذه صلاة الأقنوم الثاني من اللاهوت للأقنوم الأول، وتفيدنا كيف كان المسيح يصلي وهو على الأرض، وكيف يصلي الآن في السماء بشفاعته فينا، والبركات التي يمكننا أن نسألها في الصلاة، والتي نتوقعها إجابة لصلاته وشفاعته. «لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان» ولم يصلِّ إنسان مثلما صلى. وصلى هذه الصلاة على مسمع من الأحد عشر رسولاً، والأرجح أنه قدمها واقفاً في البيت حيث تعشوا، بدلالة قول البشير بعد نهاية الصلاة «قال يسوع هذا وخرج» (يوحنا ١٨: ١).
وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ كعادة الناس في الصلاة لارتفاع النفس إلى الله حينئذ، وقد سبق الكلام على مثل ذلك في شرح يوحنا ١٤: ٣١ (قارن بهذا لوقا ١٨: ١٣).
أَيُّهَا الآبُ دعا الله «الآب» ست مرات في هذه الصلاة، وزاد على ذلك القدوس مرة (ع ١١) والبار مرة (ع ٢٥).
قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ أي الوقت الذي عيّنه الآب لموت ابنه عن الخطاة ثم لتمجيده (يوحنا ١٢: ٢٣، ٢٧ و١٣: ١، ٣١). وهذه الساعة التي وعد بها الله، وانتظرها الناس. قيل هذا القول منذ سقوط آدم إلى ذلك الوقت. وأشار الله إلى تلك الساعة في جنة عدن. ورآها إبراهيم بالإيمان حين منعه الله من ذبح إسحاق. وأُشير إليها برفع الحية النحاسية في البرية، وبذبيحة الحَمَل اليومية وسائر الذبائح في خيمة الاجتماع وفي الهيكل. وهي التي تكلم فيها موسى وإيليا وهما مع يسوع على جبل التجلي. وهي الساعة التي ظهرت فيها أمجاد اللاهوت ظهوراً لم يسبق له نظير، وتوقف عليها خلاص المفديين. ولأن هذه الساعة لم تأت قبلاً لم يستطع أعداؤه أن يضروه (يوحنا ٧: ٣٠ و٨: ٢٠) ولكنها إذ أتت سلم ذاته إليهم ليفعلوا ما أرادوا.
مَجِّدِ ابْنَكَ ابتدأ المسيح صلاته لأجل رسله وكنيسته بطلب تمجيد نفسه، لأنه أساس الكنيسة، وهي تحصل على كل بركة روحية وسماوية باستحقاقه. وغاية طلبه التمجيد لنفسه تمجيد كنيسته. وفسر معنى هذا في ع ٥. وهذا التمجيد لا يحصل عليه ما لم يجتز في طريق الألم والهوان والموت. وعرف المسيح ذلك وقدم نفسه للموت طوعاً، رغبة في أن يصعد بواسطة الموت إلى المجد. وطلب المسيح أن يشترك ناسوته في مجد لاهوته أيضاً.
لِيُمَجِّدَكَ ابْنُكَ أَيْضاً أي ليُظهر للكون، بموته على الصليب كفارة عن إثم البشر، قداسة الله وحكمته وعدله وحقه ورحمته، تمجيداً له، وليظهر ذلك بخلاص الخطاة الذين يشاركون المسيح في تمجيد الله بأقوالهم وأفعالهم، لأن كل خاطئ يؤمن يمجد الله. ويظهر ذلك المجد بإرسال الروح القدس ليجعل إنجيله ناجحاً في العالم. وقد تمجد الله بنجاح الإنجيل أكثر مما تمجد بغيره من طرق تمجيده في هذا العالم، وأبان المسيح (بما قاله من ع ٢ – ٤) أن الله تمجد بما ذُكر. فقول المسيح «مجدني لأمجدك» دليل على مساواته للآب، لأنه لا يمكن أن مخلوقاً يقول ذلك لخالقه، ودليل على أن تمجيد الله كان غاية يسوع العظمى، وأن الله لم يتمجد بشيء من أعمال المسيح كما تمجد بموته وقيامته وصعوده.
٢ «إِذْ أَعْطَيْتَهُ سُلطَاناً عَلَى كُلِّ جَسَدٍ لِيُعْطِيَ حَيَاةً أَبَدِيَّةً لِكُلِّ مَنْ أَعْطَيْتَهُ».
تكوين ٦: ٧، ١٣، ١٧ ودانيال ٧: ١٤ ومتّى ١١: ٢٧ و٢٨: ١٨ ويوحنا ٣: ٣٥ و٥: ٢٧ و ١كورنثوس ١٥: ٢٥، ٢٦ وفيلبي ٢: ١٠ وعبرانيين ٢: ٨ ويوحنا ٦: ٣٧ وع ٦، ٩، ٢٤
إِذْ أَعْطَيْتَهُ سُلطَاناً دفع الآب في عهد الفداء كل سلطانه للمسيح في السماء وعلى الأرض، أي على الملائكة والبشر وسائر المخلوقات، وعلاوة على ذلك أرسل الروح القدس لأن مجيئه كان ضرورياً لعمل الفداء. والمسيح وإن كان وقتئذ على وشك أن يموت موت الضعف والعار قبض على كل القوة الإلهية.
ذُكرت في هذه الآية عطيتان: الأولى السلطان المطلق، والثانية الحياة الأبدية. والأولى وسيلة إلى الثانية. وبناءً على أخذ المسيح ذلك السلطان أمر تلاميذه بعد قيامته أن يذهبوا إلى العالم أجمع ويكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها (متّى ٢٨: ١٨، ١٩ ومرقس ١٦: ١٥).
والعطاء هنا ليس من عالٍ لدون أو من كبير لصغير، بل من مساوٍ لمساوٍ بحسب ما اقتضى تقسيم عمل الفداء بين أقانيم اللاهوت. فالآب هو المرسِل، والابن رسوله، والروح القدس رسولهما.
كُلِّ جَسَدٍ أي جنس البشر (متّى ٢٥: ٢٢ ومرقس ١٣: ٢٠ ولوقا ٣: ٦ وأعمال ٢: ١٧ ورومية ٣: ٢٠). ولا يلزم من ذلك أن كل البشر يخلصون، بل أن للمسيح سلطاناً أن يهب الكل الحياة الأبدية، لأنه مات لأجل الجميع، ودعا الجميع إليه، وهو يخلّص كل من آمن به.
لِيُعْطِيَ حَيَاةً أَبَدِيَّةً (انظر شرح يوحنا ٦: ٤٠). ولهذا أخذ السلطان المطلق، ولم يعتبر ذلك السلطان شيئاً إلا لخلاص نفوس الناس. والحياة الأبدية المذكورة هنا تشتمل على كل نتائج الفداء من تبرير وتقديس وتمجيد في السماء. وهو وهب تلك الحياة للناس ببذله نفسه كفارة عن خطايا العالم، ومنحها لكل الذين يؤمنون.
لِكُلِّ مَنْ أَعْطَيْتَهُ (يوحنا ٦: ٣٧ – ٤٠) ويسمى هؤلاء الآخِذون أحياناً «مختارين» ولا يعرفون باختيارهم إلا بإتيانهم إلى المسيح بالتوبة والإيمان.
٣ «وَهَذِهِ هِيَ الحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلَهَ الحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ المَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلتَهُ».
إشعياء ٥٣: ١١ وإرميا ٩: ٢٤ ١كورنثوس ٨: ٤ و١تسالونيكي ١: ٩ ويوحنا ٣: ٣٤ و٥: ٣٦ و٣٧ و٦: ٢٩، ٥٧ و٧: ٢٩ و١٠: ٣٦ و١١: ٤٢
وَهَذِهِ هِيَ الحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ تتضمن هذه الحياة النجاة من كل شر وتحصيل كل خير الآن وإلى الأبد. ويُعبَّر عن فوائد الفداء بالحياة الأبدية (يوحنا ٣: ١٥، ١٦، ٣٦ و٥: ٢٤، ٣٩ و٦: ٢٧، ٤٠، ٤٧، ٥٤، ٦٨ و١٠: ٢٨ و١٢: ٢٥، ٥٠).
أَنْ يَعْرِفُوكَ الطريق الوحيدة إلى نوال الناس الحياة الأبدية هي معرفة الإله الحقيقي بواسطة ابنه، وكل من لهم هذه المعرفة يتبررون ويتقدسون على الأرض ويتمجدون في السماء. والمعرفة المقصودة هنا ليست مجرد المعرفة العقلية، لأن للشيطان مثل تلك المعرفة. إنما المقصود المعرفة التي تغير القلب والسيرة، وتقترن بمحبة الله والمسرة به.
لما دخلت الخطية إلى العالم فقد الناس معرفة الله الحقيقية، فأتى المسيح ليرشدهم إليها، وعلَّمهم توحيد الله وصفاته ومقاصده، ومن ذلك قداسته وعدله ورحمته ورأفته وأبوّته.
أَنْتَ الإِلَهَ الحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ الذي أنا أخاطبه أباً في هذه الصلاة، والذي قلت إنه أرسلني إلى العالم لأعلنه. ووصفه المسيح بأنه الإله الحقيقي الوحيد ليميز بينه وبين الآلهة الكثيرة الكاذبة، لا ليميز بينه وبين الابن، كأن الآب هو الإله الحق والابن ليس كذلك. لأن التمييز بين الآب والابن لا ينفي وحدانية الله، لأن من أهم تعاليم الإنجيل إثبات التوحيد والتثليث. ومما يثبت لنا أن المسيح لم يقصد التمييز بينه وبين الآب هنا كأنه دون الآب أنه من المحال القول بتعلق الحياة الأبدية بمعرفة خالق ومخلوق.
وَيَسُوعَ المَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلتَهُ قيل إن المسيح يعطي الحياة الأبدية (ع ٢)، ويعطيها بإعطاء معرفة الله التي فيها تلك الحياة إعطاءً لا يستطيعه غيره. وأبان هنا أن ذلك يكون أيضاً بمعرفة أن يسوع هو المسيح، وأنه رسول الله وكلمته ليعلنه للناس، وأنه ممسوح منه نبياً وكاهناً وملكاً، وليظهر جلياً أن الله لفرط حبه للناس بذل ابنه الوحيد فداءً عنهم لينالوا الحياة الأبدية. فالمسيح اشترى تلك الحياة بموته ووهبها للناس بروحه.
عرف الناس بدون إرشاد المسيح وجوده وبعض صفاته ككونه خالقاً وملكاً ودياناً، لكن معرفتهم هذه أنشأت فيهم الخوف من الله ومنعتهم من الاقتراب إليه. ولكنهم عرفوا بالمسيح (الذي هو الكلمة متجسداً) المعرفة التامة التي ينالون بها الحياة الأبدية، لأنه علَّمهم أن الله إله الرحمة والمحبة والمغفرة، وأنه يصالح العالم لنفسه. وأعلن ذلك بأقواله وأفعاله ولا سيما بموته.
وهذه الآية هي الآية الوحيدة التي بها سمى ابن الله نفسه بيسوع المسيح.
٤ «أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ. العَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأعْمَلَ قَدْ أَكْمَلتُهُ».
يوحنا ١٣: ٣١ ويوحنا ٤: ٣٤ و٥: ٣٦ و٩: ٣ و١٤: ٣١ و١٥: ١٠ و١٩: ٣٠
تكلم يسوع عن نفسه في ع ١ – ٣ بضمير الغائب، واستخدم هنا ضمير المتكلم.
مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ مجَّد المسيح الآب على الأرض في كل حياته، لا في السنين التي بشر فيها فقط. ومجده بإعلانه للناس، وبحفظه الناموس حفظاً كاملاً، فقام بذلك بالطاعة الكاملة عن الخاطئ، وتسليم التعليم الذي أخذه من الآب إلى الناس بالأمانة، وشهادته للحق بأقواله وأعماله وتواضعه وقداسته. ومجد الله أكثر من كل ذلك بالموت الذي كان على وشك أن يموته. والجملة الآتية تبيّن أن المسيح مجد الله بإكماله عمل الفداء.
العَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي.. أَكْمَلتُهُ أي عمل الخلاص الذي أعطاه الآب له ليعمله في عهد الفداء. وعبر عن موته وقيامته بالماضي لقربهما، وليقينه وقصده أن ذلك سيحدث.
مجد المسيح الآب منذ تجسده حتى وقت صعوده، بقداسته وطاعته لإرادة أبيه، وإنكاره نفسه، واحتماله الآلام لأجل الناس. فما قصَّر فيه آدم نائباً عن البشر من تمجيد الله أكمله يسوع إذ حفظ الناموس كله، وأوفى ما على الناس من الدَّين لشريعة الله، وصار سبب خلاص أبدي لكل المؤمنين (عبرانيين ٥: ٩). ولعله أشار إلى ما أنبأ به دانيال بقوله «سَبْعُونَ أُسْبُوعاً قُضِيَتْ عَلَى شَعْبِكَ وَعَلَى مَدِينَتِكَ المُقَدَّسَةِ لِتَكْمِيلِ المَعْصِيَةِ وَتَتْمِيمِ الخَطَايَا، وَلِكَفَّارَةِ الإِثْمِ، وَلِيُؤْتَى بِالبِرِّ الأَبَدِيِّ» (دانيال ٩: ٢٤).
٥ «وَالآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ العَالَمِ».
يوحنا ١: ١، ٢ و١٠: ٣٠ و١٤: ٩ وفيلبي ٢: ٦ وكولوسي ١: ١٥ وعبرانيين ١: ٣، ١٠
وَالآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ كرر المسيح الطلبة التي ابتدأ بها الصلاة بعد أن أعطى حساب خدمته الأرضية فجعل إتمام ما عليه سبب طلبه أن الله يمجده.
عِنْدَ ذَاتِكَ قارن هذا بما في يوحنا ١٣: ٣١، ٣٢. وخلاصة ذلك أن المسيح مجد الآب على الأرض (ع ٤) فسأله مجازاة لذلك أن يمجده عند ذاته في السماء.
بِالمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِي صرّح المسيح هنا أنه كان له مجد إلهي قبل تجسده، وسأل الآب أن يسمح له بترك حال التواضع الذي تنازل إليه اختياراً لفداء الخطاة، وأن يرجع إلى المقام الأسنى الذي كان له منذ الأزل، لأنه واحد من الأقانيم الثلاثة المتساوين في المجد والقدرة. ولم يسأل بذلك مجداً جديداً أعظم مما كان له، بل سأل رفع حجاب ناسوته الذي أخفى مجده لكي تنتشر أشعته. وسأل أن يشترك ناسوته على قدر الإمكان في مجد لاهوته.
