إشعياء

سفر إشعياء | 05 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر إشعياء

للقس . وليم مارش

اَلأَصْحَاحُ ٱلْخَامِسُ

مضمونه:

هذا الأصحاح مستقل بنفسه فليس له علاقة واضحة بما قبله ولا بما بعده. ومضمونه توبيخ أهل أورشليم ويهوذا على خطاياهم وإنذارهم بقضاء الله عليهم بسببها بمثل كرم وفرت عليه أسباب النمو والخصب ولكنه جاء بثمر رديء. ثم بيّن ما سينزله الله بهم من العقاب (ع ٨ – ٣٠) فذكر أولاً خطاياهم مجملة (ع ٧) ثم ذكر بعضها بالتفصيل مع ذكر عقاب كل منها. والعقوبات المشار إليها في هذا الأصحاح لم تتم دفعة واحدة في حادثة واحدة بل على التوالي في حوادث كثيرة وقد استوفت تلك العقوبات كمال تمامها حين رفضت الأمة اليهودية المسيح عند مجيئه.

١ «لأُنْشِدَنَّ عَنْ حَبِيبِي نَشِيدَ مُحِبِّي لِكَرْمِهِ. كَانَ لِحَبِيبِي كَرْمٌ عَلَى أَكَمَةٍ خَصِبَةٍ».

مزمور ٨٠: ٨ ونشيد ٨: ١٢ وص ٢٧: ٢ وإرميا ٢: ٢١ ومتّى ٢١: ٣٣ ومرقس ١٢: ١ ولوقا ٢٠: ٩

لأُنْشِدَنَّ عَنْ حَبِيبِي أي أن قصد النبي أن ينشد عن لسان حبيبه الله. وبما أن النبي شارع في كلام غير مقبول عند السامعين استعمل المثل في أول كلامه (كمثل يوثام قضاة ٩: ٧ وناثان ٢صموئيل ١٢ والمسيح متّى ٢١: ٣٣ – ٤٥) فإنه بذلك يدخل تعليمه إلى عقول السامعين قبلما يعرفون مقصوده. والنبي استعمل الشعر كما استعمله موسى (تثنية ص ٣٢) لأن الشعر يبقى في الحفظ أكثر من النثر. فالكلام يكون شاهداً عليهم حين تأتيهم المصائب.

حَبِيبِي جاءت لفظة حبيبي في نشيد الأنشاد عشرين مرة وكنى بها عن المسيح وهو حبيب الكنيسة. ويُكنى بالكرم عن الكنيسة (مزمور ٨٠: ٨ – ١٠ ونشيد ٨: ١٢ وحزقيال ١٩: ١٠ – ١٤ ومتّى ٢١: ٣٣ – ٤٥).

كَرْمٌ عَلَى أَكَمَةٍ أي أن أورشليم مرتفعة بين الجبال والكنيسة مرتفعة (إشعياء ٢: ٢ ومتّى ٥: ١٤).

خَصِبَةٍ أي أن الله سبق فعيّن لشعبه كل ما يتوقف عليه النجاح انظر قول داود «حِبَالٌ وَقَعَتْ لِي فِي ٱلنُّعَمَاءِ» (مزمور ١٦: ٦).

٢ «فَنَقَبَهُ وَنَقَّى حِجَارَتَهُ وَغَرَسَهُ كَرْمَ سَوْرَقَ، وَبَنَى بُرْجاً فِي وَسَطِهِ، وَنَقَرَ فِيهِ أَيْضاً مِعْصَرَةً فَٱنْتَظَرَ أَنْ يَصْنَعَ عِنَباً فَصَنَعَ عِنَباً رَدِيئاً».

قضاة ١٦: ٤ وإرميا ٢: ٢١ تثنية ٣٢: ٦ وص ١: ٢ و٣

نَقَبَهُ أي أن الله اعتنى بشعبه كل الاعتناء فإنه أعد لهم أرضاً جيدة تفيض لبناً وعسلاً وأعطاهم بيوتاً لم يبنوها وكروماً لم يغرسوها.

نَقَّى حِجَارَتَهُ أي طرد الكنعانيين وأسكن في مكانهم شعبه وهم كرم سورق. وسورق اسم واد في بلاد الفلسطينيين مشهور بالعنب (إرميا ٢: ٢١).

وَبَنَى بُرْجاً أي برجاً للرقيب. والله أعطى شعبه الأنبياء والكهنة والملوك الصالحين.

مِعْصَرَةً أي أعطاهم الهيكل ورسومه وهو المركز الذي خرجت منه نعمة الله.

فَٱنْتَظَرَ عِنَباً الله يعرف كل شيء قبلما يحدث ولا ينتظر إلا ما يحدث وقول النبي أنه «انتظر أن يصنع عنباً» إنما يفيد أن العنب الجيد يجب أن يكون نتيجة هذا الاعتناء.

٣ «وَٱلآنَ يَا سُكَّانَ أُورُشَلِيمَ وَرِجَالَ يَهُوذَا، ٱحْكُمُوا بَيْنِي وَبَيْنَ كَرْمِي».

رومية ٣: ٤

المتكلم هو الله لا النبي.

يَا سُكَّانَ أُورُشَلِيمَ استدعى الله سكان أورشليم ورجال يهوذا ليحكموا فيما يجب أن يُعمل لكرمه في تلك الأحوال. ولما كان هؤلاء هم المشار إليهم بالكرم استدعاهم الله ليحكموا على أنفسهم.

٤ «مَاذَا يُصْنَعُ أَيْضاً لِكَرْمِي وَأَنَا لَمْ أَصْنَعْهُ لَهُ؟ لِمَاذَا إِذِ ٱنْتَظَرْتُ أَنْ يَصْنَعَ عِنَباً صَنَعَ عِنَباً رَدِيئاً؟».

مَاذَا يُصْنَعُ أَيْضاً (انظر ٢ملوك ١٧: ١٣ و٢أيام ٣٦: ١٥) كل من يجيب بالحق على هذا السؤال لا بد من أن يقول لا يوجد شيء من الوسائط لم يصنعه الله لكرمه. ومن يمعن نظره في تاريخ الفداء ويتأمل في التجسد والصلب وحلول الروح القدس والكنيسة وخدمتها والكتاب وفوائده ومحبة الله وطول أناته وإحسانه إلى غير المستحقين لا بد من أن يقول لا يوجد شيء من الخير لم يصنعه الله لشعبه.

٥ «فَٱلآنَ أُعَرِّفُكُمْ مَاذَا أَصْنَعُ بِكَرْمِي. أَنْزِعُ سِيَاجَهُ فَيَصِيرُ لِلرَّعْيِ. أَهْدِمُ جُدْرَانَهُ فَيَصِيرُ لِلدَّوْسِ».

مزمور ٨٠: ١٢

أصدر الله حكمه في هذه الدعوى دون أن ينتظر رأيهم فيه.

أَنْزِعُ سِيَاجَهُ الرب هو سور أورشليم الحقيقي وإذا تركها وعدل عن حمايتها يكون قد نزع سياجها فأخربها الكلدانيون والرومانيون. إذا تركنا الرب يتركنا وإذا تركنا فلا بد من هلاكنا.

٦ «وَأَجْعَلُهُ خَرَاباً لاَ يُقْضَبُ وَلاَ يُنْقَبُ، فَيَطْلَعُ شَوْكٌ وَحَسَكٌ. وَأُوصِي ٱلْغَيْمَ أَنْ لاَ يُمْطِرَ عَلَيْهِ مَطَراً».

أَجْعَلُهُ خَرَاباً الخراب لا يلزمه وسائط فإذا كان الكرّام يترك كرمه بلا عمل تسقط الجدران من تلقاء نفسها ويطلع الشوك والحسك كذلك. وهكذا يكون خراب الكنيسة وهلاك الإنسان أي من عدم القصد وعدم العمل.

أُوصِي ٱلْغَيْمَ عُرف أن المطر ينزل على الأرض بموجب نواميس طبيعية ومع ذلك لا أحد يقدر أن يخبرنا لماذا ينزل مطر اليوم ولا ينزل غداً. ولماذا يكون كثيراً في سنة وقليلاً في غيرها فأعظم العلماء يضطر أن يعترف بأن هذا الأمر من الرب ويصدق تعليم الكتاب المقدس (٢أيام ٦: ٢٦ و٢٧). إن الرب يغلق السماء فلا يكون مطر لأن شعبه أخطأوا إليه ثم يُنزل مطراً على الأرض إذا تابوا ورجعوا إليه وصلوا له. وكما يخرب الكرم سريعاً إن لم ينزل عليه المطر تخرب الكنيسة إن لم تنزل عليها أمطار النعمة الإلهية.

٧ «إِنَّ كَرْمَ رَبِّ ٱلْجُنُودِ هُوَ بَيْتُ إِسْرَائِيلَ، وَغَرْسَ لَذَّتِهِ رِجَالُ يَهُوذَا. فَٱنْتَظَرَ حَقّاً فَإِذَا سَفْكُ دَمٍ، وَعَدْلاً فَإِذَا صُرَاخٌ».

تفسير النبي المثل.

سَفْكُ دَمٍ (انظر تفسير ص ٤: ٤). الرب انتظر حقاً لأن إسرائيل عرف الحق فلم يكن كالوثنيين. ومن فوائد هذا المثل ما يأتي:

  1. إن الله يحب شعبه ولكن لا ينتج من ذلك إن راحتهم وسلامتهم يدومان بلا انقطاع بغض النظر عن سلوكهم لأن البرّ أهم من الراحة.
  2. إن رحمة الرب إلى الأبد لكنه عيّن حداً للذين يرفضون الرحمة فينقطعون بعد ما يتجاوزون الحدّ.
  3. إن خيراتنا وامتيازاتنا تزيد مسؤوليتنا لأن أثمار الكرم يجب أن تكون على قدر أتعاب الكرام عليه.
  4. إن الرب يؤدب شعبه بغية إصلاحهم والمأمول أن الذين تركوا الرب في يوم الخيرات ينتبهون ويرجعون إليه في يوم الضيقات والذي يقسي قلبه في وقت التأديب ليس له باب آخر للخلاص.
  5. إنا إن لم نقصد عمل الخير ونجتهد فيه نُعط الشرير فرصة فيزرع في قلوبنا الفساد والخطية.

شروع النبي في بيان المطابقة بين المثل وشعب الله بالتفصيل فذكر بعض معاصيهم وأردف كلا منها بما سيعقابهم به عليها ع ٨ إلى ١٠

٨ «وَيْلٌ لِلَّذِينَ يَصِلُونَ بَيْتاً بِبَيْتٍ، وَيَقْرِنُونَ حَقْلاً بِحَقْلٍ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَوْضِعٌ. فَصِرْتُمْ تَسْكُنُونَ وَحْدَكُمْ فِي وَسَطِ ٱلأَرْضِ».

ميخا ٢: ٢

وَيْلٌ لِلَّذِينَ يَصِلُونَ بَيْتاً بِبَيْتٍ الغني يأخذ أولاً قطعة أرض ثم يأخذ ما يجاورها وهكذا يأتي ذلك ظلماً حتى يكون قد أخذ لنفسه القرية كلها ويكون أهلها كلهم قد صاروا له عبيداً فيسكنون أكواخاً وهو وحده يسكن بيتاً كبيراً لأن الأرض كلها صارت له. وهذا مخالف للشريعة الإلهية (عدد ٢٧: ١ – ١١ و٣٣: ٥٤ و١ملوك ٢١: ٤). في سنة اليوبيل (لاويين ٢٥: ٨ – ١٧) كان كل واحد يرجع إلى ملكه وغاية هذا النظام هي المحاماة عن حقوق الفقراء.

إن الغنى ليس بخطية في نفسه لأن للمال قوة عظيمة في عمل الخير وأما الخطية فتكون باقتناء المال بالظلم واستعماله في ما لا ينفع أي الإسراف أو عدم استعماله أي البخل وخدمته دون خدمة الله. والأب السماوي لا يريد أن بعض أولاده يأخذون جميع الخيرات وبعضهم لا يأخذون شيئاً. ولا يجوز للذين لهم مواهب من الله كالقوة والحكمة والتوفيق أن يتخذوها وسيلة إلى تخسير القريب الضعيف بل عليهم أن يعتبروا أنهم كوكلاء الله ويبذلون بعض أموالهم في إسعاد المحتاجين.

٩، ١٠ «٩ فِي أُذُنَيَّ قَالَ رَبُّ ٱلْجُنُودِ: أَلاَ إِنَّ بُيُوتاً كَثِيرَةً تَصِيرُ خَرَاباً. بُيُوتاً كَبِيرَةً وَحَسَنَةً بِلاَ سَاكِنٍ. ١٠ لأَنَّ عَشَرَةَ فَدَادِينِ كَرْمٍ تَصْنَعُ بَثّاً وَاحِداً وَحُومَرَ بِذَارٍ يَصْنَعُ إِيفَةً».

ص ٢٢: ١٤ حزقيال ٤٥: ١١

أَلاَ إِنَّ بُيُوتاً كَثِيرَةً الخ ذكر العقاب الذي رتبه الله على المعصية المذكورة آنفاً.

بَثّاً البث مكيال للسوائل يسع نحو ٢٢ أقة وعشرة فدادين يجب أن تصنع نحو ٥٠٠ بثّ لا بثّ واحد فقط. والحومر مكيال للحبوب يسع نحو ٢٢٧ أقة. والإيفة عُشر الحومر أي الحاصل من الأرض يكون عُشر ما كان زُرع فيها.

فالعقاب من جنس الخطية لأن من لا يستعمل خيرات الله كوكيل أمين فالذي عنده يؤخذ منه.

والعقاب يكون من جهتين الأولى نفس الخاطئ فإن الذي يظلم أخاه ويأخذ أرضه يضر نفسه لا أخاه فقط. وكل ما اتسعت أرض الغبي الظالم ضاق قلبه فيصير كبهيمة أي كأنه لا نفس عاقلة. والثانية أملاك الخاطئ لأن جميع الناس متعلق بعضهم ببعض ومحتاج بعضهم إلى بعض فالغني لا يقدر أن يستغني عن خدمة الفقير كما أن الفقير لا يقدر أن يستغني عن المال وإذا تلاشى الفقير لم يبق أحد يخدم الغني أو يعمل في أرضه.

ذكر الخطية الثانية وهي السكر والتوغل في الملاهي وعدم الاكتراث بالله وعدم الانتباه لأعماله ع ١١ إلى ١٧

١١ «وَيْلٌ لِلْمُبَكِّرِينَ صَبَاحاً يَتْبَعُونَ ٱلْمُسْكِرَ، لِلْمُتَأَخِّرِينَ فِي ٱلْعَتَمَةِ تُلْهِبُهُمُ ٱلْخَمْرُ».

أمثال ٢٣: ٢٩ و٣٠ وجامعة ١٠: ١٦ وع ٢٢

لِلْمُبَكِّرِينَ صَبَاحاً يَتْبَعُونَ ٱلْمُسْكِرَ غلب أن الذين يسكرون يسكرون بالليل وأما الذين يسكرون صباحاً فهم شر السكارى. ولفظة مسكر تشمل جميع الأنواع المسكرة كالجعة والمزراي أي الأشربة المستخرجة من البلح والرمان والتفاح والعسل والشعير. وفعل هذه الأنواع أقوى من فعل الخمر.

١٢ «وَصَارَ ٱلْعُودُ وَٱلرَّبَابُ وَٱلدُّفُّ وَٱلنَّايُ وَٱلْخَمْرُ وَلاَئِمَهُمْ، وَإِلَى فِعْلِ ٱلرَّبِّ لاَ يَنْظُرُونَ، وَعَمَلَ يَدَيْهِ لاَ يَرَوْنَ».

عاموس ٦: ٥ و٦ أيوب ٣٤: ٢٧ ومزمور ٢٨: ٥

الآلات المذكورة التي كانت مستعملة في عبادة الله (١صموئيل ١٠: ٥) صارت خادمة للخطية وواسطة لإشعال الشهوات.

إِلَى فِعْلِ ٱلرَّبِّ لاَ يَنْظُرُونَ لا يذكرون ما فعله الرب في القديم لأجل شعبه ولا إلى مواعيده ببركات مستقبلة ولا يبالون بما سيفعله عقاباً لهم على خطاياهم ولا يشعرون بما عليهم من المسؤولية ليستعملوا خيراته لمجده فإن ضمائرهم ماتت فلم يهتموا إلا بما للجسد والزمان الحاضر.

١٣ «لِذٰلِكَ سُبِيَ شَعْبِي لِعَدَمِ ٱلْمَعْرِفَةِ، وَتَصِيرُ شُرَفَاؤُهُ رِجَالَ جُوعٍ، وَعَامَّتُهُ يَابِسِينَ مِنَ ٱلْعَطَشِ».

هوشع ٤: ٦ ص ١: ٣ ولوقا ١٩: ٤٤

العقاب الذي أنذرهم به من جنس خطيتهم فإن الجوع والعطش يقعان على من أفرطوا في الأكل والشرب. والسبي على الذين لم ينظروا إلى فعل الرب في بلادهم.

لِعَدَمِ ٱلْمَعْرِفَةِ كل خطية جهالة. فمن كان يريد الخطية لو عرف مرارتها وعقابها حق المعرفة ومن كان يتجاسر أن يخطئ لو عرف قدرة الله وعدله ومعرفته غير المحدودة. وكانوا جهلاء بإرادتهم فإنهم لم ينظروا إلى فعل الرب ولذلك كانوا مسؤولين بكل ما أصابهم من العقاب ومستحقين إياه. كان السبي مستقبلاً وأما النبي فرآه بالوحي كأنه كان قد ابتدأ فاستعمل الفعل الماضي للحاضر للتأكيد على مصطلح اللغات وكثيراً ما أتى ذلك الانبياء.

١٤ «لِذٰلِكَ وَسَّعَتِ ٱلْهَاوِيَةُ نَفْسَهَا وَفَغَرَتْ فَمَهَا بِلاَ حَدٍّ، فَيَنْزِلُ بَهَاؤُهَا وَجُمْهُورُهَا وَضَجِيجُهَا وَٱلْمُبْتَهِجُ فِيهَا!».

ٱلْهَاوِيَةُ المراد بالهاوية أولاً القبر. وثانياً مكان أرواح الأموات وهو مشبه بمغارة عظيمة في جوف الأرض بدليل قوله «أَرْضِ ظَلاَمٍ مِثْلِ دُجَى ظِلِّ ٱلْمَوْتِ وَبِلاَ تَرْتِيبٍ» (أيوب ١٠: ٢١ و٢٢) ولها أبواب (إشعياء ٣٨: ١٠). وفيها حسب اعتقاد اليونان والرومانيين قسم للأبرار وقسم آخر للأشرار. وكان العبرانيون يتوقعون الإنقاذ من الهاوية أي أن الأتقياء بينهم وثقوا أن الله لا يتركهم فيها. وشبّه الهاوية هنا بمفترسة فغرت فاها لتبتلع جمهوراً من الناس ومجداً عظيماً. ومما يستحق الذكر هنا أن مدينة أورشليم القديمة هي مطمورة اليوم تحت المدينة الحالية.

١٥، ١٦ «١٥ وَيُذَلُّ ٱلإِنْسَانُ وَيُحَطُّ ٱلرَّجُلُ، وَعُيُونُ ٱلْمُسْتَعْلِينَ تُوضَعُ. ١٦ وَيَتَعَالَى رَبُّ ٱلْجُنُودِ بِٱلْعَدْلِ، وَيَتَقَدَّسُ ٱلإِلٰهُ ٱلْقُدُّوسُ بِٱلْبِرِّ».

ص ٢: ٩ و١١ و١٧

ذكر كمال نتيجة دمارهم أي ذلهم وانحطاطهم فتعالى رب الجنود بإظهار عدله وتقدس بإظهار بره.

١٧ «وَتَرْعَى ٱلْخِرْفَانُ حَيْثُمَا تُسَاقُ، وَخِرَبُ ٱلسِّمَانِ تَأْكُلُهَا ٱلْغُرَبَاءُ».

ص ١٠: ١٦

بيان تمام الخراب أيضاً.

وَتَرْعَى ٱلْخِرْفَانُ حَيْثُمَا تُسَاقُ لأن الأرض خربة.

خِرَبُ ٱلسِّمَانِ هم الأغنياء بينهم.

تَأْكُلُهَا ٱلْغُرَبَاءُ المراد بهذا أن الوثنيين يغزونهم.

ذكر أربع خطايا غير ما تقدم ع ١٨ إلى ٢٣

١٨ «وَيْلٌ لِلْجَاذِبِينَ ٱلإِثْمَ بِحِبَالِ ٱلْبُطْلِ، وَٱلْخَطِيَّةَ كَأَنَّهُ بِرُبُطِ ٱلْعَجَلَةِ».

خطيئة جذب الشر بوسائط مختلفة.

حِبَالِ ٱلْبُطْلِ الخ هذه العبارة حسب اصطلاح الشعر العبراني قسمان ومعنى القسم الثاني كمعنى القسم الأول بتغيير الألفاظ وهو أن الخطأة المشار إليهم ليسوا كغيرهم ممن يخطئون سهواً أو تغلبهم تجارب قوية بل يطلبون الخطية ويفعلونها برغبة واجتهاد. وشبههم بأناس واقفين تحت شفير وفوق رؤوسهم صخر عظيم سيسقط عليهم بعد قليل فكانوا بدلاً من أن يهربوا ويخلصوا يأخذون حبالاً قوية ويعلقونها بالصخر ويجتهدون بكل قوتهم أن يجذبوه فيقع عليهم ويهلكهم وهذه الحبال سُميت «حبال البطل» لأنها مستعملة لما لا ينفع فإن الخطية بطل. واختار «ربط العجلة» لأنها قوية إشارة إلى رغبتهم في إهلاك أنفسهم.

١٩ «ٱلْقَائِلِينَ: لِيُسْرِعْ. لِيُعَجِّلْ عَمَلَهُ لِكَيْ نَرَى، وَلْيَقْرُبْ وَيَأْتِ مَقْصَدُ قُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ لِنَعْلَمَ».

ص ٦٦: ٥ وإرميا ١٧: ١٥ وعاموس ٥: ١٨ و٢بطرس ٣: ٣ و٤

قولهم هذا يدل على استخفافهم بالله وعدم إيمانهم.

لِيُعَجِّلْ عَمَلَهُ أي لم يعمل شيئاً ولا يقدر أن يعمل شيئاً.

قُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ كانوا قد سمعوا هذه اللفظة مراراً من النبي وقد جاءت في نبوءة إشعياء ٢٥ مرة وهم لفظوا هذا الاسم على سبيل الاحتقار فاستهزأوا بالرب وبنبيه.

٢٠ «وَيْلٌ لِلْقَائِلِينَ لِلشَّرِّ خَيْراً وَلِلْخَيْرِ شَرّاً، ٱلْجَاعِلِينَ ٱلظَّلاَمَ نُوراً وَٱلنُّورَ ظَلاَماً، ٱلْجَاعِلِينَ ٱلْمُرَّ حُلْواً وَٱلْحُلْوَ مُرّاً».

وَيْلٌ لِلْقَائِلِينَ لِلشَّرِّ خَيْراً وَلِلْخَيْرِ شَرّاً أي الذين يفسدون عقولهم بأفكار باطلة في أمور أدبية حتى يروا الكذب حقاً وشرب الخمر مفيداً للصحة والطمع حكمة والإسراف كرماً ووصايا الله نيراً ثقيلاً لا يقدر أحد أن يحتمله. ويقولون إن كلام الله مبهم فيجعلون في مكانه تعاليم الناس. وهذا التحريف في الأسماء ليس بأمر زهيد لأنه يقود الناس إلى الاستخفاف بالخطية وإهمال وصايا الله. وغايتهم في هذا التحريف محبتهم للخطية. ولكن التغيير في الاسم لا يغير الجوهر فالسليماني مثلاً يبقى سماً مميتاً ولو سُمي عسلاً.

٢١ «وَيْلٌ لِلْحُكَمَاءِ فِي أَعْيُنِ أَنْفُسِهِمْ وَٱلْفُهَمَاءِ عِنْدَ ذَوَاتِهِمْ».

أمثال ٣: ٧ ورومية ١: ٢٢ و١٢: ١٦

وَيْلٌ لِلْحُكَمَاءِ فِي أَعْيُنِ أَنْفُسِهِمْ ويل لهم لأنهم لا يقدرون أن يتعلموا شيئاً ولا يقدرون أن يعترفوا بخطاياهم فتُغفر لهم. وهذه الصفة هي من صفات الجهلاء كما أن التواضع من صفات العلماء. ويل لهم لأنهم يغشون أنفسهم في الزمان الحاضر ولكنهم سيعلمون جهلهم العلم اليقين عندما يقفون أمام عرش الله فلا يكون لهم فرصة للتوبة.

٢٢، ٢٣ «٢٢ وَيْلٌ لِلأَبْطَالِ عَلَى شُرْبِ ٱلْخَمْرِ وَلِذَوِي ٱلْقُدْرَةِ عَلَى مَزْجِ ٱلْمُسْكِرِ. ٢٣ ٱلَّذِينَ يُبَرِّرُونَ ٱلشِّرِّيرَ مِنْ أَجْلِ ٱلرَّشْوَةِ. وَأَمَّا حَقُّ ٱلصِّدِّيقِينَ فَيَنْزِعُونَهُ مِنْهُمْ».

ع ١١ أمثال ١٧: ١٥ و٢٤: ٢٤

هاتان الآيتان ليستا مكرر الآية الحادية عشرة فإن مضمونها فعل المسكر في القضاة خاصة.

الأَبْطَالِ عَلَى شُرْبِ ٱلْخَمْرِ سماهم النبي أبطالاً تهكماً فإن البطل الحقيقي ليس من يقدر أن يشرب أكثر من غيره من المسكر بل من يقاوم الشرور التي بين الشعب فلا يخاف من الغني الظالم بل ينصف الفقير المظلوم ويقضي بالعدل والحق ولو تعب وخسر. المسكر يفسد العقل ويميت الضمير ومن يشربه لا يصلح أن يقضي في الناس.

مَزْجِ ٱلْمُسْكِرِ بالماء وبالأفاوية. والنبي يقول تهكماً أن القضاة كانوا مقتدرين في مزج المسكر كما نقول في قسيس أنه مقتدر في مسح الأحذية أو ملك أنه مقتدر في الطبخ يعني أن ذلك شيء لا يليق بمقامه.

٢٤ «لِذٰلِكَ كَمَا يَأْكُلُ لَهِيبُ ٱلنَّارِ ٱلْقَشَّ، وَيَهْبِطُ ٱلْحَشِيشُ ٱلْمُلْتَهِبُ، يَكُونُ أَصْلُهُمْ كَٱلْعُفُونَةِ، وَيَصْعَدُ زَهْرُهُمْ كَٱلْغُبَارِ، لأَنَّهُمْ رَذَلُوا شَرِيعَةَ رَبِّ ٱلْجُنُودِ وَٱسْتَهَانُوا بِكَلاَمِ قُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ».

خروج ١٥: ٧ أيوب ١٨: ١٦ وهوشع ٩: ١٦ وعاموس ٢: ٩

الهلاك من الخارج ومن الداخل. «النار» من الخارج أي الأشوريين و«العفونة» من الداخل أي الانشقاق والفساد. وشبّه الأشرار المشار إليهم «بالقش والحشيش» في الخسّة والضعف فإنهم كانوا أخساء ضعفاء حين يقعون بيد الرب كالقش حين يقع في النار.

أَصْلُهُمْ… زَهْرُهُمْ ما كان تحت الأرض وفوق الأرض أي الهلاك الكامل.

٢٥ «مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ حَمِيَ غَضَبُ ٱلرَّبِّ عَلَى شَعْبِهِ، وَمَدَّ يَدَهُ عَلَيْهِ وَضَرَبَهُ، حَتَّى ٱرْتَعَدَتِ ٱلْجِبَالُ وَصَارَتْ جُثَثُهُمْ كَٱلزِّبْلِ فِي ٱلأَزِقَّةِ. مَعَ كُلِّ هٰذَا لَمْ يَرْتَدَّ غَضَبُهُ، بَلْ يَدُهُ مَمْدُودَةٌ بَعْدُ».

٢ملوك ٢٢: ١٣ و١٧ إرميا ٤: ٢٤ لاويين ٢٦: ١٤ الخ وص ٩: ١٢ و١٧ و٢١ و١٠: ٤

يمتاز تاريخ الكتاب المقدس عن غيره بأنه يبين لنا علل الحوادث ومقاصد الله فيها ويُظهر لنا أن كل شيء بيد الله وأنه هو يجازي الناس والممالك حسب أعمالها فإن الحروب والأوبئة والمجاعات وقيام ممالك وسقوط ممالك جميعها من الله ولها علاقة حقيقية بخطية الإنسان.

ٱرْتَعَدَتِ ٱلْجِبَالُ هذا مجاز يكثر في الشعر يشير إلى أحكام الله الشديدة والخوف والرعدة من بني البشر.

مَمْدُودَةٌ بَعْدُ يشير إلى سلسلة من المصائب كحروب الأشوريين وسبي بابل وإخراب الرومانين لأورشليم وهلاك الخاطئ في العالم الآتي. واليد الممدودة قد تكون رحمة للخاطئ لأن الله لا يتركه ولا يهلكه إلا بعد ما يكون قد أدبه وإن لم ينتبه الخاطئ من المصيبة الأولى ربما انتبه بالثانية الخ.

٢٦ – ٣٠ «٢٦ فَيَرْفَعُ رَايَةً لِلأُمَمِ مِنْ بَعِيدٍ، وَيَصْفِرُ لَهُمْ مِنْ أَقْصَى ٱلأَرْضِ، فَإِذَا هُمْ بِٱلْعَجَلَةِ يَأْتُونَ سَرِيعاً. ٢٧ لَيْسَ فِيهِمْ رَازِحٌ وَلاَ عَاثِرٌ. لاَ يَنْعَسُونَ وَلاَ يَنَامُونَ، وَلاَ تَنْحَلُّ حُزُمُ أَحْقَائِهِمْ وَلاَ تَنْقَطِعُ سُيُورُ أَحْذِيَتِهِمِ. ٢٨ ٱلَّذِينَ سِهَامُهُمْ مَسْنُونَةٌ وَجَمِيعُ قِسِيِّهِمْ مَمْدُودَةٌ. حَوَافِرُ خَيْلِهِمْ تُحْسَبُ كَٱلصَّوَّانِ وَبَكَرَاتُهُمْ كَٱلزَّوْبَعَةِ. ٢٩ لَهُمْ زَمْجَرَةٌ كَٱللَّبْوَةِ، وَيُزَمْجِرُونَ كَٱلشِّبْلِ، وَيَهِرُّونَ وَيُمْسِكُونَ ٱلْفَرِيسَةَ وَيَسْتَخْلِصُونَهَا وَلاَ مُنْقِذَ. ٣٠ يَهِرُّونَ عَلَيْهِمْ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ كَهَدِيرِ ٱلْبَحْرِ. فَإِنْ نُظِرَ إِلَى ٱلأَرْضِ فَهُوَذَا ظَلاَمُ ٱلضِّيقِ، وَٱلنُّورُ قَدْ أَظْلَمَ بِسُحُبِهَا».

ص ١١: ١٢ ص ٧: ١٨ تثنية ٢٨: ٤٩ ومزمور ٧٢: ٨ وملاخي ١: ١١ يوئيل ٢: ٧ دانيال ٥: ٦ إرميا ٥: ١٦ ص ٨: ٢٢ وإرميا ٤: ٢٣ ومرقس ٣: ٢ وحزقيال ٣٢: ٧ و٨

بيان كيفية إجراء الله العقاب أي أنه يفعل ذلك بواسطة بعض الوثنيين أصحاب البأس وصفات الجيش المذكورة تناسب جيش الأشوريين كذكر نظامهم وكثرتهم وشراستهم والخيل والمركبات والقسي.

يَرْفَعُ رَايَةً الرب يدعو الجيش وهو قائده اي يستعمله لإجراء مقاصده.

يَصْفِرُ لَهُ (ص : ١٨) شبه الجيش بذباب أو نحل يجتمع عندما يسمع الصفارة.

يَأْتُونَ سَرِيعاً يشير إلى طمعهم في سلب اليهود.

لَيْسَ فِيهِمْ رَازِحٌ رأى النبي في الرؤيا ما حدث بعد تاريخ البنوءة بنحو ٥٠ سنة (ص ٣٦ و٣٧) وتصوّر جيش الأشوريين المقبل على أرض اليهود أمام عينيه ولم يكن في الصورة التي رآها رازح ولا عاثر ولكن ليس لنا أن نستنتج من ذلك أنه لم يكن على الحقيقة رازح واحد في الجيش ولا حافر واحد مكسور ولا أن الأشوريين لم يناموا مطلقاً بل أن الجيش كان عظيماً ومنظماً إلى آخر درجة ممكنة من الكمال.

يُمْسِكُونَ ٱلْفَرِيسَةَ (ع ٢٩) قال سنحاريب أنه أسر من يهوذا مئتي ألف وشبّه هنا صوت الجيش بزمجرة أسود ومشبّه بهدير البحر (ع ٣٠).

فَإِنْ نُظِرَ إِلَى ٱلأَرْضِ (ع ٣٠) كان قد شبّه الأشوريين بالبحر الهائج وقال هنا أن من يخاف من البحر وينظر إلى البر لا يرى نجاة ولا رجاء بل ظلام الضيق.

فوائد للوعاظ

الكروم الثلاثة ع ١ – ٧

  1. العالم قبل الطوفان. إن الله خلق كل شيء حسناً وأعطى الناس عمراً طويلاً وسلطهم على البهائم وعلى كل أعماله وأعطاهم الروح فانتظر البر ولكن فسدت الأرض. وامتلأت ظلماً فندم الرب على أنه عمل الإنسان في الأرض (تكوين ٦: ٦).
  2. شعب اليهود. نصبهم الله في أرض كنعان أرض تفيض لبناً وعسلاً ونقاها من الحجارة أي الكنعانيين وأحاطهم بسياج الفرائض وبنى برجاً أي أورشليم ونقر معصرة أي الهيكل فانتظر حقاً وإذا سفك الدم وعدلاً وإذا صراخ.
  3. الكنيسة المسيحية. أحبها المسيح واشتراها بدمه ونظمها ورسم لها فرائض وأقام لها رعاة وأعطاها الكتاب المقدس وسكب عليها الروح القدس.

شرور المسكر ع ١١ – ١٧ و٢٢ و٢٣

  1. إتلاف المال والوقت والصحة.
  2. ضعف القوى العقلية. فإن السكير يصل بالتدريج إلى حال لا يقدر فيها أن يجمع أفكاره ولا يحكم على نفسه فتتسلط عليه شهواته تمام التسلط.
  3. موت الضمير وعدم التمييز بين الخير والشر وفقد الانفعالات الروحية والعواطف الطبيعية فيصير كالبهائم.

وإذا كانت هذه الشرور كلها تنتج من المسكر فعلى كل عاقل أن يمتنع عنه كل الامتناع فلا يشربه ولا يسقي غيره ولا يستخرجه ولا يتاجر به.

زر الذهاب إلى الأعلى