إنجيل يوحنا

إنجيل يوحنا | 01 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل يوحنا

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الأول

مقدمة البشارة ع ١ إلى ١٨

١ «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ».

أمثال ٨: ٢٢ الخ وكولوسي ١: ١٧ و١يوحنا ١: ١ ورؤيا ١: ٢ و١٩: ١٣، أمثال ٨: ٣٠ وص ١٧: ٥ و١يوحنا ١: ٢، فيلبي ٢: ٦ و١يوحنا ٥: ٧

فِي ٱلْبَدْءِ لم يستفتح بشارته كما استفتح متّى بشارته ببيان أن يسوع من سلالة إبراهيم وداود متتبعاً سلسلة النسب إلى اثنتين وأربعين حلقة ليثبت من ذلك أن يسوع هو المسيح ابن آدم من جهة ناسوته كما فعل لوقا بياناً لمشاركته الجنس البشري. ولا بشروع سابقه في الخدمة كما فعل مرقس بل ابتدأ بذكر الأزلية التي لله والتي ليسوع باعتبار كونه ابن الله. والروح القدس ألهم كل بشير بما كتبه ونحن في حاجة إلى تعليم الجميع.

والبدء المذكور هنا هو بدء العالم واقتتاح الكلام هنا مثل افتتاح كلام موسى في أول كتبه (تكوين ١: ١). وشهادة يوحنا هنا مبنية على ما سمعه من المسيح وتعلمه من الروح القدس ع ١٤.

كَانَ ٱلْكَلِمَةُ يُظهر قوله في الآية الرابعة عشرة أنه أراد بالكلمة المسيح. وكأن يوحنا وقف في بدء الخليقة يشاهد الأزلية فرأى المسيح فيها قبل إنشاء الخلق فإذن هو غير مخلوق ولا بداءة له واجب الوجود أزلي. وبمثل هذا أُشير إلى أزلية الله وهو قول صاحب المزامير «مِنْ قَبْلِ أَنْ تُولَدَ ٱلْجِبَالُ أَوْ أَبْدَأْتَ ٱلأَرْضَ وَٱلْمَسْكُونَةَ، مُنْذُ ٱلأَزَلِ إِلَى ٱلأَبَدِ أَنْتَ ٱللّٰهُ» (مزمور ٩٠: ٢). ولم يقل ذلك على يسوع المسيح بعد تجسده بل على الكلمة قبل ذلك ع ١٤. ويوافق هذا ما قيل في (يوحنا ٨: ٥٨ و١٧: ٥ و٢٤ وفيلبي ٢: ٥ و٦ و١يوحنا ١: ١ ورؤيا ٣: ٤).

ولفظة «الكلمة» لا يراد بها صفة كالحكمة أو قوة كالنطق أو كتاب الله لأنه لا يصح أن يقال أن الكتاب المقدس صار جسداً ع ١٤ بل المراد بها أقنوم. واعتاد اليهود تسمية المسيح المنتظر «بالكلمة» ولا سيما المتشتتون بين الأمم الذين عرفوا الفلسفة اليونانية. والذين كتب يوحنا إنجيله إليهم يفهمون بالكلمة الأقنوم الثاني من الثالوث. ولم ترد تسميته بالكلمة في غير هذا الموضع في العهد الجديد إلا في (عبرانيين ٤: ١٢ و١٣ ورؤيا ١٩: ١٣).

ويحق للمسيح أن يُسمى كلمة لأن الله كلمنا به (عبرانيين ١: ١) ولأنه أعلن لنا أفكار الله ومشيئته (ع ١٨) كما أن كلمة الإنسان تعلن أفكار الإنسان وإرادته. فالمسيح أعلن الله لنا بتعليمه وبسيرته وبأعماله.

وتسمية ابن الله بكلمة الله تنفي كل نسبة جسدية بينهما كنسبة الابن للأب البشريين.

وكون المسيح كلمة الله يوجب كونه إلهاً لأنه لا يعرف أفكار الله ليعلنها إلا الله كما قيل «مَنْ عَرَفَ فِكْرَ ٱلرَّبِّ، أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيراً» (رومية ١١: ٣٤) و «مَنْ مِنَ ٱلنَّاسِ يَعْرِفُ أُمُورَ ٱلإِنْسَانِ إِلاَّ رُوحُ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي فِيهِ؟ هٰكَذَا أَيْضاً أُمُورُ ٱللّٰهِ لاَ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ إِلاَّ رُوحُ ٱللّٰهِ» ( ١كورنثوس ٢: ١١). «وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلآبَ إِلاَّ ٱلاَبْنُ الخ» (متّى ١١: ٢٧ ولوقا ١٠: ٢٢).

وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ أي الآب كما في ع ١٨ حيث يقول «ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ» وهذا قول ثان من جهة ابن الله وخلاصته أمران. الأول أن الابن كان أقنوماً مميزاً عن أقنوم الآب. والثاني أنه مع ذلك بينهما اتحاد كامل واتفاق تام في كل رأي وقضاء وعمل. فما كان لأحدهما من المجد والعظمة والكرامة كان للآخر وهذا وفق قول المسيح «وَٱلآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِٱلْمَجْدِ ٱلَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ ٱلْعَالَمِ» (ص ١٧: ٥) وقوله «أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ» (ص ١٠: ٣٠) وقوله في (ص ١٤: ٩ – ١١ و١يوحنا ١: ٢ و٢: ١).

وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ وهذا قول ثالث في شأن المسيح ومعناه أنه ليس ملاكاً أو مخلوقاً آخر دون الآب لكنه مساوٍ للآب في الجوهر أي أن له صفات الآب نفسها وقوته واستحقاقه الإكرام والطاعة والعبادة التي يستحقها الآب. ولفظة «الله» هنا تختلف عنها في الجملة التي قبلها ومعناها هنا جوهر اللاهوت. وهذه الآية مما يثبت صحة تعليم التثليث لتمييزها أقنومين وتبيينها أنهما متساويان. وفي هذه العبارات الثلاث بيان ثلاثة أمور. الأول أزلية الكلمة. والثاني أقنوميته واتحاده بالآب. والثالث لاهوته أي كونه والآب واحداً في الجوهر. وفيها جواب لثلاث مسائل:

  • الأولى: متى كان الكلمة. جوابه أنه كان منذ الأزل لأنه عند بدء الكون كان.
  • الثانية: أين كان. جوابها عند الآب.
  • الثالثة: من هو الكلمة. جوابها الله.

وهي تنفي ثلاث ضلالات:

  • الأولى: ضلالة آريوس وهي قوله أن المسيح مخلوق دون الخالق.
  • الثانية: ضلالة سوسينيوس وهي قوله أن المسيح ليس سوى رجل كامل في صفاته.
  • الثالثة: ضلالة سابا ليوس الذي نفى التثليث وقال بأن اللاهوت أقنوم واحد ظهر مرة آباً وتارة ابناً وطوراً روح قدس.

٢ «هٰذَا كَانَ فِي ٱلْبَدْءِ عِنْدَ ٱللّٰهِ».

تكوين ١: ١

هذا تكرير العبارة الثانية من الآية الأولى مع زيادة أبانت أزلية النسبة بين الآب والابن لئلا يظن أحد أن الاتحاد بين الأقنومين حادث بدليل كون تلك النسبة وُجدت قبل بدء الكون. وهذا وفق مخاطبة الآب للابن قائلاً «نَعْمَلُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا» (تكوين ١: ٢٦). وما في سفر الأمثال إذ عبّر عن المسيح بالحكمة وهو قوله «اَلرَّبُّ قَنَانِي أَوَّلَ طَرِيقِهِ، مِنْ قَبْلِ أَعْمَالِهِ، مُنْذُ ٱلْقِدَمِ. مُنْذُ ٱلأَزَلِ مُسِحْتُ، مُنْذُ ٱلْبَدْءِ، مُنْذُ أَوَائِلِ ٱلأَرْضِ الخ» (أمثال ٨: ٢٢-٣١). لم يستطع أن يكون الابن كلمة الله ليعلن للناس أفكار الله إلا بأن كان في البدء عند الله يعرف افكاره منذ الأزل.

فينتج مما ذُكر أننا لا نقدر أن نعبد المسيح كما يحق له إلا بأن نعتقد أقنوميته ولاهوته حسب ما قيل «لِكَيْ يُكْرِمَ ٱلْجَمِيعُ ٱلاَبْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ ٱلآبَ» (ص ٥: ٢٣). ولنا منه أيضاً أعظم التأكيد لأمر خلاصنا لأن الذي أخذ على نفسه أمر الفداء ليس سوى الله القدير.

٣ «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ».

مزمور ٣٣: ٦ وع ١٠ وأفسس ٣: ٩ وكولوسي ١: ١٦ وعبرانيين ١: ٢ ورؤيا ٤: ١١

كُلُّ شَيْءٍ أي العالم كله بمادته وأرواحه وحيواناته وكل ما فيه.

بِهِ كَانَ أي بالكلمة وهذا القول يبين لاهوت الابن لأن الخلق مما يختص بالله وحده بدليل أنه «فِي ٱلْبَدْءِ خَلَقَ ٱللّٰهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ» (تكوين ١: ١). والمسيح خلق كالآب فتبين من أعماله أنه الله. ويوافق ما قيل هنا ما جاء في (كولوسي ١: ١٦ و١٧ وعبرانيين ١: ٢ و١٠ و٢: ١٠ ورؤيا ٤: ١١). فكما أظهر الابن أنه كلمة الله بتعليمه أظهر أنه كذلك بالخلق لأنه أعلن بذلك كونه إله القدرة والحكمة والجودة.

وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ الخ معنى هذه العبارة عين معنى العبارة الأولى إلا أن ما جاء في الأولى في صورة الإيجاب جاء في الثانية في صورة السلب. وكُرر للتوكيد ولدفع كل ريب في أنه لا استثناء في كل خلق الله في السماء والأرض وتحت الأرض لشيء من أنه عمل المسيح. ولم يعمل المسيح كآلة بيد الله بل كان عاملاً معه كما يبين من ( ١كورنثوس ٨: ٦) وما قيل هنا ينفي قول أفلاطون بأزلية المادة وقول الغنوسيين بأن خالق المادة روح شرير دون الله.

٤ «فِيهِ كَانَتِ ٱلْحَيَاةُ، وَٱلْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ ٱلنَّاسِ».

ص ٥: ٢٦ و٦: ٢٣ و١يوحنا ٥: ١١، ص ٨: ١٢ و٩: ٥ و١٢: ٣٥ و٤٦

فِيهِ كَانَتِ ٱلْحَيَاةُ لأنه الله (ع ١) وهذا دليل آخر على لاهوت المسيح. والإحياء عمل أعظم من خلق المادة وهو مما يختص بالله وحده (تكوين ٢: ٧) فالمسيح حياة في ذاته وهو مصدر حياة سائر الأحياء المحدثة عقلية وغير عقلية جسدية وروحية زمنية وأبدية (ص ٥: ٢٦ و٦: ٣٣ و١٤: ٦ و١١: ٢٥ و١يوحنا ٥: ١١ و٢٠). ومفاد هذه العبارة أنه قبل أن ظهرت حياة الخليقة كانت للمسيح حياة في ذاته وابتدأ في ذلك الوقت يهبها لبعض ما خلق. فهو لم يزل يفعل ذلك منذ بدء الخليقة إلى أن جاء هذه الأرض.

وَٱلْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ ٱلنَّاسِ أي الجزء الناطق من المخلوقات. وأُستعير هنا النور للعلم. فقد نُسب إلى المسيح ثلاثة أعمال وهي الخلق والإحياء والإنارة. فالكلمة الأزلي الخالق الحي الواهب الحياة هو أيضاً نور العالم بالذات أي هو معلم البشر يرشدنا إلى طريق الحق والسلام ويحمينا من مسالك الضلال والإثم. ويتبين من كونه نوراً لاهوته لأن «الله نور» (١يوحنا ١: ٥). وأثبت المسيح كذلك بقوله «أنا هو نور العالم» (يوحنا ٨: ١٢) (انظر أيضاً يوحنا ١٢: ٣٥ و٣٦ و٤٦) وكان المسيح نور الناس قبل تجسده (غلاطية ٣: ٩) وكان كذلك بواسطة خدمته الذاتية (عبرانيين ١: ٢ و٣) ولا يزال نور العالم بروحه (يوحنا ١٤: ١٦ و٢٦) وبواسطة مبشريه ( ١كورنثوس ١٢: ٢٨ وأفسس ٤: ١١) والمسيح على نوع خاص نور الناس الذين ينظرون إليه معلماً سماوياً يطلبون النور منه. فمنذ سقوط آدم لم يكن في العالم حياة روحية أو نور سماوي إلا منه وكل جماعات المخلّصين في السماء اهتدوا إلى السماء بنوره.

٥ «وَٱلنُّورُ يُضِيءُ فِي ٱلظُّلْمَةِ، وَٱلظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ».

ص ٣: ١٩

وَٱلنُّورُ يُضِيءُ فِي ٱلظُّلْمَةِ ليست الظلمة هنا نتيجة عدم النور المادي كما كانت الحال في بدء العالم (تكوين ١: ٢) ولكنها ظلمة أدبية أي ظلمة الجهل والخطيئة التي سقط العالم بأسره إليها بسقوط الإنسان الأول ولم تزل فيه إذ لم يشرق عليه المسيح نور العالم. على أن المسيح أرسل أشعته إلى العالم قبل تجسده بأعمال الخليقة وعنايته الإلهية (رومية ١: ٢٠ و٢١) وبتأثيره في ضمائر الناس وبوحيه في الأحلام والرؤى وبالنبوات والمبشرين كأخنوخ ونوح وبالشعائر والرموز وبالبركات على الذين أطاعوا الحق وبعقاب الذين عصوه. ولم يكن من وقت في تاريخ العالم لم يشرق المسيح فيه بنور سماوي ليرشد النفوس التي طلبت النور ورغبت فيه. ولكن النور الذي أشرق به قبل تجسده كان بالنسبة إلى ما بعده كالفجر بالنسبة إلى النهار الكامل.

وَٱلظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ أُشير بالظملة هنا إلى الناس الجهلاء والأشرار والمعنى أن أكثر الناس على الدوام يرفضون النور الذي في المسيح ولا يفهمون تعاليمه ولا يقبلون أن يدخل نوره قلوبهم. فلذلك جهل أهل عصره حقيقة الله وملكوته وطريق عبادته لأنهم اختاروا أن يبقوا في جهلهم وإثمهم لم يحبوا النور وكانوا جسدانيين فأغمضوا عيونهم عمداً واختياراً. وهذا وفق ما قيل في (متّى ١٣: ١٥ وص ٣: ١٩).

٦ «كَانَ إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ مِنَ ٱللّٰهِ ٱسْمُهُ يُوحَنَّا».

ملاخي ٣: ١ ومتّى ٣: ١ ولوقا ٣: ٢ وع ٢٣

بعد أن أبان البشير حقيقة الكلمة ذكر كيف أن الكلمة أتى إلى العالم. فكان الاستعداد لذلك مجيء يوحنا المعمدان وعلة ذكره هنا كونه سابق المسيح وكون تعليمه شهادة بصحة دعوى المسيح.

كَانَ إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ مِنَ ٱللّٰهِ الفرق عظيم بين الكلام على يوحنا وما سبق من الكلام على المسيح فالواحد «إنسان» والآخر «الكلمة» والأول «مرسل من الله» والثاني «الله». وظن كثيرون من اليهود أن يوحنا المعمدان هو المسيح (لوقا ٣: ١٥ وص ١: ١٩) فصرح كاتب هذه البشارة أن يوحنا ليس هو المسيح إنما هو الرسول الموعود به (ملاخي ٣: ١) أرسله الله ليهيء الطريق أمام المسيح.

ٱسْمُهُ يُوحَنَّا هو يوحنا المعمدان واسمه مختصر يهوه حنان أي الرب رحيم وسُمي بذلك بأمر من الله (لوقا ١: ١٣) وهو لاوي ابن زكريا وأليصابات (متّى ص ٣ ولوقا ص ١) وكان نبياً وسابقاً للمسيح ومنادياً بالتوبة وشاهداً لابن الله.

٧ «هٰذَا جَاءَ لِلشَّهَادَةِ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ، لِكَيْ يُؤْمِنَ ٱلْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ».

أعمال ١٩: ٤

هٰذَا جَاءَ لِلشَّهَادَةِ هذه وظيفته الخاصة وهي أن يشهد بأن يسوع هو المسيح (ص ١: ٣١) فنادى بين الناس بوجوب التوبة قبل مجيء المسيح ليعد قلوبهم لقبوله عند مجيئه ثم عينه لهم بعد ما أتى.

لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ أي للمسيح الذي هو نور (ص ١٢: ٣٦ وإشعياء ٦٠: ١) فأخذ يوحنا علامة من الله لكي يعرف المسيح ع ٣٣.

لِكَيْ يُؤْمِنَ ٱلْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ أي لكي يصدقوا بواسطة شهادته أن يسوع هو المسيح. وكانت شهادته كافية لإقناعهم لو أرادوا. وقصد الله أن يفتح به أبواب الإيمان للجميع. ولو أتى المسيح بالمجد الذي كان له في السماء قبل إنشاء العالم لم يحتاج إلى شاهد وإنما احتاج إلى ذلك لاستتار مجده بثوب الاتضاع.

٨ «لَمْ يَكُنْ هُوَ ٱلنُّورَ، بَلْ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ».

لَمْ يَكُنْ هُوَ ٱلنُّورَ أي نور العالم الذي له النور ذاته ويهبه لغيره. نعم إنّه كان «هُوَ ٱلسِّرَاجَ ٱلْمُوقَدَ ٱلْمُنِيرَ» (ص ٥: ٣٥) ونوره مقتبس من المسيح شمس البر. وظن بعض الناس أن يوحنا هو شمس البر لأنه ظهر نبياً عظيماً بعد ختام النبوات بنحو أربع مئة سنة وسمع الناس أنباء حوادث ولادته الغريبة ثم تأثروا من جراءته وقوة مواعظه (لوقا ٣: ١٥) فدفع البشير ذلك الظن بقوله «لم يكن هو النور».

فمن وقت يوحنا المعمدان كل فلاسفة العالم وأشهر معلميه ولاهوتييه وواعظيه ليسوا أنواراً بالذوات لكنهم شهود للنور الذي مصدره المسيح.

٩ «كَانَ ٱلنُّورُ ٱلْحَقِيقِيُّ ٱلَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِياً إِلَى ٱلْعَالَمِ».

إشعياء ٤٩: ٦ وع ٤ و١يوحنا ٢: ٨

كَانَ ٱلنُّورُ ٱلْحَقِيقِيُّ أي الذي استحق أن يسمّى بالنور. وهو استحق أن يسمّى كذلك لأربعة أسباب:

  • الأول: تمييزاً له عن النور المادي الذي ما هو إلا إشارة إلى النور الروحاني.
  • الثاني: تمييزاً له عن كل الأنوار الكاذبة كأديان الأمم الوثنية والأنوار الجزئية كتعاليم الفلاسفة والأنوار الرمزية التي في الشعائر والطقوس المشيرة إلى النور الحقيقي.
  • الثالث: تمييزاً له عن النور المستعار كتعاليم يوحنا وسائر المسيحيين (متّى ٥: ١٤) لأن المسيح هو النور الأصيل الأزلي غير المتغير العام لكل العالم.
  • الرابع: الإشارة إلى عظمته تمييزاً له عن كل نور عادي. وكما سمى المسيح بالنور الحقيقي سُمي أيضاً بالخبز الحقيقي وبالكرمة الحقيقة والقدس الحقيقي (عبرانيين ٩: ٢٤).

ٱلَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِياً إِلَى ٱلْعَالَمِ لم يتضح من الأصل اليوناني أقوله «آتياً» الخ متعلق بكل إنسان أم بالنور أي المسيح والأرجح الثاني. إنه كثيراً ما أشير إلى المسيح «بالآتي» «وبالذي يأتي». فإذا نسبناه إلى كل إنسان لا يزيد المعنى شيئاً إذ ليس من إنسان لا يأتي إلى العالم. فمعنى هذه الجملة ستة أمور.

  • الأول: غاية مجيء المسيح إلى العالم هي أن يكون نور العالم.
  • الثاني: كفاية الإنارة لأنه يهب النور الكافي للخلاص لكل من يقبل نوره ويسير بموجبه.
  • الثالث: افتقار كل الناس إلى المسيح فمهما وُجد في العالم من النور في أديانه وفلسفته وشرائعه وقلوب الناس وضمائرهم فمنه.
  • الرابع: عموم ذلك النور لأنه لكل بني آدم يهوداً وأمماً في كل عصر وموضع.
  • الخامس: كون المسيح نور العالم الوحيد قبل التجسد وبعده.
  • السادس: كون كل المخلصين في المجد اهتدوا إلى السماء بنور المسيح.

١٠ «كَانَ فِي ٱلْعَالَمِ، وَكُوِّنَ ٱلْعَالَمُ بِهِ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ ٱلْعَالَم».

ع ٣ وكولوسي ١: ١٧ وعبرانيين ١: ٢ و١١: ٣

كَانَ فِي ٱلْعَالَمِ الكلام هنا على قبل تجسده والكلام عليه في الآية الآتية بعد ذلك التجسد. كان في العالم منذ البدء لا تنظره العيون البشرية إنما كان حاضراً بالروح بخلق العالم كما في العبارة التي تلي هذه وينير العالم كما في العبارة السابقة. فهو الذي وعظ في أيام نوح (١بطرس ٣: ١٩). وهو الملاك الذي سار مع بني إسرائيل في البرية (أعمال ٧: ٣٨).

كُوِّنَ ٱلْعَالَمُ بِهِ ذُكر هذا قبلاً وكُرر هنا بياناً لأنه كان يجب على العالم أن يعرفه حين أتى علانية. فهو لم يدخل العالم كغريب عنه لأنه كان فيه قبلاً يخلق ويعتني. وكما تُعرف نباهة المخترع بمخترعاته كان يجب على العالم أن يعرف صفات المسيح من أعماله.

وَلَمْ يَعْرِفْهُ ٱلْعَالَمُ هذا مع كل وسائل معرفته المذكورة. ومعنى «العالم» هنا البشر عامة فأكثرهم لم يعترفوا بالله ولم يؤمنوا به ولم يطيعوه وعبدوا الأوثان دونه وسموها آلهة حتى أنه لم يوجد بين ألوف من المذابح التي كانت للوثنيين ما ينسب منها إلى الإله الحق سوى واحد وهو الذي كُتب عليه «لإله مجهول» (أعمال ١٧: ٢٣).

ولا يُخفى على القارئ أن للعالم هنا ثلاثة معانٍ:

  • الأول: مكان معين هو هذه الأرض.
  • الثاني: الكون كله.
  • الثالث: الناس.

١١ «إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ».

