إنجيل يوحنا

إنجيل يوحنا | 08 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل يوحنا

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الثامن

إتيان اليهود بزانية إلى يسوع للمحاكمة (ع ١ – ١١)

١ «أَمَّا يَسُوعُ فَمَضَى إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ».

كان يجب أن يضاف هذا العدد إلى الأصحاح السابع، ويكون جزءاً من عدد ٥٣ منه. ومفادهما أنه بعد انصراف أعضاء المجلس والشعب إلى بيوتهم من أعداء يسوع وأصحابه لم يمض المسيح إلى بيته، إذ ليس له بيت، بل ذهب إلى جبل الزيتون شرقي أورشليم (راجع شرح متّى ٢١: ١). ولا يلزم من ذلك أنه قضى الليل في الخلاء هناك. ولو أنه قضى ليلته في الخلاء في الصلاة لما كان هذا غريباً (لو ٦: ١٢). ويحتمل أنه ذهب إلى بيت عنيا على السفح الشرقي حيث بيت لعازر وأختيه مريم ومرثا، فقد اعتاد التردّد إليه (يوحنا ١١: ١ ولوقا ٢١: ٣٧). ويحتمل أنه قضى بعض الليل أو كله في بستان جثسيماني غرب الجبل حيث اعتاد التردّد أيضاً (يوحنا ١٨: ٢).

٢ «ثُمَّ حَضَرَ أَيْضاً إِلَى الهَيْكَلِ فِي الصُّبْحِ، وَجَاءَ إِلَيْهِ جَمِيعُ الشَّعْبِ فَجَلَسَ يُعَلِّمُهُمْ».

ثُمَّ حَضَرَ أَيْضاً إِلَى الهَيْكَلِ الأرجح أنه كان ذلك غد اليوم الأخير من العيد.

فِي الصُّبْحِ: أتى المسيح الهيكل باكراً ليعلم الشعب، وأتى الشعب كذلك رغبة في سماع أقواله والاستفادة منها.

جَمِيعُ الشَّعْبِ أي عدد كثير من أهل المدينة وغيرهم ممن أتوا إليها للعيد.

فَجَلَسَ يُعَلِّمُهُمْ كعادة معلمي اليهود وقت التعليم (متّى ٥: ١، ٢ و٢٦: ٥٥ ومرقس ٩: ٣٥ ولوقا ٤: ٢٠ و٥: ٣ وأعمال ١٦: ١٣)، ولم يُذكر هنا موضوع تعليم يسوع، والأرجح أنه تحدث عن حقيقة ملكوته وتعليم الكتاب المقدس في شأن المسيح الموعود به.

٣ «وَقَدَّمَ إِلَيْهِ الكَتَبَةُ وَالفَرِّيسِيُّونَ امْرَأَةً أُمْسِكَتْ فِي زِناً. وَلَمَّا أَقَامُوهَا فِي الوَسَطِ».

الكَتَبَةُ لم يذكرهم هذا البشير في إنجيله سوى هذه المرة. وكانوا حفظة الأسفار الإلهية ومفسريها، وحُسبوا علماء الأمة، وكانوا في سمو المقام والسلطة. وأبغضوا يسوع كل البغض فاتفقوا مع الفريسيين عليه. ويشير يوحنا إلى كل أعدائه «باليهود».

امْرَأَةً أُمْسِكَتْ فِي زِناً قدموا هذه المرأة ليسوع ليوقعوه في ما يشتكون به عليه، وظنوا يسوع يُسرّ بأن يحكم في مثل هذا الأمر ليثبت دعواه أنه المسيح، وأن له حقاً أن يقضي ويدين. وتوهموا أنهم يستطيعون تملقه بطلبهم نصيحته فيخدعونه ويصطادونه.

أَقَامُوهَا فِي الوَسَطِ أتوا بها إلى حيث كان يسوع يعلّم، ثم أحاطوا به هم وأتباعهم.

٤ «قَالُوا لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، هَذِهِ المَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ الفِعْل».

يَا مُعَلِّمُ هذا من الألقاب العظيمة عند اليهود، ولم يلقبه أولئك العلماء به إكراماً بل خبثاً وخداعاً ليأنس بهم ويُصاد بسهولة.

٥ «وَمُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟».

لاويين ٢٠: ١٠ وتثنية ٢٢: ٢٢

مُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ تُرْجَمُ حكمت الشريعة على الزاني والزانية بالقتل (لاويين ٢٠: ١٠ وتثنية ٢٢: ٢٢) ولم تعيِّن نوع القتل. وحكم اليهود في عصر المسيح أن يكون بالرجم، وفي أيام حزقيال النبي بالرجم والقطع بالسيف معاً (حزقيال ١٦: ٣٨، ٤٠) ولكن إذا كانت الزانية بنت كاهن أُحرقت (لاويين ٢١: ٩).

فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ ادعوا أنه ألغى الوصية الرابعة فسألوه حكمه بمقتضى السابعة.

٦ «قَالُوا هَذَا لِيُجَرِّبُوهُ، لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَانْحَنَى إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ بِإِصْبِعِهِ عَلَى الأَرْضِ».

لِيُجَرِّبُوهُ، لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ كما فعلوا بعدئذ في أمر إعطاء الجزية لقيصر (متّى ٢٢: ١٧، ١٨). وظنوا أنهم يوقعونه في مخالفة الشريعة اليهودية مهما كان حكمه، فإن حكم بقتل الزانية بمقتضى شريعة موسى شكوه إلى الرومان بأنه اختلس حقوقهم وتصرَّف تصرُّف ملك، لأن سلطان الحكم بالموت لم يكن لأحدٍ من اليهود وقتئذ (يوحنا ١٨: ٣١). ولم يكن القتل عقاب الزانية حسب شريعة الرومان. فلو حكم بقتلها خالف شريعتهم. وإن حكم بإطلاقها شكوه إلى الشعب بأنه خالف شريعة موسى والشريعة الأخلاقية، فتكون دعواه بأنه المسيح باطلة.

فَانْحَنَى إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ بِإِصْبِعِهِ عَلَى الأَرْضِ على الغبار الذي يغشي بلاط الهيكل. ومن أتى مثل ما أتاه يسوع أتى ذلك ما اتفاقاً لانشغال باله بأمر من الأمور، وأما قصداً لبيان عدم الاكتراث بالسائلين وعدم إرادته الإجابة. وقصد المسيح هنا بما فعله بيان أنه لم يُرد أن يقوم مقام القاضي ليحكم بذنب تلك المرأة أو ببراءتها، أو نوع عقابها إن كانت مذنبة. فعمله هنا يكون كقوله في موضع آخر «يَا إِنْسَانُ، مَنْ أَقَامَنِي عَلَيْكُمَا قَاضِياً أَوْ مُقَسِّماً؟» (لوقا ١٢: ١٤). وأشار أيضاً إلى أنه علم مكرهم، وأنهم لم يسألوه بغية الفائدة، وأنه لا يحترم وجودهم ولا سؤالهم.

٧ «وَلَمَّا اسْتَمَرُّوا يَسْأَلُونَهُ، انْتَصَبَ وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلا خَطِيَّةٍ فَليَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ!».

تثنية ١٧: ٧ ورومية ٢: ١

وَلَمَّا اسْتَمَرُّوا يَسْأَلُونَهُ لم يُرد الكتبة والفريسيون أن يحسبوا سكوت المسيح وعمله دليلاً على رفضه أن يقوم مقام القاضي، بل قصدوا أن يجبروه على الجواب بإلحاحهم.

بِلا خَطِيَّةٍ تدل القرينة على أنه قصد بالخطية الزنا وما شابهه من مضادات العفّة (لوقا ٧: ٣٧).

فَليَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ أشار بذلك إلى أمر الشريعة بأن يبدأ الشهود برجم المذنب (تثنية ١٧: ٧). ومعنى قوله «إني لا أحكم في هذه القضية، فإن كنتم قد تحققتم إثم المرأة كما ادعيتم فأنتم تعلمون ما هو عقابها بمقتضى شريعة موسى، وتعلمون ما تحكم به في شأن الشهود من أنهم هم الذين يبدأون الرجم. فإن كنتم غيورين للشريعة وجب أن تقوموا بما تطلبه. فإذاً حكمي الذي تطلبونه هو أن البريء منكم فكراً أو قولاً أو فعلاً يجب أن يبدأ في رجمها». وحوّل أفكارهم بما قاله عن خطيتها إلى خطاياهم، وأمرهم أن يدينوا أنفسهم أولاً ثم يدينونها. وبهذا الجواب أبكم مجربيه بدون أن يبرر المرأة أو يدينها، وأكرم شريعة موسى باعتبار أنها عادلة لائقة.

ولا يلزم من كلام المسيح أنه ليس للقضاة الشرعيين حق أن يدينوا المذنبين ما لم يكونوا أبرياء من خطايا أولئك، إنما كلامه مقصور على الذين أقاموا أنفسهم مشتكين وقضاة.

٨ «ثُمَّ انْحَنَى أَيْضاً إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ عَلَى الأَرْضِ».

قصد المسيح بهذا أنه لا جواب غير ما ذُكر. فهم كانوا قد أشاروا إلى ما كُتب في شريعة موسى بياناً أنه يجب تطبيقها، وأما هو فأشار إلى الشريعة المكتوبة على صفحات ضمائرهم بإصبع الله، وتركهم يدينون أنفسهم بها، ويدينون المرأة كذلك إن شاءوا.

٩ «وَأَمَّا هُمْ فَلَمَّا سَمِعُوا وَكَانَتْ ضَمَائِرُهُمْ تُبَكِّتُهُمْ، خَرَجُوا وَاحِداً فَوَاحِداً، مُبْتَدِئِينَ مِنَ الشُّيُوخِ إِلَى الآخِرِينَ. وَبَقِيَ يَسُوعُ وَحْدَهُ وَالمَرْأَةُ وَاقِفَةٌ فِي الوَسَطِ».

رومية ٢: ٢٢

ما قيل في هذه الآية يظهر قوة الضمير على تبكيت الإنسان على الإثم. وواضح أن ضمائر أولئك الناس شهدت عليهم بأنهم ليسوا أبرياء، وتبيّن لهم أنهم ليسوا أهلاً لأن يكونوا قضاة على تلك المرأة ومعاقبين لها. ولا شك أن المسيح أيقظ ضمائرهم ليحكموا على نفوسهم. فجرى عليهم مثل ما جرى على الجنود الذين ذهبوا ليمسكوا يسوع «رَجَعُوا إِلَى الوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى الأَرْض» حين قال لهم «إِنِّي أَنَا هُوَ» (يوحنا ١٨: ٦).

خَرَجُوا صار الشاكون مشكوين، وانزعجوا من حضور المسيح لأنه عرف أفكارهم وأعمالهم، وخجلوا من الجمع المشاهد لهم إذ عرف بعدم استقامتهم، فلم يجدوا ملجأً سوى الانصراف. ومن دواعي انصرافهم أن مؤامرتهم كانت عبثاً ولم يبق لهم غرضٌ من بقائهم.

مُبْتَدِئِينَ مِنَ الشُّيُوخِ إِلَى الآخِرِينَ جرياً على عادة سبق الكبير للصغير. والمرجح أن إتيانهم كان كذلك. ولا يلزم من ذلك أن خطايا الكبار كانت أكبر من خطايا الصغار، ولا أن توبيخات ضمائرهم أشد ورغبتهم في التخلّص من نظر المسيح أوفر.

وَبَقِيَ يَسُوعُ وَحْدَهُ أي لم يبق أحد من المشتكين من الكتبة والفريسيين، لكن بقي التلاميذ وبعض الجمع الذين كانوا يسمعون تعليمه قبل مجيء أولئك.

وَالمَرْأَةُ وَاقِفَةٌ فِي الوَسَطِ أي وسط التلاميذ والجمع المذكور في عدد ٢. لو قصد الكتبة والفريسيون أن تحاكم المرأة بالعدل لكانوا أخذوها وقتئذ إلى المعيّنين للحكم، ولكن إذ لم يكن مقصدهم ذلك تركوها.

١٠ «فَلَمَّا انْتَصَبَ يَسُوعُ وَلَمْ يَنْظُرْ أَحَداً سِوَى المَرْأَةِ، قَالَ لَهَا: يَا امْرَأَةُ، أَيْنَ هُمْ أُولَئِكَ المُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟».

فَلَمَّا انْتَصَبَ يَسُوعُ أي بعد ما شغل دقائق منحنياً.

لَمْ يَنْظُرْ أَحَداً من الذين أتوا بها.

أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ قال هذا ليسمع الحاضرون من الجمع لكي لا يلوموه بعد.

١١ «فَقَالَتْ: لا أَحَدَ يَا سَيِّدُ. فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: ولا أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي ولا تُخْطِئِي أَيْضاً».

لوقا ٩: ٥٦ و١٢: ١٤ ويوحنا ٣: ١٧ ويوحنا ٥: ١٤

فَقَالَتْ لا أَحَدَ لم تجبه بغير هذا على سؤاله، وليس فيه شيء من طلب رحمة ولا تقديم عذر. ولم تُظهر شيئاً مما كان في ضميرها. ولكن المسيح عرف أفكارها وعاملها بمقتضى حكمته وشفقته على الخطاة. وإذ لم يبق مشتكٍ ولا شهود ولا إثبات، لم يكن هناك ما يدعو للحكم عليها، فسقطت الدعوى من تلقاء نفسها.

ولا أَنَا أَدِينُكِ عرض المسيح على المشتكين أن يرموها بالحجارة إن كانوا أبرياء فيدينونها بذلك فعلاً فلم يريدوا، وهو لم يرد أن يدينها بالموت. فمعنى قوله للمرأة كمعنى سكوته قبلاً عن جواب الفريسيين، وكقوله لبيلاطس «ملكوتي ليس من هذا العالم» (لوقا ١٢: ١٥). أي أنه لم يرد أن يمارس وظيفة القاضي والملك في الأمور الأرضية.

ولم يبررها المسيح بما ذُكر، بدليل قوله «لا تخطئي أبداً». ولم يقل إنها لا تستحق العقاب على إثمها، إنما أبان أنه لا يريد أن يحكم بما تستحقه من قصاص.

وكلامه لهذه الخاطئة ليس ككلامه لواحدة مثلها أظهرت علامات التوبة، فقال لها «مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ.. اِذْهَبِي بِسلامٍ» (لوقا ٧: ٤٨، ٥٠). وأما هذه فلم يقل لها ذلك لأنها لم تظهر علامة التوبة. ولكن في كلامه إشارة إلى أنها تقدر أن تنال المغفرة إذا تابت، لأنه لم يقل لها «لا تزني بعد لكيلا يدينك إنسان» بل قال «لا تخطئي لتنالي الرحمة من الله». ولعل كلمات المسيح أثرت فيها أكثر من كل شكاوى الفريسيين وتهديداتهم.

ولم يرد لهذه المرأة ذكر بعد ذلك، ولا نعلم أسمعت من المسيح واستفادت أم لا؟ فقد غابت عن أبصارنا كما غاب الفريسيون عنها منذ «خرجوا واحداً فواحداً». ورجاء الخلاص لتلك الخاطئة طوعاً لأمر المسيح ليس بأقوى من رجاء الخلاص لأولئك المرائين.

أظهر يسوع حكمة عظيمة بأنه لم يقع في الحفرة التي أخفاها له أعداؤه مكراً وبغضاً، وبإكرامه شريعة موسى، وبأنه لم يدن المرأة بموجبها، وبإفحام خصومه وإيقاظ ضمائرهم وإجبارهم على أن يغادروا المكان في خجل، وتوبيخه على الخطايا الخفية والظاهرة المضادة للعفاف، وإعلان كراهيته للإثم الذي ارتكبته المرأة، وأمره بحياة التقوى. ونتعلم من هذا أنه يجب علينا أن ندين أنفسنا أكثر مما ندين غيرنا. وأن نجتهد في حفظ أنفسنا من الخطية أكثر مما نجتهد لنرفع حجراً نرجم به غيرنا.

يسوع نور العالم (يوحنا ٨: ٢ – ٢٠)

١٢ «ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً قَائِلاً: أَنَا هُوَ نُورُ العَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فلا يَمْشِي فِي الظُّلمَةِ بَل يَكُونُ لَهُ نُورُ الحَيَاة».

يوحنا ١: ٤، ٥، ٩ و٣: ١٩ و٩: ٥ و١٢: ٣٥، ٣٦، ٤٦

ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً نستنتج من ذلك أن وعظ يسوع كان في وقت غير وقت الحادثة المذكورة (في ع ١ – ٧) لأنه في تلك كان الفريسيون قد انصرفوا، وفي هذه كانوا حاضرين (ع ١٣). ولعل الحادثتين كانتا في وقتين مختلفين من يوم واحد.

قال بعضهم (ولعله أصاب) إن كلام المسيح هنا مبني على بعض المناظر التي كانت في عيد المظال، كما قلنا إن قوله «إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب» مبنيّ على سكب الماء في الهيكل نظراً للصخرة التي خرج منها الماء لبني إسرائيل في البرية. فكلامه عن النور مبني على عادتهم أن يوقدوا في دار الهيكل مصابيح كبيرة من ذهب على أربع منارات غير المنارة التي في قدس الأقداس، وكان علو كل واحدة منها نحو ١٥ متراً لتنشر ضوءها على كل المدينة. وكان الناس يرقصون مسرة في دور الهيكل ويترنمون بالأغاني الروحية ويعزفونها على آلات الطرب تذكاراً لعمود النار الذي كان يتقدم بني إسرائيل في البرية. ويقوّي هذا الظن أن يسوع قال هذا وهو واقف في خزانة الهيكل (ع ٢٠). وكانت الخزانة في دار النساء في المكان الذي كانت فيه المنارات الأربع تضيء في ليالي العيد.

أَنَا هُوَ نُورُ العَالَمِ انظر الشرح في يوحنا ١: ٤، ٩. «العالم» هنا كل نسل آدم، والمسيح هو نوره الحق، لأنه كان منذ بدء العالم معلّم البشر ومرشدهم إلى السماء. وكان في وقت خطابه يضيء بنوره في الهيكل وهو يعلم حقائق الحياة الأبدية، وكان على وشك أن يضيء بنوره ليس في الهيكل فقط ولا في أورشليم ولا في اليهودية، بل في العالم كله. أعلن يسوع نفسه لليهود بهذا التشبيه أنه هو المسيح الموعود به، فقد تنبأ أنبياء التوراة بصفته هذه (إشعياء ٩: ٢ و٤٣: ٦ و٤٩: ٦ وملاخي ٤: ٢). فكما كان عمود النار لبني إسرائيل زمان غربتهم في البرية، صار المسيح كذلك لشعبه، ويكون لهم كذلك إلى الأبد.

طلب اليهود منقذاً لأمتهم زمنياً، وقدَّم يسوع نفسه مرشداً روحياً لكل الأمم في هذا العالم إلى العالم السماوي.

مَنْ يَتْبَعْنِي أي كل من يؤمن أني المسيح. وليس ذلك فقط بل يتمثل بي ويطيعني دائماً. فالاتباع ليس مرة واحدة، بل هو استمرار الإنسان في كل حياته على ما ذُكر. فكما أن المسيح نورٌ لا ينطفئ أبداً، كذلك يجب أن يتبعه المؤمن بلا انقطاع. وهذا الاتباع هو الشرط للتمتع بفوائد ذلك النور.

بَل يَكُونُ لَهُ نُورُ الحَيَاةِ أي النور الذي يقود إلى الحياة الأبدية. قال قبلاً إنه هو «ماء الحياة» «وخبز الحياة» وهنا قال إنه «نور العالم». فالمؤمن بالمسيح يتخذه كذلك، ويعرف به طريق الحياة، فيحفظه حضور المسيح في قلبه من الخطية، وينقذه من الهلاك، ويقوده إلى سُبُل القداسة والسعادة (يوحنا ١٢: ٤٦). وهذه الآية ليست مجرد خبر، بل هي وعد أيضاً، وهو أن الذي لا يتكل على حكمة نفسه أو إرشاد غيره من البشر بل ينظر إلى المسيح، يقوده المسيح بكلامه وروحه فينجو من الضلال.

١٣ «فَقَالَ لَهُ الفَرِّيسِيُّونَ: أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقّاً».

يوحنا ٥: ٣١

انظر شرح يوحنا ٥: ٣١. تطلب الشريعة شاهدين لإثبات القضية، فلهذا رفض الفريسيون أن يسلموا بقوله لمجرد شهادته لنفسه، وأمكنهم أن يقوّوا اعتراضهم بقول المسيح قبلاً «إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقّاً» (يوحنا ٥: ٣١).

شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقّاً أي لا تُقبل شرعاً لأنها بلا دليل.

١٤ «أَجَابَ يَسُوعُ: وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ، لأنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فلا تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ آتِي ولا إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ».

يوحنا ٧: ٢٨ و٩: ٢٩

لا تناقض في ما قاله هنا مع قوله في يوحنا ٥: ٣١ لأنه لا يلزم أن الذي يُطلب مرة من الشهادة يُطلب دائماً، فالمرسَل الذي أثبت صحة إرساليته مرة لا يحتاج لأن يثبتها كلما تكلم عنها. فقوله السابق كان قبل أن أثبت دعواه بشهود، ثم أثبت دعوى أنه رسول الله بشهادة المعمدان وشهادة الآب له بالآيات التي صنعها على يده، وبالنبوات التي تمت فيه. فحقَّ له أن يطلب تصديق دعواه بمجرد قوله. ووضع نفسه أولاً موضع سائر الناس بالنظر إلى الشرع في الأمور الأرضية تنازلاً وتواضعاً. ولكن هنا كانت مقتضيات الحال غير ما كانت سابقاً، لأن دعواه هنا ليست مما يقبل شهادة الغير لأنها مما يقيِّم هو نفسه به. فقوله «أنا هو نور العالم» متوقف على شعور نفسه بنفسه، فلا يستطيع أحد غيره أن يشعر به ليعرفه ويشهد به، ولذلك يُستثنى من قوله «إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقاً» ويبدله بقوله «إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق». ومع ذلك كله رضي أن يضع نفسه تحت ذلك القانون (ع ١٧، ١٨) بعد توبيخه إياهم على طلبهم أن يثبت دعواه.

لأنِّي أَعْلَمُ تطلب الشريعة شاهدين لأن واحداً بمفرده قد يخطئ أو يكذب لغرض من الأغراض. فشهادة المسيح ثابتة لأنها ليست شهادة إنسانية بل شهادة إلهية باعتباره الله، فهو لا يخطئ ولا يتكلم بالهوى.

مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ أي من عند الآب (يوحنا ١٦: ٢٨) وأتيت إلى هذا العالم لأتجسد فيه.

وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ أي السماء بواسطة الموت (يوحنا ٧: ٣٣) وهذا جواب لقولهم السابق «ولكن هذا نعلم من هو، وأما المسيح فمتى جاء لا يعرف أحد من أين هو». فكأنه قال: معرفتكم بي قاصرة على حياتي الجسدية الأرضية، وهي جزئية ناقصة. وأما حياتي الروحية فلا تستطيعون معرفتها إلا بشهادتي، وسلطاني الذي أخذته من الآب، والأوامر التي أوصاني بها.

١٥ «أَنْتُمْ حَسَبَ الجَسَدِ تَدِينُونَ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ أَدِينُ أَحَداً».

يوحنا ٧: ٢٤ ويوحنا ٣: ١٧ و١٢: ٤٧ و١٨: ٣٦

أَنْتُمْ حَسَبَ الجَسَدِ تَدِينُونَ أي بقولكم «أنت تشهد لنفسك. شهادتك ليست حقاً». تكلم في ما سبق عن الشهادة ولم يغيّر الموضوع هنا، إلا أنه بدل لفظة الشهادة بالدينونة بناءً على أنها غاية الشهادة ونتيجتها. ومعناه: إنكم تحسبونني كسائر الناس الذين يخطئون ويكذبون، لأنكم تنظرونني في هيئة إنسان وديعاً متواضعاً، ولا شيء من الظواهر يدل على أصلي السماوي. ولكن لو أصغيتم إلى كلامي وأدركتم معناه الروحي وحكمتم بمقتضاه لعرفتم أني المسيح نور العالم. فقوله هنا كقوله سابقاً «لا تحكموا حسب الظاهر بل احكموا حكماً عادلاً». ودانوا حسب الجسد بثلاث طرق: (١) النظر إلى المسيح كمجرد إنسان. (٢) حكمهم عليه بأفكار وآراء جسدية لظنهم وجوب أن يكون المسيح ملكاً أرضياً. (٣) إرادتهم أن يحكموا في دعواه بمقتضى القوانين الجسدية المعتادة، كطلب شاهدين الخ. وأخطأوا بالطرق الثلاث كالذين حكموا على المسيح أنه يستحق الصلب مع أن الله حكم بأنه يستحق المجد.

أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ أَدِينُ أَحَداً انظر شرح يوحنا ٣: ١٧. ويحتمل قوله هنا ثلاثة معان: (١) أنه لا يدين أحداً إلا مع الآب (ع ١٦). (٢) أنه لا يدين الآن كما يدين في مجيئه الثاني، فإنه جاء أولاً فادياً دياناً وسيأتي أخيراً دياناً لا فادياً. (٣) أنه لا يدين كما هم يدينون بالجهل والقساوة والظلم والهوى.

١٦ «وَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَدِينُ فَدَيْنُونَتِي حَقٌّ، لأنِّي لَسْتُ وَحْدِي، بَل أَنَا وَالآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي».

ع ٢٩ ويوحنا ١٦: ٣٢

وَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَدِينُ بيّن سابقاً أنه لم يُرسَل ليدين (يوحنا ٣: ١٧) وصرح هنا بأنه اضطُر أن يدين الذين رفضوا أن يقبلوا خلاصه، كما دان الفريسيين في متّى ٢٣. وكانت دينونته حقاً وصحيحة لأنها ليست كدينونتهم، ولأنه إله لا مجرد إنسان، فلا يخاف ولا يخطئ ولا يظلم.

لأنِّي لَسْتُ وَحْدِي انظر شرح يوحنا ٥: ٣٠. أظهر هنا أن كل أعماله في الدينونة موافقة لإرادة الآب وحقه ومقاصده، فلا يمكنهم أن ينكروا صحة حكم الله، ولذلك لا يستطيعون أن ينكروا صحة حكم يسوع لتلك الموافقة.

بَل أَنَا وَالآبُ الخ أي أن ما يفعله الآب يفعله بي لأني كلمته.

١٧ «وَأَيْضاً فِي نَامُوسِكُمْ مَكْتُوبٌ: أَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ حَقٌّ».

تثنية ١٧: ٦ و١٩: ١٥ ومتّى ١٨: ١٦ و٢كورنثوس ١٣: ١ وعبرانيين ١٠: ٢٨

نَامُوسِكُمْ نسب الناموس إليهم لأنهم ادعوا أنهم مفسرون، واستشهدوا على يسوع ليبينوا أنه مذنب وليشتكوا عليه بأنه مخالف له، مع أنه خضع لناموسهم طوعاً واختياراً، بينما هم مكلفون به ومجبرون عليه، ولذلك لم يقل «ناموسنا» دون أن يقصد بذلك إبطال الناموس أو نقضه (متّى ٥: ١٧).

شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ حَقٌّ تثنية ١٧: ٦ و١٩: ١٥ معنى الحق هنا الأمر المثبت بمقتضى مطالب الشرع.

١٨ «أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي، وَيَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي».

يوحنا ٥: ٣٧

هذا جواب لقول الفريسيين «أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقّاً» (ع ١٣). فالمسيح بعد أن بيّن عدم اضطراره إلى الشهود كالناس، وأن شهادته لنفسه حق وكافية، شاء أن يتنازل إلى إثبات دعواه بالشهود كما يفعل الخطاة الذين هم عُرضة للخطأ، وذلك كما فعل يوم معموديته إذ قال للمعمدان «اسْمَحِ الآنَ، لأنَّهُ هَكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرٍّ» (متّى ٣: ١٥) وكما فعل لبطرس في أمر جزية الهيكل (متّى ١٧: ٢٧).

أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي قال إنه «نور العالم» وشهدت بذلك سيرته وتعليمه. والشمس لا تحتاج إلى دليل على وجودها لأن ضوءها يشهد لها.

وَيَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي أخطأ اليهود بظنهم قول المسيح شهادة شاهدٍ واحدٍ بشريٍ، والحق أن الله هو الذي كان يتكلم بفمه، وكان يجب عليهم أن يروا لاهوته تحت حجاب ناسوته، وأنه نائب عن الآب في كل أعماله.

١٩ «فَقَالُوا لَهُ: أَيْنَ هُوَ أَبُوكَ؟ أَجَابَ يَسُوعُ: لَسْتُمْ تَعْرِفُونَنِي أَنَا ولا أَبِي. لَوْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً».

ع ٥٥ ويوحنا ٦: ٣ ويوحنا ١٤: ٧

أَيْنَ هُوَ أَبُوكَ؟ هذا ليس نتيجة الشك، لأن المسيح أوضح لهم مراراً أن الله أبوه، إنما هو استهزاء به وإنكار لدعواه، فكأنهم قالوا: أهذا شاهدك؟ أين هو؟ دعه يأتي ليشهد!

لَسْتُمْ تَعْرِفُونَنِي أَنَا ولا أَبِي أي يدل سؤالكم على جهلكم إيانا، وعدم إرادتكم أن تعرفونا، وعلى جهلكم عماكم الروحي، وإلا لما سألتم ذلك وأنا أمامكم. نعم إن رؤية الله بالمسيح بعين الجسد من المحال، إنما يرى ذلك بعين الإيمان وفقاً لقول المسيح «أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ» (يوحنا ١٤: ١٠).

لَوْ عَرَفْتُمُونِي الخ جهل أحد الأقنومين يتضمن جهل الآخر، فعدم معرفة المسيح يستلزم عدم معرفة الآب الذي أعلنه المسيح. وعدم معرفة الله الحقيقية تمنع معرفة الابن. وعلة عدم معرفتهم الأمرين هو عدم إرادتهم الوقوف على البراهين والأدلة على ذلك، لا نقصان تلك البراهين وضعف الأدلة.

٢٠ «هَذَا الكلامُ قَالَهُ يَسُوعُ فِي الخِزَانَةِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الهَيْكَلِ. وَلَمْ يُمْسِكْهُ أَحَدٌ، لأنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ».

مرقس ١٢: ٤١ ويوحنا ٧: ٨ ، ٣٠

لشدة أهمية قول المسيح «أنا هو نور العالم» عند يوحنا وتأثيره فيه، ذكر بعد نحو خمسين سنة المكان الذي قاله فيه.

فِي الخِزَانَةِ انظر شرح مرقس ١٢: ١٤. كانت الخزانة في أحد أطراف دار النساء، قرب المحكمة الكبيرة التي كان يجتمع فيها أعضاء مجلس السبعين. فإن كانوا مجتمعين حينئذ أمكنهم أن يسمعوا كلامه. وكانت في تلك الدار المنارات التي ذُكرت في شرح ع ١٢.

فِي الهَيْكَلِ أي في إحدى دوره. فإذاً اختار أنسب مكان في المدينة ليخاطب الجموع.

وَلَمْ يُمْسِكْهُ أَحَدٌ مع أنه في وسط أعدائه وفي بيتهم وتحت سلطانهم. والذي منعهم من ذلك هيبته، وخوف محاماة الشعب عنه، وقوته الإلهية لأن ساعته لم تكن قد أتت، أي الوقت الذي عيَّنه الله لموته فداء.

مخاطبة يسوع لليهود عن نفسه وإرساليته (ع ٢١ – ٥٩)

٢١ «قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: أَنَا أَمْضِي وَسَتَطْلُبُونَنِي، وَتَمُوتُونَ فِي خَطِيَّتِكُمْ. حَيْثُ أَمْضِي أَنَا لا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا».

يوحنا ٧: ٣٤ و١٣: ٣٣ ع ٢٤

قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً في وقت آخر، والأرجح أنه لم يكن بعيداً عما ذُكر آنفاً. وكان السامعون من كل صنوف أعدائه لا فرقة واحدة منهم، بدليل تسمية يوحنا إياهم يهوداً (ع ٢٢).

أَنَا أَمْضِي بتسليمي نفسي طوعاً واختياراً إلى الموت.

سَتَطْلُبُونَنِي لا بالتوبة والإيمان بل لشعوركم باحتياجكم إليَّ، وفوات فرصة الحصول عليّ، لأنكم رفضتم أني المسيح. ولا تجدون المسيح العالمي الذي تطلبونه لأنه لم يكن ولا يكون (راجع شرح يوحنا ٧: ٣٤).

وَتَمُوتُونَ فِي خَطِيَّتِكُمْ أي في حال الإثم التي أنتم فيها. هذا نتيجة رفضهم إياه لأنه أتى ليخلصهم من خطاياهم فرفضوا واسطة نجاتهم الوحيدة، فبقوا بلا توبة ولا مغفرة ولا تبرير. ولا إشارة هنا إلى خراب أورشليم بل إلى هلاكهم الروحي. ويتبيّن مما قيل هنا أن الموت لا يفصل بين الخطاة وخطيتهم، فإنهم يموتون فيها جسداً، ويقومون فيها، ويقفون قدام الله يوم الدين وهم فيها، ويُعاقَبون عليها في جهنم بالموت الثاني الذي هو المقصود هنا خاصة. ويتبيّن منه أيضاً أن عدم معرفة المسيح والموت في الخطية شيء واحد.

حَيْثُ أَمْضِي أَنَا لا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا هذا كما في يوحنا ٧: ٣٤ و١٣: ٣٣. فإن المسيح كان ماضياً إلى الله وإلى السماء محل القداسة والنور والسعادة. وعجزهم عن الذهاب إلى هناك هو عدم سماح الله به لهم، لأنه ثواب المؤمنين، ولأنهم هم لا يستحقونه لسوء صفاتهم، ولأن المسيح لا يساعدهم على ذلك، وهو وحده طريق الخلاص. وقول المسيح هنا ينفي كل توبة بعد الموت. وذُكر سبب مضي المسيح في يوحنا ١٤: ٣ و١٧: ٢٤.

٢٢ «فَقَالَ اليَهُودُ: أَلَعَلَّهُ يَقْتُلُ نَفْسَهُ حَتَّى يَقُولُ: حَيْثُ أَمْضِي أَنَا لا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا؟».

أَلَعَلَّهُ يَقْتُلُ نَفْسَهُ هذا تفسيرهم لقوله «حيث أمضي لا تقدرون أنتم أن تأتوا» فكأنهم قالوا له: إن كنت قصدت بذلك أن تمضي إلى دار الموتى فنحن لا نريد أن نأتي إليك هناك، ولا يعلم أحد وقت موته إلا من يقتل نفسه (وقد اعتقد اليهود أن قاتل نفسه يُعاقب في أشر مكان في جهنم، كما جاء في أقوال يوسيفوس المؤرخ اليهودي المشهور، وأن كل أولاد إبراهيم لا بد يذهبون إلى السماء). فإن كنا لا نجتمع بك في العالم الآتي فأنت تقصد قتل نفسك، وهو ما يؤدي بك إلى أشر أماكن جهنم وأبعده عن باقي بني إسرائيل. وهذا استهزاء بالمسيح، كما سبق أن فسروا كلامه بأنه يقصد الذهاب إلى شتات اليونانيين ليبشر الأمم (يوحنا ٧: ٣٥). وهو تجديف فظيع.

٢٣ «فَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ، أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنْ هَذَا العَالَمِ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هَذَا العَالَمِ».

يوحنا ٣: ٣١ ويوحنا ١٥: ١٩ و١٧: ١٦ و١يوحنا ٤: ٥

أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ… أَنْتُمْ مِنْ هَذَا العَالَمِ هاتان الجملتان بمعنىً واحد، والثانية تفسر الأولى. ومعنى «العالم» هنا حال الناس المنفصلين عن الله غير الخاضعين لمشيئته. وأشار المسيح بقوله «هذا العالم» إلى أنهم أرضيون أصلاً وطبعاً، مولودون من أرضيين ورثوا منهم طبيعة أرضية خاطئة، محتاجون أن يولدوا ثانية ليستطيعوا دخول ملكوت الله (يوحنا ٣: ٥، ٦) وأنهم باختيارهم قيدوا أنفسهم بما هو أرضي وفاسد، وسلَّموا بالمبادئ الشريرة المتسلطة على أهل هذه الأرض، وأنهم عرضة للهلاك مع أهل العالم.

أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ.. فَلَسْتُ مِنْ هَذَا العَالَمِ بيّن بهذا الفرق العظيم بينه وبينهم أصلاً وطبعاً وفكراً وفعلاً. وقد مرّ الكلام على مثل هذا في يوحنا ٣: ٣١. وما قاله المسيح في الفرق بينه وبين اليهود حينئذ يصدُق على الفرق بين المؤمنين به وغير المؤمنين الآن وإلى الأبد، لأنهم يختلفون في الطبيعة وهم أحياء، ويختلفون بعد الموت في الطبيعة والحال والمكان.

٢٤ «فَقُلتُ لَكُمْ إِنَّكُمْ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ، لأنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُم».

ع ٢١ مرقس ٦: ١٦

فَقُلتُ لَكُمْ قال ذلك في ع ٢١ وعلته ما قاله في ع ٢٣ وهو أنهم دنيويّون فاسدون متمسكون بخطاياهم، ولم يتمسكوا بالمسيح لينجوا من الهلاك وينالوا الحياة.

إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا الإيمان بالمسيح هو الواسطة الوحيدة للخلاص فباب السماء لا يزال مفتوحاً لهم بالمسيح.

أَنِّي أَنَا هُو صرح المسيح بهذا أنه هو الله، فهذا معنى «أنا هو» عند اليهود من يوم ظهور الله لموسى ولهم في مصر، إذ قال له «هَكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَهْيَهْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ» (خروج ٣: ١٤). وقال في نبوة إشعياء «لِكَيْ تَعْرِفُوا وَتُؤْمِنُوا بِي وَتَفْهَمُوا أَنِّي أَنَا هُوَ» (إشعياء ٤٣: ١٠). وجاء بهذا المعنى في ع ٢٨، ٥٨. ومعنى العبارة أن يسوع هو المسيح الإله المتجسد، الحي من الأزل، وواهب الحياة للمؤمنين به.

٢٥ «فَقَالُوا لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَنَا مِنَ البَدْءِ مَا أُكَلِّمُكُمْ أَيْضاً بِهِ».

مَنْ أَنْتَ؟ قصدوا بهذا الاستهزاء بدعواه وتوقعوا أن جوابه يمكِّنهم من الشكوى عليه إلى المجلس أنه مجدف، ولهذا لم يقل لهم صريحاً: أنا المسيح، لكنه ذكر ما يفيد ذلك.

أَنَا مِنَ البَدْءِ مَا أُكَلِّمُكُمْ أَيْضاً بِهِ اختلف المفسرون في معنى هذه الجملة، فرأى بعضهم إن معنى «البدء» هنا أول خدمته، فيكون معناها: أنا أشهد لنفسي الآن كما شهدت لها منذ أول تبشيري، فلا غيَّرتها ولا زدتُ عليها، فلم تبق لكم حاجة إلى أن تسألوني ما سألتم، إنما عليكم أن تذكروا ما أوضحته لكم دائماً. ورأى البعض الآخر أن معنى «البدء» هنا الأزل (يوحنا ١: ١). وعلى هذا يكون معناها: أنا منذ الأزل ما صرحتُ به الآن أني «أنا هو». ورأى غيرهم أن معنى «البدء» هنا التمام، فيكون معناها: أوضحتُ لكم الحق تماماً من أول الأمر إلى آخره، فافحصوا شهادتي لنفسي تعلموا من أنا. وأشار بذلك إلى قوله إنه «الماء الحي» وإنه «خبز الحياة» الذي نزل من السماء وإنه «نور العالم». والأرجح أن التفسير الأول هو الصحيح.

٢٦ «إِنَّ لِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةً أَتَكَلَّمُ وَأَحْكُمُ بِهَا مِنْ نَحْوِكُمْ، لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ. وَأَنَا مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ فَهَذَا أَقُولُهُ لِلعَالَمِ».

يوحنا ٧: ٢٨ ويوحنا ٣: ٣٢ و١٥: ١٥

إِنَّ لِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةً أَتَكَلَّمُ علاوة على ما قتله إنكم «من أسفل» و «تموتون في خطاياكم» و «حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا» وجواباً على إهانتكم إيّاي ومقاومتكم لي.

وَأَحْكُمُ بِهَا مِنْ نَحْوِكُمْ فوق ما حكمتُ به قبلاً. ومن تلك الأشياء في ع ٣٤، ٣٧، ٤٠، ٤١، ٤٣، ٤٤.

لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ أي الله الذي هو الإله الحق أرسلني، فتعليمي منه، فلا بد أنه صادق مهما قلتم عليه.

وَأَنَا مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ فَهَذَا أَقُولُهُ لِلعَالَمِ علانية ليعلمه كل إنسان. معنى قوله «ما سمعتم منه» ما أوصاني أن أتكلم به في شأن طريق النجاة من جهنم، ونوال الحياة الأبدية، وما وبختكم به على خطاياكم. وقول المسيح هنا كقوله في يوحنا ٥: ٣٠. وتكلم المسيح هنا باعتبار أنه رسول الله إلى البشر فادياً ومخلصاً لا باعتباره ابن الله الأزلي الذي يعرف كل شيء من تلقاء نفسه، ولا يحتاج إلى أن يخبره الآب بشيء.

٢٧ «وَلَمْ يَفْهَمُوا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ عَنِ الآبِ».

لم يفهموا من قوله «الذي أرسلني» أن الآب أرسله. ولو شاءوا أن يفهموا لفهموا، فسبب جهلهم أنهم رفضوا أن يؤمنوا به.

٢٨ «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ، فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ، وَلَسْتُ أَفْعَلُ شَيْئاً مِنْ نَفْسِي، بَل أَتَكَلَّمُ بِهَذَا كَمَا عَلَّمَنِي أَبِي».

يوحنا ٣: ١٤ و١٢: ٣٢ ورومية ١: ٤ ويوحنا ٥: ١٩، ٣٠ ويوحنا ٣: ١١

فَقَالَ لأنهم لم يفهموا كرر لهم ما قاله قبلاً وزاد عليه.

مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ أشار بذلك إلى صلبه (يوحنا ١٢: ٣٢. انظر شرح يوحنا ٣: ١٤) وأنهم هم الذين يصلبونه. ومرَّ الكلام على ابن الإنسان في شرح يوحنا ١: ٥١.

تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ تنبأ يسوع أنهم سيعرفون بعد صلبه أنه هو المسيح، وأنه لم يتكلم بمجرد سلطانه بل بسلطان الآب، ولم يتكلم إلا بما عيَّن الآب له. ووسائط معرفتهم إياه عند صلبه وبعده هي الظلمة، والزلزلة، وانشقاق حجاب الهيكل، وقيامته، وحلول الروح القدس، والمعجزات التي صنعها الرسل باسمه. وبعض الذين لم يعرفوه بهذه عرفوه يوم خراب أورشليم حين تحققت نبوته. وأما الذين لم يعرفوا بكل ذلك فلا بد سيعرفونه يوم مجيئه الثاني، لأنه «هُوَذَا يَأْتِي مَعَ السَّحَابِ، وَسَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ، وَالَّذِينَ طَعَنُوهُ، وَيَنُوحُ عَلَيْهِ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ» (رؤ١: ٧) ويحتمل قوله «تفهمون» أن يكون خطاباً للسامعين وقتئذ خاصة، أو للأمة اليهودية. والثاني هو الأرجح. والمقصود «بالفهم» هنا إما إدراك ما يقودهم إلى الإيمان به والخلاص، وإما علم ما ينتهي بهم إلى الندامة واليأس على انتهاء يوم الرحمة وفوات فرصة النعمة. ومعنى «أني أنا هو» أي أني المسيح على ما ذُكر في شرح ع ٢٤.

وَلَسْتُ أَفْعَلُ شَيْئاً مِنْ نَفْسِي أي أني رسول الله كما في يوحنا ٥: ١٩، ٣٠ وأنه متحد بالآب في كل ما قال وفعل.

كَمَا عَلَّمَنِي أَبِي قارن هذا بما في ع ٧، ١٦، ٢٦. أشار بذلك إلى الحقائق التي علَّمها منذ الأزل باعتباره كلمة الله الذي كان في البدء عنده، وأتى بها رسالة من الآب ليعلنها للناس متجسداً.

٢٩ «وَالَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ مَعِي، وَلَمْ يَتْرُكْنِي الآبُ وَحْدِي، لأنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ».

يوحنا ١٤: ١٠ و١: ١ ع ١٦ ويوحنا ٤: ٢٤ و٥: ٣٠ و٦: ٣٨

الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ مَعِي هذا تكرار لما صرّح به من الاتحاد التام بين الآب والابن، والاتفاق الكامل بينهما في الإرادة والقصد، وأن الابن هو من ينفذ قولاً وعملاً ما أراده الآب حتى سُرَّ به كل السرور. نعم إن الإرسال بين الناس يستلزم انفصال الرسول عن مرسِله، وليس كذلك بين الآب والابن بدليل قوله «الذي أرسلني هو معي».

وَلَمْ يَتْرُكْنِي الآبُ وَحْدِي ترك الناس يسوع ورفضوه (يوحنا ١٦: ٣٢). نعم إن الآب حجب وجهه عن المسيح وقتياً على الصليب، وكان ذلك لأنه حمل على الصليب لعنة الخطية عن البشر.

أَفْعَلُ باعتبار أني ابن الله متجسداً لأُجري على الأرض عمل الفداء. كانت طاعة المسيح للآب كاملة كما كان اتحاده به كاملاً.

مَا يُرْضِيهِ انظر متّى ٣: ١٧ وفي ٢: ٨، ويوافق ذلك ما قيل في إشعياء ٥٣: ١٠ – ١٢ ومتّى ١٧: ٥ ولوقا ٣: ٢٢ و٢بطرس ١: ١٧).

٣٠ «وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ بِهَذَا آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ».

يوحنا ٧: ٣١ و١٠: ٤٢ و١١: ٤٥

أراد يوحنا أن يبيّن أن بعض الناس آمنوا بيسوع، مع أن كثيرين قاوموه.

بِهَذَا أي بما ذُكر في هذا الخطاب كله، وليس فقط بما قاله في ع ٢٩.

آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ أي اقتنعوا بقوة كلماته كما اقتنع خدام الهيكل (يوحنا ٧: ٤٦). ولم يكن إيمانهم كاملاً ليؤول إلى خلاص النفس بل كان تصديقاً عقلياً جزئياً، فإنهم صدقوا أنه نبي أو معلم مرسل من الله، وأنه ربما كان المسيح الذي انتظروه. ويدل على ذلك قول المسيح لهم بعد ذلك.

٣١ «فَقَالَ يَسُوعُ لِليَهُودِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ: إِنَّكُمْ إِنْ ثَبَتُّمْ فِي كلامِي فَبِالحَقِيقَةِ تَكُونُونَ تلامِيذِي».

فَقَالَ يَسُوعُ لِليَهُودِ قصد يوحنا «باليهود» رؤساءهم، وأكثرهم أعداء للمسيح، وكان بعضهم قد مال إلى تصديق دعواه فوجَّه الكلام إليهم.

الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ ظهر مما يأتي أن إيمانهم كان جزئياً إلى حين وظاهراً لا باطناً.

إِنْ ثَبَتُّمْ جعل المسيح ثبوتهم شرطاً لتتلمذهم (انظر تفسير ذلك في شرح يوحنا ٥: ٣٨). والثبوت هو الفضيلة الوحيدة التي لا يُتصف به في الظاهر دون الباطن. ولا ثبوت حيث لا إيمان حقيقي أو تجديد قلب.

فِي كلامِي هذا متعلق بقوله «ثبتم» والمراد تمسكهم بتعليمه وسيرتهم بموجبه (يوحنا ١٤: ٢١ و١يوحنا ٢: ٤ و٣: ٢٤ و٢يوحنا ع ٦).

فَبِالحَقِيقَةِ تَكُونُونَ تلامِيذِي أشار بذلك إلى أنهم ليسوا كذلك، وأنهم لم يتبعوه إلا لتأثر وقتي بكلامه، وأنه يجب عليهم تقديم برهان أقوى على صحة إيمانهم لكي يوثق به، وذلك استمرارهم على حفظ كلامه وطاعته فهم كالذين ذُكروا في يوحنا ٢: ٢٣، ٢٤.

٣٢ «وَتَعْرِفُونَ الحَقَّ وَالحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ».

رومية ٦: ١٤، ١٨، ٢٢ و٨: ٢ ويعقوب ١: ٢٥ و٢: ١٢

تَعْرِفُونَ الحَقَّ أي تزيد معرفتكم بأبي، وبحقيقتي، وبعملي، وبملكوتي، وبإنجيلي، وبكل أمور ديني. وذلك كله نتيجة الثبوت فيّ. كانت معرفتهم قاصرة عن كل تلك الحقائق، أما الذي يثبت في المسيح فيعرف بالاختبار ما لم يتعلمه بالسمع أو بالمطالعة.

وَالحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ المقصود بالتحرير هنا الإنقاذ من العبودية الروحية أي من تسلط الشهوات الشريرة والأفكار الرديئة، ومن قوة الشيطان، ومن جرم الخطية وعاقبتها، ومن نير تعليم الفريسيين الثقيل أيضاً.

ويدل على كون الخاطئ عبداً للخطية ما جاء في رومية ٦: ١٦ – ٢٠ و٧: ٦ و٨: ١١. والإنسان لا يستطيع أن يدرك شر عبودية الخطية ما لم يعرف الحق. ومتى أدرك أنه مستعبد ينال قوة من فوق ليطرح ذلك النير عنه. وتتقدس النفس نتيجة تصديق الحق بدليل قول المسيح في صلاته «قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كلامُكَ هُوَ حَقٌّ» (يوحنا ١٧: ١٧). والحصول على الحرية الروحية هو في المسيح القائل «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ المُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (متّى ١١: ٢٨). ووفق قوله في مجمع الناصرة «لأُنَادِيَ لِلمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاقِ» كما تنبأ إشعياء (لوقا ٤: ١٨ وإشعياء ٤٢: ١).

انتظر اليهود أن المسيح الموعود به يحررهم من عبودية الرومان ولكن الحرية التي أتى بها المسيح أعظم من ذلك جداً. وتنال النفس الحرية الروحية حيت تكون أفكارها وإرادتها موافقة لأفكار الله وإرادته. وخدمة الله هي الحرية الحقيقية، وتسلط الشهوات على الإنسان هي العبودية الحقيقية وشر من كل عبودية.

٣٣ «أَجَابُوهُ: إِنَّنَا ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ نُسْتَعْبَدْ لأحَدٍ قَطُّ. كَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ: إِنَّكُمْ تَصِيرُونَ أَحْرَاراً؟».

لاويين ٥: ٤٢ ومتّى ٣: ٩ وع ٣٩

أَجَابُوهُ أي اليهود المؤمنون إيماناً غير قلبي (ع ٣١).

إِنَّنَا ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ نُسْتَعْبَدْ لأحَدٍ قَطُّ أي سلالة إبراهيم من إسحاق الوارث. وإبراهيم لم يكن عبداً، إذاً نحن لسنا عبيداً ولسنا أولاد إسماعيل ابن الجارية (غلاطية ٤: ٢١ – ٢٣). وأظهروا بهذا الكلام كبرياءهم التي استولت عليهم كما استولت على سائر اليهود بافتخارهم بنسبتهم الجسدية إلى إبراهيم. ووبخ المعمدان اليهود على ذلك بقوله «ولاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْرَاهِيمُ أَباً» (متّى ٣: ٩). والمفتخرون بذلك هنا أظهروا بكلامهم أنهم ليسوا تلاميذ المسيح بالحق. وكذبوا بقولهم «لم نُستعبد لأحد قط» مع أنهم استُعبدوا لمصر وبابل وأشور واليونان وخضعوا حينئذ للرومان. ومن العجب أنهم قالوا ذلك وجنود الرومان حولهم، وهم يؤدون الجزية لقيصر من العملة التي تحمل صورته وكتابته. نعم إن الرومان سلكوا سبيل الحكمة وتركوا لهم شبه الحرية في أمور دينهم، ولعل هذا سبب قولهم إنهم «لم يستعبدوا قط». ولعلهم أشاروا بذلك أنهم لم يسلّموا بتلك الحال اختياراً، وأنهم لا يعتبرون قياصرة الرومان ملوكهم الشرعيين، وأنهم مستعدون لخلع نيرهم عند أول فرصة.

كَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ الخ هذا يعرب عما في قلوبهم من الغيظ، كأنهم قالوا: إن قولك لا يصدق علينا.

٣٤ «أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلخَطِيَّةِ».

رومية ٦: ١٦ ، ٢٠ و٢بطرس ٢: ١٩

الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ هذا التكرار للتأكيد ولبيان أهمية ما بعده. بيّن المسيح أن قوله حق، وأنهم رفضوه بقولهم إنهم «لم يستعبدوا لأحد قط». وفسّر الحرية التي قصدها وأراد أن يمنحهم إياها ببيان العبودية التي هم فيها، وهي شر من عبودية ملوك الأرض، لأنها عبودية النفس للشهوات والخطية والشيطان.

مَنْ يَعْمَلُ الخَطِيَّةَ أي كل من يعتاد الخطية أو يمارسها من أولاد إبراهيم وغيرهم.

هُوَ عَبْدٌ لِلخَطِيَّةِ لأنه تحت سلطانها كالعبد تحت سلطان سيده، وقد سلّم إرادته للشيطان والشهوات، وهذه عبودية أشر من كل عبودية. وقوله «من يعمل الخطية هو عبد للخطية» مبدأ أخلاقي ذكره بولس في رومية ٦: ١٦ – ٢٠، وذكره بطرس في ٢بطرس ٢: ١٩. ونتيجة هذه الآية أن كل الخطاة عبيد باختيارهم. وأعمال الناس تبيّن إن كانوا أحراراً أم عبيداً، فالذين يسيرون في التقوى هم الأحرار، والذين يسيرون في الخطية هم عبيد. وعبيد الخطية لا يمكن أن يكونوا أولاد الله الأحرار.

٣٥ «وَالعَبْدُ لا يَبْقَى فِي البَيْتِ إِلَى الأَبَدِ، أَمَّا الابْنُ فَيَبْقَى إِلَى الأَبَد».

غلاطية ٤: ٣٠

ذكر المسيح في هذه الآية أمرين شرعيين معلومين:

العَبْدُ لا يَبْقَى فِي البَيْتِ إِلَى الأَبَدِ أي لا حقوق شرعية له في البيت، وبقاؤه في البيت من الأمور المشكوك فيها، لأن سيده يمكن أن يبيعه أو يطرده من بيته متى شاء، كما طرد إبراهيم هاجر وإسماعيل. ومعنى «البيت» هنا الأهل والمراد بقوله «إلى الأبد» مدة الحياة.

أَمَّا الابْنُ فَيَبْقَى إِلَى الأَبَدِ لأن له حقوقاً شرعية في البيت، فهو من دم السيد وورثته، فلا خوف من أن يُباع أو يُطرد منه (غلاطية ٤: ٢٨ – ٣١). فإذاً بين حال الابن وحال العبد فرق عظيم، فللأول كل الحقوق الشرعية في البيت، وليس للثاني حق فيه.

٣٦ «فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ فَبِالحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَاراً».

رومية ٨: ٢ وغلاطية ٤: ١٩ الخ و٥: ١

أظهر بما مر أن اليهود في حاجة إلى التحرير، وبيَّن هنا أنه أتى ليبشرهم بالحرية ويمنحهم إياها.

فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ قال في ع ٣٢ «الحق يحرركم» ومعنى القولين واحد لأن المسيح هو الحق وإنجيله كتاب الحق وجوهره الابن يسوع المسيح. وأعلن يسوع هنا أنه هو واهب الحرية ومتمم نبوة إشعياء القائل «الرَّبَّ مَسَحَنِي.. لأُنَادِيَ لِلمَسْبِيِّينَ بِالعِتْقِ، وَلِلمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاقِ» (إشعياء ٦١: ١).

طلب اليهود منقذاً لأجسادهم من نير الرومان، فقدم يسوع نفسه منقذاً لنفوسهم من نير الشيطان والإثم، لأنه يجعل المؤمنين به إخوة له وورثة معه وأعضاء أهل بيت الله، فهم أولاد الله (يوحنا ١٤: ١، ٣ وأفسس ٢: ١١ – ٢٢).

فَبِالحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَاراً هذا وفق قول الرسول «لأنَّ نَامُوسَ رُوحِ الحَيَاةِ فِي المَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ الخَطِيَّةِ وَالمَوْتِ» (رومية ٨: ٢). والمسيح حررنا من عقاب الخطية لأنه حمله عنا، ومن عبودية الخطية لأنه كتب شريعته على قلوبنا، وأعطانا سلطاناً أن نصير أولاد الله. وقال «فبالحقيقة» تمييزاً للحرية التي يمنحها عن الحرية التي ادَّعوها لأنفسهم، فدعواه صحيحة ودعواهم كاذبة، وحريته روحية وحريتهم سياسية.

ويحرر المسيح كل المؤمنين به من قيود الجهل والضلال والأوهام، ويعتقهم من سلطان الخطية وجرمها، ومن سلطة الشيطان. وهم متحدون مع الله بالمسيح، ولا يقدر أحد غير المسيح أن يمنحهم الحرية والبنوية.

والعلاقة بين قول اليهود «إننا ذرية إبراهيم» وكلام المسيح في ع ٣٥ و٣٦ هي ظن اليهود أنه لأنهم أولاد إبراهيم هم أحرار أبناء الله ساكنون في بيته وورثة الحياة الأبدية. وأبطل المسيح صحة حكمهم بقوله «لستم أولاد الله بل أنتم عبيد الخطية». فإذاً ليس لكم من حقوق بيت الله إلا الوقتية الخارجية كما للعبيد في بيت أسيادهم. نعم إنكم سلالة إبراهيم كابن الجارية الذي طُرد، لا كإسحاق الذي بقي. فأشير عليكم أن تقبلوا مني البنوة الحقيقية والحرية الصحيحة.

٣٧ «أَنَا عَالِمٌ أَنَّكُمْ ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ. لَكِنَّكُمْ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي لأنَّ كلامِي لا مَوْضِعَ لَهُ فِيكُمْ».

يوحنا ٧: ١٩ وع ٤٠

أَنَا عَالِمٌ أَنَّكُمْ ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ سلم المسيح بذلك بالمعنى الجسدي وأنكره بالمعنى الروحي، لأن طبيعتهم وأعمالهم ليستا كطبيعة إبراهيم وأعماله، فلم يكونوا مستحقين أن يسموا أولاده. وبيّن الاختلاف بينهم وبين إبراهيم في هذه الآية وآية ٣٩.

تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي (يوحنا ٥: ١٦ و٧: ٣٢). لم يصرح المسيح بأن الذين خاطبهم وخاطبوه في ع ٣٠، ٣١ هم الذين طلبوا قتله، إنما قصد بذلك رؤساء اليهود عامة لأنهم جعلوا أنفسهم في ع ٣٣ شركاء هؤلاء، وأنهم وإيّاهم جماعة واحدة. وأظهر بذلك ضعف إيمانهم، وأن الحق في قلوبهم كالزرع في أرض محجرة لا أصل لها (متّى ١٣: ٢١).

لأنَّ كلامِي لا مَوْضِعَ لَهُ فِيكُمْ هذا بمعنى قوله «إنكم إن ثبتم في كلامي» ع ٣١ بتغيير اللفظ. وقصد «بكلامه» تعليمه الإنجيلي، فإن تأثيره فيهم كان وقتياً ولم يصل إلى قلوبهم وتظهر ثمرته في سيرتهم، خلافاً لتأثير الخميرة التي وُضعت في ثلاثة أكيال الدقيق وخمرت العجين كله (متّى ١٣: ٣٣).

أخبرهم سابقاً أنهم إن ثبتوا في كلامه كانوا بالحقيقة تلاميذه. وأخبرهم هنا أنه لا موضع لكلامه فيهم، فإذاً هم ليسوا تلاميذه، لأن قلوبهم مملوءة أفكاراً دنيوية وأوهاماً فاسدة من جهته وجهة ملكوته، ولأنهم نفروا من تعليمه فأبغضوه لذلك التعليم وأرادوا قتله.

٣٨ «أَنَا أَتَكَلَّمُ بِمَا رَأَيْتُ عِنْدَ أَبِي، وَأَنْتُمْ تَعْمَلُونَ مَا رَأَيْتُمْ عِنْدَ أَبِيكُمْ».

يوحنا ٣: ٣٢ و٥: ١٩، ٣٠ و١٤: ١٠، ٢٤

أَنَا أَتَكَلَّمُ بِمَا رَأَيْتُ عِنْدَ أَبِي هذا كقوله في ع ٢٨. إن المسيح «كلمة الله» وعمله أن يخبر الناس بأمور الله التي رآها هو في مقامه الأزلي مع الآب، وباتحاده التام به (يوحنا ٣: ٣٢ و٥: ١٩). ولأن مصدر تعليمه الإله القدوس لزم أن يكون تعليمه مقدساً روحياً نافعاً للجميع.

وَأَنْتُمْ تَعْمَلُونَ في طلب قتلي وفي كل سلوككم.

مَا رَأَيْتُمْ عِنْدَ أَبِيكُمْ أراد بأبيهم هنا من يقتدون به، وتظهر صفاته فيهم، ويعملون أعماله. وقد أظهروا ببغضهم يسوع وطلبهم قتله أنهم ليسوا أولاد إبراهيم بالحقيقة، ولا أولاد إله إبراهيم. فأعمالهم بينت من هو أبوهم، كما بينت تعاليم المسيح من هو أبوه.

وأظهر المسيح أن اختلاف أعماله عن أعمالهم يرجع لاختلاف مصدريهما. وما قاله المسيح هنا عن اليهود يصدق دائماً على كل البشر. فأعمال كل إنسان تبيِّن من هو مصدر أفكاره وأعماله، وهل هو متعلّم من الله وملهَم من ملكوت النور، أو هل هو متأثر من ملكوت الظلمة وجنودها.

٣٩ «أَجَابُوا أَبُونَا هُوَ إِبْرَاهِيمُ. قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لَوْ كُنْتُمْ أَوْلادَ إِبْرَاهِيمَ لَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ!».

متّى ٣: ٩ وع ٢٣، رومية ٢: ٢٨ و٩: ٧ وغلاطية ٣: ٧ و٢٩

أَبُونَا هُوَ إِبْرَاهِيمُ كرروا قولهم السابق إنهم ذرية إبراهيم، ورفضوا ما أشار إليه المسيح من تسلسلهم من أصل آخر.

لَوْ كُنْتُمْ أَوْلادَ إِبْرَاهِيمَ سلم في ع ٣٧ أنهم أولاد إبراهيم بالتسلسل الجسدي، وأنكر هنا مماثلتهم لإبراهيم في الروح والعمل.

لَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ كالطاعة لله (تكوين ١٢، ٢٢) واعتبار رسل الله (تكوين ١٦، ١٨) وإذ لا مماثلة فلا علاقة حقيقية. فمجرد التسلسل الجسدي من إبراهيم لا يمنح كرامة ولا بركة.

٤٠ «وَلَكِنَّكُمُ الآنَ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي، وَأَنَا إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُمْ بِالحَقِّ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ. هَذَا لَمْ يَعْمَلهُ إِبْرَاهِيمُ».

ع ٣٧، ٢٦

تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي أظهر المسيح هنا الفرق بينهم وبين إبراهيم، وهو أنهم رفضوا رسول الله وطلبوا قتله.

إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُمْ بِالحَقِّ فكان عليكم أن تصغوا إليه وتحبوه وتشكروه.

الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللَّه أنه رسول الله ويجب أن يُطاع ويُكرم أعظم إكرام. ولأنه تكلم بالحق وجاء من عند الله صارت خطية رافضيه أفظع الخطايا.

هَذَا لَمْ يَعْمَلهُ إِبْرَاهِيمُ فأعمالكم مضادة لكل أعمال إبراهيم، فلا مشابهة لكم به، ونسبتكم إليه باطلة.

٤١ «أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ أَبِيكُمْ. فَقَالُوا لَهُ: إِنَّنَا لَمْ نُولَدْ مِنْ زِناً. لَنَا أَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ».

تثنية ٣١: ١٦ وإشعياء ١: ٢١ وهوشع ٢: ٤ إشعياء ٦٣: ١٦ و٦٤: ٨ وملاخي ١: ٦

أَعْمَالَ أَبِيكُمْ لم يُذكر اسم هذا الآب بل أشار إليه فقط في ع ٣٨ فترك تسميته لضمائرهم، ومعناه أنهم أصغوا إلى الشيطان وتعلموا منه وتشبهوا به واستحقوا أن يُسموا أولاده.

إِنَّنَا لَمْ نُولَدْ مِنْ زِناً ظنوا المسيح اتهمهم بأنهم نسل أخلاط وثنيين كالسامريين بإنكاره عليهم أنهم أولاد إبراهيم، فردّوا عليه بأن لهم دليلاً من جداول النسب على أن إبراهيم أبوهم. ولعل معنى قولهم «لم نولد من زنا» أنهم ليسوا وثنيين ولم يولدوا هم ولا آباؤهم من وثنيين، لأن الزنا جاء بالمعنى الروحي مراراً في الكتاب المقدس، منها إشعياء ١: ٢١ و٥٧: ٣ وهوشع ١: ٢ و٢: ٤.

لَنَا أَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ عدَل اليهود عن نسبة أنفسهم إلى إبراهيم ونسبوها إلى الله، وقالوا: نحن نعبد الله وحده فنحن أولاده. وكان اليهود يفتخرون كل الافتخار باعتقادهم وحدانية الله واعتبارهم إياه ملكهم.

٤٢ «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لَوْ كَانَ اللَّهُ أَبَاكُمْ لَكُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي، لأنِّي خَرَجْتُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ وَأَتَيْتُ. لأنِّي لَمْ آتِ مِنْ نَفْسِي، بَل ذَاكَ أَرْسَلَنِي».

١يوحنا ٥: ١ ويوحنا ١٦: ٢٧ و١٧: ٨، ٢٥ ويوحنا ٥: ٤٣ و٧: ٢٨، ٢٩

نفى أنهم أولاد الآب السماوي بالبرهان الذي نفى به أنهم أولاد إبراهيم حقيقة. نعم إن الله كان أباهم بمعنى أنه خلقهم واختار أمتهم شعباً له، ودعا إسرائيل ابناً (مزمور ٨٠: ١٥ وهوشع ١١: ١) ولم يكن كذلك بالمعنى الروحي الحقيقي، لأنهم لو كانوا أولاده لشابهوه وأحبوا ما يحبه، ولأحبوا بالأكثر ابنه الذي هو بهاء مجده ورسم جوهره. ولكنهم بدل ذلك طلبوا قتله (ع ٤٠). ولا يزال حب الابن علامة أولاد الله الحقيقيين، ويبقى كذلك إلى الأبد.

لأنِّي خَرَجْتُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ وَأَتَيْتُ كان المسيح عند الله منذ الأزل، وأتى من عنده وتجسّد على الأرض. فحضوره هنا نتيجة خروجه من عند الله.

لأنِّي لَمْ آتِ مِنْ نَفْسِي الخ أي لم يأت بمشيئته الخاصة، إنما أتى بتعيين الله له رسولاً إلى الناس. وخلاصة كل هذه الآية أن كل أولاد الله الحقيقيين يعرفون الابن ويحبونه لأنه أزلي، وأصله سماوي، وإرساليته إلهية.

٤٣ «لِمَاذَا لا تَفْهَمُونَ كلامِي؟ لأنَّكُمْ لا تَقْدِرُونَ أَنْ تَسْمَعُوا قَوْلِي».

يوحنا ٧: ١٧

لِمَاذَا لا تَفْهَمُونَ كلامِي؟ هذا توبيخ لهم على تحويلهم كلامه إلى غير معناه في كل هذا الخطاب (من ع ٣٢ – ٤٣) لأنهم أذنبوا بذلك لوضوح معناه. ولم يتوقع جوابه على هذا السؤال، فأجاب عليه من ع ٤٤ – ٤٧.

لأنَّكُمْ لا تَقْدِرُونَ أَنْ تَسْمَعُوا قَوْلِي هذا سبب عدم فهمهم كلامه، لأنه روحي وقلوبهم جسدية، فلم يُسروا به ولم يؤمنوا ولم يطيعوا. وعدم الاستطاعة نتيجة عدم الإرادة. وكرهوا كلامه لأنه مضاد لكبريائهم وشهواتهم وميولهم، ولأن عدو الحق ملأ قلوبهم بالأهواء الشريرة، فصُمَّت آذانهم عن سماع صوت الله المتكلم بالمسيح.

٤٤ «أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالا لِلنَّاسِ مِنَ البَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الحَقِّ لأنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ. مَتَى تَكَلَّمَ بِالكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الكَذَّابِ».

متّى ١٣: ٣٨ و١يوحنا ٣: ٨ يهوذا ٦

أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ أنتم ادعيتم أن إبراهيم أبوكم وأن الله أبوكم، والحق أن إبليس هو أبوكم (وهو الذي أشار إليه في ع ٣٨، ٤١ وصرح به هنا). فإن الأفكار والأعمال التي أظهرها اليهود يومئذٍ لم تكن إلا من عدو الله والناس. وشابهوه في صفاتهم كما يُشبه الأولاد والديهم.

وكلام المسيح هنا يدل على أن الشيطان ذات، لا معنى متوهَّم، وأن له تأثيراً عظيماً في العالم وقوة شديدة. ويدل على الشركة بين الشيطان والناس الأشرار، فهو أبو الكذبة والقتلة.. وليس الناس أولاد إبليس بنفس معنى أنهم أولاد الله، لأنه ليس للشيطان قوة عليهم إلا باختيارهم وتسليمهم أنفسهم إلى تجاربه، وبارتكابهم الأعمال التي ترضيه وهو يحثهم عليها.

وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ أي ما يسر به ويرغب الناس به وينتج عنه الضلال والإثم والشقاء.

تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا أي تعملونه طوعاً واختياراً وتميلون إليه وتسرون به كالخدام المطيعين. وهذا سبب دينونة كل خاطئ يخطئ باختياره. ولو لم يكن حراً مختاراً ما كان عرضة للدينونة. وذكر المسيح في ما يأتي ثلاثة من أعمال إبليس: وهي القتل، والكذب، وإغراء الغير به.

ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ البَدْءِ أي منذ خلق الإنسان الأول لا من بدء نفسه، لأنه كان في البدء ملاك نور. وهو «قتَّال الناس» لأن بواسطته دخلت الخطية والموت إلى العالم (تكوين ٣ ورومية ٥: ١١ و١٢). وغايته في قوله «لن تموتا» قتل جنس البشر (تكوين ٣: ٤) وقد أدرك تلك الغاية. وكان عمله في كل عصور العالم تضليل الناس وإهلاك نفوسهم. وهو المهلك الذي حرض قايين على قتل هابيل (١يوحنا ٣: ١٢) وأثار كثيرين مثله على قتل إخوتهم. وهو يقتل نفوساً كثيرة بتجاربه على الدوام فيستحق أن يسمى «قتَّال الناس» لأنه لا يقتل شخصاً بل جنساً، لأن الموت عمَّ جميع الناس بمعصيةٍ هو سببها. فأظهر اليهود بطلبهم قتل يسوع أنهم مثل إبليس (ع ٤٠). وكانوا قتلة نفوس الناس الذين أضلوهم (متّى ١٥: ١٤) والذين جعلوهم أبناء لجهنم أكثر منهم أضعافاً (متّى ٢٣: ١٥).

وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الحَقِّ المقصود «بالحق» هنا البرّ. وفي هذا الكلام إشارة إلى سقوط الشيطان من الحال التي خلقه الله عليها التي هو فيها الآن. وعدم الثبوت في الحق من صفاته وصفات أتباعه دائماً، لأنه يقاوم الحق فكراً وقلباً وفعلاً، ويُسر بالضلال وبتوزيعه.

لأنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ لا يقدر أحد أن يثبت في الحق ما لم يكن على شيء من حب الحق والمسرة به. لكن الشيطان يميل بكل قواه وغرائزه إلى الكذب، فلا محل في قلبه للحق.

مِمَّا لَهُ أي مما هو وفق صفاته وطبعه وميل قلبه، فيصدُق عليه ما يصدق على الإنسان الشرير وهو أنه «من الكنز الشرير (في القلب) يُخرج الشرور» (متّى ١٢: ٣٥) وهو مثل قوله «من فضلة القلب يتكلم الفم» (متّى ١٢: ٣٤). وهذا خلاف ما تكلم به المسيح لأنه كلمة الحق (ع ٤٠) وما يتكلم به الروح القدس كذلك (يوحنا ١٦: ١٣).

لأنَّهُ كَذَّابٌ لا شك أن المسيح أشار بهذا إلى كذب الشيطان الأول الفظيع الذي به أضلَّ والدينا الأوَّلين (تكوين ٣: ٤) وإلى أن عمل الشيطان على الدوام أن يخدع الناس ليهلكهم، وأنه عدو كل حق.

وَأَبُو الكَذَّابِ أي أن كل الكذابين أولاد الشيطان لأنهم يشبهونه ويتكلمون بما يحثهم عليه. وبيّن المسيح هنا فظاعة الكذب بحسبانه مع القتل وصرّح بأن مصدر كليهما الشيطان. رفض اليهود الحق الذي تكلم به المسيح، وسُروا بالكذب، فأظهروا بذلك أنهم أولاد إبليس (ع ٤٥).

٤٥ «وَأَمَّا أَنَا فَلأنِّي أَقُولُ الحَقَّ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي».

ترك المسيح هنا الكلام على إبليس، وأخذ يتكلم على أولاده، فقال إنهم يشبهون الشيطان لأنهم لم يصدقوا المسيح الذي تكلم بالحق. وقال إنه لو أخفى الحق وكلمهم بالكذب لكانوا صدَّقوه. والغالب أن التكلم بالحق يجلب للمتكلم ثقة السامعين به، لكن أولئك اليهود من كثرة مقاومتهم للحق رفضوه (رومية ١: ٢١ و٢تسالونيكي ٢: ١١ وأفسس ٤: ١٨).

٤٦ «مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟ فَإِنْ كُنْتُ أَقُولُ الحَقَّ، فَلِمَاذَا لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي؟».

مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟ أشار المسيح بذلك إلى استقامته وطهارة سيرته، برهاناً على صدق قوله «أتيت من الله». وطلب من أعدائه أن يشهدوا عليه بخطية إن استطاعوا. وقال المسيح ذلك بناءً على تسليمهم بأن كل مستقيم في أعماله مستقيم في أقواله، وهذا قانون صحيح. ولعله سكت قليلاً ليترك لهم فرصة للجواب.

فَلِمَاذَا لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي اتخذ المسيح سكوتهم دليلاً على عجزهم أن يبكتوه على خطية، فسألهم ذلك. فكأنه قال لهم «لا تقدرون أن تنكروا استقامة سيرتي التي أثبتَتْ صدقي، فيجب أن تؤمنوا بي. فلماذا شككتم؟». ولا يقدر إنسان أن يقول ما قاله المسيح من أنه بلا خطية في الفكر والقول والفعل، وأن العالم يعجز عن أن يثبت عليه أدنى زلة أو هفوة. ونحن في حاجة إلى مثل هذا المخلِّص ليكون فادياً لنا ووسيطاً. ويصح أن يقال الآن في الكتاب المقدس ما قاله المسيح في نفسه، فكيف يكون كاذباً وكل تأثيره في الناس حسن. إنه يجعلهم أبراراً طاهرين كالله ويصبح تابعوه كالملائكة، وتصبح الأرض كالسماء.

٤٧ «اَلَّذِي مِنَ اللَّهِ يَسْمَعُ كلامَ اللَّهِ. لِذَلِكَ أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَسْمَعُونَ، لأنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ اللَّهِ».

يوحنا ١٠: ٢٦، ٢٧ و١يوحنا ٤: ٦

اَلَّذِي مِنَ اللَّهِ يَسْمَعُ كلامَ اللَّهِ أي أولاد الله كما دعوتم أنفسكم (ع ٤١) يسمعون كلام الله بسرور ويصدقونه ويطيعونه. وكل أهل الله مستعدون لقبول الحق قبل إعلانه، وللتسليم بأنه من الله عند إعلانه، ولطاعته، لأن محبة الله تجعل المحب يثق بكلامه. فعدم قبولهم كلام الله من المسيح حقق أنهم ليسوا من الله.

٤٨ «فَقَالَ اليَهُودُ: أَلَسْنَا نَقُولُ حَسَناً إِنَّكَ سَامِرِيٌّ وَبِكَ شَيْطَانٌ؟».

يوحنا ٧: ٢٠ وع ٥٢ و١٠: ٢٠

إِنَّكَ سَامِرِيٌّ احتقر اليهود السامريين وأبغضوهم وحسبوهم ضالين، ونسبوا إلى المسيح أنه سامري بغية إهانته والهزء به كالسامريين، وعدوٌ لليهود بدليل قوله إنهم «أولاد إبليس».

وَبِكَ شَيْطَانٌ سبقت هذه التهمة في يوحنا ٧: ٢٠ لكنهم أرادوا بها هنالك أنه مختل العقل يستحق الشفقة، وقصدوا بها هنا أنه منقاد بروح الشيطان يستحق التوبيخ، فكلامهم كالكلام في متّى ١٢: ٢٤. وبيّن اليهود نسبتهم إلى الشيطان بهذا أيضاً، وهو أنهم لما عجزوا عن إجابة المسيح بالبراهين لجأوا إلى اللعن والتجديف شأن معلمهم وأبيهم.

٤٩ «أَجَابَ يَسُوعُ: أَنَا لَيْسَ بِي شَيْطَانٌ، لَكِنِّي أُكْرِمُ أَبِي وَأَنْتُمْ تُهِينُونَنِي».

لَيْسَ بِي شَيْطَانٌ لم يجبهم على شتمهم بغيظٍ وحدّة، وسكت على قولهم إنه سامري. ولكنه ردَّ على قولهم «بك شيطان» بالإنكار، لا بالشتم وفقاً لقول الرسول «الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضاً» (١بطرس ٢: ٢٣). وقدم برهاناً ينفي قولهم إن تأثير تعليمه من عند إبليس، فقال إن ذلك التأثير إكرام لله الآب، لأنه علَّم الناس أن يحبوا الله ويطيعوه. وهذا ما لا يفعله الشيطان ولا يريده.

وَأَنْتُمْ تُهِينُونَنِي أي أنكم بدلاً من أن تسمعوا كلام الله تهينون رسوله الذي كلمكم بكلامه إكراماً له، وبذلك أظهرتم أنكم لستم أولاد الله.

٥٠ «أَنَا لَسْتُ أَطْلُبُ مَجْدِي. يُوجَدُ مَنْ يَطْلُبُ وَيَدِينُ».

يوحنا ٥: ٤١ و٧: ١٨

أَنَا لَسْتُ أَطْلُبُ مَجْدِي لم يبالِ بإهانتهم له لأنه لم يطلب المجد والكرامة من الناس، ورضي بحمل العار، ولم يرغب في تبرير نفسه من تهمتهم، وترك تبريره لله.

يُوجَدُ مَنْ يَطْلُبُ وَيَدِينُ أي الله، وهو يميز بين الذين يقبلون ابنه والذين يرفضونه، ويجازي كلاً بما يستحق. وفي هذا إنذار بالدينونة الآتية عليهم أخيراً (جامعة ٥: ٨). وفيه تعزية للمؤمنين المهانين والمضطهدين لأجل البر، ووجوب أن يحتملوا العار بصبر وحلم كما احتمله المسيح، وأن يتركوا لله تبريرهم والانتقام لهم (مزمور ٣٧: ٦) فلا بد أن الله يحامي عنهم ويُسكت كل معيريهم كذباً.

٥١ «اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ كلامِي فَلَنْ يَرَى المَوْتَ إِلَى الأَبَدِ».

يوحنا ٥: ٢٤ و١١: ٢٦

اَلحَقَّ الحَقَّ هو التكرار المعتاد في الأمور ذات الشأن للتأكيد والتنبيه. والأرجح أنه كان بين الجمهور بعض المؤمنين الحقيقيين أراد المسيح تقوية إيمانهم بما قاله في هذه الآية. ووعدهم في ع ٣٢ بالنجاة من عبودية الخطية، ووعدهم هنا بالنجاة من الموت.

إِنْ كَانَ أَحَدٌ الوعد عام لكل إنسان، يهودياً كان أم يونانياً.

يَحْفَظُ كلامِي هذا كقوله «إن ثبتم في كلامي» (ع ٣١) ومعناه التمسك الدائم بكلامه والسلوك بموجبه، وليس فقط حفظه في الذاكرة دون تخبئته في القلب وطاعته (مزمور ١١٩: ١١). والشرط «إن كان» يدل على موانع من ذلك الحفظ، وهي ميل القلب إلى العصيان، وتجارب الشيطان وجنوده، وارتداد بعض التلاميذ عن الحق. وقصد «بالكلام» هنا تعاليمه أو إنجيله.

فَلَنْ يَرَى المَوْتَ إِلَى الأَبَدِ هذا وعد عظيم يشتمل على إزالة كل نتائج السقوط. «والموت» هنا هو الموت الثاني أي الهلاك الأبدي، وهو الأمر الوحيد الذي يستحق أن يُسمى بالموت، لأن موت المسيحي بالجسد لا يُحسب موتاً، كما أنه لم يحسب حياة جسده الحياة الحقيقية. وقوله هنا كقوله في (يوحنا ٣: ٣٦ و٥: ٢٤ و٦: ٤٧ – ٥٠ و١١: ٢٥، ٢٦). ونفي الموت يستلزم ضرورة حياة من يحفظون كلام المسيح. ووفى المسيح بوعده هنا برفعه عن المؤمنين أربعة أمور: (١) الموت الروحي الذي ورثناه من آدم. (٢) شوكة الموت التي هي الخطية ( ١كورنثوس ١٥: ٥٥ – ٥٧). (٣) خوف الموت (عبرانيين ٢: ١٥). (٤) الموت الثاني الذي هو الهلاك الأبدي.

والحياة هي عطية الله للذي يؤمن بصدق كلام المسيح، لأن له المسيح نفسه، والذي له المسيح يشترك معه في حياته الأبدية. وأظهر المسيح هنا الفرق العظيم بين عمله وعمل إبليس، لأنه هو واهب الحياة (أفسس ٢: ١١) وذاك قتَّال للناس (ع ٤٤).

٥٢ «فَقَالَ لَهُ اليَهُودُ: الآنَ عَلِمْنَا أَنَّ بِكَ شَيْطَاناً. قَدْ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ وَالأَنْبِيَاءُ، وَأَنْتَ تَقُولُ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ كلامِي فَلَنْ يَذُوقَ المَوْتَ إِلَى الأَبَدِ».

زكريا ١: ٥ وعبرانيين ١١: ١٣

فَقَالَ لَهُ اليَهُودُ أي غير المؤمنين من الجمع.

الآنَ عَلِمْنَا أَنَّ بِكَ شَيْطَاناً أي ما قلناه أولاً ظناً من أنك مختل العقل (ع ٤٨) تأكدناه هنا من كلماتك.

قَدْ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ وَالأَنْبِيَاءُ وهم من الأتقياء المحبوبين والمكرمين من الله حفظوا كلام الله ومع ذلك ماتوا.

وَأَنْتَ تَقُولُ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ كلامِي فهم اليهود أن الموت في كلام يسوع هو الموت الطبيعي، وأنه يمنح تلاميذه امتيازاً لم يحصل عليه أفضل القديسين وأعظمهم، فرأوا أنه لا يقول ما قاله يسوع إلا المجنون.

فَلَنْ يَذُوقَ المَوْتَ إِلَى الأَبَدِ غيروا قول المسيح لفظاً لا معنىً. عبر المسيح عن الموت بكلمات النصرة، إذ قال «لن يرى الموت» وهم عبروا عنه بكأس مُرة إذ قالوا «لا يذوق».

٥٣ «أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي مَاتَ. وَالأَنْبِيَاءُ مَاتُوا. مَنْ تَجْعَلُ نَفْسَكَ؟».

أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ قالوا هذا هزءاً واستخفافاً به فكأنهم قالوا: من أنت حتى تهب لتلاميذك سلطاناً على الموت لم يحصل عليه أعظم الآباء والأنبياء؟ هل تدّعي أنك أعظم من إبراهيم حتى ضمنت لنفسك الخلود؟ وسؤالهم هذا يشبه سؤال المرأة السامرية له: «ألعلك أعظم من أبينا يعقوب؟» (يوحنا ٤: ١٢) لكنها هي قالت ذلك تعجباً وهم قالوه استهزاءً.

مَنْ تَجْعَلُ نَفْسَكَ لم يقولوا ذلك للاستفادة بل للاستخفاف، كأنه ادّعى عظمةً لا حق له فيها.

٥٤ «أَجَابَ يَسُوعُ: إِنْ كُنْتُ أُمَجِّدُ نَفْسِي فَلَيْسَ مَجْدِي شَيْئاً. أَبِي هُوَ الَّذِي يُمَجِّدُنِي، الَّذِي تَقُولُونَ أَنْتُمْ إِنَّهُ إِلَهُكُمْ».

يوحنا ٥: ٣١، ٤١ و١٦: ١٤ و١٧: ١ وأعمال ٣: ١٣

إِنْ كُنْتُ أُمَجِّدُ نَفْسِي بقولي إن «من يحفظ كلامي لن يرى الموت» كما يستفاد من قولكم «من تجعل نفسك؟». فمضمون جوابه هنا أنه لم يجعل نفسه شيئاً، وأنه لم يدَّعِ لنفسه وحده بحقٍّ وسلطانٍ أو قوة غير ما جعله له الآب وعيّنه.

فَلَيْسَ مَجْدِي شَيْئاً لو أني ادعيت لنفسي مجداً وقوة وسلطاناً. وأنا لم أدّع شيئاً من هذا.

أَبِي هُوَ الَّذِي يُمَجِّدُنِي بإرساله إياي لأجهز تلاميذي بمواعيده، وبوضعه في يدي مفاتيح الموت والحياة. وهو أكرمني بذلك أكثر من إبراهيم والأنبياء، وأثبت دعواي بما أجراه من المعجزات على يدي.

الَّذِي تَقُولُونَ أَنْتُمْ إِنَّهُ إِلَهُكُمْ بقولكم إنه إله إسرائيل وإله آبائكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فكان يجب أن تعرفوه، وهو الذي مجدني، ولم أمجد نفسي.

٥٥ «وَلَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. وَأَمَّا أَنَا فَأَعْرِفُهُ. وَإِنْ قُلتُ إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُهُ أَكُونُ مِثْلَكُمْ كَاذِباً، لَكِنِّي أَعْرِفُهُ وَأَحْفَظُ قَوْلَهُ».

يوحنا ٧: ٢٨، ٢٩

وَلَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ ولو عرفتموه أي أدركتم طبيعته وإرادته ومقاصده، لعرفتم العلامات التي شهد بها لي ولم ترفضوني وأنا أتكلم بسلطانه وأعلن إرادته، ولحفظتم أقواله. فكانوا كالذين قال فيهم الرسول «يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ اللَّهَ، وَلَكِنَّهُمْ بِالأَعْمَالِ يُنْكِرُونَهُ» (تيطس ١: ١٦).

وَأَمَّا أَنَا فَأَعْرِفُهُ ذكر معرفته الله مقارنة بجهلهم إياه. ومعرفة المسيح بأبيه ليست مكتسبة، بل ذاتية كاملة دائمة.

وَإِنْ قُلتُ إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُهُ أَكُونُ مِثْلَكُمْ كَاذِباً أي لا أنكر معرفة أبي لأن إنكاري إياها يوجب الكذب كادعائكم أنكم تعرفونه.

وَأَحْفَظُ قَوْلَهُ اتخذ طاعته لله دليلاً على صحة معرفته إياه ومعرفة إرادته.

٥٦ «أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ».

لوقا ١٠: ٢٤ عبرانيين ١١: ١٣

ذكر يسوع شهادة إبراهيم له لأن اليهود حسبوا نسبتهم إليه من أعظم صنوف الشرف، وأن كلامه يستحق كل اعتبار، وأعماله مما يجب الاقتداء بها.

أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي سأل اليهود المسيح قائلين «ألعلك أعظم من إبراهيم؟» فقال هذا جواباً على ذلك، وهو أن أباهم إبراهيم سُر بما اغتاظوا به ولعنوه ورفضوه. ودلّ قوله «تهلل» على شدة شوق إبراهيم ورجائه وانتظاره. ولا يستلزم ذلك أن إبراهيم توقع إتيان المسيح في عصره، ولكنه تحقق أنه سيأتي في المستقبل. وكان رجاؤه مبنياً على المواعيد التي وعده الله بها (تكوين ١٢: ٣ و١٥: ٤ و١٧: ١٧ و١٨: ١٠) وأوضحها قوله «يَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ» (تكوين ٢٢: ١٨). ومعنى «يومي» وقت مجيئي مسيحاً بركة للعالم وخلاصاً للبشر.

فَرَأَى وَفَرِحَ يحتمل قوله «رأى» معنيين: (١) أنه رآه بالإيمان وهو حي، وفقاً لقول الرسول في إبراهيم وسائر الأنبياء «فِي الإِيمَانِ مَاتَ هَؤُلاءِ أَجْمَعُونَ، وَهُمْ لَمْ يَنَالُوا المَوَاعِيدَ، بَل مِنْ بَعِيدٍ نَظَرُوهَا وَصَدَّقُوهَا وَحَيُّوهَا» (عبرانيين ١١: ١٣). وأن الله أعلنه له حين بشره بولادة إسحاق (تكوين ١٨: ١٠) ووقت عزمه على تقديم إسحاق ذبيحة (تكوين ٢٢: ١٨) وأنه أراه إياه في رؤيا أو بظهور الرب له في هيئة ملاك وكلامه معه (تكوين ١٨: ٢٢). (٢) أن الله أعلن له وهو في السماء نزول المسيح إلى الأرض ليتجسد فيها. والملائكة عرفوا بولادة المسيح وترنموا بفرح، ويمكن أنه كان كذلك القديسون في السماء.

وعرف موسى وإيليا بخروجه (أي موته) الذي كان عتيداً أن يكمله في أورشليم. ولا مانع من صحة هذا التفسير، لكننا لا نستطيع أن نؤكد أنه ما قصده المسيح هنا، إذ لم يكن من قصده أن يعيّن اليوم الذي رآه إبراهيم فيه، بل أن يبين أنه هو الذي وعد به إبراهيم، وبأنه نسله الذي «يتبارك به كل أمم الأرض» وأنه «تهلل» بذلك الرجاء ورآه من بعيد بالإيمان.

٥٧ «فَقَالَ لَهُ اليَهُودُ: لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ، أَفَرَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ؟».

لم يفهم اليهود من المسيح أو ادعوا أنهم لم يفهموه. المسيح قال «إن إبراهيم رأى يومي» وهم فسروه بأنه رأى إبراهيم وإبراهيم رآه.

لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً كان سن الخمسين عند اليهود نهاية كمال البلوغ، وبدء الشيخوخة، فكأنهم قالوا للمسيح: أنت لم تبلغ الشيخوخة بعد، فإنه كان في نحو سن الثالثة والثلاثين، فزادوا عليها حتى لا يبقى وجه للاعتراض، وحتى يُظهروا استحالة دعواه. وخلاصة ذلك أنه يستحيل على من هو أقل من ٥٠ سنة أن يرى من مات منذ نحو ١٩٠٠ سنة!

٥٨ «قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ».

خروج ٣: ١٤ وإشعياء ٤٣: ١٣ ويوحنا ١٧: ٥ ،٢٤ وكولوسي ١: ١٧ ورؤيا ١: ٨

الحَقَّ الحَقَّ هذا مقدمة لكلام ذي شأن كما ذُكر مراراً.

قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ هذا تصريح بأنه كان قبل إبراهيم. كأنه قال لهم أنتم هزأتم بقولي إذ فهمتم منه أني معاصر لإبراهيم، وأنا أصرّح لكم أني كائن من قبله! وفي هذا تصريح بلاهوته، لأنه بالنظر إلى ناسوته لم يكن إلا منذ أقل من خمسين سنة، فلا يمكن أن يراه إبراهيم في عصره باعتبار أنه إنسان. فإذاً لا بد من أن له طبيعة أخرى أزلية كانت منذ البدء (يوحنا ١: ١). وقوله «أنا كائن» هو نفس الاسم الذي أعلن نفسه به لليهود يوم أرسل موسى إليهم إذ قال «هَكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَهْيَهْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ» (خروج ٣: ١٤). وهذا وفق ما في مزمور ٩٠: ٢. لم يقل قبل أن يكون إبراهيم أنا كنت، لأنه لو قال كذلك لاحتمل معناه أنه حدث قبل حدوث إبراهيم. واليهود فهموا من قوله أنه ادعى الأزلية، وأنه إله إبراهيم. فهو بالضرورة قبله.

٥٩ «فَرَفَعُوا حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ. أَمَّا يَسُوعُ فَاخْتَفَى وَخَرَجَ مِنَ الهَيْكَلِ مُجْتَازاً فِي وَسْطِهِمْ وَمَضَى هَكَذَا».

يوحنا ١٠: ٣١، ٣٩ و١١: ٨ لوقا ٤: ٣٠

رَفَعُوا حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ لم يبق لهم بعد جواب المسيح في الآية السابقة إلا أن يسجدوا معترفين أنه المسيح كما فعل الأعمى الذي أبصر (يوحنا ٩: ٣٨) أو أن يرجموه حاكمين أنه مجدف. فاختاروا أن يحسبوه مجدفاً، وأرادوا أن يعاقبوه بمقتضى ما قيل في (لاويين ٢٤: ١٦). وكان سهلاً عليهم أن يجدوا حجارة يرجمونه بها في دار الهيكل، لأنه كان تحت الترميم الذي بدأه هيرودس الكبير. وكان محظوراً على اليهود أن يقتلوا أحداً لأنهم كانوا تحت سلطة الرومان الذين منعوهم من سلطان القتل الذي كان لهم، فكان ما قصدوه من عقاب المسيح من قبل أنفسهم بمنزلة هيجان الشعب كما فعلوا باستفانوس (أعمال ٧: ٥٨).

أَمَّا يَسُوعُ فَاخْتَفَى الخ ليس في هذا نص على أن اختفاءه كان معجزة، ولعله نجا منهم بمثل ما فعل في لوقا ٤: ٣٠. وكان في الهيكل جمهور عظيم من الناس، كثيرون منهم من تلاميذه وأصدقائه، وكان سهلاً عليه أن يختفي بين ذلك الجمهور. ولا شك أن الله حماه لأن ساعته لم تكن قد أتت. وانتهى بذلك أشد خصام بين المسيح واليهود في اليهودية.

ومما نراه في هذا الخطاب كثرة المقاومة التي لاقاها المسيح، إذ كان فيه وحده عشر معارضات من التكذيب والشتم (في آيات ١٩، ٢٢، ٣٩، ٤١، ٤٨، ٥٢، ٥٣، ٥٧). ومما نراه أيضاً قوة البرهان على صحة تعليم يسوع بأن أعداءه لم يستطيعوا أن يُسكتوه أو يجاوبوه بالأدلة. ولو كان تعليمه لأصحابه دون غيرهم لم يكن للبرهان مثل تلك القوة. ونستفيد من معارضات أعدائه له أنها حملت المسيح على تفسير تعاليمه بأحسن إيضاح. ومن الحقائق العظمى التي أوضحه قوله «إنه نور العالم» وإن أصله «من فوق» (ع ٢٣). وإنه «مانح الحرية للمؤمنين به» (ع ٣١ – ٣٦). وإنه «بلا خطية» (ع ٤٦). وإنه «واهب الحياة». وإظهار أنه يهوه العهد القديم بقوله «أنا كائن» (ع ٥٨).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى