سفر إشعياء | المقدمة | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر إشعياء
للقس . وليم مارش
تمهيد
تفتقر خزانة الأدب المسيحي إلى مجموعة كاملة من التفاسير لكتب العهدين القديم والجديد. ومن المؤسف حقاً أنه لا توجد حالياً في أية مكتبة مسيحية في شرقنا العربي مجموعة تفسير كاملة لأجزاء الكتاب المقدس. وبالرغم من أن دور النشر المسيحية المختلفة قد أضافت لخزانة الأدب المسيحي عدداً لا بأس به من المؤلفات الدينية التي تمتاز بعمق البحث والاستقصاء والدراسة، إلا أن أياً من هذه الدور لم تقدم مجموعة كاملة من التفاسير، الأمر الذي دفع مجمع الكنائس في الشرق الأدنى بالإسراع لإعادة طبع كتب المجموعة المعروفة باسم: «كتاب السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم» للقس وليم مارش، والمجموعة المعروفة باسم «الكنز الجليل في تفسير الإنجيل» وهي مجموعة تفاسير كتب العهد الجديد للعلامة الدكتور وليم إدي.
ورغم اقتناعنا بأن هاتين المجموعتين كتبتا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلا أن جودة المادة ودقة البحث واتساع الفكر والآراء السديدة المتضمنة فيهما كانت من أكبر الدوافع المقنعة لإعادة طبعهما.
هذا وقد تكرّم سينودس سوريا ولبنان الإنجيلي مشكوراً – وهو صاحب حقوق الطبع – بالسماح لمجمع الكنائس في الشرق الأدنى بإعادة طبع هاتين المجموعتين حتى يكون تفسير الكتاب في متناول يد كل باحث ودارس.
ورب الكنيسة نسأل أن يجعل من هاتين المجموعتين نوراً ونبراساً يهدي الطريق إلى معرفة ذاك الذي قال: «أنا هو الطريق والحق والحياة».
القس ألبرت استيرو
الأمين العام
لمجمع الكنائس في الشرق الأدنى
المقدمة في الأسفار النبوية: وفيها أربعة فصول
الفصل الأول: في النبوءة والنبي وما يتعلق بهما
النبوءة هي إعلان أمور الله للناس وغلبت على كشف أمور المستقبل. والنبي المخبر بما لله والمُعلن ما وراء حجاب الآتي ومعناه الأصلي من يرسله الله ليكلم الناس بأموره ولهذا يُدعى رسولاً أيضاً وكلامه نبوءة سواء أكان موضوعها أموراً حاضرة أم كان أموراً مستقبلة أم كان حقائق عامة لجميع الأزمنة. ولكن إعلان الأمور الآتية اعتبار خاص لسببين (١) إنه أحسن دليل على أن المتكلم من قِبل الله. و(٢) إن العهد الجديد الذي فيه أكثر النبوءات هو استعداد لمجيء المسيح والعهد الجديد.
إن الله وعد بني إسرائيل أن يقيم لهم نبياً مثل موسى (تثنية ١٨: ١٨) وتمّ هذا الوعد بسلسلة من الأنبياء آخرهم وأعظمهم المسيح. فأقام بعد موسى يشوع والقضاة وصموئيل وغيرهم سلسلة متصلة إلى ملاخي الذي كان قبل المسيح بنحو أربع مئة سنة لكن كل نبي أخذ رتبة النبوءة من الله رأساً لا من سلفه (القواعد السنية فصل ١٥).
الفصل الثاني في الوحي
الوحي إعلان الله إرادته وأحكامه لبعض مختاريه لإعلانها للناس فإن الله كان إذا طلب عملاً من الأنبياء أعطاهم القوة والشجاعة والحكمة الكافية لإتمام ذلك العمل. وإذا أودعهم كلاماً عصمهم من الغلط في بيانه أو إلقائه.
وكان الوحي أحياناً بالرؤيا. قال ميخا «رَأَيْتُ كُلَّ إِسْرَائِيلَ مُشَتَّتِينَ عَلَى ٱلْجِبَالِ» (١ملوك ٢٢: ١٧). وقال إشعياء «رَأَيْتُ ٱلسَّيِّدَ جَالِساً عَلَى كُرْسِيٍّ عَالٍ وَمُرْتَفِعٍ» (إشعياء ٦: ١). وكثيراً ما جاء كلام الأنبياء أخباراً بما كانوا قد رأوه (إشعياء ص ١٣ و١٤ و١٥ و٢١) وكان الله أحياناً يلقي كلامه على سماع أنبيائه أي يخاطبهم بصوت مسموع وأحياناً يلقيه في قلوبهم. قال إرميا «فَكَانَ فِي قَلْبِي كَنَارٍ مُحْرِقَةٍ مَحْصُورَةٍ فِي عِظَامِي، فَمَلِلْتُ مِنَ ٱلإِمْسَاكِ وَلَمْ أَسْتَطِعْ» (إرميا ٢٠: ٩). ولا شك في أن الأنبياء كانوا منتبهين لما تكلموا وصاحين بخلاف الأنبياء الكذبة عند الوثنيين فإنهم كانوا يتظاهرون بالجنون أو الهيجان الشديد. ومن المحتمل أن الأنبياء لم يفهموا في بعض الأحيان كل معنى كلامهم بل تكلموا مسوقين من الروح القدس وبحثوا عن الأمور المعلنة لهم وإذا لم يفهموها عرفوا أنها أُعلنت لهم لا لأنفسهم بل للأيام الأخيرة.
وكان للأنبياء مدارس كمدرستي بيت إيل وأريحا في زمان أليشع (٢ملوك ص ٢) وتعلم فيها بنو الأنبياء شريعة الله غير أنهم لم يكونوا جميعهم أنبياء. وكثيراً ما دعا الله إلى النبوءة الذين لم يتعلموا في تلك المدارس. ولا دليل لنا على أن الأنبياء لبسوا لباساً مخصوصاً غير أن أثوابهم وعيشتهم كانت في غاية البساطة.
ولنا ثلاثة قوانين للتمييز بين معرفة الأمور المستقبلة بالحكمة البشرية ومعرفتها بالوحي.
- كون النبوءة قبل الحادثة. كنبوءة إشعياء بسقوط دمشق والسامرة (ص ٨: ١ – ٤) فإنه كتب النبوءة بأحرف مقروءة وأقام على ذلك شاهدَين.
- وقوع مضمون النبوءة كموت حننيا حسب نبوءة إرميا (ص ٢٨: ١٥ – ١٧) والرجوع من السبي بعد سبعين سنة حسب نبوءة إرميا أيضاً (ص ٢٩: ١٠).
- خلوّ تاريخ النبوءة مما يدل على حدوث الحادثة المستقبلة كنبوءة إشعياء بخيبة جيش سنحاريب (إشعياء ٣٧: ١ – ٧) ونبوءته بقيام كورش وسقوط بابل والرجوع من السبي وجميع النبوءات بالمسيح ولا سيما النبوءات بآلام المسيح في (ص ٥٣). فلا صحة لزعم بعض المنتقدين أن إشعياء أخبر بأمور مستقبلة بناء على الله وثقته بانتصار ملكوته لأن الحوادث المشار إليها كانت بعيدة عن الظن ومخالفة للانتظار وفائقة كل حكمة بشرية.
الفصل الثالث: في كتب النبوءات
كانت الكتب في القديم مكتوبة باليد وعلى الرقوق أو على ورق البردي فكانت قليلة غالية الثمن وكان أكثر الناس لا يحسنون القراءة. والأرجح أن الأسفار المقدسة لم تنتشر عند كل الناس بل كانت موضوعة في المقدس ومضمومة من الأول في التوراة التي سموها الكتاب أي الكتاب المعروف والمعتبر دون غيره. وحسب تقليد اليهود أن عزرا ورفاقه جمعوا الأسفار المقدسة ورتبوها وانقسمت هذه الأسفار إلى ثلاثة أقسام وهي الناموس أي أسفار موسى الخمسة والأنبياء أي يشوع والقضاة وصموئيل والملوك وإشعياء وإرمياء وحزقيال والأنبياء الصغار الاثنا عشر وفي القسم الثالث كانت البقية من أسفار العهد القديم.
إن هذه القوانين المذكورة بالتفصيل في الفصل الثالث عشر من كتاب القواعد السنية نقتصر على ذكر ثلاثة منها:
- إنه ليس جميع أقوال الأنبياء في حوادث مستقبلة بل كان بعضها على سبيل التعليم أو التعزية أو التوبيخ المناسب لأحوال زمانها.
- إنه ليس جميع النبوءات حقيقة وليس جميعها مجازاً فيحتاج المفسر إلى الحكمة في التمييز بين الحقيقة والمجاز كقول إشيعاء «وَيَكُونُ فِي آخِرِ ٱلأَيَّامِ أَنَّ جَبَلَ بَيْتِ ٱلرَّبِّ يَكُونُ ثَابِتاً فِي رَأْسِ ٱلْجِبَالِ وَيَرْتَفِعُ فَوْقَ ٱلتِّلاَلِ» (إشعياء ٢: ٢) فيجب أن لا نفسره على سبيل الحقيقة. وقوله «صُرَّ ٱلشَّهَادَةَ. ٱخْتِمِ ٱلشَّرِيعَةَ بِتَلاَمِيذِي» (إشعياء ٨: ١٦) فيجب أن لا نفسره على سبيل المجاز كأنه يشير إلى ختام الكتاب المقدس في أيام الرسل وعدم قبول أسفار جديدة بعدهم لأنه وصية بسيطة لتلاميذ إشعياء بخصوص الشهادة لنبوءته بسقوط دمشق والسامرة.
- إنه من المحتمل أن نبوءة تشير إلى حادثة في المستقبل القريب وهي نفسها تشير إلى حادثة أخرى في المستقبل البعيد فتتم النبوءة مرتين أو أكثر كالنبوءات بالرجوع من السبي فإنها تمت أولاً حقيقة وستتم أيضاً برجوع شعب الله إليه بالتوبة والخلاص من الخطية والنبوءات بأمور أورشليم التي تمت حقيقة وجزئياً بعد السبي وستتم تماماً بمجد الكنيسة المسيحية وانضمام الأمم إليها.
مقدمة في نبوءة إشعياء: وفيها ستة فصول
الفصل الأول: في ترجمة إشعياء وتاريخ عمله النبوي
لا نعرف بالتحقيق من أمر هذا النبي غير ما ذُكر في سفره إلا قليلاً مما ورد من أخباره المتفرقة في أسفار الملوك والأيام. واسمه في الأصل يشعياهو ومعناه خلاص يهوه ولا يخفى أن هذا الاسم يوافق المواضيع الرئيسة في سفره كل الموافقة. وما لنا من أمور نسبه إلاّ أنه كان ىبن آموص وكثيرون من اليهود نسبوه إلى أسلاف هم أنبياء بناء على زعمهم أنه إذا ذُكر أبو نبي كان دليلاً على أنه مارس الوظيفة التي مارسها ابنه عينها. وغيرهم حاولوا أن يثبتوا أنه من نسب ملكي معتقدين أن آموص هو أخو الملك أمصيا ولكن ليس لهم سند لذلك. أما كونه من يهوذا فيكاد لا يقبل الريب ويتضح أنه كان قاطناً في أورشليم مما ورد في سفره (ص ٧: ٣ و٨: ٢ و٢٢: ١٥ و٣٧: ٢ الخ). ولم يُذكر من أحواله الأصلية سوى أنه كان متزوجاً ووُلد له ابنان في ملك آحاز ملك يهوذا وسميّا باسمين رمزيين يشيران إلى حوادث مهمة في تاريخ يهوذا. ومع أن الأرجح أنه دُعي أولاً باحتفال إلى ممارسة النبوءة علانية في السنة الأخيرة لعزيا وهي سنة ٧٥٩ ق. م استنتج البعض أنه شرع في خدمة الشعب قبل ذلك بزمان طويل مما ورد في (٢أيام ص ٢٦: ٢٢) من أنه كتب باقي أمور ذلك الملك أي عزيا. ولا يخفى أنه في ذلك الوقت كان قد بلغ أشده وإذ كان قد عاش كما يرجح إلى قرب وقت منسى ينتج أنه تنبأ منذ ما ينيف على خسمين سنة ولا بد أنه بلغ عند موته سن الثمانين على الأقل. وفي تقليد يهودي قديم جداً أنه كُلل بإكليل الشهادة منشوراً شطرين بأمر منسى الملك الذي يتمرغ في حمأة الفواحش لأنه بكته بعنف على شره وقد ظن بعضهم أنه أُشير إلى ذلك في (عبرانيين ١١: ٣٧).
الفصل الثاني: في ملخص تاريخ عصر إشعياء
إن تفسير نبوءة إشعياء يقتضي تمام المعرفة بأحوال عصره لنا وفي سفره وفي أسفار العهد القديم التاريخية ما يكفي من الأنباء بوقائع ذات شأن وبعلاقات الأمم المحيطة بالأرض المقدسة وبأمة اليهود وببعضها ببعض في ذلك العصر.
وقبل شروع إشعياء في خدمته النبوية بمئتي سنة وأربعين سنة حدث العصيان بسوء تصرف يربعام الذي آل إلى انقسام مملكة العبرانيين إلى مملكتين مستقلتين فكان ذلك علة لحروب مستمرة بينهما وجعلهما عرضة للغزوات والنكبات المعيبة من الأعداء والأجانب. وفي أثناء الثمانين السنة الأولى من هذه المدة ولا سيما سني الملكين الصالحين آسا ويهوشافاط نجحت مملكة يهوذا كثيراً ولكن لما تجددت العبادة الوثنية بعد إزالتهما إياها أنزل الله على هذه المملكة أرزاء شديدة حتى ذلت في أواخر أيام أمصيا تحت قدمي يهوآحاز ملك إسرائيل. وملك عزيا وهو ابن ست عشرة سنة فقط لكنه ما لبث إن أظهر نشاطاً وحمية في ترقية أحوال الوطن المنحطة وتقدّم أمور الزراعة ونظم جيشاً عظيماً وحصّن المدن الكبيرة وانتصر على فلسطين والعرب والعمونيين واسترد فرضة إيلة على الخليج الشرقي من البحر الأحمر وبذلك فتح أيضاً التجارة البحرية الرائجة مع الشرق. ومع أن هذا الملك كان مطيعاً للشريعة الإلهية إجمالاً أبقى المذابح الوثنية وفي آخر حياته ضُرب بالبرص بسبب تجاسره وتعديه على وظيفة الكهنوت المقدسة.
وفي أثناء ملك عزيا ويوثام كانت العبادة الصنمية غير أنها كانت واهنة قليلة الرجاسات لأن الملك ورؤساءه بذلوا جهدهم في تشييد العبادة الإلهية في الهيكل ولكنهم لم يلاشوا جميع رسوم العبادة الصنمية. قال المؤرخ كاتب سفر الملوك في عزيا «وَعَمِلَ مَا هُوَ مُسْتَقِيمٌ فِي عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ حَسَبَ كُلِّ مَا عَمِلَ أَمَصْيَا أَبُوهُ. وَلٰكِنِ ٱلْمُرْتَفَعَاتُ لَمْ تُنْتَزَعْ، بَلْ كَانَ ٱلشَّعْبُ لاَ يَزَالُونَ يَذْبَحُونَ وَيُوقِدُونَ عَلَى ٱلْمُرْتَفَعَاتِ» (٢ملوك ١٥: ٣ و٤). وقد قيل كذلك على يوثام في (ع ٣٤ و٣٥). أما تلك العبادة على المرتفعات فكانت صنمية بالذات إلا أنه غلب أن لا تكون فظيعة جداً.
وقد استمر النجاح الدنيوي على ما ظهر كل مدة ملك يوثام فنتج منه زيادة على القصوف والتهافت على اللذّات المحظورة إن انحطت التقوى الحقيقية كل الانحطاط. وعُقدت محالفة بين فقح ملك إسرائيل ورصين ملك آرام لمقاومة ملك يهوذا وباشرا ذلك فعلاً في السنة التي بعد موته أي سنة ٧٤٢ ق. م. ثم خلف يوثام آحاز الذي لم يتبوأ قبله عرش مملكة اليهود أحد أفجر منه. وفي أثناء ملكه وقع التشويش في جميع الأمور فكانت شريعة الله تُخالَف علانية وأُدخل إلى أورشليم مذبح وآلهة آرامية فتشوه الهيكل وفقد جماله الإلهي ثم أُغلق دون عبادة الإله الحقيقي (إشعياء ٢: ٦ و٧ و٢ملوك ١٥: ٣٢ – ٣٨ و١٦: ١ – ٤ و٢أيام ص ٢٧ و٢٨). فبذل ذلك الملك جهده في ترقية العبادة الصنمية ولم يشمئز البتة من أفظع وأكره رسومها فرفض كل ثقة بإله إسرائيل وأعطى قلبه لآلهة الأمم قائلاً لأن آلهة ملوك آرام تساعدهم أنا أذبح لهم فيساعدونني وأردف المؤرخ هذا الكلام بقوله المؤثر وأما هم فكانوا سبب سقوط له ولكل إسرائيل (انظر ٢أيام ٢٨: ٢ – ٤ و٢٣). فلأجل هذه الكبائر دفعه الرب هو وشعبه ليد ملك آرام فضربوه وسبوا منه سبياً عظيماً وليد فقح ملك إسرائيل فضربه ضربة عظيمة وقتل من يهوذا مئة وعشرين ألفاً في يوم واحد. ولأيدي الأدوميين والفلسطينيين «لأن الرب ذلل يهوذا بسب آحاز» فطلب المعونة في تلك الضيقات ولكن ليس من الرب بل من الأشوريين فشرع إشعياء بأمر الرب ينصح الملك والشعب ويحثهم على الرجوع إلى الله وطلب المعونة منه تعالى فقط.
ولما انتهت الحرب بين آحاز وملكي آرام وإسرائيل المتعاهدين بخسارة عظيمة عليه وأصابه أيضاً نظير ذلك من الأدوميين والفلسطينيين الذين غزوا بلاده استغاث بتغلث فلاسر ملك أشور ودفع له إعانة جمعها من خزائن الهيكل والرؤساء وبيت الملك فجاء وأخذ دمشق قصبة آرام وبعض مدن إسرائيل وسبى سكانها ولم يساعد آحاز مساعدة حقيقية بل بالعكس ضايقه نظير خاضع له وأعياه (٢ملوك ص ١٦ و٢أيام ص ٢٨ و١أيام ٥: ٢٦).
ولما مات آحاز وذلك سنة ٧٢٦ ق. م. خلفه ابنه حزقيا وكان تقياً فأبطل العبادة الصنمية وأباد كل ما استُعمل لها من هيكل ومذابح وآنية وخلاف ذلك وأرجع الهيكل كما كان وردّ إليه عبادة الرب وأصلح الحصون ومجاري المياه حول أورشليم وأذل الفلسطينيين وخلع نير الأشوريين.
وفي السنة السادسة لحزقيا سقطت مملكة إسرائيل أمام الأشوريين وسُبي الباقي من شعبها وكان ذلك لهم السبي الأخير الذي لم يرجعوا منه البتة. وفي السنة الرابعة عشرة له حسب نص الكتاب أي سنة ٧١٣ ق. م. تهدده سنحاريب ملك أشور وهو صاعد بجيش عظيم على مصر مجتازاً في يهوذا فدفع له الجزية التي ضربها عليه وقدرها ثلاث مئة وزنة من الفضة وثلاثون وزنة من الذهب لكي يتخلص من شره فاضطر أن يأخذ كل ما في بيت الرب وفي خزائن بيت الملك. وأما سنحاريب فلما رأى ما يتهدده من الخطر بتركه قوة عظيمة وراءه أخضع أكثر المدن وأمر حجفلاً من عساكره أن يحصر أورشليم ويخضعها. ثم طلب من حزقيا بكلام الاحتقار والإهانة أن يسلم له فالتجأ إلى الله وطلب منه بصلوات حارة الحماية والإنقاذ فاستمع له سبحانه وأهلك جيش الأشوريين بطريقة عجيبة فنجا هو وشعبه من ذلك الخطب العظيم.
وإذا كان المراد بالأماكن الواردة في النبوءة في (ص ١٠: ٢٨ – ٣٤) المعنى الحقيقي يكون الأشوريين قد عسكروا تجاه الهيكل وملكهم هزّ يده المرفوعة بجراءة على ابنة صهيون كواثق بالغلبة بدون مشقة في الغد ولكن في ذلك الليل المشهور بخطوبه خرج ملاك الرب بين جيشه وهو نائم وضربه فلم يستفق منه إلا القليلون ففروا في الصباح تاركين من الأموات مئة وخمسة وثمانين ألفاً. وبما أن ذلك الخطب وقع أمام أعين إشعياء صار مؤرخه كما كان نبيه وقد جعله موضوعاً لعدة من مواعظه المؤثرة لشعبه. وكان ذلك من أهمّ الدواعي إلى مداخلة الله في حياته المملوءة من الحوادث المشهورة وتحويل تلك الحادثة إلى مساعدة عظيمة له في التنبئ والإنذار لإفادة الأجيال الحاضرة والآتية وقد بُني كثير من أعظم النبوءات بملك المسيح على التشبيه بهذه الحادثة.
ولما شُفي حزقيا من مرضه الخطير ذلك الشفاء الذي أُشير إليه بحوادث عجيبة وأُكرم برسالة من بلاط ملك بابل فتح طريقاً لدخول روح الافتخار فيه ونال توبيخاً عنيفاً من جرى ذلك وأُنذر بأسر بابل (٢ملوك ص ١٨ – ٢٠ و٢أيام ٢٩ – ٣٢ وإشعياء ٣٦ – ٣٩).
وفي ملك خلفه منسى شُيّدت أيضاً العبادة الصنمية في يهوذا وامتدت مع كل ما يتعلق بها من الشرور وتمسكوا بها أشد التمسك وعلى أفظع أسلوب وذلك بواسطة هذا الملك المرتد ولذلك على رغم كل ما بذله من الاجتهاد في استرداد المقام الذي خسره لما ندم فيما بعد والإصلاح الذي حاول إجراءه بكل جهده يوشيا الغيور استمرت أمور يهوذا آخذة في الانحطاط إلى أن وصلوا بسبب الانشقاقات الداخلية وتعدّي فرعون نخو والنير البابلي إلى أدنى الدركات وأخربت مدينة أورشليم وأُحرق الهيكل بالنار وسبي العظماء إلى بابل (٢ملوك ٢١: ١ – ١٨ وص ٢٢ – ٢٥ و٢أيام ٣٣: ١ – ٢٠ وص ٣٣ – ٣٦).
أما حياة هذا النبي فلم يبق إلا قليل منها إلى هذا القسم من تاريخ شعبه غير أن جزءاً كبيراً من نبواءته يختص بحالتهم في ذلك الزمان وهم بين عبدة الأصنام في أثناء السبي وبرجوعهم البهيج إلى أرضهم بواسطة كورش (إشعياء ص ٤٠ – ص ٥٢: ١٢). وقد كان اليهود كل مدة خدمة النبي إشعياء عرضة لتعديات الممالك الأجنبية التي بعضها كان من أقوى الممالك القديمة.
وأما الممالك المجاورة لهم فهي مملكة إسرائيل وممالك الآراميين والصوريين والفلسطينيين والموآبيين والأدوميين والعرب الذين أضروا بهم كثيراً بحروبهم وغزواتهم وانتصاراتهم وكثيراً ما أوصلوهم إلى حد التلف. وفي أثناء تلك المدة كانت مملكة مصر مساعدة لهم ومحامية عنهم حين تعدّي أشور عليهم (إشعياء ٣٠: ١ – ١٧ و٣١).
أما ملوك أشور الذين غزوا الأرض المقدسة الوارد ذكرهم في الكتاب فهم فول المسمى أيضاً بتغلث فلاسر وشلمنأسر وسرجون وسنحاريب وأسرحدون. وكان لهم سلطان مطلق ومتسع جداً ممتداً من بلاد فارس إلى البحر المتوسط ومن بحر قزيين إلى خليج العجم ولكنهم لما لم يكتفوا بتلك الممالك الواسعة طمع سرجون وسنحاريب في غزوات مصر وافتتاحها. ولهذا المشروع العظيم اعتبار في سفر إشعياء نظراً إلى ما كان على اليهود من الخطر العظيم من ذلك وما عمل الله بيد ممدودة لخلاصهم منه. أما شوكة الكلدانيين في بابل التي بمعاضدة الماديين قلبت مملكة الأشوريين ابتدأت ترتفع الآن وأظهروا سطوة عظيمة مدة ما على بلاد أسيا المجاورة لهم وعلى اليهودية أيضاً غير أن إشعياء لم يذكر بالتصريح على سبيل التاريخ أمور هذه المملكة ولا مملكة الفرس التي قامت بعدها غير ما ورد في (ص ٢٣: ١٣). وكذلك رومية التي أُسست في عصره إنما أشار إليها على سبيل النبوءة بالنظر إلى علاقتها بكنيسة الله وعبّر عنها بألفاظ عامة مثل المغرب وجزائر البحر. ومن جبل الرؤيا استشرق النبي الأمم المحيطة بأرض شعبه وكديدبان أمين حذر شعبه من كل منها ذاكراً بعض الأعجب من صفاتها ومتنبئاً بدمارها الأخير.
الفصل الثالث: في القصد من نبوءة إشعياء
القصد من نبوءة إشعياء ثلاثة:
- كشف خطايا شعب اليهود على نوع خاص وتوبيخهم عليها وآثام أسباط إسرائيل العشرة ورجاسات شعوب وبلاد شتى من بلاد الأمم والإنذار بحلول قضاء شديد على كل صنف ورتبة منهم يهوداً وأمماً.
- دعوة البشر من كل رتبة وحالٍ يهوداً وأمماً إلى التوبة والإصلاح بواسطة مواعيد كثيرة بالصفح والرحمة. ومما يستحق الاعتبار أن نصوصه على الانتقام الإلهي من بابل لا يتخلله مواعيد كالتي وردت في تهديداته لسائر الشعوب.
- تعزية الأتقياء بالحق بواسطة مواعيد بالمسيح نبوية واضحة جداً كأنها تاريخ. ومن ذلك ما ورد من سجاياه الباهرة وعجائبه وفضائله ورفض اليهود إياه وآلامه بسبب خطايانا وموته ودفنه وغلبته على الموت. ومجده الأخير وتأسيس ملكوته ونموه وامتداده إلى الكمال وكل ذلك دليل على صدق الإنجيل جليٌّ قاطع.
الفصل الرابع: في تفصيل ما تضمنته نبوءة إشعياء
يُقسم سفر إشعياء طبعاً إلى مقدمة وجزئين كبيرين. فالمقدمة محصورة في الأصحاح الأول. والجزء الثاني يتضمن رسالات نبوية شتى مبلغة للمرسلة إليهم في شأن دواع خاصة (ص ٢ – ص ٣٩). والثاني يشتمل على السبعة والعشرين أصحاحاً الباقية ويظهر منه أنه لا يتعلق بداع خاص وإنه كتب بعد هلاك جيش سنحاريب والأرجح أن النبي كتبه في شيخوخته لتعزية شبع الله وتشجيعهم في جميع القرون المستقبلة بدليل قوله في مقدمته (في العدد الأول من الأصحاح الأربعين) «عزوا عزوا شعبي يقول إلهكم».
الفصل الخامس: في نَفَس هذه النبوءة
إن الأنبياء وإن كانوا خاضعين للوحي الإلهي لا دليل على أنهم كانوا خالين من الخواص العقلية التي بها يمتازون عن غيرهم أو أنهم استعملوا أسلوب كتابة خارق العادة أي غير ما كان طبيعياً فيهم. لذلك من المناسب أن نبحث عن هذه الخواص أو عن نفَس كل منهم بخصوصه لكن ينبغي الانتباه لمراعاة الاحترام الواجب واللائق للروح القدس الذي كانوا دائماً خاضعين لإرشاده المعصوم وسلطانه الفائق.
إن إشعياء حُكم بالإجماع بأنه من أعظم الأنبياء ومع مشاركته لهم في أمور كثيرة امتاز عنهم بخواطر كثيرة العدد. وكان من سجاياه الحماسة والجسارة وكثرة التصور وعمق التفكر والشعور والتمعن والغيرة على احترام صفات الله الكاملة وروحانية السجود المطلوبة والمحاماة عن جودة حكمته تعالى. ومن صفاته أيضاً الميل إلى التبكيت على الخطية وإنذار الخطأة بجراءة شديدة ومحبة الوطن ورقة القلب واللذة بارتقاء أحوال شعبه ومواعيدهم المجيدة والمحبة للأمم والشفقة عليهم.
ولغته دائماً توافق المواضيع التي يبحث عنها. فإنه في الأخبار يتكلم بالبساطة والوضوح وفي إعلان الإرادة الإلهية بالاحترام اللائق وفي الوصف بشدة التدقيق وفي تهديد الأعداء الأجانب والأشرار بين اليهود بالتكلم بالحمية والحدة. وفي تشكيه من سيرة الناس بالعنف. وفي تحريضاته بالحرارة وقوة الكلام. وفي إيضاح سلطان الله المطلق وعظمته غير المحدودة بسمو الكلام. وفي يوم عبدة الأصنام بالتهكم والهجو العنيفين. وليس له نظير بين الأنبياء في نفاسة التمثيلات التي يستعملها وتنوعها ولا سيما في نبوءاته بملك المسيح وغبطة الكنيسة المنتظرة.
وما ألطف وأنفس وأبلغ عباراته الشعرية وتمثيلاته وما أشد موافقتها لمقتضى الحال وما أكثر صوره المتنوعة وأسمى نفَسها في وصف الأمور بكل حماسة. وكثيراً ما ينتقل هذا النبي في كلامه من موضوع إلى آخر فيظن القارئ في أول الأمر أنه قاصد إطالة الكلام في الموضوع الذي شرع فيه غير أنه حالاً ينتقل منه إلى موضوع جديد ثم يتركه بغتة وينتقل إلى غيره. وغلب ذلك في ما له علاقة بالفادي الآتي.
ومن يرغب في الاطلاع على أمثلة نفيسة سامية من نفسه فليراجع وصف ملابس نساء اليهود (ص ٣: ١٦ – ٢٤) ومثل الكرم (ص ٥) والأنباء باقتراب جيش الأشوريين إلى أورشليم (ص ١٠: ٢٨ – ٣٢) وهجو ملك بابل (ص ١٤) والقضاء على مصر (ص ١٩) وتهديد شبنا (ص ٢٢: ١٦ – ١٨) ومصائب أورشليم (ص ٢٤) وسمو الرب الفائق (ص ٤٠: ١٢ – ٣١) وجهل عبدة الأوثان (ص ٤٤) والفساد الذي يشيع بين اليهود في زمان مخلصنا (ص ٥٩) وحالتهم السعيدة متى رجعوا إلى الله في الأيام الأخيرة (ص ٦٠).
الفصل السادس: في صدق نسبة كل السفر إليه وأنه باق كما كان أصلاً
إن المراد بذلك صدق نسبته بكماله إلى كاتبه وخلوصه من الزيادة والنقصان والتحريف غير أن ذلك لا يستلزم بقاء كل كلمة وحرف كما خرج أصلاً من يد الكاتب تماماً لأن وجود القراءات المتنوعة مما لا يمكن إنكاره ومنع ذلك إنما كان يمكن إتمامه بواسطة سلسلة متصلة من المداخلات الإلهية العجيبة غير أن ذلك مما لم يسر الله باستعماله ففوّض سبحانه إلى البشر الذين تحت طائلة السقوط والضلال حفظ الأسفار المقدسة وتسليمها إلى من بعدهم. ومرادنا ببقاء هذا السفر على حاله لم يطرأ عليه تغيير عمداً ولا وقع فيه من القراءات ما يمس جوهره.
ولنا أقوى ما يمكن من الأدلة على بيان بقاء جميع الأسفار الإلهية على حالها ومن ذلك اعتبارها مقدسة عند الذين استؤمنوا عليها وشدة اعتنائهم بها وجعلها في أيدي الجمهور دون حصرها في أيدي قليلين من الخاصة وتكثير نسخها واستعمالها الدائم في كنيسة الله وعدم وجود غاية في تحريفها. وذلك في نفسه كافٍ لإقناعنا بعدم تغييرها عمداً واستحالة حدوث ذلك بدون اكتشافه وتفنيده.
أما الأسفار المقدسة العبرانية فليس من الأدلة القاطعة أقطع من أن الذين استؤمنوا عليها وحفظوها على نقاوتها بكل اعتناء في جميع القرون قد اعتبروها باحترام مقدس جداً وتيقنوا أنها أثمار الذين تحت سلطان إلهي عجيب يمكنهم من كتابة إعلانات الله والحوادث التي معرفتها مفيدة للبنين وبني البنين أولئك الذين لم يعيشوا منفردين عن العالم ولا كانوا مجهولين بل كانوا مشهورين وقُلدوا وظائفهم قانونياً وامتحن بيان صدقهم وشهد بصحتها أهل عصرهم على وجه العموم وأصحاب الوظائف المقدسة بينهم. ولم يُضم إلى القانون سفر لم يكن أُثبت أنه صدّقه أو كتبه رسول إلهي بالأدلة القاطعة. وبعد تمام ذلك القانون لم يتجاسر أحد أن يضيف إلى مضامينه المقدسة أو ينقص منها. فاعتقاد وجود غلط أو تحريف تحت هذه الأحوال عمداً أو اتفاقاً مخالف لحقيقة الأمر لا محالة.
ولا يخفى أن بعض العلماء في عصرنا قد ذهب إلى أن السبعة والعشرين أصحاحاً الأخيرة لشخص آخر عاش في أثناء مدة السبي فينبغي لنا ان نبحث في هذا المذهب فنقول:
- إن ابن سيراخ أشار في كلامه على إشعياء إلى القسم الثاني من سفره أي من (ص ٤٠ – ص ٦٦) (يشوع ابن سيراخ ص ٤٨: ٢٧ و٢٨). فيتبين من ذلك أن هذه الأصحاحات كانت في نحو منتهى القرن الثالث قبل المسيح معتبرة أجزاء من كلام إشعياء النبي.
- إن كل هذه الأصحاحات في الترجمة السبعينية كتاب واحد كما هي في سائر الترجمات القديمة.
- إن في كتاب الفصول النبوية الذي يُقرأ عند اليهود في السبوت والأعياد والأصوام ستة عشر فصلاً على الأقل من إشعياء منها ثلاثة عشر فصلاً من القسم الثاني منه قد أجمع الجمهور كما نعلم على أن هذا الكتاب جُمع في عصر أنطيوخس أبيفانيس سنة ١٧٠ ق. م.
- إن كتبة العهد الجديد كثيراً ما اقتبسوا من هذا القسم الثاني بناء على أنه لإشعياء (انطر متّى ٣: ٣ و٤: ١٤ و١٢: ١٧ ولوقا ٣: ٤ ويوحنا ١٢: ٣٨ و٣٩ ورومية ١٠: ١٦ و٢٠).
- إن هذه الأصحاحات كانت متضمنة في سفر إشعياء الذي كان يُقرأ في المجمع في الناصرة (لوقا ٤: ١٧) وفي النسخة التي أتى بها الوزير الحبشي من أورشليم (أعمال ٨: ٣٠ – ٣٤).
- إن يوسيفوس ذكر تقليداً مقبولاً عند اليهود وهو أن كورش أصدر أمراً ببناء الهيكل ثانية (عزرا ١: ٢) بعد ما اطلع على نبوءات إشعياء به (إشعياء ٤٤: ٢٤ – ٢٨ و٤٥: ١ – ١٣) والفرس مضادون للعبادة في الهيكل فلا بد من داع كاف حمل كورش على ذلك.
- إن جميع معلمي اليهود كثيراً ما أشاروا إلى الجزء الثاني من هذا السفر على أنه لإشعياء.
- إن الأدلة المقدسة لإثبات ذلك المذهب ليست كافية ولا مبنية على أساس متين وأقوى الأسباب التي حملت بعضهم على إنكار نسبة هذه الأصحاحات إلى إشعياء يمكن حصرها في قضيتين:
الأولى: إن هذه الأصحاحات تذكر كورش باسمه كأنه موجود في عصر النبي (ص ٤٤: ٢٨ و٤٥: ١) وتذكر السبي كأنه تناهى والرجوع من السبي كأنه تقارب (ص ٤٠: ١ – ١١ و٥٢: ٩). والجواب على ذلك هو أن النبي كثيراً ما يذكر المستقبل كأنه حاضر ومثال ذلك قدوم سنحاريب (ص ١٠: ٢٨) لأن هذه الأمور المستقبلة حاضرة عنده بالرؤيا. ولا نستصعب ذكر شخص باسمه قبلما وُلد بمدة مئة سنة لأن الرب قادر على كل شيء وقد ذُكر يوشيا قبلما وُلد بمدة ٣٠٠ سنة (١ملوك ١٣: ١ و٢) ولا نقول أنه لا يوجد داع كاف لهذه العجيبة العظيمة لأن النبي بيّن في أول الأمر أنه أمر عجيب والرب قصد أن يعمله حتى يعرف جميع الأمم أن الرب هو الله والآلهة التي سجدوا لها هي عدم (ص ٤١: ٢١ – ٢٩).
والثانية: وجود اختلافات في الكلمات والنفس بين الجزء الأول والجزء الثاني. والجواب أن هذا الاختلاف وارد على أسلوب طبيعي من قبيل الفرق في الموضوع لأن الجزء الأول يتضمن كثيراً من التوبيخ والإنذار والنطق بالويل على اليهود والأمم والجزء الثاني يتضمن كثيراً من المواعيد والتعزية والنظر إلى مستقبل الكنيسة المجيد ولا سيما مجيء المسيح فهذا الاختلاف في الموضوع يستلزم طبعاً الفرق في النفس. ومع هذا الفرق لنا أيضاً في هذا السفر عينه بيّنة جلية على صدق نسبة السفر كله إلى إشعياء. فإن خواص عقل كاتبه وتخيلاته الشعرية وجراءته العجيبة وحماسته وطرق إنبائه بالحوادث المستقبلة ونفسه نظماً ونثراً تبين أن كاتب الجزء الثاني منه هو كاتب الجزء الأول عينه وأمثلة ذلك لفظة «قدوس إسرائيل» واقتران اسم «يعقوب» باسم «إسرائيل» والعبارة «لأن فم الرب تكلم». ووجود العبارة «يقول الرب» في (ص ١: ١١ و١٨ وص ٤٠: ١ و٢٥). ولفظة «روح الرب». وذكر «رفع راية». و «منفيي إسرائيل» و «من الآن وإلى الأبد» و «لحيظة» و «سلاماً سلاماً» الخ. فإن هذه الأصحاحات الشخصية توجد في كل من جزءي السفر (قابل ص ١: ١٣ مع ٦٦: ٣ وص ١: ٢٨ مع ٦٦: ١٧ و١١: ٩ مع ٦٥: ٢٥ و١١: ٧ مع ٦٥: ٢٥ و١٤: ٢٤ مع ٤٦: ١٠ و١٦: ١١ مع ٦٣: ١٥ و٢٤: ١٩ و٢٠ مع ٥١: ٦ و٢٤: ٢٣ مع ٦٠: ١٩ و٢٥: ٨ مع ٦٥: ١٩ و٢٦: ١ مع ٦٠: ١٨ و٢٧: ١ مع ٥١: ٩).
والأشياء الطبيعية المذكورة في الجزء الثاني تدل على أن المؤلف كان في اليهودية لا في بابل مثال ذلك «لبنان» (ص ٤٠: ١٦ و٦٠: ١٣). و«الأشجار» (ص ٤١: ١٩) و«الماء من الصخر» (ص ٤٨: ٢١). و«الأودية وشقوق المعاقل» (ص ٥٧: ٥) و«الجبال والآكام والسرو والآس» (ص ٥٥: ١٢ و١٣ الخ) أي أن هذه الأشياء الطبيعية ليست موجودة في بابل وتدل على صدق نسبة السفر كله إلى إشعياء.
وإذا فرضنا أن الجزء الثاني من هذا السفر لمؤلف آخر غير إشعياء يُقال من هو هذا المؤلف هل هو يهودي أو أممي بالطبع يحكم بأنه ليس بأممي لأن الأممي لا يقدر أن يكتب كما كتب هذا المؤلف في الإله الحقيقي وبطل عبادة الأصنام. وإذا كان يهودياً فلماذا لم يُذكر اسمه فإنه كان من أعظم الأنبياء وكان معاصراً لحزقيال ودانيال. وكيف انضم هذا السفر إلى سفر إشعياء هل عرف عزرا أنه لمؤلف غير إشعياء. وإذا عرف ذلك فلماذا جمعه مع سفر إشعياء وباسم إشعياء لا باسم مؤلفه. أو من هو الذي أضاف هذا السفر إلى سفر إشعياء وكيف يمكنه أن يضيفه والأسفار المقدسة محفوظة عند اليهود بكل ضبط واعتناء.
والنتيجة أننا نصدق نسبة السفر كله إلى مؤلف واحد هو إشعياء وهذا كله يتضح جلياً حين نصل إلى تفسير النبوءة بالتفصيل.
التالي |