لوقا ١٩: ١٤ وأعمال ٣: ٢٦ و١٣: ٤٦

إِلَى خَاصَّتِهِ أي الأمة اليهودية دون عالم الوثنيين المذكورين في العدد السابق. وسُميت اليهود خاصته لأن الله اختارها لنفسه (تثنية ٧: ٦ وإشعياء ٣١: ٩) والمسيح هو الله فاختار أولاد إبراهيم (تثنية ١٩: ٥) وفداهم من أرض مصر وأعطاهم أرض كنعان والشريعة والعهود والأنبياء (مزمور ٧٦: ٢ و٧٨: ٧١ و١٣٥: ٤ ورومية ٩: ٤) وسكن بينهم. وكانوا خاصته أيضاً لأن المسيح يهوه العهد القديم اعتنى بهم وحفظهم في كل طرقهم وقصد بذلك إعدادهم لقبوله حين يأتي.

جَاءَ أي ظهر علانية وهذا تمييز عما في قوله «كان في العالم» في الآية السابقة فجاء وفقاً لقول النبي «يَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ ٱلسَّيِّدُ ٱلَّذِي تَطْلُبُونَهُ وَمَلاَكُ ٱلْعَهْدِ ٱلَّذِي تُسَرُّونَ بِهِ. هُوَذَا يَأْتِي قَالَ رَبُّ ٱلْجُنُودِ» (ملاخي ٢: ١).

وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ جاء في ما سبق أن «ٱلظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ» (ع ٥) وأن «العالم لم يعرفه» (ع ١٠) وزاد على ذلك هنا أن «خاصته لم تقبله» مع أن الله أعدها لقبوله برموز ونبوءات وجعلها تتوقع مجيئه فكان عليها أن تعرفه وتقبله عند مجيئه ولكن لما ظهر بينها رفضته بل صلبته (متّى ٢٣: ٣٧ ولوقا ١١: ٤٩ و٥٠ وأعمال ٧: ٥١ – ٥٣). وعلة رفضها إياه إعماء الخطية لعيونها وعدم رضاها مخلصاً وملكاً روحياً.

١٢ «وَأَمَّا كُلُّ ٱلَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ، أَيِ ٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱسْمِهِ».

إشعياء ٥٦: ٥ وص ٣: ٣ إلى ٧ وأعمال ١٠: ٤٤ ورومية ٨: ١٥ وغلاطية ٣: ٢٦ و٢بطرس ١: ٤ و١يوحنا ٣: ١

وَأَمَّا كُلُّ ٱلَّذِينَ قَبِلُوهُ رفضه الشعب وقبله أفراد قليلون منه. ومعنى قبولهم إياه اعترافهم بأنه الكلمة والنور والحياة وإيمانهم به لخلاصهم.

وكان الذين قبلوه من كل شعب وأمة رحبوا به في قلوبهم واقتنعوا أنه المسيح بعقولهم.

فَأَعْطَاهُمْ أي كل المؤمنين به بلا استثناء من فريسيين وصدوقيين وعشارين علماء وجهلاء يهوداً وأمماً.

سُلْطَاناً أي نعمة خاصة أو حقاً. فلم يهب لهم قوة على تغيير قلوبهم أو تصييرهم أنفسهم أولاد الله بل فعل كل ما هو لازم لكي يكونوا كذلك وذلك بواسطة ثلاثة أمور:

  • الأول: صيرورته إنساناً لكي يجعلنا أولاد الله فكان لنا بذلك أن ندعوه أخاً وندعو الله أباً.
  • الثاني: إزالته كل الموانع من أن نكون أولاد الله إذ رفع عنّا جرم الخطية وغضب الله.
  • الثالث: إعطاؤه إيانا الروح القدس لنكون أولاد الله بالميلاد الجديد (أعمال ١٠: ٤٤) فالبنوة هبة مجانية بدليل قوله «أعطاهم» ولم يكن ذلك إلا به.

أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ فصيرورتهم من أهل بيت الله شرف وبركة لهم. وهم بالطبيعة أبناء هذا الدهر (لوقا ١٦: ٨) وأبناء المعصية (أفسس ٢: ٢) وأبناء الغضب (أفسس ٢: ٣) وتتضمن صيرورتنا أبناء الله خمسة أشياء:

  • الأول: ولادتهم الجديدة.
  • الثاني: محبة الله لهم كمحبة الأب لبنيه.
  • الثالث: اعتناء الله بهم وحمايته إياهم ومنحه لهم كل ما يحتاجون إليه.
  • الرابع: مشابهتهم له (غلاطية ٤: ١ و٧ وأفسس ٤: ١٣ وعبرانيين ١٢: ١٠).
  • الخامس: إرثهم ميراثاً سماوياً (رومية ٨: ١٦).

وبقي غير ما ذكر من متعلقات تلك النسبة ما لا يستطيع إدراكه المؤمنون إلا بعد دخولهم السماء وهذا وفق قول الرسول «أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، ٱلآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ ٱللّٰهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلٰكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (١يوحنا ٣: ٢).

أَيِ ٱلْمُؤْمِنُونَ هذا تفسير قوله السابق «الذين قبلوه» فلا يستطيع الإنسان أن يكون ابناً لله ما لم يؤمن به. وقبول المسيح هنا يقتضي الإيمان لأن مجده مستتر ولاهوته محجوب بحجاب جسده. والإيمان به يستلزم تصديق دعواه والاتكال عليه للخلاص والثقة به.

بِٱسْمِهِ أي به كما هو معلن لنا. لأننا نعرفه بالاسم الذي يُدعى به والمراد بالاسم هنا مجموع الصفات التي أُعلن بها ومن ذلك «عمانوئيل» و «يسوع» و «الكلمة» و» «الرب برنا» فيكون الإيمان باسمه اتخاذنا إياه «الله معنا» ومخلصاً ومعلن مشيئة الله والاتكال عليه لتبريرنا وطاعتنا له رباً لنا.

١٣ «اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ، بَلْ مِنَ ٱللّٰهِ».

أعمال ١٧: ٢٦، أفسس ٢: ٣ و٨ و٩ ص ٣: ٥ ويعقوب ١: ١٨ و١بطرس ١: ٢٣، ١يوحنا ٣: ٩

غاية هذا العدد بيان كيفية صيرورة الناس أولاد الله وهي دفع كل وهم أن ذلك بالتسلسل الطبيعي كما زعم اليهود لأنهم ذرية إبراهيم. وذكر الإنجيلي هنا ثلاث عبارات تشير إلى ذلك التسلسل وهي «دم» و «مشيئة جسد» و «مشيئة رجل» ونفى كون أولاد الله بشيء منها. وصرّح أن الناس صاروا أولاد الله بالولادة الروحية.

دَمٍ يعسر أن نميز الفرق بين معنى الدم هنا ومشيئة الجسد ومشيئة الرجل ولعلّ في ذلك وصف الولادة الطبيعة من أدنى درجات نشوئها إلى أعلاها. والمعلوم أن الدم هو مركز الحياة كقوله تعالى «نَفْسَ ٱلْجَسَدِ هِيَ فِي ٱلدَّمِ» (لاويين ١٧: ١١).

والمعنى أن نعمة النبوءة ليست بالتسلسل من أب إلى ولد إبراهيم كان أم غيره لكن من الله تعالى إلى نفس الإنسان.

مَشِيئَةِ جَسَدٍ لعل معنى ذلك أن الإنسان عاجز عن أن يُصير نفسه ابناً لله وكل اتكاله على مقاصده في ذلك وأعماله عبثٌ.

مَشِيئَةِ رَجُلٍ لعل معنى هذا اتكال الإنسان على غيره من الناس لينال بنوة الله باطل. ولو كان المتكل عليهم أقدس البشر فلا تكفي ذلك صلواتهم ولا تعاليمهم ولا تعميدهم ولا رسمهم. وما صدق على الأفراد هنا يصدق على الجميع وهو أن البنوءة لله ولا تتوقف على اتفاقهم إنما تتوقف على نعمة الله. وما قيل في هذا التمييز صحيح في ذاته لكنه لم يتحقق أنه مقصود الإنجيلي والأرجح أن المعنى ما سبق ذكره في الكلام العام في أول هذه الآية.

بَلْ مِنَ ٱللّٰهِ أي أن الولادة المقصودة هنا هي هبة من الله. وهذا مثل قول الرسول «مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيَّةِ ٱلْبَاقِيَةِ إِلَى ٱلأَبَدِ» (١بطرس ١: ٢٣). وعلة هذه الهبة أي الولادة الجديدة هي النعمة الإلهية بقوة الله وهي تتضمن الدعوة والتجديد والتقديس. والوسيلة التي يتخذها روح الله في الولادة الجديدة هي الحق.

١٤ «وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ ٱلآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً».

متّى ١: ١٦ و٢٠ ولوقا ١: ٣١ و٣٥ و٢: ٧ ورومية ١: ٣ وغلاطية ٤: ٤ و١تيموثاوس ٣: ١٦ وعبرانيين ٢: ١١ و١٤ و١٦ و١٧ و١يوحنا ٤: ٢ إشعياء ٤٠: ٥ ومتّى ١٧: ٢ وص ٢: ١١ و١١: ٤٠ و٢بطرس ١: ١٦ و١٧ و١٨ و١يوحنا ١: ١، كولوسي ١: ١٩ و٢: ٣ و٩ و١٠

وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً العلاقة بين هذا الكلام وما قبله بيان أن الإنسان صار ابن الله لأن ابن الله الوحيد صار الإنسان.

الكلمة التي في الآية الأولى كان في البدء وكان عند الله وكان الله قد صار جسداً ولم يكن كذلك قبلاً وذلك ليعلن الله أوضح إعلان. فالذي كان في العالم بالروح خالقاً (ع ٣) وحياة ونوراً (ع ٤ و٥) يفعل في قلوب الناس وضمائرهم أخذ طريقاً جديدة لإعلان الله بإضافة الطبيعة البشرية إلى الطبيعة الإلهية وفي ذلك سر التجسد.

ومعنى «جسد» هنا إنسان كامل كما في يوحنا ١٧: ٢. وذلك يتضمن أن جسد المسيح كان جسداً حقيقياً لا صورة كما قال الدوسيتيون ولا هيئة إنسان أُخذت وقتياً كما في إعلانات العهد القديم. ويتضمن أيضاً أنه كان للمسيح نفس بشرية كما يظهر من (ص ١٢: ٢٧ و١٣: ٢١) وأن الروح الإلهي لم يحل محل الروح الإنساني كما قال أوبوليناريوس.

وأتى المسيح ذلك لكي يكون شبه «إِخْوَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ» (عبرانيين ٢: ١٧ قابل بذلك ١يوحنا ٤: ٢ و٣ و٢يوحنا ٧). وأمكنه بذلك أن يتألم ويجرب ويتعلم وينمو ويصلي ويموت كسائر الناس. وسر المسيح أن يسمي نفسه «ابن الإنسان» ع ٥٢.

والطريقة التي فيها صار الكلمة جسداً هي أنه وُلد من مريم العذراء إذ حبلت به بطريق غير عادية بقوة الروح القدس. ولم يختلف عن البشر شيئاً سوى أنه كان بلا «خطية» (٢كورنثوس ٥: ٢١) فإذاً كان المسيح إلهاً تاماً وإنساناً تاماً ذا طبيعتين ممتازتين في أقنوم واحد. واتخاذه الناسوت لم ينزع منه اللاهوت بل علامات اللاهوت الظاهرة إلا عند ما أظهره بعض الظهور بعمل المعجزات ليثبت دعواه. واتحاد الطبيعتين جعل لآلامه من أجل البشر قيمة لا تحد. وقدره أن يشارك الإنسان في كل انفعالاته. فالمسيح باعتبار أنه إله وإنسان عاش على الأرض وتألم ومات وقام وصعد إلى السماء وهو جالس الآن عن يمين الله يشفع فينا.

وَحَلَّ بَيْنَنَا بعد التجسد من هو قبل التجسد «كان عند الله» ع ١. فكما سكن روحياً خيمة الاجتماع في وسط بني إسرائيل في البرية نحو أربعين سنة (أعمال ٧: ٣٨) سكن الأرض إنساناً نحو ثلاث وثلاثين سنة. وسكن خصوصاً بين تلاميذه بعض ذلك الوقت حسب قول الرسول «اَلَّذِي كَانَ مِنَ ٱلْبَدْءِ، ٱلَّذِي سَمِعْنَاهُ، ٱلَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، ٱلَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ ٱلْحَيَاةِ» (١يوحنا ١: ١). وفي ذلك الحلول تنازل عجيب من المسيح ومجد عظيم لأرضنا وفرح وبركة للذين شاهدوه.

وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ أي نحن تلاميذه كما في (١يوحنا ١: ٣ و٢بطرس ١: ١٦). أظهر الله مجده في أزمنة العهد القديم بسحابة نور في خيمة الاجتماع وفي الهيكل وبالرؤى (إشعياء ٦: ١) فأظهر المسيح مجده بمعجزاته (ص ٢: ١١ و١١: ٤). وبتجليه والذين رأوا ذلك من تلاميذه هم يوحنا وبطرس ويعقوب. وبصعوده أمام كل الرسل. وبقداسة سيرته وجودة تعليمه وإحسانه واحتماله الآلام من أجل البشر وفي هذا كله بيان صفاته المجيدة كأشعة من شمس لاهوته. فذكر يوحنا أنهم رأوا مجده برهاناً على أنه ليس مجرد ابن الإنسان بل إنّه ابن الله أيضاً. والمجد الذي رآه التلاميذ أقل مما كان له قبل تجسده (ص ١٧: ٥) لكنه كاف لإثبات كونه ابن الله.

كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ ٱلآبِ أي كما يليق بوحيد الخ. ويسمى المسيح «وحيد الآب» تمييزاً عن أولاد الله الذين ذُكروا في ع ١٢ و١٣ وهم كثيرون نالوا ولادتهم من الله هبة بواسطة إيمانهم بالمسيح وإنما هو واحد أزلي واجب الوجود وابن الله بمعنى لا يصدق على غيره. وسمي الأقنوم الثالث ابن الله ليس لأنه وُلد من الله تعالى كولد من والدين بشريين لكن ذلك اسمه منذ الأزل وهو يصدق عليه لثلاثة أوجه.

  • الأول: الشبه التام بينه وبين الله.
  • الثاني: المساواة في المجد والإكرام.
  • الثالث: إعلان المحبة بين الأقنوم الأول والأقنوم الثاني من اللاهوت.

مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً الذي كان قبل التجسد خالقاً ونوراً وحياة ظهر عند تجسده مملوءاً نعمة وحقاً بطبيعته وقوله وعمله وهذا جزء من المجد الذي رآه التلاميذ. والصفتان المذكورتان هنا من صفات الله المميزة له عن كل خليقته (خروج ٣٤: ٦) فالمسيح باعتبار كونه كلمة الله أعلن هاتين الصفتين للناس. وفي هذا القول إشارة إلى البركات الروحية التي أتى المسيح ليهبها للناس فهي مجموعة في أمرين النعمة والحق. فأتى ببشارة النعمة بغية إظهار المحبة الإلهية للخطاة الهالكين لغفران خطاياهم وخلاص نفوسهم. وأتى أيضاً بإعلان حق الله الروحي غير محجوب برموز وإشارات وظلال العهد القديم.

ويوحنا بعد ما عبّر عن المسيح بالكلمة في هذا العدد لم يعبّر عنه بهذا الاسم في سائر إنجيله.

١٥ «يُوحَنَّا شَهِدَ لَهُ وَنَادَى: هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي قُلْتُ عَنْهُ: إِنَّ ٱلَّذِي يَأْتِي بَعْدِي صَارَ قُدَّامِي، لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي».

ع ٣٢ وص ٣: ٣٢ و٥: ٣٣، متّى ٣: ١١ ومرقس ١: ٧ ولوقا ٣: ١٦ وع ٢٧ و٣٠ وص ٣: ٣١ ص ٨: ٥٨ وكولوسي ١: ١٧

هذه الآية والتي بعدها فحوى كل شهادة يوحنا المعمدان للمسيح وفُصلت في بقية الأصحاح.

يُوحَنَّا شَهِدَ لَهُ أورد البشير هنا شهادة يوحنا إثباتاً لما قاله في العدد السابق وهو أن الكلمة صار جسداً… ورأينا مجده، وهو ممن رأوا ذلك المجد وشاهدوه. قيل في العدد السابق «هذا جاء للشهادة ليشهد للنور» وهنا بيان ما شهد به.

هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي قُلْتُ عَنْهُ قال هذا قبلما شاهده وعرفه (ع ٣٣) وكان يومئذ يكرز في البرية (متّى ٣: ١١ – ١٣).

ٱلَّذِي يَأْتِي بَعْدِي أي الذي أنا سابقه. وصح ذلك في أمرين الولادة والشروع في الخدمة.

صَارَ قُدَّامِي الخ لثلاثة أمور:

  • الأول: أنه منذ الأزل.
  • الثاني: أنه كان قبل المعمدان في العالم بروحه زمن العهد القديم (يوحنا ١٢: ٤١ و ١كورنثوس ١٠: ٤)
  • الثالث: كون المسيح أعظم منه كما أن الملك أعظم من سابقه.

١٦ «وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ».

ص ٣: ٤٣ وأفسس ١: ٦ و٧ و٨ وكولوسي ١: ١٩

مِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا هذا كلام يوحنا الرسول لا يوحنا المعمدان وهو تابع لقوله في الآية الرابعة عشرة «مملوءاً نعمة وحقاً». وقوله «نحن» يتضمن نفسه وسائر المؤمنين فكما قال في ع ١٤ «رأينا مجده» قال هنا «أخذنا من ملئه» أي من غنى نعمته وحقه الذي لا يُستقصى. أشار بقوله «أخذنا» إلى نوال ذلك هبة مجانية.

وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ كما أن بني إسرائيل كانوا يجمعون ما يحتاجون إليه لأجسادهم من المن يوماً فيوماً كذلك المؤمنين يأخذون من نعمة المسيح ما يحتاجون إليه لنفوسهم يوماً فيوماً سوى أن المؤمنين يزيد ما يأخذونه من النعمة على توالي الأيام. وهذا موافق لقوله تعالى «مَنْ لَهُ سَيُعْطَى وَيُزَادُ» (متّى ١٣: ١٢) وقول الرسول «لِكَيْ تَمْتَلِئُوا إِلَى كُلِّ مِلْءِ ٱللّٰهِ» (أفسس ٣: ١٩).

١٧ «لأَنَّ ٱلنَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ، أَمَّا ٱلنِّعْمَةُ وَٱلْحَقُّ فَبِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ صَارَا».

خروج ٢٠: ١ الخ وتثنية ٤: ٤٤ و٥: ١ و٣٣: ٤، رومية ٣: ٢٤ و٥: ٢١ و٦: ١٤ ص ٨: ٣٢ و١٤: ٦

لأَنَّ ٱلنَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ أي الناموس بقسميه الأدبي والطقسي. وفي هذا الناموس الإعلان لله استعداداً لإعلان آخر أسمى وأكمل وأُعطي بواسطة بشرية أي بواسطة موسى فجاء به كخادم (عبرانيين ٣: ٥).

أَمَّا ٱلنِّعْمَةُ وَٱلْحَقُّ غاية الناموس بيان ما يجب على الإنسان عمله وغاية النعمة والحق بيان ما أراد الله أن يعمله من أجلنا. وأظهر المسيح نعمة الله بإعلانه طريق الخلاص والمناداة بمغفرة الخطية لكل مؤمن وبموته على الصليب لأجل البشر وبمنحه الحياة الأبدية للمؤمنين به. وأظهر الحق بنفسه وتعليمه باعتبار كونه النبي الحقيقي والكاهن الحقيقي والذبيحة الحقيقية وأنه تم فيه كل رموز العهد القديم.

والنعمة والحق هما الإنجيل أتى به المسيح كابن (عبرانيين ٣: ٦) وفضل الإنجيل على الناموس يتضح مما قيل في (رومية ٧ وص ٨ و٢كورنثوس ٣: ٧ – ٩ وغلاطية ص ٣ وص ٤ وعبرانيين ص ٧ وص ١٠).

فَبِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ هذا أول ما ذكره يوحنا الإنجيلي بهذا الاسم ومعناه المخلص الممسوح من الله لإجراء عمل الفداء.

١٨ «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاَبْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ».

خروج ٣٣: ٢٠ وتثنية ٤: ١٢ و١٥ وص ٦: ٤٦ و١تيموثاوس ١: ١٧ و٦: ١٦ و١يوحنا ٤: ١٢ و٢٠، متّى ١١: ٢٧ ولوقا ١٠: ٢٢ وع ١٤ وص ٣: ١٦ و١٨ و١يوحنا ٤: ٩

اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ فإذاً لا أحد من الناس ولا من الملائكة عرف الله حق المعرفة ليستطيع أن يعلن صفاته بلا خطإ لأن رؤية الله ضرورية لكمال معرفته. فليس لهم إلا ان يعلنوا إلا ما أُعلن لهم بوحي أو برؤيا (عبرانيين ١: ١). فموسى لم ير الله (خروج ٣٣: ٢٠) ومعلناته الروحية ومعلنات إبراهيم ويشوع وإشعياء ودانيال لم تكن إلا إعلانات الأقنوم الثاني من اللاهوت. والنتيجة أنه لا يمكن الإنسان أن يعلن ملء النعمة والحق.

اَلاَبْنُ ٱلْوَحِيدُ هذا هو القادر أن يعلن الله لانه «كلمة الله» وكان عند الله منذ الأزل ويعرف كل أفكار الله ومقاصده ويعرف ذلك من تلقاء نفسه حق المعرفة وهذا يجعله أهلاً للإعلان (ص ٣: ١١ و٦: ٤٦ و١٤: ٧) ويحق له أن يعلن لأنه ليس خادمه كموسى لأن الخادم لا يعرف فكر سيده بل هو ابن وله ولأبيه طبيعة واحدة وبينه وبين الآب محبة تامة وهو ابن الآب الوحيد وهذا دليل على النسبة بينه وبين الآب خاصة ممتازة عن نسبة كل كائن آخر.

فِي حِضْنِ ٱلآبِ هذا إشارة إلى كون النسبة بين الآب والابن أقرب ما يكون وإلى حصول الابن على كمال المحبة من الآب والاتحاد به والمشاركة في عواطفه ومعرفة أفكاره وإلى سعادته وراحته. ولم يقل هنا الذي كان في حضن الآب بل «الذي هو في حضن الآب» فإذاً مع أن المسيح كان بناسوته على الأرض كان بلاهوته في حضن الآب كما هو منذ الأزل وإلى الأبد.

هُوَ خَبَّرَ أي هو لا غيره أعلن الله لأن هذا التخبير خاص به كالكلمة. ونتيجة ما قيل في هذا الفصل أن المسيح أعظم من يوحنا المعمدان بأزليته وأفضلية تعليمه وبأنه أعظم من موسى ومن كل الكهنة والأنبياء الذي أعلنوا الله ولذلك وجب أن نتخذه معلمنا ونبينا وأن ندرس كلامه ونتأمل فيه ونسأله الإرشاد لأنه عجيب مشير إله قدير.

شهادة يوحنا الخاصة ع ١٩ إلى ٣٦

١٩ «وَهٰذِهِ هِيَ شَهَادَةُ يُوحَنَّا، حِينَ أَرْسَلَ ٱلْيَهُودُ مِنْ أُورُشَلِيمَ كَهَنَةً وَلاَوِيِّينَ لِيَسْأَلُوهُ: مَنْ أَنْتَ؟».

ص ٥: ٣٣، يشوع ٣: ٣

حِينَ أَرْسَلَ الأرجح أن ذلك الوقت كان بعد وقت المعمودية ورجوع المسيح من تجربته أربعين يوماً في البرية.

ٱلْيَهُودُ اختص هذا الاسم أولاً بسبط يهوذا ثم أُطلق بعد رجوع الإسرائيليين من سبي بابل على كل الأسباط. واليهود هنا وفي سائر هذه البشارة الذين قاوموا المسيح من اليهود. واصطلح يوحنا على ذلك لأن أكثر تلك الأمة ولا سيما رؤساؤها قاوم يسوع وأما سائر البشائر فذكروا مقاومي المسيح باسم فرقتهم كالفريسيين والصدوقيين أو باسم وظيفتهم كرؤساء الكهنة ونحو ذلك. واستعماله لفظة اليهود بهذا المعنى من الادلة على أن يوحنا كتب إنجيله بعد خراب أورشليم بزمن طويل وأن اليهود كانوا عند كتابته ملة دينية فقط لا أمة سياسية وأنه تقضت عليه مدة طويلة وهو ساكن بين الأمم.

مِنْ أُورُشَلِيمَ كان الذين أتوا من هذه المدينة لجنة مختارة أرسلها مجلس السبعين من قاعدة البلاد ومركز الديانة. وغاية إرساله إياها الفحص عن دعاوي ذلك النبي أي المعمدان الذي جمع إليه الجموع العظيمة وحمل كثيرين على ظنهم إياه المسيح (لوقا ٣: ١٥) وإرسال تلك اللجنة دليل جليّ على شدة تأثير ما أتاه يوحنا المعمدان من المواعظ.

كَهَنَةً وَلاَوِيِّينَ هما من خدم الهيكل. والكهنة فرقة من اللاويين أي أولاد هارون وكان أكثر الكتبة من اللاويين. والمجلس الكبير مؤلف من الشيوخ والكتبة والكهنة.

مَنْ أَنْتَ لا ريب في أنهم عرفوا أنه لاوي وأنه ابن الكاهن زكريا فالذي أرادوا معرفته هو ماهية الوظيفة التي ادّعى أنه نالها من السماء. والمسيح اشار إلى هذا في خطابه بعد ذلك (ص ٥: ٣٣).

٢٠ «فَٱعْتَرَفَ وَلَمْ يُنْكِرْ، وَأَقَرَّ أَنِّي لَسْتُ أَنَا ٱلْمَسِيحَ».

لوقا ٣: ١٥ وص ٣: ٢٨ وأعمال ١٣: ٢٥

ما في هذا العدد من تكرار المعنى للتأكيد وبيان أهمية الشهادة. فرفض يوحنا كل دعوى في أنه هو المسيح وأبى الإكرام الذي استعد الناس أن يقدموه له باعتبار كونه المسيح.

٢١ «فَسَأَلُوهُ: إِذاً مَاذَا؟ إِيلِيَّا أَنْتَ؟ فَقَالَ: لَسْتُ أَنَا. أَلنَّبِيُّ أَنْتَ؟ فَأَجَابَ: لاَ».

٢ملوك ١: ٨ وملاخي ٤: ٥ ومتّى ١٧: ١٠، تثنية ١٨: ١٥ و١٨ وص ٦: ١٤ و٧: ٤٠ و٤١

إِيلِيَّا أَنْتَ انتقل إيليا النبي إلى السماء قبل ذلك بنحو ٩٠٠ سنة. وقال ملاخي منذ ٤٠٠ سنة قبل ذلك باسم الرب «هَئَنَذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا ٱلنَّبِيَّ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ ٱلرَّبِّ ٱلْيَوْمِ ٱلْعَظِيمِ وَٱلْمَخُوفِ» (ملاخي ٤: ٥). فتوقع اليهود مجيء إيليا حقيقة من السماء قبل مجيء المسيح. ثم مسيره مع المسيح على الأرض ومسحه إياه وتعميد الناس عموماً وفقاً لقوله تعالى في (حزقيال ٣٦: ٢٥ و٢٦ وفي زكريا ١٣: ١).

لَسْتُ أَنَا أي لست إيليا حقيقة كزعمهم من إتيان ذلك النبي فعلاً. نعم أن يوحنا المعمدان أتى «بروح إيليا وقوته» (لوقا ١: ١٧) وشبهه وهو الذي قصده ملاخي بنبؤته (ملاخي ٣: ١ ومتّى ١١: ١٤ و١٧: ١٢ و١٣).

أَلنَّبِيُّ أَنْتَ أي الذي أشار إليه موسى في تثنية ١٨: ١٥ فإن بعض اليهود فسر تلك النبوءة بأنها إشارة إلى المسيح وهو الصحيح (ص ٦: ١٤). وبعضهم فسرها بأنها إشارة إلى غيره من الأنبياء يقترن مجيئه بمجيء المسيح (ص ٧: ٤٠ و٤١). وبعضهم ظنه إرميا أو أحد الأنبياء القدماء قام من الأموات (متّى ١٦: ١٤ ومرقس ٦: ١٥) فأنكر يوحنا أنه أحد هؤلاء.

٢٢ «فَقَالُوا لَهُ: مَنْ أَنْتَ، لِنُعْطِيَ جَوَاباً لِلَّذِينَ أَرْسَلُونَا؟ مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟».

فرضت تلك اللجنة ثلاثة فروض وهو أن المعمدان إما المسيح وإما إيليا وإما واحد من الأنبياء القدماء قام من الأموات فنفى يوحنا كل ذلك فالتَمَسَت منه أن يصرح بحقيقة أمره.

٢٣ «قَالَ: أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ، كَمَا قَالَ إِشَعْيَاءُ ٱلنَّبِيُّ».

إشعياء ٤٠: ٣ ومتّى ٣: ٣ ومرقس ١: ٣ ولوقا ٣: ٤ وص ٣: ٢٨

أظهر المعمدان تواضعه بهذا الجواب وشعوره بأهمية مرسليته لأنه لم يجب اللجنة حسبما سألت كأن الجواب عن نفسه مما لا طائل تحته. لكن الأمر المهم هو تأدية الشهادة للمسيح فلم يكن في هذا إلا مثل صوت يعلن تلك الشهادة. وأظهر بجوابه هذا أنه أتى لإتمام النبوءة المذكورة في إشعياء ٤٠: ٣. وحوّل بجوابه التفات الناس عنه إلى موضوع مناداته وبالنتيجة إلى الملك الآتي الذي هو سابقه.

قد أشار إشعياء إلى مجيء المسيح بإنبائه من ص ٤٠ إلى ص ٤٦ فاتخذ يوحنا المعمدان مجيء نفسه وتبشيره ومناداته إتماماً لأول ذلك الإنباء وأشار بذلك أن كله على وشك التمام أي أنه قد اقترب قدوم الملك المنتظر أو الموعود به وأنه هو نفسه يعد الطريق قدامه. فإذاً جوهر جوابه أنه سابق المسيح وظهور ذلك المسبوق قريب جداً.

٢٤ «وَكَانَ ٱلْمُرْسَلُونَ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ».

مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ هم فرقة من فرق اليهود الثلاث التي انقسموا إليها والباقيتان هما الصدوقيون والاسينيون. وكان الفريسيون غيورين جداً في حفظ شريعة موسى وتقاليد الشيوخ ولذلك فحصوا بكل تدقيق عن كل شيء خارج عن مجراهم العادي في الدين كفحصهم عن علة تعميد يوحنا المعمدان. ولم تكن غايتهم من السؤال الآتي الوقوف على الحق بل المقاومة كعادتهم (لوقا ٧: ٣٠) وذكر يوحنا أن المرسلين فريسيون لئلا يظن أحد أنهم أتوا ذلك بغية الوقوف على الحق والأمر ليس كذا كما اتضح مما ذُكر.

٢٥ «فَسَأَلُوهُ: فَمَا بَالُكَ تُعَمِّدُ إِنْ كُنْتَ لَسْتَ ٱلْمَسِيحَ، وَلاَ إِيلِيَّا، وَلاَ ٱلنَّبِيَّ؟».

يتضمن سؤال الفريسيين ليوحنا التسليم بأنه لو كان أحد أولئك الثلاثة الذين ذكروهم لحق له أن يعمد بناء على قول (حزقيال ٣٦: ٢٥ و٢٦ وقول زكريا ١٣: ١). ولم يستغربوا المعمودية كأنها أمر جديد في الدين لأنهم اعتادوا التطهيرات الطقسية التي يمارسها كل يهودي لنفسه وتُعرف عندهم بالمعمودية (مرقس ٧: ١ – ٤) واعتادوا أيضاً تعميد الدخلاء أي الذين تهودوا من الأمم لكنهم تعجبوا من تعميد يوحنا مع نفيه أنه ليس أحد أولئك الثلاثة المفروضين. ولعلهم تعجبوا من أنه عمد اليهود الذين هم على زعمهم أمة مقدسة طاهرة لا تحتاج إلى معموديته. والأرجح أن سؤالهم لم يكن إلا عن سلطانه.

٢٦ «أَجَابَهُمْ يُوحَنَّا: أَنَا أُعَمِّدُ بِمَاءٍ، وَلٰكِنْ فِي وَسَطِكُمْ قَائِمٌ ٱلَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ».

متّى ٣: ١١، ملاخي ٣: ١

لم يجبهم يوحنا عن سؤالهم بالتصريح بل بالتضمين هو أنه سابق المسيح وأن عمله إنما هو تهيئة الطريق أمامه إن المسيح أتى وفعل يوحنا ما فعله بسلطان ذلك إذاً حق له أن يعمد كما أوضح أيضاً في ع ٣٣.

أَنَا أُعَمِّدُ بِمَاءٍ زاد يوحنا المعمدان على ذلك في بعض الأحيان قوله «هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَنَارٍ» (ع ٣٣ ومتّى ٣: ١١).

فِي وَسَطِكُمْ قَائِمٌ أي هو الآن بينكم في الأرض اليهودية. ومعنى ذلك أن المسيح قد أتى وأن يوحنا يفعل ما يفعله بسلطانه. ويظهر من الآية التاسعة أن المسيح لم يكن قدام يوحنا عند هذا الكلام.

ٱلَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ اي لم تتحققوا أنه المسيح.

٢٧ «هُوَ ٱلَّذِي يَأْتِي بَعْدِي، ٱلَّذِي صَارَ قُدَّامِي، ٱلَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقٍّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ».

ع ١٥ و٣٠ وأعمال ١٩: ٤

هُوَ ٱلَّذِي يَأْتِي أشار بهذا إلى شهادته السابقة في ع ١٥.

أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ كان الحذاء يومئذ نعلاً يربط إلى الرجل بسيور من جلد. وكان حل تلك السيور من الأعمال الخاصة بالعبيد (انظر الشرح متّى ٣: ١١).

أثبت يوحنا المعمدان بما ذُكر ثلاثة أمور:

  • الأول: أن المسيح قد أتى.
  • الثاني: أن الناس جهلوه.
  • الثالث: أنه عظيم جداً. وأظهر فوق ذلك وفرة تواضعه فإنه حسب شهادة المسيح لم «يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان». ومع ذلك لم يحسب نفسه أهلاً لأن يخدم المسيح كعبد. وفي ذلك مثالاً لكل خدم الدين فعلى كل منهم أن يقتدي به في التواضع.

٢٨ «هٰذَا كَانَ فِي بَيْتِ عَبْرَةَ فِي عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ حَيْثُ كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ».

قضاة ٧: ٢٤ وص ١٠: ٤٠

فِي بَيْتِ عَبْرَةَ معنى هذا الاسم في الأصل معبر النهر وهو محل على شاطئ الأردن لم يتحقق مركزه والأرجح أنه غير بعيد عن أريحا. والشهادة التي أداها يوحنا هنالك لا ريب في أنه أداها مراراً كثيرة قبل أن عمّد المسيح كما في (لوقا ٣: ١٦) وبعد ذلك كما هنا.

٢٩ «وَفِي ٱلْغَدِ نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ، فَقَالَ: هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ».

خروج ١٢: ٣ وإشعياء ٥٣: ٧ وع ٣٦ وأعمال ٨: ٣٢ و١بطرس ١: ١٩ ورؤيا ٥: ٦ الخ إشعياء ٥٣: ١١ و ١كورنثوس ١٥: ٣ وغلاطية ١: ٤ وعبرانيين ١: ٣ و٢: ١٧ و٩: ٢٨ و١بطرس ٢: ٢٤ و٣: ١٨ و١يوحنا ٢: ٢ و٣: ٥ و٤: ١٠ ورؤيا ١: ٥

فِي ٱلْغَدِ أي غد اليوم الذي أدى شهادته فيه قدام لجنة اليهود التي أُرسلت من أورشليم.

نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ ذهب يسوع بعد ما عُمّد إلى البرية لكي يُجرب وبقي هنالك أربعين يوماً والوقت المذكور هنا هو الزمن الذي رجع فيه من البرية أو بعده بقليل. وأتى وقتئذ بغية أن يعطي يوحنا فرصة ليشهد له. ولعل يوحنا كان في تلك المدة يتأمل في نبوات العهد القديم المتعلقة بالمسيح من جهة كونه عرضة للمصائب وحمل آثام البشر ولا سيما النبوة المذكورة في ص ٥٣ من إشعياء حتى استعد أن يؤدي الشهادة للمسيح على الوجه الذي أداها عليه.

فَقَالَ الأرجح أنه قال ذلك على مسامع الجمع الذي اجتمع إليه.

هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ تشير تسمية المسيح حملاً إلى كونه ذبيحة الخطية وأنه المرموز إليه بكل الذبائح التي قُدمت في العهد القديم كفارة عن الإثم. فإن الحملان أكثر ما تُقدم لذلك (لاويين ٥: ٦) والمسيح هو الحمل الحق المشار إليه بخروف الفصح ( ١كورنثوس ٥: ٧) وهو تمم نبوءة إشعياء المذكورة في ص ٥٣ ولا سيما الآية السابقة من ذلك الأصحاح وهي قوله «كشاة تساق إلى الذبح» (انظر أيضاً رومية ٥: ٦ و١٣: ٨) ولاق بالمسيح أن يكون ذبيحة لأنه كان «حَمَلاً بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ» (١بطرس ١: ١٩).

وهو «حمل الله» لأربعة أسباب:

  • الأول: تعيين الله إياه منذ الأزل ذبيحة إثمٍ.
  • الثاني: وعد الله بأنه يكون كذلك في النبوءات والرموز التي هو عيّنها.
  • الثالث: إرسال الله إياه من السماء إلى العالم ليكون ذبيحة فاستحق أن يسمى حمل الله تمييزاً له عن سائر الحملان التي هي حملان الناس (رومية ٣: ٢٥ و٨: ٣٢).
  • الرابع: قبول الله إياه ذبيحة إثم بدل عالم الأثمة.

ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ أي يصنع كفارة تامة عن الخطية (١يوحنا ٢: ١٢ وعبرانيين ٩: ٢٦). وأفرد الخطية هنا باعتبار أن كل خطايا العالم جُعلت حملاً واحداً ليحمله المسيح.

وهو رفع عن الناس (الذين يريدون) أولاً الخطية الأصلية والخطية الفعلية.

ثانياً: جرم الخطية وقصاصها.

ثالثاً: دنس الخطية وسلطتها عليهم. وقد رفعها عن غيره بوضعه إياها على نفسه وفق نبوءة إشعياء وهي قوله «جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ … وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا» (إشعياء ٥٣: ١٠ و١١) وقول الرسول «ٱلَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى ٱلْخَشَبَةِ» (١بطرس ٢: ٢٤). وهو يرفع خطايا العالم أيضاً بشفاعته على يمين الآب في الخطأة المؤمنين به.

ٱلْعَالَمِ أي كل البشر لا اليهود فقط كما زعموا أن يفعل المسيح المنتظر. ومعنى «حمل المسيح خطية» العالم تقديمه ذبيحة تجعل خلاص كل البشر ممكناً. والفداء الذي قام به كاف للجميع وما افتقر إليه الكل. وقدم ذلك الفداء مجاناً لكل إنسان بدليل قول الرسول «إِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ» (٢كورنثوس ٥: ١٩) وقول الآخر «وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ ٱلْعَالَمِ أَيْضاً» (١يوحنا ٢: ٢) ومع هذا كله لم يقبله العالم كله فالذين استفادوا بذلك (من الراشدين) إنما هم المؤمنون به.

ألهم الروح القدس يوحنا أن يوضح عمل المسيح على ما ذُكر خلافاً لزعم اليهود في ذلك العمل. وفاق يوحنا جميع الرسل بمعرفته أن المسيح ذبيحة الإثم إلا بعد قيامة يسوع وحلول الروح القدس عليهم ودعا اليهود إلى مشاهدة المسيح بعيون أجسادهم وعيون أرواحهم المصدقة شهادته بقوله «هوذا حمل الله». فعلنيا أن ننظره بعين العبادة والشكر والمحبة والإيمان لخلاصنا الآن وتعزيتنا عند الموت وتمجيدنا في السماء.

٣٠ «هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي قُلْتُ عَنْهُ يَأْتِي بَعْدِي، رَجُلٌ صَارَ قُدَّامِي، لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي».

ع ١٥ و٢٧

أشار بهذا إلى شهادة أدّاها قبلاً ع ١٥ وكان قد أشار إليه أنه الآتي وهنا عينه حسياً وهو في الحضرة قائلاً «هذا هو».

٣١ «وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ. لٰكِنْ لِيُظْهَرَ لإِسْرَائِيلَ لِذٰلِكَ جِئْتُ أُعَمِّدُ بِٱلْمَاءِ».

ملاخي ٣: ١ ومتّى ٣: ٦ ولوقا ١: ١٧ و٧٨ و٣: ٣ و٤

وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ قصد يوحنا بهذه الكلمات أن يبيّن لليهود أن شهادته بأن يسوع هو المسيح مبنية على إعلان الله لا على معرفته الشخصية به. ولا ريب أنه سمع خبر ولادة المسيح غير المعتادة وأنباء حكمته وجودته فحمله ذلك على أن يقول له يوم أتاه ليعتمد منه «أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ»» (متّى ٣: ١٤). وقوله «لم أكن أعرفه» لم يقصد أن يجهله كل الجهل إنما قصد أنه لم يعرفه المعرفة التامة المعلنة من الله التي تقدره على تأدية الشهادة الصريحة العامة وأنه لم يكن له سلطان على التصريح قبل نزول العلامة الموعود هو بها من السماء. ونستنتج مما قيل هنا مع القرابة بين أم يسوع وأم يوحنا (لوقا ١: ٣٦) أن الله قضى بأن لا يجتمع يوحنا بيسوع قبل معموديته إذ سكن أحدهما في الناصرة والآخر في البرية قرب حبرون (لوقا ١: ٨٠) وغاية الله من ذلك دفع توهم الناس سبق مؤامرة بين يسوع ويوحنا.

لٰكِنْ لِيُظْهَرَ لإِسْرَائِيلَ الخ أي ليظهر أن يسوع هو المسيح فلم ينكر يوحنا أنه أتى ليبشر بالتوبة ويعمد بالماء إشارة إلى التطهير الروحي وأنه يهيء بما أتاه الطريق للمسيح إنما صرح بأن تقديم هذه الشهادة أمر جوهري في مرسليته.

٣٢ «وَشَهِدَ يُوحَنَّا: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ ٱلرُّوحَ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَٱسْتَقَرَّ عَلَيْهِ».

متّى ٣: ١٦ ومرقس ١: ١٠ ولوقا ٣: ٢٢ وص ٥: ٣٢

انظر الشرح متّى ٣: ١٦ ومرقس ١: ١٠ و١١.

فَٱسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أي بقي عليه مدة وهو إشارة إلى أن الروح مكث فيه.

٣٣ «وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ، لٰكِنَّ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي لأُعَمِّدَ بِٱلْمَاءِ، ذَاكَ قَالَ لِي: ٱلَّذِي تَرَى ٱلرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرّاً عَلَيْهِ، فَهٰذَا هُوَ ٱلَّذِي يُعَمِّدُ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ».

لوقا ٣: ٢، متّى ٣: ١١ وأعمال ١: ٥ و٢: ٤ و١٠: ٤٤ و١٩: ٦

هذا تكرير ما قيل في آخر العدد ٣١ وكُرر للتأكيد والأيضاح. ويوحنا لم يستنتج من نفسه أن حلول الروح القدس على يسوع علامة كونه المسيح لأن تلك العلامة وتعيين المراد بها كليهما من الله إذ أوحى إليه تعالى أن يعطيه علامة بها يعرف المسيح ويكون له سلطان إلهي على أن يشهد له.

ويُستفاد من هذا العدد أربعة أمور:

  • الأول: أن الله أمر يوحنا أن يعمد.
  • الثاني: أنه وعده بأن يعرّفه بالمسيح.
  • الثالث: أن يعيّنه له بالعلامة.
  • الرابع: أنه أمره بالشهادة للمسيح.

يُعَمِّدُ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ هذا عمل يسوع الخاص وهو مميز عن معمودية يوحنا التي هي معمودية الماء المشيرة إلى معمودية الروح (إشعياء ٦١: ١ ولوقا ٤: ١٨). وبهذه المعمودية يهب المسيح حياة روحية لنفس الإنسان المؤمن به.

٣٤ «وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هٰذَا هُوَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ».

هذا تأكيد وتقرير فكأنه قال رأيت جلياً وأيقنت كل الإيقان ومنذ ذلك شهدت علانية أن يسوع هو المسيح الكلمة المتجسد لا ابن مريم فقط بل ابن الله الحي أيضاً. ومما حققه أن لا أحد يُعمد بالروح القدس ويهب للناس المواهب الروحية ما لم يكن هو الله. وعلم أنه ابن الله أيضاً بسمعه شهادة الآب له (متّى ٣: ١٧).

٣٥ «وَفِي ٱلْغَدِ أَيْضاً كَانَ يُوحَنَّا وَاقِفاً هُوَ وَٱثْنَانِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ».

هذه شهادة ثالثة خاصة أدّاها يوحنا. الأولى للجنة الفريسية والثانية للجمع الذي حضر وعظه والثالثة وهي المذكورة هنا لبعض تلاميذه.

وَفِي ٱلْغَدِ أَيْضاً أي في غد اليوم الذي فيه أدى شهادته للجمع وهو اليوم الثالث من تأدية شهادته لتلك اللجنة.

كَانَ يُوحَنَّا وَاقِفاً الأرجح أنه وقف في ساحة بيت عبرة حيث اعتاد أن يقف ويبشّر.

وَٱثْنَانِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ لنا أن نظن أنه كان له تلاميذ كثيرين. وكان أحد المذكورين هنا أندراوس (ع ٤٠) ولا ريب في أن الآخر يوحنا كاتب هذه البشارة. ولم يذكر اسمه جريا على عادته وإنما كان يشير إلى نفسه بما يعيّنه (ص ١٣: ٣٣ و١٨: ١٥ و١٩: ٢٦ و٢٠: ٣ و٢١: ٢٠).

٣٦ «فَنَظَرَ إِلَى يَسُوعَ مَاشِياً، فَقَالَ: هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ».

ع ٢٩

فَنَظَرَ إِلَى يَسُوعَ تفرس فيه قصد الإيماء إليه كما لو أشار إليه بغية أن يوجه نظر التلميذين إليه.

مَاشِياً أي ماراً بين بقية الناس غير معروف ولا مكرم.

فَقَالَ: «هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ» اقتصر على ذلك دون تفسيره لأنه فسره قبل ذلك بيوم. ولم يكن هذا الكلام مجرد شهادة للمسيح بل دعوة للتلميذين إلى اتباعه أيضاً. والأرجح أن هذين التلميذين سمعا ذلك القول في اليوم الأول وأثر فيهما وسمعهما إياه ثانية حملهما على أن يتبعا المسيح.

إتيان بعض تلاميذ المعمدان إلى يسوع ع ٣٧ إلى ٥١

٣٧ «فَسَمِعَهُ ٱلتِّلْمِيذَانِ يَتَكَلَّمُ، فَتَبِعَا يَسُوعَ».

فَتَبِعَا يَسُوعَ لا بمعنى أنهما تركا كل شيء وصارا له تلميذين كما فعلا بعدئذ (لوقا ٥: ١٠ و١١) ولكنهما اقتفياه.

٣٨ «فَٱلْتَفَتَ يَسُوعُ وَنَظَرَهُمَا يَتْبَعَانِ، فَقَالَ لَهُمَا: مَاذَا تَطْلُبَانِ؟ فَقَالاَ: رَبِّي، (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ) أَيْنَ تَمْكُثُ؟».

متّى ٣: ٧ و٨

مَاذَا تَطْلُبَانِ علم يسوع أفكارهما ومقاصدهما أحسن معرفة وإنما سألهما هذا السؤال ليشجعهما ويمهّد لهما طريق المعرفة والمحادثة فالظاهر أنهما تبعاه ولم يجسرا على مخاطبته.

رَبِّي، (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ) تفسير يوحنا لهذه الكلمة من الأدلة على أنه لم يكتب بشارته في اليهودية أو للعبرانيين فقط. ودعوة التلميذين يسوع «يا معلم» دليل على إرادتهم أن يعلمهما.

أَيْنَ تَمْكُثُ أظهرا بهذا السؤال إرادتهما أن يواجهوه على انفراد في بعض أوقات المستقبل لأجل المحادثة.

٣٩ «فَقَالَ لَهُمَا: تَعَالَيَا وَٱنْظُرَا. فَأَتَيَا وَنَظَرَا أَيْنَ كَانَ يَمْكُثُ، وَمَكَثَا عِنْدَهُ ذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ. وَكَانَ نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلْعَاشِرَةِ».

تَعَالَيَا وَٱنْظُرَا هذه دعوة لهما أن يأتيا إليه في الحال.

أَيْنَ كَانَ يَمْكُثُ كان منزله الوقتي في بيت عبرة.

نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلْعَاشِرَةِ أي قبل المغرب بساعتين ولأن ما بقي من النهار كان غير كاف للمخاطبة شغلا بخطابه الوقت ما بين المغرب والنوم وباتا عنده.

٤٠ «كَانَ أَنْدَرَاوُسُ أَخُو سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَاحِداً مِنَ ٱلاَثْنَيْنِ ٱللَّذَيْنِ سَمِعَا يُوحَنَّا وَتَبِعَاهُ».

متّى ٤: ١٨

ذُكر اسم أحدهما وهو أندراوس الذي صار تلميذاً للمسيح قبل بطرس وأما التلميذ الآخر فاتفق كل المفسرين على أنه يوحنا الرسول لأنه لم يذكر اسمه قط في إنجيله ولما كان يريد أن يسند أمراً إلى نفسه كما حدث في سبع أوقات غير هذا اتى ذلك بإشارة تعيّنه. ولم يفعل ذلك إلا تواضعاً (ص ١٣: ٣٣ و١٩: ٢٦ و٣٥ و٢٠: ٢ – ٨ و٢١: ٧ و٢٠ و٢٤).

أما أندراوس وسمعان وبطرس فقد مر الكلام عليهما في الشرح (متّى ١٠: ٢). ولم يذكر يوحنا اسم بطرس قبلاً في بشارته ولكنه كتب ما يتعلق به كان كل قارئ لبشارته يعرفه.

٤١ «هٰذَا وَجَدَ أَوَّلاً أَخَاهُ سِمْعَانَ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ وَجَدْنَا مَسِيَّا (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: ٱلْمَسِيحُ)».

ص ٤: ٢٥

أَوَّلاً لم يتضح ما هو معنى هذه الكلمة هنا فذهب البعض أنهما تركا المسيح وقتاً قصيراً ووجدا بطرس ثم رجعا معه إلى المسيح. وذهب آخر إلى أن أندراوس ويوحنا ذهبا ليفتشا عن بطرس في طريقين مختلفتين وأن أندراوس وجده أولاً لأنه أخوه فيعرف أين يوجد. وظن غيره أن كل واحد منهما ذهب لكي يجد أخاه أي أن أندراوس ذهب ليجد بطرس ويوحنا ذهب ليجد يعقوب فنجح أندراوس في مقصده أولاً.

قَدْ وَجَدْنَا هذا هتاف الفرح وهو كهتاف من وجد كنزاً ثميناً. وفيه إشارة إلى أنه كان يفحص بانتباه عن نبوات العهد القديم المتعلقة بالمسيح ليعرف على من تصدق. وأنه كان متوقعاً مجيء المسيح الذي انتظره العالم أربعين قرناً. وما قاله هنا نتيجة مخاطبته ليسوع وتصديقه أنه المسيح فلا يستطيع أحد أن يقول «وجدت المسيح» ما لم يكن المسيح نفسه قد وجده قبلاً بروحه (متّى ١٨: ١١ و١٢).

مَسِيَّا (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: ٱلْمَسِيحُ) يدل هذا التفسير على أن يوحنا الإنجيلي لم يكتب لمجرد إفادة اليهود الذين لم يكونوا في حاجة إلى هذا التفسير. ومعنى المسيح ممسوح من الروح القدس ليكون نبياً وكاهناً وملكاً (أعمال ١٠: ٣٨).

شهد يوحنا المعمدان بأنه «حمل الله» وبأنه «ابن الله» أما أندراوس فعرف أن يسوع هو المسيح إما استنتاجاً من عبارتي يوحنا المذكورتين وإما تحققاً مما سمعه من يسوع نفسه. فعلينا جميعاً أن نقتدي بأندراوس ونجتهد في إرشاد غيرنا إلى المسيح لنفع نفوسهم.

٤٢ «فَجَاءَ بِهِ إِلَى يَسُوعَ. فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَقَالَ: أَنْتَ سِمْعَانُ بْنُ يُونَا. أَنْتَ تُدْعَى صَفَا (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: بُطْرُسُ)».

متّى ١٦: ١٨ وص ٢: ٢٥

الأرجح أن ذينك الأخوين كانا قد تكلما ملياً في شأن المسيح وأن كلا منهما كان مثل الشيخ «المنتظر تعزية إسرائيل» (لوقا ٢: ٢٥).

نَظَرَ إِلَيْهِ لم يقتصر على التفرس في وجهه بل كان يرى خفايا قلبه أيضاً فعلم كيف يكون بعد وسماه اسماً يشير إلى صفاته وعمله حين يصير رسولاً.

أَنْتَ سِمْعَانُ أي السامع.

تُدْعَى صَفَا أي صخراً وهو ترجمة بطرس في السريانية ولقبه بذلك إشارة إلى شجاعته وثباته فهو إنباء من المسيح بصفات بطرس في المستقبل. وفي الكتاب المقدس وقع تغيير الاسم من الله دليلاً على منح مواهب أو مواعيد جديدة كتبديل ساراي بسارة وأبرام بإبراهيم (تكوين ١٧: ٥) ويعقوب بإسرائيل (تكوين ٣٢: ٢٨). ودل المسيح بعد مدة على سبق هذا التغيير (متّى ١٦: ١٨). وما حدث هنا بين المسيح والأخوين استعداد لدعوته إياهما بعدئذ في الجليل ليكونا تلميذين ورسولين (متّى ٤: ١٨ – ٢٤).

٤٣ «فِي ٱلْغَدِ أَرَادَ يَسُوعُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى ٱلْجَلِيلِ، فَوَجَدَ فِيلُبُّسَ فَقَالَ لَهُ: ٱتْبَعْنِي».

فِي ٱلْغَدِ أي اليوم الرابع بعد شهادة المعمدان للجنة اليهود ع ١٩.

أَرَادَ يَسُوعُ أَنْ يَخْرُجَ أي قصد الذهاب أو عزم عليه.

فَوَجَدَ فِيلُبُّسَ أي وجده على وشك السفر وهو لم يزل في اليهودية.

فَقَالَ لَهُ: ٱتْبَعْنِي لعل فيلبس فهم من هذا ان يرافقه إلى الجليل فقط ولكن يسوع علم أن نتيجة هذه المرافقة اتباعه إياه قلبياً إلى الأبد ومشاركته له في حمل صليبه وليس إكليله. ولا بد من أن يسوع رأى في قلب فيلبس استعداداً لتلبية هذه الدعوة قبل أن دعاه ولا ريب في أن ذلك الاستعداد فعل روح الله.

٤٤ «وَكَانَ فِيلُبُّسُ مِنْ بَيْتِ صَيْدَا، مِنْ مَدِينَةِ أَنْدَرَاوُسَ وَبُطْرُسَ».

ص ١٢: ٢١

بَيْتِ صَيْدَا انظر الشرح مرقس ٦: ٤٥ ولوقا ٩: ١٠.

٤٥ فِيلُبُّسُ وَجَدَ نَثَنَائِيلَ وَقَالَ لَهُ: وَجَدْنَا ٱلَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي ٱلنَّامُوسِ وَٱلأَنْبِيَاءُ: يَسُوعَ ٱبْنَ يُوسُفَ ٱلَّذِي مِنَ ٱلنَّاصِرَةِ».

ص ٢١: ٢، تكوين ٣: ١٥ و١٧: ٧ و٢٢: ١٨ و٤٩: ١٠ وتثنية ١٨: ١٨ ولوقا ٢٤: ٢٧، إشعياء ٤: ٢ و٧: ١٤ و٩: ٦ و٥٣: ٢ وميخا ٥: ٢ وزكريا ٦: ١٢ و٩: ٩، متّى ٣: ٢٣ ولوقا ٢: ٤

نَثَنَائِيلَ لفظة عبرانية معناها عطية الله وهو من قانا الجليل ص ٢١: ٢ والأرجح أنه برثولماوس المذكور في متّى ١: ٣ (فارجع إلى الشرح هناك) وبرثولماوس كنيته لا اسمه ومعناه ابن ثولماوس ولفظه العبراني «بن تلماي».

أظهر فيلبس الرغبة في إرشاد غيره إلى المسيح كما فعل أندراوس.

كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى أشار خاصة إلى وعد الله لإبراهيم (تكوين ١٧: ٧) وليعقوب (تكوين ٥٩: ١٠) ولرموز الطقوس والذبائح الموسوية ولا سيما ما كتُب في تثنية الاشتراع ١٨: ١٥.

وَٱلأَنْبِيَاءُ في أماكن كثيرة.

ِيَسُوعَ ٱبْنَ يُوسُفَ ٱلَّذِي مِنَ ٱلنَّاصِرَة تكلم حسب زعم الناس وكلامهم العام ولم يكن قد عرف حينئذ إلا بعض الحق من جهة المسيح فقال البشير الذي قاله فيلبس لا الذي كان يجب أن يعرفه من أمره ويقوله فيه.

٤٦ «فَقَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ: أَمِنَ ٱلنَّاصِرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ صَالِحٌ؟ قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ: تَعَالَ وَٱنْظُرْ».

ص ٧: ٤١ و٤٢ و٥٢

أَمِنَ ٱلنَّاصِرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ صَالِحٌ معنى الصالح هنا أمر جليل ومشهور.

كانت الناصرة قرية حقيرة في الجليل وكانت الجليل عينها أقل اعتباراً من سائر أرض فلسطين وليس للناصرة من ذكر في العهد القديم انظر الشرح (متّى ٢: ٢٣) واستفهام نثنائيل يراد به التعجب والشك لا الاستخبار فكأنه قال من العجب أن تكون هذه القرية الصغيرة مولد المسيح النبي والملك العظيم والنبوءة تصرح بكون مولده بيت لحم لا الناصرة. وقال آخرون بعد ذلك مثل قول نثنائيل هنا «أَلَعَلَّ ٱلْمَسِيحَ مِنَ ٱلْجَلِيلِ يَأْتِي؟ أَلَمْ يَقُلِ ٱلْكِتَابُ إِنَّهُ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ، وَمِنْ بَيْتِ لَحْمٍ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَ دَاوُدُ فِيهَا يَأْتِي ٱلْمَسِيحُ؟» (ص ٧: ٤١ و٤٢).

تَعَالَ وَٱنْظُرْ سلك فيلبس أحسن طريق لإزالة شكوك نثنائيل فلم يجادله في الدعوى بل دعاه ليرى يسوع بعينيه ويفحص عن الحق فكأنه قال له أنا أتيت ونظرت وصدقت فتعال أنت وافعل كما فعلت.

٤٧ «وَرَأَى يَسُوعُ نَثَنَائِيلَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ، فَقَالَ عَنْهُ: هُوَذَا إِسْرَائِيلِيٌّ حَقّاً لاَ غِشَّ فِيهِ».

مزمور ٣٢: ٢ و٧٣: ١ وص ٨: ٣٩ ورومية ٢: ٢٨ و٢٩ و٩: ٦

وَرَأَى يَسُوعُ نَثَنَائِيلَ أي نظر وجهه ونفسه ايضاً كما رأى بطرس ع ٤٢ وكما عرف كل ما يتعلق بالمرأة السامرية (يوحنا ٤: ١٧ و١٨). ووجه المسيح كلامه إلى كل الناس الواقفين حوله.

إِسْرَائِيلِيٌّ حَقّاً معنى إسرائيلي في الأصل جندي الله وصفات نثنائيل كانت موافقة لهذا الاسم فعنى المسيح أنه صادق وتقيٌّ. ولم يقصد المسيح بذلك أن نثنائيل كان بلا خطية لأنه ليس كذلك إلا واحد (١بطرس ٢: ٢).

لاَ غِشَّ فِيهِ هذا تفسير لقوله «إسرائيلي حقاً».

٤٨ «قَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُنِي؟ أَجَابَ يَسُوعُ: قَبْلَ أَنْ دَعَاكَ فِيلُبُّسُ وَأَنْتَ تَحْتَ ٱلتِّينَةِ، رَأَيْتُكَ».

مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُنِي سمع نثنائيل قول المسيح فيه وشعر بأنه حق فقال هذا عجباً وحيرة من علم المسيح وهو لم يعرفه ولم يواجهه إلا في تلك الدقيقة وما ذلك إلاّ لأنه لم يعرف قوة المسيح الفائقة الطبيعة لمعرفة القلوب فأبان ذلك له المسيح بجوابه.

وَأَنْتَ تَحْتَ ٱلتِّينَةِ، رَأَيْتُكَ تقتضي القرينة أن محل التينة لم يكن من هناك ويلزم منها أنه حدث لنثنائيل حادثة ذات شأن تحت تلك الشجرة حتى خصها المسيح بالذكر ولعله كان يصلي هنالك أو يعترف بإثم أو ينذر نذراً فإشارة المسيح إلى تلك الحادثة أقنعت نثنائيل إقناعاً تاماً أن للمسيح معرفة خارقة العادة وبمثل هذا اقتنعت المرأة السامرية أن الذي كان يخاطبها هو المسيح ص ٤: ١٩ و٢٩.

ولم يعن المسيح بقوله «رأيتك» أنه نظره بالعين الجسدية بل بتلك العين التي يرى بها كل ما في السماء وما على الأرض.

٤٩ «فَقَالَ نَثَنَائِيلُ: يَا مُعَلِّمُ، أَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!».

متّى ١٤: ٣٣، متّى ٢١: ٥ و٢٧: ١١ و٤٢ وص ١٨: ٣٧ و١٩: ٣

أَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ قال فيلبس أنه ابن يوسف ولكن نثنائيل تحقق أن الذي يعرف ما عرفه يسوع لا يكون إلا إلهاً وسماه ابن الله فمعرفته الفائقة الطبيعة هي المعجزة التي انقاد بها إلى التسليم بصحة دعواه الإلهية.

مَلِكُ إِسْرَائِيلَ! عُرف المسيح المنتظر عند اليهود بابن الله باعتبار نسبته إلى الآب وبملك إسرائيل باعتبار نسبته إلى شعب الله المختار فيكون نثنائيل قد أقرّ بأن يسوع هو المسيح. فكأنه قال أنت عرفتني إسرائيلياً وأنا عرفتك ملك إسرائيل واتخذتك ملكاً لي.

نرى أن نثنيائيل آمن في الحال إيماناً وطيداً والدليل على ذلك أنه في أول مشاهدته يسوع خاطبه بدون لقب يدل على الاحترام (ع ٣٨) ولكنه بعد قليل سماه معلماً وابن الله وملك إسرائيل.

٥٠ «أَجَابَ يَسُوعُ: هَلْ آمَنْتَ لأَنِّي قُلْتُ لَكَ إِنِّي رَأَيْتُكَ تَحْتَ ٱلتِّينَةِ؟ سَوْفَ تَرَى أَعْظَمَ مِنْ هٰذَا!».

مدحه يسوع لأنه آمن به ولم يقف على سوى برهان واحد على قوته الإلهية.

سَوْفَ تَرَى أَعْظَمَ مِنْ هٰذَا هذا جزاء ما أظهره من الإيمان وهو أنه يرى معجزات كثيرة على توالي الأوقات لكي تزيد ثقته بأن يسوع هو المسيح ابن الله. وهذا من الأدلة على أن نثنائيل كان بعد ذلك ممن انتخبهم يسوع رُسلاً مع أنه لم يذكر بينهم بهذا الاسم.

٥١ «وَقَالَ لَهُ: ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ ٱلآنَ تَرَوْنَ ٱلسَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَمَلاَئِكَةَ ٱللّٰهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ».

إشعياء ٦٤: ١ وحزقيال ١: ١ وملاخي ٣: ١٠، تكوين ٢٨: ١٢ ودانيال ٧: ١٣ ومتّى ٤: ١١ ولوقا ٢: ٩ و١٣ و٢٢: ٤٣ و٢٤: ٤ وأعمال ١: ١٠

ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ هذا التكرار للتوكيد والإيماء إلى أهمية ما بعده ولم يروهِ أحد من الإنجيليين سوى يوحنا وذكره في إنجيله خمساً وعشرين مرة.

أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ ٱلآنَ تَرَوْنَ كان أول الخطاب لنثنائيل وحده ثم شمل بقية التلاميذ بما وعده به.

ٱلسَّمَاءَ مَفْتُوحَةً لعل المسيح أشار هنا إلى مجيئه بالمجد في اليوم الأخير الذي سيكون أعظم برهان على لاهوته كما ذكر في (متّى ٢٦: ٥٤ وأعمال ٧: ٥٦) والأرجح أن كلامه هنا مجاز بُني على ما رآه يعقوب في الحلم (تكوين ٢٨: ١٠ – ١٧) ومعناه أنه يصير بواسطة المسيح اتصال دائم بين السماء والأرض أي بين الله والإنسان ليحصل الإنسان على النعمة والمعونة والإرشاد. وورد انفتاح السماء بهذا المعنى في (إشعياء ٦: ١ و٦٤: ١ و٦ وحزقيال ١: ١ وملاخي ٣: ١٠) وكان انفتاح السماء كذلك عند معمودية المسيح (متّى ٢: ١٦) وعند صعوده (أعمال ١: ٩) فكما كان نزول الملائكة وصعودهم على السلم الذي رآه يعقوب في الحلم وعداً له بالحماية السماوية والعناية الإلهية على الدوام كذلك وُعد التلاميذ بالمسيح الذي هو بمنزلة ذلك السلم بالاتصال بين الله والإنسان (كولوسي ١: ٢٠) وأنه بواسطته تصعد من الأرض إلى السماء التضرعات والتسبيحات والصلوات وتنزل منها إلى الأرض البركات والمواهب الروحية وأن الله يرسل ملائكته إلى الناس برسائل المحبة والعناية والحفظ والتعزية (أعمال ١٢: ٧ و٢٧: ٢٣ وعبرانيين ١: ١٤ ورؤيا ٨: ٣ و٤).

عَلَى ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ هذا كنية المسيح وهي مبنية على ما قيل في (دانيال ٧: ١٣) فتكنى به المسيح في البشائر نحو ثمانين مرة ولم يستعمله أحد من كتبة العهد الجديد إلا من لفظه أو مما نُقل من كلماته سوى أن استفانوس استعمله مرة في أثر خطابه ويوحنا مرتين في سفر الرؤيا. وعنى المسيح به الكلمة متجسداً وأنه إنسان تام (كما أنه إله تام) ونائب البشر وآدم الثاني ونسل المرأة الذي يسحق رأس الحية (تكوين ٣: ١٥) انظر تفسير ذلك في الشرح (متّى ٨: ١٨ و٢٠ ولوقا ٥: ٢٤).

ورد في هذا الأصحاح تسعة عشر اسماً للمسيح: (١) الكلمة. (٢) الله. (٣) الحياة. (٤) النور. (٥) النور الحقيقي. (٦) وحيد الآب. (٧) المملوءة نعمة وحقاً. (٨) يسوع المسيح. (٩) جسد. (١٠) رب. (١١) حمل الله. (١٢) يسوع. (١٣) إنسان. (١٤) ابن الله. (١٥) ربي أو معلم. (١٦) المسيح. (١٧) يسوع الناصري ابن يوسف. (١٨) ملك إسرائيل. (١٩) ابن الإنسان.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى