سفر إشعياء | 48 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر إشعياء
للقس . وليم مارش
اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّامِنُ وَٱلأَرْبَعُون
مضمونه:
ينقسم القسم الثاني من نبوءة إشعياء وهو من ص ٤٠ إلى آخر السفر إلى ثلاثة أقسام وفي كل منها تسع أصحاحات والأصحاح ٤٨ هو آخر القسم الأول من الأقسام الثلاثة وهو على سبيل مراجعة بعض المواضيع المهمة فيها كنصرة كورش والتمييز بين الإله الحقيقي والأصنام وآخره القول «لاَ سَلاَمَ قَالَ ٱلرَّبُّ لِلأَشْرَارِ» (ع ٢٢). والقسم الثاني ينتهي بهذا القول نفسه (ص ٥٧: ٢١).
وهذا الأصحاح يذكر خطايا إسرائيل ولا سيما الرياء ويذكر أيضاً محبة الرب لهم وإن كانوا غير مستحقين ومقاصده في خلاصهم لأجل اسمه. ولم يُعد النبي بعد هذا الأصحاح إلى الكلام في نصرة كورش وسقوط بابل والأوليات والمستقبلات وبطل الأصنام ووحدانية الرب مما تمعن فيه في ما سبق من النبوءة. وخاطب النبي المسبيين في بابل الذين أكثرهم من سبط يهوذا.
١، ٢ «١ اِسْمَعُوا هٰذَا يَا بَيْتَ يَعْقُوبَ ٱلْمَدْعُوِّينَ بِٱسْمِ إِسْرَائِيلَ ٱلَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ مِيَاهِ يَهُوذَا، ٱلْحَالِفِينَ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ، وَٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ إِلٰهَ إِسْرَائِيلَ، لَيْسَ بِٱلصِّدْقِ وَلاَ بِٱلْحَقِّ! ٢ فَإِنَّهُمْ يُسَمَّوْنَ مِنْ مَدِينَةِ ٱلْقُدْسِ وَيُسْنَدُونَ إِلَى إِلٰهِ إِسْرَائِيلَ. رَبُّ ٱلْجُنُودِ ٱسْمُهُ».
مزمور ٦٨: ٢٦ تثنية ٦: ١٣ وص ٦٥: ١٦ وصفنيا ١: ٥ إرميا ٤: ٢ و٥: ٢ ص ٥٢: ١ ميخا ٣: ١١ ورومية ٢: ١٧
يَا بَيْتَ يَعْقُوبَ تشير لفظة «يعقوب» إلى الأصل الطبيعي ولفظة «إسرائيل» إلى النسبة إليه كرئيس العهد ومستلم المواعيد.
مِيَاهِ يَهُوذَا يهوذا مذكور دون غيره من أولاد يعقوب وهو مشبه بنبع والشعب بالمياه الخارجة منه (مزمور ٦٨: ٢٦) لا لأنهم جميعاً متسلسلون منه تسلسلاً طبيعاً بل لأن الرئاسة كانت له وكان الملوك منه. فالنبي خاطب شعب الله كلهم بغض النظر عن الأصل أي سواء كانوا من يهوذا أو كانوا من الأسباط العشرة. وأوضح أنهم مدعوون لكونهم شعب الله لا لكونهم أبراراً فيجب أن لا ينظروا إلى دعوتهم ليفتخروا بها ولا إلى خطاياهم ليقنطوا.
ٱلْحَالِفِينَ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ كان يجب أن يحلفوا باسم الرب لأنهم كانوا يعترفون بذلك به (تثنية ٦: ١٣). ولا نستنتج من ذلك أن الحلف يجوز في المحادثة المعتادة بل في أحوال توجب القسم كالشهادة في المحكمة أو في التعيين لمقام (متّى ٥: ٣٣ – ٣٧).
لَيْسَ بِٱلصِّدْقِ خطية إسرائيل الغالبة في الرياء لأنهم كانوا يسمون باسم إسرائيل ويقولون الرب إلههم ومع ذلك كانوا يخالفون وصاياه ويسجدون للأصنام وهم كاليهود في زمان المسيح في افتخارهم بأنهم ذرية إبراهيم (يوحنا ٨: ٣٣). وأما المسيح فقال فيهم «يَقْتَرِبُ إِلَيَّ هٰذَا ٱلشَّعْبُ بِفَمِهِ، وَيُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيداً» (متّى ١٥: ٨).
يُسَمَّوْنَ مِنْ مَدِينَةِ ٱلْقُدْسِ اتكالهم على نسبتهم إلى أورشليم برهان على عدم وجود البرّ الحقيقي فيهم.
رَبُّ ٱلْجُنُودِ ٱسْمُهُ كثيراً ما يتعلق هذا الاسم بذكر قداسة الله واستعماله يذكر اليهود أن الرب ليس إله إسرائيل بمعنى أنه يغض النظر عن خطاياهم لكونهم بني إسرائيل بل هو إله عادل وقدوس.
٣ «بِٱلأَوَّلِيَّاتِ مُنْذُ زَمَانٍ أَخْبَرْتُ، وَمِنْ فَمِي خَرَجَتْ وَأَنْبَأْتُ بِهَا. بَغْتَةً صَنَعْتُهَا فَأَتَتْ».
ص ٤١: ٢٢ و٤٢: ٩ و٤٣: ٩ و٤٤: ٧ و٨ و٤٥: ٢١ و٤٦: ٩ و١٠ يشوع ٢١: ٤٥
بِٱلأَوَّلِيَّاتِ الأرجح أن المراد «بالأوليات» هنا كل النبوءات القديمة والحديثة (ع ٦) قسم جديد من النبوءات يبتدئ في ص ٤٩ وموضوعها المسيح وملكوته. والأوليات تشتمل على النبوءات والحوادث التي تمت النبوءات فيها.
بَغْتَةً أي في تاريخ تلك النبوءات لم يكن شيء يدل على حدوث الحوادث المذكورة في النبوءات كهلاك جيش سنحاريب.
صَنَعْتُهَا فَأَتَتْ (انظر ص ٤٦: ١١) «قَدْ تَكَلَّمْتُ فَأُجْرِيهِ. قَضَيْتُ فَأَفْعَلُهُ» الرب أولاً قضى وتكلم بما سيحدث وفي الوقت المعين أتى بالحوادث فالكل منه والكل به.
٤ «لِمَعْرِفَتِي أَنَّكَ قَاسٍ، وَعَضَلٌ مِنْ حَدِيدٍ عُنُقُكَ، وَجِبْهَتُكَ نُحَاسٌ».
خروج ٣٢: ٩ وتثنية ٣١: ٢٧
هذه الآية توبيخ شديد وهو نادر في نبوءة إشعياء غير أنه أتى كثيراً في حزقيال.
عَضَلٌ مِنْ حَدِيدٍ عُنُقُكَ يشير إلى عناد إسرائيل وهو مشبه بثور لا يقبل النير ولا يطيع صاحبه.
جِبْهَتُكَ نُحَاسٌ يشير إلى قلة الحياء كامرأة زانية (إرميا ٣: ٣) أو إلى العناد (حزقيال ٣: ٧).
٥ «أَخْبَرْتُكَ مُنْذُ زَمَانٍ. قَبْلَمَا أَتَتْ أَنْبَأْتُكَ، لِئَلاَّ تَقُولَ: صَنَمِي قَدْ صَنَعَهَا، وَمَنْحُوتِي وَمَسْبُوكِي أَمَرَ بِهَا».
ع ٣
أَخْبَرْتُكَ مُنْذُ زَمَانٍ أي بالأوليات المذكورة في (ع ٣). وهذه النبوءات كانت عجيبة جداً وفائقة كل حكمة بشرية فلا يمكن أحد غير الله أن يعرفها. المختبرون في الأمور السياسية يقدرون أن يخبروا بما سيحدث على الأرجح وأما الرب فأخبر بالتأكيد بما سيكون ولم يخبر فقط بأمور قريبة في الزمان بل أيضاً بأمور بعيدة جداً وأمور تخالف كل انتظار الناس وظنونهم كسقوط بابل وذكر كورش باسمه قبلما وُلد بمئة سنة ونيف. ولا شك أن الرب قصد بهذه النبوءات غير المعتادة أن يسكت ويخجل المتكلين على الأصنام ولا يكون ذلك إلا بنبوءات كهذه فإن عناد إسرائيل غير المعتاد استلزم نبوءات غير معتادة.
لِئَلاَّ تَقُولَ: صَنَمِي يظهر أن أكثر اليهود كانوا يسجدون للأصنام لا قبل السبي فقط بل في مدة السبي أيضاً (حزقيال ٢٠: ٣٠ – ٣٣). والذين رجعوا من السبي وهم القسم الأقل كانوا الساجدين للرب وأما الساجدون للأصنام فبقوا في بابل وربما بعضهم سجدوا للرب وللأصنام معاً أي عبادة ممتزجة وبعضهم تركوا الرب كل الترك.
٦، ٧ «٦ قَدْ سَمِعْتَ فَٱنْظُرْ كُلَّهَا. وَأَنْتُمْ أَلاَ تُخْبِرُونَ؟ قَدْ أَنْبَأْتُكَ بِحَدِيثَاتٍ مُنْذُ ٱلآنَ، وَبِمَخْفِيَّاتٍ لَمْ تَعْرِفْهَا. ٧ ٱلآنَ خُلِقَتْ وَلَيْسَ مُنْذُ زَمَانٍ، وَقَبْلَ ٱلْيَوْمِ لَمْ تَسْمَعْ بِهَا، لِئَلاَّ تَقُولَ: هَئَنَذَا قَدْ عَرَفْتُهَا».
قَدْ سَمِعْتَ أي إسرائيل كان قد سمع النبوءات.
فَٱنْظُرْ أي انظر الآن تمام هذه النبوءات.
أَلاَ تُخْبِرُونَ أي إسرائيل لا يقدر أن ينكر إتمام النبوءات فلا يجوز له أن يرفض طلب الرب بل عليه أن يشهد بما كان قد سمعه ونظره وهذه الشهادة واجبة عليه خصوصاً لكونه شعب الله.
بِحَدِيثَاتٍ (انظر ع ٣) أي قسم جديد من النبوءات يبتدئ في (ص ٤٩) وموضوعها المسيح وملكوته. وهذه الحديثات مخفيات عن الناس لأنها مستقبلة فلا يقدرون أن يعرفوها وهي بعيدة عن كل اختبارهم فلا يقدرون أن يرجحوها.
ٱلآنَ خُلِقَتْ الأمور المختصة بعبد الرب والفداء بالمسيح وهذه الأمور كانت بمقاصد الرب الأزلية ويكون إتمامها في العصور المستقبلة ولكنها خُلقت الآن بالمعنى أنها ذُكرت وظهرت بالنبوءات ولم يعرفها قبل النبوءات أحد من الناس وكانت كأنها خُلقت عندما أُعلنت.
وَقَبْلَ ٱلْيَوْمِ لَمْ تَسْمَعْ بِهَا كانت في الأسفار المقدسة القديمة رموز وإشارات إلى المسيح وطريقة الخلاص غير أنه لم يكن إعلان واضحاً كما يأتي في نبوءات إشعياء من (ص ٤٩) وصاعداً.
لِئَلاَّ تَقُولَ لو أُعلنت هذه الحديثات في القديم لكانت عند اليهود في عصر إشعياء كأشياء بسيطة ومفهومة ونسبوا معرفتهم بها إلى قوة عقولهم كما أن بعض أهل عصرنا اعتادوا الكتب المقدسة فلا يرون فيها شيئاً عجيباً بل يظنون أنهم يعرفون كل شيء بقوة أذهانهم ويجهلون أنهم لولا إعلان الله كتابه المقدس كانوا كالبرابرة في ظلام دامس.
٨ «لَمْ تَسْمَعْ وَلَمْ تَعْرِفْ، وَمُنْذُ زَمَانٍ لَمْ تَنْفَتِحْ أُذُنُكَ، فَإِنِّي عَلِمْتُ أَنَّكَ تَغْدُرُ غَدْراً، وَمِنَ ٱلْبَطْنِ سُمِّيتَ عَاصِياً».
مزمور ٥٨: ٣
لَمْ تَسْمَعْ كانوا قد سمعوا النبوءات ولكنهم لم ينتبهوا لها ولا آمنوا بها. وإن لم ينتبهوا للمبادئ فكيف يفهمون أمور المسيح والخلاص التي سيأتي الإعلان بها.
مُنْذُ زَمَانٍ ظهر عدم إيمان إسرائيل من أول تاريخه باعتبار كونه شعب الله.
فَإِنِّي عَلِمْتُ لم يعلن لهم الرب هذه الأمور منذ زمان ولم يفتح آذانهم لمعرفته أنهم لا يقبلون الإعلان ولا يحفظون العهد.
تَغْدُرُ غَدْراً خالفوا العهد الذي بينهم وبين إلههم.
وَمِنَ ٱلْبَطْنِ من أول ما صاروا شعباً.
٩ «مِنْ أَجْلِ ٱسْمِي أُبَطِّئُ غَضَبِي، وَمِنْ أَجْلِ فَخْرِي أُمْسِكُ عَنْكَ حَتَّى لاَ أَقْطَعَكَ».
مزمور ٧٩: ٩ و١٠٦: ٨ وص ٤٣: ٢٥ وع ١١ وحزقيال ٢٠: ٩ و١٤ و٢٢ و٤٤ مزمور ٧٨: ٣٨
خطايا إسرائيل المذكورة في هذا الأصحاح أي الرياء والعناد وعدم الاستماع استوجبت غضب الله في الحال ولكنه بطأ غضبه لأنه كان قد اختار إسرائيل وسماه شعبه الخاص ولو تركهم لجدف الأمم على اسمه (تثنية ٩: ٢٨ وخروج ٣٢: ١٢). وتذكر الرب مواعيده لشعبه ومقاصده في خلاصهم وخلاص العالم بواسطتهم فلأجل اسمه لم يرد أن يقطعهم. ومجد الله أهم من كل منفعة لخلائقه (١) لأن الله أعلى من خلائقه. (٢) لأن كل منفعة لخلائقه متعلقة بمجده وإظهار صفاته الكاملة.
١٠ «هَئَنَذَا قَدْ نَقَّيْتُكَ وَلَيْسَ بِفِضَّةٍ. ٱخْتَرْتُكَ فِي كُورِ ٱلْمَشَقَّةِ».
مزمور ٦٦: ١٠ حزقيال ٢٢: ٢٠ و٢١ و٢٢
لَيْسَ بِفِضَّةٍ هذه العبارة تحتمل تفسيرين:
(١) الامتحان بلا قساوة. قيل في (مزمور ١٢: ٦) «كَلاَمُ ٱلرَّبِّ كَلاَمٌ نَقِيٌّ، كَفِضَّةٍ مُصَفَّاةٍ فِي بُوطَةٍ فِي ٱلأَرْضِ، مَمْحُوصَةٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ». وأما امتحان إسرائيل فلم يكن هكذا بل برحمة واعتدال. ولو عاملهم الرب بالعدل حسب خطاياهم لهلكوا تمام الهلاك.
(٢) الامتحان بلا نتيجة. أي أن الرب كان أدّب شعبه ولم ينتج من تأديبه شيء من الأعمال الصالحة كصائغ حمىّ كوره ووضع المعدن فيه وبعد كل تعبه لم يخرج منه شيء من الفضة بل كان كل ما خرج خبثاً لا قيمة له. الصائغ يقصد الربح لنفسه وأما الرب فلشعبه وكل ما يحتملونه من التأديب إنما هو لمنفعتهم.
١١ «مِنْ أَجْلِ نَفْسِي، مِنْ أَجْلِ نَفْسِي أَفْعَلُ. لأَنَّهُ كَيْفَ يُدَنَّسُ ٱسْمِي؟ وَكَرَامَتِي لاَ أُعْطِيهَا لآخَرَ».
ع ٩ تثنية ٣٢: ٢٦ و٢٧ وحزقيال ٢٠: ٩ ص ٤٢: ٨
مِنْ أَجْلِ نَفْسِي لم يخترهم من أجل غناهم أو قوتهم أو أعمالهم الصالحة بل لأجل اسمه ليظهر فيهم رحمته ونعمته وقوته في خلاصهم من أعدائهم ومن خطاياهم.
أَفْعَلُ وبالمستقبل أيضاً يخلّصهم من أجل نفسه ولو كانوا غير مستحقين.
لأَنَّهُ كَيْفَ يُدَنَّسُ ٱسْمِي يُدنس اسم الرب بأمرين:
الأول: أن يتركهم بلا تأديب فيستنتج الأمم أن الرب راض بأعمالهم القبيحة.
الثاني: بتركه شعبه بلا خلاص فيستنتج الأمم أن الرب ليس قادراً على خلاصهم وغير أمين في مواعيده.
١٢، ١٣ «١٢ اِسْمَعْ لِي يَا يَعْقُوبُ. وَإِسْرَائِيلُ ٱلَّذِي دَعَوْتُهُ. أَنَا هُوَ. أَنَا ٱلأَوَّلُ وَأَنَا ٱلآخِرُ، ١٣ وَيَدِي أَسَّسَتِ ٱلأَرْضَ وَيَمِينِي نَشَرَتِ ٱلسَّمَاوَاتِ. أَنَا أَدْعُوهُنَّ فَيَقِفْنَ مَعاً».
تثنية ٣٢: ٣٩ ص ٤١: ٤ و٤٤: ٦ ورؤيا ١: ١٧ و٢٢: ١٣ مزمور ١٠٢: ٢٥ ص٤٠: ٢٦
وعلى إسرائيل أن يسمع لسببين (١) إن الله دعاه ووجه كلامه إليه خاصة. (٢) إن المتكلم هو الله القادر على كل شيء وخالق كل شيء.
أَنَا هُوَ الله غير متغير ومنذ الأزل هو هو وإلى الأبد.
وَأَنَا ٱلآخِرُ الله وعد المؤمنين به بالحياة الأبدية فلا يكون هو الآخر وحده ولكن كل شيء منه لأنه خلق الكل والحياة الأبدية منه لأنه يحفظ خلائقه على الدوام وكل شيء له وهو غاية كل شيء لأنه خلق الكل لأجل مجده.
أَنَا أَدْعُوهُنَّ انظر فعل المضارع لأن الله ليس الخالق فقط في البدء بل هو الآن حافظ الكل والمعتني بكل شيء وبدون عنايته الدائمة لا يقف الكون. وكل شيء من المخلوقات تحت أمره يدعوه فيقف. فكم بالحري يجب على الإنسان أن يسمع عندما يدعوه الرب والذي يعتني به بالأرض والسموات فكلم بالحري يقدر أن يحفظ شعبه ويخلصه.
١٤ «اِجْتَمِعُوا كُلُّكُمْ وَٱسْمَعُوا. مَنْ مِنْهُمْ أَخْبَرَ بِهٰذَا؟ قَدْ أَحَبَّهُ ٱلرَّبُّ. يَصْنَعُ مَسَرَّتَهُ بِبَابِلَ، وَيَكُونُ ذِرَاعُهُ عَلَى ٱلْكِلْدَانِيِّينَ».
ص ٤١: ٢٢ و٤٣: ٩ و٤٤: ٧ و٤٥: ٢٠ و٢١ ص ٤٥: ١ ص ٤٤: ٢٨
اِجْتَمِعُوا كُلُّكُمْ يا إسرائيليون.
مَنْ مِنْهُمْ أَخْبَرَ أي مَن مِنَ الأمم أخبر بهذه أي سقوط بابل وخلاص إسرائيل فإن الأمم لا يقدرون أن يقولوا أن آلهتهم تنبأت بهذه وأما الرب فأخبر بها قبل حدوثها بمئة وخمسين سنة فيجب على إسرائيل أن يعترف بأن الرب هو الله.
قَدْ أَحَبَّهُ ٱلرَّبُّ أي كورش ولا نفهم من هذا القول أنه أحبه كما أحب إبراهيم وداود لأن كورش كان ملكاً وثنياً ولكنه كان كآلة مختارة لإتمام إرادته في خلاص شعبه من بابل وكان موافقاً لهذه الغاية ومطيعاً في هذا الأمر. وهكذا في (إرميا ٢٥: ٩) «نَبُوخَذْنَصَّرَ عَبْدِي».
يَصْنَعُ مَسَرَّتَهُ بِبَابِلَ كورش سيصنع مسرة الرب بدمار بابل وكان ذلك مسرة الرب وليس مسرة كورش فقط.
ذِرَاعُهُ عَلَى ٱلْكِلْدَانِيِّينَ ذراع كورش أي يحاربهم ويغلبهم.
١٥ «أَنَا أَنَا تَكَلَّمْتُ وَدَعَوْتُهُ. أَتَيْتُ بِهِ فَيَنْجَحُ طَرِيقُهُ».
ص ٤٥: ١ و٢ الخ
أَنَا أَنَا تكرار لفظة «أنا» يدل على أهمية القول وبالحقيقة تسمية كورش قبلما وُلد وارتقاءه إلى كرسي الملك ونجاحه وانتصاره على الكلدانيين من الأمور العجيبة لا يقدر أحد غير الله أن يعملها أو يعرفها قبل حدوثها.
فَيَنْجَحُ طَرِيقُهُ (ص ٤١: ٢ و٣ و٤٥: ١ – ٣).
١٦ «تَقَدَّمُوا إِلَيَّ. ٱسْمَعُوا هٰذَا. لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنَ ٱلْبَدْءِ فِي ٱلْخَفَاءِ. مُنْذُ وُجُودِهِ أَنَا هُنَاكَ، وَٱلآنَ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ أَرْسَلَنِي وَرُوحُهُ».
ص ٤٥: ١٩ ص ٦١: ١ وزكريا ٢: ٨ و٩ و١١
تَقَدَّمُوا إِلَيَّ الرب هو المتكلم.
لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنَ ٱلْبَدْءِ فِي ٱلْخَفَاءِ (ص ٤٥: ١٩).
مُنْذُ وُجُودِهِ أي وجود هذا الأمر في قضاء الله منذ الأزل.
أَنَا هُنَاكَ (أمثال ٨: ٢٧) الرب لم يقتصر على أن تكلم وقضى في البدء فهو يجري كل شيء ويعتني بكل شيء من الأول إلى النهاية. وهو العامل في كل أمور العالم من البدء إلى الآن.
وَٱلآنَ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ أَرْسَلَنِي وَرُوحُهُ رأى بعضهم أن النبي هو المتكلم ولكن الأرجح أن المتكلم هنا المسيح وروح الرب كان عليه (ص ٦١: ١) «روح السيد الرب عليّ» والمسيح هو الكلمة أي الله كلم الناس به وأظهر به مجده وليس فقط بعد التجسد بل في العهد القديم أيضاً (تكوين ١٨: ١٣ وقضاة ٦: ١١ و١٣: ٣). والله الآب عمل العالمين به وهو الحامل كل الأشياء بكلمة قدرته (عبرانيين ١: ٣) فيجوز أن نقول أن المسيح هو المتكلم بهذه الآية كلها.
١٧ «هٰكَذَا يَقُولُ ٱلرَّبُّ فَادِيكَ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ: أَنَا ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ مُعَلِّمُكَ لِتَنْتَفِعَ، وَأُمَشِّيكَ فِي طَرِيقٍ تَسْلُكُ فِيهِ».
ص ٤٣: ١٤ و٤٤: ٦ و٢٤ وع ٢٠ مزمور ٣٢: ٨
الرب يعلّم شعبه بلسان الأنبياء وبالتأديب أيضاً. والقول «الرب معلم شعبه» يشير إلى ثلاثة أمور:
- تنازله ومحبته الأبوية وطول أناته.
- قيمة الإنسان عنده فإن هذا القول يستلزم أن الإنسان قابل التعليم وذو عقل وإدراك وضمير.
- مسؤولية الإنسان فإن الرب لا يجبره كبهيمة أو عبد بل يعلّمه ليفهم ويعرف ويقتنع ويطيع الرب بإرادته واختياره.
فَادِيك بيّن الله محبته لشعبه على طرق كثيرة بأنه اختارهم وفداهم من عبودية مصر وسبي بابل ولا سيما بذله ابنه الفادي لجميع المؤمنين فكان موت المسيح برهاناً قاطعاً على محبة الله. فمهما أصابنا من المصائب والأحزان لا نشك في محبته لنا.
قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ ليست غاية تعليمه الراحة الوقتية بل القداسة والآلام الجسدية وخسارة الأموال قد تكون وسائط لخلاص النفس والنمو في الروحيات وكل ما يصيبنا هو لنفعنا.
وَأُمَشِّيكَ تعليم الرب فعّال لأنه لا يكتفي بالكلام بل أيضاً يجعل روحه في داخلهم ويجعلهم يسلكون في فرائضه (حزقيال ٣٦: ٢٧).
١٨ «لَيْتَكَ أَصْغَيْتَ لِوَصَايَايَ، فَكَانَ كَنَهْرٍ سَلاَمُكَ وَبِرُّكَ كَلُجَجِ ٱلْبَحْرِ».
تثنية ٣٢: ٢٩ ومزمور ٨١: ١٣ مزمور ١١٩: ١٦٥
لَيْتَكَ نفهم من هذا القول:
- إن الرب لا يشاء أن يهلك الناس بل أن يقبل الجميع إلى التوبة.
- إنه أعطى الإنسان الحرية ليقبل الخلاص أو يرفضه كما يشاء غير أننا لا نقدر أن نفهم كيف يقول القادر على كل شيء «ليتك» كأنه اشتهى شيئاً بعد الوقوع أو مستحيل الوقوع. فما أعظم محبة الله وما أعظم مسؤولية الإنسان.
فَكَانَ كَنَهْرٍ سَلاَمُكَ السلام الموعود به يشبه النهر في أمور:
- إنه من فوق ومن الله وليس من العالم كما أن النهر من نبع أعلى منه وماء النبع من المطر النازل من السماء.
- إنه يدوم فيشبه نهراً كبيراً كالفرات الذي لا تنقطع مياهه ولا ينشف وأما سلام العالم فكسيول الأودية التي إلى حين فقط فتنشف وتبقى الأودية بلا ماء أكثر السنة.
- إنه يشمل كل أمورنا سواء كانت مهمة أو كانت زهيدة كمياه نهر يغطي كل ما في طريقه.
- إنه مثمر فحين يحل سلام الله في قلوبنا نزداد في كل نعمة كأرض مصر التي خصبها العجيب من نهر النيل.
- إنه يزداد يوماً فيوماً وسنة فسنة من سني حياتنا على الأرض فنصل إلى السلام الكامل كما أن النهر يزداد حتى يصل إلى البحر غير المحدود.
بِرُّكَ القرينة تدل عى أن كلمة بر هنا مستعملة في معنى التدبير والفوائد الناتجة عنه كالراحة والسلام فإن بني إسرائيل لم يكونوا أبراراً نظراً إلى أعمالهم ولكن الرب وعدهم بالغفران فيكونون كأنهم أبرار وكما كانت خطاياهم سبباً لضيقاتهم هكذا يكون تبريرهم سبباً للراحة والسلام.
كَلُجَجِ ٱلْبَحْرِ التبرير كلجج البحر في ما يأتي:
- البحر غير المحدود وكما يغطي كل شيء هكذا بر المسيح يغطينا فلا تظهر خطايانا ولا تُذكر.
- إن لجج البحر قوية جداً ولا يقدر بني البشر أن يردوها وهكذا برّ المسيح «مَنْ سَيَشْتَكِي عَلَى مُخْتَارِي ٱللّٰهِ؟ اَللّٰهُ هُوَ ٱلَّذِي يُبَرِّرُ» (رومية ٨: ٣٣).
١٩ «وَكَانَ كَٱلرَّمْلِ نَسْلُكَ وَذُرِّيَّةُ أَحْشَائِكَ كَأَحْشَائِهِ. لاَ يَنْقَطِعُ وَلاَ يُبَادُ ٱسْمُهُ مِنْ أَمَامِي».
تكوين ٢٢: ١٧ وهوشع ١: ١٠
وَكَانَ كَٱلرَّمْلِ نَسْلُكَ هكذا وعد الله إبراهيم (تكوين ٢٢: ١٧) وتم الوعد جزئياً ووقتياً في أيام سليمان (١ملوك ٤: ٢٠) وسيتم في أولاد إبراهيم بالإيمان أي المؤمنين بالمسيح ولولا خطايا إسرائيل لتم الوعد كل التمام بنمو نسل إبراهيم حسب الجسد. غير أن الذين رجعوا من سبي بابل كانوا قليلين جداً بالنسبة إلى الوعد.
كَأَحْشَائِهِ أي الحيوانات العديدة في البحر. قيل إن السردين في البحر لا ينقطع ولو أكل منه كل أهل أوربا كل يوم.
لاَ يُبَادُ ٱسْمُهُ أي اسم إسرائيل والمعنى أن الأمة لا تتلاشى بواسطة حروب أو سبي أو انضمام إلى أمة أخرى بل تبقى أمة عظيمة وحرة.
أَمَامِي يكون نظر الله عليها في كل حين وهكذا الرب أكد لشعبه محبته غير المحدودة وأكد لهم أيضاً أنه طالب خلاصهم ولكنهم رفضوا محبته وأهلكوا أنفسهم.
٢٠ «اُخْرُجُوا مِنْ بَابِلَ، ٱهْرُبُوا مِنْ أَرْضِ ٱلْكِلْدَانِيِّينَ. بِصَوْتِ ٱلتَّرَنُّمِ أَخْبِرُوا. نَادُوا بِهٰذَا. شَيِّعُوهُ إِلَى أَقْصَى ٱلأَرْضِ. قُولُوا: قَدْ فَدَى ٱلرَّبُّ عَبْدَهُ يَعْقُوبَ».
ص ٥٢: ١١ وإرميا ٥٠: ٨ و٥١: ٦ و٤٥ وزكريا ٢: ٦ و٧ ورؤيا ١٨: ٤ خروج ١٩: ٤ و٥ و٦ وص ٤٤: ٢٢ و٢٣
نبوءة بالرجوع من السبي. لا يحتاج الأسير إلى أمر بالخروج من سجنه فإنه يخرج متى فُتح له الباب وأما المسبيون في بابل فأكثرهم وُلدوا هناك وامتلكوا والخروج من بابل لم يظهر لهم كالرجوع إلى الوطن والواقع أن الأكثرين فضلوا البقاء في بابل. وهكذا يغلب أن المسبيين بالخطايا لا يطلبون الإطلاق منها بل يفتقرون إلى أن يسمعوا الأمر بأن يخرجوا والنبي ينذرهم بالخطر الذي عليهم إذا بقوا في بابل لأن المتحدين بالأشرار ولو في الأمور الجسدية فقط ربما اتحدوا بهم في عواقب خطاياهم.
ٱهْرُبُوا لا خوفاً من الكلدانيين بل خوفاً من أن يُصابوا في دمار مدينتهم.
بِصَوْتِ ٱلتَّرَنُّمِ يشير إلى فرح الإسرائيليين بالخلاص من بابل والرجوع إلى بلادهم.
شَيِّعُوهُ أي على إسرائيل أن يرسلوا الخبر إلى أقصى الأرض فإن خلاصه يهم جميع الشعوب لأن الإسرائيليين كانوا قد استؤمنوا على أقوال الله ومنهم المسيح حسب الجسد فكان خلاصهم استعداداً لخلاص العالم وباكورته.
٢١ «وَلَمْ يَعْطَشُوا فِي ٱلْقِفَارِ ٱلَّتِي سَيَّرَهُمْ فِيهَا. أَجْرَى لَهُمْ مِنَ ٱلصَّخْرِ مَاءً، وَشَقَّ ٱلصَّخْرَ فَفَاضَتِ ٱلْمِيَاهُ».
ص ٤١: ١٧ و١٨ خروج ١٧: ٦ وعدد ٢٠: ١١ ومزمور ١٠٥: ٤١
ليس في التواريخ أن الله أجرى لهم ماء من الصخر حين الرجوع ولذلك نفهم أن هذا القول وعد عام بأنه يعتني بهم حين رجوعهم من بابل كما اعتنى بشعبه لما خرجوا من مصر. قال عزرا (عزرا ٨: ٣١) «كَانَتْ يَدُ إِلٰهِنَا عَلَيْنَا فَأَنْقَذَنَا مِنْ يَدِ ٱلْعَدُوِّ وَٱلْكَامِنِ عَلَى ٱلطَّرِيقِ».
٢٢ «لاَ سَلاَمَ قَالَ ٱلرَّبُّ لِلأَشْرَارِ».
ص ٥٧: ٢١
إن خاتمة هذا الأصحاح تبيّن أن المواعيد المذكورة هي لشعب الله المؤمنين فقط لا للأشرار. ولهذا القول معنى خاص وهو أن الذين بقوا في بابل وإن كان لهم مال وبيوت وراحة جسدية ليس لهم السلام الحقيقي الذي لا يوجد إلا بحفظ وصايا الله. وله أيضاً معنى عام وهو أن لا سلام للأشرار. والأشرار هم الذين لا يحبون الله ولا يطيعونه والخطية لا تكون بفعل الشر فقط بل أيضاً بإهمال الأعمال المطلوبة والسكوت عن الكلام الواجب وعدم الإيمان والمحبة. والسلام الحقيقي لا يكون في ما للإنسان كالبيت والمال والراحة والصحة بل في داخله وفي الإيمان بالمسيح ومصالحة الله والرجاء بالحياة الأبدية.
لا سلام للاشرار بفعل الخطية وإن كان لهم نوع من اللذة الوقتية ولا بعد الخطية عندما يتذكرونها ولا في الآخرة بل عليهم غضب الله إلى الأبد.
فوائد للوعاظ
لمعرفتي أنك قاس (ع ٤)
العناد
ميّز بين العناد والثبات فإن العناد ينشأ عن غير عقل كعناد البهيمة والعناد هو الاتكال على الذات دون الاتكال على الله.
- العناد جهالة لأن العنيد لا يسمع ولا يقدر أن يتعلم مع أن لا أحد من الناس يقدر أن يعرف كل شيء ولا يمكن احداً وحده أن يعرف كل ما يعرفه الناس إجمالاً. والعنيد لا يقدر أن يغش الناس فيقنعهم بأنه صائب الرأي والأمر الذي يفتخر به هو الأمر الذي به يحتقره العالم.
- العناد خطية لأن الله يطلب من عبيده أن يسمعوا ويتعلموا ويتوبوا ويتركوا طرقهم الرديئة ويطيعوه ولكن العنيد لا يسمع ولا يعترف بخطيته ولا يسلّم لإرادة الرب.
- العناد خطر عظيم لأنه من خصائصه أن يزداد فيبعد صاحبه عن الله على قدر زيادته فكلما تقدم في طريقه صعب عليه الرجوع إلى الله.
مخفيات لا تعرفها (ع ٦)
مقدمة
يوجد مخفيات في الطبيعة كالمعادن تحت الأرض وقوى طبيعية كالكهربائية التي كانت في العالم منذ الخلق ولكنها عرفت جزئياً في هذا العصر وللآن لم تُعرف تماماً. ومن مخفيات الإنسان الروحية ما يأتي:
- قوى روحية. فإننا كثيراً ما نظن أننا لسنا قادرين على احتمال تجارب وضيقات أو على إتمام نوع من الخدمة ولكن عند الحاجة تظهر القوى المخفية. وكما أنه يوجد تحت وجه الأرض بزور كثيرة لا نعرفها حتى ينزل المطر وتشرق الشمس عليها فتنبت وتثمر هكذا يوجد في قلوب الناس بزور أثمار روحية تظهر عند حلول الروح القدس.
- قوى شريرة. وهي أيضاً كنوز مخفية كبزور نباتات سامة ومضرة فإن أعظم الخطاة كالقتلة واللصوص كانوا أصلاً أطفالاً محبوبين وبسطاء القلوب فلا يجوز لأحد أن يتكل على نفسه كأنه ثابت في القداسة لأنه ربما كان في قلبه أميال إلى الخطية لا يعرفها.
- قوة المجد والخلود فإن كل إنسان ابن الله ومات المسيح ليفتديه ومن الممكن أن البربري المتوحش يرث الحياة الأبدية ويلبس ثياباً بيضاً وإكليلاً من الذهب.
السابق |
التالي |