شرح رسالة يعقوب | 04 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح رسالة يعقوب
للدكتور . وليم إدي
اَلأَصْحَاحُ ٱلرَّابِعُ
قابل يعقوب في الأصحاح الثالث الحكمة التي هي من فوق بالحكمة الكاذبة التي قال إنها «أرضية نفسانية شيطانية» (ص ٣: ١٣ – ١٨). وأبان في هذا الأصحاح نتائج الحكمة السماوية إثباتاً لأفضلية الحكمة الحقيقية التي هي الديانة القلبية. وفيه نصائح وإنذارات ليكف من كُتبت إليهم عن الحروب والخصومات ويهربوا من الشهوات العالمية والأهواء الجسدية المؤدية إلى ذلك. وتلك الخصومات تنشأ عن ترك الصلاة إذ يحدث من تركها أنهم لا يحصلون على ما يبتغون (ع ١ و٢). وإنهم إن صلوا لا ينالون ما يطلبون لأن غاياتهم نفسية (ع ٣). وإن محبة العالم من نتائج الحكمة الدنيوية وكذا الحسد (ع ٤ و٥). والتصريح بأن الله يقاوم المتكبرين وينعم على المتواضعين (ع ٦). وإنه يجب عليهم أن يقاوموا إبليس (ع ٧). وإن يقتربوا إلى الله وأن ينقوا قلوبهم وأيديهم (ع ٨) وأن ينوحوا على خطاياهم ويتقوا الله (ع ٩). وأن يتضعوا أمامه تعالى لكي يرفعهم (ع ١٠). وأن لا يذموا أحداً لئلا يدينوا الناس وهم يذمون إخوتهم (ع ١١ و١٢). وتوبيخه إياهم على زيادة أمانيهم في المستقبل وإنباؤه إياهم بأن حياة الإنسان قصيرة غير محققة البقاء وإنه يجب عليهم أن يقروا أنهم مفتقرون إلى الله للنجاح في العالم والبناء في الحياة (ع ١٣ – ١٦). وختام كلامه بقوله «مَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَناً وَلاَ يَعْمَلُ، فَذٰلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ» (ع ١٧).
تحذير من الحروب والخصومات والشهوات الجسدية التي تنشئها ع ١ إلى ٣
١ «مِنْ أَيْنَ ٱلْحُرُوبُ وَٱلْخُصُومَاتُ بَيْنَكُمْ؟ أَلَيْسَتْ مِنْ هُنَا: مِنْ لَذَّاتِكُمُ ٱلْمُحَارِبَةِ فِي أَعْضَائِكُمْ؟».
تيطس ٣: ٩ ورومية ٧: ٢٣
مِنْ أَيْنَ ٱلْحُرُوبُ وَٱلْخُصُومَاتُ بَيْنَكُمْ؟ تكلم في ما مرّ على السلام التام الذي هو ثمر الحكمة السماوية (ص ٣: ١٨). وقابل ذلك بما هو جار بينهم من منافيات السلام. ولنا من هذا السؤال أنه كان بينهم خصومات شديدة وأحزاب مختلفة في الكنيسة كما كان في خارجها بين اليهود الذين هم أصلهم. فإن يهود ذلك العصر اشتهروا بالمشاجرات حتى بلغوا بها إن عصوا الدولة الرومانية فهدمت مدينتهم.
أَلَيْسَتْ مِنْ هُنَا: مِنْ لَذَّاتِكُمُ ٱلْمُحَارِبَةِ فِي أَعْضَائِكُمْ في هذا السؤال تصريح بأن تلك الخصومات لم تنشأ من محبتهم الحق وغيرتهم على المحاماة عنه بل من الحسد وحب الرياسة والنفس والطمع في الربح الدنيوي واشتهاء اللذات الجسدية. وكل تلك الحروب والخصومات ناشئة عن تلك الأهواء. فالينبوع رديء فما يجري منه كذلك. إن الحروب العظيمة التي حدثت في العالم كحروب اسكندر المقدوني ويوليوس قيصر الروماني وغيره من القدماء وحروب نابوليون الأول في القرن الماضي والحرب العمومية الأخيرة لم تنتج إلا من الطمع في السيادة والاستيلاء والانتقام وربح الأموال والأملاك. والانشقاق في المدن والقرى والكنيسة لم ينشأ إلا عن مثل ذلك. ولكن تأثير الدين المسيحي الآمر بالعدل والصدق ومراعات حقوق الناس ينفي الحروب من الأرض على أن كثيراً من الممالك المسماة مسيحية لا تجري في أمورها السياسية على سنن الإنجيل.
٢ «تَشْتَهُونَ وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ. تَقْتُلُونَ وَتَحْسِدُونَ وَلَسْتُمْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَنَالُوا. تُخَاصِمُونَ وَتُحَارِبُونَ وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ، لأَنَّكُمْ لاَ تَطْلُبُونَ».
١يوحنا ٣: ١٥ وص ٥: ٦
تَشْتَهُونَ وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ هذا تفسير لقوله إن لذاتهم علة الحروب أي رغبتهم في الحصول على ما ليس لهم وزعمهم أنهم ينالون ما يطلبون بلا مراعاة حقوق غيرهم. إن الناس يبتغون الوسائل إلى الترفه والمنافسات والمباهاة والمجد العالمي فإن لم يمكنهم الحصول عليها بوسائل جائزة عزموا على اتخاذها على رغم أربابها. ويغلب أن لا تختلف الحرب عن السرقة إلا بأنها أعظم منها وتقتضي أكثر مما تقتضيه من القوة والدراية. وشهوة الامتلاك تزيد على قدر زيادة الحصول على المطلوب ولا تشبع أبداً بدليل قول بعضهم في اسكندر الكبير أنه بعد أن استولى على كل الممالك المعروفة أسف وبكى على أنه لم يبق ما يفتتحه بسيفه.
تَقْتُلُونَ قد تحمل الرغبة في امتلاك ما للآخرين على القتل حقيقة كما يشهد تاريخ الممالك والأفراد وقصائد الشعراء المنبئة بأعمال الأبطال. فإن أولئك الشعراء افتخروا بكثرة من قتل أولئك الأبطال من الناس. وكثيراً ما قاد الطمع صاحبه إلى تأصيل حب القتل في قلبه لأنه يشتهي موت صاحب المال لكي يغنم ماله ويسره نبأ موته وهذا الاشتهاء لا يفرق عند الله عن القتل إلا قليلاً.
وَتَحْسِدُونَ الأغنياء لأن لهم ما ليس لكم.
وَلَسْتُمْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَنَالُوا بوسائل جائزة. فعدّ أن شهوة الامتلاك مع الحسد تحملهم أن يعتدوا على غيرهم ويهضموا حقوقهم ويختلسوا أموالهم وعلى قتل من يدافع عن حقوقه منهم. ومن أمثلة ذلك ما فعله آخاب وإيزابل ليمتلكا كرم نابوت (١ملوك ٢١: ١ – ١٦). وما فعله داود وهو أنه قتل أوريّا ليأخذ امرأته (٢صموئيل ١٢: ٩ و١٠).
تُخَاصِمُونَ وَتُحَارِبُونَ كذا فعل فرَق اليهود في أورشليم قبل خرابها بقليل كما يُعلم من تاريخ يوسيفوس. وقيل إن يعقوب نفسه كاتب هذه الرسالة قُتل بعد حين بإحدى خصوماتهم. ويهود أورشليم كانوا قد قتلوا المسيح واستفانوس حسداً وطلبوا أن يقتلوا بولس. وقول يعقوب هنا يصدق عليهم وعلى من شاركهم في الانفعالات من المتنصرين منهم.
وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ، لأَنَّكُمْ لاَ تَطْلُبُونَ أي لا تطلبون ذلك في الصلاة كما يُفهم من القرينة. قال المسيح «اِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ» (متّى ٧: ٧ و٨). فمن يسأل الله ما يحتاج إليه حقيقة لنفسه وجسده فله أن يناله بمقتضى هذا الوعد ولكن إذا ترك طلبه بالصلاة ورغب في نيله بقوته من سواه بغير الحق والعدل لم ينله.
٣ «تَطْلُبُونَ وَلَسْتُمْ تَأْخُذُونَ، لأَنَّكُمْ تَطْلُبُونَ رَدِيّاً لِكَيْ تُنْفِقُوا فِي لَذَّاتِكُمْ».
١يوحنا ٣: ٢٣ و٥: ١٤
تَطْلُبُونَ وَلَسْتُمْ تَأْخُذُونَ هذا يبين جهل الذين يحرصون على الشهوات الرديئة أو التوغل فيها لأنها تفسد صلواتهم وتجعلها فارغة. فكثيراً ما تذهب صلوات الناس باطلاً لأنها لغايات نفسية ولا سيما إذا اقترنت بطلب اللعنات لغيرهم وابتغاء مساعدة الله على السعي وراء مقاصد شريرة فإنه تعالى قد يستجيب لهم بغيظ على مقتضى إرادتهم كما فعل لببي إسرائيل في قبروت هتأوة (عدد ١١: ٤ و٣١ و٣٣ ومزمور ١٠٦: ١٥). فالمؤمن حقيقة لا يفتأ يقرن صلواته بما طلبه المسيح فيقول معه «لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ» (لوقا ٢٢: ٤٢). وينزع من قلبه كل انفعالات الخصومات والغضب لكي لا تُعاق صلواته (١تيموثاوس ٢: ٨ و١بطرس ٣: ٩).
لأَنَّكُمْ تَطْلُبُونَ رَدِيّاً من شروط إجابة الله صلواتنا أن تقدم بالإيمان لغاية موافقة لمشيئته وآيلة إلى مجده وإلا فلا حق لنا أن نتوقع أن تُستجاب.
لِكَيْ تُنْفِقُوا فِي لَذَّاتِكُمْ هذا تفسير لقوله «تطلبون ردياً» فإنهم كانوا يصلّون لنيل غايات نفسية وما يرضي أهواء الجسد. فلو طلبوا الضروري من القوت والكسوة لكانوا قد طلبوا حسناً لا ردياً لكنهم طلبوا فوق ذلك وسائل عيش الترفع والتمتع باللذات البدنية.
محبة العالم والحسد من نتائج الحكمة البشرية ع ٤ و٥
٤ «أَيُّهَا ٱلزُّنَاةُ وَٱلزَّوَانِي، أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ مَحَبَّةَ ٱلْعَالَمِ عَدَاوَةٌ لِلّٰهِ؟ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُحِبّاً لِلْعَالَمِ فَقَدْ صَارَ عَدُوّاً لِلّٰهِ».
إشعياء ٥٤: ٥ وإرميا ٢: ٢ وحزقيال ١٦: ٣٢ ومتّى ١٢: ٣٩ وص ١: ٢٧ ورومية ٨: ٧ و١يوحنا ٢: ١٥ ويوحنا ١٥: ١٩ ومتّى ٦: ٢٤
أَيُّهَا ٱلزُّنَاةُ وَٱلزَّوَانِي أتى هنا يعقوب بالعبارات المجازية التي اعتادها كتبة العهد القديم لبيان إثم الذين تركوا عبادة الله الإله الحق وعبدوا الأوثان فعبّر عن خيانة عبيد الله بخيانة المرأة لزوجها (مزمور ٧٣: ٢٧ وإشعياء ٥٤: ٥ وإرميا ٢٢ وحزقيال ص ١٦ و٢٣: ٣٧ – ٤٣ وهوشع ٢: ٢). ويكثر هذا المجاز في العهد الجديد (متّى ١٢: ٣٩ و١٦: ٤ ومرقس ٨: ٣٨ ورؤيا ٢: ٢٠ – ٢٢ و١٧: ١ و٥ و١٥) وشبّه بولس الكنيسة «بعذراء عفيفة مخطوبة للمسيح» (٢كورنثوس ١١: ٢).
إن الله هو رب وبعل لكل نفس متحدة به بالإيمان وبعهد الشفتين وكذلك لكل كنيسة تسمّى باسمه. فله حق أن يغتاظ من كل نفس أو كنيسة تفتر في حبه وتعدل عنه إلى العالم فيحسب ذلك إثماً فظيعاً كالزناء.
أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ مَحَبَّةَ ٱلْعَالَمِ عَدَاوَةٌ لِلّٰهِ؟ أراد «بالعالم» أهله باعتبار كونهم منفصلين عن الله عاصين لمشيئته. وهو على وفق قول المسيح «مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ» (متّى ١٢: ٣٠) و المراد «بمحبة العالم» هنا فرط الرغبة في الدنيويات وشهوة الغنى الأرضي والمجد العالمي وتفضيل هذه الأمور على إرضاء الله ونيل بركاته الروحية. فالمسيحي الحقيقي حين يؤمن بالمسيح يتحد به حتى لا يكون من هذا العالم كما أن مسيحه ليس من العالم (يوحنا ١٧: ١٤ أنظر أيضاً ص ١: ٢٧ و١يوحنا ٢: ١٥). فإذاً يستحيل أن يكون المسيحي بعد ذلك صديق العالميين وشريكهم في مقاصدهم الدنيوية دون أن يغيظ الله الذي هو «إله غيور» (خروج ٢٠: ٥). هذا وإن الله والعالم على غاية المضادة حتى من التصق بأحدهما انفصل عن الآخر.
فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُحِبّاً لِلْعَالَمِ أي من عزم على مصادقة العالم فكراً وإراداة. والفرق بين هذا وما قبله إن هذا بيان أن الميل إلى محبة العالم عداوة لله أيضاً. وهو تصريح بأن الذي يريد محبة العالم يُحسب عدواً لله بالضرورة فإن من يريد محبة العالم هو الذي يتمثل بأهله ويشاركهم في لذاتهم وينال مدحهم فلا بد أن يكون عدواً لله. وكون الإنسان عدواً لله مخيف جداً ويستلزم أنه لا تُجاب صلواته وأن ييأس من نيل السماء. فكثيرون يتوهمون إمكان أن يكونوا أصدقاء الله وأصدقاء العالم معاً وهذه الآية تبين محاليّة ذلك.
٥ «أَمْ تَظُنُّونَ أَنَّ ٱلْكِتَابَ يَقُولُ بَاطِلاً: ٱلرُّوحُ ٱلَّذِي حَلَّ فِينَا يَشْتَاقُ إِلَى ٱلْحَسَدِ؟».
عدد ٢٣: ١٩ و١كورنثوس ٦: ١٩ و٢كورنثوس ٦: ١٦
أَمْ تَظُنُّونَ أَنَّ ٱلْكِتَابَ يَقُولُ بَاطِلاً هذا استفهام إنكاري مفاده أن الكتاب لا يقول إلا الحق والواقع. والاقتباس هنا ضمني لا حرفي لأن ليس في الكتاب آية خاصة تشتمل على كلمات المقول نفسها. فيعقوب قصد الإشارة إلى تعليم الكتاب كله في هذا الموضوع.
ٱلرُّوحُ ٱلَّذِي حَلَّ فِينَا يَشْتَاقُ إِلَى ٱلْحَسَدِ اختلف المفسرون في معنى هذه العبارة فذهب بعضهم إلى أن الروح المذكور هنا هو الروح الإنساني وإن قصد يعقوب أن يبين أن طبيعة الإنسان مائلة إلى الحسد طبعاً. ومن تعليم الكتاب أن الإنسان الساقط مائل إلى الحسد ما في (أيوب ٥: ٢ وأمثال ١٤: ٣٠ و٢٧: ٤ وجامعة ٤: ٤). وقال آخرون لا يمكن أن يكون المقصود «بالروح» هنا روح الإنسان لقوله الروح الذي «حل فينا» وهو ظاهر أنه غير روح الإنسان عينه. ونسبة يعقوب هنا الحسد إلى طبيعة الإنسان ليست من مقصوده في ما تكلم عليه هنا وهو أن محبة المؤمنين للعالم تُعد كالزناء وعلى هذا ذهبوا أن الروح هنا هو الروح القدس الذي أرسله الله ليحل في قلوب المؤمنين بدليل ما في (١كورنثوس ٣: ١٦ و٦: ١٩). وإن معنى العبارة أن الروح القدس يوجب على المؤمنين أن يحبوا الله وحده ويشتاق إلى ذلك شوقاً شديداً حتى أنه يغار عليهم غيرة مقدسة حين يراهم يصادقون العالم. ونسبته «الغيرة» إلى «الروح القدس» على وفق قوله تعالى «لأَنِّي أَنَا ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ إِلٰهٌ غَيُورٌ» (خروج ٢٠: ٥). ونُسبت هذه الغيرة المقدسة إلى الله في (خروج ٣٤: ١٤ وتثنية ٤: ٢٤ و٥: ٩ و٦: ١٥ ويشوع ٢٤: ١٩ وحزقيال ٣٩: ٢٥ وناحوم ١: ٢ وزكريا ٨: ٢). وأشار بهذه الكتابة إلى فرط محبة الله لشعبه وشوقه الشديد إلى أن يكونوا أمناء في حبهم له وانفصالهم عن العالم واتقائهم غضبه عليهم إذا أحبوا العالم الحب الذي يجب أن يقصر عليه وأنه يحسب ذلك مثل الزناء. ومثل قول يعقوب هنا قول بولس لأهل كنيسة كورنثوس «إِنِّي أَغَارُ عَلَيْكُمْ غَيْرَةَ ٱللّٰهِ، لأَنِّي خَطَبْتُكُمْ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، لأُقَدِّمَ عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيحِ» (٢كورنثوس ١١: ٢) وهذا التفسير هو الصحيح بالنظر إلى القرينة إلا أن الموافق هنا أن يبدل «الحسد» بالغيرة لأن الأصل يحتمل المعنيين. وقد تُرجم «بالغيرة» في (أيوب ٥: ٢ وإشعياء ٢٦: ١١ وأعمال ١٣: ٤٥).
وجوب الخضوع لله ومقاومة إبليس ع ٦ و٧
٦ «وَلٰكِنَّهُ يُعْطِي نِعْمَةً أَعْظَمَ. لِذٰلِكَ يَقُولُ: يُقَاوِمُ ٱللّٰهُ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا ٱلْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً».
إشعياء ٥٤: ٧ ومتّى ١٣: ١٢ وأمثال ٣: ٣٤ و١بطرس ٥: ٥ ومزمور ١٣٨: ٦ ومتّى ٢٣: ١٢
لٰكِنَّهُ يُعْطِي نِعْمَةً أَعْظَمَ أي الله يعطي المؤمنين ذلك لغيرة الروح القدس عليهم بإرساله إياه ليحل في قلوبهم. فالروح القدس هو الذي يهب للمؤمنين المواهب الروحية وهو يقوي ضعفاءهم على مقاومة الخطيئة (أمثال ١٦: ١٨). ويرفع المتواضعين «لِئَلاَّ يَكِلُّوا وَيَخُورُوا فِي نُفُوسِهمْ» (عبرانيين ١٢: ٣).
لِذٰلِكَ يَقُولُ أي الله أو الروح القدس. والمقول مقتبس من (أمثال ٣: ٣٤) على ما في الترجمة السبعينية.
يُقَاوِمُ ٱللّٰهُ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ هؤلاء هم الذين وصفهم بأنهم ذوو خصومات ولذّات جسدية (ع ١) ومحبون للعالم (ع ٤). وقوله هنا دليل قاطع على أن الله يحسب مثل هؤلاء أعداء له وأنه يقاومهم.
وَأَمَّا ٱلْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً المتواضعون هنا هم «الْمَسَاكِينِ بِٱلرُّوحِ، والْحَزَانَى والْوُدَعَاءِ والرُّحَمَاءِ» (متّى ٥: ٣ – ٧). فهؤلاء يعتبرهم الله أحباء له ويسرّ بأن يعطيهم نعمته وهي تعم كل البركات السماوية.
٧ «فَٱخْضَعُوا لِلّٰهِ. قَاوِمُوا إِبْلِيسَ فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ».
أفسس ٤: ٢٧ و٦: ١١ و١بطرس ٥: ٦ و٨
فَٱخْضَعُوا لِلّٰهِ أيها المستكبرون لأنه يقاوم المستكبرين وسلّموا بما يريد لأنه رتب بعنايته ونعمته كل ما يؤول إلى نفعكم وتقديسكم في هذا العالم وخلاصكم في العالم الآتي. إن الله قد قضى بما هو خير لكم فعليكم أن تخضعوا لقضائه بكل تواضع. إن الخضوع رفيق الصبر والقناعة وهو ينشئ الثقة والرجاء وغيرهما من الفضائل ولكن العصيان ينشئ التذمر والحسد والبغض وكل الانفعالات الشريرة.
قَاوِمُوا إِبْلِيسَ رئيس هذا العالم (يوحنا ١٢: ٣١) فإن الخضوع لله يستلزم هذه المقاومة لأن إبليس عدو لله وعدونا ومقاومة الشر تستلزم مقاومته لأنه ينشئ الكبرياء والخصام وسائر الرذائل. فيجب علينا أن نخضع لله في كل شيء وأن لا نخضع للشيطان في شيء. والأسلحة التي تقاومه بها روحية ذُكرت في (أفسس ٦: ١١ – ١٨). ومعظم تلك المقاومة يكون بالسهر والصلاة وعلى هذا قال بطرس الرسول «اُصْحُوا وَٱسْهَرُوا لأَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِساً مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ. فَقَاوِمُوهُ رَاسِخِينَ فِي ٱلإِيمَانِ» (١بطرس ٥: ٨ و٩).
فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ لا يهرب من «رسم الصليب» ولا برش الماء المقدس بل بالاستناد على الله وتقوية القلب بأقواله تعالى كما دفع المسيح تجارب الشيطان في البرية (متّى ٤: ٤ و٧ و١٠) وبعدم الالتفات إلى تجاريبه. إن الشيطان يعجز عن إضرار الذي يقاومه بمعونة المسيح فلم يهلك إلا الذين أهلكوا أنفسهم بالإصاخة إليه. وهذه الآية دليل على أن الشيطان شخص حقيقي لا شر ممثل كما توهم بعض الناس.
وجوب الاقتراب إلى الله وتنقية اليدين والقلب ع ٨ و٩
٨ «اِقْتَرِبُوا إِلَى ٱللّٰهِ فَيَقْتَرِبَ إِلَيْكُمْ. نَقُّوا أَيْدِيَكُمْ أَيُّهَا ٱلْخُطَاةُ، وَطَهِّرُوا قُلُوبَكُمْ يَا ذَوِي ٱلرَّأْيَيْنِ».
٢أيام ١٥: ٢ وزكريا ١: ٣ وملاخي ٣: ٧ وعبرانيين ٧: ١٩ وإشعياء ١: ١٦ وأيوب ١٧: ٩ و١تيموثاوس ٢: ٨ وإرميا ٤: ١٤ و١بطرس ١: ٢٢ و١يوحنا ٣: ٣ وص ١: ٨ و٣: ١٧
اِقْتَرِبُوا إِلَى ٱللّٰهِ فَيَقْتَرِبَ إِلَيْكُمْ لأنه «ينظر الرب ليترأف» (إشعياء ٣: ١٨). فهو كأبي الابن الضال الذي رأى من بعيد ابنه راجعاً إليه «فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ» (لوقا ١٥: ٢٠). وهذا مثل قول المسيح «اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ مِنَ ٱلآبِ بِٱسْمِي يُعْطِيكُمْ» (يوحنا ١٦: ٢٣). ونقترب إلى الله متى اعترفنا بخطايانا وقدمنا له صلاة الإيمان ووثقنا بمواعيده (عبرانيين ٧: ١٩). وهذا يوافق قول النبي عزريا بن عوديد «ٱلرَّبُّ مَعَكُمْ مَا كُنْتُمْ مَعَهُ، وَإِنْ طَلَبْتُمُوهُ يُوجَدْ لَكُمْ» (٢أيام ١٥: ٢). و قوله تعالى «ٱرْجِعُوا إِلَيَّ يَقُولُ رَبُّ ٱلْجُنُودِ فَأَرْجِعَ إِلَيْكُمْ» (زكريا ١: ٣). وقول المسيح «هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى ٱلْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ ٱلْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي» (رؤيا ٣: ٢٠).
نَقُّوا أَيْدِيَكُمْ أَيُّهَا ٱلْخُطَاةُ إن أيدي الناس هي آلات عمل فتتنجس بنجاسة العمل كما تتدنس يدا القاتل بدم القتيل. تنقية الأيدي علامة ظاهرة من علامات التوبة ومعناها ترك الخطيئة والتخلص من دنسها. ومثله قول داود «مَنْ يَصْعَدُ إِلَى جَبَلِ ٱلرَّبِّ، وَمَنْ يَقُومُ فِي مَوْضِعِ قُدْسِهِ؟ اَلطَّاهِرُ ٱلْيَدَيْنِ» (مزمور ٢٤: ٣ و٤). وقوله تعالى لنبي إسرائيل «إِنْ كَثَّرْتُمُ ٱلصَّلاَةَ لاَ أَسْمَعُ. أَيْدِيكُمْ مَلآنَةٌ دَماً. اِغْتَسِلُوا. تَنَقَّوْا. ٱعْزِلُوا شَرَّ أَفْعَالِكُمْ مِنْ أَمَامِ عَيْنَيَّ» (إشعياء ١: ١٥ و١٦).
طَهِّرُوا قُلُوبَكُمْ يَا ذَوِي ٱلرَّأْيَيْنِ هؤلاء هم الذين دعاهم آنفاً «بالخطأة» وأمره «بتنقية أيديهم» لأنه دعاهم قبلاً «بالزناة والزواني» (ع ٤). ودعاهم هنا «بذوي الرأيين» المحتاجين إلى تطهير قلوبهم لأنه قال سابقاً ما يفيد أن قلوبهم منقسمة بين حب العالم وحب الله فأبان أنه يجب عليهم أن لا يكتفوا بعلامة التطهير الخارجية كما فعل بيلاطس حين غسل يديه إيماء إلى تطهيرها من دم المسيح ومع ذلك سلّمه إلى الصالبين (متّى ٢٧: ٣٤) بل أن يطلبوا تنقية قلوبهم وتقديس انفعالاتهم الباطنة. من الواضح أن الرسول ما عنى أنه يجب أن يتكلوا على أنفسهم في تطهير قلوبهم بل أن يطلبوا تطهير الروح القدس إياهم كما طلبه داود بقوله «طَهِّرْنِي بِٱلزُّوفَا فَأَطْهُرَ. ٱغْسِلْنِي فَأَبْيَضَّ أَكْثَرَ مِنَ ٱلثَّلْجِ… قَلْباً نَقِيّاً ٱخْلُقْ فِيَّ يَا اَللّٰهُ وَرُوحاً مُسْتَقِيماً جَدِّدْ فِي دَاخِلِي» (مزمور ٥١: ٧ و١٠).
٩ «ٱكْتَئِبُوا وَنُوحُوا وَٱبْكُوا. لِيَتَحَوَّلْ ضِحْكُكُمْ إِلَى نَوْحٍ وَفَرَحُكُمْ إِلَى غَمٍّ».
لوقا ٦: ٢٥ وأمثال ١٤: ١٣ ونحميا ٨: ٩
ٱكْتَئِبُوا وَنُوحُوا وَٱبْكُوا لخطاياكم المذكورة آنفاً. إن ارتكابهم تلك الخطايا أوجب عليهم شديد الحزن. ومرّ البكاء المقترن بالتوبة النصوح الخالصة جداً «لأَنَّ ٱلْحُزْنَ ٱلَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ ٱللّٰهِ يُنْشِئُ تَوْبَةً لِخَلاَصٍ بِلاَ نَدَامَةٍ» (٢كورنثوس ٧: ١٠). فيجب أن «يحزنوا حزن بطرس يوم انكر المسيح» (متّى ٢٦: ٧٥).
لِيَتَحَوَّلْ ضِحْكُكُمْ إِلَى نَوْحٍ الخ إن الضحك والفرح يليقان بالأبرار الذين تيقنوا أن الله راضٍ عنهم لا بالمجرمين قبل أن يتوبوا ويصالحوا الله الذي أغاظوه بآثامهم. فكان عليهم أن يتوبوا قبل أن يفرحوا. وكانت حالهم كحال بني إسرائيل يوم قال النبي «دَعَا ٱلسَّيِّدُ رَبُّ ٱلْجُنُودِ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ إِلَى ٱلْبُكَاءِ وَٱلنَّوْحِ وَٱلْقَرْعَةِ وَٱلتَّنَطُّقِ بِٱلْمِسْحِ، فَهُوَذَا بَهْجَةٌ وَفَرَحٌ، ذَبْحُ بَقَرٍ وَنَحْرُ غَنَمٍ، أَكْلُ لَحْمٍ وَشُرْبُ خَمْرٍ» (إشعياء ٢٢: ١٢ و١٣).
وجوب الاتضاع أمام الله ع ١٠
١٠ «ٱتَّضِعُوا قُدَّامَ ٱلرَّبِّ فَيَرْفَعَكُمْ».
ع ٦ وأيوب ٥: ١١ ومزمور ٢١: ٢٦ ولوقا ١: ٢٥
ٱتَّضِعُوا قُدَّامَ ٱلرَّبِّ هذا طريق الاقتراب إلى الله (ع ٨) والخضوع له (ع ٧) وهو ما يجب على المستكبرين (ع ٦). وهذا على وفق قوله تعالى «هٰكَذَا قَالَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْمُرْتَفِعُ، سَاكِنُ ٱلأَبَدِ، ٱلْقُدُّوسُ ٱسْمُهُ: فِي ٱلْمَوْضِعِ ٱلْمُرْتَفِعِ ٱلْمُقَدَّسِ أَسْكُنُ، وَمَعَ ٱلْمُنْسَحِقِ وَٱلْمُتَوَاضِعِ ٱلرُّوحِ، لأُحْيِيَ رُوحَ ٱلْمُتَوَاضِعِينَ وَلأُحْيِيَ قَلْبَ ٱلْمُنْسَحِقِينَ» (إشعياء ٥٧: ١٥). ويقرب من هذا قول بطرس «فَتَوَاضَعُوا تَحْتَ يَدِ ٱللّٰهِ ٱلْقَوِيَّةِ لِكَيْ يَرْفَعَكُمْ فِي حِينِهِ» (١بطرس ٥: ٦). وقول المسيح «فَمَنْ يَرْفَعْ نَفْسَهُ يَتَّضِعْ، وَمَنْ يَضَعْ نَفْسَهُ يَرْتَفِعْ» (متّى ٢٣: ١٢). والمسيح علّم تلاميذه التواضع باتضاعه فإنه «إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ ٱللّٰهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلّٰهِ. لٰكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي ٱلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى ٱلْمَوْتَ مَوْتَ ٱلصَّلِيبِ» (فيلبي ٢: ٦ – ٨). إن التواضع من أجمل الفضائل المسيحية وأندرها وضده الميل إلى الخصومات والحسد والكبرياء التي حذّرهم يعقوب منها.
فَيَرْفَعَكُمْ في هذا العالم بنعمته وإرشاده وفي العالم الآتي بإدخاله إيّاكم حضرة مجده.
تحذير المؤمنين من الذمّ ع ١١ و١٢
١١ «لاَ يَذُمَّ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ. ٱلَّذِي يَذُمُّ أَخَاهُ وَيَدِينُ أَخَاهُ يَذُمُّ ٱلنَّامُوسَ وَيَدِينُ ٱلنَّامُوسَ. وَإِنْ كُنْتَ تَدِينُ ٱلنَّامُوسَ فَلَسْتَ عَامِلاً بِٱلنَّامُوسِ، بَلْ دَيَّاناً لَهُ».
٢كورنثوس ١٢: ٢٠ و١بطرس ٢: ١ وص ٥: ٧ و٩ و١٠ وص ١: ١٦ و٢٢ ومتّى ٧: ١ ورومية ١٤: ٣ وص ٢: ٨
تكلم الرسول كثيراً في هذه الرسالة على خطايا اللسان وأبان أنها كانت علّة الخصام والانقسام فرجع هنا إلى ذلك ليزيد على ما قاله في (ص ١: ١٩ و٢٦ وص ٣ كله).
لاَ يَذُمَّ بَعْضُكُمْ بَعْضاً تدل القرينة إن الذم المذكور هنا مبني على دينونة أحدهم للآخر بعنف وظنه السوء فيه ونسبته إليه سجايا رديئة وغايات قبيحة وسيرة ملتوية.
أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ دعاهم «إخوة» بياناً لعدم لياقة أن يذم الأخ أخاه. و «الذم» من الخطايا التي خاف بولس من أن تكون بين أعضاء كنيسة كورنثوس عند مجيئه (٢كورنثوس ١٢: ٢٠) وهو ما أمر بطرس كنائس أسيا بطرحه بقوله «ٱطْرَحُوا كُلَّ خُبْثٍ وَكُلَّ مَكْرٍ وَٱلرِّيَاءَ وَٱلْحَسَدَ وَكُلَّ مَذَمَّةٍ» (١بطرس ٢: ١). ولعله قليل من كنائس العالم لا يفتقر إلى هذا النصح.
ٱلَّذِي يَذُمُّ أَخَاهُ وَيَدِينُ أَخَاهُ في إغراضه وغاياته وسيرته خلاف ما يجب على الأخ لأخيه. وهذا لا يمنع الأخ من أن يوبخ أخاه على ما يخالف به شريعة الله الأدبية كما وبخ يوحنا المعمدان هيرودس والنبي ناثان داود بل يمنع أن ينسب إليه غايات رديئة وأغراضاً شخصية إذ لا يعرف خفايا القلوب إلا الله.
يَذُمُّ ٱلنَّامُوسَ وَيَدِينُ ٱلنَّامُوسَ أي ناموس المسيح ناموس الحرية (ص ١: ٢٥) الذي به حُرر المؤمنون من العبودية للفروض اليهودية والذين آمنوا بالمسيح من اليهود اختلفوا في ما بينهم كثيراً في شأن حفظ السنن الموسوية من الأعياد والسبوت والختان والتمييز بين الأطعمة. فالذين ذهبوا إلى تكليف المؤمنين بحفظ تلك الفرائض مالوا إلى ذم الذين لم يقولوا بتكليفهم بها ونشأ عن هذا الاختلاف خصومات وأحزاب في الكنيسة (١كورنثوس ١٠: ١٩ – ٣٢ وكولوسي ٢: ١٦ – ١٨). وبذلك الذمّ يذمّون المسيح الذي رفع عن أعناق المسيحيين نير العبودية للسنن الموسوية ويدينون الناموس الجديد الذي هو روحي سنّه المسيح بدل الناموس الرمزي. وإذ ليس من أمر إلهي بصورة العبادة لا حق لنا أن نذم الذين لا يعبدون الله في الطريق التي نعبده فيها ويسوسون الكنيسة السياسة التي لا نستحسنها ويصلون صلوات مكتوبة ونحن نستحسن الارتجالية ويستحسن الارتجالية ونحن نستحسن المكتوبة. والخلاصة أنه لا يجوز لأحد أن يجعل ضميره قياساً للحكم على أعمال غيره في السنن الدينية فعلينا أن نطيع ضمائرنا ونترك لغيرنا أن يسلك بمقتضى ضميره.
وَإِنْ كُنْتَ تَدِينُ ٱلنَّامُوسَ فَلَسْتَ عَامِلاً بِٱلنَّامُوسِ الخ في هذا تصريح بأنه علينا أن نطيع ناموس الله وأن لا نحكم في شأنه.
١٢ «وَاحِدٌ هُوَ وَاضِعُ ٱلنَّامُوسِ، ٱلْقَادِرُ أَنْ يُخَلِّصَ وَيُهْلِكَ. فَمَنْ أَنْتَ يَا مَنْ تَدِينُ غَيْرَكَ؟».
إشعياء ٣٣: ٢٢ ص ٥: ٩ متّى ١٠: ٢٨ رومية ١٤: ٤
وَاحِدٌ هُوَ وَاضِعُ ٱلنَّامُوسِ أي الله فالذي يتعدّى حقوق الله بحكمه على ناموسه يغيظه.
ٱلْقَادِرُ أَنْ يُخَلِّصَ وَيُهْلِكَ أي أنه قادر على أن يجري حكمه في إثابة المطيعين وعقاب العصاة. وهذا مثل قول المسيح «خَافُوا بِٱلْحَرِيِّ مِنَ ٱلَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ ٱلنَّفْسَ وَٱلْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ» (متّى ١٠: ٢٨). ولو لم تكن له تلك القدرة لم تكن شريعته سوى نُصح وهذه القدرة ترغب الناس في إطاعته وترهبهم من عصيانه.
فَمَنْ أَنْتَ يَا مَنْ تَدِينُ غَيْرَكَ في الأمور العرضية أو الشخصية أو في ما بينه وبين الله. ليس لك سلطان على ذلك لأنك لا تعلم قلوب الناس لكي تحكم بالصواب على غاياتهم أو أغراضهم من أعمالهم ولا سلطان لك على أن تجازي في العالم الآتي الذين تدينهم فكيف تجسر على أن تدين إخوتك أو الناموس الذي سيدينهم المسيح به. فقوله هنا يشبه قول بولس «مَنْ أَنْتَ ٱلَّذِي تَدِينُ عَبْدَ غَيْرِكَ؟ هُوَ لِمَوْلاَهُ يَثْبُتُ أَوْ يَسْقُطُ» (رومية ١٤: ٤). والخلاصة قول المسيح «لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا» (متّى ٧: ١).
تحذير من فرط الاهتمام بالعالميات ومن الطمع في المستقبل ووجوب الإقرار بأن دوام حياتنا وكل نجاحنا في يدي الله ع ١٣ إلى ١٦
١٣ «هَلُمَّ ٱلآنَ أَيُّهَا ٱلْقَائِلُونَ: نَذْهَبُ ٱلْيَوْمَ أَوْ غَداً إِلَى هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةِ أَوْ تِلْكَ، وَهُنَاكَ نَصْرِفُ سَنَةً وَاحِدَةً وَنَتَّجِرُ وَنَرْبَحُ».
ص ٥: ١ وأمثال ٢٧: ١ ولوقا ١٢: ١٨ – ٢٠
المرجّح أن كلام يعقوب في هذه الآية إلى (ص ٥: ٦) موجه إلى الأغنياء الذين هم خارج الكنيسة وإلى من فيها ممن يشبهونهم في حب الغنى وإهمال ما يجب عليهم لله.
هَلُمَّ ٱلآنَ هذا تنبيه للقراء ليلتفتوا إلى الموضوع لأنه ذو شأن.
أَيُّهَا ٱلْقَائِلُونَ أي الذين اعتادوا أن يتكلموا في ما يدل على الطمع وحب العالم.
نَذْهَبُ ٱلْيَوْمَ أَوْ غَداً إِلَى هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةِ أَوْ تِلْكَ هذا كقول التجار الذين يجولون بغية الربح الدنيوي ولا يهتمون بغيره فهم شديدو الثقة بدوام حياتهم وسلطتهم واقتدارهم على إجراء كل مقاصدهم. وكانوا يقصدون السفر في يومهم أو في غدهم غير ملتفتين إلى قول الحكيم «لاَ تَفْتَخِرْ بِٱلْغَدِ لأَنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مَاذَا يَلِدُهُ يَوْمٌ» (أمثال ٢٧: ١). ويعيّنون المحل الذي يقصدون الذهاب إليه وينسون أنه «قَلْبُ ٱلإِنْسَانِ يُفَكِّرُ فِي طَرِيقِهِ، وَٱلرَّبُّ يَهْدِي خَطْوَتَهُ» (أمثال ١٦: ٩). وأنه «لَيْسَ لإِنْسَانٍ يَمْشِي أَنْ يَهْدِيَ خَطَوَاتِهِ» (إرميا ١٠: ٢٣).
وَهُنَاكَ نَصْرِفُ سَنَةً وَاحِدَةً يعتمدون هذا كأن تدبير حياتهم كل السنة في سلطانهم وكأنهم عرفوا كل ما يحدث فيها.
وَنَتَّجِرُ وَنَرْبَحُ هذا دليل على أنه لم يكن لهم سوى المقصد الدنيوي. ويعقوب لم ينسب إليهم إثماً لاتجارهم بل لعدم التفاتهم إلى الله في مقصدهم وفرط ثقتهم بأنفسهم في دوام حياتهم واقتدراهم على العمل.
١٤ «أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ لاَ تَعْرِفُونَ أَمْرَ ٱلْغَدِ! لأَنَّهُ مَا هِيَ حَيَاتُكُمْ؟ إِنَّهَا بُخَارٌ، يَظْهَرُ قَلِيلاً ثُمَّ يَضْمَحِلُّ».
مزمور ١٠٢: ٣ وأيوب ٧: ٧ ومزمور ٣٩: ٥ و١٤٤: ٤
أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ لاَ تَعْرِفُونَ أَمْرَ ٱلْغَدِ أي أنتم من الجنس البشري الذي ليس له في طاقته أن يعرف أمور المستقبل فأنتم تجهلون حوادثه ومنها بقاؤكم أصحاء عقلاء أحياء فأنتم تجهلون كل ذلك. وهذا يذكرنا قول المسيح في العبد الخائن الذي «قَالَ فِي قَلْبِهِ: سَيِّدِي يُبْطِئُ قُدُومَهُ. فَيَبْتَدِئُ يَضْرِبُ ٱلْعَبِيدَ رُفَقَاءَهُ وَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مَعَ ٱلسُّكَارَى. يَأْتِي سَيِّدُ ذٰلِكَ ٱلْعَبْدِ فِي يَوْمٍ لاَ يَنْتَظِرُهُ وَفِي سَاعَةٍ لاَ يَعْرِفُهَا، فَيُقَطِّعُهُ وَيَجْعَلُ نَصِيبَهُ مَعَ ٱلْمُرَائِينَ. هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَانِ» (متّى ٢٤: ٤٨ – ٥١).
لأَنَّهُ مَا هِيَ حَيَاتُكُمْ هذا الاستفهام للاستخفاف بالحياة لعدم ثبوتها وعدم الإركان إليها.
إِنَّهَا بُخَارٌ أو وأنتم بخار كما في حاشية الإنجيل ذي الشواهد. والبخار من أخف المواد وأسرعها زوالاً ويختلف قليلاً عن الخيال الذي ليس بمادة وهذا مثل قول أيوب «حَيَاتِي إِنَّمَا هِيَ رِيحٌ» (أيوب ٧: ٧). وقول بلدد الشوحي «أَنَّنَا نَحْنُ مِنْ أَمْسٍ وَلاَ نَعْلَمُ، لأَنَّ أَيَّامَنَا عَلَى ٱلأَرْضِ ظِلٌّ» (أيوب ٨: ٩). وقول داود «أَيَّامِي كَظِلٍّ مَائِلٍ» وقوله «ٱلإِنْسَانُ أَشْبَهَ نَفْخَةً. أَيَّامُهُ مِثْلُ ظِلٍّ عَابِرٍ» وقوله في الناس «أَنَّهُمْ بَشَرٌ. رِيحٌ تَذْهَبُ وَلاَ تَعُودُ» (مزمور ١٠٢: ١١ و٧٨: ٣٩ و١٤٤: ٤). ويقتضي كون حياة الإنسان زائلة غير محققة البقاء لينال كل ما يقصده في المستقبل لأنها كلها تتوقف على بقائه حياً. فليس أحد يتوقع بقاء البخار الذي يظهر على جبل قبل شروق الشمس ويضمحل بعد قليل فيجب كذلك أن لا يتوقع أحد البقاء طويلاً.
١٥ «عِوَضَ أَنْ تَقُولُوا: إِنْ شَاءَ ٱلرَّبُّ وَعِشْنَا نَفْعَلُ هٰذَا أَوْ ذَاكَ».
أعمال ١٨: ٢١
عِوَضَ أَنْ تَقُولُوا هذا متعلق بالآية الثالثة عشرة والآية الرابعة عشرة معترضة لبيان جهلهم والمعنى أنكم تقولون نذهب الخ عوض ما يجب أن تقولوا الخ.
إِنْ شَاءَ ٱلرَّبُّ وَعِشْنَا نَفْعَلُ الخ في هذا إقرار بأن الله ملك وأن كل الأمور متوقفة على مشيئته وقضائه في بقاء حياتنا واقتدرانا على العمل. ومن أمثال استعمال هذا القول في محله قول بولس لأهل أفسس «سَأَرْجِعُ إِلَيْكُمْ أَيْضاً إِنْ شَاءَ ٱللّٰهُ» (أعمال ١٨: ٢١). وقوله لكنيسة كورنثوس «سَآتِي إِلَيْكُمْ سَرِيعاً إِنْ شَاءَ ٱلرَّبُّ» وقوله «أَرْجُو أَنْ أَمْكُثَ عِنْدَكُمْ زَمَاناً إِنْ أَذِنَ ٱلرَّبُّ» (١كورنثوس ٤: ١٩ و١٦: ٧). ولا يجوز أن نكتفي بلفظ تلك العبارة كما اعتاد الكثيرون لفظها بلا فكر بل يجب أن نشعر حقيقة بافتقارنا إلى الله وتوقف أمورنا على مشيئته.
١٦ «وَأَمَّا ٱلآنَ فَإِنَّكُمْ تَفْتَخِرُونَ فِي تَعَظُّمِكُمْ. كُلُّ ٱفْتِخَارٍ مِثْلُ هٰذَا رَدِيءٌ».
١كورنثوس ٥: ٦
وَأَمَّا ٱلآنَ فَإِنَّكُمْ تَفْتَخِرُونَ فِي تَعَظُّمِكُمْ بدلاً مما يجب أن تشعروا به وتقولوه من افتخاركم بالرب وعنايته بكم فإنكم تفتخرون بما تفعلونه وبمهارتكم وحكمتكم والنجاح الذي تحصلون عليه غير ملتفتين إلى الله والإقرار بأنه سيدكم وحافظكم.
كُلُّ ٱفْتِخَارٍ مِثْلُ هٰذَا رَدِيءٌ لأنه ناشئ عن الكبرياء والاتكال على أنفسكم فهو كفر بالله وبنعمته وإنكار حقوقه ولأنه يمنعكم من نيل بركة الله التي يتوقف عليها كل النجاح ويجعلكم عرضة لسخطه ونقمته.
خطيئة من يعلم ولا يعمل ع ١٧
١٧ «فَمَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَناً وَلاَ يَعْمَلُ، فَذٰلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ».
لوقا ١٢: ٤٧ و٢بطرس ٢: ٢١ ويوحنا ٩: ٤١
هذه الآية نتيجة كل ما سبق والعمل الحسن فيها هو ما يأمر الله به وما يحث الضمير عليه وهو خلاف الرديء المذكور في (ع ١٦) وفيها إنذار لمن يكتفون بمجرد معرفة الواجبات فتذكرنا بقول بطرس «قَدِّمُوا فِي ٱلْمَعْرِفَةِ تَعَفُّفاً، وَفِي ٱلتَّعَفُّفِ صَبْراً، وَفِي ٱلصَّبْرِ تَقْوَى الخ» (٢بطرس ١: ٦ و٧). ولمن لا يظنون أنهم يخطأون إلا حين يخالفون وصايا صريحة مشهورة. وتبين أنه يجب على كل إنسان أن يفعل كل ما يستطيعه من الخير لكل الذين يحتاجون إليه على قدر إمكانه ما دام حياً. وتوضح خاصة فظاعة خطيئة من يخطأ على رغم ما له من النور والمعرفة وتنبيهات الضمير. فحين يرتكب الإثم وهو يعرف أن يعمل حسناً يأتي أعظم الشرور.
السابق |
التالي |