الرسالة إلى العبرانيين | 10 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة إلى العبرانيين
للدكتور . وليم إدي
اَلأَصْحَاحُ ٱلْعَاشِرُ
يُقسم هذا الأصحاح إلى قسمين الأول تتمة ما ذكره سابقاً من جهة ذبائح اليهود وذبيحة المسيح وخلاصة قوله في هذه الشأن هي أن الذبائح الدموية لم تكن كافية للتطهير من الخطيئة بدليل إعادتها وبدليل أن جرم الخطيئة عظيم فلا يمكن الإيفاء عنها بدم تيوس وعجول (ع ١ – ٤). وأنه من جرى ذلك لزم مجيء المسيح وتقديمه ذبيحة أفضل من تلك الذبائح وذلك بحسب ما ذُكر في كتب العهد القديم نفسها وأن هذه الذبيحة الواحدة العظيمة كانت ما سر الله به وقد أُبطلت ذبائح اليهود التي كانت رمزاً لها وبها الآن فقط نتقدس من خطايانا (ع ٥ – ١٠) ثم يقول أنه لما كانت ذبيحة المسيح واحدة كافية للتطهير بطلت كل القرابين القديمة عن الخطيئة (ع ١١ – ١٨) وهذا القسم خلاصة ما تقدم في الرسالة. والقسم الثاني تحريض للمؤمنين مبني على ما سبق من جهة كفاءة ذبيحة المسيح على التقدم إلى هذا المخلص العظيم ووجوب الثبات فيه والخوف من الارتداد عنه (ع ١٩ – ٣١) وفي ذلك يذكرهم بالخسارة التي احتملوها لأجل المسيح وبوجوب الصبر إلى النهاية لأجل نيل الخلاص (ع ٣٢ – ٣٩).
١ «لأَنَّ ٱلنَّامُوسَ، إِذْ لَهُ ظِلُّ ٱلْخَيْرَاتِ ٱلْعَتِيدَةِ لاَ نَفْسُ صُورَةِ ٱلأَشْيَاءِ، لاَ يَقْدِرُ أَبَداً بِنَفْسِ ٱلذَّبَائِحِ كُلَّ سَنَةٍ، ٱلَّتِي يُقَدِّمُونَهَا عَلَى ٱلدَّوَامِ، أَنْ يُكَمِّلَ ٱلَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ».
كولوسي ٢: ١٧ وص ٨: ٥ و٩: ٢٣ وص ٩: ١١ وص ٩: ٩ ع ١٤
لأَنَّ حرف تعليل لما سبق من جهة كون العهد القديم رمزاً للتجديد وغير كامل.
ٱلنَّامُوسَ المشار إليه هنا هو الشريعة الطقسية المنزلة لبني إسرائيل.
إِذْ حرف تعليل أو حينية متضمنة معنى الشرط وهي على الوجهين متعلقة «بيقدر» المنفي.
لَهُ اللام للملك أي إذ كان للناموس.
ظِلُّ ٱلْخَيْرَاتِ ٱلْعَتِيدَةِ لاَ نَفْسُ صُورَةِ ٱلأَشْيَاءِ المقابلة هنا واقعة بين «الظل» و «الصورة» والفرق بينهما أن الظل يراد به هنا رسم غير تام كالخيال أو الظل والصورة التصوير التام بكل أجزائه. والمعنى أن الشريعة الأولية في ما يتعلق بالذبائح لم تكن أكثر من رسم خيالي لبركات العهد الجديد حتى أنها لم تكن صورة الأشياء بالوضوح بل كانت ظلاً فقط. وقوله «الخيرات العتيدة» معناه خيرات العهد الجديد التي أتى بها المسيح وهي عتيدة بالنسبة إلى وضع العهد القديم الذي وُضع إلى زمان يعقبه العهد الجديد.
لاَ يَقْدِرُ أَبَداً بِنَفْسِ ٱلذَّبَائِحِ كُلَّ سَنَةٍ، ٱلَّتِي يُقَدِّمُونَهَا عَلَى ٱلدَّوَامِ المراد الذبائح السنوية التي كان يدخل بدمها رئيس الكهنة إلى قدس الأقداس والتي كانت تُعد عند الإسرائيليين أعظم ذبائحهم باعتبار مقامها السامي في ناموسهم.
أَنْ يُكَمِّلَ ٱلَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ إلى الله بواسطتها وعدم قدرتها على تكميل أي تطهير ضمائر المتقدمين لله وبُين في (ص ٩: ٩ و١٠).
٢ «وَإِلاَّ، أَفَمَا زَالَتْ تُقَدَّمُ؟ مِنْ أَجْلِ أَنَّ ٱلْخَادِمِينَ، وَهُمْ مُطَهَّرُونَ مَرَّةً، لاَ يَكُونُ لَـهُمْ أَيْضاً ضَمِيرُ خَطَايَا».
وَإِلاَّ أي وإن لم يكن الأمر كما ذُكر من جهة عدم قدرة الذبائح اللاوية أن تكمل الذين يقدّمونها.
أَفَمَا زَالَتْ تُقَدَّمُ أي أما كان زال تقديمها والمعنى أنه لو كانت تلك الذبائح قادرة على تكميل الذين يقدمونها لكان يجب أن لا تقدم بعد فلما كانت تقدّم سنة بعد سنة دل ذلك على عدم قدرتها على التكميل.
مِنْ أَجْلِ أَنَّ ٱلْخَادِمِينَ أي الذين يقدّمون الذبائح.
وَهُمْ مُطَهَّرُونَ مَرَّةً أي إذ تطهروا تطهيراً كاملاً مرة كافية.
لاَ يَكُونُ لَـهُمْ أَيْضاً ضَمِيرُ خَطَايَا أي لا يشعرون بالخوف من عقاب الخطيئة (انظر التفسير على قوله «ليبطل الخطية» ص ٩: ٢٦) أو بذنب الخطيئة وتوبيخ الضمير.
٣ «لٰكِنْ فِيهَا كُلَّ سَنَةٍ ذِكْرُ خَطَايَا».
لاويين ١٦: ٢١ وص ٩: ٧
لٰكِنْ فِيهَا أي في تلك الذبائح السنوية.
كُلَّ سَنَةٍ ذِكْرُ خَطَايَا فلم تكن تُوفي بالحقيقة عن خطاياهم ولم تحملهم على الاطمئنان بنيل المغفرة بل إنما كان تقديمها السنوي يذكرهم بخطاياهم ويرمز لهم إلى الذبيحة الحقيقية الواحدة الكافية للتطهير والاطمئنان.
٤ «لأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنَّ دَمَ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ يَرْفَعُ خَطَايَا».
ميخا ٦: ٦ و٧ وص ٩: ١٣ وع ١١
لأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنَّ دَمَ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ يَرْفَعُ خَطَايَا أي يزيل القصاص المرتب على الخطيئة لأن هذه الذبائح كانت غير كافية لذلك فغاية ما كان لدم الثيران والتيوس من الفائدة التطهير الناموسي لخدمة الله والدلالة على مجيء المسيح ليوفي عن خطايا العالم (انظر ميخا ٦: ٧) فكانت فائدتها ناشئة عن ذبيحة المسيح التي كانت هي رمزاً لها. ولا يمكن أن الذبائح الحيوانية ترفع الخطايا أولاً لأنه لا علاقة بين الحيوان وبين الذين يقدمونه بل هو جنس وهم جنس آخر. ومن المحتمل أن إنساناً يفدي إنساناً لأن الواحد يقدر أن يجعل نفسه مكان الآخر ولكن لا يمكن أن خروفاً أو ثوراً يجعل نفسه مكان إنسان فيفتديه. وثانياً لأنه ليس للحيوان إرادة فيقدم نفسه بإرادته ذبيحة عن خطايا الناس وأما المسيح فتجسد وصار إنساناً مثلنا وبإرادته قدم نفسه. وبما أن الله غير محدود وكامل في كل صفاته كان لهذه الذبيحة قيمة غير محدودة فهي كافية لتطهير خطايا العالم.
٥ «لِذٰلِكَ عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى ٱلْعَالَمِ يَقُولُ: ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً لَمْ تُرِدْ، وَلٰكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَداً».
مزمور ٤٠: ٦ الخ و٥٠: ٨ الخ وإشعياء ١: ١١ وإرميا ٦: ٢٠ وعاموس ٥: ٢١ و٢٢
لِذٰلِكَ أي إذ لم يكن قوة في دم الثيران والتيوس لرفع الخطيئة ذكر الروح القدس بلسان داود (مزمور ٤٠: ٧ الخ) في المسيح –
عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى ٱلْعَالَمِ يَقُولُ القائل داود كأنه عن لسان المسيح بروح النبوءة والإشارة إلى تجسد المسيح.
ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً لَمْ تُرِدْ أي أن ذبائح الحيوانات والقرابين لم تكن كافية على أنواعها المختلفة في ذاتها للتكفير عن الخطيئة فلم يرض الله بها.
وَلٰكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَداً نقل الكاتب عن الترجمة السبعينية وفي الأصل العبراني «أذنيّ فتحت» ولا يُعلم الآن كيف دخلت هذه الترجمة إلا إن كان عن قراءة قديمة غير معروفة الآن فيها بُدلت آذان «بجسد» لسبب عدم انتباه النساخ.
هيأ الله للمسيح جسداً لكي يموت بالجسد لأن موت الحيوانات لم يكن كافياً للتطهير من الخطايا وقول المسيح هذا لم يكن في زمان من حياته بل كان قول حياته كلها وروحه الدائم.
وإذا راجعنا المزمور كله نرى فيه ما لا يناسب المسيح (مزمور ٤٠: ١٢ حاقت بي آثامي) والظاهر أن المرنم أولاً تكلم على نفسه ولكن روح الله الذي تكلم فيه جعل بعض الكلام يناسب المرنم ويناسب المسيح أيضاً.
٦ «بِمُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ لِلْخَطِيَّةِ لَمْ تُسَرَّ».
بِمُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ لِلْخَطِيَّةِ لَمْ تُسَرَّ أي أن الله لم يرض بالذبائح اللاوية عن الخطيئة بل هو يطلب ذبيحة أفضل وإيفاء أعظم لأجل الخطيئة وهذه الذبيحة هي ذبيحة المسيح (انظر مزمور ٥٠: ٧ – ١٥ و٥١: ١٦ وإشعياء ١: ١١ وإرميا ٦: ٢٠ و٧: ٢١ – ٢٣ وميخا ٦: ٦ – ٨).
٧ «ثُمَّ قُلْتُ: هَئَنَذَا أَجِيءُ. فِي دَرْجِ ٱلْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي، لأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا أَللّٰهُ».
ثُمَّ قُلْتُ: هَئَنَذَا أَجِيءُ أي لما لم يرض الله بإيفاء الذبائح عن الخطيئة قدّم المسيح نفسه لذلك لما جاء إلى العالم لفداء الناس.
فِي دَرْجِ ٱلْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي يُراد به كتابة الكتب القديمة على دروج من رق تُلف والمعنى أنه سبقت الكتب المقدسة وتكلمت في مجيء المسيح.
لأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا أَللّٰهُ مشيئة الله المذكورة هنا هي موت المسيح عوضاً عن الناس لأجل خلاصهم (انظر ع ١٠) وقوله «يا الله» بالنظر إلى تجسد المسيح لا إلى لاهوته لأنه بالجسد يصح أن يقال ذلك (متّى ٢٧: ٤٦).
٨ «إِذْ يَقُولُ آنِفاً: إِنَّكَ ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً وَمُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ لِلْخَطِيَّةِ لَمْ تُرِدْ وَلاَ سُرِرْتَ بِهَا. ٱلَّتِي تُقَدَّمُ حَسَبَ ٱلنَّامُوسِ».
إِذْ يَقُولُ آنِفاً هذه عبارة الكاتب التي فيها ينتج ما اقتبسه من المزامير أن مجيء المسيح أبطل الذبائح. وجواب «إذ» قوله «ينزع الأول» الخ في (ع ٩).
إِنَّكَ ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً وَمُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ لِلْخَطِيَّةِ لَمْ تُرِدْ وَلاَ سُرِرْتَ بِهَا مقول الاقتباس السابق.
ٱلَّتِي تُقَدَّمُ حَسَبَ ٱلنَّامُوسِ جملة تفسيرية من الكاتب أي هذه الذبائح المشار إليها هي التي كان الناموس يأمر بها ويتكل اليهود عليها فكانوا يبدلون آداب الديانة بطقوسها الناموسية.
٩ «ثُمَّ قَالَ: هَئَنَذَا أَجِيءُ لأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا أَللّٰهُ. يَنْزِعُ ٱلأَوَّلَ لِكَيْ يُثَبِّتَ ٱلثَّانِيَ».
ثُمَّ قَالَ والمقول هو الاقتباس السابق.
هَئَنَذَا أَجِيءُ لأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا أَللّٰهُ (انظر ع ٧).
يَنْزِعُ ٱلأَوَّلَ لِكَيْ يُثَبِّتَ ٱلثَّانِيَ أي بهذا القول قد أُبطلت الذبائح القديمة بذبيحة المسيح التي هي مشيئة الله في إرساله المسيح إلى العالم كما سيأتي في العدد التابع.
١٠ «فَبِهٰذِهِ ٱلْمَشِيئَةِ نَحْنُ مُقَدَّسُونَ بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً».
يوحنا ١٧: ١٩ وص ١٣: ١٢ وص ٩: ١٢
فَبِهٰذِهِ ٱلْمَشِيئَةِ أي مشيئة الله التي لم ترض بدم تيوس وعجول إيفاء عن الخطيئة والتي جاء المسيح ليفعلها ويفدي الناس بذبيحته (انظر ع ٧).
نَحْنُ مُقَدَّسُونَ أي نكرس لله بمعنى التطهير والتكفير عن الخطيئة الفاصلة بيننا وبينه تعالى.
بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ذبيحة على الصليب لأجل التكفير عن الخطيئة. وعلى ذلك يكون معنى حجة الكاتب إن الذبائح الطقسية على ناموس موسى لا يقبلها الله إيفاء عن القصاص الواجب لشر الخطيئة ولكن طاعة المسيح لمشيئة الله حتى الموت (انظر فيلبي ٢: ٨) كافية لذلك وقد أبطلت جميع الذبائح.
مَرَّةً وَاحِدَةً وقد تكررت هذه العبارة كثيراً في كلام الكاتب بهذا المعنى وينتج منها أن ذبيحة المسيح لا تعاد بوجه من الوجوه ولذلك قول من يقول أن في القداس ذبيحة المسيح حقيقة لا مجازاً ولا تذكاراً ولا شبهاً لا يوافق قول الكاتب. وفي هذا الصدد يقول يوحنا فم الذهب في تفسيره لهذه الرسالة «فإن سأل سائل ماذا تقول أفنحن ما نقدم كل يوم. بل نصنع مراجعة لذكر موته. وهذه التضحية واحدة لا كثيرات فإن قلت وكيف هي واحدة لا كثيرات قلت لك لأجل أنها دفعة واحدة قُدمت كتلك في مقادس القديسين. فهذا رسم لتلك وهذه أيضاً لتلك. هذا يصير للتذكار الذي صار في ذلك الوقت. لأنه يقول كرئيس الكهنة حينئذ بل هي نصنعها دائماً بل إننا نصنع تذكار الضحية» (المقابلة السابعة عشرة في الفصل العاشر من الرسالة إلى العبرانيين نقلاً عن نسخة خط بحروفها).
١١ «وَكُلُّ كَاهِنٍ يَقُومُ كُلَّ يَوْمٍ يَخْدِمُ وَيُقَدِّمُ مِرَاراً كَثِيرَةً تِلْكَ ٱلذَّبَائِحَ عَيْنَهَا، ٱلَّتِي لاَ تَسْتَطِيعُ ٱلْبَتَّةَ أَنْ تَنْزِعَ ٱلْخَطِيَّةَ».
عدد ٢٨: ٣ وص ٧: ٢٧ ع ٤
في هذه الآية وما يليها إلى ع ١٨ خلاصة ما كان ذكره الكاتب من جهة كون ذبائح اليهود متعددة لأنها لم تكن كافية للإيفاء عن الخطيئة وكون ذبيحة المسيح واحدة لذلك الإيفاء. وقد انتهى من احتجاجه في هذا المعنى بالقول أنه إذا حصل المؤمنون على المغفرة التامة بالمسيح لم يبق محل لقرابين أو ذبائح جديدة عن الخطيئة.
وَكُلُّ كَاهِنٍ يَقُومُ كُلَّ يَوْمٍ يَخْدِمُ وَيُقَدِّمُ مِرَاراً كَثِيرَةً تِلْكَ ٱلذَّبَائِحَ عَيْنَهَا في بعض النسخ وكل رئيس كهنة ولكنها قراءة ضعيفة مختلف عليها ولا سيما أن الذبائح اليومية كانت منوطة بالكاهن لا برئيس الكهنة على أنه قد مر علينا أن رئيس الكهنة كان يقدم ذبائح يومية (ص ٧: ٢٧). والمراد أن الذبيحة اللاوية كانت تكرر ولم تقدر أن توفي عن الخطيئة.
ٱلَّتِي لاَ تَسْتَطِيعُ ٱلْبَتَّةَ أَنْ تَنْزِعَ ٱلْخَطِيَّةَ أي قصاص الخطيئة كما مرّ وكذلك قد مرّ عدم كفاءة الذبائح للإيفاء عن الخطيئة.
١٢ «وَأَمَّا هٰذَا فَبَعْدَمَا قَدَّمَ عَنِ ٱلْخَطَايَا ذَبِيحَةً وَاحِدَةً، جَلَسَ إِلَى ٱلأَبَدِ عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ».
كولوسي ٣: ١ وص ١: ٣
وَأَمَّا هٰذَا المقابلة بين قوله «كل كاهن» في الآية السابقة وقوله «هذا» والمشار إليه هو المسيح.
فَبَعْدَمَا قَدَّمَ عَنِ ٱلْخَطَايَا ذَبِيحَةً وَاحِدَةً لأنها فاعلة على الدوام فلا حاجة لإعادتها كما كان الأمر في ذبائح اليهود.
جَلَسَ إِلَى ٱلأَبَدِ عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ المقابلة هنا بين قوله «يقوم» و «يخدم» عن الكاهن اللاوي وهو ما يليق بالخادم وقوله هنا «جلس» فإن الجلوس لا يليق إلا بالسيّد بخلاف الخادم. وهذا الجلوس مجازي معناه الارتقاء والحكم والتسلّط.
١٣ «مُنْتَظِراً بَعْدَ ذٰلِكَ حَتَّى تُوضَعَ أَعْدَاؤُهُ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْهِ».
مزمور ١١٠: ١ وأعمال ٢: ٣٥ و١كورنثوس ١٥: ٢٥ وص ١: ١٣
مُنْتَظِراً بَعْدَ ذٰلِكَ أي بعد جلوسه عن يمين الله المشار إليه في الآية السابقة.
حَتَّى تُوضَعَ أَعْدَاؤُهُ أعداء المسيح هم المقاومون لديانته وحكمه.
مَوْطِئاً لِقَدَمَيْهِ عبارة مجازية للدلالة على الخضوع الكامل له (يشوع ١٠: ٢٤) ولا شك أن المراد هو الزمان الذي فيه تبطل مقاومة الناس لديانة المسيح فيقبلونها وتعم كل وجه الأرض بحسب ما أعلن الله في كتابه. ويظهر من هنا أنه عند نهاية هذه المحاربة بين ملكوت النور وملكوت الظلمة أي عند نهاية العالم يبطل هذا الجلوس عن يمين الله بمعنى الحكم والسلطان المُعطى للمسيح من حيث هو وسيط الخلاص ويصير الملك الله الآب (١كورنثوس ١٥: ٢٤ و٢٥).
١٤ «لأَنَّهُ بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ قَدْ أَكْمَلَ إِلَى ٱلأَبَدِ ٱلْمُقَدَّسِينَ».
ع ١
لأَنَّهُ بِقُرْبَانٍ أي تقدمة.
وَاحِدٍ هو موته مرة واحدة على الصليب.
قَدْ أَكْمَلَ أي طهّر من الخطيئة.
إِلَى ٱلأَبَدِ كما أنه قدم جسده قرباناً واحداً عن الخطيئة هكذا فاعلية هذا القربان دائمة أبدية وذلك بالنظر إلى الأفراد والعموم فإن من غُفرت خطاياه فقد غُفرت له إلى الأبد وإيفاء الصليب عن الخطيئة لا يقتصر على زمان بل يمتد إلى كل زمان من بداءة العالم إلى نهايته.
ٱلْمُقَدَّسِينَ أي المفديين بنعمة الله وبدم المسيح.
١٥ «وَيَشْهَدُ لَنَا ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ أَيْضاً. لأَنَّهُ بَعْدَمَا قَالَ سَابِقاً».
وَيَشْهَدُ لَنَا على صحة ما ذُكر من جهة كون ذبائح العهد القديم غير قادرة على تطهير الضمير واطمئنان الخاطئ من جهة مغفرة خطاياه وكون ذبيحة المسيح الواحدة هي الواسطة المقامة من الله لأجل ذلك.
ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ الذي ألهم وعلّم رجال الله أن يكتبوا الأسفار المقدسة التي يستشهد الأن منها.
أَيْضاً أي فضلاً عن اقتباسات أُخر استشهد بها في ما مضى.
لأَنَّهُ بَعْدَمَا قَالَ سَابِقاً قوله «بعد» ظرف متعلق «بيقول الرب» في العدد التابع على مذهب البعض فيكون المعنى أنه بعدما قال أولاً «هذا هو العهد الذي أعهده بعد تلك الأيام» قال أيضاً «أجعل نواميسي» الخ والمراد أن الله علّق المغفرة الحقيقية على دخول العهد الجديد كما يُرى في (ع ١٧).
١٦ «هٰذَا هُوَ ٱلْعَهْدُ ٱلَّذِي أَعْهَدُهُ مَعَهُمْ بَعْدَ تِلْكَ ٱلأَيَّامِ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ، أَجْعَلُ نَوَامِيسِي فِي قُلُوبِهِمْ وَأَكْتُبُهَا فِي أَذْهَانِهِمْ».
إرميا ٣١: ٣٣ و٣٤ وص ٨: ١٠ و١٢
هٰذَا هُوَ ٱلْعَهْدُ ٱلَّذِي أَعْهَدُهُ مَعَهُمْ الاقتباس من (إرميا ٣١: ٣١ – ٣٤). وقد ذكره الكاتب في ما مضى (ص ٨: ٨ – ١٢) غير أنه في الأصل «مع بيت إسرائيل وبيت يهوذا» وفي الاقتباس السابق كذلك وهنا «معهم» والمعنى واحد وهو أن العهد الذي يعهده الله في الدور المسيحي مع شعبه الروحي يكون كما سيأتي.
بَعْدَ تِلْكَ ٱلأَيَّامِ أي عند نهاية الدور الموسوي.
يَقُولُ ٱلرَّبُّ الذي لا يتغير في قوله وأمانته والفائدة من ذكر هذه العبارة تأكيد وقوع الأمر.
أَجْعَلُ نَوَامِيسِي فِي قُلُوبِهِمْ أي أنه تعالى يضع روح الطاعة الدائمة في قلوب شعبه.
وَأَكْتُبُهَا فِي أَذْهَانِهِمْ تكرار لأجل البيان وقد سبق تفسير جميع هذا العدد في (ص ٨: ١٠).
١٧ «وَلَنْ أَذْكُرَ خَطَايَاهُمْ وَتَعَدِّيَاتِهِمْ فِي مَا بَعْدُ».
وَلَنْ أَذْكُرَ خَطَايَاهُمْ وَتَعَدِّيَاتِهِمْ فِي مَا بَعْدُ هو تتمة الاقتباس من إرميا. والشاهد الذي يريده الكاتب هو أن في العهد الجديد يحصل لشعب الله غفران كامل لا يصاحبه تردد ولا يعقبه ندم (انظر تفسير هذه الآية في ص ٨: ١٢).
١٨ «وَإِنَّمَا حَيْثُ تَكُونُ مَغْفِرَةٌ لِهٰذِهِ لاَ يَكُونُ بَعْدُ قُرْبَانٌ عَنِ ٱلْخَطِيَّةِ».
وَإِنَّمَا بمعنى ولكن مع التوكيد. والكلام هنا نتيجة مما سبق من الاقتباس.
حَيْثُ تَكُونُ مَغْفِرَةٌ لِهٰذِهِ أي للخطايا والتعديات المذكورة في (ع ١٧).
لاَ يَكُونُ بَعْدُ قُرْبَانٌ عَنِ ٱلْخَطِيَّةِ أي لا يبقى حاجة ولا محل له على أنه في العهد القديم كانت تكرّر الذبائح لأن غاية ما كان يحصل بواسطتها تطهير طقسي خارجي رمزي يؤهل الإنسان لعبادة الله في الهيكل الأرضي. وأما ذبيحة المسيح فإنها تحصل للإنسان غفراناً كاملاً في كل العصور وهي الواحدة الكافية التي تمت فيها الذبائح الرمزية.
إلى هنا انتهى كلام الكاتب في القسم الجدلي من الرسالة الذي يتعلق بمقاومة أفكار اليهود من جهة فضل شريعتهم وثباتها. فإنه قد برهن لهم بنوع جلي وبحجج كثيرة أن العهد القديم بالجملة وبالتفصيل من حيث شرائعة الطقسية لا الأدبية التي لا تتغير أبداً كان رمزاً للجديد الأفضل منه من كل جهة. ومن جملة ما ذكره في هذا المعنى أن الشريعة القديمة نزلت بواسطة ملائكة وأنبياء والديانة المسيحية بابن الله وإن الكهنوت اللاوي إنما كان رمزاً ضعيفاً لكهنوت المسيح الذي كان على رتبة كهنوت ملكي صادق. وهكذا الذبائح والخدمة في الهيكل فإنها كانت تشير إلى ذبيحة وإلى خدمة أفضل منها جداً. وأخيراً إن الخير الذي ناله اليهود بواسطة القيام بتلك التكاليف الشرعية كان زمنياً يشير إلى خير روحي أبدي يناله المؤمنون بالمسيح. فجميع ما ناله شعب الله في العهد القديم من الخيرات الروحية كالمغفرة والتطهير والسعادة الأبدية في السماء إنما صار لهم بفعل ذبيحة المسيح وخدمته المزمعة لا بدم التيوس والعجول التي كانوا يقدمونها في هيكل أرضي. وعلى الجملة نقول إن الكلام يظهر على نوع جلي جداً إن جميع الشريعة الطقسية إنما وُضعت لغاية محدودة الزمان وكانت هذه الغاية الإشارة إلى ما تم في العهد الجديد من الفداء العظيم فلما جاء المسيح وتكملت الحقائق بطلت بالضرورة جميع الرموز الموضوعة للدلالة عليها وصار الوصول إلى عرش النعمة ممكناً لكل خاطئ يأتي بالتوبة إلى الله عن الخطيئة والإيمان بذبيحة المسيح وشفاعته.
وإذ فرغ الكاتب من كلامه في هذا الشأن شرع في الوعظ والحث للعبرانيين المؤمنين على الثبات في الديانة المسيحية وذلك إما لأن الإيمان والثبات ينتهيان في الخلاص الأبدي أو لأن الارتداد والرجوع إلى الوراء يفضيان بالإنسان إلى الهلاك. وإلى هذا يتجه كلامه في ما بقي من هذا الأصحاح.
١٩ «فَإِذْ لَنَا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ ثِقَةٌ بِٱلدُّخُولِ إِلَى «ٱلأَقْدَاسِ» بِدَمِ يَسُوعَ».
رومية ٥: ٢ وأفسس ٢: ١٨ و٣: ١٢ ص ٩: ٨ و١٢
فَإِذْ لَنَا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ ثِقَةٌ بِٱلدُّخُولِ إِلَى «ٱلأَقْدَاسِ» بِدَمِ يَسُوعَ المترجمة هنا «ثقة» معناها الأول في الأصل اليوناني الحرية بمعنى عدم المنع والحجز ثم تأتي كما أتت هنا بمعنى الثقة أي تيقّن القبول وعدم الرفض عند الدخول إلى الأقداس. والأقداس المذكور هو السماوي الحقيقي الذي كان يشير إليه قدس الأقداس الأرضي. قوله «بدم يسوع» أي بواسطة دم يسوع. فيكون معنى العبارة أنه إذا حصلنا على حرية كاملة للاقتراب إلى محضر الله السماوي ولمخاطبته بواسطة دم المسيح ليمكننا الوصول إليه تعالى في الصلاة بثقة من جهة قبولنا لديه وعدم رفضنا من أمام وجهه لنتقدّم بقلب صادق الخ.
٢٠ «طَرِيقاً كَرَّسَهُ لَنَا حَدِيثاً حَيّاً، بِٱلْحِجَابِ، أَيْ جَسَدِهِ».
يوحنا ١٠: ٩ و١٤: ٦ وص ٩: ٨ وص ٩: ٣
طَرِيقاً كَرَّسَهُ لَنَا أي أن الدخول إلى الأقداس السماوي المذكور في العدد السابق إنما هو على طريق كرسه لنا المسيح أي فتحه وجعله مشاعاً لكل الذين يريدون أن يُقبلوا إلى الله فيه. ثم لما ذكر في العدد السابق أن الدخول إلى الأقداس هو بدم المسيح كان الطريق المذكور هنا تفسيراً لقوله دم المسيح.
حَدِيثاً وصف للطريق بمعنى أنه كان حديث العهد وبعضهم يفهمون الكلمة بمعنى المقابلة للطريق القديم في العهد الأول وآخرون دوام الفاعلية فهو حديث أبداً لا يعتق ولا يضعف في فعله من توالي الزمان.
حَيّاً وصف ثان للطريق وهو يحتمل جملة معان. فقد يكون بمعنى أن هذا الطريق يوصل إلى الحياة وقد أثبت هذا التفسير ثيوفيلكتوس من النظر إلى العهد القديم لأن من اجتاز إلى قدس الأقداس إلا رئيس الكهنة كان يموت أي يقاص بالموت. وقد يكون بمعنى ثبوت الفعل أي دوامه كما يُراد بالماء الحي الذي يجري على الدوام ولا يجف في الحر. وقد يكون بمعنى الفاعلية لأن الحياة الأبدية لكل من يؤمن بالمسيح فدخل به إلى القدس الحقيقي وليس إلى ما يُرمز إليه.
بِٱلْحِجَابِ، أَيْ جَسَدِهِ أي كما أنه كان الاجتياز بالحجاب الفاصل قدس الأقداس عن القدس ضرورياً لرئيس الكهنة في العهد القديم كذلك الوصول إلى الله كان في العهد الجديد بواسطة جسد المسيح أي موته. وكما انشق حجاب الهيكل عند موت المسيح وكُشف قدس الأقداس (متّى ٢٧: ٥١) انفتح للخطأة الباب للوصول إلى الله بموت المسيح على الصليب ذبيحة عن الخطايا. ولا يخفى أن الكلام هنا مجازي مبني على الإشارات والرموز والأسماء التي كانت في العهد القديم.
٢١ «وَكَاهِنٌ عَظِيمٌ عَلَى بَيْتِ ٱللّٰهِ».