تثبت هذه الآية أمرين: (١) وجود المسيح قبل تجسده (يوحنا ١: ١٨). (٢) أن الآب والابن ليسا أقنوماً واحداً بل هما أقنومان متساويان في المجد. وهذا الإثبات يستحق كل الاعتبار لأنه قول المسيح نفسه في صلاته للآب.
صلاة المسيح الشفاعية – طلبه من أجل رسله (ع ٦ – ١٩)
٦ «أَنَا أَظْهَرْتُ اسْمَكَ لِلنَّاسِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي مِنَ العَالَمِ. كَانُوا لَكَ وَأَعْطَيْتَهُمْ لِي، وَقَدْ حَفِظُوا كلامَكَ».
مزمور ٢٢: ٢٢ ويوحنا ٦: ٣٧، ٣٩ و١٠: ٢٩ و١٥: ١٩ وع ٢، ٩، ١١، ٢٦
أكمل المسيح عمله على الأرض أما تلاميذه فكانوا على وشك أن يبدأوا عملهم، فاحتاجوا إلى نعمة وقوة، فصلى المسيح من أجلهم.
أَنَا أَظْهَرْتُ اسْمَكَ لِلنَّاسِ بتعليمي أنك أنت الإله الحق، وبتمجيدي إيّاك على الأرض ( ع ٢، ٤). والمقصود باسم الله هنا صفاته (مزمور ٢٢: ٢٢ و٥٣: ٩ و١١٩: ٥٥ وإشعياء ٢٦: ٨ وأعمال ٩: ١٤). وقد سبق الكلام على ذلك في شرح متّى ٦: ٩. والاسم الذي أظهره المسيح للناس أعظم إظهار بتعليمه وعمله هو الآب، أي أنه أبونا. وكان إظهار أفكار الله وإرادته وصفاته غاية المسيح الأولى من تعليمه إيّاهم وهو على الأرض، ولا يزال يعلمهم ذلك عينه الآن بكلامه الذي في الإنجيل. فعلينا أن نبذل كل جهد في أن نتعلمه منه.
لِلنَّاسِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي مِنَ العَالَمِ وصف تلاميذه بذلك لأن الآب أعطاهم له (يوحنا ٦: ٣٧)، وأفرزهم من العالم (يوحنا ١٥: ١٩)، وهم مختاروه ورعيته التي وكلها الله إلى عنايته باعتباره الراعي الصالح. وكانوا من العالم كغيرهم من الناس أعطاهم الله له، لا لأنهم أفضل من سائر أهل العالم فيفتخرون، بل لحكمة عنده.
كَانُوا لَكَ أي بخلقك إيّاهم. فإذا كان له حق أن يعطيهم للمسيح لأنهم كانوا خدام الله قبل أن يصيروا تلاميذ المسيح، وبذلك كانوا مستعدين لقبول تعليم يسوع، فقبلوا تعليم الله الذي أرسله من موسى والأنبياء، واستعدوا لقبول التعليم الذي أعطاه لابنه (انظر شرح يوحنا ٥: ٤٦ و٦: ٣٧ و٨: ٤٧).
أَعْطَيْتَهُمْ لِي فإذاً هم معيّنون من الله ليكونوا للمسيح رسلاً لينادوا بإنجيله.
وَقَدْ حَفِظُوا كلامَكَ هذا وصف آخر للتلاميذ يميزهم عن سواهم، فيعرفهم به الناس. أما كونهم عطية الله للمسيح فصفة تجعلهم أهلاً لممارسة العمل الذي يكلفهم المسيح به. وقصد بكلام الآب تعليم إنجيله، ونسبه إلى الآب لأنه أرسله ليعلنه للناس. وكلام المسيح هو كلام الآب (يوحنا ٧: ١٦ و١٢: ٤٨، ٤٩). وقصد بالحفظ هنا الإصغاء إلى كلامه، وقبوله بالرضى والطاعة له اختياراً. فلنا من ذلك أن الطاعة للمسيح هي البرهان الأول والأعظم على أن الإنسان تلميذ المسيح. فطوبى لمن يشهد المسيح لهم أنهم حفظوا كلام الآب.
٧ «وَالآنَ عَلِمُوا أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَيْتَنِي هُوَ مِنْ عِنْدِكَ».
وَالآنَ عَلِمُوا هذا العلم نتيجة تعليم المسيح إيّاهم، وهو أساس زيادة علمهم حين يحل الروح القدس عليهم بعد هذا بقليل (يوحنا ١٦: ٣٠).
أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَيْتَنِي هُوَ مِنْ عِنْدِكَ علموا أن معلمهم ليس ابن نجار من الناصرة، ولا نبياً من الجليل، بل ابن الله من السماء، المسيح الموعود به، وأن كل ما تكلم به وفعله من أول خدمته إلى آخرها كان حسب إرادة الآب وتعليمه، وإعلان الآب للعالم لتسميته «كلمة الله». وذكر المسيح علمهم بذلك لا لمجرد مدحهم على أنهم تلاميذ نجباء، بل لبيان أنهم أهلٌ لأن يكونوا معلمين نافعين بالنيابة عن معلمهم يسوع.
٨ «لأنَّ الكلامَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ، وَهُمْ قَبِلُوا وَعَلِمُوا يَقِيناً أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكَ، وَآمَنُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلتَنِي».
يوحنا ٨: ٢٨ و١٢: ٤٩ و١٤: ١٠ ويوحنا ١٦: ٢٧، ٣٠ وع ٢٥
في هذه الآية بيان الطريق التي توصلوا بها إلى العلم المذكور في الآية السابقة، وهي أنه هو علمهم ما أخذه من الآب (يوحنا ١٢: ٤٩)، وتمم بذلك ما أنبأ به الله بفم موسى قائلاً «أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كلامِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ» (تثنية ١٨: ١٨).
الكلامَ أي الحقائق المتعلقة بالله وبخلاص البشر، وأعطاها الآب للابن في عهد الفداء ليعلنها للعالم، فذلك الكلام هو كلام الحكمة والتعزية والقوة والحياة، وكنز العلم الذي لا يزول ولو زالت السموات والأرض (متّى ٢٤: ٤٥). وما قاله المسيح هنا يثبت صحة ما كتبه الرسل في رسائلهم، ويبيّن أنه ليس كلامهم، بل إن الله الآب أعطاه للابن، وأعطاه الابن للرسل وألهمهم أن يعطوه للكنيسة.
وَهُمْ قَبِلُوا هذا القبول يعني قيام الرسل بالمسؤولية، أما غيرهم فسمع التعليم ولم يقبله. والفرق بين الفريقين لا يتوقف على التعليم ولا على العلم، بل على استعداد السامع للقبول (قارن يوحنا ١: ١ بيوحنا ١: ١٢).
ذكر المسيح هنا ثلاثة أمور في شأن تلاميذه: (١) أنهم قبلوا تعليمه باختيار وسرور. (٢) أنهم علموا واعترفوا أنه خرج من عند الآب. (٣) أنهم آمنوا بما سمعوا وتأكدوا منه. وأكثر اليهود أبوا قبوله وتصديقه. نعم إن معرفة التلاميذ كانت ناقصة، وكان إيمانهم ضعيفاً، لكن المسيح عرف أن الذي عرفوه كان كافياً لخلاصهم، وأن إيمانهم كان قلبياً خالصاً، فمدحهم للآب.
أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكَ انظر شرح يوحنا ٣: ٢ و١٦: ٣٠.
وَأَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلتَنِي يزيد هذا على معنى الجملة التي قبله، أنه هو المسيح المنتظر (ع ٣) ومعنى تلك الجملة أنه أتى من السماء.
٩ «مِنْ أَجْلِهِمْ أَنَا أَسْأَلُ. لَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ العَالَمِ، بَل مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لأنَّهُمْ لَكَ».
١يوحنا ٥: ١٩
مِنْ أَجْلِهِمْ أَنَا أَسْأَلُ بعد ما وصف المسيح رسله للآب أخذ يصلي من أجلهم. وكل ما صنعه المسيح على الأرض إنما صنعه من أجل تلاميذه المؤمنين به، فإنه أتى ومات وقام وصعد لأجلهم، ولم يزل يصلي من أجلهم. وطلب لهم في هذه الصلاة ست بركات: (١) أن يحفظهم الله أمناء. (٢) أن ينصرهم على الشيطان. (٣) أن يقدسهم. (٤) أن يملأهم سروراً. (٥) أن يقدِّرهم على تمجيده وتمجيد الآب. (٦) أن يكونوا معه في المجد.
لَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ العَالَمِ أي في هذه الطلبة إذ هي صلاة من أجل التلاميذ خاصة. فلا يلزم من ذلك أنه لا يصلي من أجل العالم، بدليل أنه صلى من أجله (ع ٢١) وصلى من أجل قاتليه (لوقا ٢٣: ٣٤). وصلاته من أجل شعبه تتضمن الصلاة من أجل العالم، لأن كل ما ناله المؤمنون من البركات والمواهب الروحية كان لهم وسيلة إلى إفادة العالم، بدليل قوله «مَنْ آمَنَ بِي كَمَا قَالَ الكِتَابُ تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ» (يوحنا ٧: ٣٨) وقوله «أنتم نور العالم» (متّى ٥: ١٤). فالمسيح وإن كان يصلي من أجل العالم لا بد أن يصلي من أجل شعبه باعتباره وسيطهم ورئيس كهنتهم (عبرانيين ٧: ٢٥).
بَل مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي بنى طلبه إلى الآب أن يعتني بتلاميذه على أنهم كانوا للآب قبل أن كانوا للمسيح (انظر شرح ع ٦).
لأنَّهُمْ لَكَ أي لم يزالوا لك بعد أن أعطيتهم لي، لأنه «كُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ، وَمَا هُوَ لَكَ فَهُوَ لِي» (ع ١٠). فهم للآب بالتبني لكونهم إخوة المسيح فصاروا بذلك أعز إلى الآب.
١٠ «وَكُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ، وَمَا هُوَ لَكَ فَهُوَ لِي، وَأَنَا مُمَجَّدٌ فِيهِمْ».
يوحنا ١٦: ١٥
هذا يعم كل المخلوقات من عقلاء وغيرهم (راجع شرح يوحنا ١٦: ١٥). وهذا دليل على لاهوت المسيح وإلا لاستحال أن يكون كذلك. وبناء على هذه الآية نُسب المؤمنون أحياناً إلى الآب وأحياناً إلى الابن.
وَأَنَا مُمَجَّدٌ فِيهِمْ هذه علة أخرى لصلاته من أجلهم خاصة، فهم مجدوه بحفظ كلامه ومحبتهم له وإيمانهم به حين رفضه سائر العالم وأبغضه (ع ٦ – ٨). ولكنهم سيمجدونه أكثر بعد ما يحل عليهم الروح القدس ويكونون شهوداً بأنه المسيح. ويتمجد المسيح بالمؤمنين كلما غلبوا شهواتهم الرديئة وعاشوا بالتقوى أمام العالم، وحملوا نير المسيح عليهم وتعلموا منه، وتمكنوا بواسطة الروح القدس من أن يعملوا أعمالاً أعظم من أعمال المسيح لإرشاد الخطاة إلى التوبة والإيمان.
١١ «وَلَسْتُ أَنَا بَعْدُ فِي العَالَمِ، وَأَمَّا هَؤُلاءِ فَهُمْ فِي العَالَمِ، وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ. أَيُّهَا الآبُ القُدُّوسُ، احْفَظْهُمْ فِي اسْمِكَ. الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِداً كَمَا نَحْنُ».
يوحنا ١٣: ١ و١٦: ٢٨ و١بطرس ١: ٥ ويهوذا ١ ويوحنا ١٠: ٣ وع ٢١
وَلَسْتُ أَنَا بَعْدُ فِي العَالَمِ أكمل المسيح العمل الذي كان عليه (ع ٤) وحسب أنه ذاق الموت لفرط قربه منه.
وَأَمَّا هَؤُلاءِ فَهُمْ فِي العَالَمِ هذا ما حمله على الصلاة للآب من أجلهم، أي أنه تركهم فيه وهم ضعفاء مبغَضون ومضطهَدون، وعرضة للضيق والمصائب، ومحتاجون كاليتامى إلى الحماية والمساعدة، ومكلفون بأمر خطير هو أن يقوموا بالخدمة التي كان المسيح يقوم بها وينادوا للهالكين بالخلاص.
وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ قارن حاله بحال التلاميذ، فهو أكمل أتعابه أما هم فبدأوا في أتعابهم. فلما كانوا معه كان يعزّيهم ويحميهم، ولكنه لقرب مفارقته لهم أخذ يهتم بهم ويستودعهم للآب.
أَيُّهَا الآبُ القُدُّوسُ، احْفَظْهُمْ كان تلاميذ المسيح على وشك أن يُتركوا في العالم الشرير وهم ليسوا منه (يوحنا ١٥: ١٩). وهم مدعوون ليكونوا قديسين كما أن الله قدوس. فاحتاجوا إلى نعمة من الله ليُحفظوا من شر العالم لكي لا يرتدوا عن الإيمان، ولا يكونوا فريسة لأعدائهم. فكأنه قال: يا إله القداسة، احفظ أولادك هؤلاء في قداستهم.
فِي اسْمِكَ انظر شرح ع ٦. اسم الله كناية عن قوته وحكمته ومحبته، فيكون المعنى أن يعينهم الآب على إظهار تلك الصفات للعالم بتعليمهم وعبادتهم، أي بأقوالهم وأعمالهم.
لِيَكُونُوا وَاحِداً أي متحداً بعضهم ببعض في القلب والعقل والغاية، بلا خصومة ولا انتقام، ورباط ذلك الاتحاد المحبة. ويتضح لنا سبب صلاة المسيح من أجل وحدة تلاميذه ما اختبرناه من شدة الأضرار التي حاقت بالكنيسة بما حدث فيها من انقسام.
كَمَا نَحْنُ انظر ع ٢١ – ٢٣. أراد المسيح أن يكون اتحاد بعض تلاميذه ببعض كاتحاده بالآب، لكن ذلك لا يمكن أن يكون كاملاً مثل هذا، إلا أن سكن الروح القدس في قلوب المؤمنين يحقق هذا الاتحاد.
١٢ «حِينَ كُنْتُ مَعَهُمْ فِي العَالَمِ كُنْتُ أَحْفَظُهُمْ فِي اسْمِكَ. الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي حَفِظْتُهُمْ، وَلَمْ يَهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلا ابْنُ الهلاكِ لِيَتِمَّ الكِتَابُ».
يوحنا ٦: ٣٩، ٧٠ و١٠: ٢٨ و١٣: ٨ و١٨: ٩ وعبرانيين ٢: ١٣ و١يوحنا ٢: ١٩ وأعمال ١: ٢٠
حِينَ كُنْتُ مَعَهُمْ فِي العَالَمِ كان نحو ثلاث سنين ونصف سنة مرافقاً ومعلماً إياهم.
كُنْتُ أَحْفَظُهُمْ بتعليمي ونصائحي وسيرتي ومعجزاتي كراع يحفظ رعيته، فسأل الآب أن يحفظهم بعد أن يفارقهم كما حفظهم قبل ذلك. وأبان بذلك أنه مساوٍ لله لأن حفظ كلٍ منهما مساوٍ لحفظ الآخر.
فِي اسْمِكَ أي معرفتك وطاعتك بواسطة نعمتك وقوتك.
الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي كما جاء في ع ١١ ويوحنا ١٠: ٢٧ – ٢٩ حيث تكلم على خرافه الخاصة وتكررت هذه العبارة في يوحنا ١٨: ٩ بالمعنى نفسه.
حَفِظْتُهُمْ، وَلَمْ يَهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ كلامه هنا عن الأحد عشر رسولاً الذين أعطاهم الآب له، وحفظهم هو بنعمته وقوته. ويصح هذا على كل الذين أعطاهم الآب له بدون استثناء.
إلا ابْنُ الهلاكِ أي يهوذا الإسخريوطي، وسماه ابن الهلاك لأنه سلم نفسه إلى الهلاك واستحقه. واصطلح الكتاب المقدس على مثل ذلك كثيراً كقوله «أبناء بليعال» و «أبناء النور» و «أبناء الظلمة» و «أبناء المعصية» و «أبناء السلام» مبالغة في الوصف (٢صموئيل ٢٦: ٥ ومزمور ٧٩: ١١ ومتّى ١١: ١٩ و١٣: ٣٨ و٢٣: ١٥ ولوقا ١٦: ٨) وغير ذلك. والاستثناء في هذه العبارة منقطع لأن يهوذا ليس من الذين أعطاهم الآب له، فكأنه قال: هلك واحد وهو يهوذا ابن الهلاك لأنك لم تعطه لي، فلم أحفظه، وقد قلت منذ زمان إنه شيطان (يوحنا ٦: ٧٠).
وقال بعض المفسرين إن معنى «الذين أعطيتني» الذين عيّنتهم رسلاً لي، فيصير المعنى أنه لم يهلك من الاثني عشر رسولاً الذين عيّنتهم لي سوى يهوذا.
لِيَتِمَّ الكِتَابُ اللام الداخلة على كلمة «يتم» هي لام العاقبة، لا لام التعليل. فيكون المعنى أن ذلك حدث بحسب ما قيل في الكتاب (مزمور ٤١: ٩ و١٠٩: ٨) وقد مرّ الكلام على مثل ذلك في يوحنا ١٣: ١٨ (انظر أيضاً أعمال ١: ٢٠). فقد هلك يهوذا بسبب فساد قلبه وآثامه التي جعلته ابن الهلاك وعدم توبته عنها. وليس في الكتاب المقدس علة أخرى لهلاك الإنسان. فمن المحال أن يكون تمام الكتاب علة هلاك يهوذا.
١٣ «أَمَّا الآنَ فَإِنِّي آتِي إِلَيْكَ. وَأَتَكَلَّمُ بِهَذَا فِي العَالَمِ لِيَكُونَ لَهُمْ فَرَحِي كَامِلاً فِيهِمْ».
يوحنا ١٥: ١١ و١٦: ٢٤ و١يوحنا ١: ٤
أَمَّا الآنَ فَإِنِّي آتِي إِلَيْكَ ذكر ذلك بياناً لعلة أنه استودع تلاميذه للآب، وأنه يترك حفظهم له.
أَتَكَلَّمُ بِهَذَا أي بهذه الصلاة وباستيداعي تلاميذي لك.
فِي العَالَمِ أي أتكلم بذلك على مسمع تلاميذي وأنا على الأرض قبل صلبي.
لِيَكُونَ فَرَحِي كَامِلاً فِيهِمْ عرف يسوع أنه يموت بعد قليل بألم شديد جداً، ومع ذلك أخذ يفتكر في فرح تلاميذه وتعزية المؤمنين في كل العصور المستقبلة، إذ عرف أن الذي سمعه تلاميذه سيقرأه غيرهم في إنجيله.
لِيَكُونَ لَهُمْ فَرَحِي كَامِلاً فِيهِمْ بسمعهم أني صليت هذه الصلاة من أجلهم واستودعتهم للآب. وينتج من قول المسيح هنا أن كنز الفرح كُنِز للمؤمنين. وقد سبق الكلام على فرح المسيح (يوحنا ١٥: ١١). وهذا الفرح نتيجة موته وقيامته وصعوده وشفاعته في السماء وإرساله الروح القدس. ومصدر هذا الفرح حضن الآب في السماء، فطلب المسيح من أجل تلاميذه في ضيقاتهم عين الفرح الذي كان له في ضيقاته، وهو الفرح الناتج من تحققه محبة الآب وعنايته.
١٤ «أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كلامَكَ، وَالعَالَمُ أَبْغَضَهُمْ لأنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ العَالَمِ، كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ العَالَم».
ع ٨ ويوحنا ١٥: ١٨، ١٩ و١يوحنا ٣: ١٣ ويوحنا ٨: ٢٣ وع ١٦
أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كلامَكَ هذا تكرار ما قاله في آية ٨ ذكره هنا بياناً لما فعله لأجل حفظه إيّاهم. لقد وهب النظر للعميان والنطق للخرس والطعام للجياع والصحة للمرضى، أما تلاميذه فأعطاهم كلامه والنعمة لقبوله، حاسباً ذلك أعظم من سائر المواهب. وكل من يقبل كلام المسيح يقبل المسيح نفسه. ومنحهم المسيح كلامه لمنفعتهم ولينفعوا به غيرهم.
وَالعَالَمُ أَبْغَضَهُمْ ع ٦ ويوحنا ١٥: ١٨ – ٢١. وذكره هنا بياناً لاحتياجهم إلى حفظ الآب. إن أهل العالم أبغضوا كلام المسيح ورسل المسيح لتبشيرهم بذلك الكلام.
لأنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ العَالَمِ مرّ الكلام على هذا في شرح يوحنا ١٥: ١٩. وهو ليس طلبة بل يخبرنا أن الذين من العالم ليسوا للمسيح. ولا يقتضي أن يترك المسيحيون معاشرة الناس ويعيشوا منفردين، لأن المسيح عاشر كل صنوف البشر، ولكنه لم يفعل شيئاً أو يتكلم بشيء يجيز الخطأ في العوائد والمبادئ والغايات وطرق العبادة، ولم يتوقف عن التوبيخ على الضلال والشر ليشهد للحق. فعلى المسيحيين أيضاً أن يقتدوا به في ذلك ويكونوا أنواراً في العالم طاعة للقول «لِكَيْ تَكُونُوا بِلا لَوْمٍ، وَبُسَطَاءَ، أَوْلاداً لِلَّهِ بِلا عَيْبٍ فِي وَسَطِ جِيلٍ مُعَوَّجٍ وَمُلتَوٍ، تُضِيئُونَ بَيْنَهُمْ كَأَنْوَارٍ فِي العَالَمِ. مُتَمَسِّكِينَ بِكَلِمَةِ الحَيَاةِ» (فيلبي ٢: ١٥، ١٦).
١٥ «لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ العَالَمِ بَل أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ».
متّى ٦: ١٣ وغلاطية ١: ٤ و٢تسالونيكي ٣: ٣ ويوحنا ٢: ١٣ و٥: ١٨
لعل الرسل ظنوا أن الطريق الفضلى لنجاتهم من شرور هذا العالم أن يأخذهم المسيح معه إلى السماء حين صعوده إليها، أما هو فلم يستحسن ذلك مع كثرة ما في العالم من التجارب للمسيحيين وشدة بغضه لهم. ولم يسأل المسيح الآب أن ينقل المؤمنين إلى السماء عند إيمانهم، بل اختار بقاءهم هنا مدة لفائدتهم لينموا في القداسة والاستعداد للسماء، ولفائدة غيرهم بتعليمهم وعملهم، وليمجدوا الله بذلك. وكان على الرسل أعمال لا بد من أن يعملوها، أما هو فقد عمل ما عليه ومجَّد الآب (ع ٤) فبقي عليهم أن يفعلوا مثل ذلك (ع ١٠).
لا يجوز للمسيحي أن يسأل الله أن يعفيه من التعب، بل أن يسأله قوة على عمل ما عليه. ولا أن يسأله الخلو من التجارب، بل النعمة ليقوى عليها. ولا أن يسأله عدم حلول المصائب، بل التعزية والفرح في ذلك بيقين محبة الآب له. ولا أن يسأله أن يرفعه من العالم، بل يقدِّره أن يفيد العالم مدة بقائه فيه.
بَل أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ انظر شرح متّى ٦: ١٣. يطلق الشرير على ثلاثة من أعداء الإنسان، وهي العالم والشهوة والشيطان. وقد يُراد به الإثم كما في قوله «وَالعَالَمَ كُلَّهُ قَدْ وُضِعَ فِي الشِّرِّيرِ» (١يوحنا ٥: ١٩). ويراد به الشيطان كثيراً لأنه أصل كل الشرور (متّى ١٣: ١٩، ٣٩ و١يوحنا ٢: ١٣، ١٤ و٣: ١٢ و٥: ١٨).
١٦ «لَيْسُوا مِنَ العَالَمِ كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ العَالَمِ».
ع ١٤
هذا كما قيل في ع ١٤. ذُكر هناك بياناً لسبب بغض العالم لهم، وطلبه حفظ الله وتقديسه لهم، وتجهيزهم للعمل الذي عليهم.
١٧ «قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كلامُكَ هُوَ حَقٌّ».
يوحنا ٨: ٤٠ و١٥: ٣ وأعمال ١٥: ٩ وأفسس ٥: ٢٦ و١بطرس ١: ٢٣ و٢صموئيل ٧: ٢٨ ومزمور ١١٩: ١٤٢، ١٥١
قَدِّسْهُمْ طلب حفظهم أولاً، ثم طلب تقديسهم. والمعنى: اجعلهم قديسين كما أنت قدوس (ع ١١) وعيّنهم لخدمتك كما عُينتُ أنا (ع ١٩) وقدِّرهم على مشابهتي في طهارة القلب والسيرة ( ١كورنثوس ٦: ١١ و١تسالونيكي ٥: ٢٣). قد نال الرسل بنعمة الله بعض القداسة، فطلب المسيح زيادتها. ولم يضع حداً لذلك إذ أراد أن يكونوا كاملين في القداسة، فاستعدوا بذلك لخدمة الله على الأرض، والتمتع بالحضور أمامه في السماء.
فِي حَقِّكَ أي بتأثير الحق في القلب والضمير. فالحق هو الآلة التي يقدس بها الروح القدس قلوب الناس. إن الخليقة تعلّم الإنسان حق الخالق وعنايته في تدبير العالم وإرسال المراحم والمصائب التي تعلمه الحقائق الآيلة لتقديسه. وأفضل وسائط التقديس ما يأتي:
كلامُكَ هُوَ حَقٌّ أي كلام الله في كتابه لما فيه من وصايا ومواعيد وإعلانات صفاته، وبيان طبيعة الإنسان، وما يتعلق بالموت والقيامة والدينونة وسعادة المفديين الأبدية من شقاء الهالكين ولا سيما نبأُ شهادته «بحَمَل الله الذي يرفع خطية العالم».
كلام الله لا يقدس القلب من تلقاء نفسه، ولا يستطيع إنسان أن يقدس قلباً بواسطته. إنما الله الذي يفعل ذلك بواسطة روحه القدوس.
والكلمة الهامة في هذه العبارة هي «كاف ضمير المخاطب» أضاف إليها الكلام تمييزاً له عن كلام الناس.
١٨ «كَمَا أَرْسَلتَنِي إِلَى العَالَمِ أَرْسَلتُهُمْ أَنَا إِلَى العَالَمِ».
يوحنا ٢٠: ٢١
كَمَا أَرْسَلتَنِي إِلَى العَالَمِ أشار إلى ذلك الإرسال في يوحنا ١٠: ٣٦.
أَرْسَلتُهُمْ أَنَا إِلَى العَالَمِ انظر شرح متّى ١٠: ٥ ولوقا ٦: ١٣. وتم إرسالهم في يوحنا ٢٠: ٢١. وأظهر المسيح أن إرساليتهم مثل إرساليته، فهُم يحتاجون إلى مثل تقديسه. ووجه الشبه بين المسيح ورسله باعتبار الإرسالية متعدد، وهو أن المسيح ليس من العالم بل هو مرسل إليه، والتلاميذ ليسوا من العالم بل هم مرسلون ليكونوا شهوداً للمسيح (يوحنا ١٥: ١٦). وأن الآب مسح المسيح لعمله، وأن الروح القدس مسح التلاميذ لعملهم (وتم هذا يوم الخمسين بقوة). وأن المسيح أرسله الله ليعلنه هو للعالم وليشهد للحق وليخلّص الهالكين، وأن الرسل أرسلهم المسيح ليفعلوا كذلك. وأن الله الآب أجاب صلاة المسيح واستجاب طلبات الرسل. وأن المسيح دخل السماء بالآلام، وأن الرسل دخلوها بضيقات كثيرة. وأن المسيح كان قدوساً بلا عيب منفصلاً عن الخطاة، وأن الرسل كانوا قديسين.
١٩ «وَلأجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً مُقَدَّسِينَ فِي الحَقِّ».
١كورنثوس ١: ٢ و٣٠ و١تسالونيكي ٤: ٧ وعبرانيين ٢: ١٠ و١٠: ١٠
وَلأجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي التقديس هنا بمعنى الوقف أو التخصيص (خروج ٤٠: ١٣ ولاويين ٢٢: ٢، ٣). والمعنى أن المسيح قدم نفسه لله ذبيحة إثم حسب القول «لَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُولٍ، بَل بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى الأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيّاً» وقوله «فَكَمْ بِالحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ المَسِيحِ، الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ بِلا عَيْبٍ» (عبرانيين ٩: ١٢ و١٤). ويقدس الله المؤمنين بالمسيح بواسطة الحق (ع ١٧) وأما المسيح فيقدس نفسه بلا واسطة. فيتضح من ذلك أن بين التقديسين فرقاً عظيماً، فمعنى تقديس المؤمنين تطهيرهم (أفسس ٥: ٢٦) ومعنى تقديس المسيح وقفه لخدمة معينة كقوله «الَّذِي قَدَّسَهُ الآبُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى العَالَمِ» (يوحنا ١٠: ٣٦) وهو لا يحتاج إلى تطهير لأنه بلا خطية بدليل قول الرسول «الذي لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه مكر» وقوله «الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأجْلِنَا» (٢كورنثوس ٥: ٢١ وعبرانيين ٤: ١٥).
وكون تقديس المسيح نفسه من أجل الرسل كما ذُكر لا ينفي أنه قدسها ذبيحة من أجل كل العالم. وقال المسيح «أقدس أنا ذاتي» لأنه قدّمها فدية وطوعاً واختياراً.
لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً مُقَدَّسِينَ فِي الحَقِّ أي ليتعلموا بواسطة الحق أن «يُقَدِّمُوا أَجْسَادَهُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللَّهِ» (رومية ١٢: ١) كما فعل المسيح اختياراً متخذين إيّاه مثالاً، وليتقدسوا بذلك الدم الذي يطهر من كل خطيّة. فأمكنهم ذلك بواسطة تقديس المسيح نفسه ذبيحة إثم. ومعنى قوله «ليكونوا مقدسين في الحق» إما أن يكونوا مقدسين حقيقة، أو أن يكونوا كذلك بواسطة الحق. والمعنيان مفيدان.
صلاة المسيح لأجل كل المؤمنين (ع ٢٠ إلى ٢٦)
٢٠ «وَلَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هَؤُلاءِ فَقَطْ، بَل أَيْضاً مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي بِكلامِهِمْ».
وَلَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هَؤُلاءِ فَقَطْ أي الأحد عشر.
بَل أَيْضاً مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي أي كل الذين تتجدد قلوبهم بواسطة تبشير الإنجيل في كل زمان ومكان إلى نهاية الدهر، لأن للكل ضيقات وتجارب، وهُم في عالم شرير يضطهد أتباع المسيح ويبغضهم، وعليهم أن يشهدوا للحق، وهو عمل ذو شأن خطير، فيحتاجون دائماً إلى المعونة والتعزية. فإن كنا مؤمنين بالمسيح نتيقن أنه صلى من أجلنا حينئذ، ولا يزال يصلي كذلك.
بِكلامِهِمْ أي بشهادتهم للمسيح وخلاصه (يوحنا ١٥: ٢٧ ورومية ١٠: ١٤). ونتعلم من ذلك أن نشر كلام الله بواسطة الناس هو الوسيلة الضرورية إلى امتداد ديانة المسيح في العالم وإلى الإيمان به، وذلك مثل قول الرسول «إِذاً الإِيمَانُ بِالخَبَرِ، وَالخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللَّهِ» (رومية ١٠: ١٧).
٢١ «لِيَكُونَ الجَمِيعُ وَاحِداً، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا، لِيُؤْمِنَ العَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلتَنِي».
يوحنا ١٠: ١٦ وع ١١، ٢٢، ٢٣ ورومية ١٢: ٥ وغلاطية ٣: ٢٨ ويوحنا ١٠: ٣٨ و١٤: ١١
لِيَكُونَ الجَمِيعُ وَاحِداً أي أن يكون المؤمنون جميعاً متحدين كإخوة، لأنهم مفديون بدم واحد، ومتساوون في الحاجات والأحزان والأفراح، وهُم عرضة لخطر واحد من الأعداء، ولأنهم مسافرون إلى سماء واحدة.
أراد المسيح أن تكون كنيسته على الأرض بمنزلة أهل بيت واحد مرتبطة بالمحبة للمسيح رئيسها وفاديها (أعمال ٤: ٣٢ – ٣٥ و١كورنثوس ٤: ١٢ – ٣١ وأفسس ٢: ٢٠ – ٢٢). واتحاد الناس بالله وبعضهم ببعض غاية تجسد المسيح وموته وإرساله الروح القدس.
كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ انظر شرح يوحنا ١٠: ٣٠ و١٤: ١٠. لم ينتظر المسيح أن الاتحاد بين المؤمنين يماثل الاتحاد بين الآب والابن تمام المماثلة، بل أن يقرب من ذلك على قدر الإمكان، فيشترك المسيحيون في المقاصد والغايات والعواطف والشعور.
لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا أي متحدين بالآب والابن، وبعضهم ببعض. رغب المسيح أن تكون كنيسته متحدة، ورأى أن وسيلة ذلك أن يتحد كل عضو في الكنيسة به وبأبيه (أفسس ٤: ٤ – ٦).
لِيُؤْمِنَ العَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلتَنِي إذا رأى العالم علامات اتحاد الكنيسة يقتنع أن مصدرها من السماء، وأن المسيحية حق، وأن يسوع هو المسيح رسول الله. وينتج من ذلك أنه يتحول من كونه عدواً للحق إلى محب له مؤمن به.
قال المسيح في ع ٩ إنه لم يسأل وقتئذ من أجل العالم لأنه صلى لأجل المرسَلين إلى العالم، لكنه لم ينس العالم ولا غفل عن احتياجه، لأنه أتى ليخلصه. فالمسيح وإن كان العالم قد صلبه ورفضه توقع أن يرجع إليه بالتوبة ويخضع له.
٢٢ «وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ المَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِداً كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ».
رومية ٨: ٣٠ وأفسس ١: ١٨ و٢: ٦ ويوحنا ١٤: ٢٠ و١يوحنا ١: ٣ و٣: ٢٤
وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ المَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي تكلم المسيح في مجده المستقبل كأنه حاضر، وكذلك تكلم في مجد تلاميذه لأنهم لم يكونوا قد حصلوا إلا على الوعد به. والمجد المذكور هنا يسبقه التواضع في المعلم وفي التلاميذ، وهو قائم بأربعة أشياء: (١) إعلان مجد الله للناس. (٢) موهبة الروح القدس. (٣) مشاركتهم للمسيح في نشر بشرى الخلاص بعد إكماله عمل الفداء. (٤) مشاركتهم له في أفراح السماء حين يجلس على يمين الله، وصيرورتهم ورثة الله وارثين معه، ممجَّدين معه بعد ما تألموا معه (رومية ٨: ١٧، ٣٠ وأفسس ١: ١٨ و٢: ٦). متغيرين إلى صورته عينها من مجد إلى مجد (٢كورنثوس ٤: ١٨).
فمجد المسيحيين ليس مجد الرتب السامية، ولا إكرام الملوك والغنى، لكنه قائم بنوال النعمة ليحبوا إخوتهم من البشر، وينكروا أنفسهم من أجل الله، وهكذا يشتركون في مجد المسيح إن ساروا في الطريق التي سار فيها هو، وهي طريق التواضع وإنكار النفس.
لِيَكُونُوا وَاحِداً هذا غاية إعطائهم المجد الذي أعطاه له الآب.
٢٣ «أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ، وَلِيَعْلَمَ العَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلتَنِي، وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي».
كولوسي ٣: ١٤
هذه الآية تفسير للجملة الأخيرة من الآية السابقة، ذكرها ليصف الاتحاد بين الآب والابن والمؤمنين.
أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ يظهر من هذا أن اتحاد المسيحيين الذي رغب فيه المسيح قلبيٌ مبنيٌ على المحبة، ينتج عنه وحدة الإيمان، والسيرة المقدسة. وليست الغاية في المساواة في الطقوس وسياسة الكنيسة.
مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ هذا دليل إن حال الانقسام في الكنيسة حال النقصان، وحال الاتحاد حال الكمال. فكلما نقص اتحاد الكنيسة قصرت عن الكمال الذي طلبه المسيح (١يوحنا ٢: ٥ و٤: ١٢، ١٧، ١٨).
وَلِيَعْلَمَ العَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلتَنِي كما قيل في ع ٢١ إلا أنه قيل هنالك «ليؤمن» وهنا «ليعلم». فالعلم مقترن بالإيمان والمحبة. قال المسيح إن العالم يقتنع باتحاد المسيحيين أن ديانتهم من الله، وأن معلمهم المسيح رسول الله والوسيط الوحيد والطريق والحق والحياة ورئيس السلام ورب المجد، وأنه يقبل بشارة الخلاص المرسَل إليهم من الآب. ولا يقتنع العالم بذلك إلا عندما يكون المؤمنون جيشاً واحداً تحت رئاسة رئيس واحد سماوي، متفقين في الرأي والعمل.
٢٤ «أَيُّهَا الآبُ أُرِيدُ أَنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا، لِيَنْظُرُوا مَجْدِي الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لأنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ العَالَمِ».
يوحنا ١٢: ٢٦ و١٤: ٣ و١تسالونيكي ٤: ١٧ رومية ٨: ١٧ و٢كورنثوس ٣: ١٨ و١يوحنا ٣: ٢ ع ٥
طلب المسيح قبلاً تقديس تلاميذه، واتحادهم به، واتحاد بعضهم ببعض. وسأل هنا سعادتهم الأبدية في السماء، وهي غاية ما طلبه قبلاً.
الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي هذه مرة سابعة وصف تلاميذه بذلك في هذه الصلاة، وهذا دليل على محبته أن ينظر إليهم عطية من الآب له.
يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَنَا أي في السماء (انظر شرح يوحنا ١٤: ٣). تتوقف أعظم سعادة القديسين في السماء على قبول هذه الطلبة، فلذلك لم يرد المسيح أن يرجع إلى الآب بدون تقديمها، وتركها مكتوبة لنقرأها ونعرف ما الذي يرغب فيه لشعبه، وهو أن يجلسوا معه في عرشه كما غلب هو وجلس مع أبيه في عرشه (رؤيا ٣: ٢١). وتتضمن هذه الطلبة أن الله يمنح للتلاميذ أيضاً كل الوسائط لنوال هذا المجد (لوقا ٢٣: ٤٣ وفيلبي ١: ٢٣ و١تسالونيكي ٤: ١٧).
لِيَنْظُرُوا مَجْدِي أي ليشتركوا فيه ويتمتعوا به لا مجرد مشاهدة العين (يوحنا ٣: ٣ ومتّى ٥: ٨ و٢كورنثوس ٣: ١٨ و١يوحنا ٣: ٢ ورؤيا ١٨: ٧).
لأنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ العَالَمِ انظر شرح ع ٥. هذا من الأدلة القاطعة على أن المسيح كان قبل كل مخلوق. وذكره بياناً لعظمة مجده بأنه نتج عن محبة الآب منذ الأزل، بخلاف مجد القديسين الذي هو نتيجة أمانتهم مدة حياتهم على الأرض.
٢٥ «أَيُّهَا الآبُ البَارُّ، إِنَّ العَالَمَ لَمْ يَعْرِفْكَ، أَمَّا أَنَا فَعَرَفْتُكَ، وَهَؤُلاءِ عَرَفُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلتَنِي».
يوحنا ٧: ٢٩ و٨: ٥٥ و١٠: ١٥ و١٥: ٢١ و١٦: ٣، ٢٧ وع ٨
أَيُّهَا الآبُ البَارُّ وصف المسيح الآب بالبار لأنه يلتمس منه أن يهب تلاميذه أن يكونوا معه وينظروا مجده، وهذا ليس من الحق والعدل أن يُعطاه الأشرار الذين لم يعرفوا الآب، لكنه يليق بالذين أعدهم الآب لمشاهدة ذلك المجد مجازاة لهم على معرفتهم بالله وإيمانهم به ومحبتهم له.
أَمَّا أَنَا فَعَرَفْتُكَ كانت معرفة المسيح لأبيه كاملة بدليل قوله «كَمَا أَنَّ الآبَ يَعْرِفُنِي وَأَنَا أَعْرِفُ الآبَ» (يوحنا ١٠: ١٥). وهو قادر أن يعلن الآب للناس بدليل قول الرسول «الابْنُ الوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يوحنا ١: ١٨) وقوله «لا أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إلا الابْنُ وَمَنْ أَرَادَ الابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ» (متّى ١١: ٢٧).
وَهَؤُلاءِ عَرَفُوا بما علّمتهم (يوحنا ١٤: ٩، ١١). والوسيلة إلى معرفة الله هي الجلوس عند أقدام المسيح، وقبول تعاليمه بالإيمان.
٢٦ «وَعَرَّفْتُهُمُ اسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ، لِيَكُونَ فِيهِمُ الحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ، وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ».
يوحنا ١٥: ٩، ١٥ وع ٦، ٢٣
وَعَرَّفْتُهُمُ اسْمَكَ اسم الله كناية عن صفاته، وأخص أسمائه المحبة. وكل تعليم المسيح وعمله إعلان تلك الصفات الحسنى.
سَأُعَرِّفُهُمْ بروحي القدوس الذي سأرسله. وعمل الروح هو الإرشاد إلى جميع الحق، وإعلان محبة الله «الفائقة المعرفة». ولا يزال المسيح يعرِّف الناس باسم أبيه بواسطة كتابه ومبشريه وروحه القدوس العامل فيهم وبهم.
لِيَكُونَ فِيهِمُ الحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ انظر شرح يوحنا ١٥: ٩. هذا نتيجة تلك المعرفة السماوية. ويشتمل الحب المذكور هنا على كل بركة. وهذه الطلبة كصلاة بولس من أجل كنيسة أفسس (أفسس ٣: ١٦ – ١٩). وهي تتضمن العناية والحماية من الأعداء على الأرض كما كان المسيح وكمال السعادة في السماء.
أتى المسيح إلى هذا العالم وعلَّم وتألم ومات من أجلنا لنصعد معه إلى المجد، ولتحل علينا محبة الآب وتملأ قلوبنا كما ملأت قلبه.
وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ صرّح لهم بأنه ذاهب عنهم، وأنه مع ذلك باقٍ معهم بناسوته حاضراً بلاهوته. وهذا آخر صلاته الوداعية التي بدأت بكلمات تشير إلى المفارقة، وخُتمت بكلمات تشير إلى المجاورة والقربى، لأنه كان سابقاً ساكناً بينهم، وأما بعد صعوده فسكن في قلوبهم. والأساس الوحيد الذي يبني عليه المؤمنون رجاءهم هو محبة الآب لهم، وإجابته صلواتهم، لأن المسيح فيهم. وليس لفضلهم ولا لفضائلهم. ويدخل المسيح قلوبنا بالإيمان، ويمكث فينا بالإيمان، وهو «فينا رجاء المجد» وغاية القداسة والسعادة.
السابق |
التالي |