إنجيل يوحنا | 14 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح إنجيل يوحنا
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح الرابع عشر
الخطاب الوداعي. تعزية يسوع تلاميذه على مفارقته إيّاهم (ع ١ – ١٤)
١ «لا تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَآمِنُوا بِي».
ع ٢٧ ويوحنا ١٦: ٢٢، ٢٣
لا تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ لا عجب من اضطراب قلوب التلاميذ حينئذ، لعدة أسباب توجبه، ولعل علاماته ظهرت على وجوههم وفي بعض أقوالهم. ومن تلك الأسباب كلامه عن ذهابه عنهم وهو أولها وأعظمها، بدليل قوله «لأنِّي قُلتُ لَكُمْ هَذَا قَدْ مَلأ الحُزْنُ قُلُوبَكُمْ» (يوحنا ١٦: ٥، ٦). ومن تلك الأسباب تركه إياهم كخراف بين ذئاب، وتعريفهم بأنه لا بد من وقوع الاضطهاد عليهم، وأخذ أملهم الملك الزمني في الضعف والزوال، وما ذكره في خطابه من أمر تسليم يهوذا الإسخريوطي إيّاه وإنكار بطرس له.
أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَآمِنُوا بِي الوسيلة الأولى التي ذكرها يسوع لإزالة الاضطراب هي الإيمان بالله وبه. وكان للتلاميذ باعتبارهم يهوداً أتقياء ثقة بالله الآب بحضوره معهم ومحبته لهم، فأراد أن يكون لهم باعتبارهم تلاميذه مثل تلك الثقة عينها به، أي أن يؤمنوا بحضوره معهم وهو غير منظور كما يؤمنون بالآب كذلك. وهذا لا يستلزم أن إيمانهم بالله كان كاملاً لا يحتاجون معه إلى زيادة، بل وجوب أن يكون إيمانهم به كإيمانهم بالآب. ويلزم من قوله هنا أنه أمرهم باعتقاد مساواته للآب واتحاده به في القصد والعمل، وأن قدرته غير محدودة، وأن حضوره معهم واعتناءه بهم ليسا مقيدين بحضوره جسدياً كما اعتادوا أن يعتبروهما. وأنه لا يزال يعتني بهم ويهب لهم كل ما يحتاجون إليه في الحياة الحاضرة والمستقبلة. فكأنه قال: آمنوا بأني المسيح وإن رأيتموني على الصليب، وآمنوا أني حاضر بينكم وإن لم تروني، وليكن إيمانكم بي دائماً باعتبار أني مخلّص حي ورأس الكنيسة.
وهذا أول ما فعله المسيح ليعزيهم، وهو دواء لكل اضطرابات النفس لا مثيل له.
٢ «فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ، وَالا فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلتُ لَكُمْ. أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً».
مزمور ٣٣: ١٣، ١٤ وإشعياء ٦٣: ١٥ ويوحنا ١٣: ٣٣، ٣٦
فِي بَيْتِ أَبِي عبّر عن السماء بمسكن الله حيث يظهر مجده بأكثر البهاء والجلال. (راجع تثنية ٢٦: ١٥ و٢أيام ١٨: ١٨ ومزمور ٢: ٤ و٣٣: ١٣، ١٤ و٩١: ١٣ وإشعياء ٦٣: ١٥ وأعمال ٧: ٤٩ و٢كورنثوس ٥: ١). وفي الصلاة الربانية: «أبانا الذي في السماوات». فصرّح المسيح بذلك أنه ذاهب إلى السماء، وعزّاهم بوعده في ما يأتي أنهم يجتمعون به هناك. وهذا تعزية لنا جميعاً إذ نعلم منه أن السماء بيت أبينا، فإذاً هي وطننا.
مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ هذا مجاز مبني على ما في قصور ملوك هذه الأرض من أماكن كثيرة لهم ولأولادهم ولأهل بلاطهم. وقصد المسيح بذلك بيان سعة السماء، وتأكيده لهم اجتماعهم به هناك لفرط سعتها، فإنها تسعهم هم وسائر المفديين مع كل جنود الملائكة. والسكن في قصر الملك يستلزم القرب منه والمشاركة له في الإكرام والسعادة والمحبة التي هي وافرة فيه.
وَإلا أي ولو كان انفصالنا أبدياً ولا يمكن أننا نجتمع في السماء ونسكن معاً في منازلها.
فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلتُ لَكُمْ ولم أترككم جاهلين ذلك، تتوقعون ما لا يوجد. والخلاصة أنه ليس في ما قاله أدنى شك.
أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً هذا مثل قول الرسول إن المسيح دخل السماء كسابق لأجلنا (عبرانيين ٦: ٢٠). قد أعدّ ذلك بموته على الصليب، وشفاعته لنا في السماء (عبرانيين ٩: ١٢). وقد حقق إيمان التلاميذ بالله أن لهم سماءً واسعة كثيرة المنازل، ويحقق إيمانهم بالمسيح أن لهم سبيلاً لدخول تلك المنازل (عبرانيين ٤: ١٤، ١٦ و٧: ٢٥ – ٢٧ و١٠: ١٢، ١٣، ١٩ – ٢٢).
٣ «وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً».
ع ١٨، ٢٨ وأعمال ١: ١١ ويوحنا ١٢: ٢٦ و١٧: ٢٤ و١تسالونيكي ٤: ١٧
آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ قال ذلك ليعزّي تلاميذه على ذهابه عنهم، فإنه وإن فارقهم سيرجع إليهم رجوعاً روحياً لا جسدياً عند موتهم ليجمعهم إليه. وقصد أيضاً إتيانه إليهم بالروح كل حين ليعزيهم ويعينهم ويعلمهم ويُعدهم للذهاب إليه. وقد «أتى أيضاً» لما قام من الموت رئيساً للحياة، ولما أرسل الروح القدس. وهو مع كنيسته بالروح كل حين ويأتي إلى كل مؤمن عند موته (فيلبي ١: ٢٣). وسوف يأتي بالمجد يوم مجيئه الثاني العظيم (١تسالونيكي ٤: ١٧).
حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً أكد بذلك لتلاميذه أنهم يكونون بعد موته حيث هو، فبالضرورة يكونون في الراحة والقداسة والسعادة الأبدية (فيلبي ١: ٢٣ و١تسالونيكي ٤: ١٧ وعبرانيين ٩: ٢٨).
أعظم مسرات المؤمنين أن يكونوا «كل حين مع الرب» فإذا ذكرنا ذهابنا من هذا العالم لا نتصور أن الموت سيلاشينا، بل نؤمن أن المسيح آت لإتمام خلاصنا، وأن نهاية حياتنا هنا بداية حياتنا فوق، وأن خسارتنا هنا ربحنا هناك، وأن مفارقة أصدقائنا على الأرض اجتماع بالأصدقاء في السماء. نعم إن الموت هائل لمن لا يعلم إلى أيّ مكان من عالم الظلام يذهب، لكنه ليس كذلك لمن يتحقق أنه يذهب إلى بيت أبيه السماوي ليكون مع يسوع أخيه الأكبر.
٤ «وَتَعْلَمُونَ حَيْثُ أَنَا أَذْهَبُ وَتَعْلَمُونَ الطَّرِيقَ».
عرف يسوع ما في قلوب تلاميذه من الشكوك وما في أذهانهم من التساؤلات، فأراد أن يبدد الشكوك، وكأنه قال لهم: ألا تعلمون حيث أنا أذهب؟
حَيْثُ أَنَا أَذْهَبُ أي السماء بيت أبي.
وَتَعْلَمُونَ الطَّرِيقَ لأني أخبرتكم بما فيه الكفاية إن كنتم قد انتبهتم لكلامي، وأنتم قادرون على معرفة الطريق إذا تذكرتم كلامي، فإني أنا ذلك الطريق. وأما التلاميذ فلم يعلموا ذلك حق العلم، لأن أذهانهم كانت مملوءة بالأفكار والآمال المتعلقة بالملك الأرضي لابن داود، فلم يدركوا قصد المسيح حين كان يكلمهم عن مملكته الروحية، بدليل أنهم سألوه بعد قيامته: «يَا رَبُّ، هَل فِي هَذَا الوَقْتِ تَرُدُّ المُلكَ إِلَى إِسْرَائِيلَ؟» (أعمال ١: ٦). ولم يدركوا حقيقة الأمر حتى أنار أذهانهم بروحه.
٥ «قَالَ لَهُ تُومَا: يَا سَيِّدُ، لَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ تَذْهَبُ، فَكَيْفَ نَقْدِرُ أَنْ نَعْرِفَ الطَّرِيقَ؟».
تُومَا انظر شرح متّى ١٠: ٣ وانظر أيضاً يوحنا ١١: ١٦ و٢٠: ٢٤ – ٢٩. كان هذا الرسول يحب المسيح، لكنه كان يميل إلى الشك واليأس.
لَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ تَذْهَبُ أقرّ أنه لم يفهم قول المسيح تمام الفهم، لأنه كيهودي كان يرفض فكرة موت المسيح.
فَكَيْفَ نَقْدِرُ أَنْ نَعْرِفَ الطَّرِيقَ؟ هذا السؤال لم ينتج عن شك في نفس توما كسؤال بيلاطس للمسيح: «ما هو الحق؟» بل عن رغبة في المعرفة.
٦ «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالحَقُّ وَالحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إلا بِي».
عبرانيين ٩: ٨ ويوحنا ١: ٤، ١٧ و٨: ٣٢ و١٠: ٩ و١١: ٢٥
كان يسوع قد قال: «أنا هو خبز الحياة» و «أنا نور العالم» و «أنا باب الخراف» و «أنا الراعي الصالح» وزاد قوله هذا ليوضح علاقته بطريق الخاطئ للسماء. وأهم كلمة في هذه الآية هي «أنا» فكأنه قال: أنا الطريق إلى الآب لأني أفتحه بموتي. كان الناس ضالين يجهلون الطريق فأنا «الحق» نور العالم لأُري الناس الطريق الذي فتحته لهم. وهم موتى بالخطية وأنا «الحياة» لأُحيي نفوسهم وأُقدرهم على أن يروا الطريق ويسيروا فيه.
الطَّرِيقُ التي فيها يسير الخاطئ من الأرض إلى السماء، ومن حال الخطية إلى حال القداسة، ومن العداوة لله إلى المصالحة معه. وفتح المسيح تلك الطريق بسفك دمه (عبرانيين ١٠: ٢٠). فالفاصل بين الإنسان والله ليس البُعد بين السماء والأرض بل إثم الأثيم. وأزال يسوع ذلك الفاصل حين عُلق على الصليب (إشعياء ٣٥: ٨ – ١٠). ولأن المسيح هو الطريق نجتاز به من الخطية والشقاء والموت إلى القداسة والسلام والسعادة والرجاء والراحة والحياة في السماء. والمسيح هو الدليل في تلك الطريق إلى الله، ينادينا دائماً: «اتبعوني».
الحَقُّ قال المسيح إنه الحق لأنه يعلن لنا بروحه وكلامه كل ما نحتاج إلى معرفته من أمر أنفسنا، وما لله، وما يجب علينا، والطريق إلى السماء. ولأنه يعلم كل الحقائق تمام العلم، ويعلن ما يعلنه منها أكمل إعلان، ولأنه المرموز إليه بذبائح العهد القديم وسائر رموزه التي هي ظل الحقيقة. كانت أقوال الفلاسفة بالله وبالسماء وبآخرة الأخيار والأشرار ظنوناً، وأما أقوال يسوع بذلك فكانت يقينيات. وما أتى به الأنبياء والرسل من التعليم الحق لم يكن إلا منه (متّى ١١: ٢٧ ويوحنا ١: ١ و٢: ١٤، ١٧ و١٠: ٣٠ و١٧: ٣ وفيلبي ٢: ١٦ وكولوسي ٢: ٩ وعبرانيين ١: ٢). ولم يقصد المسيح بقوله إنه الحق تعليم الناس كل العلوم، وإنما أن يعلمهم ما يوصلهم إلى السماء.
الحَيَاةُ انظر شرح يوحنا ١١: ٢٥، فالمسيح مصدر كل حياة روحية. وهو الذي يعلمنا حقيقة تلك الحياة واحتياجنا إليها، وهو الذي اشتراها لنا بموته، ويهبها لنا بروحه (يوحنا ٦: ٥٧ و١٠: ١٠) ولا يزال يهبها لنا وسيظل إلى أبد الآبدين، وهو يهب فوق ذلك الحياة للجسد يوم القيامة.
إِلَى الآبِ الذي يجد الآب يجد السماء التي هي بيته.
إلا بِي أي بموتي وشفاعتي لا غير ذلك، لأني أنا وحدي الطريق والحق والحياة. فالله أبٌ للذين يأتون إليه بابنه يسوع. ولا نقدر أن نأتي إلى الآب بالصلاة التي يستجيبها إلا بالمسيح. ولا نستطيع دخول السماء إلا به (١تيموثاوس ٢: ٥) لأن الله جعل ابنه الوسيلة الوحيدة لينال الخطاة المغفرة والمصالحة والخلاص. فالذين يدخلون السماء إنما يدخلونها بكفارته. فلنأتِ إلى الآب عندما نتكل على المسيح وحده لأجل الخلاص، وعندما نطيع أوامره ووصاياه. وفي ذلك جواب لسؤال توما: «أين تذهب؟» وهو أنه ذاهب إلى الآب، وسؤاله عن الطريق وهو قوله «بي».
٧ «لَوْ كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً. وَمِنَ الآنَ تَعْرِفُونَهُ وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ».
يوحنا ٨: ١٩
قال في آية ٦ إنه هو واسطة إتيان الناس إلى الآب، وفي هذه الآية إنه هو واسطة معرفتهم إياه لأنه كلمة الله أي الذي يعلنه (يوحنا ١: ١) ولأنه هو والآب واحد (يوحنا ١٠: ٣٠ انظر شرح يوحنا ٨: ١٩).
لَوْ كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لم يقصد أن ينكر عليهم كل معرفة الآب، بل قصد أن معرفتهم إياه قاصرة بسبب سوء آرائهم اليهودية في شأن المسيح.
لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً على قدر ما يستطيع الإنسان أن يعرف من صفاته الحسنة ومقاصده، ولا سيما ما قصده بموت المسيح وقيامته وفتح طريق السماء به.
وَمِنَ الآنَ تَعْرِفُونَهُ أي من الوقت الذي أخذ يتمجد فيه (يوحنا ١٣: ٣١) وهو وقت حديثه هذا، وعرفوه بما قاله لهم في ع ٦، ٩ وزادت معرفتهم بالآب عند موت المسيح وقيامته وحلول الروح القدس. ومعنى قوله «تعرفونه» أخذتم تقتربون من كمال معرفته.
وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ لأنهم رأوا المسيح وهو صورة الله (فيلبي ٢: ٦) وبهاء مجده ورسم جوهره (عبرانيين ١: ٣). وهذه الرؤية روحية فاق بها الرسل البسطاء علماء اليهود الذين لم يعرفوا الابن ولا الآب (يوحنا ٨: ١٩).
٨ «قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ: يَا سَيِّدُ، أَرِنَا الآبَ وَكَفَانَا».
فِيلُبُّسُ (انظر شرح متّى ١٠: ٣٠) وتُعرف صفاته من يوحنا ١: ٤٤، ٤٥ و٦: ٥ – ٧ و١٢: ١٢، ٢٢. مرّ أن توما لم يفهم قصد المسيح بالذهاب والطريق، وهنا يُظهر فيلبس أنه لم يفهم معنى قوله: «قد رأيتموه» فظنه يعني رؤية صورة حسية، أي هيئة تراها عيون الجسد كالتي رآها موسى في جبل سيناء وإشعياء في رؤياه. والظاهر من كلامه أنه حسب رؤية الله أعظم الخيرات كما حسبها موسى (خروج ٣٣: ١٨)، وأنه لم يعرف ظهور الله له بالمسيح وبمعجزاته وسيرته وتعليمه، وأنه لو حصل على رؤية الله بالعين الجسدية لأزال ذلك كل شكوكه وأشبع كل أشواقه. فأصاب بالاشتياق، وأخطأ بعدم إدراكه أن الله قد استجاب طلبه في طريق أفضل مما أرادها. ولو ظهر الله له كما أراد لأعلن له مجرد قوته، ولكنه بالمسيح أبان كل صفاته.
٩ «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً هَذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا الآبَ؟».
يوحنا ١٢: ٤٥ وكولوسي ١: ١٥ وعبرانيين ١: ٣
في هذا ما يدل على حزن المتكلم وعتابه للمخاطب، لأن غاية مجيئه إلى العالم إعلان الآب. وكان ذلك الإعلان غرضه من كل خدمته، وقد بلغ حينئذ نهايتها، فإذا به يرى أن معظم تعبه كان عبثاً، لأن تلميذه فيلبس لم يستفد شيئاً من الإعلان المذكور.
زَمَاناً هَذِهِ مُدَّتُهُ كانت تلك المدة نحو ثلاث سنين ونصف سنة، والمسيح لم يفتر في تلك المدة عن التعليم، وكان فيلبس من أول التلاميذ.
اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ على قدر ما يستطيعه الإنسان المحدود من إدراك الله غير المحدود. (انظر شرح يوحنا ١: ١٨، ١٢، ٤٤، ٤٥ وانظر كولوسي ١: ١٥ و١تيموثاوس ٦: ١٦ وعبرانيين ١: ٣). والتلاميذ لم يروا جوهر الآب لأنه ليس من المرئيات فإن «الله لم يره أحد قط» لكن المسيح قد أظهر صفاته وإرادته ومقاصده. فهم رأوا المعجزات الدالة على قدرته ورحمته، وشاهدوا تواضعه وقداسة سيرته وحنوه على المصابين ورغبته في خلاص الهالكين، وتحققوا بذلك شفقة الآب على الخطاة ومحبته للتائبين والمؤمنين وطول أناته وقداسته وحفظه للعهود، لأن المسيح قال إنه مُرسَل من الله ليعلن الله للناس، ولأن الابن متحد بالآب اتحاداً كاملاً حتى أن الذي يعرف أحدهما يعرف الآخر (يوحنا ٥: ١٧، ١٩، ٣٦ و١٠: ٣٠) وموت المسيح كفارة عن خطايا العالم وطوعاً لإرادة الله أظهر صفاته أحسن إظهار. والذي رأى يسوع معلقاً على الصليب وفهم القصد من ذلك رأى ما لم يُعلن لمخلوق قبلاً من كل ملء اللاهوت. ونحن مديونون ديْناً أبدياً للمسيح، لأنه أعلن الله لنا أباً فوق معرفتنا إياه خالقاً، وعرفنا به مُحباً لنا علاوة على كونه ديّاناً.
فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ؟ في هذا توبيخ لفيلبس الذي جهل الآب بسبب غفلته عن البيّنات التي أوردها المسيح له، وتأكيده أنه لو ذكر تلك البينات وتأمل فيها لآمن بأنه قد رأى الآب.
١٠ «أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ؟ الكلامُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي، لَكِنَّ الآبَ الحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ».
يوحنا ١٠: ٣٨ وع ٢٠ ويوحنا ١٧: ٢١، ٢٣ ويوحنا ٥: ١٩ و٧: ١٦ و٨: ٢٨ و١٢: ٤٩
أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ؟ هذا يدل على أن رؤية الله الآب بالمسيح ممكنة فقط لعين الإيمان، وأن الآب والابن أقنومان متميزان لأنه قال «أنا في الآب» لا «أنا الآب». وأن الاتحاد بين الأقنومين تام في القصد والعمل، وأن الفصل بينهما محال، وأنهما متساويان في الجوهر. وقول المسيح لفيلبس: «ألست تؤمن؟» يفيد أنه كان يجب أن يؤمن ويتيقن ذلك.
الكلامُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ ذكر المسيح أمرين أعلنهما الآب كان على فيلبس أن يعرف بهما أن يسوع في الآب والآب فيه، وهما: كلامه، وأعماله. وأراد بالكلام هنا كل ما علَّمه لتلاميذه. وأنه لم يقُل شيئاً مستقلاً عن الآب، بل بالنظر إلى أنه أتى به من عند الله، وأن الآب تكلم به، وأن غاية كل تعليمه إعلان ذلك الآب الذي طلب فيلبس أن يراه.
الحَالَّ فِيَّ أي المتحد بي دائماً. فلو كان المسيح نبياً فقط لقال: الآب الذي أرسلني. فقوله ذلك دليل على أنه الله لا نبي كسائر الأنبياء (يوحنا ٥: ١٧، ١٩، ٣٦ و١٠: ٣٠).
هُوَ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ هذا هو الأمر الثاني الذي كان على فيلبس أن يعرف به الآب، والمقصود بالأعمال هنا المعجزات التي صنعها المسيح، وقد بينت محبة يسوع وقوته، كما بينت محبة الآب وقوته لأنه حال في الابن ويعمل به (انظر شرح يوحنا ٨: ٢٨). وخلاصة هذه الآية أن الذي سمع صوت الابن سمع صوت الآب أيضاً، والذي رأى أعمال الابن رأى أعمال الآب كذلك.
١١ «صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ، وَإلا فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ الأَعْمَالِ نَفْسِهَا».
يوحنا ٥: ٣٦ و١٠: ٣٨
صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ خاطب المسيح بهذا كل التلاميذ لا فيلبس فقط، وهو دعوة للجميع إلى الانتباه لما عاتب المسيح فيلبس على غفلته عنه، فكأنه قال: اسمعوا كلكم، وأنا أكرر لكم ما قلته في شأن كمال الاتحاد بيني وبين الآب.
وَإلا فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ الأَعْمَالِ أي إن لم تقتنعوا بمجرد كلامي على الاتحاد بيني وبين الآب فاقتنعوا بشهادة ما صنعتُه من المعجزات، فلا أحد يقدر أن يفعل مثل هذه الأفعال ما لم يكن الله معه. وقال المسيح قبلاً مثل هذا القول لليهود (يوحنا ٥: ١٩، ٢٠ و١٠: ٣٧، ٣٨).
١٢ «اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَالأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضاً، وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا، لأنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي».
متّى ٢١: ٢١ ومرقس ١٦: ١٧ ولوقا ١٠: ١٧
هذا وعد ثان للتلاميذ وعدهم المسيح به ليعزيهم على مفارقته لهم. وكان الوعد الأول أن يجتمعوا به في السماء. والوعد الثاني مضمونه أن قوة فعل المعجزات لا تنتهي عند ذهابه، وأن الله يقدّرهم على صنعها برهاناً لحضوره معهم وإثباتاً لصحة تعاليمهم.
اَلحَقَّ الحَقَّ هذا توكيد للوعد.
مَنْ يُؤْمِنُ الإيمان شرط نوال ما وعدهم به لأنهم يتحدون به مع الآب والابن، ويكونون وسيلة توصيل نعمة الله إلى سائر الناس.
فَالأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ كشفاء المرضى وإقامة الموتى (أعمال ٥: ١٥، ١٦ و١٣: ١١ و١٩: ١٢).
وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا عملوا أعظم منها من وجهين: (١) أن تأثير معجزاتهم في عالم المادة كان أشد من تأثير معجزات المسيح، فإن مشاهدي معجزاتهم كانوا أكثر عدداً من مشاهدي معجزاته، واقتنع الناس بواسطة معجزاتهم أكثر مما اقتنعوا بواسطة معجزاته فآمنوا بأعداد أكثر. (٢) أن أكثر المعجزات التي صنعها الرسل كانت في عالم الروح، وذلك أسمى من المعجزات في عالم المادة، فقد فتحوا القلوب العمياء وأخضعوا إرادة المعاندين لله، وأحيوا النفوس الميتة. فقد آمن ثلاثة آلاف في يوم الخمسين بتبشيرهم، وآمن الملايين في البلاد المختلفة نتيجة تبشيرهم. على أن الرسل لم يستطيعوا ذلك من قِبل أنفسهم، إنما فعلوه بقوة المسيح العامل بهم.