ص ٤: ١٤ و١تيموثاوس ٣: ١٥
وَكَاهِنٌ عَظِيمٌ عَلَى بَيْتِ ٱللّٰهِ عطف جملة على جملة والمعطوف عليه ما بعد «إذ» في (ع ١٩) والمعنى وإذ لنا كاهن عظيم الخ. قوله «كاهن عظيم» ترجمة حرفية فعن الأصل العبراني والمراد به رئيس الكهنة إلا إذا كان المراد هنا الكاهن العظيم الذي تمت فيه كل رموز الكهنوت اللاوي بقطع النظر عن رئاسة الكهنوت. قوله «بيت الله» أي بيته الروحي وهو شعب الله الذين يعرفونه ويخافونه ويقتربون إليه بالطريق الوحيد الذي أعلنه للناس. وهذا البيت هو ما تتألف منه كنيسة المسيح الروحية الحقيقية التي هو وحده يعرفها لأنه وحده يعرف من هم الذين له (يوحنا ١٠: ١١٤ و١٥ و٢تيموثاوس ٢: ١٩).
٢٢ «لِنَتَقَدَّمْ بِقَلْبٍ صَادِقٍ فِي يَقِينِ ٱلإِيمَانِ، مَرْشُوشَةً قُلُوبُنَا مِنْ ضَمِيرٍ شِرِّيرٍ، وَمُغْتَسِلَةً أَجْسَادُنَا بِمَاءٍ نَقِيٍّ».
ص ٤: ١٦ أفسس ٣: ١٢ ويعقوب ١: ٦ و١يوحنا ٣: ٢١ ص ٩: ١٤ حزقيال ٣٦: ٢٥ و٢كورنثوس ٧: ١
لِنَتَقَدَّمْ إلى الله والعبارة مجازية مبنية على اقتراب الإسرائيليين من القدس حيث كان محضر الله.
بِقَلْبٍ صَادِقٍ فِي يَقِينِ ٱلإِيمَانِ الصدق المنسوب هنا للقلب ضد المخادعة في الدين ومعناه الإخلاص. والقلب الجسدي هو مركز الحياة الجسدية والقلب الروحي هو مركز الحياة الروحية والمراد به عواطف الإنسان ومقاصده الداخلية الروحية فيجب أن تكون صادقة لأن الله يعرفها وينظر إليها لا إلى مجرد الكلام والفعل. وقوله «يقين الإيمان» من باب إضافة الصفة إلى الموصوف بمعنى الإيمان اليقين والمراد به ضد التردد في الإيمان والسقوط أخيراً في الكفر وعدم الشك بالوصول إلى الله بواسطة دم المسيح.
مَرْشُوشَةً أي مطهرة وهي عبارة مجازية مبنية على التطهير برش الدم وغيره في العهد القديم والمراد هنا التطهير بدم المسيح.
قُلُوبُنَا مِنْ ضَمِيرٍ شِرِّيرٍ أي ضمير مثقل بالشر ويحتمل أن يكون معنى الكلمة الأصلية الإحساس بالشر والمراد أن الإنسان يتخلص من تونيب الضمير وتثقله بالخطيئة ويشعر أن خطاياه مغفورة له بواسطة دم المسيح.
وَمُغْتَسِلَةً أَجْسَادُنَا بِمَاءٍ نَقِيٍّ عبارة أخرى مجازية مأخوذة من التطهير بالماء حسب الناموس الموسوي فيتطهر الإنسان كله ظاهراً وباطناً فتطهر أفكاره وعواطفه وكلامه وأفعاله أيضاً. وربما كانت الإشارة هنا إلى المعمودية المسيحية. وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها حسب الترجمة العربية وقد اختار بعضهم تعلّقها بالعدد التابع فيقدرون «إذ» ويسبكون العبارة هكذا وإذا اغتسلت أجسادنا بماء نقي لنتمسك بإقرار الرجاء الخ. واليوناني يحتمل هذا التركيب.
٢٣ «لِنَتَمَسَّكْ بِإِقْرَارِ ٱلرَّجَاءِ رَاسِخاً، لأَنَّ ٱلَّذِي وَعَدَ هُوَ أَمِينٌ».
ص ٤: ١٤ و١كورنثوس ١: ٩ و١٠: ١٣ و١تسالونيكي ٥: ٢٤ و٢تسالونيكي ٣: ٣ وص ١١: ١١
لِنَتَمَسَّكْ معطوف على الأصح على قوله «لنتقدم» في العدد السابق.
بِإِقْرَارِ ٱلرَّجَاءِ رَاسِخاً قوله «راسخاً» حال من «إقرار» والمعنى لنتمسك بالرجاء الذي نقر به الإقرار راسخاً أي وطيداً لا يتزعزع.
لأَنَّ ٱلَّذِي وَعَدَ هُوَ أَمِينٌ أي لما كان الذي وعد أميناً في إنجاز مواعيده وجب أن نتمسك برجائنا المسيحي غير متزعزعين عنه.
٢٤ «وَلْنُلاَحِظْ بَعْضُنَا بَعْضاً لِلتَّحْرِيضِ عَلَى ٱلْمَحَبَّةِ وَٱلأَعْمَالِ ٱلْحَسَنَةِ».
وَلْنُلاَحِظْ بَعْضُنَا بَعْضاً لِلتَّحْرِيضِ عَلَى ٱلْمَحَبَّةِ وَٱلأَعْمَالِ ٱلْحَسَنَةِ أي أنه يجب على المسيحيين أن يهتم بعضهم ببعض ولا سيما بالنظر إلى خيرهم الروحي وقد ذكر الكاتب جوهر الأمر في قوله «المحبة والأعمال الحسنة» لأن الإيمان المسيحي يفعل الحب ومن المحبة تصدر الأعمال الحسنة. وكانت هذه النصيحة مناسبة للعبرانيين خاصة لأنهم كانوا محاطين بأخطار المقاومة والارتداد فكان يجب عليهم أن يسهر بعضهم على بعض وأن يتحركوا للفضائل المسيحية التي تظهر منها قوة الحياة الروحية الباطنة. والجملة معطوفة على ما سبق من قوله «لنتقدم» (ع ٢٢) و «لنتمسك» (ع ٢٣) ولا يزال الكلام متعلقاً بقوله «وإذ لنا ثقة» الخ (ع ١٩) و «كاهن عظيم» الخ (ع ٢١).
٢٥ «غَيْرَ تَارِكِينَ ٱجْتِمَاعَنَا كَمَا لِقَوْمٍ عَادَةٌ، بَلْ وَاعِظِينَ بَعْضُنَا بَعْضاً، وَبِٱلأَكْثَرِ عَلَى قَدْرِ مَا تَرَوْنَ ٱلْيَوْمَ يَقْرُبُ».
أعمال ٢: ٤٢ وويهوذا ١٩ ورومية ١٣: ١١ وفيلبي ٤: ٥ و٢بطرس ٣: ٩ و١٠ و ١١ و١٤
غَيْرَ تَارِكِينَ ٱجْتِمَاعَنَا أي غير متهاملين عن الاجتماعات للصلاة لأن هذا هو مدلول الكلمة اليونانية.
كَمَا لِقَوْمٍ عَادَةٌ أي كما كان يتهامل بعض العبرانيين المؤمنين خوفاً من الاضطهاد.
بَلْ وَاعِظِينَ بَعْضُنَا بَعْضاً لوجوب الحضور للاجتماعات المذكورة والتحريض المذكور في العدد السابق.
وَبِٱلأَكْثَرِ عَلَى قَدْرِ مَا تَرَوْنَ ٱلْيَوْمَ يَقْرُبُ أي وعلى الخصوص يجب ذلك عليكم نظراً للأوقات الصعبة المقبلة على فلسطين. وهذا مما يؤيد القول بأن هذه الرسالة كُتبت ليهود فلسطين الذين كانوا قد آمنوا بالديانة المسيحية. والأوقات المشار إليها في النص بقوله «اليوم» هي على الأصح أوقات ضيقة اليهود العظيمة عند إخراب الرومانيين لأورشليم وجميع فلسطين الذي تم بعد زمان كتابة هذه الرسالة بقليل من الزمان. والحجة المبنية على ذلك كانت باعتبار أخطار الموت وانقلاب الأمور التي بالنظر إليها يجب على الإنسان أن يكون في حال يرضاها الله.
٢٦ «فَإِنَّهُ إِنْ أَخْطَأْنَا بِٱخْتِيَارِنَا بَعْدَمَا أَخَذْنَا مَعْرِفَةَ ٱلْحَقِّ، لاَ تَبْقَى بَعْدُ ذَبِيحَةٌ عَنِ ٱلْخَطَايَا».
لاويين ٤: ٢ وعدد ١٥: ٣٠ وص ٦: ٤ و٢بطرس ٢: ٢٠ و٢١
فَإِنَّهُ إِنْ أَخْطَأْنَا بِٱخْتِيَارِنَا الخطيئة المشار إليها هنا هي الارتداد عن الديانة المسيحية بسبب الاضطهاد وقيّدها بقوله «باختيارنا» بناء على التمييز الموجود في العهد القديم بين الخطايا سهواً والخطايا بيد رفيعة أي بقصد ثابت لارتكابها لا بسبب التجربة القوية التي تستولي على الإنسان وتسوقه إلى الخطيئة.
بَعْدَمَا أَخَذْنَا مَعْرِفَةَ ٱلْحَقِّ أي بعد معرفتنا واقتناعنا بالديانة المسيحية الحقيقية.
لاَ تَبْقَى بَعْدُ ذَبِيحَةٌ عَنِ ٱلْخَطَايَا جواب الشرط. أي أنه إذا أنكر الإنسان الديانة المسيحية وترك رجاءه في المسيح لم يبق له ذبيحة أخرى تقدم عن خطاياه لأنه لا يوجد غيرها فالارتداد إذاً يؤدي إلى الهلاك. ويظهر من علاقة الكلام بما سبق أن الارتداد كثيراً ما ينشأ عن إهمال صلوات الاجتماع. وقال بعض الآباء المراد بقوله «لا تبقى ذبيحة» عدم إعادة معمودية المسيحيين الذي سقطوا وتابوا.
٢٧ «بَلْ قُبُولُ دَيْنُونَةٍ مُخِيفٌ، وَغَيْرَةُ نَارٍ عَتِيدَةٍ أَنْ تَأْكُلَ ٱلْمُضَادِّينَ».
حزقيال ٣٦: ٥ وصفنيا ١: ١٨ و٣: ٨ و٢تسالونيكي ١: ٨ وص ١٢: ٢٩
بَلْ قُبُولُ دَيْنُونَةٍ مُخِيفٌ أي أن نتيجة الارتداد هو قبول دينونة الله في القصاص العادل.
وَغَيْرَةُ نَارٍ (صفنيا ١: ١٨) وهو من باب إضافة الصفة إلى الموصوف والمعنى نار حارة شديدة ويحتمل أنه من باب إضافة الموصوف إلى الصفة بمعنى غيرة نارية.
عَتِيدَةٍ أي في اليوم الأخير.
أَنْ تَأْكُلَ ٱلْمُضَادِّينَ أي تهلك المضادين لله فإنه ينسب الأكل للنار بمعنى الإهلاك (تثنية ٣٢: ٢٢) والمراد بالمضادين لله المقاومون لديانة المسيح وصفاته وتعاليمه وامتداد ملكوته على الأرض.
٢٨ «مَنْ خَالَفَ نَامُوسَ مُوسَى فَعَلَى شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةِ شُهُودٍ يَمُوتُ بِدُونِ رَأْفَةٍ».
ص ٢: ٢ وتثنية ١٧: ٢ و٦ و١٩: ١٥ ومتّى ١٨: ١٦ ولوقا ٨: ١٧ و٢كورنثوس ١٣: ١
مَنْ خَالَفَ نَامُوسَ مُوسَى مخالفة تستحق القتل بقصد ثابت أو بيد رفيعة (عدد ١٥: ٣٠ و٣١).
فَعَلَى شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةِ شُهُودٍ يَمُوتُ بِدُونِ رَأْفَةٍ أي إذا وُجد شهود ليس أقل من اثنين كان يعاقب المجرم بالقتل بدون رأفة بشرط أن يكون الذنب مستحقاً للموت. والذنب المشار إليه في هذا القول هو الارتداد عن الله إلى عبادة الأصنام كما يظهر من مراجعة (تثنية ١٧: ٢ – ٦) حيث يُذكر جميع الأحوال التي ذكرها الكاتب هنا. والحجة هنا من باب الانتقال من قول إلى قول أقوى كما يُرى من تمام العبارة في (ع ٢٩). ويُشاهد مثال هذه النتيجة في (ص ٢: ٢ و٣ و١٢: ٢٥).
٢٩ «فَكَمْ عِقَاباً أَشَرَّ تَظُنُّونَ أَنَّهُ يُحْسَبُ مُسْتَحِقّاً مَنْ دَاسَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ، وَحَسِبَ دَمَ ٱلْعَهْدِ ٱلَّذِي قُدِّسَ بِهِ دَنِساً، وَٱزْدَرَى بِرُوحِ ٱلنِّعْمَةِ؟».
ص ٢: ٣ و١٢: ٢٥ و١كورنثوس ١١: ٢٩ وص ١٣: ٢٠ ومتّى ١٢: ٣١ و ٣٢ وأفسس ٤: ٣٠
فَكَمْ عِقَاباً أَشَرَّ تَظُنُّونَ أَنَّهُ يُحْسَبُ مُسْتَحِقّاً في قوله «تظنون» يرفع الحكم إلى الذين يخاطبهم فكأنه يقول إن كان الإنسان الذي يرتد عن عبادة الله في العهد القديم يُعاقب بالموت فما تقولون في من يفعل هذا الفعل نفسه في العهد الجديد الأفضل ألا يستحق عقاباً أعظم من العقاب المرتب في العهد القديم. ثم يذكر الأحوال التي تجعل ذنبه عظيماً مستحقاً لعقوبة شديدة وهي كما يأتي.
مَنْ دَاسَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ عبارة مجازية تدل على الاحتقار العظيم والرفض للديانة المسيحية التي رأسها ومؤسسها ابن الله. هذا هو الوصف الأول للمرتد عن الديانة المسيحية والثاني قوله –
وَحَسِبَ دَمَ ٱلْعَهْدِ ٱلَّذِي قُدِّسَ بِهِ دَنِساً لما جدد بنو إسرائيل عهدهم مع الله رشّهم موسى بالدم (خروج ٢٤: ٨) وسمي ذلك «دم العهد» (انظر ص ٩: ١٩ و٢٠ من هذه الرسالة) وأما في العهد الجديد فلما تقدّس الإنسان بدم المسيح كان المرتد يحسب أن هذا الدم دنس أي بدون فاعلية لتطهير الإنسان. والوصف الثالث للمرتد عن الديّانة المسيحية هو قوله –
وَٱزْدَرَى بِرُوحِ ٱلنِّعْمَةِ أي بالروح الذي يهب النعم الروحية وهو روح الله القدوس. وقد يكون المراد الخطيئة ضد الروح القدس (متّى ١٢: ٣١). ومعنى جميع العبارة أن المرتد عن ديانة العهد القديم كان يُعاقب بالقتل فلما كان العهد الجديد هو المشار والمرموز إليه في القديم كان الإنسان الذي يرتد عن الديّانة المسيحية مستحقاً لعقاب أعظم لأنه يكون قد احتقر ابن الله ودمه الكريم الذي به يتطهّر الإنسان من خطاياه وروح النعم الذي يهب الخيرات الروحية.
٣٠ «فَإِنَّنَا نَعْرِفُ ٱلَّذِي قَالَ: لِيَ ٱلانْتِقَامُ، أَنَا أُجَازِي، يَقُولُ ٱلرَّبُّ. وَأَيْضاً: ٱلرَّبُّ يَدِينُ شَعْبَهُ».
تثنية ٣٢: ٣٥ ورومية ١٢: ١٩ وتثنية ٣٢: ٣٦ ومزمور ٥٠: ٤ و١٣٥: ١٤
فَإِنَّنَا نَعْرِفُ ٱلَّذِي قَالَ أي إننا نعرف صدق الله في وعيده كما في وعده ولذلك يجب أن نخاف من القول التالي الذي يقتبسه الكاتب من (تثنية ٣٢: ٣٥).
لِيَ ٱلانْتِقَامُ، أَنَا أُجَازِي وفي العبراني «لي النقمة والمجازاة». وهذا القول المنسوب إلى الله هو من باب المجاز به يُنسب إلى الله ما يحسّ به الإنسان كما قيل مثلاً في الله أنه ندم وهو لا يندم والمراد هنا أن الله يفعل ما يشبه فعل الإنسان حين ينتقم من آخر ويجري عليه شراً فإنه تعالى يجري القصاص والشر على المذنب. ثم في تقديم المجرور على ما يتعلق به ما يسميه البيانيون القصر فيفهم كثيرون العبارة بمعنى أن لله وحده الانتقام فلا يجوز ذلك للإنسان وهكذا نقتبس كثيراً بين العامة ولكن هذا المعنى لا يُستفاد من الأصل كما يُرى من القرينة ولو كان المعنى صحيحاً في ذاته.
يَقُولُ ٱلرَّبُّ عبارة من الكاتب غير موجودة في الأصل.
وَأَيْضاً أي إن ما يتلو اقتباس آخر.
ٱلرَّبُّ يَدِينُ شَعْبَهُ (تثنية ٣٢: ٣٦ ومزمور ١٣٥: ١٤) فإن كان من الأول فقوله «أيضاً» لفصل هذا الاقتباس عن قوله «لي النقمة» الخ بكلام متوسط في الأصل لم يذكره الكاتب. وإن كان من الثاني فسبب قوله «أيضاً» يكون ظاهراً. ومعنى «يدين» هنا إجراء الدينونة والقصاص على المذنبين ولو كانوا من شعبه وتكملة الجملة في (تثنية ٣٢: ٣٦) «الرب يدين شعبه وعلى عبيده يشفق» أي دينونة الرب على أعدائه ولشعبه. ولكن تصح النتيجة أنه يعامل شعبه معاملة الأعداء إذا ارتدوا عنه.
٣١ «مُخِيفٌ هُوَ ٱلْوُقُوعُ فِي يَدَيِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ!».
لوقا ١٢: ٥
مُخِيفٌ هُوَ ٱلْوُقُوعُ فِي يَدَيِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ أي الوقوع تحت قصاصه الرهيب فيجب على الإنسان إذاً الحذر من تحريك قصاص الله العادل الرهيب عليه. ولا مناقضة بين هذه العبارة وقول داود «أَسْقُطْ فِي يَدِ ٱلرَّبِّ لأَنَّ مَرَاحِمَهُ كَثِيرَةٌ، وَلاَ أَسْقُطُ فِي يَدِ إِنْسَانٍ» (١أيام ٢١: ١٣) لأن سقوط المؤمن في يدي الله رحمة وأما سقوط الشرير في يديه تعالى فغضب مخيف.
٣٢ «وَلٰكِنْ تَذَكَّرُوا ٱلأَيَّامَ ٱلسَّالِفَةَ ٱلَّتِي فِيهَا بَعْدَمَا أُنِرْتُمْ صَبِرْتُمْ عَلَى مُجَاهَدَةِ آلاَمٍ كَثِيرَةٍ».
غلاطية ٣: ٤ و٢يوحنا ٨ ص ٦: ٤ وفيلبي ١: ٢٩ و٣٠ وكولوسي ٢: ١
في هذه الآية وما يليها يذكر الكاتب أمراً جديداً لتحريض العبرانيين على الثبات في الإيمان فإنه في ما سبق ان يتكلم في وجوب الثبات من جهة المواعيد في العهد الجديد والنتائج المخيفة للذين يرتدون عن الديانة المسيحية وأما هنا فيذكرهم باحتمالهم السابق وثباتهم في الضيقات الكثيرة ويحثهم على ملازمة إيمانهم لكي لا يخسروا أتعابهم التي احتملوها لأجل المسيح والتي لها مجازاة عظيمة في السماء.
وَلٰكِنْ حرف انتقال هنا فإن الكاتب ينتقل من الكلام على الارتداد ومخاوفه إلى الكلام على وجوب الثبات باعتبار تصرفهم السابق.
تَذَكَّرُوا ٱلأَيَّامَ ٱلسَّالِفَةَ أي ما مضى من الزمان والفعل في اليوناني بمعنى التذكر الدائم.
ٱلَّتِي فِيهَا بَعْدَمَا أُنِرْتُمْ أي تنورتم بتعاليم الحق والإنجيل.
صَبِرْتُمْ عَلَى مُجَاهَدَةِ آلاَمٍ كَثِيرَةٍ أي اضطهادات حصلت لهم بسبب اتّباعهم للديانة المسيحية. ومعنى العبارة لا تخافوا من الاضطهاد في المستقبل بل اذكروا الزمان الذي مرّ فيه عليكم مثل ذلك وبقيتم ثابتين في إيمانكم فافعلوا الآن كما فعلتم سابقاً. وأما قوله مجاهدة الآلام فيفسره العدد التالي.
٣٣ «مِنْ جِهَةٍ مَشْهُورِينَ بِتَعْيِيرَاتٍ وَضِيقَاتٍ، وَمِنْ جِهَةٍ صَائِرِينَ شُرَكَاءَ ٱلَّذِينَ تُصُرِّفَ فِيهِمْ هٰكَذَا».
١كورنثوس ٤: ٩ وفيلبي ١: ٧ و٤: ١٤ و١تسالونيكي ٢: ١٤
مِنْ جِهَةٍ مَشْهُورِينَ بِتَعْيِيرَاتٍ وَضِيقَاتٍ أي ما أصابكم كان منه شيء أنكم شُهرتم للاحتقار وافتخار الأعداء لما احتملتم تعييرات وضيقات من المضادين للإنجيل. والكلمة اليونانية تفيد القصاص المشهر في الملاعب.
وَمِنْ جِهَةٍ أي مما أصابكم أيضاً.
صَائِرِينَ شُرَكَاءَ ٱلَّذِينَ تُصُرِّفَ فِيهِمْ هٰكَذَا أي شاركتم إخوانكم في الإيمان في المصائب التي احتملوها فيحتمل أن يكون المعنى أنكم حزنتم على أحزانهم وأصبتم في مصائبهم أو أن المصائب والتعييرات والضيقات المذكورة قبلاً حلت بكم أيضاً والأول هو الأفضل لأن ما احتملوه من الجهة الثانية كان غير ما احتملوه من الجهة الأولى.
٣٤ «لأَنَّكُمْ رَثَيْتُمْ لِقُيُودِي أَيْضاً، وَقَبِلْتُمْ سَلْبَ أَمْوَالِكُمْ بِفَرَحٍ، عَالِمِينَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَنَّ لَكُمْ مَالاً أَفْضَلَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَبَاقِياً».
تيطس ١: ٧ و٢تيموثاوس ١: ١٦ ومتّى ٥: ١٢ وأعمال ٥: ٤١ ويعقوب ١: ٢ ومتّى ٦: ٢٠ و١٩: ٢١ ولوقا ١٢: ٣٣ و١تيموثاوس ٦: ١٩
لأَنَّكُمْ رَثَيْتُمْ لِقُيُودِي أَيْضاً قراءة «قيودي» هنا ضعيفة والأصح بدون الضمير بمعنى المأسورين أو المقيدين أي كنتم شركاء الذين أصابهم ما أصابكم لأنكم رثيتم للمقيدين لأجل الحق فتكون هذه العبارة تفسيرية لما سبق في العدد الماضي.
وَقَبِلْتُمْ سَلْبَ أَمْوَالِكُمْ بِفَرَحٍ هذا كان من جملة الضيقات المذكورة في العدد السابق التي احتملوها والكاتب يقول أنهم قبلوا خسارة أموالهم بكل رضى.
عَالِمِينَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَنَّ لَكُمْ مَالاً أَفْضَلَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَبَاقِياً أي وسبب قبولكم تلك الخسارة برضى وفرح هو أنكم مقتنعين بأن لكم مالاً وثروة في السماوات أفضل وأبقى من أموالكم وثروتكم الأرضية فلم تسألوا عن هذه بل كان رجاؤكم وفرحكم في تلك. وتُرك في بعض النسخ القديمة الكلمتان «في السموات» فيكون المعنى أن لهم ما هو أفضل من المال وبلا تقييد في زمان ومكان. انظر قول يسوع (مرقس ١٠: ٣٠) «يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ ٱلآنَ فِي هٰذَا ٱلّزَمَانِ… وَفِي ٱلدَّهْرِ ٱلآتِي ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ» (مرقس ١٠: ٣٠).
٣٥ «فَلاَ تَطْرَحُوا ثِقَتَكُمُ ٱلَّتِي لَـهَا مُجَازَاةٌ عَظِيمَةٌ».
متّى ٥: ١٢ و١٠: ٣٢
فَلاَ تَطْرَحُوا ثِقَتَكُمُ أي رجاءكم بالمسيح ويقينكم بأن لكم ما هو أفضل وأبقى من المال في الزمان الحاضر وفي السماوات.
ٱلَّتِي لَـهَا مُجَازَاةٌ عَظِيمَةٌ أي للثقة فإن الله يطلب منا الإيمان والاتكال الدائم عليه ومن يفعل ذلك يجازيه الله. وهكذا من يخسر شيئاً لأجل المسيح في هذه الحياة فإنه ينال عوضاً عنه أضعاف كثيرة.
٣٦ «لأَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى ٱلصَّبْرِ، حَتَّى إِذَا صَنَعْتُمْ مَشِيئَةَ ٱللّٰهِ تَنَالُونَ ٱلْمَوْعِدَ».
لوقا ٢١: ١٩ وغلاطية ٦: ٩ وص ١٢: ١ وكولوسي ٣: ٢٤ وص ٩: ١٥ و١بطرس ١: ٩
لأَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى ٱلصَّبْرِ أي أنكم لا تستطيعون أن تحتملوا الضيقات في الإيمان عليكم بدون صبر لأنها كانت كثيرة وصعبة.
حَتَّى إِذَا صَنَعْتُمْ مَشِيئَةَ ٱللّٰه على الخصوص من جهة الثبات في الإيمان بالمسيح والإقرار به جهراً أمام الناس.
تَنَالُونَ ٱلْمَوْعِدَ أي الشيء الموعود به من الحياة الأبدية والمجازاة السماوية لا نفس الوعد لأن هذا كانوا قد نالوه قبل الرسالة بل هو دائماً نصيب المسيحي بالحق وأما الوصول إلى غاية المواعيد فذلك إنما يكون في السماء.
٣٧ «لأَنَّهُ بَعْدَ قَلِيلٍ جِدّاً سَيَأْتِي ٱلآتِي وَلاَ يُبْطِئُ».
إشعياء ٢٦: ٢١ ولوقا ١٨: ٨ و٢بطرس ٣: ٩ وحبقوق ٢: ٣ و٤
لأَنَّهُ بَعْدَ قَلِيلٍ جِدّاً سَيَأْتِي ٱلآتِي وَلاَ يُبْطِئُ ظاهر العبارة اقتباس من حبقوق النبي (ص ٢: ٣) غير أن المعنى في النبي المذكور يتجه إلى الضيقة المقبلة على اليهود من الكلدانيين والمعنى هنا يتجه إلى خراب أورشليم وتلاشي قوة اليهود حتى يتخلص المسيحيون من اضطهاداتهم فكان في ذلك ما يحرك العبرانيين للصبر في الشدة لأن زمانها كان ينتهي عند نهاية سلطة اليهود. وربما استخدم الكاتب كلام حبقوق لحالة شبيهة بالحالة التي كان يشير إليها النبي فلم يقصد تثبيت قرب زمان الخراب المقبل على اليهود بل مناسبة كلام النبي لحالة اليهود في زمان الكاتب.
٣٨ «أَمَّا ٱلْبَارُّ فَبِٱلإِيمَانِ يَحْيَا، وَإِنِ ٱرْتَدَّ لاَ تُسَرُّ بِهِ نَفْسِي».
رومية ١: ١٧ وغلاطية ٣: ١١
أَمَّا ٱلْبَارُّ فَبِٱلإِيمَانِ يَحْيَا، وَإِنِ ٱرْتَدَّ لاَ تُسَرُّ بِهِ نَفْسِي وهذه أيضاً بحسب الظاهر عبارة منقولة عن حبقوق (ص ٢: ٤) أما الجزء الأول منها وهو قوله «إن البار بالإيمان يحيا» فنقل حرفي وليس كذلك الجزء الأخير وهو قوله «وإن ارتد لا تسرّ به نفسي» لأنه لا يوجد في الأصل التي عبارته مقدمة على الجزء الأول في الاقتباس وهي قوله «هوذا منتفخة غير مستقيمة نفسه فيه». والظاهر أن الكاتب نقل المعنى المراد لا العبارة الحرفية وقد يحتمل أن قوله «وإن ارتد لا تسرّ به نفسي» منه بدون التفات لقول النبي. وخلاصة الأمر أن الكاتب يقول أن الإنسان بثباته في الإيمان يتبرر ويحيا فإذا أتته المقاومة وارتد بها لا يرضى الله عليه بل يتركه.
٣٩ «وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا مِنَ ٱلارْتِدَادِ لِلْهَلاَكِ، بَلْ مِنَ ٱلإِيمَانِ لاقْتِنَاءِ ٱلنَّفْسِ».
٢بطرس ٢: ٢٠ و٢١ وأعمال ١٦: ٣٠ و٣١ و١تسالونيكي ٥: ٩ و٢تسالونيكي ٢: ١٤
وَأَمَّا نَحْنُ المؤمنون الذين جمع الكاتب نفسه إليهم لتلطيف الخطاب.
فَلَسْنَا مِنَ ٱلارْتِدَادِ أي من الذين يرتدون عن الديانة لعدم ثباتهم.
لِلْهَلاَكِ فإنهم يهلكون.
بَلْ مِنَ ٱلإِيمَانِ أي من أصحاب الإيمان.
لاقْتِنَاءِ ٱلنَّفْسِ أي الخلاص فإنه نقيض الهلاك الذي هو نصيب المرتدين.
فوائد
- لم تكن الذبائح في العهد القديم كفارة عن الخطيئة بل رمزاً للكفارة الحقيقية التي قدمها المسيح بذبيحته على الصليب. ولم تكن تقدم لأجل مخالفة الشريعة الأدبية المضمّنة في الوصايا العشر بل لأجل مخالفة وصايا الشريعة الطقسية أو المدنية المبنية على التمييز بين الحلال والحرام أي الطاهر والنجس. فكانت النجاسات الشرعية دليلاً على النجاسة الأدبية التي التطخ بها جميع الجنس البشري وابتعادهم عن الله وسقوطهم تحت طائلة القصاص الشرعي وكانت ذبائح الحيوانات التي وُضعت لأجل التطهير الشرعي أو الطقسي دليلاً على ذبيحة المسيح التي وُضعت لأجل تطهير الإنسان من أدناس الخطيئة أي لأجل خلاصه من عقابها وتوبيخ الضمير وسلطان الإثم في النفس.
- اجتماع الجمهور للصلاة في المعابد المقامة لذلك من الأمور الجوهرية وحرمان الإنسان نفسه عن وسائط النمو والتقدم في القداسة. بل قد يؤدي ذلك إلى الارتداد عن الديانة وهلاك النفس.
- إن بيان الخطر العظيم الناشئ من ارتداد الإنسان عن الديانة هو من الوسائط الفعالة لتنبيه المسيحيين وابتعادهم عن كل ما يسوق الإنسان إليه. ولذلك كان من الواجب عليه أن يطلب من الله على الدوام نعمة الثبات التي وعد بها تعالى جميع الذين يطلبونها بالحق.
-
النفس موضوع الحياة والخلاص. والإيمان يخلصها لأنه يربطها بالله الحي ينبوع الحياة. والإنسان غير المؤمن يخسر نفسه لأنها لما لم تكن لله لم تكن له أيضاً فتعدم الحياة وتسقط تحت غضب الله وتحتمل جميع ما يؤدي إليه الابتعاد عنه تعالى.
السابق |
التالي |