إنجيل يوحنا

إنجيل يوحنا | 04 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل يوحنا

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الرابع

مخاطبة يسوع امرأة سامرية ع ١ إلى ٣٨

١ «فَلَمَّا عَلِمَ ٱلرَّبُّ أَنَّ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ سَمِعُوا أَنَّ يَسُوعَ يُصَيِّرُ وَيُعَمِّدُ تَلاَمِيذَ أَكْثَرَ مِنْ يُوحَنَّا».

ص ٣: ٢٢ و٢٦

ٱلرَّبُّ اعتاد التلاميذ أن يلقبوا يسوع بالرب بعد صعوده وتمجيده وكثر منهم ذلك في الرسائل وندر في البشائر.

ٱلْفَرِّيسِيِّينَ هم فرقة من اليهود اشتهروا بشدة الغيرة لشريعة موسى وتقاليد الشيوخ وامتازوا على سائر الفرق اليهودية بمقاومتهم ليسوع (انطر الشرح متّى ٣: ٧).

سَمِعُوا أَنَّ يَسُوعَ الخ مضمون هذا الكلام مضمون الخبر الذي أنبأ به يوحنا تلاميذه بقولهم «هُوَ يُعَمِّدُ، وَٱلْجَمِيعُ يَأْتُونَ إِلَيْهِ» (ص ٣: ٢٦). والفريسيون كانوا قد أرسلوا لجنة إلى المعمدان تسأله لماذا يُعمد (ص ١: ٢٤) ولم يُسروا بوعظ يوحنا (متّى ٣: ٧ و٢٠: ٢٥). وكرهوا وعظ يسوع أكثر من ذلك وعندما سمعوا نبأ نجاحه اغتاظوا واشتدت مقاومتهم إيّاه. ولأن ساعة موت يسوع لم تكن قد أتت رأى أن يذهب إلى موضع آخر حيث أعداؤه أقل عدداً وقوة.

٢ «مَعَ أَنَّ يَسُوعَ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ يُعَمِّدُ بَلْ تَلاَمِيذُهُ».

١كورنثوس ١: ١٤ إلى ١٧

ظن الفريسيون بناء على الخبر الذي بلغهم أن يسوع نفسه كان يعمد فجاء البشير بما ذكره هنا بياناً للواقع. ولعل الأسباب التي منعت يسوع عن التعميد بيده الخوف من أن تلاميذه يستنتجون من عمله أن رسم المعمودية يستحق اعتباراً أكثر مما يليق به وارادته أن يشغل وقته بالتبشير لا بشيء آخر. وكون التعميد بالروح القدس عمله الخاص وهذا أعظم تلك الأسباب.

٣ «تَرَكَ ٱلْيَهُودِيَّةَ وَمَضَى أَيْضاً إِلَى ٱلْجَلِيل».

تَرَكَ ٱلْيَهُودِيَّةَ بعد ما تقضى عليه فيها نحو ثمانية أشهر. وعلة تركه اليهودية حسد الفريسيين وبغضهم إياه ومؤامرتهم عليه وهي التي منعته عن التبشير وجعلت حياته في خطر قبل إتيان الساعة المعينة لموته (ص ٧: ٣٠).

وَمَضَى أَيْضاً قال البشير هذا لأن يسوع كان قد زار الجليل قبل هذا زيارة قصيرة وقد ذُكرت في (ص ٢: ١٢).

إِلَى ٱلْجَلِيلِ هي القسم الشمالي من أقسام الأرض المقدسة الثلاثة وفي نحو هذا الوقت ألقى هيرودس يوحنا المعمدان في السجن (متّى ٤: ١٢ ومرقس ١: ١٤). ولم يذكر متّى ومرقس عِلل ذهاب يسوع يومئذ إلى الجليل إنما اقتصروا على ذكرها أن ذلك كان وقت إلقاء يوحنا في السجن وهي أن سلطة الفريسيين أعداء المسيح كانت في الجليل أقل منها في اليهودية وأن أهل الجليل كانوا أكثر رغبة في قبول تعليمه من أهل اليهودية وأنه استحسن أن يعظ هنالك أكثر مواعظه ويصنع أوفر معجزاته ويتخذ معظم تلاميذه.

ولنا مما فعله المسيح الإباحة للمسيحي في وقت الاضطهاد والخطر بترك مكانه والذهاب إلى حيث يأمن على سلامته وحياته ويستطيع أن ينفع غيره.

٤ «وَكَانَ لاَ بُدَّ لَهُ أَنْ يَجْتَازَ ٱلسَّامِرَة».

بين اليهودية والجليل طريقان تمر إحداهما بالسامرة وهي مستقيمة وأقرب من الأخرى. وتمر الأخرى ببيرية شرقي الأردن سار فيها المسيح في سفره الأخير من الجليل إلى أورشليم (متّى ١٩: ١ ومرقس ١٠: ١). وقوله «لا بد له الخ» مبني على اضطراره أن يتمم مقاصد الله في السامرة وعلى رغبته في تبشير أهلها أو على قصده الطريق الأقرب.

ٱلسَّامِرَةَ هي القسم الأوسط من أقسام الأرض المقدسة الثلاثة سُميت باسم قاعدتها التي بناها عَمري ملك أسباط إسرائيل العشرة سنة ٩٢٠ ق. م (١ملوك ١٦: ٢٣ و٢٤) وجدد بناء تلك القاعدة هيرودس الكبير وزينها وسماها سيبستي إكراماً لأغسطس لان سيبستي اسمه في اليونانية. وهي الآن قرية حقيرة مبنية على أطلال القديمة واسمها سيبسطية.

ظن بعضهم أن البشير ذكر ما ذكره هنا دفعاً لشبهة التناقض بين ذهاب المسيح إلى السامرة وأمره للتلاميذ بقوله «إِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا» (متّى ١٠: ٥) وبياناً أن ذهابه إليها كان لمجرد المرور في الطريق ولكن الأرجح أن المسيح أراد بذلك الذهاب أن يترك لتلاميذه مثالاً في ما يجب عليهم أن يفعلوه بعد موته والمناداة بإنجيله أولاً بين اليهود وهو أن يبشروا بالإنجيل كل قبائل الأرض.

٥ «فَأَتَى إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ ٱلسَّامِرَةِ يُقَالُ لَهَا سُوخَارُ، بِقُرْبِ ٱلضَّيْعَةِ ٱلَّتِي وَهَبَهَا يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ ٱبْنِهِ».

قضاة ٩: ٧ و٤٦ و١ملوك ١٢: ٢٥ وإشعياء ٢٨: ١،تكوين ٣٣: ١٩ و٤٨: ٢٢ ويشوع ٢٤: ٣٢

سُوخَارُ ظنها بعضهم شكيم (تكوين ٢٣: ١٨ وقضاة ٩: ٧) وتسمى اليوم نابلس. وهذا الظن لم يثبت لأن شكيم تبعد عن بئر يعقوب ميلين أي أكثر من نصف ساعة. وهي وافرة الماء فلم يكن من داع لأحد سكانها أن يذهب منها إلى تلك البئر للاستقاء. والأرجح أنها كانت قرب البئر وهي خربة تُسمى عسكر.

وَهَبَهَا يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ ٱبْنِهِ الأرجح أن ما وهبه يعقوب ليوسف اشترى بعضه (تكوين ٣٣: ١٩) وملك البعض الآخر بالحرب (تكوين ٤٨: ٢٢) وهنالك دُفنت عظام يوسف (قابل ما في تكوين ٣٣: ١٩ بما في يشوع ٢٤: ٣٢).

٦ «وَكَانَتْ هُنَاكَ بِئْرُ يَعْقُوبَ. فَإِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ ٱلسَّفَرِ، جَلَسَ هٰكَذَا عَلَى ٱلْبِئْرِ، وَكَانَ نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَة».

بِئْرُ يَعْقُوبَ ذُكر أن يعقوب اشترى تلك الأرض في (تكوين ٣٣: ١٨ – ٢٠) ولكن لم نجد من ذكر أنه حفر تلك البئر ولما قسم يشوع الأرض على الإسرائيليين كانت تلك الأرض في سهم أفرايم (يشوع ٢١: ٢١ و٢٤: ٣٢). وهناك اليوم بئر تُسمى بئر يعقوب في سهل بين جبل جرزيم وجبل عيبال قاس بعضهم عمقها فوجده مئة قدم وخمسة أقدام، خمس عشرة قدماً منها تحت الماء وقطرها نحو تسع أقدام. ثم وجد بعضهم أنه قد طُرح فيها مقدار عظيم من الحجارة والتراب حتى نقص عمقها فلم يكن سوى نحو خمس وسبعين قدماً وخلت من الماء. وقد سُد فمه إلا قليلاً بما سقط عليه من كبار الحجارة. ويصعب علينا أن نرى سبباً لحفر تلك البئر في أرض كثيرة العيون والينابيع إلا إذا قيل أن يعقوب أراد الاستغناء ببئره عن كل ماء لجيرانه وأن يثبت بحفرها ملكه لتلك الارض.

إِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ ٱلسَّفَرِ تعب لأنه كان إنساناً تاماً كما كان إلهاً تاماً ولأنه قطع ماشياً المسافة من أورشليم إلى بئر يعقوب وهي نحو أربعين ميلاً أو مرحلتين.

وقد أظهر رب المجد غاية التنازل لأجلنا لأنه مع كونه «خَالِقُ أَطْرَافِ ٱلأَرْضِ لاَ يَكِلُّ وَلاَ يَعْيَا» (إشعياء ٤٠: ٢٨) «اَلْمُفَجِّرُ عُيُوناً فِي ٱلأَوْدِيَةِ» (مزمور ١٠٤: ١٠) عرّض نفسه للتعب والعطش بالجولان ماشياً في حرّ الصيف وبرد الشتاء حتى احتاج إلى الراحة وطلب شربة ماء من غريبة استثقلت أن تجيب طلبه.

جَلَسَ هٰكَذَا عَلَى ٱلْبِئْرِ أي في الحال التي كان عليها وهو تعب ليس له شيء يجلس عليه سوى حجر البئر. وذكر البشير ذلك بياناً لعلة جلوسه. ولنا في هذا مثال القناعة. ويتبيّن جلياً بمقابلتنا حال المسيح في سفره وقتئذ بحالنا في السفر اليوم على أن قليليين من الناس يرضون أن يحتملوا مشقات المسيح في أسفارهم.

ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَةِ أي الظهر.

٧ «فَجَاءَتِ ٱمْرَأَةٌ مِنَ ٱلسَّامِرَةِ لِتَسْتَقِيَ مَاءً، فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: أَعْطِينِي لأَشْرَبَ».

ٱمْرَأَةٌ مِنَ ٱلسَّامِرَةِ ليس المراد أنها مدينة السامرة لأنها كانت على أمد ثلاث ساعات من تلك البئر بل إنّها من السامريين جنساً وديناً والأرجح أنها من قرية عسكر.

رضي المسيح أن يلفظ موعظة من أحسن مواعظه لإنسان واحد وهو امرأة نصف وثنية ونصف يهودية وأن يكون منبره حجر البئر. وأظهر بما أتاه حينئذ قيمة نفس واحدة في عينيه وترك لخدم الدين مثالاً لئلا يتخذوا تعب الجسد عذراً لتركهم الفرصة المناسبة لعمل الخير.

فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: أَعْطِينِي لأَشْرَبَ كان وقتئذ الظهر ويسوع تعب من المشي فلا شك في أنه كان عطشان وهذا علة طلبه الماء على أنه اتخذ ذلك الطلب وسيلة إلى افتتاح الحديث مع المرأة لإفادة نفسها. ومن المعلوم أنك إذا سألت أحداً معروفاً جعلته راضياً عنك لأن في سؤالك اعترافاً له بالفضل وبأنه يملك ما لم تملكه أنت.

٨ «لأَنَّ تَلاَمِيذَهُ كَانُوا قَدْ مَضَوْا إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لِيَبْتَاعُوا طَعَاماً».

ذكر البشير هذا بياناً لعلة طلب المسيح الماء من المرأة السامرية لا من تلاميذه.

٩ «فَقَالَتْ لَهُ ٱلْمَرْأَةُ ٱلسَّامِرِيَّةُ: كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ، وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَا ٱمْرَأَةٌ سَامِرِيَّةٌ؟ لأَنَّ ٱلْيَهُودَ لاَ يُعَامِلُونَ ٱلسَّامِرِيِّين».

٢ملوك ١٧: ٢٤ ولوقا ٩: ٥٢ و٥٣ وأعمال ١٠: ٢٨

كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ هذا الاستفهام للتعجب لا للاستخبار. وطلب الإنسان شربة ماء من الأمور العادية فليس فيه ما يحملها على الاستغراب لولا البغض بين اليهود والسامريين الذي كان قد مر عليه يومئذ نحو خمس مئة سنة. وذلك منذ إتيان أسرحدّون ملك أشور بخمس أمم وثنية وإسكانه إيّاها في الأرض التي سبى منها عشرة أسباط إسرائيل (٢ملوك ١٧: ٢٤ – ٤١ عزرا ص ٤ راجع الشرح متّى ١٠: ٥ ولوقا ٩: ٥٢). وليس في كلامها هذا من رفض خالص لطلب المسيح ولا من إجابة.

وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ عرفت أنه يهودي إما من هيئته وإما من لهجته وإما من كليهما.

لأَنَّ ٱلْيَهُودَ لاَ يُعَامِلُونَ ٱلسَّامِرِيِّينَ قال البشير هذا بياناً لعلة جوابها. قال أحد الربانيين من أكل من اليهود شيئاً من خبز السامريين فكأنه أكل من لحم الخنزير. ويتضح من هذا أنه لم تكن من معاملة بين اليهود والسامريين بعد ذلك أن يبيت المسيح وتلاميذه في إحدى قراهم ليلة واحدة (لوقا ٩: ٥٢) وهذا لا يستلزم المنافاة كما سبق من ان التلاميذ مضوا إلى المدينة ليبتاعوا طعاماً لأن ربانيي اليهود أجازوا من طعام السامريين الفواكه والبقول والبيض. وأن عامة الإسرائيليين لم يتمسكوا على الدوام بكل تعصبات الرؤساء.

وأعنف الخصومات ما نتجت عن الاختلال الديني وهذا ليس من شريعة الله لأنه يريد أن يعامل الناس بعضهم بعضاً كإخوة ولكن الناس اضطهد بعضهم بعضاً لأن بعضهم يعبده تعالى في مكان والآخر يعبده في مكان آخر.

١٠ «أَجَابَ يَسُوعُ: لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ ٱللّٰهِ، وَمَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيّا».

إشعياء ١٢: ٣ و٤٤: ٣ وإرميا ٢: ١٣ وزكريا ١٣: ١ و١٤: ٨

لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ جهل الناس حقيقة المسيح من الأسباب لرفضهم نعمته.

عَطِيَّةَ ٱللّٰهِ وهي يسوع المسيح ابن الله الحبيب (ص ٣: ١٦).

وَمَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَقُولُ لَكِ ظنته المرأة إنساناً يهودياً معيياً محتاجاً إلى شربة ماء لانتعاش جسده وجهلت كونه «عطية الله» والمرسل منه بل الله نفسه متجسداً الذي في يده قدرة لا تُحد وفي قلبه حنّو لا يقاس.

لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ عدل المسيح عن بيان حاجته إليها إلى بيان حاجتها إليه وأنه قادر على أن يهب لها عطية أعظم مما طلبه منها. ومضمون ما قاله لها أنه لو عرفت وظيفة المسيح وما أتى به من المواهب المحيية نفوس الناس وأنه هو الذي يخاطبها حينئذ لطلبت منه أعظم البركات ونالتها منه.

فَأَعْطَاكِ جعل المسيح الطلب الشرط الوحيد للنوال بقوله «لطلبت أنت منه فأعطاك» وجعل جهلها إياه العلة الوحيدة لعدم طلبها بقوله «لو كنت تعلمين… لطلبت الخ».

مَاءً حَيّاً أي دائم الجريان من نبع لا من جمع. والمقصود به هنا كل ما ينال به الإنسان الخلاص والحياة الأبدية وما يروى ظمأ النفس الروحي إلى الأبد. وهذا يتضمن غفران الخطيئة والسلام مع الله والنعمة والتبرير والتقديس. والمسيح بهبته نفسه لنفس الإنسان وبإعطائه إياه مواهب الروح القدس يؤكد له كل ما ذُكر.

وكثيراً ما أُستعير الماء للبركات الروحية في الكتاب المقدس منها ما يأتي (مزمور ٢٣: ٢ و٣٦: ٨ وإشعياء ٥٥: ١ وإرميا ٢: ١٣ و١٩: ١٣ وحزقيال ٣٦: ٢٥ وزكريا ١٣: ١ والجامع بينهما التطهير والإحياء.

وإن قيل ماذا حمل المسيح على المجاز أي استعارة الماء الحي لنعمته قلنا أولاً جعل كلامه في الروحيات متعلقاً بما سبق فإنه طلب منها ماء لرواء جسده فوعدها بماء لرواء نفسها.

ثانياً: حمل المرأة على فرط الإصغاء إليه لأن العقل البشري مطبوع على لذة التدرج من الخفاء إلى الوضوح والانتقال من الرمز إلى المرموز إليه.

كما أن المسيح أظهر حكمته بدعوته بطرس وأندراوس من تلاميذ صيادي السمك إلى اتباعه بقوله «هلمّ ورائي فأجعلكما صيادي الناس» ورغبة الجموع الذين تبعوه بعد معجزته إشباع ألوف ببضعة أرغفة في الطعام الروحي بقوله «أنا خبز الحياة» كذلك أظهر حكمته في مخاطبة المرأة السامرية التي أتت إلى بئر يعقوب لتستقي الماء في الماء الحي ليرقي أفكارها من البركات الجسدية إلى البركات الروحية التي الماء إشارة إليها.

١١ «قَالَتْ لَهُ ٱلْمَرْأَةُ: يَا سَيِّدُ، لاَ دَلْوَ لَكَ وَٱلْبِئْرُ عَمِيقَةٌ. فَمِنْ أَيْنَ لَكَ ٱلْمَاءُ ٱلْحَيُّ؟».

يَا سَيِّدُ هذا يدل على تأثير كلامه فيها لأنها أخذت تخاطبه بألقاب الاعتبار التي لم تلتفت إليها أولاً فبدلت قولها يهودي (ع ٨) بقولها «يا سيد».

والظاهر لنا من هذه الآية أن المرأة لم تفهم معنى المسيح الروحي بل أخذت كلامه على ظاهر معناه وفهمت بالماء الحي الماء المادي كما جاء في (تكوين ٢٦: ١٩ ولاويين ١٤: ٥). ولا عجب من أنها لم تدرك معنى كلام المسيح الروحي فإنها لم تكن أقل ذكاء من نيقوديموس في إدراك الروحيات (ص ٣: ٤). وليس في جوابها رفض لعطية المسيح بل التعجب من وعده إياها لما لا وسيلة له إليه. فكأنها قالت إن كنت قد قصدت بالماء الحي ماء هذه البئر فلست قادراً على أن تعطيني إياه إذ لا دلو لك ولا حبل وإن كنت عنيت أنك تعطيني ماء أحسن من ماء هذه البئر فقد ادعيت أنك أعظم من يعقوب. وأما قولها أن البئر عميقة فهو صحيح لأن عمقها نحو تسعة وأربعين ذراعاً كما أنبأ الذين قاسوه.

١٢ «أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ، ٱلَّذِي أَعْطَانَا ٱلْبِئْرَ، وَشَرِبَ مِنْهَا هُوَ وَبَنُوهُ وَمَوَاشِيهِ؟».

أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ أي لا ريب في أنك لست بأعظم.

مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ ادعى السامريون نسبتهم إلى يعقوب بناء على تقليدهم أنهم سلالة ابني يوسف ابنه افرايم ومنسى. ولا سند لهم في ذلك سوى أن بقايا ذينك السبطين بعد السبي اختلطوا بالأمم الخمس التي هي أصل السامريين. ولا برهان لهم على أن يعقوب أعطاهم تلك البئر إلا أنهم سكنوا أرضها التي وهبها يعقوب ليوسف ع ٦. ومعناها أن هذه البئر اكتفى بها يعقوب وأولاده ومواشيه وسُروا بها فكيف تستطيع أنت أن تعطي ماء أفضل من مائها ولماذا أطلب أنا أحسن منه. فعظمت البئر لعظمة الذي حفرها واتخذ ماءها. أو لعلها أرادت ما معناه هل تدّعي أنت أنك نبي كموسى قادر أن تضرب الصخرة فتخرج منها ماء حياً.

١٣ «أَجَابَ يَسُوعُ: كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هٰذَا ٱلْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضا».

لم يجبها يسوع بأنه أعظم من يعقوب بصريح العبارة بل أفادها ذلك بطريق الكناية إذ قال ما مفاده أن عطيته أعظم من عطية يعقوب. وهذا حق لأن المسيح أعظم من يعقوب وسائر الآباء والأنبياء والرسل.

هٰذَا ٱلْمَاءِ الذي تقولين أن يعقوب أعطاك إياه.

يَعْطَشُ أَيْضاً هذا مما تيقنته المرأة باختبارها. وما صدق على هذا الماء يصدق على كل بركة جسدية فإنها لا تقوم بالحاجة إلا وقتاً قصيراً ثم يعود الاحتياج إلى مثلها. فحقق لها بذلك أنه لو أعطاها من أصل ينبوع ذلك البئر ماء لما كان ما يعطيها خيراً دائماً. وبمثل هذا أظهر لليهود عدم كفاية المن الذي أُعطي على يد موسى بياناً لأفضلية ما يعطيه هو من خبز الحياة بقوله «آبَاؤُكُمْ أَكَلُوا ٱلْمَنَّ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ وَمَاتُوا… أَنَا هُوَ ٱلْخُبْزُ ٱلْحَيُّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هٰذَا ٱلْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى ٱلأَبَدِ» (ص ٦: ٤٩ و٥١).

١٤ «وَلٰكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ ٱلْمَاءِ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى ٱلأَبَدِ، بَلِ ٱلْمَاءُ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ».

ص ٦: ٣٥ و٥٨ ص ٧: ٣٨

مَنْ يَشْرَبُ أي يقبل قبولاً تاماً أو يؤمن حق الإيمان.

ٱلْمَاءِ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا أي نعمتي وخلاصي والروح القدس الذي أنا أرسله.

فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى ٱلأَبَدِ أي يحصل على كل ما يشتاقه أو يحتاج إليه من البركات الروحية. والمجاز هنا كالمجاز في (ص ٦: ٥١ ورؤيا ٧: ١٦ و٢١: ٦).

بَلِ ٱلْمَاءُ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ ببذل حياتي من أجل العالم وبإقامتي بقلب المؤمن (ص ١٤: ١٩ و٢٣) وبإرسال الروح القدس إلى ذلك القلب (ص ٧: ٣٩ و١٦: ١٤ و١٥ و١٧: ٢٣). وشرح المسيح في هذا العدد الماء الحي ووصفه بأربعة أمور:

  • الأول: أنه هو الذي يعطيه تمييزاً له عن الماء الذي أعطاه يعقوب.
  • الثاني: أنه يروي ظمأ النفس أكمل رواء بأنها تشفي أشواقها بالاتحاد بالله وبالمصالحة له وبمعرفة الحق وراحة الضمير وبمغفرة الإثم وبالقداسة والقناعة والسعادة.
  • الثالث: أنه يغني من حصل عليه بالإيمان عن كل وسائل السعادة الخارجية فكأنه يكون فتح في قلبه ينبوع الفرح الروحي فيستطيع أن يستقي «مِيَاهاً بِفَرَحٍ مِنْ يَنَابِيعِ ٱلْخَلاَصِ» (إشعياء ١٢: ٣).
  • الرابع: أنه دائم إلى الأبد يبقى لمن حصل عليه مع كل النوازل التي تحل به حتى الموت نفسه لأن مصدر ذلك الماء هو الله «ساكن الأبد» وهو يجري من الله إلى قلوب المؤمنين (رومية ٨: ٣٥ – ٣٩ و٢تيموثاوس ١: ١٢).

١٥ «قَالَتْ لَهُ ٱلْمَرْأَةُ: يَا سَيِّدُ أَعْطِنِي هٰذَا ٱلْمَاءَ، لِكَيْ لاَ أَعْطَشَ وَلاَ آتِيَ إِلَى هُنَا لأَسْتَقِيَ».

ص ٦: ٣٤ و١٧: ٢ و٣ ورومية ٦: ٢٣ و١يوحنا ٥: ٢٠

لم تدرك المرأة تمام معنى المسيح لكنها صدقت أنه قادر على إعطائها عطية زمنية عجيبة تغنيها عن التعب والعناء في الإتيان إلى تلك البئر. وكلامها يشبه قول اليهود في كفرناحوم «يا سيد أعطنا في كل حين هذا الخبز» في أنهم لم يقصدوا به سوى النفع المادي مثلها. أما هي فأصابت إلى حد أنها قالت «أعطني» وشعرت بأنها محتاجة إلى شيء يقدر المسيح أن يهبه لها إذ وعدها بذلك بقوله «لطلبت أنت منه فأعطاك» (ع ١٠) فطلبت وإن لم تفهم كل المراد مما طلبت وحصلت على أكثر مما توقعت بما لا يوصف.

١٦ «قَالَ لَهَا يَسُوعُ: ٱذْهَبِي وَٱدْعِي زَوْجَكِ وَتَعَالَيْ إِلَى هٰهُنَا».

عدل المسيح من هنا عن مخاطبة المرأة بالمجاز إذ نال به غايته من تنبيه ذهنها وحملها على زيادة الإصغاء إلى كلامه وطلب الماء الحي منه. وبقي أن يبيّن لها أنه يعلم ما لم يستطع أحد من الناس أن يعلمه ويُعدها بذلك إلى التسليم بأنه المسيح والشعور بانها خاطئة. فإنه عرف سيرتها الماضية وماذا يكون تأثير كلامه فيها بتبيين هذه المعرفة لها. فكان كطبيب ماهر يعالج النفوس بأن جعلها تشعر بمرض نفسها واحتياجها إلى الشفاء ليرشدها إلى الدواء الروحي. وهذه غايته من قوله «اذهبي وادعي زوجك الخ» وسلك هذا السبيل ليعطيها الماء الحي إجابة لطلبتها وهي قولها «أعطني هذا الماء» أي ليقودها أولاً إلى الشعور بالخطيئة ثم إلى التوبة ثم إلى الإيمان بأنه هو المسيح.

١٧ «أَجَابَتِ ٱلْمَرْأَةُ: لَيْسَ لِي زَوْجٌ. قَالَ لَهَا يَسُوعُ: حَسَناً قُلْتِ لَيْسَ لِي زَوْجٌ».

صدقت هذه المرأة ولم تدّع أن الرجل الذي كانت تعيش معه زوجها الشرعي. أظهر المسيح حكمته بمدحه إياها على صدقها باعترافها بدلاً من توبيخه إياها على خطيتها لأنه لو لامها لقست قلبها وانصرفت عنه غاضبة وما أصغت إلى كلامه بعد.

١٨ «لأَنَّهُ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ، وَٱلَّذِي لَكِ ٱلآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ. هٰذَا قُلْتِ بِٱلصِّدْقِ».

هذا بيان أنها كانت خاطئة متعدية الوصية السابعة من وصايا الله العشر وأنها لا تزال عائشة في الزنا.

وكما عرف المسيح خطايا تلك المرأة الخفية يعرف خفايا كل إنسان في كل حين وموضع.

قُلْتِ بِٱلصِّدْقِ مدحها المسيح ثانية على صدقها بإقرارها. وهذا وفق قول الكتاب «مَنْ يَكْتُمُ خَطَايَاهُ لاَ يَنْجَحُ، وَمَنْ يُقِرُّ بِهَا وَيَتْرُكُهَا يُرْحَمُ» (أمثال ٢٨: ١٣) وقوله «إِنِ ٱعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ» (١يوحنا ١: ٩) والظاهر أن تلك المرأة وإن كانت خاطئة لم تكن قاسية القلب حتى تنكر إثمها أو تعتذر عليه.

١٩ «قَالَتْ لَهُ ٱلْمَرْأَةُ: يَا سَيِّدُ، أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ!».

لوقا ٧: ١٦ و٢٤: ١٩ وص ٦: ١٤ و٧: ٤

ما قالته هذه المرأة هنا يدل على تغيّر أفكارها تغيّراً عظيماً من جهة مُخاطبها. وفي كلامها تسليم بصدق قوله عليها.

أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ تيقّنت استحالة أن شخصاً غريب المكان يهودياً يعرف ما عرف من أمرها وهو مجرد إنسان وتحققت كونه معلماً إلهياً مرسلاً من الله ليُعلن الحق للناس. وتحققت عظمة يسوع بمثل البرهان الذي تحقق به نثنائيل عظمته (ص ١: ٤٨ و٤٩). لكنها لم تكن قد تحققت أنه هو المسيح ع ٢٥ فكان إيمانها به كإيمان التلميذين الذاهبين إلى عمواس (لوقا ٢٤: ١٩).

٢٠ «آبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هٰذَا ٱلْجَبَلِ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ ٱلْمَوْضِعَ ٱلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيه».

قضاة ٩: ٧، تثنية ١٢: ٥ و١١ و١ملوك ٩: ٣ و٢أيام ٧: ١٢

اعتبرته نبياً يعلم كل شيء فابتغت أن يفيدها جواب سؤال مقدر هو أين محل العبادة المقبولة وكان هذا من أهم الأمور عندها. ولعلها أرادت معرفته منذ زمن طويل وهو جوهر الاختلاف بين دين السامريين ودين اليهود وعلة البغض الشديد بينهما. فكأنها قالت لنفسها إن كان الحق في هذا مع السامريين كان الحق معهم في سائر الاختلافات.

ولا دليل في كلامها أنه أرادت العدول عن الكلام على خطاياها إلى موضوع آخر بل رغبت في أن تستعلم من ذلك المعلم الإلهي طريق الصواب إلى عبادة الله. وظهر بسؤالها ذلك منه أنها خالية من كل تعصب ديني يمنعها من قبول الإرشاد من يهودي وهي سامرية.

آبَاؤُنَا المرجح أنها أرادت بهؤلاء الآباء السامريين الذي سجدوا في جبل جرزيم منذ عصر نحميا.

فِي هٰذَا ٱلْجَبَلِ أي جبل جرزيم المشرف على شكيم أي نابلس القريب من بئر يعقوب حيث هما. وكان السامريون قد بنوا هيكلاً هنالك سنة ٣٣٢ ق . م هدمه يوحنا هركانوس سنة ١٢٩ ق. م. ولكن ذلك لم يثن السامريين عن إقامة العبادة هناك وحسبوا ذلك الجبل أقدس جبال الأرض وأثبتوا ادعاءهم أقدسيته بما جاء في (تثنية ٢٧: ٤) بادلين في نسختهم «جبال عيبال» بجبل جرزيم وبما جاء في (تكوين ١٢: ٦ و٧ و١٣: ٤ و٣٣: ١٨ و٢٠) وظنوا أنه هو الجبل الذي ذهب إليه إبراهيم ليقدم عليه إسحاق.

وكثيرون من الناس في كل عصر يسلكون مسلك هذه المرأة بأن يعبدوا الله كما عبده آباؤهم ويؤمنون به كما آمنوا مستندين استنادها بقولهم «آباؤنا سجدوا الخ» ونحن على آثارهم مقتفون.

وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ لم تزل مع اعتقادها أنه نبي تعتبره يهودياً.

فِي أُورُشَلِيمَ الخ اختار داود ذلك الموضع للعبادة بإرشاد الله (١أيام ٢١: ٢٦ و٢٢: ١). وأخبر الله سليمان بأنه قبل أورشليم موضعاً لعبادته (٢أيام ٦: ١٢ انظر أيضاً مزمزر ٧٨: ٦٨ و٦٩ و١٣٢: ١٣ و١٤). وفي هذا العدد إيجاز الحذف فلو ذكرته لقالت «وأنت ماذ تقول أي المكانيين ينبغي أن يُسجد فيه وأي مكان قصده موسى بما قاله» في (تثنية ١٢: ٥ – ٧).

٢١ «قَالَ لَهَا يَسُوعُ: يَا ٱمْرَأَةُ، صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هٰذَا ٱلْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ».

ملاخي ١: ١١ و١تيموثاوس ٢: ٨

يَا ٱمْرَأَةُ، صَدِّقِينِي قال هذا تأكيداً لكلامه وتنبيهاً على أهميته. دعته هي نبياً وهو علمها باعتبار كونه نبياً وأمرها بتصديق كلامه كما يحق لكلام الأنبياء فهو بمنزلة قوله لتلاميذه «الحق أقول لكم» (متّى ٥: ١٨).

تَأْتِي سَاعَةٌ أي وقت كما في (ص ٢: ٤ و٥: ٢٥ و٢٨ و٣٤) وهو زمان الإنجيل. وفي هذا العدد إشارة إلى بداءة نظام جديد وإزالة النظام القديم الذي استمر نحو ١٥٠٠ سنة وأوجب فيه على اليهود أن يذهبوا ثلاث مرات في السنة ليعبدوا الله في مكان مُعين. وأن ذلك لا يكون بعد أربعين سنة حين تهدم مدينة اليهود وهيكلهم كما هُدم الهيكل في جرزيم قبل وقت هذا الكلام بنحو ١٦٠ سنة بل ابتدأ الآن.

لاَ فِي هٰذَا ٱلْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ أي أنتم أيها السامريون. ولا ريب في أن هذه المرأة توقعت أن يقول لكونه يهودياً أن موضع السجود هو أورشليم وأنها تعجبت لما سمعته قال خلاف ذلك أي أن لا فرق في الأمكنة فلا يجب على اليهود أن يسجدوا في جرزيم ولا على السامريين أن يسجدوا في أورشليم. وأبان لها أن سؤالها الذي ظهر لها مهماً جداً وكان كذلك في الأزمنة الماضية ليس بمهم بعد.

وأعلن يسوع للعالم بما قال هنا إعلاناً جديداً مغايراً لكل الرسوم الماضية ولاعتقاد كثيرين في هذه الأيام لأن الله كان قد عين محال خاصة للعبادة وكان لا بد من تلك المحال مدة بقاء الديانة مفتقرة إلى الرموز والطقوس عن تلك المحال لأنها كانت كلها رموزاً إلى المسيح والمرموز إليه قد أتى فلم تبق حاجة إليه.

لِلآبِ أحب يسوع أن يعبر للناس عن الله بهذا الاسم باعتبار أنه تعالى آب للناس لعنايته بهم وحبه إياهم على السواء وجعل يسوع بهذا القول اليهود والسامريين في منزلة واحدة أمام الله وذلك خلاف اعتقاد اليهود أنه أبوهم دون غيرهم. نعم إن الله قال لفرعون «إسرائيل ابني» (خروج ٤: ٢٢) ولكن الآن بالمسيح صار جميع البشر أولاد الله.

وفي ما ذكره المسيح للمرأة قاعدتان أولاً. أنه يجوز تقديم العبادة إلى الله في كل مكان.

ثانياً: أنه إذا اقتربنا إلى الله يحق لنا أن ندنو منه تعالى كالأولاد من أبيهم.

٢٢ «أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ، أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ لأَنَّ ٱلْخَلاَصَ هُوَ مِنَ ٱلْيَهُودِ».

٢ملوك ١٧: ٢٩، إِشعياء ٢: ٣ ولوقا ٢٤: ٤٧ ورومية ٣: ١ و٢ و٩: ٤ و٥

لم يرد المسيح أن تستنتج المرأة من جوابه أن ديانة السامريين تسرّ الله كديانة اليهود.

أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ قال هذا بنسبة معرفة السامريين إلى معرفة اليهود. فإن تاريخهم الأصلي أبان جهلهم الله لأنهم أشركوا به بعبادتهم الأوثان معه (٢ملوك ١٧: ٢٤ – ٣٤) وأن معرفتهم بالله كانت ناقصة وأكثرها من تعاليم الناس رفضهم أكثر الأسفار التي أعلن الله مشيئته فيها وتعاليم الأنبياء الذين أرسلهم الله مع أنه لا يستطيع الإنسان أن يعرف الله حق المعرفة وطريق عبادته إلا بمعلناته.

أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ هذه المرة الوحيدة تكلم المسيح باعتبار كونه يهودياً وهو جواب قول المرأة في العدد العشرين «وأنتم تقولون الخ».

لِمَا نَعْلَمُ لأن لنا إعلاناً كاملاً من شأن الله. قال ذلك تمييزاً لليهود على السامريين لأنهم قبلوا كل أسفار العهد القديم والسامريون قد رفضوا أكثرها.

لأَنَّ ٱلْخَلاَصَ هُوَ مِنَ ٱلْيَهُودِ بدل المسيح هنا الكلام في معرفة الله وعبادته بالكلام على الخلاص لأن الخلاص هو غاية تلك المعرفة وتلك العبادة.

وخصّص الخلاص باليهود لثلاثة أسباب:

  • أولاً: إن الله أعلن كل ما يتعلق بالخلاص لليهود. وأوضح معلنات الخلاص في نبوءات العهد القديم وهذه قبلها اليهود ورفضها السامريون فلذلك نال اليهود من معرفة المسيح والخلاص ما لم ينله السامريون.
  • ثانياً: إن يسوع المسيح المخلّص وُلد في الأمة اليهودية.
  • ثالثاً: إن الله جعل الأمة اليهودية وسيلة إيصال الخلاص إلى سائر أمم الأرض لأن عبادة تلك الأمة كانت استعداداً للعبادة المسيحية. وكانت أنبياؤها وكهنتها وملوكها وذبائحها وكل طقوسها رموزاً إلى المسيح وكانت كتبها الدينية تنبئ بذلك الخلاص. وأن المسيح نفسه وُلد من عذراء يهودية في قرية يهودية. ومارس معظم أعماله وتعليمه بين اليهود. وقدم نفسه ذبيحة إثم في أورشليم قاعدة اليهودية. وكان أول المبشرين بالإنجيل يهود. وأول انتصارات الإنجيل في بلاد اليهود وهناك انسكب الروح القدس بقوة وانتظمت الكنيسة المسيحية.

٢٣ «وَلٰكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ ٱلآنَ، حِينَ ٱلسَّاجِدُونَ ٱلْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِٱلرُّوحِ وَٱلْحَقِّ، لأَنَّ ٱلآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هٰؤُلاَءِ ٱلسَّاجِدِينَ لَهُ».

فيلبي ٣: ٣، مزمور ١٤٥: ١٨ وص ١: ١٧

تفيدنا هذه الآية أن الخلاص لم ينحصر باليهود وإن كان الخلاص منهم.

وَهِيَ ٱلآنَ أي الساعة المذكورة في ع ٢١ وهي زمن الإنجيل الذي أوله يوم أتى المسيح وأعلن تعليمه الروحي وآخره اليوم الأخير.

ٱلسَّاجِدُونَ ٱلْحَقِيقِيُّونَ لا اليهود خاصة ولا السامريون ولا الأمم ولا الذين يعبدون الله في موضع دون آخر بل هم المخلصون المقدمون العبادة القلبية الروحية المرضية لله لا المراؤون المقدمون مجرد العبادة الظاهرة الرمزية.

يَسْجُدُونَ لِلآبِ تدل القرينة على أن المراد هو أن الساجدين الحقيقيين يعرفون من يعبدونه حق المعرفة ويعتبرونه أباً لا كالذين يسجدون لمن لا يعلمون كالسامريين المذكورين في ع ٢٢ وعلى أن العبادة الحقيقية لا تقيد بمكان دون آخر ولا بأمة دون غيرها. فيمكن أن تُؤتى في كل مكان من أيٍّ كان وأن يقترب الإنسان إلى الله كما يقترب الولد من أبيه بوقار وثقة ومحبة.

بِٱلرُّوحِ أي بالقلب لا بمجرد الشفتين. وهذا هو الأمر الجوهري في العبادة وما سواه عرض كالموضع واللغة وهيئة العابد ووضعه. وتكون العبادة بالروح إذا قُدمت بمعونة الروح القدس وتعليمه (رومية ٨: ٢٦) ونتجت عن أشواق روحية تدل على حياة العابد الروحية ( ١كورنثوس ٦: ١٩ قابل ما في رومية ١: ٩ بما في أفسس ٦: ١٨).

وَٱلْحَقِّ لأن مجرد الإخلاص لا يكفي إذ يمكن الإنسان أن يعبد الشمس بالإخلاص. فالعبادة المقبولة تتضمن معرفة الله وطريق الاقتراب منه كما أعلنها يسوع المسيح الذي هو الحق. وأن تكون صحيحة لا ظاهرة فقط (مزمور ١٤٥: ١٨) وأن لا تكون بواسطة ظلال النظام الموسوي ورموزه بل بواسطة نور النظام المسيحي الكامل. وفي هذه العبارة بيان الفرق بين الديانة المسيحية وسائر الأديان.

لأَنَّ ٱلآبَ سمى يسوع هنا الله «بالآب» ثلاث مرات (ع ٢١ و٢٣) إشارة إلى أنه إله المحبة لا إله النقمة والقدرة فقط.

طَالِبٌ مِثْلَ هٰؤُلاَءِ الخ لا يعتبر الله من الألوف وألوف الألوف الساجدين إلا الذين يسجدون له بالروح والحق. والكلام يدل على أن هؤلاء قليلون وأن الله يسر بهم غاية المسرة حيث كانوا. وأنه أرسل ابنه إلى العالم ليجمعهم. وهذا علة مخاطبة يسوع لتلك السامرية.

٢٤ «اَللّٰهُ رُوحٌ. وَٱلَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِٱلرُّوحِ وَٱلْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا».

٢كورنثوس ٣: ١٧، أعمال ٧: ٤٨ و١٧: ٢٥ ويهوذا ٢٠

اَللّٰهُ رُوحٌ هذا سبب ثان لوجوب أن نعبد الله بالروح والحق والسبب الأول ذُكر في ع ٢٣ وهو طلب الله لمن يعبدونه كذلك. فروحية الله تقتضي أن يُعبد عبادة روحية. وفي هذه العبارة ثلاث حقائق:

  • الأولى: إن الله ليس بمادة وليس بجزء من الكون ولا كله.
  • الثانية: إن الله لا يمكن أن يراه إنسان أو أن يبيّنه بصورة أو تمثال.
  • الثالثة: إن الله يمتاز عن أرواح الملائكة وأرواح الناس لأنها مخلوقة ومحدودة ولذلك يستحيل أن يُحصر في مكان جبلاً كان أم هيكلاً كما زعمت السامرية (أعمال ٧: ٤٨ و١٧: ٢٥). وقوله «الله روح» حقيقة امتازت بها الديانة اليهودية على كل ما سواها من ديانات الأمم.

فَبِٱلرُّوحِ أي بالعقل والقلب والحرارة والأشواق الروحية لغايات روحية وبإرشاد الروح القدس.

وَٱلْحَقِّ أي بالإخلاص دون رياء أو خداع أو اتكال على الطقوس التي هي ظلال الحقائق وبمعرفة المعبود حق المعرفة كما أعلنه المسيح الذي هو الحق.

يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا أوجب كون الله روحياً أن يُعبد عبادة روحية قلبية غير قائمة بحركات الشفتين والركوع وغيره من الأوضاع الجسدية دون القلب. وأوجبها أيضاً عدم قبول الله غيرها. وما قيل هنا لا يمنع مشاركة الجسد للروح في العبادة إنما ينفي اتخاذ العبادة الخارجية بدلاً من العبادة القلبية.

٢٥ «قَالَتْ لَهُ ٱلْمَرْأَةُ: أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا، ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ ٱلْمَسِيحُ، يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْء».

ع ٢٩ و٣٩

كلام المسيح على الماء الحي حمل هذه المرأة على أن تسأله إياه. وكلامه على خطيئتها حملها على الاعتراف بأنه نبي. وكلامه هنا على بطلان عبادتها السامرية ووجوب أن تعبد الله عبادة جديدة قلبية سامية حيّرها وحملها على الشعور بجهلها ونقصان عبادتها القديمة وعلى الاشتياق إلى ما هو أحسن وأفضل. وما قيل هنا بيان ذلك الاشتياق.

أَنَا أَعْلَمُ كانت كسائر السامريين في الإيمان بأسفار موسى الخمسة وانتظارهم المسيح بناء على ما قيل في تثنية ١٨: ١٥.

مَسِيَّا، ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ ٱلْمَسِيحُ قوله «الذي يقُال له الخ» تفسير «لمسيا» وهذا التفسير لإفادة قراء بشارته من الأمم.

يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ انتظرت معلماً إلهياً مثل موسى يزيل من قلبها كل الشكوك الدينية ويحكم بالصواب في ما اختلف فيه معلمو الدين ويفسر لها ما لم تفهمه من كلام يسوع في روحية الله وعبادته.

٢٦ «قَالَ لَهَا يَسُوعُ: أَنَا ٱلَّذِي أُكَلِّمُكِ هُو».

متّى ٢٦: ٦٣ ومرقس ١٤: ٦١ و٦٢ وص ٩: ٢٧

أظهر المسيح بهذا خمسة أمور:

  • أولاً: تنازله تنازلاً عجيباً. فإنه أنبأها بكونه هو المسيح وهي امرأة سامرية جاهلة خاطئة ولم ينبئ بذلك الكتبة العلماء ولا اليهود المنتقدين. ولا ريب أنه رآها مستعدة لقبول كلامه وتصديقه. وكلامه هذا جواب عن سؤالها وهو قولها «أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ» (ع ١٢). ومطلوب شوقها إلى إتيان المسيح والتعلم منه. ومنال طلبتها أي قولها «اعطني من هذا الماء» أي الماء الحي.
  • ثانياً: الرحمة العظيمة. فإنّه رغب في خلاصها وهي خاطئة.
  • ثالثاً: الحكمة العظيمة. فإنه قادها إلى المطلوب تدريجاً إذ سألها أولاً معروفها ثم حملها على الانتباه لمراده بالمجاز أي الماء الحي ثم أيقظ ضميرها بكلامه على سيرتها الماضية ثم علمها روحية العبادة ثم أوصلها بما ذُكر إلى إعلانه الأخير أي أنه هو المسيح.
  • رابعاً: صبره العظيم بتعليمه إياها على ما هي عليه من الجهل.
  • خامساً: قوته العجيبة بتغيير قلبها ونتيجة نفسها لأن نتيجة الحادثة تبيّن أنها آمنت بالمسيح عندما أعلن نفسه لها.

٢٧ « وَعِنْدَ ذٰلِكَ جَاءَ تَلاَمِيذُهُ، وَكَانُوا يَتَعَجَّبُونَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ مَعَ ٱمْرَأَةٍ. وَلٰكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: مَاذَا تَطْلُبُ أَوْ لِمَاذَا تَتَكَلَّمُ مَعَهَا».

عِنْدَ ذٰلِكَ أي حين بلغ الحديث إلى هذا الحدّ.

جَاءَ تَلاَمِيذُهُ أي عادوا من المدينة التي ذهبوا إليها ليبتاعوا طعاماً ع ٨ فالمرأة لم ترد أن تتكلم في حضورهم فانصرفت.

وَكَانُوا يَتَعَجَّبُونَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ مَعَ ٱمْرَأَةٍ علة تعجبهم أنه كلف نفسه أن يعلم امرأة لاعتقادهم كسائر اليهود قلة فهم المرأة وقبولها التعليم أو إتيانه ذلك على أثر ما عرفوه من تعبه من السفر أو تعصبهم لأنها كانت امرأة سامرية. وهذا مما يدلنا على أن حنو المسيح أعظم من حنو رسله.

وَلٰكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ الخ لم يجسروا أن يسألوه عن علة مخاطبته للمرأة مع تعجبهم منها لهيبته وشدة احترامهم إياه.

٢٨ «فَتَرَكَتِ ٱلْمَرْأَةُ جَرَّتَهَا وَمَضَتْ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ وَقَالَتْ لِلنَّاسِ».

فَتَرَكَتِ ٱلْمَرْأَةُ جَرَّتَهَا حملتها رغبتها في الأمور الروحية التي سمعتها من المسيح على عدم الالتفات إلى الأمور الدنيوية وشدة محبتها لأهل وطنها حملتها على الإسراع في تبليغهم أنباء المسيح السارة حتى لم ترد أن تعاق بملء جرتها وحملها إياها إلا بعد أن تذهب وترجع. وحملتها مسرتها بالماء الحي الذي حصلت عليه على عدم المبالاة بماء بئر يعقوب.

وَقَالَتْ لِلنَّاسِ في الطريق وفي المدينة.

٢٩ «هَلُمُّوا ٱنْظُرُوا إِنْسَاناً قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هٰذَا هُوَ ٱلْمَسِيحُ؟».

ع ٢٥

هَلُمُّوا ٱنْظُرُوا رغبتها في نفع الغير وتنوير أذهانهم تدل على أنّ قلبها تجدد حقاً. فكان ذلك كأندراوس بإخباره بطرس وفيلبس بإخباره نثنائيل. وكانت أول من بشّر السامريين بالمسيح. وأظهرت الحكمة بأنها لم تجادل الناس وتجتهد في أن تقنعهم بكلامها بل سألتهم أن يأتوا ويفحصوا عن ذلك بأنفسهم. فقولها لهم كقول فيلبس لنثنائيل (ص ١: ٤٦). وكثيراً ما نرى الأسلوب في الإرشاد أنفع من الجدال ويستطيعه الساذج والعالم والفصيح والعيّ وهو أن يقول الإنسان لغيره قرأت الإنجيل وعرفت الحق فهلمّ انظر.

قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ قصدت بهذه المبالغة أن تنبئ الناس بمعرفة يسوع الخارقة الطبيعة لأن ما أنبأها به يسوع أقنعها أنه قادر على إنبائها بسائر ما فعلت. فالبرهان الذي أقنعها بأن يسوع هو المسيح كالبرهان الذي أقنع نثنائيل بأن يسوع كذلك فأقامته لأهل وطنها بشهادتها.

أَلَعَلَّ هٰذَا هُوَ ٱلْمَسِيحُ لم تقل هذا هو المسيح على سبيل الإخبار دفعاً للإنكار والجدال وادعاءها أنها تعرف ما لم يعرفوا وأنها أهل لأن تعلمهم. واستفهامها أحسن دعوة لهم إلى الفحص والوقوف على الحق.

٣٠ «فَخَرَجُوا مِنَ ٱلْمَدِينَةِ وَأَتَوْا إِلَيْهِ».

فَخَرَجُوا مِنَ ٱلْمَدِينَةِ كان لكلام هذه المرأة تأثير عظيم في كل أهل المدينة. ولا ريب في أن روح الله حرك قلوبهم حتى أصغوا إلى كلامها واهتدوا به.

وفي ما ذُكر هنا تشجيع لمن يتعب في إرشاد نفس واحدة إلى الحق لأنه ربما كان بذلك واسطة إرشاد أهل مدينة إلى المسيح كما فعل المسيح بإرشاده تلك المرأة. وفيه تشجيع للنساء على أن يكنّ شاهدات للمسيح ولحق الإنجيل فإن تلك المرأة مع جهلها هدت بتعليمها إلى المسيح أكثر ممن هداهم نيقوديموس مع كل علمه.

وَأَتَوْا إِلَيْهِ ولم يبلغوا البئر حيث المسيح وتلاميذه بل كانوا مقبلين في الطريق حيث يمكن المسيح والتلاميذ أن يروهم وعند ذلك حدثت المكالمة التي ذُكرت بعد (ع ٣١ – ٣٨).

٣١ «وَفِي أَثْنَاءِ ذٰلِكَ سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ: يَا مُعَلِّمُ، كُلْ».

وَفِي أَثْنَاءِ ذٰلِكَ أي المدة بين ذهاب المرأة وقدوم أهل المدينة.

سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ أتوا بالطعام من المدنية ع ٨ وعرفوا أن جسد يسوع في حاجة إليه لما لقي من تعب السفر فطلبوا إليه أن يأكل.

٣٢ «فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا لِي طَعَامٌ لآكُلَ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ أَنْتُم».

المعنى أنه حدث لي ما أبهجني وانتعشت نفسي منه حتى لم يبق لي قابلية للطعام الجسدي وأنتم تجهلون ذلك الحادث.

لِي طَعَامٌ لآكُلَ كلمهم المسيح بالمجاز ليكون لتفسير كلامه بعد وقع في قلوبهم أشد مما لو كلمهم بغيره. وأشار بذلك إلى ما أتاه في غيبتهم من تبشير السامرية بالإنجيل وأن مسرته بالتبشير أوفر من مسرة الجوعان بتناول الطعام. وأن تلك المسرة عظمت حتى شغلت جسده عن الحاجة إلى الأكل فإن الناس يأكلون بغية اللذة والتقوّي لكن المسيح وجد كل ذلك من نفسه بالعمل الروحي. كذلك يكون للناس الروحيين من القوت السماوي ما يقويهم للعمل ويعزيهم في الشدائد مما لا يعرفه غيرهم.

٣٣ «فَقَالَ ٱلتَّلاَمِيذُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَلَعَلَّ أَحَداً أَتَاهُ بِشَيْءٍ لِيَأْكُلَ؟».

قالوا ذلك في المناجاة أو على بعد من المسيح وكانوا بطيئي القلوب عن فهم مراد المسيح الروحي فلم يستطيعوا أن يدركوا معنى للطعام غير المأكول المادي المعتاد. وكذلك عسر على نيقوديموس إدراك مراد المسيح «بالولادة الجديدة» والمرأة السامرية «بالماء الحي».

٣٤ «قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَه».

أيوب ٢٣: ١٢ وص ٦: ٣٨ و١٧: ٤ و١٩: ٣٠

طَعَامِي وصل المسيح إلى البئر معيياً (ع ٦) عطشاً (ع ٧) ولا ريب في أنه كان جائعاً أيضاً فلما رأى فرصة لعمل الخير نسي تعبه وعطشه وجوعه ووجده في عمل مشيئة أبيه وإتمام عمله راحة ورياً وشبعاً. وقول المسيح هنا يوافق قوله في عدة أماكن أُخر مما يبين مسرته بعمله (ص ٥: ٣٠ و٦: ٣٨ و٧: ١٨ و٨: ٥٠ و٩: ٤ و١٢: ٤٩ و٥٠ و١٤: ٣١ و١٥: ١٠ و١٧: ٤).

مَشِيئَةَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي أي المناداة بالخلاص للهالكين كما يتضح من قوله في (ص ٦: ٣٩ و٤٠).

وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ اي عمل الفداء والمسيح تمم ذلك بطاعته الكاملة للناموس عوضاً عن الناس وكفّر بموته على الصليب عن كل سيآتهم (ص ١٧: ٤).

٣٥ «أَمَا تَقُولُونَ إِنَّهُ يَكُونُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَأْتِي ٱلْحَصَادُ؟ هَا أَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ٱرْفَعُوا أَعْيُنَكُمْ وَٱنْظُرُوا ٱلْحُقُولَ إِنَّهَا قَدِ ٱبْيَضَّتْ لِلْحَصَادِ».

متّى ٩: ٣٧ ولوقا ١٠: ٢

أَمَا تَقُولُونَ هنا محذوف تقديره إذا «تكلمت على ما هو طبيعي في الزرع والحصاد».

إِنَّهُ يَكُونُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَأْتِي ٱلْحَصَادُ يُفهم من هذا أن المسيح تكلم به في نحو منتصف كانون الأول أي قبل أربعة أشهر من منتصف كانون الأول الذي يبتدئ الحصاد فيه هنالك (لاويين ٢٣: ١٠ وتثنية ٦: ٩) وهذا هو الواضح المرجح. وذهب بعضهم إلى أن المسيح ذكر قانوناً عاماً وهو أن بين الزرع والحصاد أربعة أشهر.

ٱرْفَعُوا أَعْيُنَكُمْ هذا مجاز حقيقته انتبهوا للسامريين الآتين جماعات من سوخار ليسمعوا تعليمي ع ٣٠ وقال «الحقول ابيضت» لأن البياض لون الحنطة عند الحصاد. ولم تكن حينئذ حقول سوخار قد ابيضت لأن ذلك لا يكون إلا بعد أربعة أشهر فاعتبر استعداد الناس لقبول الإنجيل ورغبتهم فيه حصاداً روحياً وكلامه للمرأة زرع ذلك الحصاد.

بين الزرع الحقيقي (على التفسير الثاني المذكور آنفاً) والحصاد أربعة أشهر أما بين زرع المسيح المجازي وحصاده لم يكن أكثر من ساعة. وقابل المسيح التبشير بالإنجيل بالزرع في (متّى ٩: ٣٦ – ٣٨ ومتّى ص ١٣ ولوقا ١٠: ٣٧).

٣٦ «وَٱلْحَاصِدُ يَأْخُذُ أُجْرَةً وَيَجْمَعُ ثَمَراً لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ، لِكَيْ يَفْرَحَ ٱلزَّارِعُ وَٱلْحَاصِدُ مَعاً».

دانيال ١٢: ٣

كلام المسيح هنا لم يقيّد بما كان يحدث في السامرة بل أُطلق على العالم كله باعتباره حقلاً لزرع الحق فيه حسب قوله «الحقل هو العالم» (متّى ١٣: ٣٨). وفي هذا الكلام تشجيع لكل الذين يتعبون في سبيل خلاص النفوس ويؤكد لنا «أَنَّنَا سَنَحْصُدُ فِي وَقْتِهِ إِنْ كُنَّا لاَ نَكِلُّ» (غلاطية ٦: ٩).

وَٱلْحَاصِدُ أي قائد الناس بتبشيره إلى المسيح.

يَأْخُذُ أُجْرَةً يأخذ بعضها في الحال بمسرته بإنقاذ الهالكين وإكرام يسوع وأكثرها في السماء كما قيل في (دانيال ١٢: ٣ ومتّى ١٩: ٢٨).

ثَمَراً لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ أي نتائج روحية تدوم إلى الأبد لأن النفوس الناجية بالتبشير تنال سعادة لا نهاية لها. وهذا خلاف حصاد الحنطة الذي لا يبقى إلا وقتاً قصيراً.

لِكَيْ يَفْرَحَ ٱلزَّارِعُ وَٱلْحَاصِدُ مَعاً كما كان وقتئذ باعتبار المسيح بمنزلة الزارع وهو والتلاميذ بمنزلة الحاصد وكما يكون على الدوام لكل من يسعى في خلاص النفوس.

وكما أنه في الفلاحة العادية يشترك كثيرون من الفعلة في الحرث كذلك يكون في الفلاحة الروحية. ومن الزرع الروحي تعليم الوالدين أولادهم بالتعليم في مدارس الأحد وقراءة الكتاب المقدس على مسامع الناس ومخاطبتهم في الواجبات الدينية وتوزيع الكتب الروحية عليهم. ومن الحصاد الروحي معرفة إيمانهم بتلك الوسائط وقبولنا إياهم في شركة الكنيسة أو مشاهدتنا ذلك.

والمشاركة في الفرح تكون في هذا العالم إذا ظهرت نتائج العمل فيه ولكن معظم المشاركة في الفرح يكون في نهاية العالم يوم الحصاد العظيم (متّى ١٣: ٣٩).

٣٧ «لأَنَّهُ فِي هٰذَا يَصْدُقُ ٱلْقَوْلُ: إِنَّ وَاحِداً يَزْرَعُ وَآخَرَ يَحْصُد».

هذا القول مثلٌ عند اليهود أو الأمم بُني على ما يحدث كثيراً في هذا العالم وهو أن الواحد يتعب وغيره ينتفع بتعبه وسمح الله بذلك لما تقتضيه حكمته (ميخا ٦: ١٥).

٣٨ «أَنَا أَرْسَلْتُكُمْ لِتَحْصُدُوا مَا لَمْ تَتْعَبُوا فِيهِ. آخَرُونَ تَعِبُوا وَأَنْتُمْ قَدْ دَخَلْتُمْ عَلَى تَعَبِهِمْ».

أَنَا أَرْسَلْتُكُمْ لِتَحْصُدُوا أشار المسيح بهذا إلى أعمال كل التلاميذ باعتبار كونهم رسلاً وذلك بمناداتهم أن المسيح قد أتى ودعوتهم الناس إلى الإيمان به وبتأسيس الكنيسة كما فعلوا في يوم الخمسين ويجمعهم المؤمنين إليها من كل قطر.

مَا لَمْ تَتْعَبُوا فِيهِ كان عمل الرسل في خدمتهم الإنجيل زهيداً بالنسبة إلى العمل الاستعدادي الذي ظل جارياً نحو أربعة آلاف سنة ولم يتم إلا حين عُلق المسيح على الصليب.

آخَرُونَ تَعِبُوا وهم أنبياء العهد القديم من أولهم إلى يوحنا المعمدان (وهو أعظمهم بموجب شهادة المسيح) والكهنة الذين قدموا ذبائح أشارت إلى ذبيحة المسيح العظمى والمسيح نفسه وهو لم ير مدة حياته على الأرض من نتائج خدمته سوى قليل.

وَأَنْتُمْ قَدْ دَخَلْتُمْ عَلَى تَعَبِهِمْ لأن نجاحهم في التبشير لم يكن سوى نتيجة العمل الاستعدادي الذي أتاه خدم الله في كل زمان العهد القديم. ولا ريب في أن حصاد النفوس الذي كان في يوم الخمسين نتيجة تعب بعض الفعلة الذين ماتوا ولم يروا نتائج أتعابهم (مزمور ١٣٦: ٦ وجامعة ١١: ٤).

كل مبشر بالإنجيل بأمانة زارع بالنسبة إلى من يأتون بعده وحاصد بالنسبة إلى الذين سبقوه.

إيمان أهل السامرة بالمسيح ع ٣٩-٤٢

٣٩ «فَآمَنَ بِهِ مِنْ تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ كَثِيرُونَ مِنَ ٱلسَّامِرِيِّينَ بِسَبَبِ كَلاَمِ ٱلْمَرْأَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ تَشْهَدُ أَنَّهُ: قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْت».

ع ٢٩

فَآمَنَ بِهِ… كَثِيرُونَ هذا بدء الحصاد المذكور في العدد الخامس والثلاثين.

بِسَبَبِ كَلاَمِ ٱلْمَرْأَةِ لم يذكر البشير أن يسوع صنع شيئاً من المعجزات في السامرة إلا معرفته الفائقة الطبيعة التي أظهرها في مخاطبة المرأة السامرية فتوقع هؤلاء السامريون مجيء المسيح وآمنوا بأن يسوع هو المسيح بشهادة تلك المرأة. ومن العجائب أن أعظم النتائج قد يكون من وسائط زهيدة كما كان من نتائج مخاطبة مسافر يستريح قليلاً لامرأة تستقي من بئر. وهذا خبر مثالٍ لانتهاز كل فرصة من فرص فعل الخير.

٤٠ «فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ ٱلسَّامِرِيُّونَ سَأَلُوهُ أَنْ يَمْكُثَ عِنْدَهُمْ، فَمَكَثَ هُنَاكَ يَوْمَيْنِ».

جاء المسيح إلى خاصته اليهود ولم تقبله وأما السامريون الذين يعدهم اليهود من المرفوضين فقبلوه بفرح. وعاملوه بخلاف ما عامله الجدريون فإنهم طلبوا إليه أن ينصرف عن تخومهم (متّى ٨: ٣٤).

سَأَلُوهُ أَنْ يَمْكُثَ عِنْدَهُمْ سروا بتعليم المسيح سروراً عظيماً حتى لم يكتفوا بما سمعوه من ذلك التعليم عند البئر بل دعوه إلى أن يقيم عندهم مدة يعلمهم.

فَمَكَثَ هُنَاكَ يَوْمَيْنِ لا ريب في أن هذين اليومين كانا وقت سرور للمعلم والمتعلمين. ويمكننا أن نعرف ماذا كانت فائدة تعليمه في ذينك اليومين مما عرفناه من فائدة مخاطبته للمرأة بعض الدقائق. وظهرت تلك الفائدة بعد موت المسيح بوفرة من آمن واعتمد من السامريين بواسطة فيلبس المبشر والرسولين بطرس ويوحنا (أعمال ٨: ٥ – ٢٥).

٤١، ٤٢ «٤١ فَآمَنَ بِهِ أَكْثَرُ جِدّاً بِسَبَبِ كَلاَمِهِ. ٤٢ وَقَالُوا لِلْمَرْأَةِ: إِنَّنَا لَسْنَا بَعْدُ بِسَبَبِ كَلاَمِكِ نُؤْمِنُ، لأَنَّنَا نَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا هُوَ بِٱلْحَقِيقَةِ ٱلْمَسِيحُ مُخَلِّصُ ٱلْعَالَم».

ص ١٧: ٨ و١يوحنا ٤: ١٤

بِسَبَبِ كَلاَمِهِ يختلف تأثير الأدلة في الناس باختلاف عقولهم فيقنع بعضهم بنوع من البراهين والآخر بنوع آخر فبعض السامريين اقتنع بشهادة المرأة (ع ٣٩) وبعضهم بما ظهر في كلام المسيح من الحكمة والسلطان الإلهي. وعلة إيمان كل من الفريقين أن روح الله ليّن قلوبهم وأنار عقولهم وأعدهم للإيمان. فالذي يجدد النفوس نعمة روح الله لا الآيات والمعجزات.

قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ هذا وفق قول الرسول «الإيمان بالخبر» (رومية ١٠: ١٧).

ٱلْمَسِيحُ مُخَلِّصُ ٱلْعَالَمِ أدرك السامريون ما لم يدركه إلا قليل من اليهود ومن الرسل أنفسهم يومئذ من روحانية خدمة المسيح وعمومها. وهو أنه منقذ الناس من الخطية والموت الأبدي. وأنه لم يأت لأمة واحدة بل لجميع قبائل الأرض.

اعتقد السامريون وحيَ أسفار موسى وفي هذه الأسفار وعد لإبراهيم بأنه «تَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ» (تكوين ١٢: ٣) وفيها نبوة بالمسيح (تكوين ٤٩: ١٠) ولعل المسيح فسر في خطابه للسامريين في ذينك اليومين هاتين النبؤتين وغيرهما مما يتعلق به في تلك الأسفار فعرفوا من ذلك ما اعترفوا به هنا وهو أن يسوع هو المسيح مخلص العالم. وكان السامريون أقل من اليهود تعصباً وكبرياء ولم ينتظروا كاليهود أن يكون المسيح ملكاً أرضياً فيمتنعوا مثلهم عن قبوله منقذاً روحياً. تقضّى على المسيح قبل ذلك ثمانية أشهر في اليهودية مبشراً ولم يحصل هناك على نتيجة مثل النتيجة التي حصل عليها بتبشيره يومين في السامرة.

بداءة خدمة المسيح في الجليل ع ٤٣ إلى ٥٤ سنة ٢٧ م. ومدة تلك الخدمة نحو خمسة أشهر

٤٣ «وَبَعْدَ ٱلْيَوْمَيْنِ خَرَجَ مِنْ هُنَاكَ وَمَضَى إِلَى ٱلْجَلِيلِ».

ع ٤٠

وَبَعْدَ ٱلْيَوْمَيْنِ وهما اللذان تقضيا عليه في السامرة.

مَضَى إِلَى ٱلْجَلِيلِ سوى الناصرة. وذُكر هذا المضي في (متّى ٣: ١٢ ومرقس ١: ١٤ ولوقا ٤: ١٤) والموضع الذي ذُكر أنه بلغه أولاً في الجليل هو قانا (ع ٤٦). وأبان البشير في الآيتين الرابعة والأربعين والخامسة والأربعين الفرق بين قبول السامريين للمسيح (مع كونه غريباً يهودياً والسامريون لا يخالطون اليهود وهو لم يعمل بينهم معجزة) وقبول أهل وطنه الجليليين الذين شاهدوا معجزاته في اليهودية له.

٤٤ «لأَنَّ يَسُوعَ نَفْسَهُ شَهِدَ أَنْ: لَيْسَ لِنَبِيٍّ كَرَامَةٌ فِي وَطَنِهِ».

متّى ١٣: ٥٧ ومرقس ٦: ٤ ولوقا ٤: ٢٤

لأَنَّ يَسُوعَ نَفْسَهُ شَهِدَ هذا علة عدم ذهابه إلى الناصرة فكأن البشير قال مضى يسوع إلى الجليل ولم يدخل الناصرة وطنه «لأن يسوع نفسه شهد» الخ. أو قصد بيان على أن المسيح لم يبتدئ خدمته في الجليل وذهب أولاً إلى اليهودية وبشر فيها نحو ثمانية أشهر وصنع هناك معجزات كثيرة واشتهر بأنه نبي ثم أتى إلى الجليل «لأن» الخ.

لَيْسَ لِنَبِيٍّ كَرَامَةٌ فِي وَطَنِهِ انظر الشرح (متّى ١٣: ٥٧) والمراد بوطنه هنا إما الناصرة حيث تربى كما في لوقا ٤: ٢٤ أو بلاد الجليل التي الناصرة إحدى قراها.

٤٥ «فَلَمَّا جَاءَ إِلَى ٱلْجَلِيلِ قَبِلَهُ ٱلْجَلِيلِيُّونَ، إِذْ كَانُوا قَدْ عَايَنُوا كُلَّ مَا فَعَلَ فِي أُورُشَلِيمَ فِي ٱلْعِيدِ، لأَنَّهُمْ هُمْ أَيْضاً جَاءُوا إِلَى ٱلْعِيدِ».

ص ٢: ٢٣ و٣: ٢، تثنية ١٦: ١٦

قَبِلَهُ ٱلْجَلِيلِيُّونَ أي سكان الجليل سوى أهل الناصرة وقبلوه نبياً أو معلماً من الله وكانت معرفتهم به ناقصة وإيمانهم ضعيفاً كإيمان اليهود المذكور في (ص ٢: ٢٣).

إِذْ كَانُوا قَدْ عَايَنُوا كُلَّ مَا فَعَلَ فِي أُورُشَلِيمَ تدل القرينة على أن الجليليين لم يميلوا إلى قبوله نبياً لأنه واحد منهم ولكن لاشتهاره في أورشليم وما صنعه من المعجزات هنالك قبلوه كذلك.

فِي ٱلْعِيدِ أي عيد الفصح وكان قد حدث منذ ثمانية أشهر كما من مقابلة ما في ص ٢: ٢٣ بما في ص ٤: ٣٥.

٤٦ «فَجَاءَ يَسُوعُ أَيْضاً إِلَى قَانَا ٱلْجَلِيلِ، حَيْثُ صَنَعَ ٱلْمَاءَ خَمْراً. وَكَانَ خَادِمٌ لِلْمَلِكِ ٱبْنُهُ مَرِيضٌ فِي كَفْرَنَاحُومَ».

ص ٢: ١ إلى ١١

قَانَا ٱلْجَلِيلِ انظر الشرح ص ٢: ١

حَيْثُ صَنَعَ ٱلْمَاءَ خَمْراً ص ٢: ١ – ١١. لا بد من أن مجيء المسيح ثانية إلى قانا ذكّر أهلها المعجزة التي صنعها عندهم في مجيئه الأول.

وَكَانَ خَادِمٌ الخ الأرجح أن هذا الخادم كان قائداً في عسكر هيرودس أنتيباس وأن كفرناحوم كانت إما محل خدمته وإما محل سكنه مع أهل بيته.

ٱبْنُهُ مَرِيضٌ كان هذا في حد ذاته مصاباً لخادم الملك لكنه كان علة إتيانه إلى المسيح ووسيلة إلى خلاص نفسه ونفوس أهل بيته.

٤٧ «هٰذَا إِذْ سَمِعَ أَنَّ يَسُوعَ قَدْ جَاءَ مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ إِلَى ٱلْجَلِيلِ، ٱنْطَلَقَ إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَنْزِلَ وَيَشْفِيَ ٱبْنَهُ لأَنَّهُ كَانَ مُشْرِفاً عَلَى ٱلْمَوْتِ».

إِذْ سَمِعَ الخ كان إيمانه بالمسيح نتيجة مما سمعه من نبإ معجزاته وظن إتيان المسيح إلى مخدع المريض ضرورياً لشفائه. وكان سؤاله إياه أن ينزل من قانا إلى كفرناحوم مبنياً على كون قانا أعلى منها.

٤٨ «فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: لاَ تُؤْمِنُونَ إِنْ لَمْ تَرَوْا آيَاتٍ وَعَجَائِبَ!».

١كورنثوس ١: ٢٢

يدل كلام المسيح على أن إيمان خادم الملك بقدرة المسيح لم يكن خالصاً من الشكوك وأنه كان يتوقع أن يشاهد بعينيه معجزة من معجزات المسيح قبل أن يثق به كل الثقة فامتحنه قبل إجابة طلبته لكي يقوي إيمانه ويزيد رغبة في الطلب. فعامله كما عامل المرأة الفينيقية (متّى ١٥: ٢٤). وخاطبه بصيغة الجمع بقوله «لا تؤمنون الخ» لكونه لم ينفرد بذلك بل كان له فيه أمثال كثيرة.

٤٩ «قَالَ لَهُ خَادِمُ ٱلْمَلِكِ: يَا سَيِّدُ، ٱنْزِلْ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ٱبْنِي».

ص ١١: ٢١ و٣٢

هذا صراخ لجاجة ويأس وخوف لئلا تذهب بالتمهل فرصة إنقاذ الابن من الموت الذي أشرف هو عليه. وشدة احتياجه إلى المسيح زادته تمسكاً به لكنه ما برح يعتقد أن وصول المسيح إلى المريض ضروري لشفائه وأن قوته محدودة في الشفاء ما دام المريض حياً وأنه لا يستطيع شيئاً بعد موته.

٥٠ «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: ٱذْهَبْ. اِبْنُكَ حَيٌّ. فَآمَنَ ٱلرَّجُلُ بِٱلْكَلِمَةِ ٱلَّتِي قَالَهَا لَهُ يَسُوعُ، وَذَهَبَ».

دل جواب المسيح أن تمهله كان لإفادة الوالد تقوية إيمانه لا لعدم إرادته شفاء ولده وأنه قبل إيمانه وإن لم يكن خالصاً.

ٱذْهَبْ. اِبْنُكَ حَيٌّ أي أني شفيت ابنك فهو صحيح معافى فلا حاجة إلى ذهابي إليه.

أظهر المسيح بهذه المعجزة خير شفقة بشفائه من لم يره قبلاً بطلب أبيه وقوة غريبة بأنه شفاه على البعد بمجرد إرادته وبأنه عرف النتيجة في الحال.

فَآمَنَ ٱلرَّجُلُ بِٱلْكَلِمَةِ طلب منه المسيح أن يؤمن بمجرد قوله دون أن يرى شيئاً من الآيات والعجائب فاحتمل الامتحان ودليل صحة إيمانه أنه انصرف ولم يسأل المسيح أن يذهب معه.

٥١ «وَفِيمَا هُوَ نَازِلٌ ٱسْتَقْبَلَهُ عَبِيدُهُ وَأَخْبَرُوهُ قَائِلِينَ: إِنَّ ٱبْنَكَ حَيٌّ».

وَفِيمَا هُوَ نَازِلٌ أي إلى كفرناحوم وهي مدينة على شاطئ بحيرة طبرية وأوطأ من قانا التي هي في كورة جبلية.

ٱسْتَقْبَلَهُ عَبِيدُهُ آتين من كفرناحوم لتبشيره بشفاء ابنه.

ٱبْنَكَ حَيٌّ قال له المسيح «ابنك حي» وبشره عبيده بشفاء ابنه بالعبارة نفسها.

٥٢ «فَٱسْتَخْبَرَهُمْ عَنِ ٱلسَّاعَةِ ٱلَّتِي فِيهَا أَخَذَ يَتَعَافَى، فَقَالُوا لَهُ: أَمْسٍ فِي ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّابِعَةِ تَرَكَتْهُ ٱلْحُمَّى».

فَٱسْتَخْبَرَهُمْ عَنِ ٱلسَّاعَةِ ليثبت إيمانه ويدفع الظن أنه شُفي اتفاقاً لأن شفاءه كان في الدقيقة التي فيها أنبأه المسيح بشفائه.

أَمْسٍ كان أول اليوم عندهم المغرب فيصح هذا الكلام إن كان العبيد لقوه في أي ساعة كانت بعد مغرب النهار الذي شُفي فيه الابن.

فِي ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّابِعَةِ أي الساعة الثانية بعد الظهر لأنه كان ذلك في شهر كانون الأول (ص ٤: ٣٥) والمسافة بين قانا وكفرناحوم خمسة وعشرون ميلاً أو سفر يوم. وقد عجب البعض من أن الوالد لم يبلغ بيته يوم شفاء ابنه مع شدة رغبته في شفائه ولكن الذي ظهر لنا مما ذُكر أنه لم يتمهل في السفر. فعجبهم ليس في محله لوجهين الأول ما ذُكر والثاني تحققه شفاءه بإيمانه بالمسيح وعلى هذا كان في راحة بال وغنى عن سرعة السير.

٥٣ «فَفَهِمَ ٱلأَبُ أَنَّهُ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ ٱلَّتِي قَالَ لَهُ فِيهَا يَسُوعُ إِنَّ ٱبْنَكَ حَيٌّ. فَآمَنَ هُوَ وَبَيْتُهُ كُلُّه».

وقوع أنباء المسيح بشفاء الابن وشفاءه في وقت واحد حقق لخادم الملك أن الأول علة الثاني.

فَآمَنَ هذا الإيمان أعلى درجة من الإيمان الذي ذُكر في الآية. ففي الأول آمن بأن يسوع قادر على شفاء ابنه وفي هذا آمن بأنه المسيح وصار تلميذاً له. فبلغ الإيمان الحقيقي في ثلاث درجات الأولى عند وصوله إلى المسيح والثانية عند قول المسيح له «ابنك حي» والثالثة لما بلغ بيته وشاهد ابنه صحيحاً معافى.

وَبَيْتُهُ كُلُّهُ مرض واحد من أهل هذا البيت كان وسيلة حياة أبدية للجميع بالإيمان بالذي شفاه. فأهل البيت شاهدوا شفاء الولد بغتة ثم فهموا من الوالد أن علة ذلك الشفاء المسيح.

٥٤ «هٰذِهِ أَيْضاً آيَةٌ ثَانِيَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ لَمَّا جَاءَ مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ إِلَى ٱلْجَلِيل».

آيَةٌ ثَانِيَةٌ في الجليل غير المعجزات الكثيرة التي صنعها في اليهودية ص ٣: ٢ و٦: ٢٣. والآية الأولى في الجليل تحويل الماء خمراً صنعها قبل ذهابه إلى اليهودية وعوده إلى الجليل.

لَمَّا جَاءَ مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ إِلَى ٱلْجَلِيلِ ذكر البشير هذا كأنه قسم جديد من خدمة المسيح. واكتفى يوحنا بذكر معجزتين من كل المعجزات التي صنعها المسيح في هذا القسم من خدمته إحداهما شفاء ابن خادم الملك التي مر ذكرها والأخرى إشباع خمسة الآلاف المذكورة في ص ٦. والآية الأولى التي ذكرها كل من متّى ولوقا غير الآية الأولى التي ذكرها يوحنا.

وكانت غاية يوحنا كتابة أنباء المسيح في اليهودية ومعظم غاية سائر الإنجيليين كتابة إنبائه في الجليل فلذلك عدل يوحنا عن ذكر ما يتعلق بالخدمة الجليلية كذهاب يسوع إلى الناصرة ورفض أهلها إياه (لوقا ٤: ١٦ – ٣١) ومكثه في كفرناحوم (متّى ٤: ١٣). ودعوة أربعة من رسله (متّى ٤: ١٨ – ٢٢ ومرقس ١: ١٦ – ٢٠ ولوقا ٥: ١ – ١١). وجولانه في الجليل (متّى ٤: ٢٣ – ٢٥). ودعوة متّى (متّى ٩: ٩). ومعجزات كثيرة صنعها في تلك المدة.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى