إنجيل يوحنا | 06 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح إنجيل يوحنا
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح السادس
إشباع يسوع خمسة آلاف، ووعظه في كفرناحوم ع ١ – ٦٥
١ «بَعْدَ هَذَا مَضَى يَسُوعُ إِلَى عَبْرِ بَحْرِ الجَلِيلِ، وَهُوَ بَحْرُ طَبَرِيَّةَ».
متّى ١٤: ١٤ الخ ومرقس ٦: ٣٥ الخ ولوقا ٩: ١٠ الخ
بَعْدَ هَذَا أي بعد الأمور المذكورة في أصحاح ٥. وبدء هذا الأصحاح كبدء أصحاح ٥، وليس فيه ما يبيّن طول المدة الماضية أو قصرها والمرجح أنها نحو سنة. ومن حوادث هذه المدة قتل يوحنا المعمدان (متّى ١٤: ١٣)، ودعوة الرسل وإرسالهم إلى التبشير ورجوعهم (مرقس ٦: ٣٠، ٣١)، والوعظ على الجبل، وجولان المسيح ثانية في الجليل، وصنعه معظم معجزاته، ووعظه بأكثر أمثاله. ولم يذكر يوحنا من معجزات المسيح في الجليل سوى اثنتين، وهما: تحويل الماء خمراً، وشفاء ابن خادم الملك (يوحنا ٢، ٤).
مَضَى يَسُوعُ إِلَى عَبْرِ بَحْرِ الجَلِيلِ أي من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي. والموضع الذي ذهب إليه في جوار بيت صيدا أو من توابعها (لوقا ٩: ١٠).
وَهُوَ بَحْرُ طَبَرِيَّةَ زاد البشير هذا التفسير لإفادة قراء بشارته من الأمم. وسُمّي هذا البحر «جنيسارت»، كما نُسب إلى مدينة طبرية المبنية على شاطئه، والتي بناها هيرودس أنتيباس وأطلق عليها اسم طيباريوس قيصر الرومان (انظر شرح متّى ٤: ١٨).
٢ «وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ لأنَّهُمْ أَبْصَرُوا آيَاتِهِ الَّتِي كَانَ يَصْنَعُهَا فِي المَرْضَى»
أشار يوحنا هنا بالاختصار إلى وفرة الجموع الذين تبعوا المسيح من مكان إلى آخر وهو يجول في الجليل وكثرة ما صنع من المعجزات التي ذكرها غيره من الإنجيليين بالتفصيل (متّى ٤: ٢٤ و٨: ١٦ و٩: ٣٥ و١٥: ٣٠ ومرقس ٦: ٥٦ ولوقا ١٩: ١١، ١٢).
٣ «فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى جَبَلٍ وَجَلَسَ هُنَاكَ مَعَ تلامِيذِهِ».
فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى جَبَلٍ أي إلى تل أو أرض مرتفعة شمال شرق البحر. وصعد إلى هناك للراحة والصلاة وتعليم رسله (مرقس ٦: ٣٠).
٤ «وَكَانَ الفِصْحُ عِيدُ اليَهُودِ قَرِيباً»
لاويين ٢٣: ٥، ٧ وتثنية ١٦: ١ ويوحنا ٢: ١٣ و٥: ١
أضاف «الفصح» لفائدة قراء بشارته ممن يجهلون شريعة اليهود، وفي ذلك تلميح إلى عدم تكليف المسيحيين بذلك العيد. وقد سبق الكلام على الفصح بالتفصيل في شرح متّى ٢٦: ٢. والأرجح أن هذا العيد هو الفصل الثالث في مدة خدمة المسيح. ولم يصعد إليه المسيح لأن اليهود رفضوه في الفصح الذي قبله (يوحنا ٢: ١٨ و٥: ١، ١٨) فكان لا يستطيع أن يصعد إليه بلا خطر، وساعته لم تكن قد أتت. وكان ازدحام الناس على المسيح في الجليل بسبب قرب الفصح، إذ كانوا يجتمعون من الشمال استعداداً للصعود إلى أورشليم.
٥ «فَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ أَنَّ جَمْعاً كَثِيراً مُقْبِلٌ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِفِيلُبُّسَ: مِنْ أَيْنَ نَبْتَاعُ خُبْزاً لِيَأْكُلَ هَؤُلاءِ؟».
سبق الكلام على هذه المعجزة وحوادثها في شرح (متّى ١٤: ١٣ – ٢١ ومرقس ٦: ٣٢ – ٤٤ ولوقا ٩: ١٠ – ١٧. ولكن يوحنا ذكر من متعلقات ذلك ما لم يذكره سائر البشيرين. وهذه المعجزة هي الوحيدة التي ذكرها كل الإنجيليين الأربعة. وذكرها يوحنا ليتخذها مقدمة لخطاب المسيح الذي بُني عليها.
وَنَظَرَ أَنَّ جَمْعاً كَثِيراً مُقْبِلٌ إِلَيْهِ كان بعض هذا الجمع هناك عند خروجه من السفينة، وظلوا مجتمعين وهو على الجبل، فتحنَّن عليهم ونزل إليهم.
فَقَالَ لِفِيلُبُّسَ لم يذكر هذه المحادثة إلا يوحنا، وقد مر الكلام على فيلبس في شرح متّى ١٠: ٣. ولم يتضح سبب سؤال يسوع إيّاه دون غيره، ولعل إيمان فيلبس كان وقتئذ أضعف من إيمان غيره من الرسل، أو لعله كان أقرب التلاميذ إليه. وكان أحد الستة الذين كانوا في قانا يوم تحويل الماء خمراً. ولعل يسوع أراد أن يرى ما استفاده فيلبس يومئذ.
٦ «وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِيَمْتَحِنَهُ، لأنَّهُ هُوَ عَلِمَ مَا هُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَفْعَلَ».
وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِيَمْتَحِنَهُ أي ليمتحن قوة إيمانه به من جهة قدرته على إشباع الجمع الكثير. ولا تناقض بين ما قيل هنا وما قاله متّى من أن المسيح علَّم الجمع إلى المساء ثم أتى إليه تلاميذه وسألوه أن يصرف الجمع، لاحتمال أن المسيح وجَّه سؤاله إلى فيلبس قبل إتيان التلاميذ أو بعده. فلو عرفنا كل الأحوال وقتئذ لعرفنا الاتفاق التام بين الخبرين (انظر شرح متّى ١٤: ١٥).
لأنَّهُ هُوَ عَلِمَ الخ شهادة البشير بعلم المسيح كل شيء نتيجة اختباره، فأيقن أن المسيح لم يسأل فيلبس ما سأله إياه ابتغاء نصيحته.
٧ «أَجَابَهُ فِيلُبُّسُ: لا يَكْفِيهِمْ خُبْزٌ بِمِئَتَيْ دِينَارٍ لِيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئاً يَسِيراً»
عدد ١١: ٢١، ٢٢
أظهر جواب فيلبس ضعف إيمانه بيسوع، لأنه لم يلتفت إلى قدرة المسيح على كل شيء، بل حصر نظره في صعوبة إشباع مثل ذلك العدد.
بِمِئَتَيْ دِينَارٍ كان ذلك أجرة فاعل في مئتي يوم (متّى ٢٠: ٩، ١٠). ولا شك أن فيلبس ذكر ذلك المبلغ لأنه يتعذر على جميع التلاميذ.
٨، ٩ «٨ قَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ تلامِيذِهِ، وَهُوَ أَنْدَرَاوُسُ أَخُو سِمْعَانَ بُطْرُسَ: ٩هُنَا غُلامٌ مَعَهُ خَمْسَةُ أَرْغِفَةِ شَعِيرٍ وَسَمَكَتَانِ، وَلَكِنْ مَا هَذَا لِمِثْلِ هَؤُلاءِ؟»
٢ملوك ٤: ٤٣
أَنْدَرَاوُسُ هو أحد تلميذي المعمدان اللذين تبعا المسيح أولاً، والآخر يوحنا كاتب هذه البشارة (يوحنا ١: ٤٠ انظر شرح متّى ١٠: ٢). وكان قوله بعض الجواب عن فيلبس لقول يسوع «أين نبتاع خبزاً؟» وقوله لجميع الرسل «كم رغيفاً عندكم؟» (مرقس ٦: ٣٨).
أَرْغِفَةِ شَعِيرٍ لم يذكر أحد من الإنجيليين سوى يوحنا من أي الحبوب كانت تلك الأرغفة، ومن أين هي. وكان خبز الشعير مأكول الفقراء في الجليل. وأتى ذلك الغلام بالخبز ليبيعه بين ذلك الجمع، فاشترى الباقي منه أحد التلاميذ، أو كان حامل زاد التلاميذ.
أظهر جواب فيلبس عظمة الحاجة وأظهر جواب أندراوس قلة الوسائل.
١٠ «فَقَالَ يَسُوعُ: اجْعَلُوا النَّاسَ يَتَّكِئُونَ. وَكَانَ فِي المَكَانِ عُشْبٌ كَثِيرٌ، فَاتَّكَأَ الرِّجَالُ وَعَدَدُهُمْ نَحْوُ خَمْسَةِ آلافٍ».
وَكَانَ فِي المَكَانِ عُشْبٌ كَثِيرٌ لأن الوقت كان ربيعاً، وقت الفصح أي في شهر نيسان (ع ٤).
فَاتَّكَأَ الرِّجَالُ وَعَدَدُهُمْ نَحْوُ خَمْسَةِ آلافٍ وزاد متّى قوله عدا عن النساء والأولاد (متّى ١٤: ٢١) وعلة ذكر عدد الرجال دون غيرهم جلوسهم وحدهم صفوفاً مئة مئة وخمسين خمسين ليسهل توزيع الخبز عليهم، وبذلك هان إحصاؤهم. أما النساء والأولاد فلم يكونوا كذلك.
١١ «وَأَخَذَ يَسُوعُ الأَرْغِفَةَ وَشَكَرَ، وَوَزَّعَ عَلَى التّلامِيذِ، وَالتّلامِيذُ أَعْطَوُا المُتَّكِئِينَ. وَكَذَلِكَ مِنَ السَّمَكَتَيْنِ بِقَدْرِ مَا شَاءُوا».
جاء في سائر البشائر «بارك» بدل «شكر» والمعنى واحد، لأن الشكر يجلب البركة.
١٢، ١٣ «١٢ فَلَمَّا شَبِعُوا، قَالَ لِتلامِيذِهِ: اجْمَعُوا الكِسَرَ الفَاضِلَةَ لِكَيْ لا يَضِيعَ شَيْءٌ. ١٣ فَجَمَعُوا وَملأوا اثْنَتَيْ عَشَرَةَ قُفَّةً مِنَ الكِسَرِ، مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةِ الشَّعِيرِ الَّتِي فَضَلَتْ عَنِ الآكِلِينَ».
قَالَ لِتلامِيذِهِ روى سائر البشيرين أن التلاميذ جمعوا الكسر، وقال يوحنا إنهم جمعوها بأمر المسيح. والغاية من ذلك الانتقاع بها، والتذكير بالمعجزة.
١٤ «فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ الآيَةَ الَّتِي صَنَعَهَا يَسُوعُ قَالُوا: إِنَّ هَذَا هُوَ بِالحَقِيقَةِ النَّبِيُّ الآتِي إِلَى العَالَمِ!».
تكوين ٤٩: ١٠ وتثنية ١٨: ١٥، ١٨ ومتّى ١١: ٣ ويوحنا ١: ٢١ و٤: ١٩، ٢٥ و٧: ٤٠
النَّبِيُّ الآتِي إِلَى العَالَمِ هو الذي أنبأ به موسى في تثنية ١٨: ١٥ – ١٨، وتوقعت الأمة اليهودية مجيئه، والذي نادى المعمدان بإتيانه.
١٥ «وَأَمَّا يَسُوعُ فَإِذْ عَلِمَ أَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ يَأْتُوا وَيَخْتَطِفُوهُ لِيَجْعَلُوهُ مَلِكاً، انْصَرَفَ أَيْضاً إِلَى الجَبَلِ وَحْدَهُ».
يَخْتَطِفُوهُ لِيَجْعَلُوهُ مَلِكاً قصدوا أن يجعلوه ملكاً زمنياً ليأخذوه باحتفال إلى أورشليم ويجمعوا الجنود ويحاربوا الرومان وينقذوا بلادهم من سلطان قيصر. ولم يقصدوا قط أن يقبلوه ملكاً روحياً ويطيعوا أوامره الروحية.
انْصَرَفَ أَيْضاً إِلَى الجَبَلِ أي الأراضي الجبلية حيث كان سابقاً (ع ٣). ذكر متّى ومرقس علة واحدة لانصرافه وهي الصلاة، وزاد يوحنا على ذلك التخلص من تمليكه. ولنا من هذه المعجزة أربع فوائد: (١) برهان شفقة المسيح وقوته. (٢) الثقة فيه على الدوام، فالذي أشبع خمسة آلاف في ذلك اليوم قادر ومستعد أن يقوم بواجبات تلاميذه الجسدية الآن. (٣) ما يجب أن تعمله الكنيسة من أجل غيرها من الناس، فتجتهد في بذل المنافع الجسدية والروحية لهم. (٤) الإشارة إلى ما كان المسيح مزمعاً أن يفعله لأجل خلاص العالم إذ جعل جسده «المكسور لأجلنا» واسطة حياة وقوة له.
١٦ – ٢١ «١٦ وَلَمَّا كَانَ المَسَاءُ نَزَلَ تلامِيذُهُ إِلَى البَحْرِ، ١٧ فَدَخَلُوا السَّفِينَةَ وَكَانُوا يَذْهَبُونَ إِلَى عَبْرِ البَحْرِ إِلَى كَفْرَنَاحُومَ. وَكَانَ الظّلامُ قَدْ أَقْبَلَ، وَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ قَدْ أَتَى إِلَيْهِمْ. ١٨ وَهَاجَ البَحْرُ مِنْ رِيحٍ عَظِيمَةٍ تَهُبُّ. ١٩ فَلَمَّا كَانُوا قَدْ جَذَّفُوا نَحْوَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْ ثلاثِينَ غَلوَةً، نَظَرُوا يَسُوعَ مَاشِياً عَلَى البَحْرِ مُقْتَرِباً مِنَ السَّفِينَةِ، فَخَافُوا. ٢٠ فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا هُوَ لا تَخَافُوا. ٢١ فَرَضَوْا أَنْ يَقْبَلُوهُ فِي السَّفِينَةِ. وَلِلوَقْتِ صَارَتِ السَّفِينَةُ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي كَانُوا ذَاهِبِينَ إِلَيْهَا».
متّى ١٤: ٢٣ ومرقس ٦: ٤٧
انظر شرح هذه المعجزة في شرح متّى ١٤: ٢٢ – ٣٣ ومرقس ٦: ٤٥ – ٥٢. ولم يذكرها لوقا.
المَسَاءُ (ع ١٦) يبدأ المساء بالمغرب، وهو المساء الثاني. والمساء الأول يبدأ بالعصر، وفيه أتى التلاميذ إلى المسيح وسألوه أن يصرف الجموع (متّى ١٤: ١٥).
نَزَلَ تلامِيذُهُ إِلَى البَحْرِ بأمره بدليل ما جاء في بشارتي متّى ومرقس. والمرجح أن السفينة التي نزلوا إليها هي التي أتوا فيها (ع ١).
إِلَى كَفْرَنَاحُومَ قال مرقس «إلى بيت صيدا» (مرقس ٦: ٤٥) والمكانان في جهة واحدة من موضع المعجزة وهي جهة الغرب، فالأرجح أنهم قصدوا أن يلاقوا يسوع في بيت صيدا ويأخذوه بالسفينة إلى كفرناحوم، فقذفت بهم الريح إلى وسط البحر وأتى يسوع إليهم هنالك. وبقوا متوجهين إلى نواحي كفرناحوم.
نَحْوَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْ ثلاثِينَ غَلوَةً الغلوة نحو ٢٠٠ متراً، وعرض البحر هناك نحو ٨٠٠ متراً فيكونوا قد سافروا ما بين خمسة وستة كيلومترات.
فَخَافُوا توقعوا أن يلتقوا بالمسيح في بيت صيدا (مرقس ٦: ٤٥) لكنهم لم يتوقعوا أن يأتيهم ماشياً على أمواج البحر، وذلك أمر لم يروا مثله ويسمعوا به. نعم إن موسى شق البحر بقوة الله، وأما يسوع فمشى على الماء بقوته.
فَرَضَوْا أَنْ يَقْبَلُوهُ (ع ٢١) وقد زال خوفهم بعد سماعهم صوته. زاد متّى على هذا أن بطرس نزل لملاقاته على الماء.
لِلوَقْتِ صَارَتِ السَّفِينَةُ أشار بهذا إلى سرعة السفينة بعد سكون الريح، ولا يستلزم ذلك أن تكون سرعتها بمعجزة.
إِلَى الأَرْضِ الخ أي سهل جنيسارت قرب كفرناحوم (متّى ١٤: ٣٤).
٢٢ «وَفِي الغَدِ لَمَّا رَأَى الجَمْعُ الَّذِينَ كَانُوا وَاقِفِينَ فِي عَبْرِ البَحْرِ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ سَفِينَةٌ أُخْرَى سِوَى وَاحِدَةٍ، وَهِيَ تِلكَ الَّتِي دَخَلَهَا تلامِيذُهُ، وَأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَدْخُلِ السَّفِينَةَ مَعَ تلامِيذِهِ بَل مَضَى تلامِيذُهُ وَحْدَهُمْ».
وَفِي الغَدِ أي غد يوم المعجزة.
رَأَى الجَمْعُ لا شك أن بعض الجمع انصرف إلى القرى المجاورة بعد أن صرفهم المسيح (متى ١٤: ٢٢)، وبعضه ظل سائراً إلى أورشليم ليحضر العيد، وآخرون توقعوا نزول يسوع من الجبل ولما لم يروه تحيروا إذ لم يعملوا كيف ذهب، فلم تكن هناك إلا سفينة واحدة نزل التلاميذ إليها ويسوع ليس معهم. ولو مرَّ يسوع على الشاطئ لشاهدوه لأنهم كانوا واقفين هناك.
وَاقِفِينَ ليأخذوه متى نزل ويجعلوه ملكاً.
فِي عَبْرِ البَحْرِ أي الجانب الشرقي.
٢٣ «غَيْرَ أَنَّهُ جَاءَتْ سُفُنٌ مِنْ طَبَرِيَّةَ إِلَى قُرْبِ المَوْضِعِ الَّذِي أَكَلُوا فِيهِ الخُبْزَ، إِذْ شَكَرَ الرَّبُّ».
ذكر البشير هذا ليبين سبب وجود سفينة يسافرون فيها بعد ما ذكر أنه لم تكن هنالك سوى سفينة واحدة سافروا فيها (ع ٢٢).
إِذْ شَكَرَ الرَّبُّ لا يلزم من ذلك أن الرب لم يعتد أن يشكر على كل طعام، بل يفيد أن في ذلك الشكر شيئاً غير معتاد من كيفية تقديمه ونتيجته.
٢٤ «فَلَمَّا رَأَى الجَمْعُ أَنَّ يَسُوعَ لَيْسَ هُوَ هُنَاكَ ولا تلامِيذُهُ، دَخَلُوا هُمْ أَيْضاً السُّفُنَ وَجَاءُوا إِلَى كَفْرَنَاحُومَ يَطْلُبُونَ يَسُوعَ».
الجَمْعُ بعض الخمسة الآلاف لا كلهم (ع ٢٢).
إِلَى كَفْرَنَاحُومَ ذهبوا إلى المدينة لأنها عاصمة تلك البلاد ومجتمع كثرة الناس حيث يرجح أن يسمعوا شيئاً من أخبار يسوع، ولأنه كان يتردد إلى هناك. ولم يذهبوا إلى طبرية ليبحثوا عنه لأنهم عرفوا من السفينة الآتية منها أنه ليس فيها (ع ٢٣).
٢٥ «وَلَمَّا وَجَدُوهُ فِي عَبْرِ البَحْرِ، قَالُوا لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، مَتَى صِرْتَ هُنَا؟».
وَلَمَّا وَجَدُوهُ فِي عَبْرِ البَحْرِ لم يجدوه في أول الأمر وهو في سهل جنيسارت، بل وجدوه يوم السبت في مجمع كفرناحوم (ع ٥٩). و «عبر البحر» هنا الجانب الغربي منه. وظن بعض المفسرين أنه بدأ هذه المخاطبة في سهل جنيسارت واستمر عليها إلى ما في آية ٤٠ وأتمها في المجمع. ولم يذكر يوحنا ما صنع المسيح من المعجزات في ذلك السهل وذكره متّى ومرقس (متّى ١٤: ٣٤ – ٣٦ ومرقس ٦: ٥٣ – ٥٦).
يَا مُعَلِّمُ هذا ترجمة «ربي» وهو لقب احترام للمعلم عند اليهود.
مَتَى صِرْتَ هُنَا؟ سألوه ذلك تعجباً من مشاهدتهم إياه هناك، حيث لا توجد وسيلة توصله إلى ذلك الموضع براً أو بحراً. وسؤالهم هذا تمهيد لسؤال ثانٍ هو: كيف جئت؟ وذلك دليل على أنهم كانوا يفتشون عنه.
٢٦ «أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: أَنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي لَيْسَ لأنَّكُمْ رَأَيْتُمْ آيَاتٍ، بَل لأنَّكُمْ أَكَلتُمْ مِنَ الخُبْزِ فَشَبِعْتُمْ».
لم يجبهم المسيح على سؤالهم، لكن كلامه كان جواباً على سؤال لم يصرح هو به وهو: «لماذا جئتم تطلبونني؟». كان ظاهر عملهم يدل على رغبتهم في إكرام المسيح وسماع تعاليمه واعتباره رسولاً لله، أما هو فعرف أن قصدهم كان غير ذلك.
لَيْسَ لأَنَّكُمْ رَأَيْتُمْ آيَاتٍ شاهد اليهود المعجزات وتعجبوا منها لكنهم لم يستفيدوا منها فائدة روحية، ولم يستنتجوا منها أنه هو المسيح فيأتون إليه ليعبدوه ويتعلموا منه الحقائق الروحية. وهذا وفق قول مرقس «لأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا بِالأَرْغِفَةِ إِذْ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ غَلِيظَةً» (مرقس ٦: ٥٢).
بَل لأنَّكُمْ أَكَلتُمْ مِنَ الخُبْزِ فَشَبِعْتُمْ ظنوا أنهم إذا تبعوه شبعوا دائماً كما شبعوا سابقاً. وتوقعوا أن ينالوا بواسطته كل البركات الجسدية والمنافع العادية بلا تعب. فكانت غايتهم دنيوية فقط، ولم يشعروا بجوع النفس ليطلبوا الطعام الروحي أي تعليم المسيح. فلم يُسرّ يسوع بمجيئهم إليه لتلك الغاية. ولا يريد الآن أن يُكثر عدد تابعيه بمنح الخيرات العالمية، فلا يتوقف نجاح الإنجيل في بلد ما على كثرة المتنصرين بل على تغيير قلوبهم. فالديانة التي تُتخذ تجارة باطلة، فيجب أن تتبع المسيح حباً له لا محبة لعطاياه.
٢٧ «اِعْمَلُوا لا لِلطَّعَامِ البَائِدِ، بَل لِلطَّعَامِ البَاقِي لِلحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّذِي يُعْطِيكُمُ ابْنُ الإِنْسَانِ، لأنَّ هَذَا اللَّهُ الآبُ قَدْ خَتَمَه».
١كورنثوس ٦: ١٣ ويوحنا ٤: ١٤ وع ٥٤، متّى ٣: ١٧ و١٧: ٥ ومرقس ١: ١١ و٩: ٧ ولوقا ٣: ٢٢ و٩: ٣٥ ويوحنا ١: ٣٣ و٥: ٢٧ و٨: ١٨ وأعمال ٢: ٢٢ و٢ بطرس ١: ١٧
اتخذ المسيح إشباع الجموع خبزاً وسيلة لتعليمهم الحقائق السماوية، كما اتخذ طلبه شربة ماء من المرأة السامرية ذريعة إلى الكلام عن الماء الحي (يوحنا ٤: ١٠)، وكما انتقل بالكلام عن الخميرة إلى الكلام عن الرياء (متّى ١٦: ٦)، وبالإنباء بقتل الجليليين إلى الكلام عن وجوب التوبة (لوقا ١٣: ١)، وبدعوة العشاء إلى الكلام عن العرس السماوي.
اِعْمَلُوا لا لِلطَّعَامِ البَائِدِ ليس في هذا نهي عن العمل لتحصيل أسباب المعاش الضرورية، لأن ذلك مما أوجبه كتاب الله (خروج ٢٠: ٩ وأعمال ١٨: ٣ وأفسس ٤: ٢٨ و١تسالونيكي ٣: ١٠ و٤: ١٠ – ١٢ و١تيموثاوس ٥: ١) إنما فيه نهي عن الاقتصار على طلب حاجات الجسد دون حاجات النفس (إشعياء ٥٥: ٢ ومتّى ٥: ٢٤). فالخطأ كامن في زيادة الاهتمام بالزمنيات. ووصف الطعام هنا «بالبائد» لأنه زائل، وفائدته وقتية، ولا قوة له على حفظ الحياة ( ١كورنثوس ٦: ١٣). وكلام المسيح على الطعام هنا ككلامه على الماء (يوحنا ٤: ٣٢).
بَل لِلطَّعَامِ البَاقِي أي الروحي وإلا لم يكن باقياً. والطعام البائد والطعام الباقي كلاهما عطية الله، فهو الذي خلق الإنسان ويعرف ما يحتاج الإنسان إليه، وأمره هنا أن نعمل للباقي ولا نقلق للأول. ومعنى قوله «اعملوا للطعام الباقي»: اشتهوا الخيرات الروحية، واتخذوا كل الوسائل التي أعدها الله لتحصيلها من الصلاة ومطالعة الكتاب المقدس والحضور في بيت الله وممارسة الفرائض الدينية واتباع المسيح.
لِلحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ أي الدائمة نتائجها إلى الأبد في تقوية النفس، وراحة الضمير، والثقة بالغفران، والنمو الروحي (يوحنا ٤: ١٤ و٥: ٣٨ و٦: ٥٦ و٨: ٣١ و١٥: ٤، ٧ و١يوحنا ٢: ٦، ٢٧).
الَّذِي يُعْطِيكُمُ ابْنُ الإِنْسَانِ جعل المسيح البركات الروحية موهبته الخاصة التي نزل من السماء ليهبها للناس وهو يُسرّ بمنحها (رومية ٦: ٢٣) نعم إنّه يعطي أيضاً «الطعام البائد» لكنه لم يجعله الهبة الخاصة، بل يتخذ منحه إشارة إلى تلك، وبياناً لقوته على إعطائه إياها. كذلك اتخذ شفاءه للجسد إشارة إلى قدرته على شفاء النفس. وهو يعطي البركات الروحية بسخاء أكثر مما يعطي به الجسدية، ويسر بأن يعطيها دائماً لكل من يسأله إياها «بلا كيل».
لأنَّ هَذَا اللَّهُ الآبُ قَدْ خَتَمَهُ يتخذ الناس الختم للتثبيت (١ملوك ٢١: ٨ وأستير ٣: ١٢ و٨: ٨). والمعنى أن الله عيّن المسيح منذ الأزل ليعطي الحياة الأبدية (يوحنا ١٠: ٣٦) وشهد له إفادة للناس عند معموديته بصوت مسموع وآية ظاهرة ومعجزات أجراها على يده (يوحنا ٥: ٣٦) فكانت تلك ختماً لإثبات أن الله عيَّنه.
٢٨ «فَقَالُوا لَهُ: مَاذَا نَفْعَلُ حَتَّى نَعْمَلَ أَعْمَالَ اللَّهِ؟».
مَاذَا نَفْعَلُ؟ فهم اليهود من كلام المسيح أنه يجب عليهم لكي يستحقوا «الطعام الباقي للحياة الأبدية» أن يعملوا بعض الأعمال كالأصوام وطاعة الشريعة وإنكار الذات. فسؤالهم كسؤال الشاب الذي أتى للمسيح «أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية؟» (متّى ١٩: ١٦). فإن أخطأوا في السؤال أصابوا بأن وجَّهوه إلى من يقدر أن يرشدهم إلى الصواب. وكثيراً ما يكون مثل هذا السؤال وسيلة لنوال أعظم مما يُتوقع، كسؤال اليهود يوم الخمسين (أعمال ٢: ٣٧) وسؤال شاول الطرسوسي (أعمال ٩: ٦) وسؤال سجان فيلبي (أعمال ١٦: ٣٠).
أَعْمَالَ اللَّهِ أي الأعمال التي أمر بها وسيثيب عليها. سألوه عنها لتكون وسيلة إلى نوالهم «الطعام الباقي للحياة الأبدية».
٢٩ «أَجَابَ يَسُوعُ: هَذَا هُوَ عَمَلُ اللَّهِ: أَنْ تُؤْمِنُوا بِالَّذِي هُوَ أَرْسَلَه».
١يوحنا ٣: ٢٣
أعظم أعمال الله وأولها هو الإيمان بالمسيح، فهو يسره ويكرمه ويؤكد سائر الأعمال الصالحة. وسألوه عن أعمال الله كأنها كثيرة فجمعها كلها في واحد، جعله شرط الحياة الأبدية (يوحنا ١٧: ٣ ورومية ١٠: ٤). وكذلك حسب كل أعماله عملاً واحداً بقوله «العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته» (يوحنا ١٧: ٤).
جعل المسيح هنا الإيمان به بمنزلة عمل أساسي، فالإيمان أصلٌ لكل الأعمال الصالحة ومنشئها. فجواب المسيح المذكور حكم بأهمية الإيمان به، وبأنه أساس كل ديانته. وهو الجواب الوحيد لمن يسألوننا عن طريق الخلاص.
٣٠ «فَقَالُوا لَهُ: فَأَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ لِنَرَى وَنُؤْمِنَ بِكَ؟ مَاذَا تَعْمَلُ؟».
متّى ١٢: ٣٨ و١٦: ١ ومرقس ٨: ١١ و ١كورنثوس ١: ٢٢
أَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ لا دليل على أن أصحاب هذا السؤال غير أصحاب الذي قبله، لكنهم أظهروا مقاومة القلب البشري للتعاليم الروحية. وطلبه أن يؤمنوا به أثار بغضهم لتعليمه. نعم إنهم حين صنع المعجزة قالوا «هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم» (ع ١٤) وأرادوا أن يجعلوه ملكاً، فلو قبل منهم اكتفوا بالآية برهاناً على صحة دعواه. ولكن عندما رفض أن يملك عليهم، وأزال كل رجائهم أن ينقذهم من نير الرومان، وصرح بأنه ذو ملكوت روحي لينقذ نفوسهم من رق الخطية، تحققوا أنه ليس المسيح الذي أرادوه، ولا الذي علمهم ربانيوهم أن يتوقعوه. وكثيراً ما طلب اليهود من المسيح أن يصنع لهم آية ظاهرة دائمة كنزول المن في البرية ( ١كورنثوس ١: ٢٢).
لِنَرَى وَنُؤْمِنَ بِكَ طلبوا آية أخرى حجة لعدم إيمانهم، وكانت الأولى كافية فأنكروها.
٣١ «آبَاؤُنَا أَكَلُوا المَنَّ فِي البَرِّيَّةِ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ خُبْزاً مِنَ السَّمَاءِ لِيَأْكُلُوا».
خروج ١٦: ١٥ وعدد ١١: ٧ ونحميا ٩: ١٥ و ١كورنثوس ١٠: ٣، مزمور ٧٨: ٢٤، ٢٥
آبَاؤُنَا أي اليهود الذين قادهم موسى في البرية.
أَكَلُوا المَنَّ (خروج ١٦: ١٤، ٣١ وعدد ١١: ٧). لم يذكروا موسى في هذا بل أشاروا إليه، فكأنهم قالوا: هات لنا برهاناً كبرهان موسى لآبائنا فنؤمن بك. فالمعجزة التي صنعتَها أصغر من معجزات موسى، فأنت أعطيتنا خبزاً عادياً من الأرض، وذاك أعطى خبزاً من السماء. أنت أعطيتنا الخبز مرة واحدة، وذاك أعطى خبز السماء أربعين سنة. أنت أشبعت خمسة آلاف، وذاك أشبع من لا يقلون عن مليونين.
كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ في مزمور ٧٨: ٢٤، ٢٥.
٣٢ «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَيْسَ مُوسَى أَعْطَاكُمُ الخُبْزَ مِنَ السَّمَاءِ، بَل أَبِي يُعْطِيكُمُ الخُبْزَ الحَقِيقِيَّ مِنَ السَّمَاءِ».
الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ اعتاد المسيح أن يقول هذا مقدمة لكل موضوع مهم.
لَيْسَ مُوسَى أَعْطَاكُمُ الخُبْزَ مِنَ السَّمَاءِ لم ينكر المسيح أن الله أعطى بني إسرائيل المن على يد موسى، بل بيّن أن المنَّ ليس هو الخبز الروحي الحقيقي الذي يعطي حياة للعالم، وأنه لا يدوم إلى الأبد، فلا ينقذ النفس من الموت الأبدي. إنما هو مجرد إشارة إلى الخبز الحقيقي النازل من السماء الذي يخلّص النفس من الهلاك.
بَل أَبِي يُعْطِيكُمُ أعطى موسى آباءكم الرمز، وأما الآب فأعطاكم المرموز إليه الذي لم يستطع موسى أن يعطيكم إياه. وموسى أعطى وقتياً، وأما أبي فيعطي الآن وإلى الأبد.
الحَقِيقِيَّ قال هذا تمييزاً له عن الرمزي الوقتي الأرضي. وكثيراً ما ورد «الحقيقي» بهذا المعنى كقوله «النور الحقيقي» (يوحنا ١: ٩) و «الكرمة الحقيقية» (يوحنا ١٥: ١) و «المسكن الحقيقي» (عبرانيين ٨: ٢).
٣٣ «لأنَّ خُبْزَ اللَّهِ هُوَ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ الوَاهِبُ حَيَاةً لِلعَالَمِ».
هذا تفسير للخبز الحقيقي الذي يعطيه الآب، وهو هبته العظمى اللائقة به، الذي يمدحه الله ترغيباً فيه للجياع المحتاجين إليه. وقال هذا إصلاحاً لخطإ اليهود بظنهم المن «خبز الله» و «النازل من السماء» (مزمور ٧٨: ٢٤، ٢٥). وفي هذه الآية ثلاث صفات تميز الخبز الحقيقي: (١) أنه نزل من السماء العليا حيث يسكن الله، لا من السماء الدنيا (أي الجو) كالمن. (٢) أنه واهب الحياة لا كالمن الذي يسند فقط حياة الجسد وقتياً لا دائماً، لأن كل الذين أكلوا منه ماتوا (ع ٤٩). وأما هذا فيعطي النفس حياة روحية أبدية. (٣) أنه لنفع العالم كله بخلاف ذاك، لأن نفعه كان مقصوراً على اثني عشر سبطاً من أمة واحدة مدة حياة جيل واحد منها، ثم انقطع (يشوع ٥: ١٢). أما هذا فكان لمنفعة كل من يقبله من نسل آدم يهوداً وأمماً مدة كل الأجيال إلى منتهى الزمان. ورفض أكثر الناس هذه العطية لا ينفي أن الله وهبها للجميع. لقد أعطانا الله تلك العطية العظمى بابنه، ولكن لم يصرّح هنا بأنه هو تلك الهبة، إنما صرح بذلك في آية ٣٥.
٣٤ «فَقَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدُ، أَعْطِنَا فِي كُلِّ حِينٍ هَذَا الخُبْزَ».
يوحنا ٤: ١٥
هذه الطلبة كطلبة المرأة السامرية للماء الحي، ولم تكن ناتجة عن إدراك المعنى الذي قصده المسيح، ولا دالة على استعداد اليهود لاتخاذ الوسائل لتحصيل المطلوب. وإنما هي اشتهاؤهم نوال نفع عظيم زمني لأجسادهم فقط.
٣٥ «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَنَا هُوَ خُبْزُ الحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِل إِلَيَّ فلا يَجُوعُ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فلا يَعْطَشُ أَبَداً».
ع ٤٨، ٥٨ ويوحنا ٤: ١٤ و٧: ٣٧
أَنَا هُوَ انتقل المسيح في حديثه من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم. وفي كلامه هنا جواب قولهم «أعطنا هذا الخبز» وهو قوله «أنا هو» أي أن الخبز الذي طلبتموه كأنه غائب ها هو أمامكم.
خُبْزُ الحَيَاةِ وجه الشبه بين المسيح والخبز ثلاثة أمور: (١) أن كليهما ضروري لحياة الإنسان. (٢) أن كليهما مناسب للجميع في كل زمان ومكان. (٣) نحتاج إلى كليهما في كل يوم: الخبز لإسناد الجسد، ونعمة المسيح وشفاعته وبره لحياة النفس. وسُمي المسيح «خبز الحياة» لأنه الحياة وقادر أن يمنح الحياة لغيره. و «الحياة» هنا تحوي كل ما يجعل النفس حكيمة تقية سعيدة. ولأن المسيح «كلمة الله» يعلن للإنسان الحقائق الإلهية الضرورية للنفس كالخبز للجسد، وهو في كل وظائفه قوت للنفوس.
مَنْ يُقْبِل إِلَيَّ هذا بيان لكيفية حصول نفس الإنسان على خبز الحياة. ومعنى ذاك كمعنى «من يؤمن بي» في هذه الآية عينها. والفرق بينهما أن الأول مجاز والثاني حقيقة، وكمعنى «أكل وشرب» (آية ٥٤).
والمقصود بالإقبال ثلاثة أمور: (١) قبول أن يسوع هو المسيح بكل وظائفه نبياً وكاهناً وملكاً. (٢) تصديق كل كلامه ومواعيده والتسليم بدعواه والخضوع لأوامره. (٣) الاتكال عليه باعتباره المخلص الوحيد الكامل، الذي صُلب وقام ويشفع. والطلب إليه أن يرشد ويُطهر ويغفر ويبرر ويمجد. ويلزم ذلك الإقبال أن يكون دائماً لأوامره واحدة نتيجة الاتحاد بالمسيح واستمداد كل حياة وقوة منه.
فلا يَجُوعُ… فلا يَعْطَشُ انظر شرح يوحنا ٤: ١٤. المعنى أن المسيح يسد كل احتياجات النفس لأنه المخلّص الذي يقنع عقلها، ويريح ضميرها، ويكفي أشواقها، ويكمل سعادتها. وليس في هذه المواعيد ما يدل على أن النفس تتمكن في المستقبل من الاستقلال عن المسيح، فهي تبقى إلى الأبد في حاجة إلى أن تقتات به وتستقي من نعمته (متّى ٥: ٦ ورؤيا ٧: ١٦). وعلة شعور المؤمنين الآن ببعض جوع النفس وعطشها أنهم لم يأخذوا الكفاية من ملء المسيح، ولكنهم يشبعون في السماء شبعاً كاملاً (مزمور ١٧: ١٥ و١يوحنا ٣: ٢).
وفي هذا القول تلميح إلى أن الذين لا يأتون إليه يهلكون جوعاً وعطشاً، أي يبقون إلى الأبد في عذاب الاحتياج إلى البركات التي عرضها المسيح عليهم.
٣٦ «وَلَكِنِّي قُلتُ لَكُمْ إِنَّكُمْ قَدْ رَأَيْتُمُونِي، وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ».
ع ٢٦، ٦٤
وَلَكِنِّي قُلتُ لَكُمْ هذا مضمون ما قاله لهم في ع ٢٦ وهو أنهم طلبوه بعد ما شاهدوا معجزاته لغايات جسدية لا لإيمانهم بأنه هو المسيح.
قَدْ رَأَيْتُمُونِي، وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ أي شاهدتم معجزاتي ووقفتم على أحسن برهان أني مرسل من الله، ومع هذا كله سألتموني آية لتروا وتؤمنوا بي. وأنا صنعت لكم آيات كثيرة كنت بصنعها آية أعظم من نزول المن من السماء ولم تؤمنوا.
٣٧ «كُلُّ مَا يُعْطِينِي الآبُ فَإِلَيَّ يُقْبِلُ، وَمَنْ يُقْبِل إِلَيَّ لا أُخْرِجْهُ خَارِجاً».
ع ٤٥ متّى ٢٤: ٢٤ ويوحنا ١٠: ٢٨، ٢٩ و٢تيموثاوس ٢: ١٩ و١يوحنا ٢: ١٩
قال المسيح هذا بياناً أنه وإن لم يؤمنوا به لم يكن عمله عبثاً، لأنه يأتي إليه البعض ويخلص.
كُلُّ مَا يُعْطِينِي الآبُ ذكر المسيح في ما سبق عطية الله للإنسان (ع ٢٧، ٣١، ٣٢، ٣٤) ولا سيما أنه أعطاهم ابنه خبز الحياة. وتكلم هنا على عطية الآب لابنه وهي نفوس المفديين بدمه المؤمنين به الذين يحبونه ويسبحونه، وذلك كقوله في ع ٣٧، ٣٩ ويوحنا ١٠: ٢٩ و١٧: ٢، ٦، ٩، ٢٤ و١٨: ٩. والآب أعطى الابن تلك النفوس حين قطع معه عهد الفداء. ووعده بها إثابة له على تواضعه وموته (مزمور ٢: ٧، ٨ وإشعياء ٥٣: ١٠ – ١٢ و٥٥: ٤، ٥). والنفوس التي أعطاها الله لابنه اختارها لمجرد إرادته لا بالنظر إلى استحقاقها، فهو أعدّ الوسائط لتعرف الحق، وأرسل روحه القدوس إليها لتستفيد منها أي لتتوب وتؤمن به وتطيعه. والنفوس التي أعطاها الآب لابنه هي التي يجتذبها (ع ٤٤) وهي التي تكون متعلمة من الله (ع ٤٥). وعدد تلك النفوس وافر جداً بدليل قول البشير في رؤياه «بَعْدَ هَذَا نَظَرْتُ وَإِذَا جَمْعٌ كَثِيرٌ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَعُدَّهُ» (رؤيا ٧: ٩). وسمّاها يسوع خرافه (يوحنا ١٠: ٢٧، ٢٩ وأفسس ١: ٤، ٥).
فَإِلَيَّ يُقْبِلُ فُسر الإقبال المقصود هنا في ع ٣٥. فكل نفس تأتي إلى المسيح يقبلها المسيح كعطية من أبيه. والذين أعطاهم الآب له يُقبلون كلهم إليه.
وَمَنْ يُقْبِل إِلَيَّ أي يؤمن بي ويعمل بموجب ذلك الإيمان. و «الإقبال» هو فعل الإنسان الاختياري، فالله لا يجذب الإنسان غصباً إنما يريه خطيته وخطره، وحكمة طريق الفداء ومحبته الظاهرة في تلك الطريق حتى يُسرَّ بالإقبال إلى المسيح.
والإتيان إلى المسيح هو الشرط الوحيد لنوال الخلاص. والوعد هنا عام غير قاصر على عدد معين. فالذي يأتي إلى المسيح شاعراً بأنه خاطئ هالك طالباً الغفران، يقبله المسيح ويرحب به من أي أمة كان، ومهما كانت خطاياه كثيرة وعظيمة.
لا أُخْرِجْهُ خَارِجاً أي لا أرفض سمعي له وإعانتي إياه. وهذا النفي يستلزم إيجاباً هو أن المسيح يقبل الآتي إليه بفرح ويحفظه ويخلصه. وليس ما يمنع أحد الخطاة من أن يجد المسيح وينال الخلاص إلا عدم إرادته. فلا يمنعه من ذلك قضاء الله، ولا قوة الشيطان، ولا توغله في الإثم، ولا ضعف الطبيعة البشرية (يوحنا ١٠: ٢٨، ٢٩). وهذا الوعد يتضمن كل ما يفتقر إليه الخاطئ ليحصل على الخلاص التام الأبدي. والشرط الوحيد لنوال ذلك إرادة الخاطئ أن يقبله. ومثاله الابن الضال (لوقا ١٥).
ومن العجب أن بعض الناس يرفض الحق المعروض عليهم بأوضح البراهين (كما في ع ٣٦) وبعضهم يقبله (كما في ع ٦٩). وذكر المسيح في هذه الآية سببين لذلك: (١) إرادة الله الأزلية منح البعض نعمة الإيمان. (٢) اختيار الإنسان. وهذان أمران حقيقيان لا يستطيع العقل البشري أن يدرك العلاقة بينهما، فلا أحد يأتي إلى المسيح ما لم يجتذبه الله. ولا شيء يمنع الإنسان من الخلاص إلا عدم إرادته.
٣٨ «لأنِّي قَدْ نَزَلتُ مِنَ السَّمَاءِ، لَيْسَ لأعْمَلَ مَشِيئَتِي، بَل مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي».
متّى ٢٦: ٣٩ ويوحنا ٥: ٣٠ و٤: ٣٤
لأنِّي قَدْ نَزَلتُ مِنَ السَّمَاءِ فإذن كان في السماء قبل أن تجسّد (يوحنا ١: ٢) وهذا لا يصدُق على نبي من البشر.
لَيْسَ لأعْمَلَ مَشِيئَتِي الخ مشيئة الآب أن المسيح لا يترك من يأتي إليه خارجاً. وهذا ينفي كل محاباة في قبوله البعض ورفضه البعض، فهو لا يمكن أن يظلم أحداً، بل هو يقبل الذين اختارهم الآب وأعطاهم له وجذبهم إليه وختمهم بختم رضاه.
٣٩ «وَهَذِهِ مَشِيئَةُ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَانِي لا أُتْلِفُ مِنْهُ شَيْئاً، بَل أُقِيمُهُ فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ».
يوحنا ١٠: ٢٨ و١٧: ١٢ و١٨: ٩
هذا تأكيد لما قاله في الآيتين السابقتين وبيان أن مشيئة الآب، فوق أنها قبول الآتين إلى المسيح، تتضمن حفظهم إلى النهاية، وإعطاءه كل قوة لإنقاذهم من الهلاك، ومنحهم الحياة الأبدية.
كُلَّ مَا أَعْطَانِي لا أُتْلِفُ مِنْهُ شَيْئاً عبّر عن كل النفوس التي أعطاه الآب إياها بمجموع واحد، وهي رغبته الخاصة. وقرر أنه لا يُفقَد أحد ممن يأتون إلى المسيح بالإيمان. فلا يستطيع العالم ولا الشيطان ولا الموت أن يفصله عن محبة المسيح ويهلكه.
بَل أُقِيمُهُ هذا نهاية عمل الفداء وثمرته، ويكون ذلك عند قيامة أجساد المؤمنين على صورة جسد مجد المسيح، وعودة الروح إليها لتشاركه في المجد (فيلبي ٣: ٢١ وكولوسي ٣: ٤) وحينئذ تتم لهم هبة الحياة الأبدية التي اشتراها المسيح لهم بطاعته وموته.
فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ أي يوم القيامة وهو يوم الدين. ولا داعي هنا لذكر قيامة الأشرار، ولا يستلزم عدم ذكرها هنا أنهم لا يقومون. وقد ذُكر قيامة البعض للدينونة في يوحنا ٥: ٢٩.
٤٠ «لأنَّ هَذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى الابْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ».
يوحنا ٣: ١٥، ١٦ و٤: ١٤ وع ٢٧، ٤٧، ٥٤
الفرق بين ما في هذه الآية وما في آية ٣٩ أن ما في هذه الآية قيل عن كل شخص بمفرده، وعُبر فيها عن المفديين بأنهم «عطية الله» وما في آية ٣٩ قيل عن الجميع جملة، وعبّر فيها عن كل مفدي بأنه يرى ويؤمن. ويتضح من هذه الآية أن الخلاص لا يتوقف على مجرد رحمة الله بل على مشيئة الإنسان أيضاً، لئلا يقول أحدٌ: إن كنت ممن أعطاهم الآب للابن أخلُص، وإلا فلا. فما عليَّ من مسؤولية فالله الذي عيّن أناساً للخلاص عيّن أيضاً أنهم ينالون ذلك الخلاص بالإيمان بابنه. وإيمان المؤمنين برهان على أن الآب أعطاهم للابن.
كُلَّ مَنْ يَرَى الابْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ ليست الرؤية هنا نظر العين وقتياً بالصدفة، بل فعل الإنسان اختياراً وعمداً، وتوجيه بصيرته إلى المسيح بشوق وحمد بلا انقطاع وقطع النظر عن كل ما سواه. فمن يرى المسيح بالعين الظاهرة وعين العقل ولا يؤمن به فدينونته أعظم من دينونة الذين لا يرونه أبداً. وعلى المفديين أن يحمدوا مشيئة الله، وقد ذُكرت هنا وفي ع ٣٨، ٣٩ ثلاث مرات أنها علة نجاتهم.
وَأَنَا أُقِيمُهُ الخ كرر ذلك للتوكيد.
٤١ «فَكَانَ اليَهُودُ يَتَذَمَّرُونَ عَلَيْهِ لأنَّهُ قَالَ: أَنَا هُوَ الخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ».
اليَهُودُ اعتاد يوحنا أن يعبر «باليهود» عن أعداء المسيح ويعبّر عن غيرهم «بالشعب». ولعلهم شاهدوا معجزة الخبز في عبر البحر وتبعوه إلى كفرناحوم، أو لعلهم أتوا من أورشليم ووجدوه هناك. وقولهم «نحن عارفون بأبيه وأمه» يدل على كونهم جليليين.
يَتَذَمَّرُونَ عَلَيْهِ بيَّنوا شكوكهم لينشروا الشك في قلوب الشعب ويمنعوهم من الإيمان بالمسيح (ع ٤٣). وعلة تذمرهم تصريحه بمصدره الإلهي بقوله «لأني قد نزلت من السماء» لا بقوله «أنا الخبز» أو «أنا خبز الحياة».
٤٢ «وَقَالُوا: أَلَيْسَ هَذَا هُوَ يَسُوعَ بْنَ يُوسُفَ، الَّذِي نَحْنُ عَارِفُونَ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ. فَكَيْفَ يَقُولُ هَذَا: إِنِّي نَزَلتُ مِنَ السَّمَاءِ؟».
متّى ١٣: ٥٥ ومرقس ٦: ٣ ولو ٤: ٢٢
يَسُوعَ بْنَ يُوسُفَ هذا يدل على أن اليهود لم يعرفوا أن ولادة يسوع كانت خارقة الطبيعة، بل اعتقدوا أنه ابن يوسف ومريم. وعلة جهلهم أن الحوادث التي تعلقت بولادته كانت منذ ثلاثين سنة ولم يعرفها في وقتها سوى قليلين، وأنه قد مضت على يسوع تلك المدة وهو في عزلة عن الناس، فلا عجب من أن اليهود تذمروا على المسيح بدعواه أنه سماوي أزلي، خلافاً لما اعتقدوا في شأنه، فحسبوا دعواه كذباً.
٤٣ «فَأَجَابَ يَسُوعُ: لا تَتَذَمَّرُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ».
اقتصر يسوع على توبيخهم لبغضهم إياه الذي أظهروه بتلك التذمرات، إذ علم أن لا نفع من إخبارهم بما يتعلق بميلاده، وأنهم لا يتخذون ذلك إلا وسيلة إلى زيادة الهزء والتعيير. ففائدة النبإ الصحيح بميلاد المسيح العجيب تثبيت إيمان المؤمن، لا إزالة شكوك غير المؤمنين.
٤٤ «لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْبِلَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يَجْتَذِبْهُ الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ».
نشيد الأنشاد ١: ٤ وع ٦٥
أخبر يسوع اليهود أن قساوة قلوبهم هي سبب عدم إدراكهم، ورفضهم دعواه، وتذمرهم عليه.
لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْبِلَ إِلَيَّ أي يؤمن بي ويعمل بموجب هذا الإيمان. وأبان في ع ٣٧ أن كل ما يعطيه الآب يأتي إليه، وأبان في هذا العدد أن ليس أحد يأتي إليه إلا من يغيّر الله قلبه. وعدم القدرة ناتج عن عدم الإرادة، كما حدث من إخوة يوسف فإنهم «لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُكَلِّمُوهُ بِسلامٍ» (تكوين ٣٧: ٤) وهذا مبدأ عام وهو أن «الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لا يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللَّهِ» ( ١كورنثوس ٢: ١٤).
إِنْ لَمْ يَجْتَذِبْهُ الآبُ هذا وفق ما قيل في يوحنا ٥: ٤٠، ٤٤. وفعل الله في القلب جذب لا إجبار فهو يجعل القلوب راضية الإتيان إلى المسيح.
والروح القدس هو الذي يجذب قلوب الناس إلى المسيح بإنارة العقول (ع ٤٥)، وإعداد المشيئة، وتحريك الضمير، وإقناع العقل، وترهيب الإنسان من جهنم وترغيبه في السماء، وتعريفه بجمال القداسة وقباحة الإثم. وذلك الروح يتخذ كلمة الله آلة لفعله العظيم في القلوب. ويجتذب الله القلب من بغضه الطبيعي للحق ومن الكبرياء والحسد والعناد وحب العالم إلى محبة الحق والقداسة والغنى الروحي، وبالإجمال إلى المسيح نفسه الذي هو كنز الفضائل.
الَّذِي أَرْسَلَنِي الذي أرسل المسيح من السماء ليطلب النفوس هو نفسه الذي يجتذبها إلى المسيح.
وَأَنَا أُقِيمُهُ الخ هذه مرة ثالثة ذُكر ذلك في هذا الأصحاح وسيذكره مرة رابعة. بدء أمر الخلاص من الآب (يوحنا ٣: ١٦) ونهايته من الابن كما في هذه الآية. فالآب «يجتذب» النفوس ويعطيها (ع ٣٨) و «يعلمها» (ع ٤٥) والابن «يقبلها» ويمنحها الحياة (ع ٣٣).
٤٥ «إِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ: وَيَكُونُ الجَمِيعُ مُتَعَلِّمِينَ مِنَ اللَّهِ. فَكُلُّ مَنْ سَمِعَ مِنَ الآبِ وَتَعَلَّمَ يُقْبِلُ إِلَيَّ».
إشعياء ٥٤: ١٣ وإر ٣١: ٣٤ وميخا ٤: ٢ وعبرانيين ٨: ١٠ و١٠: ١٦ وع ٣٧
أثبت يسوع كلامه باقتباس من نبوات العهد القديم (إشعياء ٥٤: ١٣) وهو يتضمن قوله في إرميا ٣١: ٣٣، ٣٤ ويوئيل ٢: ٢٨ وميخا ٩: ١ – ٤.
مُتَعَلِّمِينَ مِنَ اللَّهِ هذا تفسير قوله «يجتذبه الآب» (ع ٤٤). ويجتذب الله النفوس بواسطة حقائق كتابه. فكل من يجتذبه الله يتعلم منه. والقرينة في نبوة إشعياء تدل على أن لفظة «الجميع» لا تعم كل البشر بل شعب الله السامع لصوته.
فَكُلُّ مَنْ سَمِعَ مِنَ الآبِ وَتَعَلَّمَ معنى ذلك كمعنى قوله «يرى ويؤمن» (ع ٤٠). وليس السمع هنا مجرد الإدراك بالأذن، بل الإصغاء بحرص وسرور وشوق إلى زيادة الإعلان وتصديق المسموع. فمن سمع كذلك يتعلم، وأما من يقتصر على سماع الأذن ولا يحب الحق ولا يرغب في التعليم لا يتعلم شيئاً.
٤٦ «لَيْسَ أَنَّ أَحَداً رَأَى الآبَ إلا الَّذِي مِنَ اللَّهِ. هَذَا قَدْ رَأَى الآبَ».
متّى ١١: ٢٧ ولوقا ١٠: ٢٢ ويوحنا ١: ١٨ و٥: ٣٧ و٧: ٢٩ و٨: ١٩
لَيْسَ أَنَّ أَحَداً رَأَى الآبَ يستحيل أن يرى الله أحدٌ من البشر. فإذاً لا أحد منهم يستطيع إدراك كنهه ومقاصده وإرادته ليبينها للناس. فإتمام النبوة بأن الجميع يكونون متعلمين من الله لا يمكن بلا واسطة، ولا يمكن أن تكون تلك الواسطة إلا من هو مساوٍ للآب.
إلا الَّذِي مِنَ اللَّهِ أي المسيح الذي استطاع أن يعلن لنا الآب لأنه «الكلمة» (يوحنا ١: ١، ١٤) و «كان في حضن الآب» (يوحنا ١: ١٨) وهو «بهاء مجده ورسم جوهره» (عبرانيين ١: ٣).
٤٧ «اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ».
يوحنا ٣: ١٦، ١٨، ٣٦ وع ٤٠
ما في هذا العدد وما يليه إلى ع ٥١ تكرير التعليم الذي تذمر اليهود منه. وبين هذه الآية وآية ٤٠ فرق قليل.
اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ قال هذا تأكيداً لصدق تعليمه، تذمر السامعون ورفضوا أم لا.
مَنْ يُؤْمِنُ بِي قال في آية ٤٠ «من يؤمن بالابن» وقال هنا «من يؤمن بي» فدل بذلك على أن كل ما نسبه إلى نفسه، وأنه هو ابن الله مخلص البشر، وأن الإيمان به الشرط الضروري. وما قيل في هذه الآية جوهر كل هذا الخطاب، أي أن الإيمان بالمسيح شرط نوال الحياة الأبدية، وأنه بدونه لا خلاص لأحد، وأن الخلاص به مؤكد لكل إنسان من كل أمة وملة وعصر.
فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ أي يبدأ أن ينال الميراث الذي يكمل بعد القيامة في السماء. ومعنى «الحياة الأبدية» حياة النفس الروحية التي أتى المسيح من السماء ليهبها للمؤمنين به، وتبدأ في النفس فور ولادتها من فوق.
٤٨ «أَنَا هُوَ خُبْزُ الحَيَاةِ».
ع ٣٣، ٣٥
هذا القول علة ما قبله. فكأن المسيح قال: لي الحق في ما قلته في آية ٣٥، أي أني خبز الحياة، لأن كل من يقتات بي بالإيمان ينال الحياة الأبدية. فيسوع هو الحياة وهو خبز الحياة، لأنه بذل نفسه للمؤمن ليقتات بها بالإيمان، وهو ينشئ في الإنسان الحياة الروحية ويقويها ويقيها من الاضمحلال. وهذا جوابه لطلبهم في ع ٣٤ «أعطنا في كل حين هذا الخبز» فكأنه قال لهم: ها أنا ذا. . والمن في البرية لم يكن إلا رمزاً للمسيح الذي هو خبز الحياة.
٤٩، ٥٠ «٤٩ آبَاؤُكُمْ أَكَلُوا المَنَّ فِي البَرِّيَّةِ وَمَاتُوا. ٥٠ هَذَا هُوَ الخُبْزُ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ، لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ الإِنْسَانُ ولا يَمُوتَ».
ع ٣١، ٥١، ٥٨
حسب اليهود المن الذي أكله آباؤهم هبة أعظم من هبة المسيح، فأبان لهم قلة نفعه لأنه لا يفيد النفس شيئاً، وأفاد الجسد وقتياً لأن كل الذين أكلوه ماتوا. أما المسيح فهو القوت الروحي لنفوس جميع الناس لا لبني إسرائيل فقط. والذين يقتاتون به يحيون إلى الأبد حياة روحية.
النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ (ع ٥٠) هذا هو الأمر الذي تذمر اليهود منه، كرره هنا وفي الآية التالية. وفيه تصريح بوجوده قبل تجسده، وتلميح إلى ولادته الفوق طبيعية.
لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ الإِنْسَانُ أي كل من أراد من الناس بلا استثناء. ومعنى الأكل هنا الاشتراك في كل فوائد مجيء المسيح إلى العالم بواسطة الإيمان به.
ولا يَمُوتَ الموت الذي هو نتيجة الخطية، وهو الهلاك الأبدي في جهنم المعروف بالموت الثاني (رؤيا ٢٠: ١٤ و٢١: ٨).
٥١ «أَنَا هُوَ الخُبْزُ الحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ العَالَمِ».
يوحنا ٣: ١٣، كولوسي ١: ١٧ وعبرانيين ١٠: ٥، ١٠
أَنَا هُوَ الخُبْزُ الحَيُّ أي الذي فيه الحياة، لا مجرد الخبز المحيي. ولهذا هو أعظم من المن الذي هو مادة لا حياة فيها، وإذا تُركت فسدت، ولا يكفي آكله سوى ليوم واحد. والذي لا حياة له لا يستطيع أن يعطي الحياة غيره. وقوله «أنا الخبز الحي» كقوله «إني أنا حي فأنتم ستحيون» (يوحنا ١٤: ١٩).
الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ أي السماء العليا حيث عرش الله، وهو مسكن المسيح منذ الأزل. أما المن فليس هو إلا من السماء الدنيا أي الجو.
يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ يعطي المسيح المؤمنين من الحياة الروحية التي فيه لاتحادهم به. وهذه الحياة تشتمل على كمال القداسة والسعادة. فالذي ينالها لا يُدان لأنه يتبرر ثم يتقدس ثم يتمجد. نعم قد لا ينجو من الموت الأول وهو موت الجسد، لكن هذا الموت «يُبتلع إلى غلبة» ( ١كورنثوس ١٥: ٤٥).
وَالخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي كلام المسيح من هنا إلى ع ٥٧ تفسير لهذه العبارة، وتكرير لها. وقد عدل من هنا عن المجاز بالخبز إلى المجاز بالجسد لثلاثة أسباب: (١) موافقة الجسد لمراده موافقة أتم من موافقة الخبز الحي له. (٢) دفع توهم الناس أن تعليمه هو الخبز الحي دون نفسه. (٣) الإشارة إلى أنه ذبيحة.
الَّذِي أَبْذِلُهُ في المستقبل. والإشارة هنا إلى موته كفارة عن الخطايا، فالمسيح لم يخلّص الناس بمجرد تجسده بل بموته على الصليب بدلاً عنهم لينالوا الغفران، والمصالحة مع الله، والحياة الأبدية. وهذا وفق ما أنبأ به إشعياء ويوحنا المعمدان من أن المسيح حمل الله (إشعياء ٥٣ ويوحنا ١: ٣٦) وهو الفصح الحقيقي ( ١كورنثوس ٥: ٦). وخلاصة هذا الموضوع أن يسوع المسيح المصلوب هو مصدر الحياة الروحية وقوتها.
العَالَمِ البشر كلهم لأن ذبيحة المسيح كافية للجميع ومعروضة على الجميع كقول الرسول «هُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَل لِخَطَايَا كُلِّ العَالَمِ أَيْضاً» (١يوحنا ٢: ٢).
٥٢ «فَخَاصَمَ اليَهُودُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ: كَيْفَ يَقْدِرُ هَذَا أَنْ يُعْطِيَنَا جَسَدَهُ لِنَأْكُلَ؟».
يوحنا ٧: ٤٣ و٩: ١٦ و١٠: ١٩ و٣: ٩
أخطأ اليهود فهم معنى المسيح كما أخطأ نيقوديموس (يوحنا ٣: ٤) والمرأة السامرية (يوحنا ٤: ١١) وجهلوا معنى كلامه الروحي.
فَخَاصَمَ أي جادل بعضهم بعضاً، إذ مال بعضهم إلى قبول كلامه ورفضه بعضهم.
كَيْفَ يَقْدِرُ الخ هذا استفهام إنكاري، أي لا يقدر. ويتضمن الهزء بالمسيح على وضعه مثل هذا الشرط المستحيل، فغضوا النظر عن كل ما قاله المسيح في شأن الحياة الأبدية ونزوله من السماء، وتمسكوا بالعبارات التي تحتمل معنيين لينتقدوه.
٥٣ «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ».
تكوين ٩: ٤ ولاويين ١٦: ١٠ – ١٤ وعبرانيين ٩: ٢٢
الحَقَّ الحَقَّ مقدمة اعتادها المسيح لبيان الأهمية وللتأكيد. وفي هذا تصريح بأن ما ظهر لليهود مستحيلاً مضحكاً المقصود منه شرط ضروري للخلاص.
إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ سمَّى المسيح نفسه «ابن الإنسان» وقصد بذلك أنه ابن الله متجسداً، لأنه لا يستطيع أن يموت دون التجسد. ولا يمكن أن يؤخذ كلامه هنا حرفياً، لأننا لو أخذناه حرفياً وقت قوله، لوجَب أن يُؤكل لحمه وهو حي، وذلك ما ينفر منه كل عاقل. وكذلك شرب دمه، فإن هذا محظور على اليهود (تكوين ٩: ٤ ولاويين ٣: ١٧ و٧: ٢٦، ٢٧ و١٧: ١٠ – ١٥). وما صحَّ عليه حينئذ يصح عليه الآن، لأنه لم يأكل إنسان قط جسد المسيح المادي، ولم يمكنه ذلك ولن يمكنه، لأن ذلك الجسد صُلب ودُفن وأُقيم وأُصعد إلى السماء وهو الآن عن يمين الله.
فيجب أن نعتبر الجسد والدم هنا مجازين يشيران إلى تقديم المسيح نفسه ذبيحة على الصليب لأجل خطايا العالم. والأكل والشرب هنا يشيران إلى اشتراكنا بالإيمان في فوائد ذبيحته. وكما أن الغذاء المعتاد ضروري لحياة الجسد كذلك يسوع المصلوب القوت الضروري للحياة الروحية تتناوله النفس بالإيمان به.
ولا توجد إشارة هنا إلى العشاء الرباني، فإنه لم يُرسم إلا بعد هذا الكلام بنحو سنة، ولم يُذكر في الإنجيل شرطاً ضرورياً للخلاص. لكن الإيمان المراد بالأكل والشرب هو الشرط الضروري لذلك. فيمكن الإنسان أن يأكل العشاء الرباني ولا يأكل جسد المسيح بالمعنى المراد هنا. إن ذلك السر تذكار وإشارة إلى نفس المسيح.
وهذه الآية تفيد ما قاله المسيح قبلها في هذا الأصحاح عينه، ففيها الوعد بالحياة الأبدية. وهو ما وعد به قبلاً. والمجاز فيها أي «الأكل» هو نفس المجاز فيما قبلها، والمراد به طريق نوال تلك الحياة (ع ٣٥، ٤٨، ٥١). وقدم فيها يسوع نفسه غذاء للنفس كما قدمها قبلاً (ع ٣٩، ٤٠، ٤٤). فلا شك أن المقصود بذلك بيان أن الإيمان بالمسيح شرط ضروري للخلاص وحقيقة أساسية في الدين المسيحي.
فإن قيل: هل هناك فرق بين أكل جسد المسيح وشرب دمه؟ قلنا لا، لأن «الجسد» و «اللحم والدم» بمعنى واحد لأنه قيل «الكلمة صار جسداً» (يوحنا ١: ١٤) وقيل إن «الابن اشترك في اللحم والدم» (عبرانيين ٢: ١٤). وقد ذكر الأكل والشرب ليفيد أنه كما أنهما كل ما يحتاج إليه الجسد لحياته، كذلك المسيح هو كل ما تحتاج إليه النفس لحياتها.
وزاد المسيح على ذكر جسده ذكر دمه، إشارة إلى أن مجرد تجسده لا يأتي بالحياة الروحية للعالم، فإن ذلك لا يتم إلا بسفك دمه، ونظر الخاطئ إليه بالإيمان مصلوباً. وكثيراً ما ورد في الإنجيل «الدم» بمعنى موت المسيح كفارة (رومية ٣: ٢٥ وكولوسي ١: ١٤، ٢٠ وعبرانيين ٩: ١٤، ٢٠ و١٠: ١٠ و١يوحنا ١: ٧ ورؤيا ١: ٥).
ورأى بعضهم في ذلك إشارة إلى الفصح اليهودي الذي كان فيه لحم الخروف ودمه ضروريين لنجاة بني إسرائيل من الهلاك الذي نزل بالمصريين.
فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ أي ليس لنفوسكم حياة روحية الآن إلا بإيمانكم بي، ولا رجاء للحياة الأبدية في السماء، لأنه ليس لأحد من الناس حياة روحية بالذات، والله لم يجهز طريقاً لنوالها غير الإيمان بابنه. فلم يكن يكفي اليهود لينالوا الحياة أن يروا أعمال المسيح ويسمعوا كلامه ما لم يقبلوا المسيح بالإيمان قوتاً لنفوسهم.
٥٤ «مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ».
يوحنا ٤: ١٤ وع ٢٧، ٤٠، ٦٣
مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ ذكر هذا تأكيداً لما قبله، لأنهما بمعنى واحد، سوى أن الأول نفي الحياة عن غير المؤمن، والثاني إيجابها للمؤمن. المسيح مصدر كل الحياة، والمؤمن يتحد به بالإيمان، فيشترك في الحياة الأبدية التي هو مصدرها. وتبدأ تلك الحياة في الإنسان عند ما يقتات بالإيمان به باعتباره كفارة عن الإثم (ع ٤٧ ويوحنا ٣: ١٨).
ولا إشارة هنا إلى العشاء الرباني لأن ألوفاً يأكلون منه وليس لهم شيء من الحياة الأبدية.
وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ هذه مرة رابعة لهذا الوعد (ما سبق في ع ٣٩ و٤٠ و٤٤). ولنا من ذلك أن نفس المؤمن لا تنال كمال الحياة الأبدية إلا متى قام الجسد وشارك الروح في السعادة (رومية ٨: ٢٣) وهو أن فداء الإنسان يتضمن فداء جسده، وما قيل في ١كورنثوس ٥: ٢٦ وهو انتصار يسوع على الخطية لا يتم إلا متى سلم عدو الإنسان الأخير وهو الموت ما استولى عليه. وهبة الحياة الأبدية الآن تتضمن القيامة للمجد في المستقبل.
٥٥ «لأنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَقٌّ وَدَمِي مَشْرَبٌ حَقٌّ».
معنى هذه الآية كمعنى آية ٣٥ والفرق بينهما لفظي. كثيراً ما جاء في الكتاب المقدس وصف الشيء بالحق بياناً لأفضليته على كل ما يشاركه في المعنى الذي جرى عليه الحديث. وعلى هذا يكون «الإنسان الحق» النفس لا الجسد، وحياة الإنسان الحق حياته الروحية لا الجسدية، وقوت الإنسان الأحقُّ بأن يسمى قوتاً هو جسد المسيح ودمه. وكان جسد المسيح «مأكلاً حقاً» لأن به الحياة الأبدية، ولأنه يشبع النفس أتم شبع. و «الجسد والدم» هنا إشارة إلى ذبيحة المسيح كفارة، وأكلهما وشربهما الإيمان به. والقضية الأولى من آية ٥٤ كالقضية من هذه الآية، ومعناهما الاتحاد بالمسيح بواسطة الإيمان، ففي الأولى أن ثمرة الإيمان في المؤمن نواله الحياة الأبدية، وفي هذه أن ثمرته الاتحاد الكامل به دائماً.
٥٦ «مَنْ يَأْكُل جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ».
١يوحنا ٣: ٢٤ و٤: ١٥، ١٦
يَثْبُتْ فِيَّ دائماً. ويتضمن ثبوت المؤمن في المسيح الاتحاد به، والمشابهة له، وموافقته في الإرادة، والتمتع برضاه، والأمن من الخوف، والتعزية في الضيق، والنجاة من الدينونة (يوحنا ١٤: ١ – ٦ و١٥: ٥ و١٧: ٢١ – ٢٣ وغلاطية ٢: ١٧، ٢٠).
وَأَنَا فِيهِ كما أن المسيح الابن في الآب والآب في الابن كذلك تلاميذه المؤمنون هم واحد (يوحنا ١٧: ٢١). وكون ما ذُكر نتيجة أكل جسد المسيح وشرب دمه يفسر لنا قصده بحقيقة ذلك الأكل وذلك الشرب، وهو أنهما روحيان، ويمنع أن يكونا ماديين.
٥٧ «كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الحَيُّ، وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ، فَمَنْ يَأْكُلنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي».
الغاية من هذه الآية إيضاح ثبوت المؤمن في المسيح، وثبوت المسيح في المؤمن، وبيان الاتحاد بين الآب والابن. لا شك أن علاقة الاتحاد بين المؤمن والمسيح ليست كعلاقة الاتحاد بين الآب والابن، ولكن لا سبيل إلى إيضاحها بغير هذه العلاقة.
كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ لأكمل عمل الفداء.
الحَيُّ ذُكر في هذه الآية ثلاثة أحياء: الآب والابن والمؤمن، وأن الحياة تجري من الواحد إلى الآخر، وتحقيق وجودها في واحد يثبت وجودها في الآخر. ومصدر تلك الحياة وعلتها في الآب.
وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ معنى هذا أن حياة المسيح غير منفصلة عن حياة الآب، إنما هي قائمة باتحاد الابن بالآب، ووحدة الفكر والمحبة والمقاصد والعمل. وليس الكلام هنا في أصل حياة الابن لأن الابن أزلي كالآب، إنما هو وصف حياة المسيح على الدوام منذ الأزل وإلى الأبد. وقول المسيح هنا كقوله في موضع آخر «صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ» وقوله «الآبَ الحَالَّ فِيَّ» (يوحنا ١٤: ١٠، ١١).
فَمَنْ يَأْكُلنِي يؤمن بي ويتأمل في صفاتي كما هي معلنة في كلامي، ويتمتع بذلك ويدوم كذلك.
يَحْيَا بِي ينال الحياة الروحية الأبدية التي هي أعظم حياة للإنسان وهي الحياة المذكورة في ع ٥١، ٥٤. والتي ذكرها بولس في قوله «مَعَ المَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لا أَنَا بَلِ المَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللَّهِ» (غل ٢: ٢٠). وهذه هي حياة الإيمان والقداسة والمحبة والنفع في هذا العالم والسعادة والمجد في العالم الآتي. وحقق المسيح هذه الحياة للمؤمن بقوله في أول هذه الآية «كما أرسلني الآب» أي كما تحقق أني رسول الآب كذلك تحقق نوال الحياة بالإيمان بي.
٥٨ «هَذَا هُوَ الخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. لَيْسَ كَمَا أَكَلَ آبَاؤُكُمُ المَنَّ وَمَاتُوا. مَنْ يَأْكُل هَذَا الخُبْزَ فَإِنَّهُ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ».
ع ٤٩، ٥٠، ٥١
تلخص هذه الآية ما قاله المسيح في هذا الخطاب: (١) هَذَا هُوَ الخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وهذا يلخص آيات ٣٢، ٣٣، ٣٥ أي أني أنا هو الخبز الحقيقي، وأني نزلت من السماء، وأقوت العالم بتقديم نفسي ذبيحة لله، ويقتات فيَّ الخاطئ بالإيمان. (٢) «لَيْسَ كَمَا أَكَلَ آبَاؤُكُم» هذا بيان لنقص المن الذي أعطاه موسى الآباء، فإنهم لم يأكلوا الخبز الحقيقي، ولم يحصلوا إلا على نفع وقتي لأجسادهم فقط (ع ٣١، ٤٩). (٣) «مَنْ يَأْكُل هَذَا الخُبْزَ فَإِنَّهُ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ» هذا بيان لكمال ما أعطاه المسيح، فإن الذين قبلوه بالإيمان كفارة عن خطاياهم تحيا نفوسهم في السماء إلى الأبد (ع ٣٣، ٥٠، ٥١، ٥٤، ٥٧).
٥٩ «قَالَ هَذَا فِي المَجْمَعِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي كَفْرَنَاحُومَ».
قَالَ هَذَا الأرجح أن الإشارة إلى كل ما في هذا الأصحاح من آية ٢٦ إلى هذه الآية، وأنه لفظ كل الخطاب في مجمع كفرناحوم. وظن بعضهم أنه بدأ يخاطب الشعب في سهل جنيسارت عندما خرج من السفينة، وأن ما قاله هناك هو ما في آية ٢٦ – ٤٠. وأن ما في الآية ٤١ إلى هذه الآية قاله في ذلك المجمع.
٦٠ «فَقَالَ كَثِيرُونَ مِنْ تلامِيذِهِ، إِذْ سَمِعُوا: إِنَّ هَذَا الكلامَ صَعْبٌ! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَسْمَعَهُ؟».
متّى ١١: ٦ وع ٦٦
مِنْ تلامِيذِهِ هم غير المؤمنين الحقيقيين، بل الذين تبعوه متظاهرين بأنهم تلاميذه (ع ٦٤).
هَذَا الكلامَ صَعْبٌ أي قوله إنه «خبز الحياة» وقوله في «أكل جسد ابن الإنسان وشرب دمه» وهو صعب الفهم، لأنهم لم يفهموا المعنى الروحي الذي قصده المسيح منه، ولأنه كان منافياً لآرائهم في شأن المسيح المنتظر وملكوته الجديد، ومضاداً لشهوات قلوبهم الدنيوية لأنهم طلبوا خيراً جسدياً. وأما المسيح فوعدهم بخير روحي. طلبوا ملكاً يقود جيوشهم على الرومان ويملك بالمجد كداود وسليمان، وأما هو فقدَّم نفسه لهم مسيحاً يتألم ويموت ليحررهم من الخطية.
مَنْ يَقْدِر أَنْ يَسْمَعَهُ؟ أي من يريد أن يسمع تعليماً كهذا، ومن يسمعه ويصدقه ويطيعه؟ وجاء «السمع» بهذا المعنى في يوحنا ٥: ٢٤ و٨: ٤٣ و١٠: ٣ و١٦: ٢٧ و١٨: ٣٧.
٦١ «فَعَلِمَ يَسُوعُ فِي نَفْسِهِ أَنَّ تلامِيذَهُ يَتَذَمَّرُونَ عَلَى هَذَا، فَقَالَ لَهُمْ: أَهَذَا يُعْثِرُكُمْ؟».
فِي نَفْسِهِ بالعلم الإلهي المختص به باعتبار كونه ابن الله (يوحنا ٢: ٢٥). وما قاله يجاوب على تساؤلاتهم العلنية، والقلبية.
أَهَذَا يُعْثِرُكُمْ؟ قصد بذلك على الخصوص ما قاله في ع ٤١ وهو أنه «نزل من السماء» لأنه يخالف ما ظنوه من أنه ابن يوسف نجار الناصرة، وما قاله من «أكل جسده وشرب دمه» (ع ٥٢) لأنه خلاف ما توقعوا من المسيح المنتظر.
٦٢ «ًفَإِنْ رَأَيْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ صَاعِداً إِلَى حَيْثُ كَانَ أَوَّلا!».
مرقس ١٦: ١٠ ويوحنا ٣: ١٣ وأعمال ١: ٩ وأفسس ٤: ٨
فَإِنْ رَأَيْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ صَاعِداً أشار بذلك إلى ما تم فعلاً (مرقس ١٦: ٩ ولوقا ٢٤: ٥١ وأعمال ١: ٩).
حَيْثُ كَانَ أَوَّلاً صرح يسوع بذلك بوجوده قبل تجسده أي بأزليته. وجواب الشرط هنا محذوف تقديره «فهل تعثرون أيضاً؟». وظن بعضهم أن معنى هذه الجملة: إن رأيتموني صاعداً إلى السماء، كما سيراني بعضكم، فهل يقنعكم ذلك بصحة دعواي وترجعون عن تذمركم؟. والأرجح أن كلام المسيح هنا متعلق بكلامه عن «أكل جسده وشرب دمه». فكأنه قال: «تذمرتم من كلامي بقولكم «كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل؟ وأنا أقول لكم إنه بعد ارتفاعي عن الأرض إلى السماء لا يزال من الواجب الضروري أن تأكلوا جسدي وتشربوا دمي، فإن عثرتم بالأول فكم يكون عثاركم في الثاني؟». فالمسيح لم يدفع ما رأوه من الصعوبة، بل زادها.
٦٣ «اَلرُّوحُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي. أَمَّا الجَسَدُ فلا يُفِيدُ شَيْئاً. اَلكلامُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ».
قصد المسيح بهذا أن يعلّم السامعين أن يأخذوا كلامه بالمعنى الروحي.
اَلرُّوحُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي هذا شرح ما قاله في ع ٥١، ٥٣ وهم لم يفهموه. ومعناه أن جسدي إذا أكلته أجسادكم لا ينفعكم شيئاً، ولكن النافع هو روحي القدوس في قلوبكم، فهذا هو الذي يحييكم. فيجب أن تدركوا المعنى الروحي لكلامي وتقبلوه في أرواحكم بالإيمان وبإرشاد الروح القدس.
أَمَّا الجَسَدُ فلا يُفِيدُ شَيْئاً أي لا يسد احتياجات الإنسان الحقيقية العظمى. وهذا القول يصدق على مادة المن ومادة جسد المسيح. فالمن لم يخلِّص أجسادهم من الموت ولم يفد نفوسهم شيئاً. فلو استطاعوا أكل جسد المسيح حرفياً لا ينفع نفوسهم، لأن ما يناله جسد الإنسان لا يؤثر في نفسه.
ويفيد هذا الكلام أيضاً أن كل ما يتعلق بناسوت المسيح (بقطع النظر عن لاهوته) لا ينفعنا إذا اتكلنا عليه للخلاص، كمجرد نظر وجهه وسماع صوته ولمس هدب ثوبه. لذلك قال الرسول «وَإِنْ كُنَّا قَدْ عَرَفْنَا المَسِيحَ حَسَبَ الجَسَدِ، لَكِنِ الآنَ لا نَعْرِفُهُ بَعْدُ» (٢كورنثوس ٥: ١٦). فلو أمكن الخبز أن يستحيل بالصلاة والبركة إلى جسد المسيح حقيقة، لما كان منه فائدة حسب نص هذه الآية.
اَلكلامُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ أي يجب أن تأخذوه بالمعنى الروحي، وتتعلموا من الروح القدس وتقبلوه بأرواحكم وضمائركم. فإذا أخذتموه كذلك كان واسطة للحصول على الحياة الروحية الأبدية. وغاية المسيح بذلك تحويل أفكار الناس من الجسديات العالميات الوقتيات إلى الروحيات السماويات الأبديات، والعدول عن اتخاذهم كلامه حرفياً، وحملهم على التفتيش عن المعنى الروحي.
٦٤ «وَلَكِنْ مِنْكُمْ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ. لأنَّ يَسُوعَ مِنَ البَدْءِ عَلِمَ مَنْ هُمُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ، وَمَنْ هُوَ الَّذِي يُسَلِّمُهُ».
ع ٣٦ ويوحنا ٢: ٢٤، ٢٥ و١٣: ١١
وَلَكِنْ مِنْكُمْ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ هذا سبب عدم إدراكهم المعنى الصحيح لكلام المسيح وتذمرهم عليه ووصفهم كلامه بالصعوبة، لأن الناس استفادوا من المسيح على قدر إيمانهم به فهو كقوله «بِحَسَبِ إِيمَانِكُمَا لِيَكُنْ لَكُمَا» (متّى ٩: ٢٩) وقول الرسول «الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لا يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللَّهِ» ( ١كورنثوس ٢: ١٤). ولو آمن أولئك التلاميذ بأن يسوع هو المسيح حق الإيمان لطلبوا منه زيادة إيضاح كلامه، ولم يعثروا بما وجدوا إدراكه صعباً.
لأنَّ يَسُوعَ مِنَ البَدْءِ عَلِمَ هذا ركن القول السابق. فيسوع يعرف ما في قلوب الناس بقوته الإلهية. فلو لم يكن هو الله لاستحال أن يعلم ذلك. وقصد بقوله «من البدء» بدء خدمته وإتيان التلاميذ إليه (يوحنا ١٥: ٢٦ و١٦: ٤).
وَمَنْ هُوَ الَّذِي يُسَلِّمُهُ لم يكن المسيح مخدوعاً بيهوذا الإسخريوطي، وإن أراد بحكمته التي لا تُحد أن ينتخبه رسولاً. وسبق معرفة المسيح بخيانة أحد رسله كانت جزءاً من آلام المسيح التي احتملها على الأرض، وأظهر الصبر العظيم باحتماله من عرف خداعه وظل يعلّمه ويحذّره. وفي ذلك مثال لكل رجال الدين الآن أن لا يمتنعوا من تعليم الناس وتبشيرهم وإن علموا أن بعضهم من المرائين.
٦٥ «فَقَالَ: لِهَذَا قُلتُ لَكُمْ إِنَّهُ لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يُعْطَ مِنْ أَبِي».
ع ٤٤، ٤٥
أشار بهذا الكلام إلى ما قاله في ع ٤٤، ٤٥ من أنه «لا يقدر أن يأتي أحد إليه إن لم يجتذبه الآب». وهذا الاجتذاب يتضمن إتيانه إليه بالإيمان، وأن الآب يهب له نعمة لذلك الإيمان. أما يهوذا وأمثاله فأتوا إلى المسيح بأجسادهم دون قلوبهم، فلم يكن لهم إيمان. والآب لم يعط المسيح إياهم ولم يجتذبهم. والمسيح لم يتعجب من سقوطهم. فإذا لم يكن القلب مستعداً لقبول الحق لم يتأثر بكلام، ولو كان المتكلم هو المسيح نفسه، وبرهن أقواله بالبراهين والمعجزات.
رجوع كثيرين من تلاميذه إلى الوراء وإقرار بطرس به (ع ٦٦ – ٧٢)
٦٦ «مِنْ هَذَا الوَقْتِ رَجَعَ كَثِيرُونَ مِنْ تلامِيذِهِ إِلَى الوَرَاءِ، وَلَمْ يَعُودُوا يَمْشُونَ مَعَهُ».
مِنْ هَذَا الوَقْتِ أي من وقت هذا الخطاب الذي أظهر فيه المسيح روحانية تعليمه. فهذا الإظهار وزن إيمانهم فوُجد ناقصاً.
رَجَعَ كَثِيرُونَ مِنْ تلامِيذِهِ الذين تبعوه كانوا تلاميذ كثيرين. ومن جملة الذين تركوه بعض الذين ذُكروا في ع ٦٠، فإنهم تيقنوا أنه ليس هو المسيح الذي أرادوه، وهو تحقق أنهم ليسوا التلاميذ الذين أرادهم.
وَلَمْ يَعُودُوا يَمْشُونَ مَعَهُ أي لم يرافقوه ليسمعوا تعاليمه. انفصلوا عنه أولاً في الباطن ثم تركوه في الظاهر ورجعوا إلى منازلهم، لأنهم يئسوا من توقع الخيرات الجسدية منه، ونفروا من تعليمه الروحي.
لم يستطع ابن الله أن يجعل كلامه مقبولاً عند سامعيه فلا عجب أن عجز المبشرون اليوم أن يرضوا الناس وهم ينادون بالإنجيل.
٦٧ «فَقَالَ يَسُوعُ لِلاثْنَيْ عَشَرَ: أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً تُرِيدُونَ أَنْ تَمْضُوا؟».
للاثْنَيْ عَشَرَ هذا أول ذكر لهم في هذه البشارة. ولم يذكر البشير انتخاب المسيح إياهم، واقتصر على ذكر خمسة منهم إليه. وكلام يوحنا هنا يثبت ما قيل في مرقس ٣: ١٣ – ١٩ ولوقا ٦: ١٢ – ١٦.
أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً الخ لم يسألهم ذلك ليعرف قصدهم «لأن يسوع من البدء علم من هم الذين لا يؤمنون» (ع ٦٤) لكن ليمتحن إيمانهم، وليحملهم على الإقرار بأمانتهم له (يوحنا ٦: ٦) فتتمكن علاقة المحبة بينهم. وأظهر المسيح بما قال أسفه وألمه لأن بعض تلاميذه تركوه، ولرغبته في أن يسمع من أصدقائه الأمناء إقرارهم بخلوص مودتهم، وأمله وثقته بهم أن يثبتوا. وحزنه كغيره من الناس لما تركه أصحابه. وتعزيته كذلك لما تحقق أمانتهم ومحبتهم (لأنه إنسان كما أنه إله) وإرادته أن لا يتبعه أحد كرهاً، وتركه لكل إنسان أن يختار بقاءه معه أو تركه إياه. ولا يزال المسيح يعرض على كل إنسان قوله «ألعلك أنت أيضاً تريد أن تمضي؟». ولا يزال ارتداد البعض عن المسيح تجربة عظيمة على الباقين.
٦٨ «فَأَجَابَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: يَا رَبُّ، إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كلامُ الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ».
أعمال ٥: ٢٠
أجاب بطرس بالنيابة عن الجميع بسرعة وحرارة كما فعل في متّى ١٦: ١٦. وكان من عادته أن يسبق الآخرين وينوب عنهم بإظهار مشاعره، ولعله كان أكبر سناً منهم، فناب عنهم.
إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ أي لا نذهب عنك أبداً. قد تركنا كل شيء في سبيل اتباعك ولم نندم، ولا نعرف معلماً مثلك، ولا نود غيرك فقد وجدنا فيك كل ما نحتاج إليه. وتعليمك هو الذي يقودنا إلى الحياة الأبدية لا تعليم الكتبة والفريسيين والصدوقيين. فالذهاب عنك ذهاب إلى الظلمة والشقاء واليأس. وفي هذا القول إقرار بالمحبة والثقة والطاعة.
على الناس حين يعثرون بأسرار المسيحية والضيقات الناتجة عنها أن يسألوا مثل هذا السؤال بمطاليبه، أو: أي دين أفضل من دين المسيح؟ وأية ديانة نتائجها خير من نتائج ديانته؟ وأي رجاء منها في المستقبل خير من مثل ذلك الرجاء في تلك الديانة؟ أو ماذا تكون أحوالهم إذا تركوا كل دين؟
كلامُ الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ الطريق الوحيدة لنوال الحياة الأبدية هو الإصغاء إلى كلام المسيح، لأنه «الحق والحياة» يقدر أن يمنح الحياة للناس بتعليمه، وبفعل روحه القدوس ينير العقل بالعلم ويُحيي القلب بمحبته.
لا شك أن بطرس لم يفهم معنى كلام المسيح عن أكل جسده وشرب دمه تمام الفهم، ولم يدرك ذلك إلا بعد موت المسيح وقيامته وصعوده وحلول الروح القدس عليه وعلى سائر التلاميذ، لكنه أقر باعتقاده أن تلك الكلمات معلنات الحياة الأبدية، وأنه يحب أن يسمعها ويهتدي بها.
٦٩ «وَنَحْنُ قَدْ آمَنَّا وَعَرَفْنَا أَنَّكَ أَنْتَ المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الحَيِّ».
متّى ١٦: ١٦ ومرقس ٨: ٢٩ ولوقا ٩: ٢٠ ويوحنا ١: ٤٩ و١١: ٢٧
وَنَحْنُ قَدْ آمَنَّا وَعَرَفْنَا هذا دليل واضح على أن بطرس كان نائباً عن سائر الرسل بإجابته المسيح. ومضمون تلك الإجابة أنهم تحققوا مما أبصروا وسمعوا أن يسوع هو المسيح، وأن إيمانهم به وطيد ومعرفتهم يقينية، فلا يبالون لو شكَّ البعض في المسيح وتركه، وأنهم ليسوا مثل ذلك البعض.
أَنَّكَ أَنْتَ المَسِيحُ الذي مسحه الله ملكاً ونبياً وكاهناً لشعبه.
ابْنُ اللَّهِ الحَيِّ لقب آخر من ألقاب المسيح اعتاد اليهود أن يلقبوه به، وفيه دليل على لاهوته. أقر بطرس في هذا الكلام إقراراً حسناً عن نفسه وعن سائر الرسل بلاهوت يسوع، وبكونه المسيح الموعود به. لكنه لم يفهم هو ولا غيره من الرسل أن يسوع لا بد أن يموت كفارة عن البشر وذبيحة «لله» (متّى ١٦: ٢٢، ٢٣).
٧٠ «أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: أَلَيْسَ أَنِّي أَنَا اخْتَرْتُكُمْ، الاثْنَيْ عَشَرَ؟ وَوَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ!».
لو ٦: ١٣ ويوحنا ١٣: ٢٧
هذا جواب المسيح لقول بطرس في شأن جماعة الرسل كلها فكأنه قال «هل تقول إن الاثني عشر كلهم عرفوا وآمنوا أني المسيح؟» فإني أخبر بما لم تعرفوا، وهو أن ليس الأمر كذلك.
أَلَيْسَ أَنِّي أَنَا اخْتَرْتُكُمْ أشار بذلك إلى انتخابه اثني عشر من تلاميذه رسلاً (لوقا ٦: ١٣) فهذا الاختيار غير الاختيار للخلاص كما في ١٣: ١٨. وفي هذا إشارة إلى فظاعة إثم مسلِّمه، وأن الذي يرتكب ذلك أحد الاثني عشر المنتخب رسولاً من جمهور التلاميذ حاصلاً على وسائط عظيمة لمعرفة الحق، ومرافقاً ليسوع كل يوم متعلماً من شفتيه، ملزوماً بوظيفته بالأمانة والصداقة.
وَوَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ أي يستحق أن يُلقَّب «بالشيطان» لأنه يظهر نية الشيطان ويعمل إرادته كأحد جنوده، ولأن صفاته كصفاته من البغض والطمع والخداع والرياء. وقال المسيح ذلك قبل أن يسلمه يهوذا بنحو سنة، وهذا دليل على أنه منذ الأول لم يكن تلميذاً أميناً. وما قيل في يوحنا ١٣: ٢ أن الشيطان «أَلقَى فِي قَلبِ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ أَنْ يُسَلِّمَهُ» يشير إلى تمام قصده الشرير الذي كان كامناً في قلبه منذ زمان بإغراء الشيطان، وأن الشيطان حركه يومئذ.
وهدف المسيح من هذا القول أن يوقظ ضمير يهوذا ويرشده إلى التوبة، وحث كل التلاميذ على السهر، ومنعهم من الظن أنه يجهل ضمير يهوذا وخُدع به عند خيانته.
٧١ «قَالَ عَنْ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ، لأنَّ هَذَا كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يُسَلِّمَهُ، وَهُوَ وَاحِدٌ مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ».
يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ (متّى ١٠: ٤) أي ابن سمعان. ومعنى «الإسخريوطي» قروي أو رجل قرية. ويحتمل أن يهوذا وُلد في قريوث وهي قرية في نصيب سبط يهوذا (يشوع ١٥: ٢٥). وأضاف يوحنا يهوذا إلى سمعان في بشارته أربع مرات. ولسنا نعرف شيئاً من أمر سمعان، ولماذا أضاف يوحنا يهوذا إليه إلا أن يكون أراد التمييز بينه وبين يهوذا آخر ذُكر في يوحنا ١٤: ٢٢ وهو أخو يعقوب وسُمي أحياناً لبّاوس (متّى ١٠: ٣).
لأنَّ هَذَا كَانَ مُزْمِعاً إلخ ذلك تم فعلاً (يوحنا ١٣: ٢). قال يوحنا كذلك بياناً لعلة تسمية المسيح يهوذا شيطاناً، وليظهر الفرق بين وظيفته وفعله.