إنجيل يوحنا

إنجيل يوحنا | 13 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل يوحنا

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الثالث عشر

غسل المسيح أرجل الرسل (ع ١ – ١٧)

١ «أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ الفِصْحِ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هَذَا العَالَمِ إِلَى الآبِ، إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي العَالَمِ، أَحَبَّهُمْ إِلَى المُنْتَهَى».

متّى ٢٦: ٢ ويوحنا ١٢: ٢٣ و١٧: ١، ١١

لم يذكر يوحنا رسم العشاء الرباني الذي ذكره سائر الإنجيليين، ولعل سببه أنه كان معروفاً وقد مارسته الكنيسة نحو أربعين سنة أو خمسين سنة قبل أن يكتب يوحنا بشارته. ولكنه هو وحده ذكر كلمات يسوع الأخيرة للرسل (يوحنا ١٣ – ١٦) وصلاته الشفاعية (يوحنا ١٧).

قَبْلَ عِيدِ الفِصْحِ في مساء يوم الخميس في أول يوم الجمعة الخامس عشر من أبريل نيسان. وقصد بقوله «قبل» الوقت ما بين استعدادهم وأكلهم الفصح وهم على وشك أن يبدأوا في أكله كما يظهر من ع ٢. وقد مرَّ الكلام على الفصح (في شرح متّى ٢٦: ٢، ١٧). وذكر كل البشيرين أن موت المسيح كان في أيام الفصح. وعيّن الله أن يكون ذلك لأمرين: (١) أن خروف الفصح كان يرمز للمسيح. (٢) اشتهار صلبه بذلك، فقد شاهدته جموع كثيرة وأشاعوا أمره في كل الأرض. وحدث موته حينئذ على خلاف قصد رؤساء اليهود، بدليل قولهم «ليس في العيد» (مرقس ١٤: ٢).

وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ أي الساعة التي عيّنها الله لموته (يوحنا ١٢: ٢٧)، وكان قد قال مراراً إن ساعته لم تأتِ بعد (يوحنا ٢: ٤ و٧: ٦ و١١: ٩) وحقق الآن أنها قد أتت. ولا يعلن الله للناس وقت موتهم شفقة عليهم، ولكن يسوع عرف وقت موته ونوعه، فزادت معرفته ذلك الموت مرارة.

لِيَنْتَقِلَ مِنْ هَذَا العَالَمِ إِلَى الآبِ عبّر المسيح عن الموت هنا بالانتقال، كأنه سفر من مكان إلى مكان آخر، لأن موته كان رجوعاً إلى بيت أبيه بعد إكماله العمل الذي لأجله أتى إلى هذه الأرض. والموت للمؤمن بالمسيح ذهاب إلى وطنه الأبدي في بيت أبيه السماوي، فهو مدخل الحياة الأبدية.

إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ قدَّم المسيح براهين كثيرة على حبه لتلاميذه في ثلاث سنين ونصف سنة قضاها معهم، ودعاهم ورثة الحياة الأبدية، و «خاصته» إعلاناً لمحبته الخاصة لهم، وأن الآب أعطاهم له، وقد تبعوه تاركين كل شيء لأجله (يوحنا ١: ١١، ١٢).

أَحَبَّهُمْ إِلَى المُنْتَهَى المنتهى هنا: إما نهاية الوقت، أو غاية المقدار. فيكون المعنى الأول أنه لا يزال يُظهر حبه لهم إلى آخر ساعة من حياته على الأرض، وبرهان ذلك أنه قبل موته بأقل من ٢٤ ساعة غسل أرجلهم. وهذا دليل على أن حبه لم يفتر ولو في انتظاره الموت السريع وأنهم جميعاً سيتركونه ويهربون.. ويكون المعنى على الثاني أنه أحبهم الحب الكامل، وبرهان ذلك ما ذُكر هنا. وما قيل هنا في محبته لرسله «إلى المنتهى» يُقال أيضاً في محبته للمؤمنين به الآن، لأنه «هُوَ هُوَ أَمْساً وَاليَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ» (عبرانيين ١٣: ٨).

٢ «فَحِينَ كَانَ العَشَاءُ، وَقَدْ أَلقَى الشَّيْطَانُ فِي قَلبِ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ أَنْ يُسَلِّمَهُ».

لوقا ٢٢: ٣ وع ٢٧

فَحِينَ كَانَ العَشَاءُ أي عشاء الفصح (لا العشاء الرباني) وقت ما أُعد وقد اتكأوا للأكل، لكنهم لم يكلموه (ع ١٢). ومن قوله «واتكأ أيضاً» ومن ع ٢٦ أيضاً، حيث ذكر أن المسيح أعطى يهوذا اللقمة.

أَلقَى الشَّيْطَانُ فِي قَلبِ يَهُوذَا أي حركه ليتمم قصده وهو تسليم سيده يسوع حسبما وعد الرؤساء (متّى ٢٦: ١٤). ولا يلزم مما قيل هنا أن هذه أول مرة دخل الشيطان قلب يهوذا، لأن المسيح قال قبل ذلك بمدة ليست بقصيرة «أَلَيْسَ أَنِّي أَنَا اخْتَرْتُكُمْ، الاثْنَيْ عَشَرَ؟ وَوَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ!» (يوحنا ٦: ٧٠ ،٧١). لا يستطيع الشيطان أن يخدع الإنسان بفعل الشر إلا إن كان في القلب شهوة رديئة. والأرجح أن الشر في قلب يهوذا سهل على الشيطان تحريكه ليرتكب أفظع الشرور وهو الطمع أو حب المال. ومعنى قوله «ألقى الشيطان» أن الشيطان يطرح في قلوب الناس بزور الشرور، ويسمح لها الأشرار أن تتأصل فيهم وتنمو وتأتي بأثمارها التي هي أفعالهم الشريرة.

سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ (انظر شرح متّى ١٠: ٤). ونُسب هنا إلى سمعان تمييزاً له عن يهوذا بن حلفي.

أَنْ يُسَلِّمَهُ (انظر شرح متّى ٢٦: ١٤ – ١٦). ذكر هذا بياناً لفرط المحبة التي أظهرها المسيح لتلاميذه بغسله أرجلهم، مع أن واحداً منهم خائن. ذُكر في الآيتين ٢، ٣ ثلاثة أمور هي كمقدمة لسائر الأصحاح: (١) أن يسوع وتلاميذه كانوا وقتئذ متكئين يتعشون. (٢) قصد يهوذا الشرير تسليم يسوع. (٣) معرفة يسوع الكاملة بما سيحدث.

٣ «يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ الآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ، وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَرَجَ، وَإِلَى اللَّهِ يَمْضِي».

متّى ١١: ٢٧ و٢٨: ١٨ ويوحنا ٣: ٣٥ و١٧: ٢ وأعمال ٢: ٢٦ و ١كورنثوس ١٥: ٢٧ وعبرانيين ٢: ٨ ويوحنا ٨: ٤٢ و١٦: ٢٨

يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ من العلاقة لذكر علم المسيح بذكر غسله أرجل التلاميذ بيان ما في علمه من التنازل العجيب والتواضع الغريب ووفرة محبته لتلاميذه، فإنه خدمهم خدمة لا يتنازل إليها إلا أدنى العبيد، مع كل علمه وشعوره بأصله الإلهي ومجد نفسه ووقارها وسمو وظيفته الملكية التي هو على وشك تحقيقها. ومن تلك العلاقة أن المسيح وهو عالم بانتقاله أراد أن يترك لتلاميذه علامة خاصة لحبه لهم قبل أن يفارقهم.

دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ انظر شرح متّى ٢٨: ١٨.

مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَرَجَ انظر شرح يوحنا ٨: ٤٢.

وَإِلَى اللَّهِ يَمْضِي أي يرجع إلى السماء (يوحنا ٦: ٦١، ٦٢). أتي المسيح من عند الله الذي لم يتركه، ومضى إلى الله ولكنه لم يتركنا.

٤ «قَامَ عَنِ العَشَاءِ، وَخَلَعَ ثِيَابَهُ، وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا».

لوقا ٢٢: ٢٧ وفيلبي ٢: ٧، ٨

مرَّ الكلام على ماهية الاتكاء على المائدة في شرح متّى ٢٣: ٦.

وَخَلَعَ ثِيَابَهُ أي الخارجية من رداء ونحوه.

وَاتَّزَرَ بِهَا أي تمنطق بجانب منها وأرسل الباقي إلى رجليه. كل ما ذُكر هنا من الأعمال هو مما اعتاده الخدم في خدمتهم.

٥ «ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ، وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التّلامِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِراً بِهَا».

ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ كان الماء والمغسل موجودين حسب سُنة اليهود في التطهير. وكانوا يغتسلون بصب الماء.

وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التّلامِيذِ هذا عمل مختص بالعبيد (١صموئيل ٢٥: ٤١). وكان نوع الاتكاء على المائدة مما سهل على يسوع غسل أقدام التلاميذ.

٦ «فَجَاءَ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ. فَقَالَ لَهُ ذَاكَ: يَا سَيِّدُ، أَنْتَ تَغْسِلُ رِجْلَيَّ!».

متّى ٣: ١٤

لا شك أن كل التلاميذ خجلوا وتعجبوا مما فعله سيدهم من خدمته لهم، ولكن لم يجسر أحد أن يعترضه سوى بطرس عندما دنا منه ليغسل رجليه، لأنه كان صريحاً لا يكتم شيئاً من أفكاره.

أَنْتَ تَغْسِلُ رِجْلَيَّ قال ذلك إظهاراً لتعجبه وعدم استحسانه ذلك الغسل. ومعناه: هل يليق أنك أنت ابن الله تغسل رجليَّ أنا الإنسان الخاطئ؟ ومثل هذه الهيبة حمله على أن يقول للمسيح حين صنع معجزة صيد السمك: «اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ، لأنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ» (لوقا ٥: ٨). ومثلها جعل يوحنا المعمدان يمتنع من تعميد المسيح قائلاً «أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ» (متّى ٣: ١٤). وفي قول بطرس تلميح إلى أن يسوع لا يعلم أن عمله مما لا يليق به، وأنه لا يليق أن اليدين اللتين فتحتا عيون العمي وشفتا المرضى وأقامتا الموتى تتنازلان إلى غسل رجليّ خاطئ.

وفي اعتراض بطرس هذا بعض ما يستحق المدح، من الإحساس بالتواضع وإكرام المسيح والمحبة له. وفيه بعض ما يستحق الذم، وهو أنه يقدم النصح للمسيح!

٧ «أَجَابَ يَسُوعُ: لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ الآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ، وَلَكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ».

ع ١٢

لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ الآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ كأنه قال: يا بطرس ظننتني جاهلاً بما فعلته، وأنت الجاهل لا أنا. وفي هذا توبيخ لبطرس إذ نظر إلى العمل دون المقصود منه.

وَلَكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ أشار بذلك إلى بيان بعض قصده من الغسل (ع ١٣ – ١٧) وهو تقديم مثل للتواضع والمحبة في الخدمة التي يجب أن يُظهرها تلاميذه لبعضهم. وأشار به أيضاً إلى معنى الغسل الرمزي، وهو تطهير نفس بطرس بدم المسيح (ع ٩، ١٠). وكل ما فعله المسيح من الأعمال حينئذ رمز إلى ما فعله حباً للبشر، إذ خلع عنه مجده السماوي، وترك عرشه هناك، وصار في صورة عبد ليطهرهم من كل خطية. وأسلوب الكلام هنا كأسلوب الكلام في قول الرسول «فَإِنَّنَا نَنْظُرُ الآنَ فِي مِرْآةٍ فِي لُغْزٍ، لَكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهاً لِوَجْهٍ» (١كورنثوس ١٣: ١٢).

وكثيراً ما تظهر لنا معاملات الله في هذا العالم ألغازاً فيخيِّب رجاءنا ويسمح لنا بالضيقات ويأخذ منا الصحة والمال والأقربين والأصدقاء، ولا نعلم علّة ذلك، ولكننا سنفهم فيما بعد في السماء، فيجب أن نسلم بأحكام الله بلا شك ولا تذمر.

٨ «قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: لَنْ تَغْسِلَ رِجْلَيَّ أَبَداً! أَجَابَهُ يَسُوعُ: إِنْ كُنْتُ لا أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ».

يوحنا ٣: ٥ و١كورنثوس ٦: ١١ وأفسس ٥: ٢٦ وتيطس ٣: ٥ وعبرانيين ١٠: ٢٢

لم يُرد بطرس أن يصبر على المسيح حتى يبيّن له الدافع على عمله، فأبى أن يسمح له بغسل رجليه ما لم يعلم قصده من ذلك. نعم إنه قصد إظهار الاحترام للمسيح بما فعل، لكنه أخطأ لأنه كان يجب أن يطيع.

إِنْ كُنْتُ لا أَغْسِلُكَ كأن المسيح قال لبطرس: إن لم تخضع لي في هذا الأمر فلست من تلاميذي، لأن التلميذ الحقيقي يخضع لمشيئة سيده حتى لو لم يعرف قصده. فما فعلته ليس تواضعاً صحيحاً بل شبه تواضع.

وقد اعتاد يسوع أن يشير إلى الروحيات بالجسديات، ولذلك أشار بالغسل المذكور إلى التطهير الروحي، وأراد أن يعلّم بطرس أنه يجب أن يغسله ويطهره ليكون له معه نصيب. واستُعير الغسل لهذا المعنى في ١كورنثوس ٦: ١١ وتيطس ٣: ٥، ٦. والمعمودية إشارة إلى ذلك التطهير.

فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ أي شركة في محبتي وملكوتي ومجدي. وعظمة ذلك النصيب تظهر مما قيل في يوحنا ١٧: ٢٢ – ٢٦ ورؤيا ٢٠: ٦. ولنا في هذه الآية ثلاث فوائد: (١) أنه لا خلاص لأحد ما لم يتطهَّر من خطاياه بدم المسيح. فالذي يريد أن يستحق الخلاص بأعماله الصالحة يفشل، لأن شرط الخلاص هو التطهير بدم المسيح مجاناً. (٢) إنّ التطهير بالماء ولو بيد المسيح نفسه غير كافٍ، فقد غسل المسيح يهوذا ومع ذلك هلك. (٣) الذي خلَّصنا هو تنازل يسوع إلى مقام العبد لا رياسته الملكية، فعلينا أن نقبل الخلاص بأنه وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب.

٩ «قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: يَا سَيِّدُ، لَيْسَ رِجْلَيَّ فَقَطْ بَل أَيْضاً يَدَيَّ وَرَأْسِي».

لم يدرك بطرس قصد المسيح تمام الإدراك، لكنه فهم منه أن مشاركته للمسيح تتوقف على قبوله لأن يغسله، فرضي بل رغب فيه، ليس إلى الحد الذي عرضه عليه المسيح بل إلى ما هو أكثر! وأظهر بهذا محبة وغيرة وافرة ومعرفة قليلة. ولعله أدرك بعض المعنى الروحي من كلمات المسيح، وأحب أن يطهّره المسيح تطهيراً كاملاً. وكل مسيحي حقيقي يود أن يقدس المسيح عقله ومشيئته وعواطفه وذاكرته، وأن تكون كل قوات جسده وروحه مقدسة لله (٢كورنثوس ١٠: ٥ و١تسالونيكي ٥: ٢٣).

١٠ «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: الَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إلا إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ، بَل هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ. وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ».

يوحنا ١٥: ٣

الذي يغتسل في الحمام العام بعد أن يرجع إلى بيته لا يحتاج إلا لأن يغسل رجليه بسبب غبار الطريق. وما قاله بطرس في ع ٩ يتضمن أنه لم يحصل على شيء من التطهير، فيحتاج إلى التجديد من أصله. وما قاله المسيح هنا أن الأمر ليس كما قال بطرس، بل إنه وسائر الرسل قد تطهروا بقوته وبتعليمه، حسب قوله «أَنْتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ الكلامِ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ» (يوحنا ١٥: ٣). فالله غفر لهم خطاياهم، وبررهم أمامه، وذلك لا يغنيهم عن وجوب طلب المغفرة اليومية والتطهير على الدوام من الخطايا التي يرتكبونها يوماً فيوماً، كما صلى داود «اغْسِلنِي كَثِيراً مِنْ إِثْمِي وَمِنْ خَطِيَّتِي طَهِّرْنِي» (مزمور ٥١: ٢). (راجع أعمال ١٥: ٨، ٩ و٢كورنثوس ٧: ١ ويعقوب ١: ٢١ و١يوحنا ١: ٨، ٩).

الَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ أي تحرر من الخطية باعتبارها سائدة، وتطهَّر من دنسها ونال المغفرة. ويكون ذلك عند تجديد القلب.

إلا إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ المراد بذلك التطهير من خطايا خاصة يرتكبها الإنسان بعد التوبة والتجديد. والغسل الأول هو التبرير، ويكون دفعة واحدة، والغسل الثاني هو التقديس ويكون تدريجياً إلى أن يكمل في السماء. وأشار المسيح إلى كل منهما (يوحنا ١٥: ٢، ٣) بقوله في الغسل الأول «أنتم الآن أنقياء» وبقوله في الثاني «كل ما يأتي بثمر ينقيه».

رأى بعض المفسرين أن التطهير المشار إليه هنا يكون بالتعليم، وأن ما سبق منه كان كافياً إلا قليلاً، فاحتاج التلاميذ إلى مثال واحد أيضاً، وهو ما فعله من غسل أرجلهم ليعلمهم التواضع ووجوب القيام بالخدمة.

وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ أي متبررون ومغفورة لكم خطاياكم. والطهارة هنا طهارة قلب التلاميذ ومقاصدهم وغاياتهم، فصاروا بها ذبيحة مرضية لله كالذبائح الطاهرة في العهد القديم.

وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ الذي استثناه من ذلك واحد ممن علَّمهم، ولكنه لم يستفد شيئاً من التعليم ولا تطهر قلبه بكلام الرب ونعمته، ولم يتحرر من الخطية بل ظل متدنِّساً بها. وفي قول المسيح هنا تنبيه ليهوذا، وبيان أنه مستعد لغسل قلبه كغسل رجليه.

١١ «لأنَّهُ عَرَفَ مُسَلِّمَهُ، لِذَلِكَ قَالَ: لَسْتُمْ كُلُّكُمْ طَاهِرِينَ».

يوحنا ٦: ٦٤

هذا تفسير يوحنا أبان به أن المسيح قصد بكلامه يهوذا مسلمه (انظر شرح متّى ٢٦: ٤٨ ويوحنا ١٨: ٢)

١٢ «فَلَمَّا كَانَ قَدْ غَسَلَ أَرْجُلَهُمْ وَأَخَذَ ثِيَابَهُ وَاتَّكَأَ أَيْضاً، قَالَ لَهُمْ: أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟».

فَلَمَّا كَانَ قَدْ غَسَلَ الظاهر أنه أكمل الغسل ولم يعترضه أحد ثانية.

وَاتَّكَأَ أَيْضاً على المائدة. وهذا يدل على أنهم لم يكونوا قد تعشوا.

أَتَفْهَمُونَ الخ الأرجح أنهم سكتوا وعجبوا ولم يفهموا.

١٣ «أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّماً وَسَيِّداً، وَحَسَناً تَقُولُونَ، لأنِّي أَنَا كَذَلِكَ».

متّى ٢٣: ٨ ، ١٠ ولوقا ٦: ٤٦ و ١كورنثوس ٨: ٦ و١٢: ٣ وفيلبي ٢: ١١

تَدْعُونَنِي مُعَلِّماً وَسَيِّداً هذه علاقته بهم، فيجب أن يسلكوا على مثاله ويطيعوا وصيته.

أَنَا كَذَلِك (متّى ٢٣: ٨، ١٠). ذكر المسيح ذلك بياناً للتلاميذ أنه لم ينس بغسله أرجلهم سموه عليهم في طبيعته ووظيفته، ولم يتخل عن ذلك.

١٤ «فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ».

لوقا ٢٢: ٢٧ رومية ١٢: ١٠ وغلاطية ٦: ١، ٢ و١بطرس ٥: ٥

فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا أراد بذلك أنه إذا تنازل رب المجد إلى خدمة الناس بهذا الأسلوب، وجب على الناس أن يخدموا بعضهم بعضاً ليظهروا محبتهم.

يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ يجب إظهار التواضع وإنكار الذات في سبيل نفع الغير، فلا يجوز أن يتكبروا ويطلبوا السبق والشرف والسلطة، بل يجب أن يكونوا مستعدين لخدمة بعضهم بعضاً. وذلك مما يجب على المسيحيين عامة، ولا سيما خدام الإنجيل في كل عصر لأنهم قدوة لجميع الناس. وهذا لا يستلزم أن غسل الأرجل فرض دائم في الكنيسة كالعشاء الرباني، لأن الإنجيل لم يأمر بممارسته، كما أن الكنيسة في العصور الأولى لم تمارسه. ولو كان المسيح قد أمر به ما أهملته الكنيسة. ولكن غسل الأرجل كان شائعاً بين اليهود من واجبات الضيافة، وذُكر على هذا السبيل في ١تيموثاوس ٥: ١٠.

١٥ «لأنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالا، حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً».

متّى ١١: ٢٩ وفيلبي ٢: ٥ و١بطرس ٢: ٢١ و١يوحنا ٢: ٦

أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالا أي علمهم بما فعله وجوب التواضع والخدمة، وذلك أن رب السماوات والأرض اتخذ منزلة خادم الخدام. وفي ما أتاه توبيخ للراغبين في الرئاسة والمتخاصمين عليها. فيجب أن نتواضع قلبياً، لأنه يمكننا أن نغسل أرجل غيرنا ونحن في كبرياء.

كانت خدمة المسيح للناس غاية كل حياته على الأرض، فيجب أن تكون خدمة إخوتنا البشر غاية كل حياتنا أيضاً. وكما أن المسيح لم يحسب تلك الخدمة عاراً بل مجداً، كذلك يجب أن نحسبها نحن.

١٦ «اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ، ولا رَسُولٌ أَعْظَمَ مِنْ مُرْسِلِهِ».

متّى ١٠: ٢٤ ولوقا ٦: ٤٠ ويوحنا ١٥: ٢٠

هذا قانون عام يصدق عليهم، فهم ليسوا أعظم من المسيح. فلا يأنف التلميذ مما رضيه المعلم، ولا يتوقع أن يعامله الناس بأحسن مما عاملوا معلمه به.

اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ انظر شرح متّى ١٠: ٢٤، ٢٥. هذا بيان لأهمية الكلام بعده، ودليل على معرفة المسيح أن التلاميذ في خطر الوقوع في الكبرياء الروحية، ولذلك قاله هنا وكرره في يوحنا ١٥: ٢٠. لقد عرف التلاميذ أن يسوع على وشك أن ينشئ ملكوتاً، فاشتهوا أعظم المناصب فيه، فعلمهم بغسله أرجلهم أن العظمة الحقيقية في ملكوته لمن هو أكثر تواضعاً ونفعاً.

١٧ «إِنْ عَلِمْتُمْ هَذَا فَطُوبَاكُمْ إِنْ عَمِلتُمُوهُ».

يعقوب ١: ٢٥

لعل التلاميذ قالوا في أنفسهم: سمعنا هذا قبلاً وعرفناه، فقال يسوع ما معناه إن العلم وحده لا يكفي، إنما يجب أن يمارس الإنسان ما يعرفه، ومن لا يعمل يخطئ ويُدان. والغبطة لمن يعلّم ويعمل. وقوله إن «علمتم هذا» يدل على أن في إدراكه شيئاً من الصعوبة، وذلك يستلزم أن المسيح لم يقصد بما فعله مجرد الغسل الظاهر، لأن إدراكه سهل جداً. فبقي أنه قصد به الخدمة بالتواضع. فطوبى لمن شغلوا زمن حياتهم بأعمال تشبه أعمال «الذي أتى ليس ليُخدم بل ليَخدم» (متّى ٢٠: ٢٨).

إنباؤه بخيانة يهوذا (ع ١٨ – ٣٠)

١٨ «لَسْتُ أَقُولُ عَنْ جَمِيعِكُمْ. أَنَا أَعْلَمُ الَّذِينَ اخْتَرْتُهُمْ. لَكِنْ لِيَتِمَّ الكِتَابُ: اَلَّذِي يَأْكُلُ مَعِي الخُبْزَ رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ».

مزمور ٤١: ٩ ومتّى ٢٦: ٢٣، ٣١

لَسْتُ أَقُولُ عَنْ جَمِيعِكُمْ أي لستم كلكم مغسولين قلباً ومطوّبين.

الَّذِينَ اخْتَرْتُهُمْ تلاميذ لي ليكونوا أنقياء القلب وورثة الحياة الأبدية. ويترتب على ذلك أن واحداً منهم (هو يهوذا) يختلف عن الأحد عشر الباقين. وهذا لا يناقض قوله «أَلَيْسَ أَنِّي أَنَا اخْتَرْتُكُمْ، الاثْنَيْ عَشَرَ؟» (يوحنا ٦: ٧٠) لأن الاختيار هنا للتلمذة الحقيقية الأبدية، وهناك للوظيفة الرسولية الوقتية.

لَكِنْ لِيَتِمَّ الكِتَابُ أي النبوة في مزمور ٤١: ٩. ولم تكن علة هلاك يهوذا هذه النبوة، بل خيانته. وعلة خيانته حبه المال. وكانت الخيانة على وفق تلك النبوة.

اَلَّذِي يَأْكُلُ مَعِي الخُبْزَ رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ قيل هذا أولاً على معاملة أخيتوفل لداود (٢صموئيل ١٥: ٣١ و١٦: ٢٣). وصحَّ على معاملة من هو أشر من أخيتوفل لمن هو أعظم وأقدس من داود. فكانت خيانة أخيتوفل رمزاً لخيانة يهوذا. ويُحسب أكل الناس الخبز معاً علامة صداقة وعهد (تكوين ٤٣: ٣٢ و٢صموئيل ٩: ١١ ومتّى ٩: ١١). ورفع العقب استعارة للشروع في الإضرار المباغت ممن يُنتظر منه النفع، تشبيهاً له برفس البغل أو الفرس لصاحبه وهو يطعمه.

١٩ «أَقُولُ لَكُمُ الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ».

يوحنا ١٤: ٢٩ و١٦: ٤

قَبْلَ أَنْ يَكُونَ ما أنبأت به من خيانة يهوذا.

حَتَّى مَتَى كَانَ تسليمه إيّاي.

تُؤْمِنُونَ هذا لا يعني أنهم لم يؤمنوا به، بل لدفع الشك الذي يطرأ على قلوبهم من تسليم يهوذا إيّاه كأنه مجرد إنسان ضعيف يمكن أن يُخدع.

أَنِّي أَنَا هُوَ أني المسيح كما أعلنت لكم، فأنا نبي أعرف ما يكون في المستقبل، وأن تسليم يهوذا إيّاي لم يقع لعدم معرفتي به، أو لعجزي عن منعه. فهو يشجع الرسل الأحد عشر ويقوي إيمانهم، وهذا لا يمنع من أن تكون غايته أيضاً تنبيه ضمير يهوذا ليعدل عما قصده من الشر. وقد مر الكلام على قوله «أنا هو» في شرح يوحنا ٨: ٥٨.

٢٠ «اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمُ: الَّذِي يَقْبَلُ مَنْ أُرْسِلُهُ يَقْبَلُنِي، وَالَّذِي يَقْبَلُنِي يَقْبَلُ الَّذِي أَرْسَلَنِي».

متّى ١٠: ٤٠ و٢٥: ٤٠ ولوقا ١٠: ١٦

هذا كقوله للتلاميذ حين عينهم رسلاً (انظر شرح متّى ١٠: ٢٠). ولعله كرره الآن بياناً لشدة الاتحاد بين الآب والمسيح والرسل وكل الذين قبلوه. وأن الرسل كنواب عن الله، وأن الله يحسب كل تعد عليهم تعدياً عليه. وفي ذلك عزاء لهم زمن الاضطهاد. وكذلك حسبوه بعد إذ قيل «وَأَمَّا هُمْ فَذَهَبُوا فَرِحِينَ مِنْ أَمَامِ المَجْمَعِ، لأنَّهُمْ حُسِبُوا مُسْتَأْهِلِينَ أَنْ يُهَانُوا مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ» (أعمال ٥: ٤١) وفيه أيضاً بيان فظاعة ما ارتكبه يهوذا بتسليمه يسوع، فإنه تعدى بذلك على الله نفسه وعلى كل جماعة المؤمنين.

٢١ «لَمَّا قَالَ يَسُوعُ هَذَا اضْطَرَبَ بِالرُّوحِ، وَشَهِدَ وَقَالَ: الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ سَيُسَلِّمُنِي».

متّى ٢٦: ٢١ ومرقس ١٤: ١٨ ولوقا ٢٢: ٢١ ويوحنا ١٢: ٢٧ وأعمال ١: ١٧ و١يوحنا ٢: ١٩

هَذَا أي ما سبق من إنبائه بتسليم أحد التلاميذ إيّاه. وورد ذكر النبوة بخيانة يهوذا في كل البشائر (متّى ٢٦: ٢١ – ٢٥ ومرقس ١٤: ١٨ – ٢١ ولوقا ٢٢: ٢١ – ٢٣). راجع شرح بشارة متّى. ولم يذكر يوحنا ما ذكره متّى من أن يهوذا سأل المسيح «هل أنا هو؟» وأن المسيح أجابه «أنت قلت». وذكر ما لم يذكره غيره من الإنجيليين، وهو أن يهوذا خرج من بينهم بعدما أخذ اللقمة ولم يعلم أحد منهم ذلك.

اضْطَرَبَ بِالرُّوحِ (يوحنا ١١: ٣٣ و٢: ٢٧). علة هذا الاضطراب تأمله في خيانة يهوذا التي شرع في الكلام عليها وما فيها من الكفر بالنعمة وسماع التعليم باطلاً، وإضرار للخائن نفسه، وفظاعة خطيته التي جعلت طبيعة المسيح المقدسة تقشعر من التأمل فيها وقرب الخائن منه.

علم المسيح أن كل التلاميذ سيتركونه في تلك الليلة ويهربون، وأن أحدهم ينكره بحلف وأقسام. لكنه لم يضطرب من التأمل في ذلك كما اضطرب من التأمل في خيانة يهوذا، لأن إثمه أعظم، وهو الوحيد بين تلاميذه الذي لم يسأل المغفرة فهلك في خطيته.

الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ هذا بيان لصدق الكلام مع ظهوره للتلاميذ بعيداً عن الاحتمال.

إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ سَيُسَلِّمُنِي ذكر قبلاً أنه يُسلَّم (متّى ١٧: ٢٢ و٢٠: ١٨ و٢٦: ٢). وأخبرهم هنا أول مرة بأن المسلِّم واحد منهم.

٢٢ «فَكَانَ التّلامِيذُ يَنْظُرُونَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَهُمْ مُحْتَارُونَ فِي مَنْ قَالَ عَنْهُ».

يَنْظُرُونَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ كان أول تأثير لكلام المسيح سكوت التلاميذ من الدهشة، ونظر بعضهم إلى بعض علامة الحيرة، وتوقعهم أن الجاني لا بد أن تظهر على وجهه إمارات الخزي والخجل لظهور شره.

وَهُمْ مُحْتَارُونَ الخ لم يشكوا في أن واحداً منهم سيسلمه، إنما احتاروا في أي منهم يقدم على هذه الجناية الفظيعة. وبعد أن سكتوا وقتاً ونظر كل إلى غيره «ابْتَدَأُوا يَتَسَاءَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ: مَنْ تَرَى مِنْهُمْ هُوَ المُزْمِعُ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا؟» (لوقا ٢٢: ٢٣). وبعد هذا سأل كل واحد منهم يسوع «هل أنا هو يا رب؟» (متّى ٢٦: ٢٢ ومرقس ١٤: ١٩). ولم يتهم أحد منهم غيره إنما نفسه في الحال. ويهوذا نفسه فعل ذلك دفعاً للظن فيه، وسمع الجواب من المسيح سراً. ومن العجب أن يهوذا استطاع أن يكتم شره عن سائر التلاميذ في كل تلك المدة حتى لم يظن أحد منهم أنه مراءٍ.

٢٣ «وَكَانَ مُتَّكِئاً فِي حِضْنِ يَسُوعَ وَاحِدٌ مِنْ تلامِيذِهِ، كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ».

يوحنا ١٩: ٢٦ و٢٠: ٢ و٢١: ٧، ٢٠، ٢٤

أمر موسى بني إسرائيل أن يأكلوا الفصح بعجلة وأحقاؤهم مشدودة وأحذيتهم في أرجلهم وعصيهم في أيديهم (خروج ١٢: ١١). وعدل رؤساء اليهود عن ذلك لرأيهم أن ذلك كان موافقاً لحال بني إسرائيل وهم يرحلون في البرية، وأنهم بعد ما استراحوا في أرض الميعاد لم تبقَ حاجة لهذا. وقد أخذوا الاتكاء عند الأكل عن البابليين وقت كانوا مسبيين في بابل، وكان ذلك من عادات اليونانيين والرومان. وسبق الكلام على كيفية ذلك الاتكاء في شرح متّى ٢٣: ٦ و٢٦: ٢٠. وفيه يكون الواحد متكئاً أمام الآخر مستنداً على يده اليسرى، وهو يأكل باليمنى، ورجلاه ممدودتان إلى الوراء. ويُستدل من القرينة أن يوحنا كان على يمين يسوع أمامه، أي تجاه حضنه. ولعل يهوذا كان على يساره، بدليل أنه كلمه سراً وهو على المائدة، وأنه ناوله اللقمة فتناولها.

كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ لا ريب أن هذا المحبوب هو يوحنا الإنجيلي ولم يذكر اسمه تواضعاً، ولكنه أشار إلى نفسه بهذه العبارة خمس مرات في بشارته (يوحنا ١٣: ٢٣ و١٩: ٢٦ و٢٠: ٢ و٢١: ٧، ٢٠ – ٢٣). ولم يدّع بذلك الفضل على سائر التلاميذ بل أشار إلى تنازل يسوع إلى محبته وهو يشعر بعدم استحقاقه لتلك المحبة. ومما يثبت محبة المسيح الخاصة لهذا التلميذ أنه كان أحد الثلاثة الذين أدخلهم معه إلى مخدع ابنة يايرس يوم إقامتها من الموت، والذين شاهدوا تجليه على الجبل، والذين انفرد بهم في بستان جثسيماني، وأنه اتكأ على حضن المسيح في العشاء الأخير، وأن المسيح وكل إليه أمّه وهو على الصليب (متّى ١٧: ١ و٢٦: ٣٧ ويوحنا ١٣: ٢٣ و١٩: ٢٦، ٢٧). ولعل سبب ذلك أنه كان يشبه المسيح في الصفات أكثر من سواه من التلاميذ. وأعظم إكرام يمكن الإنسان نواله أن يحبه المسيح. واشتهر إبراهيم بمثل ذلك بأن سُمي «خليل الله» (٢أيام ٢٠: ٨ وإشعياء ٤١: ٨).

٢٤ «فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ سِمْعَانُ بُطْرُسُ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ الَّذِي قَالَ عَنْهُ».

نستنتج من ذلك أن بطرس كان بعيداً عن المسيح حتى لم يستطع أن يسأله سراً، فأشار إلى يوحنا بوجهه أو بيده دون أن يراه أحد غيره إلى أن يسأل المسيح عمَّن يكون الخائن.

٢٥ «فَاتَّكَأَ ذَاكَ عَلَى صَدْرِ يَسُوعَ وَقَالَ لَهُ: يَا سَيِّدُ، مَنْ هُوَ؟».

الاتكاء هنا في الأصل غير الاتكاء الذي ذُكر في ع ٢٣ فإن ذلك عام يشغل مدة العشاء، وهذا خاص وقتي، وهو ميل رأس يوحنا إلى أن يقرب من رأس يسوع ليستطيع أن يحادثه سراً.

٢٦ «أَجَابَ يَسُوعُ: هُوَ ذَاكَ الَّذِي أَغْمِسُ أَنَا اللُّقْمَةَ وَأُعْطِيهِ. فَغَمَسَ اللُّقْمَةَ وَأَعْطَاهَا لِيَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ».

أبان المسيح ليوحنا المسؤول عنه بعلامة بدلاً من التصريح باسمه، ولم يفهم المقصود من تلك العلامة حينئذ سوى يوحنا.

الَّذِي أَغْمِسُ أَنَا اللُّقْمَةَ وَأُعْطِيهِ من عادة أهل الشرق قديماً وحديثاً أن رب البيت يكرم الضيف وهو على المائدة بأن يناوله بيده بعض اللقم. ويغلب ذلك في عيد الفصح، فإن رئيس المتكإ يأخذ لقمة خبزٍ أو لحم ويغمسها بخليط من تمر وزبيب ولوز في خل أو خمر ويعطيها لأحد المتكئين معه (انظر الكلام على الفصح في شرح متّى ٢٦: ٢). والأرجح أن المسيح أعطى مثل ذلك لغير يهوذا قبلاً، وكان على وشك أن يعطي يهوذا عندما سأله يوحنا فجعله له علامة معينة للمسؤول عنه.

لِيَهُوذَا سِمْعَانَ الخ انظر شرح يوحنا ٦: ٧١. إعطاء يسوع اللقمة ليهوذا كان آخر علامات محبة المسيح وصداقته ورحمته له، وهي كدعوة له للتوبة، فأخذ اللقمة بدون انسحاق قلب ولا تغيير، فأغلق دونه باب الرجاء إلى الأبد، وفتح قلبه للشيطان ليمكث فيه إلى النهاية.

٢٧ «فَبَعْدَ اللُّقْمَةِ دَخَلَهُ الشَّيْطَانُ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: مَا أَنْتَ تَعْمَلُهُ فَاعْمَلهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَةٍ».

لوقا ٢٢: ٣ ويوحنا ٦: ٧٠

دَخَلَهُ الشَّيْطَانُ هذا علاوة على ما قيل في ع ٢ من أنه «قد ألقى الشيطان في قلب يهوذا». والمعنى أنه سلم نفسه للشيطان طوعاً واختياراً ليستخدمها كما شاء. وذكر لوقا أن الشيطان دخل يهوذا قبل ذلك (لوقا ٢٢: ٣). ولنا من هذا أن لدخول الشيطان وتسلطه على نفس الإنسان درجات متنوعة.

فَاعْمَلهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَةٍ علم يسوع قصد يهوذا أنه أسلم نفسه إلى الشر، ورغب في الذهاب لأقل حجة. والمسيح أحب أن يتكلم بكل وضوح مع أصدقائه المخلصين، ولم يشأ أن يفعل ذلك أمام الخائن فأذن له في الذهاب. فكأنه قال: لا تكن مرائياً بعد. نفِّذ قصدك بتسليمي متى شئت فإني مستعد. فهذا الإذن يشبه إذن الله لبلعام في الذهاب مع رسل بالاق (عدد ٢٢: ٢٠) ويشبه قول المسيح للفريسيين (متّى ٢٣: ٣٢).

٢٨ «وَأَمَّا هَذَا فَلَمْ يَفْهَمْ أَحَدٌ مِنَ المُتَّكِئِينَ لِمَاذَا كَلَّمَهُ بِهِ».

لم يعلم أحد من التلاميذ يومئذ ما قصد يسوع بهذا الكلام. نعم إن يوحنا علم أن الخائن هو يهوذا، لكنه لم يعرف أن ما قاله يسوع متعلق بالخيانة.

٢٩ «لأنَّ قَوْماً، إِذْ كَانَ الصُّنْدُوقُ مَعَ يَهُوذَا، ظَنُّوا أَنَّ يَسُوعَ قَالَ لَهُ: اشْتَرِ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلعِيدِ، أَوْ أَنْ يُعْطِيَ شَيْئاً لِلفُقَرَاءِ».

يوحنا ١٢: ٦

الصُّنْدُوقُ مَعَ يَهُوذَا كان يهوذا أمين الصندوق في لجنة الرسل (انظر شرح يوحنا ١٢: ٦).

اشْتَرِ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلعِيدِ كانت مدة العيد أسبوعاً، وكان لكل يوم من ذلك الأسبوع حاجات. ولعله كان يصعب قضاء الحاجات في تلك الأيام لازدحام الناس في أورشليم. ولا يستلزم هذا أنه لم يكن قد حضر الخامس عشر من نسيان، ولا يوم أكل خروف الفصح. والذي يقوي الظن أن ذلك كان ليلة الجمعة تفسير الرسل لكلام المسيح، فإنه يدل على أنهم فهموا من قول المسيح أنه أراد أن يشتري يهوذا ما يحتاجون إليه للعيد في يوم الجمعة بسرعة قبل أن يحضر السبت الذي لا يجوز فيه الشراء.

أَنْ يُعْطِيَ شَيْئاً لِلفُقَرَاءِ يتضح من ذلك أن المسيح وتلاميذه اعتادوا التوزيع على الفقراء، مع فقرهم. وكان من عادات اليهود في الأعياد أن يكثروا الصدقات على المساكين.

٣٠ «فَذَاكَ لَمَّا أَخَذَ اللُّقْمَةَ خَرَجَ لِلوَقْتِ. وَكَانَ لَيْلاً».

لَمَّا أَخَذَ اللُّقْمَةَ خَرَجَ لِلوَقْتِ نستنتج من ذلك أن يهوذا لم يحضر العشاء الرباني، لأن تلك اللقمة كانت من عشاء الفصح، ورُسم العشاء الرباني بعده ( ١كورنثوس ١١: ٢٥). وخرج يهوذا فوراً ليتخلص من مشاهدة المسيح الذي كشف قصده الشرير، وفي أن يخبر الرؤساء ويأخذ أجرته.

وَكَانَ لَيْلاً أي كان خروجه في الليل. ذكر يوحنا ذلك بعد ما كان قد مرّ عليه نحو خمسين سنة دليل قاطع على أنه كان شاهد عيان. ولعله عندما كتب ذلك خطر على باله أن الليل مناسب للخيانة لأنها من أعمال الظلمة. وكانت الظلمة في قلب الخائن، وكانت خيانته من انتصارات الظلمة، فلاق أن يفعل ذلك في ظلمة الليل. وهذا وفق قول يسوع للذين قبضوا عليه «هَذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلطَانُ الظُّلمَةِ» (لوقا ٢٢: ٥٣).

خطاب يسوع للتلاميذ بعد خروج يهوذا وإنباؤه بإنكار بطرس (ع ٣١ –٣٨)

٣١ «فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ يَسُوعُ: الآنَ تَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ وَتَمَجَّدَ اللَّهُ فِيهِ».

يوحنا ١٢: ٢٣ و١٤: ١٣ و١بطرس ٤: ١١

فَلَمَّا خَرَجَ الأرجح أنّ المسيح رسم العشاء الرباني على أثر هذا الخروج. قيل في ع ٢١ إن المسيح «اضطرب بالروح» عندما تأمل في خيانة يهوذا والخائن أمامه. ولكن كلمات المسيح بعد خروج الخائن المرائي دلّت على تخلصه من ذلك الاضطراب، وعلى انشراح صدره، وبأنه استطاع أن يُعلن لأصدقائه المخلصين كل ما في قلبه.

الآنَ تَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ هذا اللقب مأخوذ من نبوة دانيال ٧: ١٣، وهو فيها محمول على المسيح واعتاد اليهود تلقيبه بذلك (انظر شرح متّى ١٠: ٢٣). واستحسن المسيح إيراده هنا بياناً أنه لم يتمجد التمجيد المقصود هنا إلا بتواضعه باعتباره إنساناً خادماً للبشر. وأراد بقوله «الآن» أن وقت خدمته على الأرض على وشك الانتهاء بموته، لأن يهوذا قد ذهب ليأتي بالعسكر ليقبضوا عليه ويسلموه إلى قاتليه. وكان خروج يهوذا مقدمة أمور كثيرة، هي تسليمه وموته وقيامته وصعوده وجلوسه على يمين الله وسكبه الروح القدس. ونظر المسيح إلى تلك الحوادث المترابطة كأنها واحدة تمجّد هو بها. وقصد بقوله «تمجّد» ابتدأ يتمجّد لا كما ظن التلاميذ بتتويجه ملكاً زمنياً على أمة اليهود، بل بتواضعه إلى الغاية استعداداً لارتفاعه الأعظم، وبلبسه إكليلاً من الشوك استعداداً للبس إكليل المجد والعظمة ليكون ملك الملوك ورب الأرباب، وبتعليقه على الصليب استعداداً لجلوسه على عرش السلطة السماوي (انظر شرح يوحنا ١٢: ٢٨ ،٣٢). وقال ذلك لتلاميذه ليدفع عنهم اليأس الذي سينشأ من خيانة يهوذا له ومن موته، فيحسبون ذلك كسوفاً وقتياً لمجد شمس البر، واستعداداً للمعانه الكامل دائماً.

وَتَمَجَّدَ اللَّهُ فِيهِ هذا يدل على أنه كلما تمجّد الابن تمجّد الآب، وهو وفق تعليمه على الدوام أنه والآب واحد في القصد والعمل. وقد تمجّد الآب بموت الابن، لأن الابن خضع به لإرادة الآب كل الخضوع، وأعلن به قداسة الله وعدله وصدقه وبغضه للخطية ورحمته للخاطئ. وتمجّد أيضاً بنتائج هذا الموت لخلاص البشر لما يتضمن ذلك من طاعة المخلّصين له وإكرامهم وتسبيحهم إيّاه في الأرض والسماء.

كان تمجيد الله غاية المسيح العظمى من كل ما قال وعمل واحتمل، فيجب أن يكون ذلك غايتنا العظمى فيعطينا السعادة العظمى.

٣٢ «إِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ تَمَجَّدَ فِيهِ، فَإِنَّ اللَّهَ سَيُمَجِّدُهُ فِي ذَاتِهِ، وَيُمَجِّدُهُ سَرِيعاً».

يوحنا ١٧: ١ – ٦ ويوحنا ١٢: ٢٣

إِنْ كَانَ ليست «إن» هنا للشك بل للقطع والتأكيد، فالشرط مؤكد والجواب كذلك. ولا بد من أن يسوع بتواضعه وسيلة إلى تمجيد الله. ولا شك أنّ الله يمجّده أيضاً برفعه إيّاه في نهاية ذلك التواضع وشرائه الخلاص للبشر.

اللَّهُ قَدْ تَمَجَّدَ فِيهِ لأنّه «أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى المَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ» (فيلبي ٢: ٧، ٨).

اللَّهَ سَيُمَجِّدُهُ فِي ذَاتِهِ الحد بين تمجيد الابن للآب بتواضعه وتمجيد الآب للابن برفعه إيّاه هو موت الابن. فكانت نهاية اتضاع الابن بدء تمجيده. ومعظم تمجيده يكون أمام عرش أبيه في السماء. لكنه يتضمن قوله هنا «الله سيمجده» أن الله يكرمه بآيات عظيمة يظهرها عند موته بإقامته وبإصعاده إيّاه إلى السماء، وبقبوله شفاعته في شعبه، وبسكبه الروح القدس ويهبه القوة لرسله وبمنحه النجاح لإنجيله.

وَيُمَجِّدُهُ سَرِيعاً لأن كل وسائل التمجيد كانت متعلقة بموته وكان ذلك على وشك الحدوث.

٣٣ «يَا أَوْلادِي، أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ. سَتَطْلُبُونَنِي، وَكَمَا قُلتُ لِليَهُودِ: حَيْثُ أَذْهَبُ أَنَا لا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا، أَقُولُ لَكُمْ أَنْتُمُ الآنَ».

غلاطية ٤: ١٩ ويوحنا ٧: ٣٤ و٨: ٢١

يَا أَوْلادِي هذا لقب يدل على محبة المسيح للتلاميذ وحنوه عليهم وعنايته بهم كالوالد بولده. وفي ذلك إشارة إلى ضعفهم وافتقارهم إلى إرشاده واهتمامه. وناداهم به لتعزيتهم على مفارقته إيّاهم، لأن رجوعه إلى مجده يستلزم تركه إيّاهم كاليتامى.

زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ لم يُخفِ عنهم قرب مفارقته إيّاهم فودعهم بما في هذا أصحاحات ١٣ – ١٦ من كلام التعزية والنصح والإرشاد.

كَمَا قُلتُ لِليَهُودِ (يوحنا ٧: ٣٣، ٣٤ و٨: ١٢).

لا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا منع لليهود من الإتيان إلى حيث ذهب المسيح عدم إيمانهم به، وهذا يمنع كل إنسان من أن يكون مع المسيح. والمانع للتلاميذ منه أنه كان عليهم أن يخدموا المسيح على الأرض وهو مانع وقتيّ متى انقضى وقته تبعوا المسيح (ع ٣٦ ويوحنا ١٤: ٣).

٣٤ «وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضاً بَعْضُكُمْ بَعْضاً».

لاويين ١٩: ١٨ ويوحنا ١٥: ١٢، ١٧ وأفسس ٥: ٢ و١تسالونيكي ٤: ٩ ويعقوب ٢: ٨ و١بطرس ١: ٢٢ و١يوحنا ٢: ٧ ، ٨ و٣: ١١، ٢٣ و٤: ٢١

جعل المسيح حب التلاميذ بعضهم لبعض علامة يتميزون بها عن غيرهم.

وَصِيَّةً جَدِيدَةً لم يقصد بكونها جديدة أن الله لم يوصِ بها شعبه قبلاً لأنها في سفر اللاويين ١٩: ١٨ بل حسبها جديدة لأربعة أسباب: (١) أن المسيح جعلها حينئذ علامة لتلاميذه يعرفهم الناس بها وعلامة تلمذتهم الحقيقية بالنظر إلى الله. امتاز اليهود شعب الله القديم برسوم الختان وتمييز الأطعمة والملبوسات، فأراد يسوع أن يمتاز تلاميذه بالمحبة، كقول الرسول «وَهَذِهِ هِيَ وَصِيَّتُهُ: أَنْ نُؤْمِنَ بِاسْمِ ابْنِهِ يَسُوعَ المَسِيحِ، وَنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً كَمَا أَعْطَانَا وَصِيَّةً» (١يوحنا ٣: ٢٣ انظر أيضاً غلاطية ٦: ٢ و١تسالونيكي ٤: ٩ و٢تسالونيكي ١: ٣ و١بطرس ١: ٢٢ و٢بطرس ١: ٧). ويتكلَّف كل المسيحيين بهذه الوصية لأنهم مفديون مجاناً من عبودية واحدة للشيطان والخطية، بواسطة واحدة وهي دم يسوع الكريم، وكلهم أولاد أب واحد سماوي وإخوة أخٍ واحد هو يسوع الأخ الأكبر، وأهل إيمان واحد ومعمودية واحدة، ومسافرون إلى سماء واحدة. (٢) إن الدواعي إلى طاعتها جديدة. فالداعي إلى محبة الناس بعضهم لبعض أنهم خلق الله وأولاد أبٍ واحد هو آدم. كان الداعي إلى محبة اليهود بعضهم لبعض أنهم أمة واحدة من أب واحد هو إبراهيم. وأما الدواعي إلى محبة المسيحيين بعضهم لبعض فمنها علاقتهم بفادٍ واحد هو المسيح. وهم عشيرة واحدة بالإيمان به. ومنها أن المسيح كلفهم بها قبل موته وكانت آخر وصاياه لهم فالتزموا بها حباً وشكراً له. (٣) أن نموذجها جديد وهو محبة المسيح لنا. (٤) أن المسيح وسع نطاق المحبة. فإن المحبة كانت عند اليهود مقيدة بحب اليهودي لليهودي. أما المسيح فأوجبها على المؤمن لكل مؤمن من كل أمة في كل عصر ومكان.

كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أي يجب أن تكون محبتكم بعضكم لبعض مثل محبتي لكم، مخصوصة شديدة مجانية، تقود إلى أعمال مثل أعمالي الناتجة عن محبتي. ومن أمثلة تلك الأعمال ما بُني عليه هذا الخطاب وهو غسله أرجلهم. وكانوا قبل ذلك قد أظهروا أن ليس لهم تلك المحبة فقد تخاصموا في من هو الأعظم منهم، وطلب بعضهم المقام الأسمى في ملكوته.

٣٥ «بِهَذَا يَعْرِفُ الجَمِيعُ أَنَّكُمْ تلامِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضاً لِبَعْضٍ».

١يوحنا ٢: ٥ و٤: ٢٠

الجَمِيعُ أي كل الناس من أصحاب وأعداء.

أَنَّكُمْ تلامِيذِي تفرد المسيح بحبه العجيب فأراد أن يتصف تلاميذه بمثل حبه ليميزهم الناس عن غيرهم ويعرفوا أنهم مشابهون ليسوع، فيحكموا بأنهم تلاميذه، وأنه هو مصدر ذلك الحب، ويميلوا إلى اتخاذه معلماً لهم ويقبلوه مخلّصاً. وهذا ما فعله المسيحيون الأولون كما يتضح مما ذُكر في سفر أعمال الرسل وميزهم الناس بهذه الصفة. قال أحد الرومان الوثنيين: «انظر كيف يحب المسيحيون بعضهم بعضاً، فإن كلاً منهم مستعد أن يبذل حياته لأجل الآخر». وقال وثني آخر: «إنهم يحب أحدهم الآخر قبل أن يتعرف به». وشهد غيرهما من الوثنيين بأن معلم المسيحيين جعلهم يعتقدون أنهم كلهم إخوة. فإذاً تلك المحبة علامة واضحة لأولاد الله، فهي علامة للمحب يعرف بها نفسه (١يوحنا ٣: ١٤). وعلامة للناس يعرفونه بها (١يوحنا ٢: ١٠ و٤: ٧) وهي العلامة التي يميز بها الله أولاده (١يوحنا ٤: ٢٠).

٣٦ «قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: يَا سَيِّدُ، إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ؟ أَجَابَهُ يَسُوعُ: حَيْثُ أَذْهَبُ لا تَقْدِرُ الآنَ أَنْ تَتْبَعَنِي، وَلَكِنَّكَ سَتَتْبَعُنِي أَخِيراً».

يوحنا ٣١: ١٨ و٢بطرس ١: ١٤

إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ هذا السؤال مبني على قول المسيح «أنا معكم زماناً قليلاً بعد» (ع ٣٣) والمقصود منه منع مفارقة يسوع للتلاميذ إن أمكن. ولا بد من أن بطرس قال ذلك بالأصالة عن نفسه والنيابة عن سائر الرسل، وسبقهم في ذلك لأنه أكثرهم جسارة. وهذا السؤال يدل على أن التلاميذ لم يفهموا أن يسوع أشار بذهابه عنهم إلى صلبه وموته، لكنهم فهموا أنه عزم على الذهاب إلى موضع ما من الأرض.

لا تَقْدِرُ الآنَ أَنْ تَتْبَعَنِي أبان يسوع بعض معناه بقوله إن بطرس لا يقدر أن يتبعه حقيقة في الحال، لكنه سيفعل هذا في المستقبل. وقد تبع بطرس المسيح اتّباعاً روحياً، وجاهد في سبيل البشارة وإنكار الذات وبالاستشهاد. كما تبع المسيح بأن صُلب كما صُلب هو، وأشار إلى ذلك في (يوحنا ٢١: ١٨، ١٩). وتبعه إلى القبر ثم الارتفاع إلى السماء. وإنما لم يستطع بطرس أن يتبع المسيح في الحال لأربعة أسباب: (١) لم يشأ الله أن يموت أحد من الرسل مع سيده. (٢) لم يكن بطرس مستعداً للذهاب إلى السماء تمام الاستعداد (لوقا ٢٢: ٣٢). (٣) كان على بطرس أن يخدم المسيح على الأرض بتأسيس الكنيسة. (٤) لم يكن المسيح قد أعدّ له مكاناً (يوحنا ١٤: ٢).

سَتَتْبَعُنِي أَخِيراً إلى السماء والمجد.

٣٧ «قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: يَا سَيِّدُ، لِمَاذَا لا أَقْدِرُ أَنْ أَتْبَعَكَ الآنَ؟ إِنِّي أَضَعُ نَفْسِي عَنْكَ».

متّى ٢٦: ٣٣ الخ ومرقس ١٤: ٢٩ الخ ولوقا ٢٢: ١٣، ١٤

لم يزل بطرس غير فاهم أن المسيح أشار بما سبق إلى قرب موته، إنما ظن أنه أشار إلى سيره في طريق الشدائد والأخطار المؤدية إلى الموت، وحسب أن المسيح ظن أن ليس له هو شجاعة كافية ليتبعه في تلك الطريق، فصرّح له أنه شجاع لا يهاب الموت من أجله بدليل قوله «إِنِّي مُسْتَعِدٌّ أَنْ أَمْضِيَ مَعَكَ حَتَّى إِلَى السِّجْنِ وَإِلَى المَوْتِ» (لوقا ٢٢: ٣٣). ولا شك أنه صدق بذلك لمطابقته لما في وجدانه، لكنه لم يعرف ضعف قلبه ولا قوة التجربة.

٣٨ «أَجَابَهُ يَسُوعُ: أَتَضَعُ نَفْسَكَ عَنِّي؟ اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لا يَصِيحُ الدِّيكُ حَتَّى تُنْكِرَنِي ثلاثَ مَرَّاتٍ».

ذُكرت هذه النبوة في لوقا ٢٢: ٣٣، قالها يسوع على العشاء مع التلاميذ، وقالها ثانية وهم سائرون إلى بستان جثسيماني (متّى ٢٦: ٣٤ ومرقس ١٤: ٢٩) وسبق تفسير ذلك في شرح بشارة متّى.

أَتَضَعُ نَفْسَكَ عَنِّي؟ ذكر كلام بطرس بنفسه بطريق الاستفهام ليبيّن الفرق بين وعده وما سيقع منه، فبدل أن يضع نفسه عن المسيح لم يعترف به، بل أنكر معرفته به، ولم يفعل ذلك مرة أو مرتين فقط بل ثلاث مرات، وهذا لم يكن بعد زمن طويل من وعده بل قبل طلوع شمس الغد. والظاهر أن هذه النبوة أثرت في بطرس حتى صمت. ولم يجاوب المسيح على سؤال بطرس: «لماذا لا أقدر؟».

لا يَصِيحُ الدِّيكُ أراد المسيح بصياح الديك هنا هزيعاً من الليل (كما جاء في متّى ٢٦: ٣٤ ومرقس ١٣: ٣٥) بقطع النظر عن مرات صياح الديك. أما مرقس فنظر إلى ذلك (مرقس ١٤: ٧٢) فإن اليهود اصطلحوا على تسمية نصف الليل بصياح الديك الأول، والوقت الذي بعده بثلاث ساعات بصياح الديك الثاني، والصبح بصياح الديك الثالث. ووقت الإنكار كان الثاني على ما أفاده مرقس. وليس في معرفة المسيح سقوط بطرس قبل أن يكون ما نعجب منه، كعجبنا من حلمه وصبره على بطرس مع تلك المعرفة.

كلام المسيح في هذا الفصل تابع كلامه على ذهابه في ص ١٣ وقوله لبطرس: «ستتبعني أخيراً» (يوحنا ١٣: ٣٦) موجَّه إلى جميع الرسل الحاضرين، أكد لهم به اجتماعهم في المستقبل لأنه كان ذاهباً ليعد لهم مكاناً، وسوف يأتي ويأخذهم إليه (يوحنا ١٤: ٢، ٣).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى