إنجيل يوحنا

إنجيل يوحنا | 07 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل يوحنا

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح السابع

إلحاح إخوة يسوع عليه أن يذهب إلى العيد (ع ١ – ٩)

١ «وَكَانَ يَسُوعُ يَتَرَدَّدُ بَعْدَ هَذَا فِي الجَلِيلِ، لأنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَتَرَدَّدَ فِي اليَهُودِيَّةِ لأنَّ اليَهُودَ كَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ».

يوحنا ٥: ١٦، ١٨

بَعْدَ هَذَا أي ما ذُكر في يوحنا ٥، ٦ (ولا سيما ما ورد في يوحنا ٥) من أمر شفاء الإنسان يوم السبت. وكانت المدة نحو سبعة أشهر، أي ما بين عيد الفصح وعيد المظال، قضى شهراً منها في اليهودية وستة شهور في الجليل.

فِي الجَلِيلِ كان يتردد فيها للتعليم، ولم يصعد مع غيره إلى عيد الفصح (يوحنا ٦: ٤) لأن اليهود الذين في منطقة اليهودية طلبوا قتله (يوحنا ٥: ١٦، ١٨). ولم يذكر يوحنا هذا ليبين الحوادث التي جرت يومها (متّى ١٥ – ١٨ و مرقس ٧ – ٩) بل يكون مقدمة لخبر صعوده إلى أورشليم خفية ليحضر عيد المظال بعد امتناعه عن الذهاب في أول العيد.

اليَهُودَ كَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ هذا سبب بقائه في الجليل وعدم تردده على اليهودية.

٢ «وَكَانَ عِيدُ اٰلْيَهُودِ، عِيدُ الْمَظَالِّ قَرِيباً».

لاويين ٢٣: ٣٤ وتثنية ١٦: ١٣ – ١٧

عِيدُ الْمَظَالّ هذا أحد الأعياد الثلاثة العظمى التي أمر الله كل ذكور اليهود أن يحضروها في أورشليم، وكان يُسمّى عيد الحصاد، وعيد الجمع (خروج ٢٣: ١٦) وكان يبدأ في يوم ١٥ من شهر ٧ من السنة اليهودية (أكتوبر – ت ١ من سنتنا الميلادية) وكانت مدته ٨ أيام، آخرها يُسمى اليوم العظيم (آية ٧). (انظر خروج ٢٣: ١٦ ولاويين ٢٣: ٤٣ وعدد ٢٩: ١٢ – ٣٨ وتثنية ١٦: ١٣ – ١٨) فرضه الله على بني إسرائيل تذكاراً لسكنهم في الخيام في البرية ٤٠ سنة، وشكراً لله على غلة الأرض من قمح وخمر وزيت. وكانوا يسكنون مدة العيد في مظال يقيمونها على سطوح البيوت وفي الساحات التي بين البيوت وفي أروقة الهيكل. وذُكر خبر حفظ هذا العيد في نح ٨: ١٣ – ١٨ وهو ١٢: ٩ وزكريا ١: ١٦ – ١٩.

٣ «فَقَالَ لَهُ إِخْوَتُهُ: انْتَقِل مِنْ هُنَا وَاذْهَبْ إِلَى اليَهُودِيَّةِ، لِكَيْ يَرَى تلامِيذُكَ أَيْضاً أَعْمَالَكَ الَّتِي تَعْمَلُ».

متّى ١٢: ٤٦ ومرقس ٣: ٣١ وأعمال ١: ١٤

إِخْوَتُهُ ذُكروا في يوحنا ٢: ١٢ وهم يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا (متّى ١٣: ٥٥) ولم يكونوا حينئذ قد آمنوا بأنه هو المسيح (ع ٥). وميز البشير بينهم وبين تلاميذه (ع ٣). وحسبهم المسيح من العالم (ع ٧) ولم يذكرهم يوحنا إلا في هذا الأصحاح. وكانوا يعتبرون يسوع صانع معجزات ومعلماً، ولكنهم نسبوا إليه قلة الحكمة في اتخاذه الوسائل التي تجلب له الشهرة، ولم يستطيعوا التوفيق بين عظمة دعواه أنه هو المسيح المنتظر وتواضعه وإبائه أن يكون ملكاً وتثبيت دعواه بمعجزة عظيمة واضحة تنفي كل شك من قلوب الناس.

انْتَقِل مِنْ هُنَا أي من الجليل.

وَاذْهَبْ إِلَى اليَهُودِيَّةِ ولا سيما أورشليم حيث يجتمع الألوف، لا من أهل أورشليم واليهودية فقط بل من أماكن مختلفة أيضاً لحضور العيد. ولا بد أنهم عرفوا أن اليهود كانوا يطلبون قتله، ولكنهم على ما يُرجح ظنوا أنه إن كان هو المسيح فلن يستطيعوا ذلك، وأنه إذا أظهر شيئاً من مجده الإلهي كثر تلاميذه وقابلوه بالفرح وأعلنوه ملكاً في مدينة داود وفي هيكل الله.

لِكَيْ يَرَى تلامِيذُكَ لم يقصدوا تلاميذه في اليهودية فقط مع أنهم كثيرون (يوحنا ٢: ٢٣) بل الذين يحضرون من كل الجهات أيضاً. وكلامهم هنا مبني على أنه لم يصعد إلى أورشليم في الفصح الماضي، وبقي تلك المدة الطويلة في الجليل خاملاً. فأخطأوا بأنهم لم يعتبروا خدمته في الجليل كما تستحق، وادَّعوا أنهم أكثر حكمة من يسوع، وأنهم قادرون على نصحه. فلم يخلُ كلامهم من الاستخفاف به.

٤ «لأنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْمَلُ شَيْئاً فِي الخَفَاءِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ علانِيَةً. إِنْ كُنْتَ تَعْمَلُ هَذِهِ الأَشْيَاءَ فَأَظْهِرْ نَفْسَكَ لِلعَالَمِ».

لأنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْمَلُ شَيْئاً فِي الخَفَاءِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ علانِيَةً هذا كلام جرى مجرى المثل ذكروه ليسوع بياناً لعدم توافق أقواله مع أفعاله، لأنه قال إنه أتى معلماً ورسولاً وملكاً روحياً ومع ذلك انفرد عن الناس. وصنع كل معجزاته التي أجراها دليلاً على لاهوته أمام قليلين من تلاميذه في منطقة حقيرة، بعيداً عن الهيكل وأورشليم عاصمة اليهودية ومركز الدين والأمة. وحسبوا مثل هذا في غير محله، لأن يسوع إن أراد أن يعرفه كل الناس ويعترفوا بأنه المسيح يجب أن يعلن عن ذاته في أورشليم.

إِنْ كُنْتَ تَعْمَلُ هَذِهِ الأَشْيَاءَ لم ينكروا صحة معجزاته، بل لاموه لأنه عملها أمام أناس غير مهمين.

فَأَظْهِرْ نَفْسَكَ لِلعَالَم أي فأعلن أمرك للجميع. وكانت أورشليم عندهم مركز العالم، وأنه يجب عليه أن يحضر العيد فيها حيث يجتمع كثيرون من اليهود من كل العالم. فالذي يصنعه أمامهم حينئذٍ ينتشر خبره في كل الأرض.

٥ «لأنَّ إِخْوَتَهُ أَيْضاً لَمْ يَكُونُوا يُؤْمِنُونَ بِه».

مرقس ٣: ٢١

أي لم يؤمنوا أنه المسيح. ولكنهم بعد أقل من سنة اجتمعوا مع التلاميذ وحُسبوا منهم (أعمال ١: ١٤). ومن أسباب تغيير أفكارهم ظهور الرب بعد قيامته لأحدهم ( ١كورنثوس ١٥: ١٧).

٦ «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: إِنَّ وَقْتِي لَمْ يَحْضُرْ بَعْدُ، وَأَمَّا وَقْتُكُمْ فَفِي كُلِّ حِينٍ حَاضِرٌ».

يوحنا ٢: ٤ وع ٨ و٣٠ ويوحنا ٨: ٢٠

وَقْتِي لَمْ يَحْضُرْ بَعْدُ طلب إخوة يسوع منه كطلب أمه منه سابقاً، وجوابه لهم كجوابه لها (يوحنا ٢: ٤). وأبى يسوع في الحادثتين أن يقبل نصيحة البشر، وأبان أنه لا يعمل شيئاً إلا بإرادة أبيه السماوي. ومعنى قوله «وقتي» الوقت المعين لي من الآب الذي عيّن كل أعمالي، فلا أعمل شيئاً إلا بمقتضى تعيينه. وتحتمل لفظة «وقتي» ثلاثة معانٍ: (١) الوقت المناسب لصعوده إلى هذا العيد. (٢) الوقت المناسب لإظهار نفسه للعالم كما طلبوا. (٣) الوقت المعيّن لذهابه إلى الموت ذبيحة من أجل العالم.

ولم يفسر المسيح مراده بل تركه مبهماً، فإن كان مراده الأول فالمعنى أنه يصعد إلى العيد بعد نحو أربعة أيام. وإن كان الثاني أو الثالث فالمعنى أن وقته يكون بعد ستة أشهر، لأن وقت إظهار نفسه للعالم هو وقت موته.

وَأَمَّا وَقْتُكُمْ فَفِي كُلِّ حِينٍ حَاضِرٌ أي أنكم لا ترون أنفسكم مقيدة بإرادة أبي، وصعودكم إلى العيد لا يهيج حسد الناس أو مقاومتهم. فلكم أن تفعلوا كسائر الناس بلا معارض.

لو صعد يسوع مع الصاعدين إلى العيد لأثار ذلك الجليليين الذين كانوا يميلون إلى الشغب أن ينادوا به ملكاً (يوحنا ٦: ١٥) ولأثار أيضاً حسد الرؤساء وبغضهم له. ولعل بعض أعدائه كانوا ينتظرون مجيئه مع الجموع فكمنوا له في الطريق ليقتلوه (ع ١١). ولو شاء يسوع أن يعلن نفسه كما طلب إخوته لاقتضى ذلك أن يموت قبل تتميمه الفداء بالصليب، وهو ما جاء ليفعله.

٧ «لا يَقْدِرُ العَالَمُ أَنْ يُبْغِضَكُمْ، وَلَكِنَّهُ يُبْغِضُنِي أَنَا، لأنِّي أَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّ أَعْمَالَهُ شِرِّيرَةٌ».

يوحنا ١٥: ١٩ ويوحنا ٣: ١٩

لا يَقْدِرُ العَالَمُ أَنْ يُبْغِضَكُمْ أراد المسيح «بالعالم» غير المؤمنين، وبنى جوابه على قول إخوته «أظهر نفسك للعالم» فكأنه قال: أنتم تظنون العالم مستعداً أن يقبلني ويقر بصحة دعواي، لكني أعلم أنه مستعد أن يقتلني. أما أنتم فلا خطر عليكم لأنكم من العالم «والعالم يحب خاصته» (يوحنا ١٥: ١٩). ولستم مضطرين مثلي أن توبخوا العالم وتشهدوا عليه، فيمكنكم أن تذهبوا حيث شئتم غير مبالين بحسد اليهود ولا بحسد الرومان.

وَلَكِنَّهُ يُبْغِضُنِي أي أمري خلاف أمركم، فالعالم يقاومني ويحسبني عدوه، وقد حكم عليّ بأني مخادع يستحق الموت، لذلك يجب أن أستعمل الحكمة ولا أصعد إلا في وقتي.

لأنِّي أَشْهَدُ عَلَيْهِ كما في يوحنا ٣: ٢٠. أثارت شهادة المسيح على العالم مقاومة العالم له. وهذا علة كل مقاومة العالم لدين المسيح في كل عصر. و «هَذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى العَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً» (يوحنا ٣: ١٩). فالذين يحبون الظلمة يبغضون النور، لأن النور يُظهر لهم خطيتهم ويثير ضمائرهم عليهم.

٨ «اِصْعَدُوا أَنْتُمْ إِلَى هَذَا العِيدِ. أَنَا لَسْتُ أَصْعَدُ بَعْدُ إِلَى هَذَا العِيدِ، لأنَّ وَقْتِي لَمْ يُكْمَل بَعْدُ».

ع ٦ و٣٠ ويوحنا ٨: ٢٠

اِصْعَدُوا أَنْتُمْ قال يسوع لإخوته أن يذهبوا إذا أرادوا مع القافلة الصاعدة من الجليل التي تصل في بدء العيد وأن لا ينتظروه لعدم إتيان وقته المعيّن من الآب، فإنه لم يُرد أن يسبقه ولو بدقيقة واحدة.

أَنَا لَسْتُ أَصْعَدُ بَعْدُ ليس معنى قول المسيح أنه لا يذهب أبداً، بل أنه لا يذهب حتى يريد أبوه. فما قاله لا يمنع أنه يذهب إلى العيد في الخفاء كما فعل بعد أربعة أيام. ولا ينفي أنه يُظهر نفسه علانية للعالم كما قصد فعله بعد ستة أشهر لما دخل أورشليم باحتفال الجموع وهم يهتفون «أوصنا! مبارك الآتي باسم الرب».

٩ «قَالَ لَهُمْ هَذَا وَمَكَثَ فِي الجَلِيلِ».

الأرجح أنه بقي هناك نحو أربعة أيام لأنه حضر العيد في منتصفه (ع ١٤) وكانت مدة العيد ثمانية أيام.

حضور المسيح للعيد وخطابه وقتئذ (ع ١٠ – ٥٣)

١٠ «وَلَمَّا كَانَ إِخْوَتُهُ قَدْ صَعِدُوا، حِينَئِذٍ صَعِدَ هُوَ أَيْضاً إِلَى العِيدِ، لا ظَاهِراً بَل كَأَنَّهُ فِي الخَفَاءِ».

يوحنا ١١: ٥٦

كَأَنَّهُ فِي الخَفَاءِ رفض الذهاب مع القافلة الصاعدة إلى العيد عمداً لئلا يتعذر عليه منع الشعب الذي شاهد معجزاته من المناداة به ملكاً، فأظهر الحكمة باعتزال أسباب الهياج قبل موعد تسليمه. فذهابه خفية لا يستلزم أنه بدا له خلاف ما قاله لإخوته، لأنه صعد في أحوال ووقت غير الأحوال والوقت عند طلب إخوته. وصعوده في الخفاء لا يمنع من مصاحبته بعض تلاميذه، ولا من إرسال رسل أمامه ليجهزوا له منزلاً في الطريق (كما ذُكر في لوقا ٩: ٥١). فالمعنى أنه رفض شهرة الصعود مع تلك القافلة العظيمة.

١١ «فَكَانَ اليَهُودُ يَطْلُبُونَهُ فِي العِيدِ، وَيَقُولُونَ: أَيْنَ ذَاكَ؟».

يوحنا ١١: ٥٦

اليَهُودُ أي أعداؤه (ع ١، ١٣، ١٩).

يَطْلُبُونَهُ ليقتلوه كما يظهر من آية ١. وطلبوه يومئذ لتوقعهم حضوره العيد كسائر اليهود وكعادته غالباً.

أَيْنَ ذَاكَ لا يخلو كلامهم هذا من الاستخفاف بيسوع، ومن الدلالة على أنه لم يأت مع القافلة لحكمة عنده.

١٢ «وَكَانَ فِي الجُمُوعِ مُنَاجَاةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ نَحْوِهِ. بَعْضُهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ صَالِحٌ. وَآخَرُونَ يَقُولُونَ: لا بَل يُضِلُّ الشَّعْبَ».

يوحنا ٩: ١٦ و١٠: ١٩، متّى ٢١: ٤٦ ولوقا ٧: ١٦ ويوحنا ٦: ١٤ وع ٤٠

الجُمُوعِ ميّز البشير بين فرقتين من بني إسرائيل هما «اليهود» و «الجموع» وقصد بالأولى رؤساء الشعب الذين جاهروا بعداوتهم ليسوع، وقصد بالثانية «العامة» ومنهم أصحابه الذين عرفوه في الجليل واليهودية وأكرموه وتبعوه.

يَقُولُونَ «إِنَّهُ صَالِحٌ»يدل على كثرة أعداء يسوع وقوتهم أن أصحابه لم يجسروا على الشهادة بأنه المسيح والملك كما اعتقدوا واكتفوا بمجرد الشهادة بصلاحه.

وَآخَرُونَ.. يُضِلُّ الشَّعْبَ هذا قول أصحاب الرؤساء من العامة. ومعناه أنه يضل الناس بدعواه أنه المسيح.

١٣ «وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَتَكَلَّمُ عَنْهُ جِهَاراً لِسَبَبِ الخَوْفِ مِنَ اليَهُودِ».

يوحنا ٩: ٢٢ و١٢: ٤٢ و١٩: ٣٨

كانت قوة الرؤساء شديدة وتأثيرهم في الشعب عظيماً حتى لم يجسر أصحاب يسوع ولا أعداؤه أن يتباحثوا في دعواه. ولعل الرؤساء لم يكونوا قد حكموا علانية ببطلان دعوى المسيح. ولم يُظهر أعداؤه من العامة كل مقاومتهم له خوفاً من أن يغيِّر الرؤساء رأيهم في رفضه.

١٤ «وَلَمَّا كَانَ اٰلْعِيدُ قَدِ اٰنْتَصَفَ، صَعِدَ يَسُوعُ إِلَى اٰلْهَيْكَلِ، وَكَانَ يُعَلِّمُ».

اٰلْعِيدُ قَدِ اٰنْتَصَف أي مرّ من أيامه أربعة، وذلك وقت قلّت فيه حركة الشعب ومناقشاتهم في أمر المسيح، ويئس أصحابه وأعداؤه من حضوره.

صَعِدَ يَسُوعُ إِلَى الهَيْكَلِ صعد إلى اليهودية في الخفاء، ودخل هيكل أورشليم علانيةً بغتةً. وكان حضوره كذلك أكثر أمناً له لأن الرؤساء خافوا أن يقاوموه في وسط الجموع لئلا يقع شغب (متّى ٢١: ٤٦) فكما أن الشعب خاف الرؤساء (ع ١٣) خاف الرؤساء الشعب. وكان الموضع الذي صعد إليه من الهيكل أحد دوره (انظر شرح متّى ٢١: ١٢).

وَكَانَ يُعَلِّمُ لعله شرح لهم الفصل الذي قُرئ يومئذ من الكتاب الإلهي كما كان يفعل الربانيون الذين تعلموا في مدارس اليهود المقدسة، أو أنه فسر لهم بعض النبوات المتعلقة بالمسيح وبيّن لهم أنها تمت به كما سبق وفعل في مجمع الناصرة. وكثرة الحاضرين هناك أعدَّت له أحسن فرصة للتعليم.

١٥ «فَتَعَجَّبَ اليَهُودُ قَائِلِينَ: كَيْفَ هَذَا يَعْرِفُ الكُتُبَ وَهُوَ لَمْ يَتَعَلَّمْ؟».

متّى ١٣: ٥٤ ومرقس ٦: ٢ ولوقا ٤: ٢٢ وأعمال ٢: ٧

فَتَعَجَّبَ اليَهُودُ هذا ليس تعجُّب الاستحسان لتعليمه الذي يقود إلى التسليم بصحته، بل تعجب الحيرة والدهشة التي أبكمتهم، فلم يستطيعوا إنكار حكمة المسيح وقوة براهينه وصحة معرفته الشريعة مع أنهم أحبوا أن يصرحوا بجهله لو أمكنهم وعدم استحقاقه أن يُسمع له. ومن الواضح أن أحسن ربانييهم الذين شغلوا سنين كثيرة بالدرس والمطالعة لم يبلغوا معرفته.

كَيْفَ هَذَا يَعْرِفُ الكُتُبَ أي مدونات العلوم حسب اصطلاحهم، وهي مما اعتاد الناس أن يتعلموها في المدارس بعد سنين من الدرس بإرشاد أفضل المعلمين. وكانت العلوم التي اشتغلوا بها يومئذ العلوم الدينية خاصة.

والذي حيّر اليهود حينئذ لا بد من أن يحير كل إنسان ينكر أن المسيح ابن الله، فعلى المنكِر أن يبيِّن كيف أن يسوع الذي تربَّى نجاراً في قرية حقيرة في الجليل، وكان رفقاؤه كلهم شبه أميين ولم يحضروا قط مدرسة الفلاسفة، علَّم تعليماً يفوق كل ما علمه فلاسفة العالم حكمة وصواباً، وأسس ديناً أخذ يُبطل غيره من الأديان ويعظم ويدوم. وجواب قولهم «كيف يعرف الكتب وهو لم يتعلم؟»: إنه الله.

١٦ «أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: تَعْلِيمِي لَيْسَ لِي بَل لِلَّذِي أَرْسَلَنِي».

متّى ٣: ١١ و٨: ٢٨ و١٢: ٤٩ و١٤: ١٠، ٢٤

تَعْلِيمِي لَيْسَ لِي مضمون جواب المسيح أنه لا محل للتعجب كأني أبدعت علمي من نفسي. فإنه كان من عادة ربانيي اليهود أن يؤيدوا تعاليمهم بذكر مشاهير معلميهم، وباقتباس أقوالهم إثباتاً لما يقولونه. لكن يسوع أسند تعليمه إلى المعلم الإلهي أي الله، وهذا جواب سؤالهم: «من علمه؟» فكأنه قال: السماء مدرستي، والذي أرسلني هو معلمي، وأنا لم أُبدع شيئاً من نفسي. أو لعل معنى قوله «تعليمي ليس لي» إنّه ليس لي وحدي حتى إذا قبلتموه تكونون قد قبلتم مجرد قولي، وإن رفضتموه رفضتم مجرد كلامي.. لكن تعليمي مما سمعته من الآب (يوحنا ٨: ٤٠) وأنا صرحت به بسلطان أبي (يوحنا ١٢: ٤٩) كما كانت أعمالي (يوحنا ٥: ٣٦). فقول المسيح هنا كقوله في يوحنا ٥: ١٨، ٣٠.

بَل لِلَّذِي أَرْسَلَنِي أي الله (ع ٢٧).

١٧ «إِنْ شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ مَشِيئَتَهُ يَعْرِفُ التَّعْلِيمَ، هَل هُوَ مِنَ اللَّهِ، أَمْ أَتَكَلَّمُ أَنَا مِنْ نَفْسِي».

يوحنا ٨: ٤٣

إِنْ شَاءَ أَحَدٌ طلب اليهود من يسوع آية يعرفون بها أن تعليمه من الله، وأبوا أن يؤمنوا به إن لم يعطهم الآية التي طلبوها، فصرح لهم هنا أنهم قادرون أن يعرفوا صحة تعليمه بدون معجزة إذا طابقت مشيئتهم مشيئة الله. فإن كانت قلوبهم مستعدة لقبول الحق فلهم براهين كافية لإقناعهم، وإن مالوا إلى تكذيب الحق هان عليهم أن يروا الحق كذباً.

ومن مبادئ ملكوت المسيح أن ميل القلب إلى الحق يُجهز العقل لإدراكه، فالذي يحب الحق يستعمل كل الوسائط إلى معرفته، وإله الحق يحبه ويهديه سُبُل الحق. وسبب معظم الكفر في العالم ميل القلب إلى الباطل أكثر من ميله إلى الحق. وقد جعل الله ثواب إخلاص النية صفاء البصيرة وفقاً لقوله «إِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّراً» (متّ ٦: ٢٢) وقوله «وَأَمَّا مَنْ يَفْعَلُ الحَقَّ فَيُقْبِلُ إِلَى النُّورِ» (يوحنا ٣: ٢١). وقوله «لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي» (يوحنا ٥: ٤٦).

هَل هُوَ مِنَ اللَّهِ أي الذي أمر الله بالتكلم به.

أَمْ أَتَكَلَّمُ أَنَا مِنْ نَفْسِي أي بدون أن يرسلني الله ويتكلم بفمي.

١٨ «مَنْ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ يَطْلُبُ مَجْدَ نَفْسِهِ، وَأَمَّا مَنْ يَطْلُبُ مَجْدَ الَّذِي أَرْسَلَهُ فَهُوَ صَادِقٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلمٌ».

يوحنا ٥: ٤١ و٨: ٥٠

هذا برهان على صحة ما قاله في الآية السابقة. وأعطاهم علامة يميزون بها المعلم المرسَل من الله من المعلم الآتي من نفسه والمتكلم بكلماته.

مَنْ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ يَطْلُبُ مَجْدَ نَفْسِهِ هذه علامة المعلم الآتي من نفسه، فإنه يحب ذاته ويهتم بشرفه وربحه. وغاية مثل هذا المعلم الدنيوية تبيّن أن أصله دنيوي. وقد صدَقَ هذا على الفريسيين معلمي الشعب، لأن كبرياءهم ومحبتهم لأنفسهم منعاهم من معرفة الحق وتعليمه للناس.

وَأَمَّا مَنْ يَطْلُبُ مَجْدَ الَّذِي أَرْسَلَهُ كان الواضح من أمر المسيح أنه كان في كل كلماته وأعماله لم يطلب مجد نفسه بل مجد الله. فكان عليهم أن يقتنعوا من ذلك بأنه كان يتكلم بالحق لأن المعلم الذي يطلب مجد الله يحفظه الله من كل ميل إلى الضلال. فموافقة مشيئته لمشيئة الله تجعل تعاليمه موافقة لتعاليم الله. ولا يصدق هذا إلا على المسيح الذي طلب مجد الله فقط، وأن تعليمه الحق الخالص، وأنه ليس فيه ظلم.

ولعل هذه إجابة المسيح على قول بعضهم «إنه يضل الشعب» (ع ١٢) لأنه لا بد للمضل من غاية أنانية. وقد صرح المسيح أن ليس له من غاية كتلك، بل إنه يفعل كل شيء لمجد الله. ولعل ذلك رد على دعواهم أنه تعدى شريعة السبت في زيارته السابقة لأورشليم يوم شفى المقعد عند بركة بيت حِسدا (يوحنا ٥: ١٦).

١٩ «أَلَيْسَ مُوسَى قَدْ أَعْطَاكُمُ النَّامُوسَ؟ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَعْمَلُ النَّامُوسَ! لِمَاذَا تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي؟».

خروج ٢٤: ٣ وتثنية ٣٣: ٤ ويوحنا ١: ١٧ وأعمال ٧: ٣٨، متّى ١٢: ١٤ ومرقس ٣: ٦ ويوحنا ٥: ١٦، ١٨ و١٠: ٣١، ٣٩ و١١: ٥٣

قال هذا دفعاً لشكواهم أنه نقض شريعة السبت (يوحنا ٥: ١٩).

أَلَيْسَ مُوسَى قَدْ أَعْطَاكُمُ النَّامُوسَ أي وصية السبت. ولو أجابوه لفظاً لقالوا كلهم: نعم. فإذاً هم مضطرون أن يطيعوا تلك الوصية على الدوام.

وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَعْمَلُ النَّامُوسَ أي شريعة السبت وبرهن هذه الدعوى في ع ٢٢، ٢٣ أي أثبت أنهم يخالفونها بخدمة الهيكل.

لِمَاذَا تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي كلامه موجَّه هنا إلى أعدائه رؤساء الشعب، ومبنيٌّ على ما قيل في يوحنا ٥: ١٦. فمعناه: لماذا تخطئونني كأني نقضت شريعة السبت وتطلبون قتلي، بينما أنتم تفعلون ما فعلته أنا، لسبب غير السبب الذي حملني على الفعل؟

(ظن بعض المفسرين أن المسيح أشار إلى الوصية الناهية عن القتل بقوله «أليس موسى قد أعطاكم الناموس» وأنه أثبت عليهم مخالفة تلك الوصية بطلبهم قتله. لكن ما يأتي في ع ٢٠ – ٢٤ يدل على أنه قصد ما قلناه في تفسيرنا).

٢٠ «أَجَابَ الجَمْعُ: بِكَ شَيْطَانٌ. مَنْ يَطْلُبُ أَنْ يَقْتُلَكَ؟».

يوحنا ٨: ٤٨ ، ٥٢ و١٠: ٢٠

الجَمْعُ أي جمهور الشعب ممن حضروا العيد من جهات مختلفة، ولم يعرفوا شيئاً من الحوادث الماضية التي ذُكرت في يوحنا ٥ ولا من قصد الرؤساء قتله. وهم يختلفون عن أهل أورشليم (ع ٢٥).

بِكَ شَيْطَانٌ هذا لم يصدر عن حقد كقول الفريسيين «بِرَئِيسِ الشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ الشَّيَاطِين» (متّى ٩: ٣٤) بل عن شفقة. فقد ظنوا أن المسيح اتهمهم بطلب قتله، وهو حسب علمهم ليس صحيحاً. ومن عادة الناس أنهم متى حدث لأحد وهمٌ كهذا نسبوه إلى وسوسة الشيطان. فهم حسبوا قول المسيح مجرد ظن، فحكموا عليه باختلال العقل.

٢١ «فَقَالَ يَسُوعُ لَهُمْ: عَمَلاً وَاحِداً عَمِلتُ فَتَتَعَجَّبُونَ جَمِيعاً».

لم يجب يسوع الشعب على دعواهم أنه مختل، بل استمر يخاطب اليهود.

عَمَلاً وَاحِداً عَمِلتُ أي في السبت، وأشار بذلك إلى شفائه المقعد يوم السبت (يوحنا ٥: ١ – ٨). ولم يذكر غيره من كل معجزاته الكثيرة في أورشليم (يوحنا ٢: ٢٣، ٢٥ و٣: ٢). وقيّد عمله في السبت بكونه «واحداً» ليظهر الفرق بين عمله وعملهم، لأنه فعل ذلك مرة واحدة وهم فعلوه مراراً.

فَتَتَعَجَّبُونَ جَمِيعاً لا من المعجزة بل لصنعي إياها في السبت، كأني ارتكبت ذنباً فظيعاً يستحق الموت. فكأن تعجبهم من معجزة عظيمة، وفظاعة عدم إيمان تقشعر منها الأبدان.

٢٢ «لِهَذَا أَعْطَاكُمْ مُوسَى الخِتَانَ، لَيْسَ أَنَّهُ مِنْ مُوسَى، بَل مِنَ الآبَاءِ. فَفِي السَّبْتِ تَخْتِنُونَ الإِنْسَانَ».

لا ١٢: ٣، تكوين ١٧: ١٠

لِهَذَا أي لسبب سيأتي، وهو بيان أن عمل الخير الضروري للإنسان في السبت لا يناقض وصية السبت.

أَعْطَاكُمْ مُوسَى الخِتَانَ أي أن الذي أعطاكم ناموس السبت المشار إليه في ع ١٩ هو نفسه أعطاكم الشريعة الأخرى التي تأمر بالختان في اليوم الثامن، فأمر بذلك كل بني إسرائيل بما يكسر شريعة السبت (لا ١٢: ٣ ولو ٢: ٢١).

لَيْسَ أَنَّهُ مِنْ مُوسَى، بَل مِنَ الآبَاءِ هذه جملة معترضة قُصد بها تفسير «أن موسى أعطاكم الختان». والمعنى أنه أدخل الختان بين ما أمرهم به من الوصايا، مع أن الله أمر الآباء الذين قبل موسى بالختان، وذلك من عهد إبراهيم (تكوين ١٧). وما قاله في الختان يصح من جهة السبت أيضاً. والخلاصة أن موسى أعطى كلاً منهما، لكنه ليس أول من أعطاهما.

فَفِي السَّبْتِ تَخْتِنُونَ الإِنْسَانَ إن كان الثامن من يوم ولادته. و «الإنسان» هنا الطفل الذكر (يوحنا ١٦: ٢١).

٢٣ «فَإِنْ كَانَ الإِنْسَانُ يَقْبَلُ الخِتَانَ فِي السَّبْتِ، لِئلا يُنْقَضَ نَامُوسُ مُوسَى، أَفَتَسْخَطُونَ عَلَيَّ لأنِّي شَفَيْتُ إِنْسَاناً كُلَّهُ فِي السَّبْتِ؟».

يوحنا ٥: ٨، ٩، ١٦

فَإِنْ كَانَ الإِنْسَانُ يَقْبَلُ الخِتَانَ فِي السَّبْتِ أي إذا كان السبت اليوم الثامن من أيام الولادة. وذكر المسيح ذلك لأنه كان شائعاً بينهم ومقبولاً واشتركوا فيه جميعاً، لكن الختان لم يكن سوى عمل خارجي ورمز يشير إلى التطهير، لا تطهيراً حقيقياً في الباطن.

لِئلا يُنْقَضَ نَامُوسُ مُوسَى الآمر بالختان في اليوم الثامن (تكوين ١٧: ١٢ و٢١: ٤ ولاويين ١٢: ٣). أثبت المسيح لليهود في هذا العدد قضيتين: (١) أنه يجوز نقض شريعة السبت لكي لا تُنقض شريعة الختان. (٢) يجوز نقض شريعة السبت للأعمال الضرورية وأعمال الرحمة والأعمال المختصة بالعبادة.

أَفَتَسْخَطُونَ عَلَيَّ لأنِّي شَفَيْتُ إِنْسَاناً كُلَّهُ قارن المسيح الختان بشفائه للمقعد. والختان ليس سوى إشارة إلى التطهير، وأما الشفاء فهو إنقاذ جسد الإنسان كله من المرض، وتطهير نفسه من الخطية لخلاصه الأبدي، وهذا يتفق مع قوله «أنت قد برئت، فلا تخطئ أيضاً» (يوحنا ٥: ١٤).

يقول المسيح لليهود: لقد وافقتم على جواز الأعمال في يوم السبت، وأنا عملتُ فيه عملاً واحداً، وأنتم تعملون فيه أعمالاً كثيرة لأقل داعٍ. فإن كان الختان جائزاً في السبت فبالأولى شفائي. وما تعملونه أنتم يرمز إلى التطهير، وما عملته أنا هو التطهير الحقيقي. وأنتم تعملون لخير جزئي وأنا عملت لخير كلي.

٢٤ «لا تَحْكُمُوا حَسَبَ الظَّاهِرِ بَلِ احْكُمُوا حُكْماً عَادِلاً».

تثنية ١: ١٦، ١٧ وأمثال ٢٤: ٢٣ ويوحنا ٨: ١٥ ويعقوب ٢: ١

لا تَحْكُمُوا حَسَبَ الظَّاهِرِ الحكم حسب الظاهر هو القضاء بلا إمعان النظر في كل أحوال الأمر. وحسب الظاهر الختان محرم في السبت وكذلك شفائي فيه، وعلى هذا حكمتم عليّ بالخطأ لأني شفيت في السبت، والحق أنه جائز كما جاز الختان.

بَلِ احْكُمُوا حُكْماً عَادِلاً أي قيسوا عملي في السبت بالمقياس الذي تقيسون به عملكم فيه. برروني كما تبررون أنفسكم فتروا أني أستحق المدح على ما لمتموني عليه. انظروا إلى كل أحوال الأمر والأسباب الموجبة له بلا هوىً أو تعصب، وتأملوا في ما تلزم شريعة السبت به، وفي ما تبيحه من الأعمال الضرورية وأعمال الرحمة.

٢٥ «فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ أُورُشَلِيمَ: أَلَيْسَ هَذَا هُوَ الَّذِي يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ؟».

قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ أُورُشَلِيمَ أي من سكان تلك المدينة. قال ذلك ليميزهم عن المذكورين في ع ٢٠ الذين هم من خارج أورشليم، فهؤلاء لم يعرفوا قصد الرؤساء قتل يسوع الذي عرفه أولئك. وقاله أيضاً ليميز بينهم وبين الرؤساء المشار إليهم في هذه الآية والمذكورين في الآية الآتية.

أَلَيْسَ هَذَا هُوَ الَّذِي يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ أي هذا هو حقيقة فالاستفهام هنا إنكاري. والذين طلبوا قتله هم الرؤساء.

٢٦ «وَهَا هُوَ يَتَكَلَّمُ جِهَاراً ولا يَقُولُونَ لَهُ شَيْئاً! أَلَعَلَّ الرُّؤَسَاءَ عَرَفُوا يَقِيناً أَنَّ هَذَا هُوَ المَسِيحُ حَقّاً؟».

ع ٤٨

هَا هُوَ يَتَكَلَّمُ جِهَاراً هذا كلام تعجب فكأنهم قالوا: غريبٌ أن هذا الذي طلبوا قتله لم يزل حياً، وفوق ذلك هو حر في أن يفعل ويعلّم كما يشاء.

ولا يَقُولُونَ لَهُ شَيْئاً أي أنهم بدل أن يقتلوه كما قصدوا، لم يمنعوه ولا هددوه ولا اعترضوه بشيء.

أَلَعَلَّ الرُّؤَسَاءَ عَرَفُوا يَقِيناً: المقصود بهؤلاء الرؤساء أعضاء مجلس السبعين من الشيوخ ورؤساء الكهنة. ومضمون سؤالهم أنه: هل غيّر أولئك أفكارهم ومالوا إلى قبول دعواه؟ ولم يظهروا ذلك علانية لسبب لا نعلمه. وهل وقفوا على برهان قاطع يثبت أن يسوع هو المسيح ولذلك تركوه في أمن وحرية؟

٢٧ «وَلَكِنَّ هَذَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ، وَأَمَّا المَسِيحُ فَمَتَى جَاءَ لا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ أَيْنَ هُوَ».

متّى ١٣: ٥٥ ومرقس ٦: ٣ ولوقا ٤: ٢٢

وَلَكِنَّ هَذَا هذا الاستدراك يدل على أن المتكلمين مائلون بعض الميل إلى التسليم بدعوى المسيح، وأنهم ظنوا أن الرؤساء سلَّموا، ولكن شيئاً ما منعهم من إعلان هذا التسليم.

نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ أي موضع ميلاده ومكان سكنه. وافتكروا أنه لا شك في ولادته في الناصرة، وأن أهله معروفون، أي أنه ابن يوسف النجار. وكان ذلك رأي عامة الناس (يوحنا ٦: ٤٢ ومتّى ١٣: ٥٥، ٥٦). وهذا ما نادى به الشعب يوم دخوله أورشليم إذ هتفوا «هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل» وكما كُتب في العنوان فوق صليبه في ثلاث لغات.

وَأَمَّا المَسِيحُ فَمَتَى جَاءَ لا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ أَيْنَ هُوَ هذا من تقاليد اليهود ورأي العامة حسب أقوال مؤرخي اليهود، وهو أن أصل المسيح يكون سراً مكتوماً. نعم إنهم عرفوا أن الأنبياء تنبأوا بأن يكون المسيح من نسل داود ومن بيت لحم مدينة داود، وكذا أجاب رؤساء الشعب هيرودس (متّى ٢: ٥) وكذا اعتقدوا (ع ٤٢). ولكنهم لم يجدوا تناقضاً بين تلك النبوات وتقاليدهم، لأنهم اعتقدوا أنه لا يولد كسائر الناس، وأن الأرواح والزوابع تخطفه حالاً بعد ولادته عن نظر الناس، ويبقى متوارياً زمناً عن أبصار الناس، ثم يظهر في الهيكل بغتة، ويمسحه إيليا النبي، ويبدأ يمارس أعمال القوة والمجد. وبنوا هذا الزعم على ما قيل في دانيال ٧: ١٣ وملاخي ٣: ١، وذلك قوله «يَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ» (إشعياء ٩: ٦ و٥٣: ٨ وميخا ٥: ٢ وفي متّى ٢٤: ٢٣، ٢٦) إشارات إلى وجود ذلك الوهم عندهم.. فحسب هذا الرأي ظهر للشعب استحالة أن يكون مسيح الله من قرية معلومة كناصرة الجليل، وأبوه وأمه وإخوته كلهم معروفون، وأن يسكن هناك ثلاثين سنة بدل أن يأتي بغتة.

٢٨ «فَنَادَى يَسُوعُ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الهَيْكَلِ: تَعْرِفُونَنِي وَتَعْرِفُونَ مِنْ أَيْنَ أَنَا، وَمِنْ نَفْسِي لَمْ آتِ، بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ، الَّذِي أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ».

يوحنا ٨: ١٤ يوحنا ٥: ٤٣ و٨: ٤٢ ويوحنا ٥: ٣٢ و٨: ٢٦ ورومية ٣: ٤ ويوحنا ١: ١٨ و٨: ٥٥

فَنَادَى بناءً على ما قالوا في أمره. وقوله «نادى» يدل على أنه رفع صوته ودعا الجميع إلى الانتباه لقوله.

تَعْرِفُونَنِي وَتَعْرِفُونَ مِنْ أَيْنَ أَنَا اختلف المفسرون كثيراً في شرح هذه العبارة، فحسبها بعضهم استفهاماً إنكارياً، أي: لستم تعرفونني. وحسبها البعض من عبارات التهكم (كما في يوحنا ١٦: ٣١). فعلى هذا كأنه قال: ما هذه المعرفة؟ إنها لا تستحق أن تُسمى معرفة! وحسبها بعضهم مجرد تكرير لقولهم، وأن يسوع كرره ليُظهر بطلانه في ما بعد. ورأى بعضهم أنها تسليم بمعرفتهم، أي أنهم يعرفون من أمره ما هو كافٍ لإقناعهم إذا أرادوا الاقتناع، وذلك مما أخبرهم به من أمره ومما شاهدوه من سيرته ومعجزاته وتعليمه. وذلك كله كافٍ لأن يحقق لهم أنه من السماء.

ولعل المعنى: إنكم تعلمون بعض أمري فتعرفونني إنساناً رأيتموه وسمعتموه، وعرفتم أني كنت ساكناً في الناصرة وأني محسوب ابن يوسف، ولكن هذه المعرفة ليست كاملة. فأنتم تجهلون أني من السماء، وأني مرسل من الله. وهذا ما أوضحه في ما بعد. والتفسير الأخير هو المرجح.

وَمِنْ نَفْسِي لَمْ آتِ علموا هذا بما أنبأهم به قبلاً وبما أخبرهم به هنا فإن كل سيرته على الأرض تدل على أنه لم يطلب شيئاً لنفسه.

بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ أي الله الآب وشهادته لا يمكن إنكارها. وفي هذا الكلام جواب لقول بعضهم «إنه يضل الشعب» (ع ١٢). ويبطل دعواهم هذه أن مجيئه حقَّق مواعيد الله الذي هو الحق ومصدر الحق، وهو أيضاً شهد له بفم المعمدان، وبصوت مسموع من السماء، وبالمعجزات التي أجراها على يده.

الَّذِي أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ أي لا تعرفون حقيقته ولا مقاصده ولا روحانية ملكوته الذي أخذ يؤسسه على الأرض. فجهلوا مقام المسيح المُرسل من الآب، لعدم معرفتهم الآب الذي أرسله.

وفي هذه العبارة توبيخ شديد للذين ادعوا أنهم وحدهم عبدة الله بالحق. وفيها جواب لقول اليهود «فَمَتَى جَاءَ المَسِيحُ لا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ أَيْنَ هُوَ» (ع ٢٧).

٢٩ «أَنَا أَعْرِفُهُ لأنِّي مِنْهُ، وَهُوَ أَرْسَلَنِي».

متّى ١١: ٢٧ ويوحنا ١٠: ١٥

قارن يسوع هنا معرفته الكاملة بجهلهم الكبير.

أَنَا أَعْرِفُهُ لأنِّي مِنْه أي لأني كلمة الله مساوٍ له في الجوهر (يوحنا ١: ١).

وَهُوَ أَرْسَلَنِي إلى الأرض لأخبر به.

٣٠ «فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ، وَلَمْ يُلقِ أَحَدٌ يَداً عَلَيْهِ، لأنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ».

مرقس ١١: ١٨ ولوقا ١٩: ٤٧ و٢٠: ١٩ وع ١٩ ويوحنا ٨: ٢٧، ع ٤٤ ويوحنا ٨: ٢٠

فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ أي بعض اليهود من أعدائه، وفعلوا ذلك من أنفسهم لأنهم عرفوا قصد الرؤساء، فقصدوا أن يقبضوا عليه ويذهبوا به إليهم. والذي هيّج غضبهم هو قوله «إنهم لا يعرفون الله» ودعواه أنه متحد به كل الاتحاد.

لأنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ أي الوقت المعيّن من الله لموته. فالذي منعهم من القبض عليه هو قوة الله، وهي نفس القوة التي سدت أفواه الأسود عن دانيال.

٣١ «فَآمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنَ الجَمْعِ، وَقَالُوا: أَلَعَلَّ المَسِيحَ مَتَى جَاءَ يَعْمَلُ آيَاتٍ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الَّتِي عَمِلَهَا هَذَا؟».

متّى ١٢: ٢٣ ويوحنا ٣: ٢ و٨: ٣٠

فَآمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنَ الجَمْعِ وذكر «الجمع» هنا تمييزاً عن وجوه الشعب. ولم يكن إيمانهم كاملاً، إنما مالوا إلى التسليم بدعوى يسوع أنه المسيح. وأحب يوحنا أنه يذكر قبول بعض الناس له مع رفض البعض الآخر (يوحنا ١: ١١ ، ١٢ و٢: ١٨ ، ٢٣ و٣: ٣٢، ٣٣ و٦: ٦٦، ٦٨).

أَلَعَلَّ المَسِيحَ.. يَعْمَلُ آيَاتٍ أَكْثَرَ أشاروا بهذا إلى المعجزات التي شاهدوها في اليهودية وسمعوا بعمله مثلها في الجليل. وفي هذا الإقرار تقدُّمٌ عمّا قالوه في ع ١٢ وهو «أنه صالح». ولكن خوفهم من الرؤساء جعلهم يعترفون به بطريق الاستفهام دون أن يعلنوا أنهم تلاميذه. فعلى كل الذين لا يسلمون بدعوى المسيح أن يتأملوا في هذا السؤال الذي هو في محله. ومضمونه أن ما فعله المسيح برهان قاطع بصحَّة دعواه، ولا يمكن أن يزاد عليه.

٣٢ «سَمِعَ الفَرِّيسِيُّونَ الجَمْعَ يَتَنَاجَوْنَ بِهَذَا مِنْ نَحْوِهِ، فَأَرْسَلَ الفَرِّيسِيُّونَ وَرُؤَسَاءُ الكَهَنَةِ خُدَّاماً لِيُمْسِكُوهُ».

الفَرِّيسِيُّونَ هم فرقة من اليهود أظهرت يومئذ أشد البغض للمسيح. وكان الصدوقيون بعد موته وقيامته من أشد اليهود مقاومة لتلاميذ المسيح. وفرقة الفريسيين أكثر عدداً وأعظم سلطاناً وقوة من سائر اليهود وأكثر غيرة للديانة اليهودية. وعرفوا تأثير تعاليم يسوع في الشعب مما سمعوه بأنفسهم أو مما بلغهم من الجواسيس الذي أرسلوهم. فخافوا نقص قوتهم من زيادة احترام الناس للمسيح.

فَأَرْسَلَ الفَرِّيسِيُّونَ وَرُؤَسَاءُ الكَهَنَةِ هم أعضاء مجلس السبعين لأنهم كانوا من الفرقتين المذكورتين هنا. ولولا أنهم كانوا في صفة مجلس ما استطاعوا أن يرسلوا العسكر. وهذه أول مرة ذكر يوحنا في بشارته رؤساء الكهنة، وهم رؤساء الفرق الأربع والعشرين التي قُسم الكهنة إليها، وكل من كان قد تولى مقام الحبر العظيم ثم عُزل. وكانوا في تلك الأيام كثيرين على خلاف ما فرضه موسى. والأرجح أنهم أرسلوا العسكر ليقبضوا على المسيح في فرصة مناسبة، لا كيفما اتفق. والفرق بين طلب مسكه في العدد ٣٠ وطلب مسكه في هذا العدد، أن الأول كان تطوعاً من أفراد، والثاني قانونياً من المجلس.

٣٣، ٣٤ «٣٣ فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً يَسِيراً بَعْدُ، ثُمَّ أَمْضِي إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي. ٣٤ سَتَطْلُبُونَنِي ولا تَجِدُونَنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا لا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا».

يوحنا ١٣: ٣٣ و١٦: ١٦ هوشع ٥: ٦ ويوحنا ٨: ٢١ و١٣: ٣٣

فَقَالَ عرف المسيح بمؤامرة اليهود وأن عاقبتها موته بعد قليل، فنبّه السامعين أن يغتنموا الفرصة القصيرة الباقية ليسمعوا تعليمه ويستفيدوا منه.

أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً يَسِيراً قال هذا قبل صلبه بستة أشهر. ووجَّه كلامه إلى كل الجمع من خدام المجلس وغيرهم، بسبب رقة قلبه عليهم وغيرته في خلاصهم. ومعناه للجميع أن هذا هو «يوم افتقادكم» بالرحمة الذي لم تعرفوا به (لوقا ١٩: ٢٤). وأن ذلك اليوم يعقبه يوم العقاب. ومعناه للعسكر أنهم لا يستطيعون أن يقبضوا عليه حيئنذٍ لأن وقت موته لم يكن قد أتى، بل بقي له وقت قصير للتبشير.

أَمْضِي إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي أي أرجع إلى الله بالموت. لم يدرك اليهود هذا المعنى أو ادعوا أنهم لم يفهموه كما يظهر من الآية الآتية. إنما فهموا أنه يعتزلهم حتى لا يراه صاحب ولا عدو.

سَتَطْلُبُونَنِي الأرجح أن المعنى هنا كما في قوله «تَأْتِي أَيَّامٌ فِيهَا تَشْتَهُونَ أَنْ تَرَوْا يَوْماً وَاحِداً مِنْ أَيَّامِ ابْنِ الإِنْسَانِ» (لوقا ١٧: ٢٢) فراجع التفسير هنالك. وهو وفق ما قيل في (يوحنا ٨: ٢١ و١٣: ٣٣). ومضمون كلام المسيح في هذه الآية أن اليهود يظلون يتوقعون مجيء المسيح الموعود به، ويشتهونه بغاية الشوق، وينتظرونه ملكاً زمنياً ومنقذاً سياسياً. ولم يعرفوا أن يسوع هو هو، ورفضوه لأنه ملك روحي ومنقذ النفس من سلطان الخطية. وأظهروا غيرتهم بعد في طلب المسيح بقبولهم بسهولة المسحاء الكذبة (متّى ٢٤: ٢٣، ٢٤). وما قاله المسيح يومئذ لليهود يصح أن يقال اليوم لهم.

ولا تَجِدُونَنِي وليس معناه أنكم إن طلبتموني بالتوبة والإيمان لا تجدونني، لأن البعض طلبوه كذلك يوم الخمسين ووجدوه، بل إنّكم تطلبونني لأكون ملكاً زمنياً ولا تجدونني. تطلبون المسيح على الأرض ولا تجدونه لأنه يكون في السماء. وقوله «لا تجدونني» يشير إلى أن الأمة اليهودية تكون متروكة في حال اليأس والخراب والعجز، لأنها تركت ابن الله المرسل إليها (أمثال ١: ٢٣، ٢٤ وميخا ٣: ٤ وزكريا ٧: ١٣ ومتّى ٢٥: ١٣).

حَيْثُ أَكُونُ أَنَا أي مع الله كقوله «ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ» (يوحنا ٣: ١٣) فإن المسيح الله فلذلك يكون دائماً مع الله الآب.

لا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا وأنتم على ما أنتم فيه. لأنكم لستم أهلاً للحضور أمام الله والوقوف في حضرته، ولستم مستعدين للاشتراك في أفراح السماء الروحية.

٣٥، ٣٦ «٣٥ فَقَالَ اليَهُودُ فِيمَا بَيْنَهُمْ: إِلَى أَيْنَ هَذَا مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ حَتَّى لا نَجِدَهُ نَحْنُ؟ أَلَعَلَّهُ مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى شَتَاتِ اليُونَانِيِّينَ وَيُعَلِّمَ اليُونَانِيِّينَ؟. ٣٦ مَا هَذَا القَوْلُ الَّذِي قَالَ: سَتَطْلُبُونَنِي ولا تَجِدُونَنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا لا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا؟».

إشعياء ١١: ١٢ ويعقوب ١: ١ و١بطرس ١: ١

الأرجح أنهم نطقوا بذلك تهكماً واستهزاءً، وادَّعوا عدم فهمهم أن معنى قوله «أمضي إلى الذي أرسلني» (ع ٣٣) أذهب إلى الله، مع أنه فسر ذلك في ع ١٦، ١٨، ٢٨، ٢٩. فلو طلبوا حقاً أن يدركوا معناه لسألوه ولم يكتفوا بتذمرهم فيما بينهم.

أَلَعَلَّهُ مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى شَتَاتِ اليُونَانِيِّينَ أي اليهود المشتتين بين اليونانيين (١بطرس ١: ١) والمعنى: هل يذهب إلى أقاصي الأرض حيث ذهب أولئك المتغربون؟ ظنوا أن المسيح قصد هذا السفر لا الموت.

وَيُعَلِّمَ اليُونَانِيِّينَ أي الأمم الوثنية. كأنهم قالوا لا يقدر أن يقنع اليهود بأنه المسيح، فهل يذهب ليقنع الأمم بذلك؟ ولا شيء يجعل يسوع مكروهاً أكثر من اتهامهم إياه بذلك. ولو أنهم لم يكونوا متأكدين من هذا الافتراض. على أن ما قالوه تهكماً كان نبوة منهم على غير قصد، كنبوة قيافا (يوحنا ١١: ٥١) فإن ذلك تمّ بعد موته وقيامته.

سَتَطْلُبُونَنِي أعادوا قول المسيح كأنهم يبحثون عن معنىً خفي فيه، ولم يجدوا ذلك المعنى فأثبتوا أنه كلام فارغ.

٣٧ «وَفِي اليَوْمِ الأَخِيرِ العَظِيمِ مِنَ العِيدِ وَقَفَ يَسُوعُ وَنَادَى: إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَليُقْبِل إِلَيَّ وَيَشْرَبْ».

لاويين ٢٣: ٣٦، إشعياء ٥٥: ١ ويوحنا ٦: ٣٥ ورؤيا ٢٢: ١٧

فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ العَظِيمِ أي الثامن من أيام العيد (لاويين ٢٣: ٣٦، ٣٩ وعدد ٢٩: ٣٥ ونحميا ٨: ١٨). وسُمي «عظيماً» لكثرة المحتفلين فيه، ولأنه يوم اعتكاف لا يعملون فيه. كان الكاهن يذهب كل صباح من أيام العيد مع جمع وافر إلى عين سلوام، ويأتي بماء من هناك في إناء من ذهب يسكبه على المذبح مع خمر من إناء آخر، والشعب يهتف هتاف الفرح ويترنم بأغاني التسبيح، والكهنة يبوِّقون وآخرون يعزفون على آلات الطرب. وليس في الشريعة من أمر بذلك إنما فعله اليهود تذكاراً لإخراج موسى الماء من الصخرة في البرية، ووفقاً لقول النبي «فَتَسْتَقُونَ مِيَاهاً بِفَرَحٍ مِنْ يَنَابِيعِ الخلاصِ» (إشعياء ١٢: ٣) وقوله «أَيُّهَا العِطَاشُ جَمِيعاً هَلُمُّوا إِلَى المِيَاهِ» (إشعياء ٥٥: ١). وفعلوه أيضاً إشارة إلى سكب الروح القدس بركاته الروحية على الشعب.

وَقَفَ يَسُوعُ وَنَادَى أي انتصب ليراه الناس، ورفع صوته ليسمعه الألوف المجتمعين هناك.

إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ اعتبر يسوع نفسه بمنزلة الصخرة التي شرب منها عطاش بني إسرائيل في البرية ليُقبل إليه كل عطاش النفوس ويرتووا كما أقبل أولئك إلى الصخرة. ومعنى «العطش» اشتهاء النفس المغفرة وشدة الرغبة في ما يقوم به. وهو الشرط الوحيد الذي سنَّه المسيح لنوال نعمته (إشعياء ٥٥: ١ ومتّى ٥: ٦ ورؤيا ٢٢: ١٧) ومناداة المسيح أي دعوته عامة لكل البشر.

فَليُقْبِل إِلَيَّ وَيَشْرَبْ دعوته الألوف الذين كانوا في الهيكل كدعوته المرأة السامرية (يوحنا ٤: ١٢ و١٤) ودعوته لكل العالم (رؤيا ٢٢: ٧). والأرجح أنه بنى كلامه على ما جرى في الهيكل من سكب الماء تذكاراً للصخرة المذكورة. قال الرسول «لأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ، وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ المَسِيحَ» ( ١كورنثوس ١٠: ٤). وأشار إلى نفسه مبيناً أنه هو ينبوع الحياة، وأنه قادر على القيام بكل حاجات النفس الخالدة. وكما كانت الحال يومئذ باقية اليوم. فإن شعر أحد بعطشه الروحي فليُقبل إلى رئيس الكنيسة الحي، لا إلى وسيط بشري. وفي قوله هنا تصريح بأنه المسيح المنتظر. ولم يقُل قط مثل هذا نبي ولا كاهن ولا رسول. ولم يستطع يسوع نفسه أن يقوله لو لم يعلم أنه هو الله. «والإقبال» إلى يسوع «والشرب» ليسا أمرين مختلفين، بل هما شيء واحد. ومعنى كليهما الإيمان به وقبول نعمته مجاناً.

٣٨ «مَنْ آمَنَ بِي كَمَا قَالَ الكِتَابُ تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ».

أمثال ١٨: ٤ وإشعياء ١٢: ٣ وحزقيال ٤٧: ١ – ١٢ وزكريا ١٤: ٨

مَنْ آمَنَ بِي هذا تفسير المسيح لقوله «فليُقبِل إليَّ ويشرب». والمعنى: من أقرَّ بأني المسيح واتكل عليّ للخلاص.

كَمَا قَالَ الكِتَابُ في مواعيد الكثيرة (مثل: مزمور ١٤: ٨ وإشعياء ٥٨: ١١ و٤٤: ٣، ٤ و٥٥: ١ وحزقيال ٤٧: ١ – ١ي٢ ويوئيل ٢: ٢٣ و٣: ١، ٨، ٢٣ وزكريا ١٣: ١ و١٤: ٨).

تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ هذا زيادة على ما قيل في الآية السابقة، ففي الآية تصريح بأن نتيجة الإيمان بالمسيح ارتواء النفس روحياً. وفي هذه تصريح بأن نتيجة ذلك الإيمان أن يصير صاحبه بركة لغيره. وأراد «ببطن الإنسان» داخله أي طبعه الروحي. فشبَّه صدور البركات من روح المؤمن كجريان الماء من جوف الصخرة. وأشار «بالأنهار» إلى وفرة بركات المسيحيين للعالم بواسطة قداستهم وسيرتهم وتعليمهم وسخائهم، وبذلك يقتدون بسيدهم يسوع الذي هو ينبوع النعم الأصلي، والذي أمر: «مجاناً أخذتم مجاناً أعطوا». فإذا اقتصرت فائدة الإيمان على نفس صاحبه شككنا في صحته. وقول المسيح هنا كقوله في يوحنا ٤: ١٤ فراجع الشرح هناك. والماء الحي ما جرى من ينبوع صافٍ بلا انقطاع، وهو إشارة إلى حياة النفس الروحية التي تظهر بالكلام والأعمال كل يوم لنفع الناس عامة.

٣٩ «قَالَ هَذَا عَنِ الرُّوحِ الَّذِي كَانَ المُؤْمِنُونَ بِهِ مُزْمِعِينَ أَنْ يَقْبَلُوهُ، لأنَّ الرُّوحَ القُدُسَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ بَعْدُ، لأنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ قَدْ مُجِّدَ بَعْدُ».

إشعياء ٤٤: ٣ ويوئيل ٢: ٢٨ ويوحنا ١٦: ٧ وأعمال ٢: ١٧، ٢٣، ٣٨ ورومية ٨: ٢ ويوحنا ١٢: ١٦ و١٦: ٧

قَالَ هَذَا عَنِ الرُّوحِ هذا تفسير البشير لقول المسيح «تجري الخ». أي أن الماء الحي رمز إلى نعمة الروح القدس التي هي هبة المسيح الخاصة، لأن الإنسان بواسطة فعل الروح القدس يقدر أن يؤمن بالمسيح، ويتجدد قلبه، ويتشبَّه بالمسيح، ويكون واسطة بركة.

لأنَّ الرُّوحَ القُدُسَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ بَعْدُ كما أُعطي بعد موت المسيح وقيامته يوم الخمسين. نعم كان الروح القدس حاضراً على الدوام في أزمنة العهد القديم في الكنيسة الإسرائيلية، وكان الروح القدس يعلّم الآباء الأتقياء وغيرهم من الصالحين والأنبياء أن يؤمنوا بالمسيح الآتي «تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللَّهِ القِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ» (٢بطرس ١: ٢١) لكنهم لم يشعروا بحضور الروح بينهم وتأثيره كما شعر الرسل والكنيسة التي أسسوها (أعمال ٢ و١٠: ٤٤، ٤٥). والفرق بين الكنيسة الموسوية والكنيسة المسيحية في ذلك أن الأولى كانت كبئر مختوم مقصور نفع مائه عليه، وأن الثانية كانت كأنهار جارية لنفع العالم كله.

لأنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ قَدْ مُجِّدَ بَعْدُ أي لم يصعد إلى السماء ويجلس عن يمين الآب. كان من عهد الفداء بين الآب والابن أن ينال الابن بموته سلطان أن يهب الروح القدس لخاصته، وأن تنفيذ ذلك يكون بعد صعوده (يوحنا ١٦: ٧ و٥: ٨ – ١٢ و١٤: ١٥، ١٦، ٢٦ وأفسس ٤: ٨ – ١١).

٤٠ «فَكَثِيرُونَ مِنَ الجَمْعِ لَمَّا سَمِعُوا هَذَا الكلامَ قَالُوا: هَذَا بِالحَقِيقَةِ هُوَ النَّبِيُّ».

تثنية ١٨: ١٥، ١٨ ويوحنا ١: ٢١ و٦: ١٤

أجمع الكثيرون على ذلك.

هُوَ النَّبِيُّ الذي أنبأ به موسى في تثنية ١٨: ١٥ وذُكر في يوحنا ١: ٢١ و٦: ١٤ فراجع الشرح هناك.

٤١، ٤٢ «٤١ آخَرُونَ قَالُوا: هَذَا هُوَ المَسِيح. وَآخَرُونَ قَالُوا: َلَعَلَّ المَسِيحَ مِنَ الجَلِيلِ يَأْتِي؟. ٤٢ أَلَمْ يَقُلِ الكِتَابُ إِنَّهُ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ، وَمِنْ بَيْتِ لَحْمٍ القَرْيَةِ الَّتِي كَانَ دَاوُدُ فِيهَا يَأْتِي المَسِيحُ؟».

يوحنا ٤: ٤٢ و٦: ٦٩ ويوحنا ١: ٤٦ وع ٥٢، مزمور ١٣٢: ١١ وإرميا ٢٣: ٥ وميخا ٥: ٢ ومتّى ٢: ٥ ولوقا ٢: ٤ و١صموئيل ١٦: ١، ٤

هَذَا هُوَ المَسِيحُ هذا الإقرار أوضح من الأول وأسمى، لأنهم كانوا يعتقدون أن المسيح كاهن ونبي وملك، ولم يُجمع اليهود على أن النبي هو المسيح نفسه أو سابق له.

أَلَعَلَّ المَسِيحَ مِنَ الجَلِيلِ يَأْتِي عرفوا من النبوات أن المسيح من بيت لحم، وظنوا يسوع من الناصرة، فمنعهم هذا من قبوله مسيحاً. فكأنهم قالوا إن يسوع لا يمكن أن يكون هو المسيح لأن المسيح يخرج من بيت لحم وهذا خرج من الناصرة. وواضح أنهم لم يعرفوا الواقع وهو أن يسوع وُلد في بيت لحم. وقصدوا بقولهم «من الجليل» الناصرة التي هي إحدى قرى تلك المنطقة. وأشاروا بقولهم «ألم يقل الكتاب الخ» إلى ما كُتب في مزمور ٨٩: ٣٦ وإشعياء ١١: ١ وإرميا ٢٣: ٥ وميخا ٥: ١، ٢. وقد أوضح متّى تحقيق هذا في متّى ٢: ٤ – ٦.

كَانَ دَاوُدُ فِيهَا (١صموئيل ١٦: ١ – ٤).

٤٣ «فَحَدَثَ انْشِقَاقٌ فِي الجَمْعِ لِسَبَبِهِ».

ع ١٢ ويوحنا ٩: ١٦ و١٠: ١٩

هذا وفق ما أنبأ به المسيح من أمره بقوله «أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأُعْطِيَ سلاماً عَلَى الأَرْضِ؟ كلا أَقُولُ لَكُمْ! بَلِ انْقِسَاماً» (لوقا ١٢: ٥١). وسؤال «ماذا تظنون في المسيح؟» يقسم الناس طوائف.

٤٤ «وَكَانَ قَوْمٌ مِنْهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُمْسِكُوهُ، وَلَكِنْ لَمْ يُلقِ أَحَدٌ عَلَيْهِ الأَيَادِيَ».

ع ٣٠

قَوْمٌ مِنْهُمْ هم من أهل أورشليم، من أتباع الفريسيين وأنصارهم، عرفوا رغبة الرؤساء في القبض عليه، وأرادوا إظهار غيرتهم لهم بتبرعهم بمسكه وتسليمهم إياه.

وَلَكِنْ لَمْ يُلقِ أَحَدٌ عَلَيْهِ الأَيَادِيَ للسبب المذكور في ع ٣٠. ومنعتهم قوة الله عن مقصدهم. ولعلهم خافوا من ثورة بعض الجمع لأنهم لم يتحققوا قوة أنصاره من الجليل كما كان الأمر بعدئذ (لوقا ٢٢: ٢).

٤٥ «فَجَاءَ الخُدَّامُ إِلَى رُؤَسَاءِ الكَهَنَةِ وَالفَرِّيسِيِّينَ. فَقَالَ هَؤُلاءِ لَهُمْ: لِمَاذَا لَمْ تَأْتُوا بِهِ؟».

فَجَاءَ الخُدَّامُ هم المذكورون في ع ٣٢ وهم غير المذكورين في ع ٤٤. ولعلهم جاءوا بعد مرور يومين أو ثلاثة أيام منذ أمروا بأن يمسكوا يسوع.

إِلَى رُؤَسَاءِ الكَهَنَةِ وَالفَرِّيسِيِّينَ أي إلى المجلس السبعين، فاجتمعوا منتظرين إتيان خدامهم بيسوع حسب أمرهم.

لِمَاذَا لَمْ تَأْتُوا بِهِ يدل سؤالهم هذا على شدة رغبتهم في القبض على المسيح وانتظارهم وقوع ذلك وغيظهم الشديد على عدم بلوغهم مأربهم.

٤٦ «أَجَابَ الخُدَّامُ: لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ».

متّى ٧: ٢٩

قالوا ذلك بياناً لعلة مسكهم إياه، ولم يعتذروا بخوفهم من الشعب أو عدم سنوح الفرصة. وهذه أعجب شهادة بقوة كلام المسيح قالوها لمعلمي الشعب. شعر الخدام بتأثير كلام المسيح فيهم ووقاره، وتحققوا أنه يمتاز عن كل من شاهدوه من الناس في شخصه وتعليمه وتأثيره في سامعيه. ولا شك أن شهادة هؤلاء الأعداء ليسوع كانت حقاً، فإنه لم يتكلم نبي ولا رسول ولا واعظ ولا نذير كما تكلم هو. فيجب علينا أن نحترم ما وصل إلينا من كلامه، ونخبئه في قلوبنا، ونعمل به، ونبلغه لغيرنا.

٤٧ «فَأَجَابَهُمُ الفَرِّيسِيُّونَ: أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً قَدْ ضَلَلتُمْ؟».

أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً أي خدام المجلس، خاصة الذين يُتوقع أنهم يهتمون بما يهتم به أعضاء المجلس أنفسهم. وهذا يدل على غيظهم وحيرتهم وخيبتهم، وهو كلام توبيخ واستهزاء.

ضَلَلتُمْ حكموا بلا فحص بأن المسيح مُضل، ولم يسألوا الخدام عما رأوا من غرابة تعليمه أو أعماله، ولم يروا سبباً لما قاله الخدام سوى ضلالهم. وقالوا مثل هذا لبيلاطس بعد ذلك، إذ أشاروا إلى المسيح بقولهم «ذلك المضل» (متّى ٢٧: ٣٦). وبقولهم للخدام «ضللتم» اتهام لهم أنهم مالوا إلى التسليم بدعوى المسيح، وشاركوا سائر العامة في ذلك.

٤٨ «أَلَعَلَّ أَحَداً مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَوْ مِنَ الفَرِّيسِيِّينَ آمَنَ بِهِ؟».

يوحنا ١٢: ٤٢ وأعمال ٦: ٧ و ١كورنثوس ١: ٢٠ ، ٢٦ و٢: ٨

مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَوْ مِنَ الفَرِّيسِيِّينَ هذا يشمل أعضاء مجلس السبعين، والفرق المشهورة بالتقوى وحفظ الناموس، فهم رؤساء الدين والسياسة. ويدل كلامهم هنا على أنهم اعتبروا أوامر الرؤساء الحاكم الأعظم في الأمور الدينية، لا صوت الضمير. وادعوا أنه لو كانت دعوى يسوع حقاً لكانوا عرفوا ذلك قبل غيرهم، وجهلوا أن كبرياءهم وغلطهم في صفات المسيح المنتظر وحسدهم أعمى قلوبهم عن الحكم بالصواب. وتناسوا أن أحد رؤساء المجلس أتى إلى المسيح ليلاً وأقر بأنه من الله (يوحنا ٢: ٢) وأن آخر منهم كان تلميذاً للمسيح خفية (يوحنا ١٩: ٣٨).

٤٩ «وَلَكِنَّ هَذَا الشَّعْبَ الَّذِي لا يَفْهَمُ النَّامُوسَ هُوَ مَلعُونٌ».

هَذَا الشَّعْبَ الذين أنتم كنتم بينهم وشاركتموهم في آرائهم واعتقادهم أن يسوع هو المسيح.

الَّذِي لا يَفْهَمُ النَّامُوسَ كما نفهمه نحن الذين درسناه في مدارس الربانيين. حكموا أن الشعب لعدم درسه الناموس لم يقدر أن يميز صحة دعوى يسوع أو بطلانها، وأنهم وحدهم مفسرو الناموس وأرباب مفاتيح المعرفة. ولمَّحوا بذلك إلى دعواهم أن في الناموس براهين قاطعة على بطلان دعوى يسوع، لو عرفها الشعب مثلهم لرفضوا دعواه أنه المسيح. «والناموس» هنا بمعنى كل أسفار العهد القديم. وهم فسروا ما يختص بالمسيح في الناموس بخلاف ما ظهر به يسوع، فإنهم فهموا من الناموس أن المسيح يكون ناصراً مجيداً وملكاً زمنياً يفوق داود في غناه وسلطانه.

هُوَ مَلعُونٌ هذه صفة تدل على استهزاء الرؤساء بالشعب واستهانتهم به. وأطلقوا على الشعب هذا الوصف ليبينوا أن آراءهم في المسيح لا قيمة لها، فشفوا غيظهم بلعن الشعب لعدم استطاعتهم أن يمسكوا يسوع، ولأن الخدام والشعب مالوا إليه.

ولا زال أعداء دين المسيح يقاومونه بطريقة رؤساء اليهود، وهو الاستهزاء لا بالبراهين، وبوصفه أنه دين لا يقبله سوى البسطاء أو الجهلاء، ولا يزالون حين يعجزون عن الانتصار بالبينات يلعنون خصومهم الذين هم أتباع الحق. ولم يزل الله يخفي حقائقه عن الحكماء والفهماء ويظهرها للأطفال.

٥٠ «قَالَ لَهُمْ نِيقُودِيمُوسُ، الَّذِي جَاءَ إِلَيْهِ لَيْلاً، وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ».

يوحنا ٣: ٢

الَّذِي جَاءَ إِلَيْهِ لَيْلاً يوحنا ٣: ١ و١٩: ٣٩ ووصف بما ذُكر ثلاث مرات، وهذا دليل على أنه لم يأت إلى يسوع في الليل اتفاقاً بل خوفاً أو حياءً.

وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أي من أعضاء مجلس السبعين، وكان وجود هذا الإنسان الصالح بين الفريسيين مثل لوط في سدوم، وعوبديا في بيت أخآب، ودانيال في بابل، والقديسين في بيت قيصر.

٥١ «أَلَعَلَّ نَامُوسَنَا يَدِينُ إِنْسَاناً لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ أَوَّلاً وَيَعْرِفْ مَاذَا فَعَلَ؟».

تثنية ١: ١٧ و١٧: ٨ الخ و١٩: ١٥

لم ينكر نيقوديموس دعوى المسيح ولم يقر بصحتها، إنما طلب معاملته بقوانين العدل التي تُجرى على سائر الدعاوى. ونبههم أنهم خالفوا الناموس بقضائهم على يسوع بالموت بلا محاكمة ولا شهود حسب الناموس. وما أشار إليه مدوّن في خروج ٢٣: ١ و٢ ولاويين ١٩: ١٥ و١٦ وتثنية ١: ١٧ و١٧: ٨ و١٩: ١٥، ١٨ وإن دعواهم معرفة الناموس لا تنفعهم شيئاً إذا خالفوها. ويتضمن سؤال نيقوديموس لأعضاء المجلس أنه يجب عليهم أن يعتبروا يسوع بريئاً إلى أن يثبت عكس هذا أمام القضاء العادل. فأظهر بذلك شجاعة، لأنه تكلم بما يخالف آراء أعضاء المجلس المجمعين على وجوب قتل يسوع. ومن العجب وجود من يحامي عن يسوع بين أولئك الرؤساء. وقد وجدوا ثلاثة موانع عن بلوغ مقاصدهم: الأول الشعب، والثاني خدامهم، والثالث واحد منهم.

٥٢ «أَجَابُوا: أَلَعَلَّكَ أَنْتَ أَيْضاً مِنَ الجَلِيلِ؟ فَتِّشْ وَانْظُرْ! إِنَّهُ لَمْ يَقُمْ نَبِيٌّ مِنَ الجَلِيلِ».

إشعياء ٩: ١، ٢ ومتّى ٤: ١٥ ويوحنا ١: ٤٦

ليس هذا جواباً لما قاله نيقوديموس، ولكنهم لجأوا إليه لأنهم لم يستطيعوا أن يبرروا أنفسهم مما فعلوه، فأخذوا يعاتبون نيقوديموس بكلام ناتج عن الغيظ والهزء. واستنتجوا من طلبه الإنصاف ليسوع أنه من أتباعه.

أَلَعَلَّكَ أَنْتَ أَيْضاً مِنَ الجَلِيلِ قالوا هذا تهكماً لأنهم كانوا يعلمون جيداً أنه ليس كذلك، فكأنهم قالوا «أنت من تلاميذ ذلك الجليلي، ولا أحد يسلم بدعوى يسوع إلا من كان من أهل وطنه وقد أعماه الهوى حتى لا يفرق بين الحق والباطل».

لَمْ يَقُمْ نَبِيٌّ مِنَ الجَلِيلِ استدلالهم هنا كالاستدلال في ع ٤١. وقصدوا بذلك إبطال دعوى يسوع. وقصدوا «بالنبي» هنا من يستحق أن يدَّعي أنه المسيح، فلا نظن أن مثل هؤلاء المعلمين يجهلون أن يونان النبي كان من تلك البلاد. ولعل منها النبيين هوشع وناحوم أيضاً. وظن البعض أنهم لغيظهم لم يفطنوا للحقيقة.

٥٣ «فَمَضَى كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى بَيْتِهِ».

انصرف أعضاء المجلس خائبين مغتاظين، لم يفعلوا شيئاً إذ عجزوا عن تحقيق مقاصدهم في المسيح. وعلة عجزهم خوفهم من الشعب، وامتناع الخدام عن طاعتهم، ومعارضة نيقوديموس في المجلس. وتم بذلك قصد الله أنهم لا يقبضون على المسيح ما لم تأت ساعته.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى