الرسالة إلى العبرانيين | 09 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة إلى العبرانيين
للدكتور . وليم إدي
اَلأَصْحَاحُ ٱلتَّاسِعُ
كان أكثر كلام الكاتب في ما مضى يتعلق بفضل العهد الجديد على القديم من وجوه كثيرة. ثم أخذ في نهاية الأصحاح السابق يذكر نسبة جديدة بينهما وهي أن العهد القديم كان في الجملة شبهاً أو رمزاً للجديد. وهنا في هذا الأصحاح وفي الأصحاح العاشر يذكر بالتفصيل المقابلة الرمزية. وأما في هذا الأصحاح فمعظم كلامه هو على كون الهيكل الأرضي وخدمته (ع ١ – ١٥) العهد بجملته (ع ١٦ – ٢٨) رمزاً إلى المسيح وعهده الجديد. فإنه أولاً يصف الهيكل وأقسامه وآنيته (ع ١ – ٥) ثم يذكر أن الكهنة كانوا يخدمون كل يوم في القسم الذي كان يقال له القدس (ع ٦) وأما رئيس الكهنة فكان يدخل إلى المسكن الثاني الداخلي الذي كان يُسمى قدس الأقداس مرة واحدة في السنة لتقديم الذبيحة السنوية عن نفسه وعن الشعب (ع ٧). وكان هذا الدخول السنوي إلى قدس الأقدس دليلاً على أن الوصول إلى الله دائماً لم يكن يُعلن في العهد الجديد (ع ٩ و١٠) فكان ذلك رمزاً إلى المسيح الكاهن العظيم الذي دخل السماء بعينها بدم نفسه لتطهير الخطأة من خطاياهم تطهيراً تاماً حقيقياً (ع ١١ – ١٤). هذا هو القسم الأول من الأصحاح. وأما القسم الثاني فهو أنه أُثبت العهدان بسفك الدم للتطهير (ع ١٥ – ٢٢) وأن النسبة بين ذبائح العهد القديم وذبيحة الجديد هي نسبة الإشارة إلى المشار إليه أو المشبه إلى المشبه به أو الرمز إلى المرموز إليه (ع ٢٣ – ٢٨).
١ «ثُمَّ ٱلْعَهْدُ ٱلأَوَّلُ كَانَ لَهُ أَيْضاً فَرَائِضُ خِدْمَةٍ وَٱلْقُدْسُ ٱلْعَالَمِيُّ».
خروج ٢٥: ٨
وصف الكاتب في (ع ١ – ٥) ترتيب المكان الذي كانت تُقام فيه خدمة الله في زمن العهد القديم وضع الآنية التي كانت فيه. وهذا الترتيب كان واحداً في المسكن الذي نصبه موسى في البرية وفي الهيكل الذي بناه سليمان. وأما المراد بهذا الوصف فكان إظهار المقابلة الرمزية التي يأتيها بعد.
ثُمَّ ٱلْعَهْدُ ٱلأَوَّلُ قوله «ثم» أي ما عدا ما كان ذكره من جهة العهد الأول أتى هنا إلى ذكر شيء جديد. وقوله «العهد» ليس لها وجود في اليوناني بل هي مقدرة فيه كما يظهر من سياق الكلام وأظهروها في الترجمة العربية لإيضاح المعنى. والمراد بالعهد هنا الرتبة أي رتبة الديانة في العهد القديم الذي يسميه هنا «الأول» بالنظر إلى الرتبة الثانية وهي العهد الجديد.
كَانَ لَهُ أَيْضاً قوله «أيضاً» إظهار للمعنى المراد بقوله «ثم» وصيغة الماضي في كلمة «كان» لا تفيد أن الهيكل كان قد خرب وزالت رسومه قبل تأليف هذه الرسالة بل تشير إلى إقامة الفرائض أصلاً وقصد الله بها.
فَرَائِضُ خِدْمَةٍ الفرائض هنا تشير إلى ما كان الله قد رسمه.
وَٱلْقُدْسُ ٱلْعَالَمِيُّ المراد «بالقدس» ليس المكان المعلوم الذي كان يسمى بهذا الاسم في الهيكل الذي كان وراءه قدس الأقداس بل على الجملة المكان المقام لعبادة الله بدون تخصيص جزء منه فاستعمل الكاتب هنا الكلمة بالمعنى الأعم وسيأتي في الآية التابعة ذكرها بالمعنى الأخص. ومعنى قوله «العالمي» نسبة إلى هذا العالم لكي يتميز الهيكل الأرضي عن السماوي الواقعة المقابلة بينهما.
٢ «لأَنَّهُ نُصِبَ ٱلْمَسْكَنُ ٱلأَوَّلُ ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ «ٱلْقُدْسُ» ٱلَّذِي كَانَ فِيهِ ٱلْمَنَارَةُ، وَٱلْمَائِدَةُ، وَخُبْزُ ٱلتَّقْدِمَةِ».
خروج ٢٦: ١ وخروج ٢٥: ٢٣ و٣٠ و٣١ و٢٦: ٣٥ و٤٠: ٤ ولاويين ٢٤: ٥ و٦
لأَنَّهُ تعليلية لقوله في الآية السابقة أن العهد الأول كان له خدمة مربوطة بفرائض في هيكل أو معبد أرضي.
نُصِبَ ٱلْمَسْكَنُ سماه مسكناً وربما المراد أن خيمة الاجتماع أو الهيكل هو المكان الذي كان يظهر الله حضوره فيه إظهاراً خاصاً حتى كان يقال مجازاً أن الهيكل مسكن الله بين شعبه فيتيسر لها الوصول إليه تعالى.
ٱلأَوَّلُ وهو الذي كان يسمى بالقدس تمييزاً عن الثاني الذي كان يُسمى بقدس الأقداس ولأنه كان تجاه العابدين وأما الثاني فكان داخله أو وراءه. فكان ترتيب المسكن الذي أقامه موسى والهيكل الذي بناه سليمان على الوجه الآتي: كان اتجاه الهيكل إلى الشرق ومدخله من الغرب فكان فيه أولاً الدار لاجتماع الشعب للعبادة وشرقاً وهو جهة تولي وجوههم حجاب وراءه المكان الذي كان يقال له القدس وهو المشار إليه في هذه الآية بالمسكن الأول. ثم إلى شرقي هذا المسكن الأول كان الثاني وهو قدس الأقداس.
ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ ٱلْقُدْسُ أي المسكن الأول.
ٱلَّذِي كَانَ فِيهِ ٱلْمَنَارَةُ، وَٱلْمَائِدَةُ، وَخُبْزُ ٱلتَّقْدِمَةِ كانت المنارة موضوعة إلى شمال من يدخل وبما أنه كان متجهاً إلى الشرق كان إلى الشمال وكانت حاملة ستة سرج على الجانبين وواحداً في الوسط (خروج ٢٥: ٣١ – ٣٩) ولما كانت جميع خدمة الهيكل رمزية كان القصد من إيقاد هذه السرج في المسكن الذي أقامه موسى ليلاً (خروج ٢٧: ٢١) وفي الهيكل نهاراً وليلاً على ما قال يوسيفوس «الدلالة على أنه يجب على كنيسة الله أن تحمل صورته تعالى إذ تسلك في نور كلامه وتضيء بأثواب البر لتعليم الغير وبنيانهم» اه. وعلى هذا النوع من التشبيه قال السيد لتلاميذه «ليضيء نوركم قدام الناس» – وأما المائدة فكانت موضوعة من الجانب الآخر إلى الجنوب وكان عليها اثنتا عشرة ملة من الخبز مقسومة إلى قسمين بعضها فوق بعض كل منها ست. وكان يُسمى خبز التقدمة أو الوجوه لأنه كان موضوعاً أمام الله (خروج ٢٥: ٣٠). ويظهر أيضاً أنه كان على تلك المائدة كؤوس لسكب الخمر. وكان يتجدد ذلك كل يوم سبت وإذ كان الخبز مقدساً لم يحل أكله إلا للكهنة. وأما المعنى الروحي المراد بهذا الترتيب فهو أنه كان تقدمة دائمة لله من الشعب وإقراراً بأن جميع خيرات الحياة التي الخبز أخصها إنما تأتي من عنده تعالى وهو رمز إلى وجوب تقديم الشعب الأثمار الصالحة لله على الدوام. وكان بين المنارة والمائدة وإلى الوراء منهما إلى جهة الحجاب الفاصل القدس عن قدس الأقداس مذبح البخور والكاتب لم يذكره هنا إلى الآن إما أنه لم يتكلم بالتفصيل (ع ٥) أو لعلة أخرى لا نعلمها.
٣ «وَوَرَاءَ ٱلْحِجَابِ ٱلثَّانِي ٱلْمَسْكَنُ ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ: قُدْسُ ٱلأَقْدَاسِ».
خروج ٢٦: ٣١ و٣٣ و٤٠: ٣ و٢١ وص ٦: ١٩
وَوَرَاءَ ٱلْحِجَابِ ٱلثَّانِي الحجاب الأول كان يفصل المسكن الأول المسمى بالقدس أو المكان المقدس عن الدار التي كان يجتمع فيها الشعب لعبادة الله. وأما الحجاب الثاني المشار إليه هنا فكان فاصلاً للمسكن الثاني وهو قدس الأقداس عن الأول.
ٱلْمَسْكَنُ ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ قُدْسُ ٱلأَقْدَاسِ والمعنى المكان الأقدس لأنه هناك كان تابوت العهد المغطى بكروبين وما بينهما كانت سحابة نورانية تظهر دلالة على الحضور الإلهي بين شعبه وبالقرب منهم.
٤ « فِيهِ مِبْخَرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَتَابُوتُ ٱلْعَهْدِ مُغَشّىً مِنْ كُلِّ جِهَةٍ بِٱلذَّهَبِ، ٱلَّذِي فِيهِ قِسْطٌ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ ٱلْمَنُّ، وَعَصَا هَارُونَ ٱلَّتِي أَفْرَخَتْ، وَلَوْحَا ٱلْعَهْدِ».
خروج ٢٥: ١٠ و٢٦: ٣٣ و ٤٠: ٣ و٢١ وخروج ١٦: ٣٣ و٣٤ وعدد ١٧: ١٠ وخروج ٢٥: ١٦ و٢١ و٣٤: ٢٩ و٤٠: ٢٠ وتثنية ١٠: ٢ و٥ و١ملوك ٨: ٩ و٢١ و٢أيام ٥: ١٠
فِيهِ أي في هذا المسكن الداخلي وهو قدس الأقداس.
مِبْخَرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ كان يدخل بها رئيس الكهنة في العيد السنوي للتبخير.
وهذه المبخرة لم تُذكر في العهد القديم ومذبح البخور المذكور في ذلك العهد لم يُذكر هنا ولذلك ذهب بعضهم إلى أن المراد بالكلمة الأصلية هو مذبح البخور لا المبخرة. وأما قوله الكاتب أنه في قدس الأقداس فمعناه أن هذا المذبح كان بالحقيقية خاصاً بالمسكن الثاني ولو كان وضعه في الأول (لاويين ١٦: ١٢ – ١٤).
وَتَابُوتُ ٱلْعَهْدِ مُغَشّىً مِنْ كُلِّ جِهَةٍ بِٱلذَّهَبِ كان التابوت صندوقاً من خشب مغشى بصفائح من ذهب (خروج ١٥: ١ – ١٦) وسمي بتابوت العهد لأنه وُضع فيه لوحا العهد أي الوصايا كما مر في تفسير كلمة «عهد» (ص ٨: ٨). وكانا يسميان أيضاً لوحي الشهادة أو الأحكام (خروج ٣١: ١٨).
ٱلَّذِي نعت للتابوت لا للمسكن كما قال البعض على قراءة ضعيفة.
فِيهِ قِسْطٌ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ ٱلْمَنُّ وخبر ذلك في (خروج ١٦: ٣٢ – ٣٤) وإنما لم يذكر هناك أنه كان من ذهب لكن من المحقق أنه كان كذلك. «والقسط» وعاء حُفظ فيه المن الذي سقط على بني إسرائيل لما كانوا في البرية لكي يذكرهم بعناية الله بهم والمعجزات التي أجراها لإعالتهم وهم في أرض القحط.
وَعَصَا هَارُونَ ٱلَّتِي أَفْرَخَتْ خبر هذه العصا أنه لما اقتحم قورح وداثان وأبيرام الرتبة الكهنوتية وانشقت الأرض وابتلعتهم أمر الله موسى بأن يقيم لكل سبط عصا في تابوت العهد وفي الغد أخرجها فكانت علامة لبني إسرائيل أن الله اختار هارون وذريته للكهنوت (عدد ١٧: ١ – ١٠) وكان حفظها شهادة للكهنوت الشرعي في ذرية هارون. وقد ذُكر في (١ملوك ٨: ٩ و٢أيام ٥: ١٠) أنه لم يكن في التابوت إلا اللوحان فصار ذلك مشكلاً عند المفسرين وحلّه أن الكاتب يصف هنا المسكن الذي أقامه موسى قبل أن سلبه الفلسطينيون وقبل سلب هيكل سليمان ودثاره فإنه بعد هذه الحوادث فُقدت جميع الأواني إلا اللوحان.
وَلَوْحَا ٱلْعَهْدِ هما اللوحان اللذان كتب الله عليهما الوصايا العشر وكانا من حجر ووُضعا في تابوت العهد أو الشهادة الذي أخذ اسمه منها (خروج ٣١: ١٨).
٥ «وَفَوْقَهُ كَرُوبَا ٱلْمَجْدِ مُظَلِّلَيْنِ ٱلْغِطَاءَ. أَشْيَاءُ لَيْسَ لَنَا ٱلآنَ أَنْ نَتَكَلَّمَ عَنْهَا بِٱلتَّفْصِيلِ».
خروج ٢٥: ١٨ و٢٠ و٢٢ ولاويين ١٦: ٢ و١ملوك ٨: ٦ و٧
وَفَوْقَهُ أي فوق تابوت العهد.
كَرُوبَا ٱلْمَجْدِ وصف الكروبين في (خروج ٢٥: ١٨ – ٢٠ و١ملوك ٨: ٦ و٧). كانا صورة ملاكين الواحد مقابل الآخر موضوعين على غطاء التابوت وأجنحتهما منتشرة فكانا من الجهة السفلى مظللين لوحي الشهادة ومن الجهة العليا مجلساً للسحابة النورانية التي كانت تحل على الغطاء. وأما قوله «المجد» فيحتمل أن يكون من باب إضافة الموصوف إلى الصفة بمعنى الكروبين المجيدين وهذا كثير في العبرانية وكلام العهد الجديد في اليونانية. ويحتمل أن يعود المعنى إلى المجد الناتج عن السحابة النورانية وهو الأصح (خروج ٤٠: ٣٤).
مُظَلِّلَيْنِ ٱلْغِطَاءَ أي غطاء التابوت (خروج ٢٥: ١٧ و٢١). إن الكلمة العبرانية التي تفيد معنى «الغطاء» مشتقة من يكفّر أي كفّر عن الخطيئة فترجموا الغطاء في السبعينية بكلمة معناها الكفارة لأنه على هذا الغطاء كان يرش رئيس الكهنة من دم الذبيحة السنوية لتكفير الخطايا. وقد ترجموه إلى الانكليزية بقولهم مجلس الرحمة. والمراد أنه هناك أمام المحضر الإلهي كان يحصل التكفير عن الخطايا بواسطة النضح الدموية.
أَشْيَاءُ لَيْسَ لَنَا ٱلآنَ أَنْ نَتَكَلَّمَ عَنْهَا بِٱلتَّفْصِيلِ الأشياء المذكورة هنا تشير إلى أواني ذلك المقدس الذي لم يذكر الكاتب إلا بعضها استغناء عن الكل وليس على سبيل التفصيل فإن مراده أن يذكر المبدأ العام من جهة كون العهد القديم كان في خدمته الدينية رمزاً إلى ما حصل في الديانة المسيحية فيستغني بذكره للأهم فيها ولتكون دلالة على البقية.
٦ «ثُمَّ إِذْ صَارَتْ هٰذِهِ مُهَيَّأَةً هٰكَذَا، يَدْخُلُ ٱلْكَهَنَةُ إِلَى ٱلْمَسْكَنِ ٱلأَوَّلِ كُلَّ حِينٍ، صَانِعِينَ ٱلْخِدْمَةَ».
عدد ٢٨: ٣ ودانيال ٨: ١١ ولوقا ١: ٨ و٩
لما وصف الكاتب المسكنين وهما القدس وقدس الأقداس وأخص الموجودات التي كانت فيهما أتى هنا إلى ذكر الخدمة الكهنوتية التي كانت تقام فيهما وبعد ذلك إلى الرموز التي كانت هذه الخدمة تتضمنها.
ثُمَّ إِذْ صَارَتْ هٰذِهِ أي المسكنان المذكوران وما يتعلق بهما.
مُهَيَّأَةً هٰكَذَا أي على الوصف المذكور آنفاً.
يَدْخُلُ ٱلْكَهَنَةُ إِلَى ٱلْمَسْكَنِ ٱلأَوَّلِ وهو القدس.
كُلَّ حِينٍ أي ليس مرة واحدة في السنة كما كان الأمر في الخدمة التي كانت تُقام في قدس الأقداس بل على الدوام.
صَانِعِينَ ٱلْخِدْمَةَ اليومية والأسبوعية فكانت خدمتهم اليومية إصلاح السرج صباحاً وإشعالها مساء وتقديم البخور على مذبحه وأما الخدمة الأسبوعية فكانت قائمة بوضع الخبز على المائدة. هذا وأن استعمال الفعل بصيغة الحاضر لا يستلزم ضرورة أن الهيكل كان لا يزال قائماً لما كُتبت هذه الرسالة غير أن ذلك من المحتمل والمرجّح أن الكلام هو على سبيل التخيل فإن خيمة الاجتماع وكل أوانيها وخدمتها كانت قائمة بتصور المتكلم والسامعين وكانت حاضرة في أخيلتهم.
٧ «وَأَمَّا إِلَى ٱلثَّانِي فَرَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ فَقَطْ مَرَّةً فِي ٱلسَّنَةِ، لَيْسَ بِلاَ دَمٍ يُقَدِّمُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ جَهَالاَتِ ٱلشَّعْبِ».
خروج ٣٠: ١٠ ولاويين ١٦: ٢ و١١ و١٢ و١٥ و٣٤ وع ٢٥ وص ٥: ٢ و٧: ٢٧
وَأَمَّا إِلَى ٱلثَّانِي أي المسكن الثاني وهو قدس الأقداس.
فَرَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ فَقَطْ أي لم يكن يجوز لأحد الدخول إليه للخدمة الكهنوتية سوى رئيس الكهنة.
مَرَّةً فِي ٱلسَّنَةِ وهي في اليوم العاشر من الشهر السابع من السنة وكان ذلك عيداً سنوياً من الأعياد الثلاثة المشهورة عند اليهود واسمه يوم التفكير (لاويين ١٦: ٢٩).
لَيْسَ بِلاَ دَمٍ يُقَدِّمُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ جَهَالاَتِ ٱلشَّعْبِ كان يقدم ثوراً عن نفسه وتيساً عن الشعب وينضح من دمهما على الغطاء وأمامه مما يلي الشرق (لاويين ص ١٦) وأما التعليم الرمزي الذي كان يتضمنه ذلك فواضح كما سيأتي في الآيات الآتية.
٨ «مُعْلِناً ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ بِهٰذَا أَنَّ طَرِيقَ ٱلأَقْدَاسِ لَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ، مَا دَامَ ٱلْمَسْكَنُ ٱلأَوَّلُ لَهُ إِقَامَةٌ».
يوحنا ١٤: ٦ وص ١٠: ١٩ و٢٠
مُعْلِناً ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ بِهٰذَا أي أن الروح القدس الذي علم موسى ترتيب المسكن وقصد به أن يكون رمزاً وإشارة لما يعلم به العهد الجديد من جهة الأول لم يدخله إلا الكهنة والثاني رئيس الكهنة فقط إن الشعب لم يمكنهم الوصول إلى الله وأنهم كانوا باقين في حال القداسة النسبية فقط لا المطلقة فكانوا لا يزالون في دار الهيكل فقط لا في محضر الله.
أَنَّ طَرِيقَ ٱلأَقْدَاسِ الحقيقي أو السماوي.
لَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ، مَا دَامَ ٱلْمَسْكَنُ ٱلأَوَّلُ لَهُ إِقَامَةٌ أي ما دامت الرتبة الأولى موجودة لم يكن معلوماً عند الناس الطريق الوحيد إلى السماء بواسطة يسوع المسيح.
٩ «ٱلَّذِي هُوَ رَمْزٌ لِلْوَقْتِ ٱلْحَاضِرِ، ٱلَّذِي فِيهِ تُقَدَّمُ قَرَابِينُ وَذَبَائِحُ لاَ يُمْكِنُ مِنْ جِهَةِ ٱلضَّمِيرِ أَنْ تُكَمِّلَ ٱلَّذِي يَخْدِمُ».
غلاطية ٣: ٢١ وص ٧: ١٨ و١٩ و١٠: ١ و ١١
ٱلَّذِي أي المسكن الأول والمراد به هنا ليس مجرد مكان العبادة بل الرتبة القديمة على الجملة.
هُوَ رَمْزٌ لِلْوَقْتِ ٱلْحَاضِرِ الوقت الحاضر ممتاز عن وقت الإصلاح أي الرتبة القديمة كانت وقتية رمزية ولم تفتح للناس طريق الأقداس الحقيقي السماوي. ولما قال الكاتب «للوقت الحاضر» جعل نفسه والسامعين في زمان العهد القديم وذلك لأجل البحث.
ٱلَّذِي فِيهِ تُقَدَّمُ قَرَابِينُ وَذَبَائِحُ الاسم الموصول نعت «للمسكن الأول» أو رتبة العهد القديم والمعنى الذي كانت تقدم في زمانه قرابين وذبائح بحسب الشريعة المنزلة على يد موسى. بعض المحققين يفضلون ترجمة الأصل لا «بالذي فيه» على الترجمة العربية بل الذي بمقتضاه أي بمقتضى الرمز المذكور في صدر العبارة فيكون المعنى أنه بحسب ذلك الرمز كانت تقدم ذبائح وقرابين.
لاَ يُمْكِنُ مِنْ جِهَةِ ٱلضَّمِيرِ أَنْ تُكَمِّلَ ٱلَّذِي يَخْدِمُ المراد أن تلك القرابين والذبائح لم يمكنها أن تعطي اطمئناناً كاملاً لضمير الخاطئ من جهة مغفرة خطاياه ولو قدّم الخدمة اللازمة من الذبائح وغيرها. ومعنى «التكميل» هنا إزالة كل اضطراب من ضمير الخاطئ. وقوله «يخدم» أي الذي يعبد الله على الطريقة الموسوية. ومعنى جميع العبارة أن الرتبة اليهودية بجمتلها إنما كانت رمزاً إلى الرتبة المسيحية وأنها لم تكن كافية بالذات لمنح الخاطئ الاطمئنان من جهة نيله المغفرة من الله.
١٠ «وَهِيَ قَائِمَةٌ بِأَطْعِمَةٍ وَأَشْرِبَةٍ وَغَسَلاَتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَفَرَائِضَ جَسَدِيَّةٍ فَقَطْ، مَوْضُوعَةٍ إِلَى وَقْتِ ٱلإِصْلاَحِ».
لاويين ١١: ٢ وكولوسي ٢: ١٦ وعدد ١٩: ٧ الخ وأفسس ٢: ١٥ وكولوسي ٢: ٢٠ وص ٧: ١٦
وَهِيَ قَائِمَةٌ بِأَطْعِمَةٍ وَأَشْرِبَةٍ الأطمعة والأشربة المشار إليها هي ما كانت الشريعة القديمة تحلله أو تحرمه من المآكل والمشارب (كولوسي ٢: ١٦ ولاويين ١١: ٣٤).
وَغَسَلاَتٍ مُخْتَلِفَةٍ كانت تتعلق بطهارة الجسد الخارجة من أنواع الغسل في ما كان يُعد نجساً شرعاً (خروج ٢٩: ٤ ولاويين ١١: ٢٥ و٢٨ و٣٢ و٤٠).
وَفَرَائِضَ جَسَدِيَّةٍ أي فرائض خارجية تتعلق باللباس وأحوال أُخر كثيرة كإطلاق اللحية وغيرها.
فَقَطْ أي أن الشريعة الطقسية لأجل التطهير كانت قائمة كلها بهذه الأمور التي ذكرها.
مَوْضُوعَةٍ إِلَى وَقْتِ ٱلإِصْلاَحِ أي إلى العهد الجديد الذي كان قد أشار إليه أو الزمان الإنجيلي الذي فيه انتهت تلك الترتيبات وسمي «وقت الإصلاح» لأن فيه أُظهرت الديانة على حقيقتها الروحية التي كانت الرتبة القديمة الطقسية رمزاً وإشارة إليها.
١١ «وَأَمَّا ٱلْمَسِيحُ، وَهُوَ قَدْ جَاءَ رَئِيسَ كَهَنَةٍ لِلْخَيْرَاتِ ٱلْعَتِيدَةِ، فَبِٱلْمَسْكَنِ ٱلأَعْظَمِ وَٱلأَكْمَلِ، غَيْرِ ٱلْمَصْنُوعِ بِيَدٍ، أَيِ ٱلَّذِي لَيْسَ مِنْ هٰذِهِ ٱلْخَلِيقَةِ».
ص ٣: ١ وص ١٠: ١ وص ٨: ٢
وَأَمَّا كلمة تدل على المقابلة المشار إليها.
ٱلْمَسِيحُ مبتدأ وخبره في العدد التابع وما بين المتبدإ والخبر كلام معترض.
وَهُوَ قَدْ جَاءَ رَئِيسَ كَهَنَةٍ لِلْخَيْرَاتِ ٱلْعَتِيدَةِ المقابلة هنا بين رئاسة الكهنوت في العهد القديم ورئاسة كهنوت المسيح وبين الخيرات الزمنية التي كانوا ينالونها في ذلك العهد والخيرات الروحية التي سماها هنا «العتيدة» باعتبار تلك التي كانت تشير إليها والتي ينالها المسيحيون في العهد الجديد بواسطة رئاسة كهنوت المسيح.
فَبِٱلْمَسْكَنِ ٱلأَعْظَمِ وَٱلأَكْمَلِ، غَيْرِ ٱلْمَصْنُوعِ بِيَدٍ، أَيِ ٱلَّذِي لَيْسَ مِنْ هٰذِهِ ٱلْخَلِيقَةِ قوله «فبالمسكن» متعلق «بدخل» في الآية التالية والباء على الأصح ظرفية والمعنى أنه لما كان رئيس الكهنة في العهد القديم ملتزماً أن يدخل أولاً إلى المسكن الأول وهو القدس لكي يستطيع الوصول إلى الثاني وهو قدس الأقداس دخل المسيح أيضاً إلى مسكن أول قبل دخوله إلى محضر الله السماوي المشار إليه في قوله «دخل إلى الأقداس» في الآية التابعة غير أنه لما كان هذا المكان الأقدس سماوياً لا أرضياً كان المسكن الأول أيضاً كذلك وإلى هذا الإشارة في قوله «الأعظم والأكمل غير المصنوع بيد» أي ليس بهذا المسكن الأول الذي مرّ به المسيح ليدخل إلى قدس الأقداس السماوي فقال البعض هو السماء الهيولية التي يمر بها قبل الوصول إلى السماء غير المنظورة الحقيقية (ص ٤: ١٤). وقال آخرون وربما كان هذا الأصح أنها عبارة مجازية لا يُراد بها أكثر من تتمة المقابلة الرمزية بين دخول رئيس الكهنة اللاوي إلى المكان الأقدس في الهيكل الأرضي ودخول المسيح إلى محضر الله السماوي المرموز إليه بالهيكل الأرضي.
١٢ «وَلَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُولٍ، بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى ٱلأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيّاً».
ص ١٠: ٤ وأعمال ٢٠: ٢٨ وأفسس ١: ٧ وكولوسي ١: ١٤ و١بطرس ١: ١٩ ورؤيا ١: ٥ و٥: ٩ وزكريا ٣: ٩ وع ٢٦ و٢٨ وص ١٠: ١٠ ودانيال ٩: ٢٤
وَلَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُولٍ، بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ تقدم أن رئيس الكهنة كان يدخل إلى قدس الأقداس مرة في السنة لينضح دم ذبيحتين الواحدة ثور عن نفسه والأخرى تيس عن الشعب وهنا قال الكاتب إن المسيح لم يقدم ذبيحة من هذا النوع بل قدم حياته عن خطايا الناس. وأما قوله «دم نفسه» فمعناه أن الدم مستعار للحياة والموت لأنه لما كان على رأي الجمهور مجلس الحياة كان سفكه استعارة للموت فالمراد إذاً أن المسيح بموته قدم ذبيحة عن خطايا العالم ودخل السماء ليقدم تلك الذبيحة أمام الله لأجل فداء الناس.
دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى ٱلأَقْدَاسِ السماوي وهذا الدخول لم يكن سنوياً كما كان دخول رئيس الكهنة في العهد القديم بل كان مرة واحدة.
فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيّاً أي بدخوله السماء على هذه الحال حصل للناس فداء أبدياً فكان الفداء متوقفاً على موت المسيح الذي قام مقام موت البشر قصاصاً لخطاياهم. ومن النظر إلى هذا القول نرى أربع قضايا وقعت المقابلة فيها:
- الأول: إنه كان دخول رئيس الكهنة بدم تيوس وعجول وأما دخول المسيح فبدم نفسه.
- الثاني: إنه كان دخول رئيس الكهنة مرة في كل سنة وأما المسيح فدخل مرة واحدة فقط فلا تتكرر ذبيحته ولا تُعاد.
- الثالث: إنه كان دخول رئيس الكهنة إلى الأقداس الأرضي ودخول المسيح إلى الأقداس السماوي.
- الرابع: إنه كان دخول رئيس الكهنة ليحصل فداء سنوياً وأما الفداء الذي حصّله المسيح للمؤمنين فأبدي. هذا وقوله «فداء» ترجمة كلمة يونانية معناها الأول فداء العبد الرقيق بالمال وعتقه من سلطان سيده فيكون المراد بالفداء الذي فعله المسيح تقدمة موته وفاء لخطايا الناس وعتقهم من سلطان الخطيئة والحكم بعقابها. وسُمي هذا الفداء «أبدياً» إما لأن نتائجه أبدية أو لأنه خلاص من عقاب أبدي وإدخال إلى سعادة أبدية.
١٣ «لأَنَّهُ إِنْ كَانَ دَمُ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ وَرَمَادُ عِجْلَةٍ مَرْشُوشٌ عَلَى ٱلْمُنَجَّسِينَ يُقَدِّسُ إِلَى طَهَارَةِ ٱلْجَسَدِ».
لاويين ١٦: ١٤ و١٦ وعدد ١٩: ٢ و١٧ الخ
لأَنَّهُ إِنْ كَانَ دَمُ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ وَرَمَادُ عِجْلَةٍ قد سبق الكلام في الآية التي قبل هذه على التطهير بدم الثور والتيس السنويين – وأما رماد العجلة فخبرها في سفر العدد (ص ١٩: ٢ – ٩) وهو أنها كانت تُحرق عجلة حمراء ويُحفظ رمادها لأجل الذين كانوا يتنجسون بملامسة أجساد الموتى فكانوا يتطهرون برش الماء المحلول فيه من ذلك الرماد.
مَرْشُوشٌ عَلَى ٱلْمُنَجَّسِينَ وصف الرماد لا للدم كما يظهر من مراجعة القول في التوراة فإن الذي كان يُرش لا الدم ولكن الرماد المحلول بالماء – النجاسة المذكورة هنا هي النجاسة الشرعية من جهة ملامسة الموتى وغير ذلك.
يُقَدِّسُ إِلَى طَهَارَةِ ٱلْجَسَدِ كما أن النجاسة كانت جسدية خارجية لا قلبية هكذا كان التطهير فالأمران متعلقان بطقوس شريعة يُنظر فيها إلى نجاسة الجسد التي كانت تمنع العبادة لله مدة وجودها والطهارة التي كانت تمكن الإنسان من أن يشترك في عبادة الساجدين.
١٤ «فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلّٰهِ بِلاَ عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَةٍ لِتَخْدِمُوا ٱللّٰهَ ٱلْحَيَّ!».
١بطرس ١: ١٩ و١يوحنا ١: ٧ ورؤيا ١: ٥ ورومية ١: ٤ و١بطرس ٣: ١٨ وأفسس ٥: ٢ وتيطس ٢: ١٤ وص ٧: ٢٧ وص ١: ٣ و١٠: ٢٢ وص ٦: ١ ولوقا ١: ٧٥ ورومية ٦: ١٣ و٢٢ و١بطرس ٤: ٢
فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ الفاء هنا داخلة على جواب الشرط وهو جميع الجملة السابقة.
يَكُونُ دَمُ ٱلْمَسِيحِ ذبيحته التي كانت تشير إليها ذبائح العهد القديم ورماد العجلة الحمراء.
ٱلَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلّٰهِ بِلاَ عَيْبٍ كما أن الذبيحة التي كانت تُقدم كان يُشترط فيها أن تكون سليمة من كل عيب. كان المسيح بلا عيب أدبي أي أنه كان قدوساً طاهراً بلا خطيئة. قد اختلفوا على المعنى المراد بقوله «بروح أزلي» فقال بعضهم أن المراد بهذا الروح الأزلي هو الروح القدس أو روح القداسة الذي جعل المسيح خالياً من كل عيب وبريئاً من كل خطإ. وقال آخرون أنه قدم نفسه في السماء بحالة روحانيته الأزلية لا بذبيحة جسدية فإن هذه قدمها على الأرض وأما دخوله إلى السماء فلم يكن بدم حقيقي بل بالحالة الروحية وهذا الأصح والاعتبار الخاص حسب ترتيب الكلمات في الأصل لقوله «نفسه» أي قدم نفسه من تلقاء ذاته لا بإجبار أو غير معرفة كما كانت تقدم الذبائح في العهد القديم (يوحنا ١٠: ١٨).
يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ أي يخلصكم من تبكيت الضمير أو يعطيكم راحة الضمير من جهة مغفرة خطاياكم.
مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَةٍ أي الخطايا التي من شأنها أن تؤدي إلى الموت أو الأعمال الأثيمة التي تنجس من يرتكبها فإنه كما أن الرجل الذي كان يمس ميتاً في العهد القديم كان يتنجس بذات الفعل ولا يتطهر إلا برش رماد العجلة الحمراء عليه هكذا الخطيئة تنجس الإنسان فلا يتطهر إلا برشاش دم المسيح.
لِتَخْدِمُوا ٱللّٰهَ ٱلْحَيَّ! أي كما أن المتنجس في العهد القديم لم يستطع أن يدخل الهيكل ويعبد الله إلى أن يكون قد طهر من نجاسته بواسطة رماد العجلة هكذا يتطهر الإنسان بدم المسيح ويصير أهلاً ليخدم الله ويعبده ويدخل أخيراً إلى محضره السماوي.
١٥ «وَلأَجْلِ هٰذَا هُوَ وَسِيطُ عَهْدٍ جَدِيدٍ، لِكَيْ يَكُونَ ٱلْمَدْعُوُّونَ إِذْ صَارَ مَوْتٌ لِفِدَاءِ ٱلتَّعَدِّيَاتِ ٱلَّتِي فِي ٱلْعَهْدِ ٱلأَوَّلِ يَنَالُونَ وَعْدَ ٱلْمِيرَاثِ ٱلأَبَدِيِّ».
١تيموثاوس ٢: ٥ وص ٧: ٢٢ و٨: ٦ و١٢: ٢٤ وص ٣: ١ ورومية ٣: ٢٥ و٥: ٦ و١بطرس ٣: ١٨
ذكر الكاتب في الأصحاح الثامن أن الله وعد بأن يعقد مع شعبه عهداً جديداً يبطل القديم وأن الخدمة الكهنوتية كانت في العهد القديم بجملته كان رمزاً للجديد. ثم في بداءة هذا الأصحاح ذكر على الجملة تركيب المسكن الأول وخدمته وكون ذلك رمزاً للمسكن السماوي وخدمته السماوية. والآن في هذه الأعداد التي لا ينتهي معناها إلا في (ع ٢٢) يبرهن أنه بموت المسيح قد تثبت العهد الجديد.
وَلأَجْلِ هٰذَا أي لسبب ما ذُكر سابقاً وهو أن المسيح لم يدخل إلى مقدس أرضي بل سماوي ولم يقدم دم تيوس وعجول بل دم نفسه ولم يحصل للمؤمنين تطهيراً شرعياً خارجياً بل تطهيراً حقيقياً أبدياً يخلص من عقاب الخطيئة وسلطانها.
هُوَ وَسِيطُ عَهْدٍ جَدِيدٍ أفضل من القديم كما أن جميع متعلقاته أفضل من تلك التي كانت تتعلق بالقديم. والمراد بقوله «وسيط» من يدخل في أمر بين اثنين ليقضيه.
لِكَيْ يَكُونَ ٱلْمَدْعُوُّونَ هم المختارون من الله بقصده الأزلي للحياة الأبدية والمراد بهم هنا شعب الله في العهد القديم كما سيأتي.
إِذْ صَارَ مَوْتٌ هو موت المسيح.
لِفِدَاءِ ٱلتَّعَدِّيَاتِ أي كفارة عن خطايا جميع الأجيال ومن جملتها التعديات.
ٱلَّتِي فِي ٱلْعَهْدِ ٱلأَوَّلِ أي التي ارتكبت في العهد القديم.
يَنَالُونَ وَعْدَ ٱلْمِيرَاثِ ٱلأَبَدِيِّ خبر «يكون» التي اسمها «المدعوون» ومعنى جميع العبارة أنه بناء على فضل توسط المسيح في العهد الجديد الذي كان القديم بكهنته وخدمته وكليته رمزاً له قد حصل كفارة حقيقية قادرة على تطهير حقيقي ليس لأهل الزمان الذي بعد موت المسيح فقط ولكن لأهل الزمان القديم أيضاً فصار للمدعوين الذين كانوا قبل زمان المسيح والذين بعده وعد كريم بالميراث الأبدي في السماء بناء على ذبيحة العهد الجديد القائمة بموت المسيح. وهذا التفسير ثابت من قول الرسول في رومية (ص ٣: ٢٥) «ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ كَفَّارَةً بِٱلإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ ٱلصَّفْحِ عَنِ ٱلْخَطَايَا ٱلسَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ ٱللّٰهِ». وعلى ذلك كان التطهير الذي يحصل عليه بنو إسرائيل بواسطة رتبة عهدهم رمزياً للتطهير الحقيقي الذي تم بواسطة المسيح في العهد الجديد.
١٦ «لأَنَّهُ حَيْثُ تُوجَدُ وَصِيَّةٌ يَلْزَمُ بَيَانُ مَوْتِ ٱلْمُوصِي».
لأَنَّهُ حَيْثُ تُوجَدُ وَصِيَّةٌ يَلْزَمُ بَيَانُ مَوْتِ ٱلْمُوصِي لا يوجد هنا إشكال في المعنى بحسب الظاهر فإنه لما ذكر الكاتب في العدد السابق بناء العهد الجديد على موت المسيح فداء عن الناس قال هنا أن ذلك لا بد منه فإن الوصية تفرض موت الموصي بحيث لا يُعمل بها إلا عند بيان موت واضعها فلزم من ذلك موت المسيح لتصح وصيته بالميراث الأبدي لشعبه وبنيه – غير أنه يوجد في هذا الكلام ما ظاهره ضعف في الحجة فإنه قد يُرد على الكاتب أن الكلام في العهد لا في الوصية فإن لزم موت الموصي لأجل العمل شرعاً بالوصية لا يلزم من ذلك موت واضع العهد فلا يكون مناسبة في كلام الكاتب للموضوع الذي يتكلم فيه. هذا وأنه قد انتقل من معنى الكلمة على ما استعملها به في ما مضى إلى معنى جديد لا يحتمله الأصل العبراني ولو احتمله اليوناني وبناء على ذلك ذهب بعض المفسرين إلى أنه يجب ترجمة الكلمة اليونانية بعهد لا وصية ولكننا لا نرى في ذلك معنى لقوله موت المعاهد على قول من يقول بهذا المعنى. فالأصح أن تؤخذ الكلمة مع جمهور الشراح بمعنى وصية وأن تتفسر العبارة بمقتضاها ويُحمل الكلام على معنى القياس التشبيهي لا المنطقي ويظهر المعنى إذا قدرنا «كما» بعد قوله «لأنه» في بداءة العدد فتكون تتمة العبارة في قوله «فمن ثم» في (ع ١٨) أي لأنه كما يلزم الموصي لأجل إجراء الوصية هكذا كان الموت في إثبات العهد الجديد.
١٧ «لأَنَّ ٱلْوَصِيَّةَ ثَابِتَةٌ عَلَى ٱلْمَوْتٰى، إِذْ لاَ قُوَّةَ لَـهَا ٱلْبَتَّةَ مَا دَامَ ٱلْمُوصِي حَيّاً».
غلاطية ٣: ١٥
لأَنَّ ٱلْوَصِيَّةَ ثَابِتَةٌ عَلَى ٱلْمَوْتٰى الكلمة المترجمة بقوله «على» تحتمل معنى بعد وعلى ذلك قد ترجمها البعض لموافقة المعنى المراد وهو أن الوصية يُعمل بها بعد موت الموصي.
إِذْ لاَ قُوَّةَ لَـهَا ٱلْبَتَّةَ مَا دَامَ ٱلْمُوصِي حَيّاً تعليل للجزء الأول من العدد وهو قوله «الوصية ثابتة على الموتى فقط». والمراد أنه كما أن الوصية لا تثبت إلا بعد موت الموصي لأنها كُتبت لكي يُعمل بها بعد موته فقط على أن له الخيار في تغييرها مدة حياته هكذا العهد الجديد فإنه كوصية يُعمل بها بموت من حصّل الميراث الأبدي لشعبه أي المسيح. وعلى ذلك يكون القياس تشبيهاً للإيضاح لا البرهان. وهكذا كان الأمر في العهد القديم كما يبين الكاتب في العدد التابع.
١٨ «فَمِنْ ثَمَّ ٱلأَوَّلُ أَيْضاً لَمْ يُكَرَّسْ بِلاَ دَمٍ».
خروج ٢٤: ٦ الخ
فَمِنْ ثَمَّ أي بناء على ما ذُكر في الأعداد السابقة من تشبيه العهد بالوصية.
ٱلأَوَّلُ أَيْضاً أي العهد الأول وهو القديم كالثاني أي الجديد.
لَمْ يُكَرَّسْ بِلاَ دَمٍ لما كان الحرفان السلبيان يقومان مقام الإيجاب كان المعنى هنا أن العهد القديم تكرّس بدم. «التكريس» هو الإفراز لقصد معين وقد يغلب استعماله في الأمور الدينية كتكريس الكنائس لخدمة الله والخبز والخمر في العشاء السري والأساقفة لخدمة المسيح وإنجيله وهنا المعنى أن العهد القديم عُقد وأُقيم لأجل فائدة الناس مبنياً على خدمة الذبائح التي كان معناها سفك دم الحيوانات تكفيراً عن الخطايا. وكان المقصود بها للدلالة على ذبيحة العهد الجديد. ولا يخفى أن الكلام هنا جميعه مجازي إذ المراد أن الطريقة التي أقامها الله لأجل خلاص الناس هي موت المسيح العوضي عن القصاص الذي توجبه الشريعة على الخطاة وأما ترتيب العهد القديم فكان رمزياً لهذا العمل العظيم الذي تم في العهد الجديد.
١٩ «لأَنَّ مُوسَى بَعْدَمَا كَلَّمَ جَمِيعَ ٱلشَّعْبِ بِكُلِّ وَصِيَّةٍ بِحَسَبِ ٱلنَّامُوسِ، أَخَذَ دَمَ ٱلْعُجُولِ وَٱلتُّيُوسِ، مَعَ مَاءٍ وَصُوفاً قِرْمِزِيّاً وَزُوفَا، وَرَشَّ ٱلْكِتَابَ نَفْسَهُ وَجَمِيعَ ٱلشَّعْبِ».
خروج ٢٤: ٥ و٦ و٨ ولاويين ١٦: ١٤ و١٥ و١٨ ولاويين ١٤: ٤ و٦ و٧ و٤٩ و٥١ و٥٢
لأَنَّ تعليل لقوله في العدد السابق أن العهد القديم تكرس بدم أي كان مبنياً على ذبائح دموية.
مُوسَى بَعْدَمَا كَلَّمَ جَمِيعَ ٱلشَّعْبِ بِكُلِّ وَصِيَّةٍ الوصايا المشار إليها مذكورة بالتفصيل في (خروج ص ٢٠ – ٢٣) فتلاها موسى على الشعب أولاً شفاهاً ثم كتبها ثم قرأها وأعادها على بني إسرائيل وإلى ذلك الإشارة في قوله –
بِحَسَبِ ٱلنَّامُوسِ أي بعدما قرأها من الكتاب الذي كتبها فيه وسماه سفر العهد (خروج ٢٤: ٧). غير أن الكلمة المترجمة هنا «الناموس» قد يكون المراد بها أمر من الله لموسى بأن يتلو الوصايا على الشعب.
أَخَذَ دَمَ ٱلْعُجُولِ وَٱلتُّيُوسِ، مَعَ مَاءٍ وَصُوفاً قِرْمِزِيّاً وَزُوفَا لم يُذكر من ذلك الخبر (خروج ٢٤) إلا دم العجول ولكن سياق الكلام يتضمن ما ذكره الكاتب هنا ولا سيما إذا قُرئ الخبر المذكور بالمقابلة مع غيره من التوراة فيظهر أن الذبائح التي قدموها وقتئذ كانت عجولاً وتيوساً لأن المحرقات المذكورة (خروج ٢٤: ٥) وأما الماء والصوف القرمزي والزوفا فكان يُستعمل في الرش (لاويين ١٤: ٥١) على شكل أنه كان يؤخذ غصن من الزوفا ويُعلق عليه من الصوف القرمزي ثم يُغمس بالماء والدم ويرش بهما.
وَرَشَّ ٱلْكِتَابَ نَفْسَهُ وَجَمِيعَ ٱلشَّعْبِ لم يُذكر في خبر التوراة رش الكتاب وإنما ذُكر رش الشعب ولكن لا يستلزمك ذلك عدم رش الكتاب الذي قرأ منه موسى في إنه معلوم أن الرش كان جزءا معتبراً في كل خدمة العهد القديم. وقوله «جميع الشعب» لا يُراد به إلا تسمية البعض باسم الكل وهو مجاز كثير الاستعمال منه قوله «خرج كل أهل اليهودية وأورشليم ليعتمدوا من يوحنا» (متّى ٣: ٥) وهو محال فلا حجة صحيحة إذا لقول من يعترض كيف رش موسى ثلاثة ملايين من الناس.
٢٠ «قَائِلاً: هٰذَا هُوَ دَمُ ٱلْعَهْدِ ٱلَّذِي أَوْصَاكُمُ ٱللّٰهُ بِهِ».
خروج ٢٤: ٨ ومتّى ٢٦: ٢٨
قَائِلاً: هٰذَا هُوَ دَمُ ٱلْعَهْدِ ٱلَّذِي أَوْصَاكُمُ ٱللّٰهُ بِهِ هكذا الترجمة السبعينية كما اقتبسها الكاتب ثم ترجمها المترجمون إلى العربية. وفي الأصل العبراني «هوذا دم العهد الذي عقده الرب معكم» والمراد أن الدم الذي رشه موسى على الشعب كان لتثبيت العهد الذي عقده الله معهم وهم قبلوه إذ قالوا «كُلُّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ ٱلرَّبُّ نَفْعَلُ وَنَسْمَعُ لَهُ» (خروج ٢٤: ٧) فكان هذا العمل من حيث هو من الله للدلالة على تطهيره تعالى إياهم ومن حيث هو عملهم للدلالة على معاهدتهم بأن يحفظوا وصايا الله. وعلى هذا النمط كان القدماء يتعاهدون فإنهم كانوا يقطعون حيواناً إلى نصفين ويجتازون بين القطعتين لأجل الإشهاد على أنفسهم بأنهم يحفظون شروط المعاهدة ومن ذلك جاءت العبارة «قطع عهداً».
٢١ «وَٱلْمَسْكَنَ أَيْضاً وَجَمِيعَ آنِيَةِ ٱلْخِدْمَةِ رَشَّهَا كَذٰلِكَ بِٱلدَّمِ».
خروج ٢٩: ١٢ و٣٦ ولاويين ٨: ١٥ و١٩ و١٦: ١٤ إلى ١٩
وَٱلْمَسْكَنَ أَيْضاً وَجَمِيعَ آنِيَةِ ٱلْخِدْمَةِ رَشَّهَا كَذٰلِكَ بِٱلدَّمِ في الخبر الذي ورد من جهة نصب المسكن وتكريسه (خروج ص ٤٠) لم يذكر إلا مسحها بالزيت. غير أن هذا لا يستلزم عدم رشها بالدم لأننا نرى في خروج (ص ٢٩: ٢٠ و٢١) إن هارون مُسح بالدم والزيت وكذلك لاويين (ص ٨: ٢٤ و٣٠) إنه رُش عليه بالدم والزيت أيضاً. والكاتب لم يذكر أمراً كان منكراً في أيامه لأن يوسيفوس ذكر هذا الرش للمسكن والأواني كما ذكره الكاتب (قديمات اليهود كتاب ٣ راس فصل ٦).
٢٢ «وَكُلُّ شَيْءٍ تَقْرِيباً يَتَطَهَّرُ حَسَبَ ٱلنَّامُوسِ بِٱلدَّمِ، وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ!».
لاويين ١٧: ١١
وَكُلُّ شَيْءٍ تَقْرِيباً يَتَطَهَّرُ حَسَبَ ٱلنَّامُوسِ بِٱلدَّمِ التطهير يفرض وجود النجاسة في الإنسان وهي كانت في ناموس موسى على نوعين النجاسة الشرعية كمس أجساد الموتى والأبرص والنجاسة الأدبية وهي التي كانت تلحق الإنسان من جرى ارتكاب الخطيئة باعتبار الأوامر والنواهي الأدبية التي أصولها الوصايا العشر. وكان يتطهر الإنسان من النجاسة الشرعية بواسطة الذبائح وهي سفك دم الحيوانات وبرشاش الدم غالباً وهو المراد بقوله «تقريباً» لأنه كان بعض أنواع النجاسات يتطهر بواسطة الماء (لاويين ١٦: ٢٦ و٢٨ وعدد ٣١: ٢٤) وبعضها بواسطة النار والماء (عدد ٣١: ٢٢ و٢٣) وإنما كان الغالب الدم.
وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ أي أن مغفرة الخطايا كان نيلها في الناموس الموسوي دائماً بواسطة سفك الدم أي الذبائح وهذه كانت على أنواع:
- الأول: ذبيحة الخطيئة وقد ذُكرت بالتفصيل في (لاويين ٤ و٥: ١ – ١٣) وكانت لأجل النجاسة الجسدية (ص ٥: ٢) والأدبية أيضاً (ص ٤: ٢) بشرط أن يكون فعلها سهواً وهو لا يعلم أي على غير معرفة (لاويين ٤: ١٣ و١٤) ونقيضها ارتكاب الخطيئة بيد رفيعة (عدد ١٥: ٣٠ و٣١) أي بالتعمد والازدراء بالله وبشريعته ولا سيما إذا كانت ضد وصايا الله العشر. فهذه الأخيرة لم يكن لها ذبيحة تُقدم عنها بل كانت تُقطع تلك النفس المرتكبة من شعبها (عدد ١٥: ٣٢ – ٣٦ ولاويين ٢٠: ٩ و١٠) وإنما كان المراد بالأولى ليس الخطيئة بلا معرفة فقط بل كل خطيئة لم تُرتكب بيد رفيعة أي بقصد احتقار الله وبدون سؤال عن إغاظته تعالى.
- الثاني: ذبيحة الإثم ولا يظهر أنها كانت تختلف عن ذبيحة الخطيئة بأكثر من أنها كانت تقدم لأجل الخطيئة بمعرفة والخطايا التي يمكن تعويض ضرر القريب فيها (لاويين ٥: ١٦ وص ٦: ٥) وقد ذُكر أيضاً أنها لأجل التكفير عن الخطايا التي بلا معرفة ولكن وصفها بالتفصيل يؤدي إلى أنها كانت تُرتكب لسبب قوة التجربة أو الشهوة بمعرفة ولكن ليس بقصد احتقار الله.
- الثالث: ذبيحة المحرقة وهي التي كانت تُقدّم صباحاً ومساء في خيمة الاجتماع وفي الهيكل على المذبح النحاسي في صحن الدار (لاويين ٦: ٩) وكان المراد بها ذبيحة عامة عن الخطايا لأن من يقدمها كان مكلفاً بأن يضع يده على رأس الذبيحة لأجل الاعتراف (لاويين ١: ٤).
- الرابع: ذبيحة السلامة وكانت تُقسم إلى ثلاثة أنواع (١) ذبيحة الشكر وكانت تقدم لأجل خيرات الله. (٢) ذبيحة النذر لأجل خلاص من شدة يُنذر فيها لله. (٣) الاختيارية التي كانت عامة في صفاتها. وفيها جميعها كان يُذبح الحيوان ويُرش من دمه حول المذبح فيظهر من ذلك أنها كانت مبنية على كون الإنسان خاطئاً لأنه كان يجب عليه أن يضع يده على رأس الحيوان قبل الذبح (لاويين ص ٤) وعلى ذلك كان تطهير الإنسان من الخطيئة بحسب الناموس الموسوي في كل حال بواسطة سفك دم. ويُضاف إلى ذلك الذبائح السنوية التي كان يقدمها رئيس الكهنة لأجل التكفير عن نفسه وعن الشعب. فهي جميعها مبنية على موت الحيوان البريء عن الإنسان المذنب المستحق القصاص والموت. والآن يأتي الكاتب لذكر ذبيحة المسيح التي كانت هذه جميعها رمزاً لها.
٢٣ «فَكَانَ يَلْزَمُ أَنَّ أَمْثِلَةَ ٱلأَشْيَاءِ ٱلَّتِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ تُطَهَّرُ بِهٰذِهِ، وَأَمَّا ٱلسَّمَاوِيَّاتُ عَيْنُهَا فَبِذَبَائِحَ أَفْضَلَ مِنْ هٰذِهِ».
ص ٨: ٥
ذُكر في هذه الآية وما يليها أن ذبائح اليهود كانت رمزاً لذبيحة المسيح التي هي أفضل من ذبائح العهد القديم من وجوه كثيرة كما سيأتي.
فَكَانَ يَلْزَمُ أَنَّ أَمْثِلَةَ ٱلأَشْيَاءِ ٱلَّتِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ أي صورها كما أظهر الله لموسى وهو في الجبل على ما مر في (ص ٨: ٥) والمراد بهذه الصور الهيكل الأرضي وأوانيه وخدمته.
ِتُطَهَّرُ بِهٰذِه أي بما ذُكر من الذبائح ورشاش الدم ورماد العجلة الحمراء. وكان هذا التطهير طقسياً لأجل النجاسة الشرعية والمراد بكل ذلك التقرير في أذهان الإسرائيليين أنهم كانوا خطأة ودنسين (لاويين ١٥: ٣١ و١٦: ١٩) وأنه لا اقتراب من الله إلا بأن يكون الإنسان بحال الطهارة التي لا يحصل عليها إلا بدم المسيح الذي كان يشير إليه دم ذبائح اليهود كما أن النجاسة الطقسية الشرعية كانت تشير إلى نجاسة الإنسان الأدبية وتطهير الإنسان من الواحدة يدل على التطهير من الأخرى.
وَأَمَّا ٱلسَّمَاوِيَّاتُ عَيْنُهَا فَبِذَبَائِحَ أَفْضَلَ مِنْ هٰذِهِ المراد «بالسماويّات» تلك التي كانت المساكن الأرضية صورة لها ومجلسها في السماء ولا يخفى أن الكلام هنا جميعه مجازي لأننا إذا فهمنا بالسماويات محضر الله في السماء كيف يُطهّر وهو غير نجس وكيف مست ذبيحة المسيح ذلك المكان فليس المعنى أكثر من أن الخاطئ لا يستطيع أن يقترب من الله بدون تطهيره بدم المسيح فالتطهير هنا ليس تطهير مكان بل إصلاح النسبة بين الله والإنسان. وقال بعضهم أن السماوات نفسها تطهرت بدم كفارة المسيح بمعنى إزالة غضب الله على الجنس البشري وتحويل ظلمة ذلك الغضب إلى أنوار الرحمة والمغفرة. وأما صيغة الجمع في قوله «فبذبائح» فمن باب جمع الجنس ويراد به المفرد وهو كثير في العبراني واليوناني (انظر ع ٢٦) لأن ذبيحة المسيح واحدة لا تتكرر ولا تُعاد. وجميع الذبائح مجموعة في ذبيحة المسيح وكانت كلها وإن كانت كثيرة وعلى أنواع مختلفة رموزاً إلى تلك الذبيحة الواحدة.
٢٤ «لأَنَّ ٱلْمَسِيحَ لَمْ يَدْخُلْ إِلَى أَقْدَاسٍ مَصْنُوعَةٍ بِيَدٍ أَشْبَاهِ ٱلْحَقِيقِيَّةِ، بَلْ إِلَى ٱلسَّمَاءِ عَيْنِهَا، لِيَظْهَرَ ٱلآنَ أَمَامَ وَجْهِ ٱللّٰهِ لأَجْلِنَا».
ص ٦: ٢٠ ص ٨: ٢ ورومية ٨: ٣٤ وص ٧: ٢٥ و١يوحنا ٢: ١
لأَنَّ ٱلْمَسِيحَ لَمْ يَدْخُلْ إِلَى أَقْدَاسٍ مَصْنُوعَةٍ بِيَدٍ أَشْبَاهِ ٱلْحَقِيقِيَّةِ الإشارة في ذلك إلى الأقداس الأرضية التي كانت مصنوعة بيد (ع ١١) وشبهاً لما رآه موسى في الجبل (ص ٨: ٥) فالكاتب قال أن المسيح لم يدخل إليها.
بَلْ إِلَى ٱلسَّمَاءِ عَيْنِهَا التي كانت الأقداس الأرضية شبهاً لها فنتح من ذلك أن المسيح لما دخل إلى السماء ليخدم خدمته الكهنوتية كانت ذبيحته أفضل من ذبائح اليهود التي كانت تقدم في هيكل أرضي.
لِيَظْهَرَ ٱلآنَ أَمَامَ وَجْهِ ٱللّٰهِ لأَجْلِنَا قوله «ليظهر» معناه في الأصل في مثل هذه القرينة الظهور لأجل الاحتجاج وقيام الدعوى إما لأحد كما هنا أو عليه كما في (أعمال ٢٤: ١) وقوله «الآن» العهد الحاضر أو من الزمان الذي دخل فيه إلى السماء فصاعداً. وقوله «أمام وجه الله» اصطلاح عبراني مأخوذ عن وقوف رئيس الكهنة أمام الله في قدس الأقداس ليكفر عن الشعب. وقوله «لأجلنا» أي أن دخول المسيح إلى السماء بعدما قدم نفسه ذبيحة على الأرض هو لأجل التفكير عن المؤمنين به والفداء الأبدي الذي كان قد ذكره سابقاً (ع ١٢).
٢٥ «وَلاَ لِيُقَدِّمَ نَفْسَهُ مِرَاراً كَثِيرَةً، كَمَا يَدْخُلُ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ إِلَى ٱلأَقْدَاسِ كُلَّ سَنَةٍ بِدَمِ آخَرَ».
ع ٧
وَلاَ لِيُقَدِّمَ نَفْسَهُ مِرَاراً كَثِيرَةً الكلام على المسيح الذي يُظهر الكاتب فضل ذبيحته وخدمته الكهنوتية من وجوه المشابهة ووجوه المناقضة التي بينها وبين ذبائح رئيس الكهنة. وإلى هذه الأخيرة يتجه الكلام في هذا العدد كما سيأتي.
كَمَا يَدْخُلُ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ إِلَى ٱلأَقْدَاسِ كُلَّ سَنَةٍ هذا هو الوجه الأول لفضل دخول المسيح إلى السماء على دخول الكاهن العظيم إلى الأقداس فإن هذا كان يدخل مرة في كل سنة بدم ذبيحة جديدة وأما دخول المسيح فكان مرة واحدة بذبيحة واحدة.
بِدَمِ آخَرَ هذا هو الوجه الثاني فإن رئيس الكهنة كان يدخل بدم ذبيحة ثور عن نفسه وتيس عن الشعب وأما المسيح فدخل بدم ذبيحة نفسه.
٢٦ «فَإِذْ ذَاكَ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَتَأَلَّمَ مِرَاراً كَثِيرَةً مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ، وَلٰكِنَّهُ ٱلآنَ قَدْ أُظْهِرَ مَرَّةً عِنْدَ ٱنْقِضَاءِ ٱلدُّهُورِ لِيُبْطِلَ ٱلْخَطِيَّةَ بِذَبِيحَةِ نَفْسِهِ».
ع ١٢ وص ٧: ٢٧ و١٠: ١٠ و١بطرس ٣: ١٨ و١كورنثوس ١٠: ١١ وغلاطية ٤: ٤ وأفسس ١: ١٠
فَإِذْ ذَاكَ أي لما كان موت المسيح لأجل الأجيال السالفة كما كان لأجل الأجيال التابعة (انظر ع ١٥ ورومية ٣: ٢٥).
كَانَ يَجِبُ أَنْ يَتَأَلَّمَ مِرَاراً كَثِيرَةً مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ لأجل خطايا شعبه في العصور السالفة لو لم تكن ذبيحته أفضل من الذبائح التي كان يقدمها رئيس الكهنة بحيث كانت كافية أن تُقدم مرة واحدة عن جميع الأجيال.
وَلٰكِنَّهُ ٱلآنَ مقابلة لقوله «إنه كان يجب أن يتألم مراراً كثيرة منذ تأسيس العالم».
قَدْ أُظْهِرَ مَرَّةً واحدة ليقدم ذبيحته لأنها كافية للإيفاء عن خطايا جميع الأجيال.
عِنْدَ ٱنْقِضَاءِ ٱلدُّهُورِ أي عند انقضاء الدهر اليهودي المعروف بالعهد القديم فكان ظهور المسيح عند انقضاء ذلك العهد أو الدهر. وعند كتبة العهد الجديد مجيء المسيح هو انقضاء الدهور لأنه لا يكون عهد آخر بعد العهد الجديد وبما أنهم لم يعرفوا وقت مجيء المسيح الثاني ظنوا أنه يكون عن قريب ومن المحتمل أنه يكون في أيامهم فكانت أيامهم كما ظنوا الأيام الأخيرة. وأما استعماله صيغة الجمع عوضاً عن المفرد فاصطلاح عند اليونانيين واليهود كما قيل سبوت في السبت والسماوات في السماء (انظر ع ٢٤).
لِيُبْطِلَ ٱلْخَطِيَّةَ أي ليزيل قصاص الخطيئة وسلطانها.
بِذَبِيحَةِ نَفْسِهِ أي أبطل القصاص عن شعبه باحتماله الموت عنهم.
٢٧ «وَكَمَا وُضِعَ لِلنَّاسِ أَنْ يَمُوتُوا مَرَّةً ثُمَّ بَعْدَ ذٰلِكَ ٱلدَّيْنُونَةُ».
تكوين ٣: ١٩ وجامعة ٣: ٢٠ و٢كورنثوس ٥: ١٠ ورؤيا ٢٠: ١٢ و١٣
وَكَمَا وُضِعَ لِلنَّاسِ أَنْ يَمُوتُوا مَرَّةً أي مرة واحدة لا تتكرر وهو ظاهر. قوله «وضع» أي أن الله رتّب العالم على شكل أن كل إنسان يموت وأن هذا الموت لا يكون أكثر من مرة واحدة. قوله «كما» للمقابلة بين موت الناس مرة واحدة وموت المسيح كذلك فينتج من ذلك أن ذبيحة المسيح كانت واحدة لا تُعاد ولن تُعاد.
ثُمَّ بَعْدَ ذٰلِكَ ٱلدَّيْنُونَةُ أي بعد الموت الدينونة الأبدية التي فيها يثبت حال الإنسان على نمط واحد لا يتغير فليس فيه موت أيضاً. وهنا وفي الآية التابعة مقابلة بين الدينونة والخلاص فإنه كما يثبت حال الإنسان بعد موته فيكون إما في السعادة الأبدية أو في الشقاء الأبدي هكذا الخلاص أيضاً بالمسيح فإنه يثبت للمؤمنين ولا يحتاجون بعد إلى ذبيحة عن الخطيئة.
٢٨ «هٰكَذَا ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً، بَعْدَمَا قُدِّمَ مَرَّةً لِكَيْ يَحْمِلَ خَطَايَا كَثِيرِينَ، سَيَظْهَرُ ثَانِيَةً بِلاَ خَطِيَّةٍ لِلْخَلاَصِ لِلَّذِينَ يَنْتَظِرُونَهُ».
رومية ٦: ١٠ و١بطرس ٣: ١٨ و١بطرس ٢: ٢٤ و١يوحنا ٣: ٥ ومتّى ٢٦: ٢٨ ورومية ٥: ١٥ وتيطس ٢: ١٣ و٢بطرس ٣: ١٢
هٰكَذَا ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً هنا تتمة المقابلة بين موت الناس مرة واحدة وموت المسيح أيضاً مرة واحدة فإنه لما كان المسيح مشاركاً للإنسانية في الجسد فلم يكن ممكناً أن يقع عليه الموت أكثر من مرة واحدة.
بَعْدَمَا قُدِّمَ ويجوز أن يقال بعدما قدّم نفسه لأن وزن الفعل في اليوناني يحتمل ذلك. وأما التقديم المذكور فتقديم نفسه ذبيحة.
مَرَّةً لِكَيْ يَحْمِلَ خَطَايَا كَثِيرِينَ أي خطايا جميع الشعوب بدون تمييز بين اليهودي والأممي ولجميع الأجيال السالفة والتابعة. قوله «لكي يحمل خطايا» أي يحمل قصاص خطايا كثيرين (انظر ع ٢٦).
سَيَظْهَرُ ثَانِيَةً ظهوره في المرة الأولى كان لكي يقدم نفسه ذبيحة عن خطايا الناس وأما ظهوره في المرة الثانية فيكون –
بِلاَ خَطِيَّةٍ أي بدون أن يحمل الخطيئة أو قصاصها وهو المراد أو بدون تقديم نفسه لأجل الخطيئة كما يقتضي سياق الكلام والتقدير المضمن هنا.
لِلْخَلاَصِ لِلَّذِينَ يَنْتَظِرُونَهُ أي ليعطي الخلاص الأبدي للذين يؤمنون به ويقاومون غرور العالم وخداع الخطيئة ويثبتون في انتظار الخلاص. وفي ذلك حث للعبرانيين المؤمنين ليثبتوا ولا يحيدوا عن الإيمان بالمسيح.
فوائد
- الخلاص الذي أتى به المسيح خلاص كافٍ ثابت أبدي فلا يحتاج الناس إلى ذبيحة أخرى ولا إلى شفيع آخر ولا إلى أعمال أخرى كعلة أجريّة للخلاص.
-
الخطيئة شر عظيم لأنها قد أبعدتنا عن الله بعداً عظيماً فلا يمكننا الوصول إلى كرسي النعمة ومحضر الله إلا بواسطة بر المسيح ولا ننال المغفرة منه تعالى إلا بواسطة دم ذبيحة الصليب ولا نتخلص من سلطان الخطيئة علينا إلا بعمل روح الله القدوس في قلوبنا. وكان يُشار إلى ذلك في العهد القديم بالحجاب الفاصل قدس الأقداس عن القدس والقدس عن الدار التي كان يجتمع فيها العابدون وأما الآن فقد صار لنا بواسطة المسيح قدوم إلى الآب وثقة تامة في الاقتراب منه تعالى (أفسس ٢: ١٨ وعبرانيين ٤: ١٦).
السابق |
التالي |