ويصح قول المسيح نوعاً ما على نجاح الكنيسة في كل قرن، وانتصار المسيحية على الأديان الفاسدة. وهو يصح كلما ذهب المرسلون وبشروا بالإنجيل في البلاد الوثنية. وانتشار الإنجيل بعد صعود المسيح فاق كثيراً انتشاره قبل صعوده، فهو زرع والآخرون حصدوا.
لأنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي كان ذهابه خيراً لهم لثلاثة أمور: (١) استيلاؤه على كل سلطان في السماء وعلى الأرض (متّى ٢٨: ١٨) وذلك لأجل الكنيسة (أفسس ١: ٢٢ وفيلبي ٢: ٩ – ١١). (٢) شفاعته في تلاميذه وفائدة ذلك زيادة إيمانهم وغيرتهم في التبشير وتأثيرهم في غيرهم. (٣) إرساله الروح القدس ليمكث معهم ويجعل تبشيرهم مؤثراً في قلوب الناس (ع ٢٦، ٣٨ ويوحنا ١٦: ٧ – ١٤ وأفسس ٤: ٨).
١٣ «وَمَهْمَا سَأَلتُمْ بِاسْمِي فَذَلِكَ أَفْعَلُهُ لِيَتَمَجَّدَ الآبُ بِالابْنِ».
متّى ٧: ٧ و٢١: ٢٢ ويوحنا ١٥: ٧، ١٦ و١٦: ٢٣، ٢٤ ويعقوب ١: ٥ و١يوحنا ٣: ٢٢ و٥: ١٤
هذا وعد ثالث وعده المسيح تعزيةً لتلاميذه.
مَهْمَا سَأَلتُمْ وعد تلاميذه بذلك باعتبارهم نوابه على الأرض، وخدامه الذين يُجرون أعماله فيها، وروحه ماكث معهم. وقصد بقوله «مهما» كل ما هو ضروري لهم في التبشير بإنجيله من إرشاد ومعونة وهبة القوة على صنع المعجزات، وذلك كله لا ينالونه إلا بالصلاة. فهذا الوعد وإن كان للرسل خاصة يصح لكل المسيحيين إذا طلبوا بإيمان ما يوافق مشيئة الله (يعقوب ١: ٦ و١يوحنا ٥: ١٤) وهذا دليل على قوة الصلاة.
بِاسْمِي أي بكرامتي على الله، وباتكالكم على استحقاقي وموتي وشفاعتي ومواعيدي. فالآب مسرور بالابن دائماً، ومستعد لأجله أن يستجيبنا لأننا له (متّى ٣: ١٧). فإننا لا نستحق خيراً، ولكن المسيح يستحق كل خير فيحبنا الله ويستجيبنا من أجل ابنه. وشرط كون الصلاة باسم المسيح يُثبت قول المسيح «ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي» (ع ٦).
فَذَلِكَ أَفْعَلُهُ هو قادر على ذلك لأن له كل سلطان (متّى ٢٨: ١٨) ونعلم أنه يريد ذلك لوعده به. وهذا وفق قوله في ع ١ «فآمنوا بي».
لِيَتَمَجَّدَ الآبُ بِالابْنِ انظر شرح يوحنا ١٢: ٢٨ و١٣: ٣١. لم يقِم المسيح مملكته لمجرد تمجيد نفسه، ومجد الابن في كل انتصارات تلك المملكة هو مجد الآب أيضاً.
١٤ «إِنْ سَأَلتُمْ شَيْئاً بِاسْمِي فَإِنِّي أَفْعَلُهُ».
هذا تكرار للوعد في الآية السابقة، وكرره لأربعة أمور: (١) التأكيد. كأنه صعب عليهم تصديق ذلك الوعد لعظمته. (٢) اتساع الوعد. فإن قوله «مهما» لا حد له. (٣) النوال لا يكون إلا بشرط السؤال باسمه، والصلاة هي الصلة الكاملة بين المؤمن على الأرض والمسيح في السماء. (٤) المجيب هو المسيح.
وقد جاء مثل هذا الوعد في يوحنا ١٥: ١٦ و١٦: ٢٣، لكن المجيب فيه الآب، وهما متفقان لأن الآب والابن واحد في الجوهر والقصد والعمل.
١٥ «إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ».
ع ٢١، ٢٣ ويوحنا ١٥: ١٠، ١٤ و١يوحنا ٥: ٣
أراد المسيح أن يُظهر تلاميذه محبتهم له بعد أن يفارقهم، بطاعتهم له، لا بمجرد أقوالهم. فالإقرار بالدين ليس دليلاً على المحبة، بل الطاعة القلبية. فمحبتنا له تقودنا إلى طاعة كل أوامره، فنحب بعضنا بعضاً، وننكر ذواتنا ونحمل صليبنا ونتبعه «في مجد وهوان، بصيت رديء وصيت حسن». فطاعة الأولاد لوالديهم برهان محبتهم لهم، وقد طلب المسيح مثل هذا البرهان من تلاميذه (١يوحنا ٥: ٣).
١٦ «وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّياً آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ».
يوحنا ١٥: ٢٦ و١٦: ٧ ورومية ٨: ١٥، ٢٦
هذا وعد رابع لتعزية التلاميذ وتشجيعهم، وهو مقترن بحفظ وصاياه كشرط ضروري لنواله.
وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ بعد موتي وصعودي وممارستي وظيفة الشفاعة عند الآب (رومية ٨: ٣٤ وعبرانيين ٣: ١٤، ١٥ و٧: ٢٥). فرئيس الكهنة في العهد القديم كان بعد أن يقدم الذبيحة يدخل بدمها إلى قدس الأقداس ليشفع في بني إسرائيل، وكان ذلك رمزاً إلى ما يفعله يسوع في السماء وهو رئيس كهنة لنا، فبشفاعته تُغفر خطايانا وتستجاب صلواتنا وننال كل بركاتنا.
فَيُعْطِيكُمْ أي الآب كما عُيّن في عهد الفداء منذ الأزل. ولأن مجيء الروح القدس توقف على موت المسيح وشفاعته حقّ للمسيح أن يقول إنه هو يرسله أيضاً (يوحنا ١٥: ٢٦). ويصحّ أن يُنسب إلى كل من الآب والابن لأنهما واحد.
مُعَزِّياً آخَرَ قال «آخر» لأنه هو المعزي الأول مدة وجوده معهم بالجسد (لوقا ٢: ٢٥). والمعزي هنا ترجمة «فارقليط» في اليونانية، ولا توجد في العربية كلمة تنقل المعنى اليوناني تماماً، فإن معناها معزٍّ، ومعين، وشفيع معاً. وجاءت في الإنجيل خمس مرات، نُسبت في أربع منها إلى الروح القدس (يوحنا ١٤: ١٦ و٢٦: ١٥: ٢٦ و١٦: ٧) وفي واحدة للمسيح (١يوحنا ٢: ١). والمراد «بالمعزي» هنا الروح القدس الأقنوم الثالث في اللاهوت، المعيّن لينوب عن المسيح بعد صعوده إلى السماء في تقديم النصح والإرشاد والصداقة والعون في الضيق. قال المسيح إن هذا الروح يقدِّر التلاميذ على معرفة كل الحق (ع ٢٦، ٢٧ ويوحنا ١٥: ٢٦) «وأنه يبكت العالم على الخطية» (يوحنا ١٦: ٨ – ١٠). وأنه يعين الرسل في التبشير وهداية الناس إلى التوبة والإيمان. ولا يستلزم هذا أن الروح القدس لم يكن في العالم سابقاً، لأنه كان حاضراً في قلوب كل أتقياء الله يقدرهم على تقديم العبادة المقبولة. وكان يوحنا المعمدان مملوءاً من الروح القدس (لوقا ١: ١٥). فالمعنى أن الروح القدس يُطهر قبلاً ويُظهر ذلك بطريق جديدة.
لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ لا مدة قصيرة كإقامتي معكم بالجسد، فهو يبقى مع كل واحد منكم إلى نهاية حياته، ومع الكنيسة دائماً. وفي هذه الآية دليل على الثالوث، إذ ذُكر فيها الثلاثة الأقانيم: الابن الطالب، والآب المجيب، والروح القدس المُرسَل والمعزّي.
١٧ «رُوحُ الحَقِّ الَّذِي لا يَسْتَطِيعُ العَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ، لأنَّهُ لا يَرَاهُ ولا يَعْرِفُهُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لأنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ».
يوحنا ١٦: ١٣ و١كورنثوس ٢: ١٤ و١يوحنا ٢: ٢٧
رُوحُ الحَقِّ سُمي بذلك لأنه هو الحق (١يوحنا ٥: ٦) ولأنه علّم تلاميذ المسيح الحق وحفظهم من الباطل (يوحنا ١٦: ١٣). ولأنه يقود الناس إلى المسيح الذي هو الطريق والحق ويشهد له (١يوحنا ٥: ٦). ولأن الحق آلته في تجديد الإنسان وتقديسه.
الَّذِي لا يَسْتَطِيعُ العَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ المقصود «بالعالم» هنا الناس الدنيويون الذين اتخذوا هذا العالم نصيباً لهم، والمتكبرون الطماعون. فهؤلاء لا يستطيعون قبول الروح القدس معزيّاً لهم ومنيراً ومقدساً، لأنهم غير مستعدين لقبول ما هو لله، كقول الرسول «وَلَكِنَّ الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لا يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللَّهِ لأنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ، ولا يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيّاً» ( ١كورنثوس ٢: ١٤ انظر أيضاً يوحنا ١٢: ٣١ و ١كورنثوس ١: ٢١ و٢كورنثوس ٤: ٤).
لأنَّهُ لا يَرَاهُ الدنيوي لا يرى سوى المحسوس فلا يسر بالروحيات ولا يشعر بحقيقتها، ويحسب الروحيين من أهل الأوهام لأنهم يتكلمون عن أمور لا تراها إلا عين الإيمان.
ولا يَعْرِفُهُ أي لا يدركه لكي يُسرّ به. «فالمعرفة» هنا تشتمل على الإدراك والسرور، وقد جاءت بهذا المعنى في مزمور ١: ٦ و٢٨: ٦ و٣٧: ١٨ وناحوم ١: ٧ و٢تيموثاوس ٢: ١٩. وعدم مسرة الدنيويين بالروح القدس علّة عدم استطاعتهم قبوله.
وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لأن تعليمي إيّاكم وقبولكم إيّاه وسيلة رؤيته ومعرفته، لأن الروح القدس يجعل كلامه يؤثر في قلوبهم وهم لا يشعرون بحضوره فيهم، فأزال عماهم الطبيعي وليّن قلوبهم ومال بها إلى قبول تعليم يسوع.
لأنَّهُ مَاكِثٌ فِيكُمْ ليهب لهم مؤثرات النعمة على الدوام فيُغيّر قلوبهم ويُقدسها، ويُقدرهم على الإتيان بأثمار الروح، ويملأ قلوبهم سروراً لأنه يمكث معهم (يوحنا ٥: ١٠ و١يوحنا ٣: ٢٤).
وما قيل هنا في شأن الروح القدس أربع حقائق: (١) أنه أقنوم. (٢) أنه روح الحق لأنه يرشد الناس إلى معرفة الحق. (٣) أن العالم لا يعرفه ليحصل به على التوبة والإيمان والرجاء والمحبة. (٤) أنه يسكن في المؤمنين ويعرفونه باختبارهم.
١٨ «لا أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى. إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ».
متّى ٢٨: ٢٠ وع ٣
لا أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى لو لم يرسل المسيح المعزي إليهم لكانوا بعد موته كيتامى لا أب لهم، يحتاجون إلى المعونة والتعزية، لا يعتني أحد بهم أو يحميهم.
إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ بالروح القدس الذي أرسله نائباً عني، لأن تأثيره فيكم كتأثير حضوري معكم (ع ٢٦)، وبروحي عند موتكم لآخذكم إليّ، وبمجيئي نفساً وجسداً في نهاية العالم.
١٩ «بَعْدَ قَلِيلٍ لا يَرَانِي العَالَمُ أَيْضاً، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَرَوْنَنِي. إِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ».
يوحنا ١٦: ١٦ و ١كورنثوس ١٥: ٢٠
بَعْدَ قَلِيلٍ أقل من يوم لأنه قال ذلك ليلة النهار الذي مات فيه.
لا يَرَانِي العَالَمُ أَيْضاً لا بعيني الجسد، ولا بعيني الإيمان، حتى آتي ثانية للدينونة. والمقصود «بالعالم» هنا ما قُصد به في ع ١٧.
وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَرَوْنَنِي شاهده التلاميذ على الأرض أربعين يوماً بعد قيامته (أعمال ١٠: ٤١). وهذا بعض ما قصده المسيح هنا، لأنه قصد أن المؤمنين يرونه بعين الإيمان، وبإعلان الروح إيّاه في قلوبهم، فإننا «نَحْنُ جَمِيعاً نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا فِي مِرْآةٍ» (٢كورنثوس ٣: ١٨) وأنهم سوف يرونه ممجداً في السماء. ورؤية المسيح بالإيمان مصدر كل قوتنا في محاربتنا للعالم وللشهوة وللشيطان.
إِنِّي أَنَا حَيٌّ أي لا يزال حياً باعتبار لاهوته لأنه منذ الأزل وإلى الأبد هو الله الحي. فالموت الذي اعترى جسده وقتياً لم يؤثر شيئاً في لاهوته، وقام حالاً من ذلك الموت وسيطاً لنا لا يذوق الموت ثانية، و «قد ابتُلع الموت (بقيامته) إلى غلبة» وكونه حياً مكنهم من رؤيتهم إياه دائماً.
فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ في الروح هنا وإلى الأبد في السماء. وهذا يحقق لنا أمرين: (١) أن حياة المسيحي تتوقف على حياة المسيح وعلى الاتحاد به، وأنه لا حياة روحية هنا ولا حياة أبدية هناك للمنفصل عن المسيح. (٢) إن حياة المسيح عربون حياة شعبه وتأكيد لها، كما أن حياة الكرمة تأكيد لحياة أغصانها الثابتة فيها، وحياة الرأس تأكيد لحياة الأعضاء.
٢٠ «فِي ذَلِكَ اليَوْمِ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا فِي أَبِي، وَأَنْتُمْ فِيَّ، وَأَنَا فِيكُمْ».
يوحنا ١٠: ٣٨ وع ١٠ ويوحنا ١٧: ٢١ ،٢٣ ،٢٦
فِي ذَلِكَ اليَوْمِ هو إما يوم قيامته لما ظهر لتلاميذه حياً مراراً في أماكن مختلفة، وإما يوم الخمسين حين أرسل الروح القدس وأظهر حياته بمنحه الحياة لألوف، وإما يوم مجيئه الثاني حين يعلن تمام الإعلان ما أشار إليه هنا.
تَعْلَمُونَ تختبرون بسكنى قلوبكم، وبإنارة الروح القدس إيّاكم التي تقدِّركم على تمييز الحقائق الروحية.
أَنِّي أَنَا فِي أَبِي أي متّحد معه تمام الاتحاد (انظر شرح يوحنا ١٠: ٣٨) وتحقيق ذلك يؤكد صحة دعوى يسوع أنه رسول الله والمسيح المنتظر.
وَأَنْتُمْ فِيَّ متحدون بي حتى لا يمكن انفصالكم عني (يوحنا ١٥: ١ – ٧ ورومية ٨: ٣٨، ٣٩). واتحادهم به يحقق لهم الأمن، وقبول الآب إيّاهم، وقداستهم، وسعادتهم، وحياتهم الأبدية.
وَأَنَا فِيكُمْ حالٌّ فيكم بروحي لأهب لكم النعمة والقوة والشجاعة لتشهدوا لي أمام العالم الذي يضطهدكم، ولأجعل كلامكم مؤثراً في قلوب الناس، ولأصنع على يدكم معجزات تثبت شهادتكم لي. حين أدرك الرسل هذا لم يعودوا يحتاجون إلى طلبهم رؤية الآب كما طلبوا في ع ٨.
والحقائق الثلاث المذكورة هنا: وهي أن المسيح في الآب، وأنهم في المسيح، وأن المسيح فيهم، أسرار لا ندركها حق الإدراك، إنما ندرك منها ما هو ثمين للمؤمنين، وهي من «عظائم الله» التي تكلم الرسل بها في يوم الخمسين (أعمال ٢: ١١).
٢١ «اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي، وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وَأَنَا أُحِبُّهُ، وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي».
ع ١٥: ٢٣ و١يوحنا ٢: ٥ و٥: ٣
في هذه الآية بيان الوسائل التي يتوصل بها التلاميذ إلى المعرفة التي وُعدوا بها في آية ٢٠، وهي أربع يتعلق بعضها ببعض كحلقات سلسلة: (١) أن محبتهم للمسيح تنشئ فيهم طاعته. (٢) أن تلك الطاعة تجعلهم أحباء الآب. (٣) أنها تزيد حب المسيح لهم. (٤) أن نتيجة ما ذُكر إعلان المسيح نفسه لهم وحصولهم على العلم الذي وُعدوا به في ع ٢٠.
اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا هذا مثل قوله في ع ١٥ إلا أن هذا موجَّه لكل المؤمنين، وذاك وُجه إلى الأحد عشر. وقصد المسيح بالذي عنده وصاياه الذي يعترف جهراً بأنه تلميذه. وصرّح بأن طاعة أوامره هي علامة أن المعترف مسيحي حقاً، لا مجرد اعترافه ولا دموعه ولا نذوره (لوقا ١١: ٢٨).
الَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي هذه المجازاة العظيمة للتلميذ المحب المطيع، ومحبة الآب له محبة مخصوصة تُنتج بركات مخصوصة، منها إرسال الروح القدس.
وَأَنَا أُحِبُّهُ، وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي هذه مجازاة أخرى للتلميذ المطيع. والإظهار هنا ليس للحواس الطبيعية بل للقوى الباطنية، وهذا ينشئ راحة الضمير والمسرّة ويقين الرجاء، وذلك يعزيهم على مفارقته إياهم، وهو أحسن وعد للإنسان على هذه الأرض.
٢٢ «قَالَ لَهُ يَهُوذَا لَيْسَ الإِسْخَرْيُوطِيَّ: يَا سَيِّدُ، مَاذَا حَدَثَ حَتَّى إِنَّكَ مُزْمِعٌ أَنْ تُظْهِرَ ذَاتَكَ لَنَا وَلَيْسَ لِلعَالَمِ؟».
لوقا ٦: ١٦
يَهُوذَا انظر شرح متّى ١٠: ٣. وسمّى هنالك لباوس وتداوس، وهو أخو يعقوب بن حلفى (لوقا ٦: ١٦) وكاتب الرسالة المنسوبة إليه، ولم يُذكر في البشائر باسمه سوى ثلاث مرات إحداها هنا والأخريان في جدولي أسماء الرسل. وكلامه يدل على أنه شارك سائر الرسل في أفكارهم اليهودية الدنيوية المتعلقة بالمسيح وملكوته.
لَيْسَ الإِسْخَرْيُوطِيَّ قال ذلك تمييزاً له عن الخائن الذي كان قد خرج (يوحنا ١٣: ٣٠).
مَاذَا حَدَثَ ظن يهوذا أن المسيح عازم على إنشاء مملكة ظاهرة زمنية مجيدة على هذه الأرض على وفق ما قيل في ملاخي ٣: ١، وقول إشعياء «فَتَسِيرُ الأُمَمُ فِي نُورِكِ، وَالمُلُوكُ فِي ضِيَاءِ إِشْرَاقِكِ» (إشعياء ٦٠: ٣). فلم يستطع يهوذا التوفيق بين تلك النبوة وقول المسيح إنه يعلن ذاته للتلاميذ دون غيرهم، واحتار في كيف يكون ظاهراً للبعض وغير ظاهر للآخر. ولعله قصد أن ينصح يسوع أن لا يكتفي بإعلان ذاته للرسل قليلي العدد، بل الأجدر به أن يعلنها لكل أهل العالم بأوضح طريق ملكاً منتصراً ليقتنع الجميع بدعواه ويسجدون له.
٢٣ «أَجَابَ يَسُوعُ: إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كلامِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً».
ع ١٥ رومية ٨: ١٥ و١يوحنا ٢: ٢٤ ورؤيا ٣: ٢٠
جواب المسيح ليهوذا في هذه الآية والآية التي بعدها، وخلاصته أن العالم ليس مستعداً لرؤية الآب والابن، لأن الشرط الضروري لذلك هو المحبة التي تنشئ الطاعة.
إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كلامِي هذا كقوله في ع ١٥، ٢١، وفيه الشرط الضروري لإظهار ذاته، فالمؤمنون يقومون بالشرط ويرونه، أما العالم فلا يحبه ويرفض كلامه فلا يراه. وقصد المسيح «بكلامه» هنا كل تعاليمه أو وصاياه (ع ١٥). والمراد بحفظ كلامه هنا تخبئته في صميم القلب لا في الذاكرة فقط، لكي يتأصل ويأتي بأثمار السيرة الطاهرة النافعة للعالم التي تمجد الله. وليس المقصود من حفظ كلامه استظهار كل كلمة منه، بل العزم على ذلك والاجتهاد فيه.
إِلَيْهِ نَأْتِي أنا والآب.
وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً هذا كناية عن الحضور الإلهي في قلب المؤمن دائماً لا وقتياً، ولا يشعر به إلا من يختبره في نفسه. سكن الله قديماً بين بني إسرائيل في الخيمة والهيكل (خروج ٢٥: ٨ و٢٩: ٤٥ ولاويين ٢٦: ١١ ،١٢ وحزقيال ٣٧: ٢٦). ولكنه يسكن الآن في قلب المؤمن جاعلاً إيّاها هيكلاً له (لوقا ١٧: ٢٠ و ١كورنثوس ٣: ١٦ و٦: ١٩ ورؤيا ٣: ٢٠). وهذا الوعد لأدنى الناس وأبسطهم كما أنه لأسماهم وأعلمهم، وهو ثواب المحبة والطاعة. فيجب أن لا يظن أحد أنه متروك بعد تنازل الآب والابن لضيافته لأنه يحصل بذلك على أعز الأصدقاء وأشرفهم. فمن اتخاذ الآب والابن قلبه منزلاً لهما نال النعمة والتعزية، وتيقن المغفرة وراحة الضمير ومعرفة الأمور الروحية والسرور بها والإرشاد والحماية. فالله سكن مع المؤمن على الأرض والمؤمن يسكن مع الله في السماء.
٢٤ «اَلَّذِي لا يُحِبُّنِي لا يَحْفَظُ كلامِي. وَالكلامُ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ لَيْسَ لِي بَل لِلآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي».
يوحنا ٥: ١٩، ٣٨ و٧: ١٦ و٨: ٢٨ و١٢: ٤٩ وع ١٠
هذا الآية بمعنى التي قبلها إلا أنها في صورة السلب، لأنه لا طاعة حيث لا محبة، ولا مجازاة حيث لا طاعة. والمجازاة هنا محبة الآب وسكنه مع الابن في القلب، وإظهار المسيح ذاته. فالإقرار بالإيمان ومعرفة الحق وفصاحة المنطق وتقديم النذور وذرف الدموع إن كانت بلا طاعة فهي باطلة.
في ع ٢٣ رأينا جواب المسيح على سؤال يهوذا «كيف تظهر ذاتك لنا؟» وفي هذا العدد جوابه لسؤال «كيف لا تظهر ذاتك للعالم؟» لأن العالم الذي يرفض المسيح يوصد أبواب الاتصال بين الآب والقلوب.
لَيْسَ لِي قال ذلك ليبيّن للتلاميذ سلطان كلامه وأهميته. ولم ينكر المسيح بقوله «ليس لي» أنه كلامه، بل صرّح بأنه كلامه وكلام الآب معاً. فالذي يرفض كلام المسيح يهين الآب لأنه كلامه أيضاً. والذي يقبله يكرم الآب.
٢٥ «بِهَذَا كَلَّمْتُكُمْ وَأَنَا عِنْدَكُمْ».
قال هذا استعداداً لذهابه وتسليمه إيّاهم إلى معلم آخر، فإن كل ما كانوا قد حصلوا عليه من التعليم منذ أول أمره معهم إلى الآن كان من شفتيه، وهم نسوا بعض ما سمعوه، ووجدوا بعضه عسر الإدراك. ولعلهم كانوا مضطربين من كل ذلك، فقصد تعزيتهم بمن يقوم بكل حاجاتهم الروحية من التذكير والإيضاح والتعليم.
٢٦ «وَأَمَّا المُعَزِّي، الرُّوحُ القُدُسُ، الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلتُهُ لَكُمْ».
لوقا ٢٤: ٤٩ وع ١٦ ويوحنا ٢: ٢٢ و١٢: ١٦ و١٦: ١٣ ١٥: ٢٦ و١٧: ٧ و١يوحنا ٢: ٢٧
المُعَزِّي انظر شرح ع ١٦.
الرُّوحُ القُدُسُ هذا تفسير للمعزي وهو الأقنوم الثالث من اللاهوت، ووُصف بالقداسة لأن وظيفته تقديس قلوب الناس (فيلبي ٢: ١٢، ١٣ عبرانيين ١٣: ٢٠، ٢١) ووُصف في ع ١٧ بالحق لأن الحق آلته التي يقدس بها.
الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ في مواضع أخرى أن الابن يرسله، ونتيجة ذلك أنه رسول كليهما.
بِاسْمِي لأن عمل المسيح إعلان الآب، ويأتي الروح لإتمام ذلك. فمعنى قوله «اسمي» بسلطاني كما أني أتيت باسم الآب (يوحنا ٥: ٤٣). وأتى الروح باسم المسيح لأنه كان نائباً عنه (ع ١٣) ولأنه أتى إجابة لصلواته (ع ١٦) ولصلوات تلاميذه الطالبين اسمه.
فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ يتعلق بطريق الخلاص مما تحتاجون إلى معرفته وتستطيعون إدراكه، فليس المقصود أنه يعلمهم كل أنواع العلوم كالفلسفة وغيرها، فإن تعليم يسوع جهزهم لقبول أسمى تعاليم الروح القدس (يوحنا ١٦: ١٣).
وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلتُهُ لَكُمْ الذي يسمعه الإنسان ولا يدركه ينساه سريعاً. والتلاميذ سمعوا من يسوع أشياء كثيرة منعتهم آراؤهم اليهودية من إدراك معناها الروحي، ولم يستطيعوا ذلك إلا بعد إنارة الروح لهم. على أنهم نسوا كثيراً منها، فوعدهم يسوع بأن الروح سيذكرهم متى قدروا أن يدركوا معناه. ومن أمثلة ذلك ما في يوحنا ٢: ٢٢ و٧: ٣٨، ٣٩ و١٢: ١٦، فبشارة يوحنا كلها من تذكير الروح القدس لكاتبها لأنه كتب حوادثها ومحاوراتها وسائر تعاليمها بعد موت المسيح بنحو خمسين سنة. وفي هذه الآية وعدٌ بأمرين: (١) أهمية تعليم الروح. (٢) تذكيره إيّاهم قبلاً. وإنجاز الوعد بالأول في سفر أعمال الرسل، وإنجاز الوعد بالثاني في بشارة يوحنا التي كُتبت بعد خمسين سنة من صلب المسيح على ما فيها من التدقيق في ذكر الحوادث والمحاورات والتعاليم.. ومع أن الوعد بتعليم الروح القدس قد وُجِّه إلى التلاميذ خاصة، إلا أنه لا يقتصر عليهم، فهو لكل المؤمنين في كل مكان وزمان.. والوعد لتلاميذ المسيح يومئذ بتعليم الروح إيّاهم كل شيء برهان قاطع على كمال أسفار العهد الجديد التي هي تعليم الروح القدس بواسطة مؤلفيها، فلا محل لتعاليم جديدة في الدين في العصور التي بعد عصرهم.
ترك المسيح سلامه لتلاميذه (ع ٢٧ – ٣١)
٢٧ «سلاماً أَتْرُكُ لَكُمْ. سلامِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي العَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لا تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ ولا تَرْهَبْ».
فيلبي ٤: ٧ وكولوسي ٣: ١٥ إرميا ٦: ١٤ وع ١
في هذه الآية تعزية خامسة للتلاميذ على مفارقة المسيح إيّاهم: (١) اجتماعه به في السماء (ع ٢، ٣). (٢) صنعهم أعمالاً أعظم من أعماله (ع ١٢). (٣) إجابة صلواتهم (ع ١٣، ١٤). (٤) مجيء المعزي (ع ١٦، ٢٦). وكلام المسيح هنا كلام وداع وبركة وتوصية.
سَلاماً شاع مثل هذا الكلام قديماً وحديثاً بين الأصحاب عند اللقاء وعند المفارقة (١صموئيل ١: ١٧ ومتّى ١٠: ١٣ ولوقا ٧: ٥٠ وأعمال ١٦: ٣٦ و١بطرس ٥: ١٤ و٣يوحنا ١٥). لما فارق يسوع هذا العالم ترك نفسه للآب، وجسده ليوسف الرامي، وثيابه للعسكر الذي صلبه، وأمّه ليوحنا. وأما تلاميذه فترك لهم السلام، لا المناصب ولا الغنى ولا الشرف. وعند ولادة المسيح ترنّم الملائكة قائلين «على الأرض السلام» وعند موته قال لتلاميذه «سلاماً أترك لكم».
سلامِي قال ذلك تمييزاً له عن تحيات الناس التي كثيراً ما تكون مجرد ألفاظ. ويمتاز سلام المسيح عن سلام البشر بستة أمور: (١) أنه لا يقدر أن يعطي هذا السلام أحدٌ غيره. (٢) أنه يشبه السلام الذي حصل عليه من تأكد من محبة الآب. (٣) أنه اشتراه لهم بدمه لأنه نتيجة المصالحة مع الله. (٤) أنه سلام الضمير، لأنه من نتائج تلك المصالحة. (٥) أنه مبني على تأكيد حماية المسيح لهم في وقت الاضطهاد. (٦) أنه دائم لا يضعفه المرض ولا يسلبه الفقر ولا يفنيه الموت (رومية ١: ٧ و٥: ١ و٨: ٦ و١٤: ٧ وغلاطية ٥: ٢٢ وأفسس ٢: ١٤ و١٧ و٦: ١٥ وفيلبي ٤: ٧ وكولوسي ٣: ١٥). وتأثير كل ما سبق من التعزيات هو هذا السلام بعينه، وبه سكَّن المسيح اضطراب قلوبهم على مفارقته إيّاهم.
لَيْسَ كَمَا يُعْطِي العَالَمُ لأن السلام عطية روحية وعطايا العالم ليست كذلك. وهو يمتاز عن سلام العالم بأربعة أمور: (١) مصدره: فإن مصدر سلام العالم اللذة والصيت والغنى والفلسفة، ومصدر سلام المسيح صليبه. (٢) كماله: فإن سلام العالم ناقص لما يخالطه من هموم وخوف ويأس، أما سلام المسيح فيسدد كل حاجات النفس. (٣) صدقه دائماً: لأن سلام العالم كثيراً ما يكون كاذباً ولا سيما سلام الذين يرجون الخلاص من أعمالهم أو أعمال غيرهم من البشر (إرميا ٦: ١٤). (٤) بقاؤه: فإن سلام العالم زائل ينتهي عند الموت.
لا تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ هذا مثل ما في ع ١، وكرره بناءً على التعزيات التي ذكرها لهم.
ولا تَرْهَبْ بانتظاركم الضيق والاضطهاد والموت، فصدِّقوا حضوري معكم، وأن سلامي لا يفارقكم.
أَنِّي قُلتُ لَكُمْ في يوحنا ١٣: ٣٣ – ٣٦ و١٤: ٢، ٣، ١٢، ١٩، ٢٠.
لَوْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لَكُنْتُمْ تَفْرَحُونَ ظاهر العبارة يدل على عدم محبتهم له، وهو ليس المراد لأنه عرف أنهم يحبونه. إنما أراد أنهم أظهروا بشدة حزنهم على فراقه أن محبتهم غير كاملة، لأنهم نظروا إلى خسارتهم ولم يلتفتوا إلى ربحه. فكأنه قال لهم: على قدر إخلاص محبتكم لي تفرحون بذهابي عنكم.
لأنِّي قُلتُ أَمْضِي إِلَى الآبِ أي إلى السماء حيث يُظهر الآب حضوره ومجده ليتمجد بعد تواضعه بعمل الفداء، وليكمل ذلك العمل بشفاعته في تلاميذه، وليرسل إليهم الروح القدس، وتمجيد المسيح يستلزم تمجيدهم متى صاروا إليه.
لأنَّ أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي لا في الطبيعة لأنهما متساويان، لكن في الحال التي تكلم فيها بهذا الكلام، وهي حال تواضعه وألمه باعتباره فادي الخطاة، وفق قول يوحنا «الكلمة صار جسداً» (يوحنا ١: ١٤) وقول بولس «أخلى نفسه آخذاً صورة عبد» (فيلبي ٢: ٧). فبمقتضى عهد الفداء أرسل الآب ابنه والروح القدس وكل فوائد الخلاص، فكان أعظم من الابن في الوظيفة. وأعظمية الآب لم تكن دائمة بل وقتية (فيلبي ٢: ٩ – ١١). فكان على التلاميذ أن يفرحوا بذهابه عنهم، لأنه بذلك يرجع بعد تواضعه كعبد نحو ٣٣ سنة إلى حال السعادة والمجد التي كانت حاله مع الآب، لكي يُكلل ملكاً للملوك ورباً للأرباب، ولأن الروح القدس يحل عليهم بعد ذلك الذهاب فينجح التبشير بالإنجيل نجاحاً عظيماً (يوحنا ١٦: ٧ – ١٠).
٢٨ «سَمِعْتُمْ أَنِّي قُلتُ لَكُمْ أَنَا أَذْهَبُ ثُمَّ آتِي إِلَيْكُمْ. لَوْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لَكُنْتُمْ تَفْرَحُونَ لأنِّي قُلتُ أَمْضِي إِلَى الآبِ، لأنَّ أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي».
ع ٣، ١٢، ١٨ ويوحنا ١٦: ١٦ و٢٠: ١٧ ويوحنا ٥: ١٨ و١٠: ٣٠ وفيلبي ٢: ٦ – ١١
سبق الكلام على معنى هذه الآية في شرح (ع ٢٧) فراجعه هناك.
٢٩ «وَقُلتُ لَكُمُ الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ».
يوحنا ١٣: ١٩ و١٦: ٤
قَبْلَ أَنْ يَكُونَ أي قبل موتي على الصليب ودفني.
تُؤْمِنُونَ أي تزيدون إيماناً بأني أنا المسيح حقاً رسول الآب لتيقنكم معرفتي بما في المستقبل. وهذا مثل ما قيل في يوحنا ١٣: ١٩. ولولا هذه النبوة لزادت شكوكهم كثيراً يوم رأوه مقبوضاً عليه ومصلوباً.
٣٠ «لا أَتَكَلَّمُ أَيْضاً مَعَكُمْ كَثِيراً، لأنَّ رَئِيسَ هَذَا العَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ».
يوحنا ١٢: ٣١ و١٦: ١١
لا أَتَكَلَّمُ أَيْضاً مَعَكُمْ كَثِيراً لم يكن قد بقي من حياته على الأرض إلا بضع ساعات من النهار.
رَئِيسَ هَذَا العَالَمِ أي الشيطان. انظر شرح يوحنا ١٢: ٣١. يأتي ليجربه في وقت آلامه وبواسطة تلك الآلام. ولعل كثيراً من ألمه في بستان جثسيماني كان من محاربته لعدو الله والناس بدليل قوله «هَذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلطَانُ الظُّلمَةِ» (لوقا ٢٢: ٥٣) قارن هذا بالقول «وَلَمَّا أَكْمَلَ إِبْلِيسُ كُلَّ تَجْرِبَةٍ (أي في البرية) فَارَقَهُ إِلَى حِينٍ» (لوقا ٤: ١٣). وليهيج الناس عليه أيضاً بدخوله في يهوذا ليأتي بعد قليل ويسلمه، ويحرك العسكر ليقبضوا عليه، والفريسيين ورؤساء الكهنة ليشتكوا عليه، والرومان ليحكموا عليه ويصلبوه. واكتفى بذكر فعل الشيطان لأنه سبب كل الشر.
وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ أي لا سبيل له إلى الانتصار عليه، فليس فيه شهوات جسدية ليثيرها، ولا أنانية ليرضيها. فكل مبتغاه أن يُرضي أباه، فلم يكن للشيطان ما يقوده به إلى الخطية. وهذه حجة قاطعة على كمال قداسة المسيح. وما قيل عليه لا يصح أن يقال على أطهر البشر.
٣١ «وَلَكِنْ لِيَفْهَمَ العَالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآبَ، وَكَمَا أَوْصَانِي الآبُ هَكَذَا أَفْعَلُ. قُومُوا نَنْطَلِقْ مِنْ هَهُنَا».
يوحنا ١٠: ١٨ وفيلبي ٢: ٨ وعبرانيين ٥: ٨
لِيَفْهَمَ العَالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآبَ أظهر المسيح محبته للآب باحتماله تجربة إبليس، وبانتصاره عليه إذ كان «مُجَرَّباً فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلا خَطِيَّةٍ» (عبرانيين ٤: ١٥). وكانت تجربته برهاناً على محبته للآب. ولا شك أن الشيطان بذل كل وقته ليجعل آدم الثاني يخطئ كما أخطأ آدم الأول، فكان كل اجتهاده عبثاً. ولعل كلامه غير مقصور على التجربة، بل يشتمل على كل ما فعله لفداء الخطاة طوعاً لإرادة أبيه، فهو البار الذي مات بدل الأثمة ليخلصهم.
كَمَا أَوْصَانِي الآبُ هَكَذَا أَفْعَلُ من أول الحياة إلى آخرها، وهذا يتضمن تجسده، ووضع نفسه تحت الناموس، وتكميله كل بر، واحتماله تجربة إبليس وعار الناس وبغضهم، وموته أخيراً كفارة عن العالم.
قُومُوا نَنْطَلِقْ مِنْ هَهُنَا الأرجح أن المسيح وتلاميذه قاموا عن المائدة لما قال ذلك، وأنه تكلم بما بقي من خطابه في يوحنا ١٥، ١٦، وبصلاته في يوحنا ١٧. وهم لم يزالوا واقفين في البيت إذ لا انقطاع في الكلام، ولأنه قيل في يوحنا ١٨: ١ «قَالَ يَسُوعُ هَذَا وَخَرَجَ مَعَ تلامِيذِهِ إِلَى عَبْرِ وَادِي قَدْرُونَ» ولكن ظن بعضهم أنه تكلم بذلك وهم سائرون في الطريق من البيت إلى بستان جثسيماني.
السابق |
التالي |