إنجيل يوحنا | 10 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح إنجيل يوحنا
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح العاشر
مثل الراعي الصالح ع ١ إلى ٤٢
١ «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ ٱلَّذِي لاَ يَدْخُلُ مِنَ ٱلْبَابِ إِلَى حَظِيرَةِ ٱلْخِرَافِ، بَلْ يَطْلَعُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، فَذَاكَ سَارِقٌ وَلِصٌّ».
إرميا ٢٣: ١ إلى ٤ وحزقيال ٣٤ وزكريا ١١: ٤ إلى ١٧
لم يتحقق هل من علاقة بين هذا الأصحاح والذي قبله أولاً. وإن كان هنالك علاقة فهي أن المسيح وصف الفريسيين الذين هم رؤساء الشعب بأنهم «قادة عميان» في الأصحاح التاسع. وأخذ يصفهم في هذا الأصحاح بأنهم رعاة لرعية الله يهملون واجباتهم ويظلمون الرعية. ولا يبعد عن الظن أن المسيح تكلم بذلك وهو خارج أورشليم وأمامه حظيرة غنم والرعاة. ولا يلزم أن هذا الفرض هو الداعي إلى ضرب المثل لأنه كثيراً ما عبر في العهد القديم عن الله وشبعه بالراعي والغنم وعن رؤساء إسرائيل بالرعاة. وكان أعظم مشهوري الإسرائيليين وأبطالهم رعاة كإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وداود (انظر مزمور ٢٣ وإشعياء ٤٠: ١١ الخ).
ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ ذكر الحق مكرراً كذلك في هذه البشارة أربعاً وعشرين مرة وقصد بها دائماً بيان أهمية الكلام وتأكيده.
ٱلَّذِي لاَ يَدْخُلُ مِنَ ٱلْبَابِ إِلَى حَظِيرَةِ ٱلْخِرَافِ الخ المقصود «بالحظيرة» هنا كنيسة الله المنظورة وكانت يومئذ الشعب اليهودي. كما يظهر من (إرميا ٢٣: ١ – ٤ وحزقيال ٣٤: ١ – ١٩ و٣٧: ٢٤ وزكريا ١١: ٤ – ١٧). والذين لم يدخلوا من الباب بل طلعوا من مكان آخر هم رؤساء الكهنة والفريسيون الذين استولوا يومئذ على شعب الله ولم يتصرفوا بسلطانهم كما يقتضيه خير الشعب. دعوا أنفسهم رعاة وأدخلوا إلى الحظيرة من أرادوا وطردوا منها من شاؤوا وادعوا انهم مفسروا كلام الله وأنهم يغذون به رعية الله لكنهم كانوا بالحقيقة متكبرين محبين لأنفسهم لا يسألون عن حاجات الشعب. فأظهروا حقيقتهم بمعاملتهم الأعمى الذي شفاه المسيح بأن طردوه من المجمع (ص ٩: ٣٤) فوجد المسيح هذا الخروف الضال واعتنى به.
فَذَاكَ سَارِقٌ وَلِصٌّ قصد المسيح بذلك الفريسيين لأن أعمالهم في رعية الله كانت أعمال سراق ولصوص في حظيرة الغنم. والفرق بين السارق واللص هنا أن الأول يدخل الحظيرة بالمكر خفية والآخر يدخل إجباراً وعلانية. وكان أولئك الرؤساء يشبهون الاثنين وهم لا يستحقون وظائفهم مضرون ظالمون أهل خداع وجور. وليس مقصود المسيح أن ينكر عليهم حق الرئاسة بناء على أن الكهنة منهم لم يكونوا من أولاد هارون الذين عينهم الله كهنة وعلى أنه ليس للفريسيين منهم حقوق سياسية لكنه قصد أن صفاتهم لا تؤهلهم لأن يكونوا مرشدي الشعب الروحيين ومعلميهم ورؤسائهم. والمقصود هنا «بالموضع الآخر» غير باب الحظيرة الذي يدخل منه الراعي وهو ما فوق الجدران. والمقصود بالذي يطلع من ذلك «الموضع الآخر» هو من لم يدع دعوة روحية إلى أن يرأس الشعب إنما اتخذ الرئاسة بالميراث أو حباً بالربح والسلطان والكرامة والراحة.
٢ «وَأَمَّا ٱلَّذِي يَدْخُلُ مِنَ ٱلْبَابِ فَهُوَ رَاعِي ٱلْخِرَافِ».
وَأَمَّا ٱلَّذِي يَدْخُلُ مِنَ ٱلْبَابِ ظن بعضهم أن المقصود «بالذي يدخل من الباب» المسيح نفسه لكن المسيح قال «أنا هو الباب» ع ٩ فلنا من ذلك أن المقصود بذلك الداخل المعلم الصادق الأمين. وإيمانه بالمسيح ومحبته إياه وطاعته له وحده تؤهله لوظيفته فمثل هذا يدعوه المسيح إلى وظيفته ويعينه ويُعده لممارستها.
فَهُوَ رَاعِي ٱلْخِرَافِ هذه إحدى العلامات التي يُميز بها الراعي عن السارق واللص.
٣ «لِهٰذَا يَفْتَحُ ٱلْبَوَّابُ، وَٱلْخِرَافُ تَسْمَعُ صَوْتَهُ، فَيَدْعُو خِرَافَهُ ٱلْخَاصَّةَ بِأَسْمَاءٍ وَيُخْرِجُهَا».
أعمال ١٤: ٢٧ و١٦: ٦ و٧ و ١كورنثوس ١٦: ٩ و٢كورنثوس ٢: ١٢ وكولوسي ٤: ٣ ورؤيا ٣: ٨
لِهٰذَا يَفْتَحُ ٱلْبَوَّابُ بواب الحظيرة إما أحد الرعاة الذين يرعون الغنم نهاراً ويحرسونها ليلاً في نوبتهم أو مستأجر لتلك الخدمة خاصة. فهو يعرف الراعي عند قدومه ويُدخله. وعلى ذلك يكون البواب ليس من ضروريات المثل إنما هو تكملة له لكونه الواقع. والدليل على ذلك أن المسيح لم يتكلم بعد على البواب كما تكلم على الباب والراعي. وذكر «البواب» هنا لأنه من جملة المميزات للراعي الحقيقي أنه لا يحتاج إلى دخول الحظيرة مكراً أو إجباراً بل أنه صديق وله حق أن يدخل. وفسر بعضهم «البواب» بالروح القدس الذي يدعو الرعاة الحقيقيين ويفتح قلوب الناس لقبول تعليمهم كما جاء في (أعمال ١٧: ٢٧ و٢كورنثوس ٢: ١٢) وفسره بعضهم بالآب.
وَٱلْخِرَافُ تَسْمَعُ صَوْتَهُ عندما يدعوها للخروج إلى المرعى وللرجوع منه إلى الحظيرة. والمعنى الروحي أن الشعب يقبلونه معلماً روحياً أميناً لاعتبارهم أن تعليمه من الله وأنه موافق لحاجاتهم وأنه محب لنفوسهم وأنه أمينٌ في وكالته. ويتضمن سمع صوته الإصغاء والطاعة.
فَيَدْعُو خِرَافَهُ ٱلْخَاصَّةَ بِأَسْمَاءٍ هذا دليل على أنه هو الراعي لأنه لو لم يكن كذلك ما عرف تلك الأسماء. والمعنى الروحي أن المعلم الديني يعرف كل الشعب الذي هو راعيه واحتياجاته المخصوصة لكي ينصحه أو يوبخه أو يعزيه أو يأتي غير ذلك مما تقتضيه الأحوال. وأشار بقوله «الخاصة» إلى الحصة الموكل بإرشادها من رعية المسيح الجامعة.
وَيُخْرِجُهَا إلى المرعى والماء على وفق الراعي الحقيقي في (حزقيال ٣: ١) وعلى وفق الراعي الروحي في (مزمور ٢٣: ٢). والمراد «بالإخراج» هنا فعل المعلم بغية نفع جماعته بتحصيلها المعرفة الدينية والبركة السماوية. وما قيل هنا من صفات الراعي الأمين يوافق ما قاله موسى للرب «لِيُوَكِّلِ ٱلرَّبُّ إِلٰهُ أَرْوَاحِ جَمِيعِ ٱلْبَشَرِ رَجُلاً عَلَى ٱلْجَمَاعَةِ يَخْرُجُ أَمَامَهُمْ وَيَدْخُلُ أَمَامَهُمْ وَيُخْرِجُهُمْ وَيُدْخِلُهُمْ، لِكَيْلاَ تَكُونَ جَمَاعَةُ ٱلرَّبِّ كَٱلْغَنَمِ ٱلَّتِي لاَ رَاعِيَ لَهَا» (عدد ٢٧: ١٦ و١٧ انظر أيضاً ١صموئيل ١٧: ٣٤ – ٣٧ و٢صموئيل ١٢: ٣).
٤ «وَمَتَى أَخْرَجَ خِرَافَهُ ٱلْخَاصَّةَ يَذْهَبُ أَمَامَهَا، وَٱلْخِرَافُ تَتْبَعُهُ، لأَنَّهَا تَعْرِفُ صَوْتَه».
وَمَتَى أَخْرَجَ خِرَافَهُ إما بصوته وإما بيده كل ما لم يسمع صوته منها.
يَذْهَبُ أَمَامَهَا هذا عمل الراعي الحقيقي دائماً وهو يقود الغنم إلى المرعى. كذلك رعاة النفوس الأمناء يقودون النفوس إلى المسيح وإلى كلامه لإفادتهم وذلك بواسطة تعليمه إياهم وكونه قدوة لهم. ويتمثل بذلك بالمسيح الراعي العظيم الذي ذهب أمام شعبه في طريق التواضع وإنكار الذات والطاعة لأبيه وبجولانه يعمل خيراً وفي حمل صليبه ودخوله القبر ثم صعوده إلى السماء.
وَٱلْخِرَافُ تَتْبَعُهُ أي يثق الشعب بتعليمه ويعتقد صحة تفسيره لكلام الله وأنه شاهد أمين بكل مشورة الله.
لأَنَّهَا تَعْرِفُ صَوْتَهُ هذا زيادة على ما قيل قبلاً أنها تسمع صوته ع ٣ وفي ذلك إشارة إلى اختبار الخراف لأمانته.
٥ «وَأَمَّا ٱلْغَرِيبُ فَلاَ تَتْبَعُهُ بَلْ تَهْرُبُ مِنْهُ، لأَنَّهَا لاَ تَعْرِفُ صَوْتَ ٱلْغُرَبَاء».
ع ١
وَأَمَّا ٱلْغَرِيبُ أي المعلم الخادع. ولا فرق بينه وبين السارق واللص المذكورين (آنفاً ع ١) إلا في درجات الضرر.
فَلاَ تَتْبَعُهُ هذا عادة الغنم بالطبع كما نعلم ذلك بالاختبار. والمعنى أن رعية المسيح المتعلمة بكلامه وروحه تميز غالباً المرشد الحقيقي من المرشد المحتال. وذلك وفق قول الرسول «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَكُمْ مَسْحَةٌ مِنَ ٱلْقُدُّوسِ وَتَعْلَمُونَ كُلَّ شَيْءٍ» (١يوحنا ٢: ٢٠).
بَلْ تَهْرُبُ مِنْهُ أي لا تصغي إلى قوله خوفاً من الضلال لتحققها أن قصده بدعوتها قصد اللص في الليل.
لأَنَّهَا لاَ تَعْرِفُ صَوْتَ ٱلْغُرَبَاءِ أي لا تعتبر صوتهم صوت الأصحاب. وقصد المسيح «بالغرباء» هنا الفريسيين المتكبرين محبي الذات غير المحبين للحق فإنه كان للفريسيين أتباع كثيرة من أمثالهم لكنهم لم يكونوا من خراف المسيح.
٦ «هٰذَا ٱلْمَثَلُ قَالَهُ لَهُمْ يَسُوعُ، وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا مَا هُوَ ٱلَّذِي كَانَ يُكَلِّمُهُمْ بِهِ».
هٰذَا ٱلْمَثَلُ الكلام هنا غير جار على سنن المثل تماماً. وإنما سمي مثلاً لأنه مستعار لمعنى روحي.
فَلَمْ يَفْهَمُوا الخ كلامه في الرعاة والخراف واضح في نفسه والذين لم يفهموه منه أنه قصدهم «بالسارق» و «اللص» و «الغرباء» لظنهم أنه ما ساقه إلى ذلك إلا ما يحدث عادة للرعاة والخراف فإن كبرياءهم أعمت أذهانهم عن إدراك معناه.
٧ «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي أَنَا بَابُ ٱلْخِرَاف».
فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضا لأن هذا القول مكرر القول السابق وأبسط إيضاح لما لم يفهموه منه وأظهر بذلك طول أناته وتنازله.
إِنِّي أَنَا بَابُ ٱلْخِرَافِ معنى المسيح بذلك أن الإيمان به واسطة دخول الكنيسة الحقيقية لمعلمي الديانة واتباعها كما أن باب الحظيرة واسطة دخول الخراف والرعاة إليها. وقوله هنا يتضمن أنه الوسيط بين الله والناس بناء على استحقاقه وعمله وشفاعته وتعيين الله إياه. وسترى شرح ذلك أيضاً في ع ٩.
٨ «جَمِيعُ ٱلَّذِينَ أَتَوْا قَبْلِي هُمْ سُرَّاقٌ وَلُصُوصٌ، وَلٰكِنَّ ٱلْخِرَافَ لَمْ تَسْمَعْ لَهُمْ».
ص ٨: ٤٤
جَمِيعُ ٱلَّذِينَ أَتَوْا قَبْلِي هُمْ سُرَّاقٌ وَلُصُوصٌ ليس معناه أن كل الأنبياء والمعلمين من إبراهيم وموسى إلى يوحنا المعمدان هم كذلك بل أن أولئك هم الذين أتوا قبله معلمين في الدين وادعوا أنهم باب الخراف ولم يدخلوا بواسطته كالفريسيين وأمثالهم من رؤساء الشعب. ووصفهم بالسرقة واللصوصية لأن غايتهم أن يمجدوا أنفسهم ويظلموا الشعب. جلسوا على كرسي موسى ليبطلوا وصية الله بتقاليدهم ومنعوا الشعب من قبول يسوع المسيح الذي هو غاية الناموس فصدق عليهم قوله تعالى «وَيْلٌ لِلرُّعَاةِ ٱلَّذِينَ يُهْلِكُونَ وَيُبَدِّدُونَ غَنَمَ رَعِيَّتِي يَقُولُ ٱلرَّبُّ الخ» (إرميا ٢٣: ١ – ٤). وقوله «وَيْلٌ لِرُعَاةِ إِسْرَائِيلَ ٱلَّذِينَ كَانُوا يَرْعَوْنَ أَنْفُسَهُمْ. أَلاَ يَرْعَى ٱلرُّعَاةُ ٱلْغَنَمَ؟ تَأْكُلُونَ ٱلشَّحْمَ وَتَلْبِسُونَ ٱلصُّوفَ وَتَذْبَحُونَ ٱلسَّمِينَ وَلاَ تَرعَوْنَ ٱلْغَنَمَ الخ» (حزقيال ٣٤: ٢ – ٦).
ويشمل قوله «الذين أتوا قبلي» كل من ادعى أنه المسيح.
ٱلْخِرَافَ أي شعب الله من الأتقياء المتواضعين كسمعان الشيخ وحنة النبية ووالدي المعمدان نعم إن أكثر الشعب كان قد فسد لكن بقي منه بقية من الأمناء (رومية ١١: ٣ و٤) وجه الشبه بين المسيحيين والخراف بيّن في شرح (ع ٢٧).
لَمْ تَسْمَعْ لَهُمْ أي لم تقبل تعليم أولئك المرائين ولم تسلك بمقتضى أوامرهم ولا يلزم من ذلك أن الضلال لا يدخل الكنيسة أو أن شعب الله لا يسقط وقتاً بخداع الرؤساء بل أنه إذا ضل أو سقط يرجع إلى الحق. فكما أن الولد يعرف صوت أبيه كذلك أولاد الله يعرفون صوت الله الذي يخاطبهم بروحه وبكلامه ويخدم دينه ويميّز بين المدعين منهم كذباً أنهم يتكلمون باسم الرب والأمناء الصادقين.
٩ «أَنَا هُوَ ٱلْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعى».
ص ١٤: ٦ وأفسس ٢: ١٨ عدد ٢٧: ١٦ و١٧
أَنَا هُوَ ٱلْبَابُ هذا كقوله «أنا نور العالم» «وأنا خبز الحياة» و «أنا الطريق والحق والحياة» وهو من معلنات المسيح العظيمة من جهة نفسه قصد به على الخصوص أن الرعاة الصادقين يدخلون كنيسته بواسطته وحده ويقامون للخدمة الدينية فيختارون ذلك محبة له ويخدمون الرعية إكراماً له بالروح الذي هو خدمها به فيسألونه دائماً الإرشاد في أعمالهم.
ويتضمن قوله هذا أن المسيح هو الواسطة الوحيدة التي بها يستطيع الخطأة أن يأتوا إلى الله والسماء وينالوا الأمن والراحة وكل ما يحتاجون إليه.
إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ بسمعه صوتي الذي يدعوه وتأثير روحي القدس في قلبه وبحفظه تعليمي وباقتدائه بي وباتكاله على بري وفدائه بدمي. وهذا وفق قول الرسول «لأَنَّ بِهِ لَنَا كِلَيْنَا قُدُوماً فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى ٱلآبِ» (أفسس ٢: ١٨).
فَيَخْلُصُ انظر ٥: ٢٤.
وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ غاية الخراف في الدخول إلى الحظيرة الأمن من الخطر خارجاً وغايتها في الخروج المرعى. ومعنى الفعلين كلهيما الحصول على الأمن والتمتع بالحرية والشبع. والمعنى الروحي أن شعب الله يجد في كنيسة الله الاتحاد بالمسيح والتمتع بمحبته والصيانة من أعداء النفس والحصول على الحرية الدينية والاطمئنان وبالإجمال النجاة من كل نتائج الخطيئة.
وَيَجِدُ مَرْعىً أي تعليماً روحياً وتعزية وتقوية إيمان وفقاً لقول النبي «ٱلرَّبُّ رَاعِيَّ فَلاَ يُعْوِزُنِي شَيْءٌ. فِي مَرَاعٍ خُضْرٍ يُرْبِضُنِي. إِلَى مِيَاهِ ٱلرَّاحَةِ يُورِدُنِي الخ» (مزمور ٢٣: ١ – ٤).
وما قاله المسيح هنا في خدمته للكنيسة لا يزال يأتيه الآن بواسطة روحه القدوس ورعاتها القسوس الذين يرسلهم. فيجب عليهم أن يتمثلوا به لأنه هو الراعي الصالح.
١٠ «ٱلسَّارِقُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ لِيَسْرِقَ وَيَذْبَحَ وَيُهْلِكَ، وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ».
لِيَسْرِقَ وَيَذْبَحَ وَيُهْلِكَ وصف المسيح الفريسيين سابقاً بأنهم سراق ولصوص وأوضح هنا مقصودهم في الترأس على الشعب وهو نفع أنفسهم وتسلطهم وتحصيل الكرامة والغنى فيضرون بذلك الشعب لأن سيرتهم وتعليمهم من مهلكات نفوس الرعية وأشبهوا بأعمالهم الشيطان اللص الكبير الذي دخل فردوس الله خفية وسرق من الإنسان قداسته وحياته وتركه عرضة للخطيئة والموت.
وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ أظهر المسيح الفرق العظيم بينه وبين رؤساء الدين عند اليهود بمقابلة مقصوده من مجيئه إلى العالم بمقصودهم من ترأسهم على الشعب. فهم أتوا ليميتوا الناس وهو أتى ليحييهم. والحياة التي منحها للعالم هي الحياة الروحية على هذه الأرض والحياة الأبدية في السماء (ص ٥: ٢٤ وص ٦: ٥٠ و٥١). وأكمل يسوع ذلك المقصود بأربعة أمور:
- الأول: إعلانه أن الحياة التي أتى ليمنحها حياة روحية وأن الناس في أشد الاحتياج إليها.
- الثاني: اشتراؤه تلك الحياة للناس بموته على الصليب.
- الثالث: دعوته الناس إلى الإتيان إليه وقبول الحياة منه.
- الرابع: هبته تلك الحياة للمؤمنين به.
وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ هذا كقوله «مِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ» (ص ١: ١٦). ومعنى الجملة أن المسيح لا يكتفي بأن يهب لنا ما هو ضروري للنجاة من جهنم والحصول على الحياة الأبدية بل يعطينا ما يجعل تلك الحياة في أعلى درجات السعادة ويتضمن ذلك راحة الضمير التامة وتأكيد مغفرة الخطايا ومصالحة الله والتبرير التام والوقاية من السقوط بالتجربة والتقديس الذي يُقبل عند بلوغ السماء.
فالحياة الروحية التي وهبها المسيح للمؤمنين به أفضل من الحياة التي وهبها قبل مجيئه للأتقياء كإبراهيم وموسى وداود وأمثالهم وأفضل من الحياة التي فقدها آدم بمعصيته لانها كانت قابلة الفقدان. وأما الحياة التي وهبها المسيح فأبدية لا تُفقد ولأن الحياة التي ينالها المؤمن بإيمانه بالمسيح أعظم من الحياة التي ينالها باستحقاقه لو استطاع أن يثبت في القداسة الأصلية.
١١ «أَنَا هُوَ ٱلرَّاعِي ٱلصَّالِحُ، وَٱلرَّاعِي ٱلصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ ٱلْخِرَافِ».
إشعياء ٤٠: ١١ وحزقيال ٣٤: ١٢ و٢٣ و٣٧: ٢٤ وعبرانيين ١٣: ٢٠ و١بطرس ٢: ٢٥ و٥: ٤
أَنَا هُوَ ٱلرَّاعِي ٱلصَّالِحُ أي لي كل الصفات المختصة بالراعي الصالح فأحب رعيتي وأنا مستعد أن أفعل كل شيء تحتاج إليه من الخير والصيانة وأنا رئيس كل الرعاة الروحيين الأمناء فيجب عليهم أن يقتدوا بي. وأكد المسيح أنه يكون لشعبه كما يكون الراعي الأمين لخرافه وهذا يتضمن ثلاثة أشياء:
- الأول: أنه يعتني بإعداد كل ما يحتاج إليه.
- الثاني: أنه حنون وشفوق بسياسته لها.
- الثالث: أنه حريص على حمايتها ووقايتها من الخطر.
يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ ٱلْخِرَافِ هذه العلامة المميزة للراعي الصالح من غيره وهي أنه مستعد أن يخاطر بحياته لكي يحمي غنمه كما فعل داود في وقاية خرافه من الدب والأسد (١صموئيل ١٧: ٣٤ و٣٥). وكما قال يفتاح في خدمته لشعب إسرائيل «لَمَّا رَأَيْتُ أَنَّكُمْ لاَ تُخَلِّصُونَ، وَضَعْتُ نَفْسِي فِي يَدِي وَعَبَرْتُ الخ» (قضاة ١٢: ٣). فالمسيح قال أنه أتى لكي ينجي رعيته الروحية من الموت الأبدي بوضع حياته من أجلها ع ١٥ وبذلك أكمل النبوءة القائلة «أَمَّا ٱلرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِٱلْحُزْنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ» (إشعياء ٥٣: ١٠). وقال المسيح مثل قوله هنا في (ع ١٥ و١٧ و١٨ وص ١٣: ٣٧ و٣٨ وص ١٥: ١٣).
١٢، ١٣ «١٢ وَأَمَّا ٱلَّذِي هُوَ أَجِيرٌ، وَلَيْسَ رَاعِياً، ٱلَّذِي لَيْسَتِ ٱلْخِرَافُ لَهُ، فَيَرَى ٱلذِّئْبَ مُقْبِلاً وَيَتْرُكُ ٱلْخِرَافَ وَيَهْرُبُ، فَيَخْطُفُ ٱلذِّئْبُ ٱلْخِرَافَ وَيُبَدِّدُهَا. ١٣ وَٱلأَجِيرُ يَهْرُبُ لأَنَّهُ أَجِيرٌ، وَلاَ يُبَالِي بِٱلْخِرَافِ.
زكريا ١١: ١٦ و١٧
قابل المسيح في هاتين الآيتين عمل الراعي الذي يرعى الغنم بالأجرة بعمل الذي يرعاها وهي له. فالأجير لا ينفق شيئاً على الرعية إنما يعتني بها لمجرد أجرته وإن فقد منها شيء لا يخسر فإذا أتى ذئب ليخطف لا يعرض نفسه للخطر بمقابلته بل يهرب خوفاً من الموت ورغبة في الحياة ويترك الغنم تتبدد وتُفترس. وهذا الوصف يصدق على أكثر الأجراء وأما يعقوب وإن كان أجيراً فحفظ خراف لابان بكل أمانة واعتناء (تكوين ٣١: ٣٨ – ٤٠). والمعنى أن الذين يرعون شعب الله بغية الربح الدنيوي ليسوا بمستعدين أن ينكروا أنفسهم ويخاطروا بوظائفهم وراحتهم وصيتهم وكسبهم وحياتهم لحفظ الكنائس من أعدائها الروحية. فأمثال هؤلاء لم يدعهم الروح القدس إلى خدمة كنيسته ولم يخدموا الرعية حباً أن يخلصوا نفوسهم فأزمنة الخطر تمتحنهم وتظهر جبنهم.
وكان الفريسيون ورؤساء الكهنة كالأجراء رغبوا في نفع أنفسهم فقط ولم يبالوا بنفوس الشعب ولم يريدوا أن يحموها من تجارب إبليس وغيرها من الأخطار الروحية فلذلك كان الشعب الإسرائيلي عند مجيء المسيح كرعية بلا راع (مرقس ٦: ٣٤). فإن قيل ما الفرق بين الأجير في هذه الآية والسارق واللص في الآية الأولى قلنا الفرق في درجة الشر والمراد بكليهما الفريسيون فإن بعض الفريسيين بمنزلة الأجير يحبون أنفسهم فيخدمون الشعب للربح الدنيوي وهم جبناء زمن الخطر وبعضهم بمنزلة السارق واللص في أنهم مضرون محتالون ظالمون.
فَيَرَى ٱلذِّئْبَ مُقْبِلاً اقتصر على ذكر الذئب دون سائر المفترسات لأنه العدو المشهور للغنم. واستُعير هنا لكل الأعداء الروحيين الذين يضرون النفوس بتعاليمهم الفاسدة ويهلكونها. وصف المسيح الأنبياء الكذبة بأنهم كذئاب خاطفة (متّى ٧: ١٥). وقال في الأثني عشر «هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ فِي وَسَطِ ذِئَابٍ» (متّى ١٠: ١٦) وقال في الرسل السبعين «هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ مِثْلَ حُمْلاَنٍ بَيْنَ ذِئَابٍ» (لوقا ١٠: ٣). وقال بولس لقسوس كنيسة أفسس «إَنِّي أَعْلَمُ هٰذَا: أَنَّهُ بَعْدَ ذَهَابِي سَيَدْخُلُ بَيْنَكُمْ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ لاَ تُشْفِقُ عَلَى ٱلرَّعِيَّةِ» (أعمال ٢٠: ٢٩). ولا يلزم من قول المسيح هنا أنه لا يجوز قط للراعي الروحي أن يهرب لحفظ حياته لأنه قد يجب عليه ذلك في بعض الأوقات فإن المسيح قال لرسله «مَتَى طَرَدُوكُمْ فِي هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةِ فَٱهْرُبُوا إِلَى ٱلأُخْرَى» (متّى ١٠: ٢٣). وبولس هرب من دمشق خفية (أعمال ٩: ٢٥) وهرب هو وبرنابا من أيقونية (أعمال ١٤: ٦). ولكن يجب على الراعي الأمين أن يستعد لاحتمال الخطر إذا كان ذلك ضرورياً لخير الرعية. وهذا كان من صفات بولس وبرنابا بشهادة كنيسة أورشليم وهي قولها «مَعَ حَبِيبَيْنَا بَرْنَابَا وَبُولُسَ رَجُلَيْنِ قَدْ بَذَلاَ نَفْسَيْهِمَا لأَجْلِ ٱسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (أعمال ١٥: ٢٥ و٢٦).
فَيَخْطُفُ ٱلذِّئْبُ ٱلْخِرَافَ وَيُبَدِّدُهَا أي يخطف البعض ويفرق الباقي.
١٤ «أَمَّا أَنَا فَإِنِّي ٱلرَّاعِي ٱلصَّالِحُ، وَأَعْرِفُ خَاصَّتِي وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي».
٢تيموثاوس ٢: ١٩
أَمَّا أَنَا فَإِنِّي ٱلرَّاعِي ٱلصَّالِحُ هذا مكرر ما قيل في الآية الحادية عشرة بياناً لأهمية وظيفة المسيح الراعوية مع ذكر شيء من الأعمال المختصة بها مما لم يذكره قبلاً وزيادة إيضاح الفرق بينه وبين الفريسيين رعاة الشعب الطالحين.
أَعْرِفُ خَاصَّتِي من صفات الراعي الأمين أن يعرف كل فرد من غنمه كذلك المسيح يعرف كل شخص من شعبه. وفي كلامه هنا دلالة على كمال اتحاده برعيته بناء على محبته واتخاذه طبيعة بشرية كطبيعتهم فإنه يعرف المؤمنين به أصدقاء ويعرف ضيقاتهم وتجاربهم وضعفهم وقصدهم اتباعه واحتياجاتهم كل يوم إلى مساعدته لهم على القيام بما يجب عليهم وعلى احتمال مصائبهم. وهذا وفق ما قاله المسيح لكل من كنائس آسيا السبع (رؤيا ص ٢ و٣). وهذا خلاف ما يقوله لمن ليسوا من خاصته فإنه يقول لهم «إني لم أعرفكم قط» (متّى ٧: ٢٣).
وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي المؤمنون بالمسيح يعرفون المسيح صديقاً ومخلصاً ويعرفون احتياجهم إليه ورأفته عليهم بناء على اختبارهم عنايته وحمايته وسمعه صلواتهم وعلى هذا الاختبار قال بولس الرسول «إَنَّنِي عَالِمٌ بِمَنْ آمَنْتُ، وَمُوقِنٌ أَنَّهُ قَادِرٌ أَنْ يَحْفَظَ وَدِيعَتِي» (٢تيموثاوس ١: ١٢).
١٥ «كَمَا أَنَّ ٱلآبَ يَعْرِفُنِي وَأَنَا أَعْرِفُ ٱلآبَ. وَأَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ ٱلْخِرَافِ».
متّى ١١: ٢٧ ص ١٥: ١٣
كَمَا أَنَّ ٱلآبَ يَعْرِفُنِي وَأَنَا أَعْرِفُ ٱلآبَ هذا تفسير لما قيل في ع ١٤ وتقرير له. قابل المسيح معرفته بالمؤمنين ومعرفة المؤمنين به بمعرفته بالآب ومعرفة الآب به. وقوله هنا بمعنى ما قال في (متّى ١١: ٢٧ ولوقا ١٠: ٢٢). وهذه الحقيقة من الحقائق التي لا يستطيع العقل البشري إدراك كنهها.
وَأَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ ٱلْخِرَافِ لكي تنجو من الموت. هذه صفة أخرى من صفات المسيح باعتبار راعويته فإنه علاوة على معرفته المؤمنين به مستعد أن يموت عنهم فلذلك أتى إلى العالم وهو على وشك أن يأتي ذلك حينئذ. وأشار بقوله هنا إلى عزمه على أن يسفك دمه على الصليب كفارة عن الناس وفداء لهم من الخطيئة والموت وذلك أعظم برهان على محبته لهم بدليل قوله «لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هٰذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ» (ص ١٥: ١٣).
١٦ «وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هٰذِهِ ٱلْحَظِيرَةِ، يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضاً فَتَسْمَعُ صَوْتِي، وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِد».
إشعياء ٥٦: ٨ وص ١١: ٥٢ وأعمال ١٨: ١٠ حزقيال ٢٧: ٢٢ وأفسس ٢: ١٤ وعبرانيين ١٣: ٢٠ و١بطرس ٢: ٢٥
وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ أي الذين هم أعضاء كنيستي وأصدقائي وشعبي. قال المسيح أن أولئك الخراف له لأن الآب أعطاه إياها منذ الأزل في عهد الفداء فهو يحسبها له وإن لم تكن قد آمنت به أو سمعت باسمه وهي تعبد الأوثان حينما تكلم المسيح. وبهذا المعنى قول المسيح لبولس في أمر أهل كورنثوس وهم لم يزالوا وثنيين «إَنَّ لِي شَعْباً كَثِيراً فِي هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةِ» (أعمال ١٨: ١٠).
لَيْسَتْ مِنْ هٰذِهِ ٱلْحَظِيرَةِ أي ليست من اليهود. وأشار بذلك إلى من قصد خلاصهم من الأمم. وهذه الحظيرة الثانية أكبر من الحظيرة الأولى كثيراً. وقد جاءت النبوءة بدعوة الأمم في بعض أسفار العهد القديم (إشعياء ٥٣: ١٣ وميخا ٤: ٢). وتمت هذه النبوءة بإيمان ألوف وربوات من الأمم منذ يوم قوله ذلك إلى هذه الساعة.
يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضاً قال «ينبغي» لوجوب أن يتمم مقاصد الآب ونبوءات العهد القديم ويدرك رغبة قلبه في ذلك. ويأتي بتلك الخراف إلى كنيسته على الأرض ثم إلى ملكوته في السماء. ولا يأتي بها بتبشيره بنفسه بل بواسطة رسله ومبشريه وسائر خدم دينه وبإنجيله وروحه.
يمكننا أن نتخذ كلام المسيح هنا جواباً لقول اليهود «إِلَى أَيْنَ هٰذَا مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ… أَلَعَلَّهُ مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى شَتَاتِ ٱلْيُونَانِيِّينَ» (ص ٧: ٣٥).
فَتَسْمَعُ صَوْتِي هذا نبوءة بإيمان الوثنيين به وتتلمذهم له. إن اليهود وهم في الحظيرة أبوا أن يسمعوا المسيح ويتبعوه (متّى ٨: ١١ ورومية ١١: ١٧) فهل تتوقع من الوثنيين أن يتركوا أوثانهم ويسمعوا كلام المسيح في الإنجيل ويؤمنوا به ومع ذلك أكد المسيح أنهم سوف يسمعون ويؤمنون ويطيعون. وهذه النبوءة تمت فعلاً وهو وعد ايضاً يُشجع به المبشرين بالإنجيل للأمم بأن تعبهم لا يكون عبثاً لأن الله بينهم شعباً وللمسيح خرافاً خاصة تسمع وتؤمن.
تَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ اي أن الحقوق التي خُصت أولاً باليهود باعتبار كونهم شعب الله الخاص تعم المؤمنين من كل أمم الأرض ويُبطل التمييز بين اليهود وغيرهم من الناس وفقاً لقول الرسول «لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلاَثْنَيْنِ وَاحِداً، وَنَقَضَ حَائِطَ ٱلسِّيَاجِ ٱلْمُتَوَسِّطَ» (أفسس ٢: ١٤ انظر أيضاً رومية ١٠: ١٢).
وَرَاعٍ وَاحِدٌ أي الرب يسوع المسيح الذي يعترف به المؤمنون في كل أرض رباً ومخلصاً. فحسب قول المسيح أن المؤمنين به في كل زمان ومكان ليسوا سوى كنيسة واحدة تُظهر للناس أن حظيرة الرب مقسومة إلى حظائر صغيرة كثيرة لأن لها أسماء مختلفة وطقوساً متنوعة وسياسات شتى وبعضها لا يعرف بعضاً وتنكر هذه أن تلك للمسيح. وأما المسيح فيحسب ما في جميعها قطيعاً واحداً. فوحدة الكنيسة قائمة بأن رأسها واحد هو المسيح وحياة كل فرد في تلك الكنيسة من مصدر واحد هو يسوع الذي اسمه «الحياة» ولها شريعة واحدة هي الكتاب المقدس ولها غاية واحدة هي أن تتبع المسيح وتخدمه وموضوع رجاء واحد هو موت المسيح على الصليب وقيامته فكان يجب أن يكون أعضاؤها في رأي واحد وحس واحد.
وتظهر وحدة رعية المسيح المذكورة هنا عند مجيئه الثاني لا محالة وهل يتم ذلك قبله أولاً ذلك لا نعلمه لكن يجب أن نجتهد جميعنا في ذلك لأن ظهور تلك الوحدة من أعظم أسباب مجد المسيح ونفع العالم ولأن لا شيء يعوق الإنجيل أكثر من انقسام المسيحيين.
١٧ «لِهٰذَا يُحِبُّنِي ٱلآبُ، لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضاً».
إشعياء ٥٣: ٧ و٨ و١١٢ وفيلبي ٢: ٨ و٩ وعبرانيين ٢: ٩
لِهٰذَا يُحِبُّنِي ٱلآبُ أحب الله ابنه منذ الأزل وما ذُكر هنا من جملة الأسباب الكثيرة التي أحب بها الآب ابنه وهو رضاه أن يتجسد ويأتي إلى هذا العالم ليموت عن البشر. ونرى من ذلك رغبة الله في خلاص الخطأة لأنه أحب ابنه كل هذه المحبة الخاصة لموته من أجل الأثمة. وعلامة هذه المحبة قول الآب في الابن «هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» (متّى ٣: ١٧). وإثابته له على اتضاعه (فيلبي ٢: ٩ وإشعياء ٥٣: ١٢).
لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي أي حياتي الجسدية كفارة عن شعبي وبدلاً من موتهم وإنشاء لسبيل خلاصهم.
لآخُذَهَا أي لأقوم من الموت لا لأتركها إلى الأبد. وأخذ المسيح حياته البشرية بعد الموت ذُكر هنا من أسباب زيادة محبة الآب له كأنه إنكار المسيح لذاته. وهذا بخلاف ما يصدق عليه لو كان إنساناً فقط لأن وضع الإنسان حياته وقتاً قصيراً مما يخفف مرارة الموت. وأما المسيح فلو ترك حياته الجسدية إلى الأبد وعاد إلى كونه إلهاً محضاً لكان ذلك أشرف له لكنه ما اكتفى بأن يأخذ الطبيعة البشرية إلى أن يوفي بها دين الناس لله حتى أخذها أيضاً. ولا يزال متسربلاً بها إلى الأبد لكي يهب لشعبه كل فوائد موته (رومية ٤: ٢٥ و١٤: ٩ وعبرانيين ٧: ٢٥ ورؤيا ٧: ١٧). وبهذا امتاز المسيح على أفضل الرعاة لأن خدمتهم للرعية تنتهي عند موتهم.
١٨ «لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً. هٰذِهِ ٱلْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي».
لوقا ٢٣: ٤٦ وص ٢: ١٩ ص ٦: ٣٨ و١٢: ٤٩ و١٥: ١ وأعمال ٢: ٢٤ و٣٢
لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي أي لا أحد يغتصبها مني أو يجبرني على وضعها إنما أنا اخترت أن أضعها. فإن كل مؤامرة الفريسيين عليه ذهبت عبثاً حتى أتت ساعة موته. وأنه أخبر بيلاطس بأنه ليس له عليه من سلطان إلا بإذن الله (ص ١٩: ١١) وأن الجنود الذين أتوا ليمسكوه وقعوا في أول الأمر على الأرض (ص ١٨: ٦).
أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي من أجل خلاص العالم. أبان يسوع بذلك أن محبته للخطاة علة موته لا قوة رؤساء اليهود ولا جند بيلاطس. وكان له حق أن يضع نفسه لأنه الله. وكون موت يسوع اختياراً نفى نسبة كل ظلم إلى الله في قبوله موت البار بدلاً من الأثمة.
مما يوجب علينا شدة المحبة للمسيح أنه بذل نفسه عنا مجاناً واختار أشد الميتات عاراً وألماً.
لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا باعتبار كوني المسيح المتجسد لما لي من السلطان الذاتي أي القوة وللسلطان الذي أخذته من أبي. فإن المسيح لعدم كونه خاطئاً لم يكن مُجبراً على أن يموت بحكم الله وحين كان بين أعدائه لو طلب نجدة الآب لأرسل إليه ربوات من الملائكة تنقذه من أيديهم.
لِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً بعد الموت. وهذا يظهر أنه إله إذ ليس لبشر مثل هذه القوة وهي أن يقيم نفسه وهو ميت فهي قوة مختصة بالله.
نُسبت قيامة المسيح هنا وفي ص ٢: ١٩ إلى الابن نفسه ونُسبت إلى الآب في أعمال ٢: ٢٤ و٣٢ ونُسبت إلى الروح القدس في ١بطرس ٣: ١٨ ونتيجة كل هذه الشواهد أن الأقانيم الثلاثة كانت تعمل معاً في قيامته.
هٰذِهِ ٱلْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي حين شرعت في عمل الفداء. وهذه الوصية هي إذن الآب للمسيح في أن يموت ويقوم من تلقاء إرادته أي قول الله الآب له لما دخل العالم «لك أن تموت كمشيئتك». وسماه المسيح «وصية» تواضعاً لأنه لم يكن بالحقيقة سوى إذن. وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بالوصية كل ما ذكره المسيح في هذا الخطاب بالنظر إلى كونه راعياً ووضع حياته من أجل الخراف وإدخال خراف أُخر إلى الحظيرة لكي تكون رعية واحدة وراع واحد. ولا شيء في أخذ الابن وصية من الآب ينفي مساواة الأقنوم الثاني للأقنوم الأول لأنه كان جزءاً من عمل الفداء تنازل إليه يسوع لينقذ الإنسان من الخطيئة وعقابها.
١٩ «فَحَدَثَ أَيْضاً ٱنْشِقَاقٌ بَيْنَ ٱلْيَهُودِ بِسَبَبِ هٰذَا ٱلْكَلاَمِ».
ص ٧: ٤٣ و٩: ١٦
كانت نتيجة خطابه هنا كسائر نتائج خطبه (ص ٧: ١٢ و٣٠ و٣١ و٤٠ و٤١ و٤٣ وص ٩: ٨ و٩ و١٦). وهذا وفق البنوءة القائلة أنه يكون علّة انقسام (إشعياء ٨: ١٤ ولوقا ٢: ٣٤).
٢٠ «فَقَالَ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ: بِهِ شَيْطَانٌ وَهُوَ يَهْذِي. لِمَاذَا تَسْتَمِعُونَ لَهُ؟».
ص ٧: ٢٠ و٨: ٤٨ و٥٢
هذا كلام أعدائه من الجمع الذين غضبوا من تأثير كلامه على الباقين. وقولهم مثل ما قيل في ص ٧: ٢٠ و٨: ٤٨ والمعنى أنه مختل العقل لا معنى لكلامه ولا علاقة لبعضه ببعض. وحسبوا دعوى ذلك الجليلي الأمي أنه الراعي الصالح لشعب إسرائيل وأن له سلطاناً أن يضع حياته وأن يأخذها هذياناً.
٢١ «آخَرُونَ قَالُوا: لَيْسَ هٰذَا كَلاَمَ مَنْ بِهِ شَيْطَانٌ. أَلَعَلَّ شَيْطَاناً يَقْدِرُ أَنْ يَفْتَحَ أَعْيُنَ ٱلْعُمْيَانِ؟».
خروج ٤: ١١ ومزمور ٩٤: ٩ و١٤٦: ٨ وص ٩: ٦ و٧ و٣٢ و٢٣
هذا كلام بعض الذين مالوا إلى يسوع من الفريسيين ولعله كلام غمالائيل ونيقوديموس ويوسف الرامي وأمثالهم. ودافعوا عن المسيح بشهادة كلامه وأعماله.
هٰذَا كَلاَمَ مَنْ بِهِ شَيْطَانٌ لأنه كلام ذو شأن وتقىً وحكمة.
أَلَعَلَّ شَيْطَاناً يَقْدِرُ أَنْ يَفْتَحَ الخ هذا مبني على المبدإ المشهور وهو أن صفة العمل تبين مصدره. فالشيطان لا يريد الأعمال الخيرية لأنه لا يقصد سوى الضرر. فمن شأن الشيطان أن يعمي البصير لا أن يفتح عيني الأعمى.
٢٢ « وَكَانَ عِيدُ ٱلتَّجْدِيدِ فِي أُورُشَلِيمَ، وَكَانَ شِتَاء».
الأرجح أنه مضى نحو شهرين بين زمن المخاطبة السابقة في هذا الأصحاح والوقت المذكور في هذه الآية فكانت تلك المخاطبة في عيد المظال الذي يقع في منتصف تشرين الأول وعيد التجديد المذكور هنا كان في منتصف كانون الأول. والأرجح أن المسيح لم يبق تلك المدة في أورشليم لأن اليهود كانوا يطلبون قتله بل رجع إلى الجليل وشرع يجول من هناك في بيرية كما ذُكر في (متّى ١٩: ١ ومرقس ١٠: ١ ولوقا ٩: ٥١ – ص ١٨: ١٨).
عِيدُ ٱلتَّجْدِيدِ عيّن هذا العيد يهوذا المكابي سنة ١٦١ ق. م تذكاراً لتطهير الهيكل بعد أن نجسه أنطيخوس أبيفانس سنة ١٦٤ ق .م فإن أنطيخوس أخذ أورشليم وأخربها وقتل أربعين ألفاً من أهلها وباع أربعين ألفاً من الأسرى وذبح خنزيرة على مذبح الهيكل. وكانت بداءة ذلك العيد في ١٥ كانون الأول وكانت أيامه ثمانية تحتفل فيها المدينة كما تحتفل في عيد المظال بكل علامات الفرح من الأغاني والرقص وما شاكل ذلك. وسُمي أيضاً «بعيد الأنوار» لكثرة المصابيح التي كانوا يوقدونها في تلك الأيام. وكان حضور ذلك العيد اختيارياً لا فرضاً.
٢٣ «وَكَانَ يَسُوعُ يَتَمَشَّى فِي ٱلْهَيْكَلِ فِي رِوَاقِ سُلَيْمَانَ».
أعمال ٣: ١١ و٥: ١٢
الأرجح أن إقامة يسوع في أورشليم وقتئذ قصيرة جداً بعد أن أرسل السبعين أمامه في بيرية (لوقا ١٠: ١). ولعله زار حينئذ بيت عنيا كما ذُكر (لوقا ١٠: ٣٨ – ٤٢).
فِي ٱلْهَيْكَلِ أي في إحدى أدوره.
فِي رِوَاقِ سُلَيْمَانَ هو ممشى مسقوف على جانب الهيكل الشرقي يشرف على وادي يهوشافاط (أعمال ٣: ١١ و٥: ١٢ وانظر شرح متّى ٢١: ١٢). قال يوسيفوس المؤرخ أنه هو الجزء الوحيد الباقي مما بناه سليمان. ولا بد من أن زربابل وهيرودس الكبير أصلحاه وبنيا عليه. وعلة ذكر تمشيه في الرواق ما ذُكر في ع ٢٢ وهو أنه كان شتاء أي وقت البرد والمطر.
٢٤ «فَٱحْتَاطَ بِهِ ٱلْيَهُودُ وَقَالُوا لَهُ: إِلَى مَتَى تُعَلِّقُ أَنْفُسَنَا؟ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحَ فَقُلْ لَنَا جَهْراً».
فَٱحْتَاطَ بِهِ ٱلْيَهُودُ أي أعداؤه ع ٣١.
إِلَى مَتَى تُعَلِّقُ أَنْفُسَنَا أي تتركنا في الريب. وأشاروا بذلك إلى أنه ادعى دعاوي سامية ولم يزل علة الشك فيها. فمن ذلك تسمية نفسه «راعياً» فالنتيجة أنه ادعى أنه المسيح. وهو صنع بعض الآيات وهذا من الأدلة المصدقة لدعواه ولكنهم مع ذلك لم يقتنعوا لأنه من الجليل والمسيح الموعود به ليس كذلك (ص ٧: ٥٢) وأنه فقير مهان وهذا خلاف ما توقعه اليهود لأنهم انتظروه ملكاً مجيداً وناصراً جليلاً. وعلى الجملة أنه هيّج آمال الأمة أنه المنقذ المنتظر ولكنه لم يأت أمراً مجيداً يليق بدعواه.
إِنْ كُنْتَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحَ الخ المرجّح أنهم لم يقولوا ذلك عن إخلاص لأن يسوع كان قد أوضح أنه هو المسيح ولم يترك في ذلك مدخلاً للشك ولأنهم اعتمدوا أن لا يقبلوه مسيحاً فكان غرضهم أن يقول أنه هو المسيح صريحاً لكي يشتكوا عليه بأنه مجدف. وسألوا مثل هذا السؤال في لوقا ٢٢: ٦٧ لذلك الغرض أو الخداع عينه.
٢٥ «أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ. ٱلأَعْمَالُ ٱلَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا بِٱسْمِ أَبِي هِيَ تَشْهَدُ لِي».
ص ٥: ١٩ و٨: ٣٦ و٥٦ و٥٨ ص ٣: ٢ و٥: ٣٦ وع ٣٨
لم يجبهم المسيح على ذلك تصريحاً كما أجاب المرأة السامرية والإنسان المولود أعمى لأنهما سألاه بإخلاص بل أجابهم ضمناً كما في ص ٨: ٢٥. فلو قال أنا المسيح لأنكر عليه ذلك بعضهم وجعل كلامه موضوعاً للهزء وعلى الشكاية إلى الرؤساء. وحمل البعض كلامه على غير مقصوده لأن معنى «المسيح» عندهم ناصر أرضي وملك دنيوي وهو ليس كذلك. ولو أنكر أنه المسيح الذي هم انتظروه لاستنتجوا أنه ليس هو المسيح الذي أنبأ به الأنبياء وأنه ليس برسول الله ولا بالمنقذ الروحي مع أنه هو كذلك.
إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ أي أنبأتكم بما سألتموني عنه. وأنبأهم بذلك تلميحاً كافياً للإفهام لو أرادوا (انظر ص ٥: ١٩ و٨: ٣٦ و٥٦). وسمى نفسه «نور العالم» «والراعي الصالح» وكثيراً ما قال أنه «ابن الله» وعلموا أنه قصد بذلك بيان أنه المسيح.
وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ ادعوا أنهم بين الشك واليقين أما هو فحقق لهم أنهم ليسوا كذلك إنما هم منكرون.
ٱلأَعْمَالُ ٱلَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا أشار إلى معجزاته وأنها دليل كاف على أنه المسيح بدعوى أن الله لا يهب للخادع قوة على فعل المعجزات أي أن الله لا يثبت الكذب. وأورد مثل هذا البرهان في (ص ٣: ٢ و٥: ٣٦ و٧: ٣١ و٩: ٣٣ و٣٤).
بِٱسْمِ أَبِي اي بسلطانه وبكوني رسوله. وذكر اليهود بأنه لا يفعل شيئاً مستقلاً عن الآب.
٢٦ «وَلٰكِنَّكُمْ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنْ خِرَافِي، كَمَا قُلْتُ لَكُمْ».
ص ٨: ٤٧ و١يوحنا ٤: ٦
وَلٰكِنَّكُمْ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ لا تؤمنون بأقوالي ولا بأعمالي.
لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنْ خِرَافِي من صفات الخراف أنها تعرف صوت راعيها فالذي لا تعرف صوته ليست من رعيته. فاليهود الذين لم يؤمنوا بالمسيح أظهروا أنهم ليسوا من شعبه. فخراف المسيح شعبه المتواضع المحب لتعاليمه والمصدق لها. وكبرياء اليهود وتعصبهم وسوء آرائهم في شأن المسيح المنتظر منعتهم من قبول أن يسوع هو المسيح كما شهدت بذلك أقواله وأعماله. ولم يريدوا أن يؤمنوا بأن مثل هذا الشخص الوديع يكون هو المسيح ولولا ذلك اقتنعوا بالبيّنات.
كَمَا قُلْتُ لَكُمْ ص ٨: ٤٧ وص ٣: ١٠
٢٧ «خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي».
ع ٤ و١٤
خِرَافِي أي شعبي الحقيقي. وأوجه الشبه بين المؤمنين بالمسيح حق الإيمان والخراف خمسة:
- الأول: عدم الأذى.
- الثاني: الوداعة.
- الثالث: الضعف والاحتياج إلى راعٍ والتعرض للضلال والعجز عن الرجوع ومقاومة الأعداء.
- الرابع: النفع.
- الخامس: الطاعة وقبول التعليم.
ونسبهم المسيح إليه بقوله «خرافي» لستة أسباب:
- الأول: محبته لهم.
- الثاني: أنهم عطية أبيه له.
- الثالث: أنه فداهم واشتراهم بموته.
- الرابع: أنه اختارهم ودعاهم.
- الخامس: أنه يرعاهم ويحميهم ويعتني بكل حاجاتهم.
- السادس: أنهم سلموا أنفسهم إليه طوعاً واختياراً.
تَسْمَعُ صَوْتِي كما جاء في ع ٣ و٤ وهذا من علامات الخراف. والصوت الذي تسمعه هو قوله «تعالوا إلي» و «توبوا عن خطاياكم» و «آمنوا بي» و «التجئوا إليّ» و «أنكروا أنفسكم» و «كونوا شهوداً لي» و «بشروا بإنجيلي» و «اقبلوا كلامي مصدقين أنه حق وأطيعوه». ولم نزل قادرين على سمع صوت المسيح بإنجيله وبروحه في قلوبنا.
وَأَنَا أَعْرِفُهَا كما جاء في ع ١٤ و١٥. وتتضمن هذه المعرفة رضاه إياهم ومحبته لهم وسروره بهم. وأنه يعلم رغبتهم في رضاه وطاعته ويعرف حاجاتهم وتجاربهم وأحزانهم وخطاياهم وجودة مقاصدهم. ومعرفته إياهم الآن تتضمن أنه يعترف بهم قدام أبيه في السماء. والذين يعرفهم المسيح لا يعرفهم العالم ولا يبالي بهم بل كثيراً ما يحتقرهم ويضطهدهم (١يوحنا ٣: ١).
فَتَتْبَعُنِي كما تتبع الخراف راعيها ع ٣. ويتبع المؤمنون المسيح معلماً لهم بأن يطيعوه ويتكلوا عليه ويسيروا في أثره. ويجدوا فيه قوتاً لنفوسهم. ويتبعوه للعمل في كرم الرب. ويتخذوه مخلصاً وقائداً من الظلمة إلى النور ومن الخطيئة إلى القداسة ومن الأرض إلى السماء.
٢٨ «وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي».
ص ٦: ٣٧ و١٧: ١١ و١٢ و١٨: ٩
وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً تكلم في الآيات السابقات على صفات الخراف وتكلم هنا على حقوقها وامتيازاتها. وهبة الحياة الأبدية تتضمن المغفرة وراحة الضمير والمصالحة لله والسرور في هذه الدنيا وفي الآخرة مع المجد. وحصَّل تلك الحياة لهم بموته وشفاعته ويهبها لهم بروحه القدوس. وبيّن العلاقة بين أتباعه ونوال الحياة في (ص ٨: ١٢) وليس لأحد غير المسيح أن يقول «أنا أعطي الحياة الأبدية» وهذا من الأدلة على لاهوته ونعمته.
لَنْ تَهْلِكَ إِلَى ٱلأَبَدِ كما يهلك الأشرار في جهنم حيث يعاقبون على آثامهم (متّى ١٠: ٢٨ و١٨: ١٤ ويوحنا ٣: ١٥). وهذا الوعد توكيد للمسيحيين أنهم يكونون مصونين من الأخطار الداخلية كشهوات الجسد وفساد القلب وضعف الطبيعة ومن الأخطار الخارجية وهي تجارب الشيطان والعالم.
وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي أي لا يجذبها إلى خدمة الخطيئة وترك المسيح. ولا يقدر على ذلك إنسان بفصاحته وخداعه وقوته وتخويفه ولا يستطيع الشيطان ذلك بحيله واقتداره ومهارته في التجربة. والخطف إما أن يكون في الخفاء كما يفعل السارق وإما في العلانية كما يفعل اللص المغتصب. ولا خوف على نفس المؤمن التي في يد المسيح من شيء منهما.
وهذا الوعد من الأدلة على ثبوت المؤمنين في النعمة وهو أن كل من آمن الإيمان الحق لا يمكن أن يسقط من النعمة ويهلك (رومية ٨: ٣٨ و٣٩). وهو ليس بوعد لكل المعترفين بيسوع المسيح ولا لكل المعتمدين بل للذين يسمعون صوت المسيح ويتبعونه قلباً وسيرة. وهذه الصيانة ليست ناتجة عن قوة عزمهم على اتباع المسيح وشدة تمسكهم به بل عن مسك المسيح إيّاهم وقصده الأزلي في أمرهم. وعلتها محبة المسيح لهم وقد برهن ذلك بموته عنهم ولا يزال يبرهنه بحفظه إياهم. ولا يلزم مما قيل أن المؤمن لا يُجرب ولا يخطئ ولا يسقط مدة في ضلال بل المعنى أن الله لا يتركه في الضلال إلى أن يسقط في هاوية الهلاك.
وأسباب صيانة المؤمنين بالحق أربعة:
- الأول: كون الله أعطى يسوع إياهم.
- الثاني: تحصيل يسوع الحياة الأبدية لهم ومنحهم إياها.
- الثالث: تعهد الآب والابن معاً بوقايتهم من الهلاك.
- الرابع: أنه ليس من قوة في العالم تقاوم قوة الله ومقاصد يسوع الخيرية لهم.
وقد ذُكر ثلاثة أمور هنا لكل منها وافر البركات وهي معرفة المسيح لخرافه ومنحه إيّاها الحياة الأبدية وصيانته لها من الهلاك.
٢٩ «أَبِي ٱلَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ ٱلْكُلِّ، وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي».
ص ١٤: ٢٨ و١٧: ٢ و٦ الخ
غاية هذه الآية بيان أمن شعب المسيح.
أَبِي ٱلَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا (ص ٦: ٣٧). كان ذلك الإعطاء قبل تأسيس العالم (أفسس ١: ١٤). وهو من علل تسمية المؤمنين خرافه وما يؤكد لهم حفظه إياهم وعدم سماحه أن يخطفهم أحدٌ من يده.
هُوَ أَعْظَمُ مِنَ ٱلْكُلِّ أي كل من يريد أن يخطف خرافي من يدي من الناس والأبالسة. وكونه أعظم من الكل يمنع إمكان خطفها من يده فالله قادر أن يحفظها ويريد ذلك فالمؤمنون في أمان.
وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي قال مثل هذا سابقاً في شأن يده هو فإذاً للمسيحيين سندان لأمنهم الأول عظمة محبة المسيح لهم والثاني عظمة قدرة الآب المحيطة بهم. وما ذُكر علة بقاء كنيسة المسيح كل تلك القرون مع شدة الاضطهادات التي وقعت عليها والضلالات الفظيعة التي طرأت فيها وكذا يكون في المستقبل.
ولعل في ما قاله المسيح هنا تلميحاً إلى الأعمى الذي أبرأه وهو أنه وإن كان اليهود قد أخرجوه من مجمعهم وحرموه حقوق الشعب اليهودي لم يُخطف من يد الله أي لم يستطيعوا أن يحرموه الخلاص.
٣٠ «أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ».
ص ٧: ١١ و٢٢
غاية المسيح من كلامه هنا أمن الخراف وإثباتاً لذلك قال أن الآب والابن واحد في القصد والمشيئة والشعور والفعل في شأن الخراف. فالآب يحفظ كل ما للابن والابن يحفظ كل ما للآب. وهذا يتضمن أن الآب والابن واحد في الجوهر والمجد والمقام والقوة. وكذا فهم اليهود معنى المسيح كما يظهر من قولهم في ع ٣٣ والمسيح لم يخطئهم على هذا الفهم. ووحدة الآب والابن لا تمنع من التمييز بينهما في الأقنومية والوظيفة. وما قيل في هذه الآية ينفي ضلال سباليوس في قوله ليس في اللاهوت سوى أقنوم واحد وينفي بدعة آريوس وهي قوله المسيح دون الآب لأنه يستحيل كونهما واحداً بدون المساواة.
وفي هذه الآية جواب لقول اليهود في ع ٢٤.
٣١ «فَتَنَاوَلَ ٱلْيَهُودُ أَيْضاً حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ».
لاويين ٢٤: ١٠ الخ وص ٨: ٥٩
أَيْضاً أي كما فعلوا سابقاً لما قال يسوع «قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ» (ص ٨: ٥٨) وفعلوا ذلك لأنهم حسبوا كلامه تجديفاً (ع ٣٣) وأرادوا أن يعاقبوه بمقتضى الناموس (لاويين ٢٤: ١٤ – ١٦ وعدد ١٥: ٣٦) ولم يقدروا أن يجروا ذلك شرعاً لمنع الرومانيين لهم لكنهم قصدوا أن يفعلوه على سبيل الهياج والشغب كما فعلوا باستفانوس (أعمال ٧: ٥٧ و٥٨).
٣٢ «فَقَالَ يَسُوعُ: أَعْمَالاً كَثِيرَةً حَسَنَةً أَرَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَبِي بِسَبَبِ أَيِّ عَمَلٍ مِنْهَا تَرْجُمُونَنِي؟».
مرقس ٧: ٢٧
فَقَالَ يَسُوعُ على فكرهم وقصدهم. والظاهر أن إجابته لهم أوقفتهم وقتاً عن رجمهم إياه. وخلاصة قوله أنه لا يجيز العقل ولا الشرع أن ترجموا أحداً قبل بيان ارتكابه الذنب الموجب لذلك.
أَعْمَالاً كَثِيرَةً حَسَنَةً أي نافعة جيدة. ولم يذكر يوحنا في إنجيله كثيراً من تلك الأعمال بل أشار إلى أنها كثيرة (ص ٢: ٢٣ و٣: ٢ و٥: ٣٦ و٢٠: ٣٠). ومن تلك الأعمال شفاء المرضى وفتح عيون العمي.
أَرَيْتُكُمْ أي فعلتها أمام عيونكم برهاناً على أني من الله.
مِنْ عِنْدِ أَبِي أي التي عيّنها الآب لكي أفعلها كما عيّن الأقوال التي قلتها وأقولها. علم المسيح أنهم اغتاظوا من كلامه فقال لهم ماذا وجدتم من الشر في أعمالي لأن القصد في كليهما واحد وهو بيان أنه المسيح ابن الله. فبيّن في هذه الآية أنه بريء من كل ذنب يوجب رجمهم إياه.
٣٣ «أَجَابَهُ ٱلْيَهُودُ: لَسْنَا نَرْجُمُكَ لأَجْلِ عَمَلٍ حَسَنٍ، بَلْ لأَجْلِ تَجْدِيفٍ، فَإِنَّكَ وَأَنْتَ إِنْسَانٌ تَجْعَلُ نَفْسَكَ إِلٰهاً».
ص ٥: ١٨
يظهر من هذا أن المسيح ادعى مساواته لله في ع ٣٠ بقوله «أنا والآب واحد» لأنه كذا فهم اليهود معناه والمسيح لم ينكر أنه عنى ذلك. وقد أعلنوا بجوابهم عجزهم عن أن يبينوا عملاً واحداً شريراً من كل أعمال يسوع مع أن المسيح دعاهم إلى ذلك وهذا مثل ما في (ص ٨: ٤٦).
لَسْنَا نَرْجُمُكَ أي ما عزمنا على رجمك.
بَلْ لأَجْلِ تَجْدِيفٍ انظر شرح (متّى ٩: ٣ ويوحنا ٥: ١٨). وهذا على وفق الشريعة في (لاويين ٢٩: ١٠ – ١٦). وفسروا في هذه الآية ما اعدوا أنه تجديف.
وَأَنْتَ إِنْسَانٌ نعم لو كان المسيح إنساناً فقط لكان كلامه تجديفاً واستحق أن يُرجم بموجب شريعتهم ولكنه مع كونه إنساناً هو الله فكان يستحق الإيمان به والسجود له. فما بقي في المسئلة إلا أحد الأمرين وهو إما أن يعبدوا يسوع إلهاً وإما أن يرجموه مجدفاً.
تَجْعَلُ نَفْسَكَ إِلٰهاً أي تدعي الألوهية. ادعى اليهود الغيرة العظيمة لله وأنهم مكلفون بالمحاماة عن مجد اسمه والحق أنه لم يحركهم إلى ذلك إلا الحسد والبغض.
٣٤ «أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: أَلَيْسَ مَكْتُوباً فِي نَامُوسِكُمْ: أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ؟».
مزمور ٨٢: ٦
دفع المسيح اتهامهم إياه بالتجديف بوجهين:
الأول: أنه لو كان مجرد إنسان فتسميته نفسه ابن الله ليس بتجديف (ع ٣٤ – ٣٦).
الثاني: أن أعماله تبيّن أنه الله فله حق أن يعلن أنه كذلك بأسمى معناه (ع ٣٧ و٣٨).
فِي نَامُوسِكُمْ في كتبكم الإلهية. جاء الناموس في العهد الجديد بثلاثة معانٍ:
- الأول: أسفار موسى الخمسة (لوقا ٢٤: ٢٤).
- الثاني: العهد القديم سوى أسفار الأنبياء (متّى ٢٢: ٤٠).
- الثالث: كل العهد القديم كما في هذه الآية وفي (ص ٧: ٤٩ و١٢: ٣٤ و١٥: ٢٥ ورومية ٣: ١٩ و ١كورنثوس ١٤: ٢١).
ونُسب الناموس إليهم لاعتبارهم إياه مقدساً ليس فيه من تجديف.
أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ هذه الآية السادسة من المزمور الثاني والثمانين. والمتكلم هو الله قاضي القضاة. والمخاطبون هم القضاة ودعاهم الله آلهة لأنهم رؤساء الشعب ومنزلتهم أرفع من منزلة غيرهم من الناس وعليهم مسؤولية عظيمة في سياسة الشعب والله نفسه عيّنهم لوظيفتهم وهم أخذوا سلطانهم منه وقضوا بالنيابة عنه بدليل قول حزقيال «وَقَالَ لِلْقُضَاةِ: ٱنْظُرُوا مَا أَنْتُمْ فَاعِلُونَ لأَنَّكُمْ لاَ تَقْضُونَ لِلْإِنْسَانِ بَلْ لِلرَّبِّ، وَهُوَ مَعَكُمْ فِي أَمْرِ ٱلْقَضَاءِ» (٢أيام ١٩: ٦). وقول موسى «لاَ تَنْظُرُوا إِلَى ٱلْوُجُوهِ فِي ٱلْقَضَاءِ. لِلصَّغِيرِ كَٱلْكَبِيرِ تَسْمَعُونَ. لاَ تَهَابُوا وَجْهَ إِنْسَانٍ لأَنَّ ٱلْقَضَاءَ لِلّٰهِ» (تثنية ١: ١٧). وسمي الرئيس النائب عن الله إلهاً في (خروج ٤: ١٦ و٧: ١). وكان كل الذين سموا آلهة رموزاً إلى يسوع المسيح الذي هو إله وإنسان.
٣٥ «إِنْ قَالَ آلِهَةٌ لأُولٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَارَتْ إِلَيْهِمْ كَلِمَةُ ٱللّٰهِ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ ٱلْمَكْتُوب».
رومية ١٣: ١٠
إِنْ قَالَ آلِهَةٌ أي ناموسكم.
لأُولٰئِكَ أي الرؤساء أو القضاة وهم ليسوا سوى أناس عينهم الله نواباً عنه في سياسة الشعب.
ٱلَّذِينَ صَارَتْ إِلَيْهِمْ كَلِمَةُ ٱللّٰهِ أي الذين أعطاهم الله سلطاناً أن يأمروا باسمه ويقضوا.
وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ ٱلْمَكْتُوبُ انظر شرح (متّى ٥: ١٨). والمراد هنا بالمكتوب الناموس. ومعناه أنه ليس لأحد أن ينسخ الناموس أو يستهين به أو يذمه بل يجب على نفس كل إنسان أن تقبله باحترام وتحسبه قاطع كل جدال لأنه كلام الله كُتب بوحي الروح القدس. ومقصود المسيح بما اقتبسه هنا من المزامير أنه إذا كان الناموس سمى الرؤساء بالآلهة فذلك دليل قاطع على جواز تسميتهم بذلك وما جاز في كتاب الله ليس بتجديف وهذا دفع كاف لأتهامهم المسيح بالتجديف بما نسبه إلى نفسه.
وما عنى المسيح بذلك أنه مثل أحد أولئك الرؤساء المخلوقين إنما جاءه على سبيل الفرض.
٣٦ «فَٱلَّذِي قَدَّسَهُ ٱلآبُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، أَتَقُولُونَ لَهُ: إِنَّكَ تُجَدِّفُ، لأَنِّي قُلْتُ إِنِّي ٱبْنُ ٱللّٰهِ؟».
ص ٦: ٢٧ ص ٣: ١٧ و٥: ٣٦ و٣٧ و٨: ٤٢ ص ٥: ١٧ و١٨ و١: ٣٥ وص ٩: ٣٥ و٣٧
فَٱلَّذِي قَدَّسَهُ ٱلآبُ جاءت لفظة «قدس» في مواضع كثيرة من الكتاب بمعنى عيّن للخدمة الإلهية ومن ذلك ما جاء في (خروج ٢٨: ٤١ و٢٩: ١ و٤٤ ولاويين ٨: ٣٠) والمعنى هنا أن الله عيّن ابنه منذ الأزل مسيحاً. ومعنى التقديس هنا كمعنى الختم في (ص ٦: ٢٧).
وَأَرْسَلَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ كان في السماء فأرسله إلى الأرض ليخلص البشر. وفي هذا إشارة إلى تجسده (ص ٣: ١٧ وعبرانيين ٣: ١ و١يوحنا ٤: ١٤). واختلف المسيح بذلك عن الرؤساء الذين دعاهم آلهة لأنهم كانوا في الأرض وصارت إليهم كلمة الله.
لأَنِّي قُلْتُ إِنِّي ٱبْنُ ٱللّٰهِ لم يقبل ذلك صريحاً بل لزم عن قوله في (ع ٢٩ و٣٠)، واليهود فهموا ذلك بدلالة الالتزام ع ٣٣. فإذاً كان المسيح أولى منهم بالإنصاف بالألوهة وأن لا سبيل لهم إلى اتهامهم أياه بالتجديف وحجته عليهم لفظ ناموسهم بعينه.
٣٧ «إِنْ كُنْتُ لَسْتُ أَعْمَلُ أَعْمَالَ أَبِي فَلاَ تُؤْمِنُوا بِي».
ص ١٥: ٢٤
ما قاله المسيح آنفاً كاف لتبرئة نفسه من التجديف إذ أبان لهم أن ناموسهم نسب الألوهة إلى المخلوقات الذين هم دونه ولكنه لم يقتصر على التخلص من تهمة التجديف بل أراد أيضاً أن يبين لهم كل الحق في تسمية نفسه إلهاً بدليل أن ما فعله لا يستطيع فعله إلا الله.
أَعْمَالَ أَبِي أي أعمالاً مثل أعمال أبي (ص ٥: ١٧) وهي الأعمال التي لا يستطيع أن يعملها إلا الله. ومراد المسيح هنا أنه لعمله مثل أعمال الله أثبت لنفسه قوة كقوة الله. فإذاً هو مساوٍ له ويحق له أن يعلن ألوهته لفظاً فليس في كلامه شيء من التجديف.
فَلاَ تُؤْمِنُوا بِي أي فلا تصدقوا أني المسيح وأني ابن الله. لم يسألهم التسليم بدعواه بلا برهان بل سألهم أن يحكموا هل الأعمال التي عملها كأعمال الله أو لا فإذا كانت كأعمال الله وجب أن يؤمنوا به وإلا فتهمتهم صحيحة. وكلامه هنا وفق كلامه في (ع ٣٢ وص ٥: ١٧ و٣٦ و٩: ٣ و١٤: ١٠).
٣٨ «وَلٰكِنْ إِنْ كُنْتُ أَعْمَلُ، فَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِي فَآمِنُوا بِٱلأَعْمَالِ، لِكَيْ تَعْرِفُوا وَتُؤْمِنُوا أَنَّ ٱلآبَ فِيَّ وَأَنَا فِيه».
ص ٥: ٣٦ و١٤: ١٠ و١١ و١٧: ٢١
كان عليهم أن يقتنعوا بكلامه لما فيه من الأدلة على أنه تكلم بالحق وأن كلامه كلام الله ولكنهم إذ لم يقتنعوا بذلك أورد لهم شهادة أعماله بصحة دعواه كما أورده لرسولي يوحنا المعمدان إذ قال لهما «ٱذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ: ٱلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ، وَٱلْعُرْجُ يَمْشُونَ الخ» (متّى ١١: ٤ و٥). انظر شرح (ص ٥: ٣٦).
أَنَّ ٱلآبَ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هذا كقوله «أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ» (ع ٣٠). وهو إيضاح للاتحاد الكلي بينه وبين الآب ومساواة أحدهما للآخر وأن تصريحه بذلك ليس بتجديف.
٣٩ «فَطَلَبُوا أَيْضاً أَنْ يُمْسِكُوهُ فَخَرَجَ مِنْ أَيْدِيهِمْ».
ص ٧: ٣٠ و٤٤ و٨: ٥٩
الظاهر أنهم لم يقتنعوا ببرهانه من ناموسهم ولا بشهادة معجزاته بل ظلوا مصرين على قصدهم قتله (ع ٣١ وص ٧: ٣٠ و٣٢ و٣٤). ولعلهم عدلوا عن قصدهم الأول وهو أن يرجموه في الهيكل (ع ٣١) وعزموا على ذلك في موضع آخر.
فَخَرَجَ مِنْ أَيْدِيهِمْ كان سهلاً عليه أن يفعل ذلك بدون معجزة ظاهرة إذ جعل كل اجتهادهم عبثاً كما فعل قبلاً (ص ٨: ٥٩ ولوقا ٤: ٣٠).
٤٠ «وَمَضَى أَيْضاً إِلَى عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ إِلَى ٱلْمَكَانِ ٱلَّذِي كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ فِيهِ أَوَّلاً وَمَكَثَ هُنَاكَ».
ص ١: ٢٨
وَمَضَى أَيْضاً إِلَى عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ أي إلى الشرق ذلك النهر إلى البلاد المسماة بيرية وشغل أكثر الستة الأشهر الأخيرة من زمن خدمته على الأرض هنالك.
إِلَى ٱلْمَكَانِ ٱلَّذِي كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ كما ذُكر في (ص ١: ٢٨) واسم المكان بيت عبرة. وقال مضى أيضاً لأنه عُمّد هنالك وابتدأ خدمته. ولم يذكر أنه عاد إليه غير هذه المرة في كل زمن خدمته على الأرض. ولا بد من أن مصيره إلى هنالك ذكر تلاميذه بشهادة يوحنا له في ذلك المكان.
وَمَكَثَ هُنَاكَ من عيد التجديد إلى عيد الفصح الذي صُلب فيه وما بينهما نحو أربعة أشهر. ولا يلزم من الكلام هنا أنه بقي في مكان واحد والأرجح أنه كان يجول في أرض بيرية. وذلك يوافق كلام لوقا في إنجيله على خدمة المسيح في بيرية.
٤١ «فَأَتَى إِلَيْهِ كَثِيرُونَ وَقَالُوا: إِنَّ يُوحَنَّا لَمْ يَفْعَلْ آيَةً وَاحِدَةً، وَلٰكِنْ كُلُّ مَا قَالَهُ يُوحَنَّا عَنْ هٰذَا كَانَ حَقّاً».
ص ٣: ٣
فَأَتَى إِلَيْهِ كَثِيرُونَ ممن أرادوا الاستفادة من تعاليمه. وكان موضعه موافقاً لذلك إذ كان قريباً من أورشليم فهان على الناس أن يذهبوا إليه وكان بمعزل عن اضطهاد الفريسيين. ولا بد من أنه ذكرهم بمناداة يوحنا بالتوبة هنالك وشهادته للمسيح.
وَقَالُوا إِنَّ يُوحَنَّا لَمْ يَفْعَلْ آيَةً الخ في قولهم هنا شهادتان إحداهما ليوحنا والأخرى للمسيح. فصدقوا أولاً أن يوحنا كان نبياً بدون معجزة وتحققوا حينئذ أنه كذلك لأنه قد ثبت صدق نبوءته بشأن المسيح. وشهدوا ليسوع بأنه المسيح بناء على شهادة يوحنا بأن يسوع هو «الآتي» أي المسيح وبناء على اختبارهم بما شاهدوا وسمعوا من معجزاته وتعاليمه.
٤٢ «فَآمَنَ كَثِيرُونَ بِهِ هُنَاك».
ص ٨: ٣٠ و١١: ٤٥
هذا كما قيل في (ص ٨: ٣٠ و١١: ٤٥) ولا شيء يدل على أن إيمانهم لم يكن قلبياً ثابتاً. فمقاومة أهل أورشليم للمسيح كانت فائدة لأهل بيرية.
السابق |
التالي |