الرسالة إلى العبرانيين | 08 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة إلى العبرانيين
للدكتور . وليم إدي
اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّامِنُ
في الأصحاح الثامن كان يقابل الكاتب رئاسة كهنوت المسيح برئاسة كهنوت العهد القديم وأظهر فضل الأول على الثاني من جملة وجوه. وفي بداءة هذا الأصحاح يذكر وجهاً آخر لهذا التفضيل وهو أن خدمة رئاسة كهنوت العهد القديم كانت على الأرض ورمزاً لخدمة المسيح التي يمارسها في السماء نفسها وعلى شكل حقيقي لا رمزي (ع ١ – ٦). ثم يذكر فضل العهد الجديد على العهد القديم في الوظيفة الكهنوتية لسبب أن دخول العهد الجديد على القديم دليل على نقص الأول (ع ٧). وأما وجه الفضل فهو أن الأول كان يتعلق بخيرات زمنية والثاني بمواعيد روحية ونسبة الأول إلى الثاني نسبة الرمز إلى المرموز إليه والإشارة إلى المشار إليه وفي هذا القول يستند إلى اقتباس من العهد القديم نفسه (ع ٧ – ١٣).
١ «وَأَمَّا رَأْسُ ٱلْكَلاَمِ فَهُوَ أَنَّ لَنَا رَئِيسَ كَهَنَةٍ مِثْلَ هٰذَا، قَدْ جَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ ٱلْعَظَمَةِ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ».
أفسس ١: ٢٠ وكولوسي ٣: ١ وص ١: ٣ و١٠: ١٢ و١٢: ٢
وَأَمَّا رَأْسُ ٱلْكَلاَمِ قد اتخذ بعضهم قوله «رأس» بمعنى خلاصة ما تقدم بناء على أن الكلمة الأصلية تحتمل هذا المعنى وأن الكاتب يذكر خلاصة الكلام السابق في ما يأتي. وليس هذا هو المعنى على الأصح لأنه بعد أن ذكر في الأصحاح الماضي وجوهاً كثيرة لفضل كهنوت المسيح على الكهنوت اللاوي وذكر هنا أمراً أهم منها جميعها وسماه «رأس الكلام» لأنه العمدة في ما يقال في هذه الشأن وهو أنه في ما مضى كان يتكلم على فضل كهنوت المسيح من جهة كونه على رتبة ملكي صادق وإقامته بقسم من الله وكونه كاهناً دائماً لا يعقبه خلف وكون المسيح الكاهن العظيم قدوساً بلا شر ولا دنس. وأما هنا فالبرهان من نوع أعلى فإن خدمة المسيح الكهنوتية إنما تمارس في السماوات نفسها لا على الأرض بل بمحضر الله في السماء حيث كان يُعلن الله حضوره بنور منظور لعين الجسد دلالة على نوره الإلهي الذي لا يستطيع أن يراه بشر في الجسد.
فَهُوَ ضمير فصل يفصل بين المُسند والمُسند إليه. وأما المُسند فهو ما يأتي.
أَنَّ لَنَا رَئِيسَ كَهَنَةٍ مِثْلَ هٰذَا أي متصفاً بالأوصاف التي ذكرها آنفاً.
قَدْ جَلَسَ ذهب البعض إلى أن في قوله هذا مقابلة بين جلوس المسيح في السماء ووقوف رئيس الكهنة اللاوي مدة خدمته في الهيكل. والأصح أن كلمة «جلس» تفيد أمرين (١) رفعة المقام بدليل قوله «قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي: ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ» (مزمور ١١٠: ١). (٢) دوام كهنوته بدليل قوله «أَنْتَ كَاهِنٌ إِلَى ٱلأَبَدِ» (مزمور ١١٠: ٤).
فِي يَمِينِ عَرْشِ ٱلْعَظَمَةِ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ عبارة مجازية تدل على رفعة المقام التي نالها المسيح في الناسوت بسبب خدمته الكهنوتية وربما المراد المشاركة في الحكم والسلطان. وعلى أي وجه كان يظهر من العبارة ارتفاع المسيح وتتميم خدمته الكهنوتية على نوع أرقى جداً مما ناله رؤساء كهنة اليهود.
٢ «خَادِماً لِلأَقْدَاسِ وَٱلْمَسْكَنِ ٱلْحَقِيقِيِّ ٱلَّذِي نَصَبَهُ ٱلرَّبُّ لاَ إِنْسَانٌ».
ص ٩: ٨ و١٢ و٢٤ وص ٩: ١١
خَادِماً لِلأَقْدَاسِ قوله «خادماً» هو خادم الجمهور لا خادم شخص معلوم. والمراد «بالأقداس» قدس الأقداس أو المكان المقدس المقام لعبادة الله لا الأشياء المقدسة كما قال بعض المفسرين فاستغنى عن قدس الأقداس بقوله الأقداس. وإنما ليس المراد هنا القدس الأرضي في خيمة الاجتماع أو الهيكل بل السماء عينها.
وَٱلْمَسْكَنِ ٱلْحَقِيقِيِّ الإشارة إلى خيمة الاجتماع وما كان يقابله في الهيكل. وبقوله «الحقيقي» أراد المسكن السماوي الذي كان يشير إليه المسكن الأرضي على سبيل الرمز.
ٱلَّذِي نَصَبَهُ أي أقامه.
ٱلرَّبُّ لاَ إِنْسَانٌ فهو المسكن الحقيقي والقدس الحقيقي الذي كانت تشير إليه ما نصبته أيدي الناس من خيمة الاجتماع وهيكل سليمان.
٣ «لأَنَّ كُلَّ رَئِيسِ كَهَنَةٍ يُقَامُ لِكَيْ يُقَدِّمَ قَرَابِينَ وَذَبَائِحَ. فَمِنْ ثَمَّ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِهٰذَا أَيْضاً شَيْءٌ يُقَدِّمُهُ».
ص ٥: ١ وأفسس ٥: ٢ وص ٩: ١٤
لأَنَّ كُلَّ رَئِيسِ كَهَنَةٍ يُقَامُ لِكَيْ يُقَدِّمَ قَرَابِينَ وَذَبَائِحَ هذه كانت أخص أعمال وظيفته.
فَمِنْ ثَمَّ أي ولسبب أن تقديم القرابين والذبائح كان الأمر الجوهري في خدمة رئيس الكهنة.
يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِهٰذَا أي المسيح الكاهن العظيم.
أَيْضاً أي مثلهم.
شَيْءٌ يُقَدِّمُهُ ذبيحة يقدمها وسيأتي الكلام على الذبيحة التي قدمها المسيح مفصلاً في (ص ٩: ١١ – ١٤).
٤ «فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى ٱلأَرْضِ لَمَا كَانَ كَاهِناً، إِذْ يُوجَدُ ٱلْكَهَنَةُ ٱلَّذِينَ يُقَدِّمُونَ قَرَابِينَ حَسَبَ ٱلنَّامُوسِ».
الكلام هنا في أن خدمة المسيح الكهنوتية ليست في الأرض ولكن في السماء وأن الخدمة اللاوية على الأرض رمز إلى خدمة المسيح السماوية.
فَإِنَّهُ الضمير عائد إلى المسيح.
لَوْ كَانَ عَلَى ٱلأَرْضِ أي يخدم الخدمة الكهنوتية على الأرض.
لَمَا كَانَ كَاهِناً أي لم يكن لزوم ولا إمكان لكونه كاهناً والسبب لذلك ذكره في العبارة التالية وهي-
إِذْ يُوجَدُ ٱلْكَهَنَةُ الشرعيون اللاويون. ولم يميز الكاتب والسبب لذلك ذكره في العبارة التالية وهي-
وصيغة الفعل «يوجد» لا تثبت أن خدمة الهيكل كانت حيئنذ قائمة والرسالة كُتبت قبل خراب أورشليم غير أن ذلك من المحتمل بل كلام الكاتب هو في الكهنوت اللاوي وذلك على سبيل البحث لا على سبيل تاريخ. والإشارة في كلامه إلى خيمة الاجتماع لأنها الأصل الذي منه الهيكل وفرائضه.
ٱلَّذِينَ يُقَدِّمُونَ قَرَابِينَ كلمة «قرابين» تشمل جميع أنواع التقدمات لله ومن جملتها الذبائح كما ذُكر في (ع ٣).
حَسَبَ ٱلنَّامُوسِ الموسوي فلم يكن لزوم لكهنوت المسيح على الأرض.
٥ «ٱلَّذِينَ يَخْدِمُونَ شِبْهَ ٱلسَّمَاوِيَّاتِ وَظِلَّهَا، كَمَا أُوحِيَ إِلَى مُوسَى وَهُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَصْنَعَ ٱلْمَسْكَنَ. لأَنَّهُ قَالَ: ٱنْظُرْ أَنْ تَصْنَعَ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ ٱلْمِثَالِ ٱلَّذِي أُظْهِرَ لَكَ فِي ٱلْجَبَلِ».
كولوسي ٢: ١٧ وص ٩: ٢٣ و١٠: ١ وخروج ٢٥: ٤٠ و٢٦: ٣٠ و٢٧: ٨ وعدد ٨: ٤ وأعمال ٧: ٤٤
ٱلَّذِينَ أي الكهنة اللاويين.
يَخْدِمُونَ على الأرض في ذلك الهيكل الذي كان-
شِبْهَ أي صورة.
ٱلسَّمَاوِيَّاتِ ترجمة حرفية عن الأصل والإشارة إلى الأقداس المذكور في (ع ٢) والمراد قدس الأقداس أو في الجملة الهيكل السماوي.
وَظِلَّهَا أي رسمها وهو أقل وضوحاً من الصورة والمعنى أن ترتيب الهيكل الأرضي وخدمته كان صورة منقولة عن السماوي كما تفيد العبارة التالية.
كَمَا أُوحِيَ إِلَى مُوسَى الكلمة المترجمة هنا «أوحي» معناها إعلان إلهي لإنسان.
وَهُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَصْنَعَ ٱلْمَسْكَنَ المعروف الذي صنعه موسى لما كان بنو إسرائيل في البرية لأجل إقامة خدمة الله فيه والذي على هيئته صنع سليمان الهكيل نظراً إلى تقسيمه وترتيب أواني الخدمة فيه.
لأَنَّهُ قَالَ القائل الله والمقول منقول عن (خروج ٢٥: ٤٠).
ٱنْظُرْ أَنْ تَصْنَعَ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ ٱلْمِثَالِ ٱلَّذِي أُظْهِرَ لَكَ فِي ٱلْجَبَلِ أي جبل سيناء. وأما المثال الذي أُظهر لموسى فلم يكن بناء حقيقياً لا يزال قائماً على الجبل كما ذهب بعض كتبة التلمود بل كان رسماً رآه موسى بالوحي فأقام المسكن حسب الشكل الذي رآه.
٦ «وَلٰكِنَّهُ ٱلآنَ قَدْ حَصَلَ عَلَى خِدْمَةٍ أَفْضَلَ بِمِقْدَارِ مَا هُوَ وَسِيطٌ أَيْضاً لِعَهْدٍ أَعْظَمَ، قَدْ تَثَبَّتَ عَلَى مَوَاعِيدَ أَفْضَلَ».
٢كورنثوس ٣: ٦ إلى ٩ وص ٧: ٢٢
وَلٰكِنَّهُ الضمير عائد إلى المسيح.
ٱلآنَ بعد صعوده إلى السماء لأجل إتمام خدمته الكهنوتية هناك.
قَدْ حَصَلَ عَلَى خِدْمَةٍ أَفْضَلَ من الخدمة الكهنوتية اللاوية إذ ليس هو كاهناً في الهيكل الأرضي بل السماوي فكانت خدمته أفضل من خدمتهم.
بِمِقْدَارِ مَا هُوَ وَسِيطٌ أَيْضاً لِعَهْدٍ أَعْظَمَ العهد هنا اتفاق بين اثنين بموجبه كل واحد منهما يعطي الآخر شيئاً ويأخذ منه شيئاً وقد يكون بين متساويين كالعهد بين ملك وملك آخر وقد يكون بين أكبر وأصغر وهكذا العهد بين الله وشعبه. وبموجب هذا العهد الله يسميهم شعبه ويحفظهم ويعطيهم كل البركات. والمشروط عليهم أنهم يتخذونه إلهاً ويعبدونه ويحفظون وصاياه. أي في العهد مواعيد وواجبات. والعهدان هما العهد الأول الذي قطعه الله مع شعبه في حوريب أو سيناء (تثنية ٥: ٢) وفي موآب (تثنية ٢٩: ١) فأعطاهم الناموس عن يد موسى. والعهد الثاني هو الذي قطعه مع شعبه المؤمنين بالمسيح. وكان العهد الأول بفرائض جسدية لا تقدر من ذاته أن تخلص بل كانت رموزاً إلى المسيح وأكثر مواعيده يتعلق بخيرات زمنية وأما العهد الجديد فله مواعيد أفضل روحية أبدية.
ومن فوائد العهد الجديد (١) أن ذبيحة واحدة كافية قدمت عن الخطايا بموت المسيح. (٢) كتابة ناموس الله على قلوب شعبه فيحفظونه لا عن اضطرار بل عن محبة. والمؤمنون لا يكملون في القداسة ما داموا في هذا العالم فلهم من يشفع فيهم على الدوام أي المسيح ومن يعزيهم ويرشدهم ويقدسهم ويمكث معهم أي الروح القدس فيثبتون إلى النهاية ويدخلون الراحة السماوية.
وللكتاب المقدس جزآن يسمى أولهما العهد القديم لأن موضوعه العهد الأول وثانيهما العهد الجديد لأن موضوعه العهد الثاني.
٧ «فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ ذٰلِكَ ٱلأَوَّلُ بِلاَ عَيْبٍ لَمَا طُلِبَ مَوْضِعٌ لِثَانٍ».
ص ٧: ١١ و١٨
فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ ذٰلِكَ ٱلأَوَّلُ أي العهد الأول القديم الذي أقامه الله مع بني إسرائيل على يد موسى.
بِلاَ عَيْبٍ أو خالياً من النقص والمراد بهذا الوصف للعهد القديم أنه لم يُوضع لأجل تبرير الإنسان من خطاياه كما اتخذه اليهود ولا ليكون دائماً وإنما وُضع ليكون سابقاً ورمزاً إلى الذي سيأتي. هذا وإن القول لم يكن للكاتب ولكن لله نفسه كما سيرد في العبارة المأخوذة من إرميا النبي.
لَمَا طُلِبَ مَوْضِعٌ لِثَانٍ أي لم يكن محل لعهد ثانٍ أقامه الله عوضاً عن الأول وأقام الدليل على ذلك من كتب العهد القديم.
٨ «لأَنَّهُ يَقُولُ لَـهُمْ لاَئِماً: هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُ ٱلرَّبُّ، حِينَ أُكَمِّلُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْداً جَدِيداً».
إرميا ٣١: ٣١ إلى ٣٤
لأَنَّهُ تعليل لما سبق.
يَقُولُ القائل الله.
لَـهُمْ لليهود.
لاَئِماً اليهود على قول يوحنا فم الذهب وكثيرين غيره من المفسرين والأصح أنه يلوم أي يجد نقصاً في العهد القديم (وليس المراد بالعهد القديم هنا الجزء الأول من الكتاب المقدس بل العهد الذي هو موضوع ذلك الجزء من الكتاب) وذلك ليس لأنه لم يكن من الله أو لأنه لم يوضع بفطنة ومناسبة لحال الناس ولكن لأنه لم يكن كافياً للتبرير ولأن وضعه كان إلى حين وهو دخول العهد الجديد على يد المسيح الكاهن الحقيقي والذبيحة الحقيقية الذي كانت تشير إليه جميع ترتيبات العهد القديم ولأن الروح القدس لم يعمل عمله الكامل في قلوب الناس للتجديد والتقديس كما في العهد الجديد. وأما النقل فعن إرميا النبي (ص ٣١: ٣١ – ٣٤) من الترجمة السبعينية والترجمة والنقل صحيحان.
هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي قوله «هوذا» ترجمة لفظة عبرانية هي حرف تنبيه. وقوله «أيام تأتي» عن العبراني أيضاً والمراد زمان مستقبل غير معيّن.
يَقُولُ ٱلرَّبُّ، حِينَ أُكَمِّلُ أي فيه أصنع.
مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا أي مع جميع شعب اليهود الذين كانوا منقسمين حينئذ إلى أسباط فرقة إسرائيل وأسباط فرقة يهوذا وهذا الانقسام حدث في زمان رحبعام بن سليمان الذي خلعت طاعته عشرة أسباط وأقاموا يربعام ملكاً عليهم وبقي تحت ملك رحبعام سبطان فقط يهوذا وبنيامين.
عَهْداً جَدِيداً ليس باعتبار الزمان فقط كان هذا العهد جديداً بل باعتبار الماهية أيضاً (انظر تفسير ع ٦).
٩ «لاَ كَٱلْعَهْدِ ٱلَّذِي عَمِلْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ يَوْمَ أَمْسَكْتُ بِيَدِهِمْ لأُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَثْبُتُوا فِي عَهْدِي، وَأَنَا أَهْمَلْتُهُمْ يَقُولُ ٱلرَّبُّ».
لاَ كَٱلْعَهْدِ أي العهد الجديد لا يكون كالعهد القديم.
ٱلَّذِي عَمِلْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ أي سلفائهم.
يَوْمَ أَمْسَكْتُ بِيَدِهِمْ دلالة على عناية الله بإخراجهم من أرض مصر.
لأُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ فإنه لما كانوا على الطريق أعطاهم الله الشريعة التي عبر عنها هنا بالعهد.
لأَنَّهُمْ لَمْ يَثْبُتُوا فِي عَهْدِي أي نقضوه وقوله «لأنهم» تعليل للحاجة إلى العهد الجديد فإنهم لما نقضوه كان ذلك داعياً إلى وضع عهد جديد معهم.
وَأَنَا أَهْمَلْتُهُمْ يَقُولُ ٱلرَّبُّ الإشارة إلى أنواع القصاص الكثيرة التي عاقبهم الله بها جزاء على نقضهم للشريعة.
١٠ «لأَنَّ هٰذَا هُوَ ٱلْعَهْدُ ٱلَّذِي أَعْهَدُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ ٱلأَيَّامِ يَقُولُ ٱلرَّبُّ: أَجْعَلُ نَوَامِيسِي فِي أَذْهَانِهِمْ، وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَنَا أَكُونُ لَـهُمْ إِلٰهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً».
ص ١٠: ١٦ وزكريا ٨: ٨
لأَنَّ أو ولكن.
هٰذَا اسم إشارة لما سيأتي من العهد بعد قوله «يقول الرب».
هُوَ ٱلْعَهْدُ الجديد.
ٱلَّذِي أَعْهَدُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ المراد إسرائيل الروحي الذي كان يشير إليه إسرائيل الجسدي فإنه كما أن العهد القديم كان رمزاً إلى الجديد كان الإسرائيليون أنفسهم رمزاً إلى شعب الله في العهد الجديد إذ لم يبق في المسيح حاجز بين اليهودي والأممي (كولوسي ٣: ١١).
بَعْدَ تِلْكَ ٱلأَيَّامِ أي أيام العهد القديم.
يَقُولُ ٱلرَّبُّ: أَجْعَلُ نَوَامِيسِي فِي أَذْهَانِهِمْ حتى لا ينسوها.
وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ حتى يحفظوها. والعبارتان مجاز بمعنى أن الله روح الطاعة الدائمة في قلوب شعبه. وهنا تظهر مزية العهد الجديد على القديم فإنه في هذا كان يُعطى بنو إسرائيل شرائع ونواميس كثير منها رسوم فكان كثير لم يستطع أحد حمله (أعمال ١٥: ١٠) وأما في ذلك فأعطى الله شعبه قلباً مائلاً إلى طاعته تعالى قبل أن أعطاهم أمراً ليحفظوه كما يقول أوغسطينوس «أعطني ما تأمر به ثم مر بما تشاء» وهذا عكس الترتيب في العهد القديم.
ولنا من كتابة نواميس الله على القلوب نتيجتان (١) إن الديانة للناس أفراداً فإن النواميس مكتوبة على كل قلب. وأن لكل إنسان ضميراً وعلى كل إنسان مسؤولية. وأما النواميس المكتوبة على صفحات الكتب فمن المحتمل أن كثيرين من الشعب لا يعرفونها. وفي العهد القديم أكثر الكلام للشعب إجمالاً وفي العهد الجديد أكثر للناس أفراداً.
وتمتاز الديانة المسيحية الإنجيلية عن غيرها بأن خلاص النفس ليس بيد الرؤساء فلا يكون شيء على الشعب إلا الخضوع بل على كل فرد أن يعرف ويفهم ويختار ويعمل.
(٢) بأن الديانة المسيحية الإنجيلية توافق جميع الناس من كل الشعوب وفي كل العصور فإن الفرائض اليهودية زالت وتزول جميع الفرائض البشرية والرسوم الخارجية وأما الطبيعة البشرية فطبيعة عامة لا تتغير وما يُكتب على القلوب فهو لجميع الناس.
وَأَنَا أَكُونُ لَـهُمْ إِلٰهاً اي أمنحهم حماية وبركات خاصة.
وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً طائعاً لأوامري عزيزاً عندي.
١١ «وَلاَ يُعَلِّمُونَ كُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ قَائِلاً: ٱعْرِفِ ٱلرَّبَّ، لأَنَّ ٱلْجَمِيعَ سَيَعْرِفُونَنِي مِنْ صَغِيرِهِمْ إِلَى كَبِيرِهِمْ».
إشعياء ٥٤: ١٣ ويوحنا ٦: ٤٥ و١يوحنا ٢: ٢٧
وَلاَ يُعَلِّمُونَ كُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ التكرار هنا في قوله «كل واحد قريبه وكل واحد أخاه» على الأسلوب العبراني الذي مرّ ذكره في تفسير (ص ٢: ٦) حيث يعاد المعنى بكلمات مختلفة لزيادة الإيضاح وهو من أساليب البلاغة ومثله التذييل في العربية.
قَائِلاً الواحد منهم للآخر.
ٱعْرِفِ ٱلرَّبَّ، لأَنَّ ٱلْجَمِيعَ سَيَعْرِفُونَنِي مِنْ صَغِيرِهِمْ إِلَى كَبِيرِهِمْ أي أنه في العهد المسيحي تنتشر معرفة الله بين جميع الناس انتشاراً عاماً حتى تكون المبادئ الأولى في الديانة معروفة عند الجميع ولا يحتاج عامة الناس أن يتعلموها كما يحتاجون الآن لأننا لم نبلغ بعد الزمان المشار إليه في العهد المسيحي. فليس المراد إذاً كل عصر من أعصر العهد المسيحي بل ما تأخر منها وليس المراد أن العلم حينئذ يأتي الناس على سبيل الوحي حتى لا يحتاجوا إلى أن يعلم أحدهم الآخر بل أنه في تلك الأزمنة يكون العلم عاماً بين الناس فلا يحتاجون إلى أن يسألوا عن المبادئ الأولى في الديانة.
١٢ «لأَنِّي أَكُونُ صَفُوحاً عَنْ آثَامِهِمْ، وَلاَ أَذْكُرُ خَطَايَاهُمْ وَتَعَدِّيَاتِهِمْ فِي مَا بَعْدُ».
رومية ١١: ٢٧ وص ١٠: ١٧
لأَنِّي أَكُونُ صَفُوحاً عَنْ آثَامِهِمْ، وَلاَ أَذْكُرُ خَطَايَاهُمْ وَتَعَدِّيَاتِهِمْ فِي مَا بَعْدُ هنا أيضاً التكرار العبراني المشار إليه في العدد السابق فإن الصفح عن الآثام وعدم ذكر الخطايا والتعديات بمعنى واحد. والمراد بجميع العبارة أن في العهد الجديد يصفح الله عن خطايا شعبه المؤمنين به نظراً إلى ذبيحة المسيح التامة عن خطايا الناس. وإن قيل ألم يكن الله صفوحاً وغفوراً في العهد القديم حيث كانت الذبائح والخدمة المرتبة من الله لأجل الوصول إليه ونيل الصفح والمغفرة منه فالجواب نعم وإنما لم تكن طريق الخلاص واضحة في العهد القديم كما في العهد الجديد ولم تكن مواعيد الله بالمغفرة مبنية على ذبائح العهد القديم ولكن على ذبيحة العهد الجديد فلذلك كانت هنا أوضح وأوثق للخاطئ.
١٣ «فَإِذْ قَالَ «جَدِيداً» عَتَّقَ ٱلأَوَّلَ. وَأَمَّا مَا عَتَقَ وَشَاخَ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ ٱلاضْمِحْلاَلِ».
٢كورنثوس ٥: ١٧
فَإِذْ قَالَ «جَدِيداً» أي عهداً جديداً في الأعداد السابقة المنقولة عن إرميا النبي (ع ٨).
عَتَّقَ ٱلأَوَّلَ أي جعل العهد السابق له عتيقاً. والنتيجة من هذه الألفاظ التي قالها الله بلسان نبيه ما ذكره الكاتب بقوله-
وَأَمَّا مَا عَتَقَ وَشَاخَ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ ٱلاضْمِحْلاَلِ أي الزوال والمعنى أنه لما قال الله أنه سيضع عهداً جديداً مع بني إسرائيل أظهر إرادته تعالى بإبطال الأول للإتمام أي وضع الأحسن موضع الحسن حسب الوعد.
وفي أيام إرميا ظهر ضعف العهد القديم لأن الهيكل احترق وخدمته بُطلت وشعب الله ذهب إلى السبي فكانت النبوءة بإقامة عهد جديد مناسبة جداً في تلك الأيام ومما عزى شعب الله المتفرقين وثبت إيمانهم.
فوائد
- لما أقام الله برحمته العظيمة لنا نحن الخطأة الساقطين رئيس كهنة مناسباً لحالتنا المحزنة وقبل تقدمته عنا ورفعه إلى يمين العظمة في السموات وجعله وسيط العهد الجديد لم يجز لنا أن نلتجئ إلى غيره بل وجب علينا أن نتكل على مراحم الله بواسطة بره الكامل وأن نطلب البركات التي وعد بها تعالى واثقين بأنه سامع مستجيب.
- العدول عما أمر الله وأوحى به إلى البشر يؤدي إلى الخطر العظيم ولذلك كان من الواجب على المسيحي أن يثبت في التعاليم التي يراها في الكتب المقدسة ولا يلتفت إلى أقوال البشر ولا سيما إذا كانت مضادة للنصوص الإلهية.
- ما أُبطل من العهد القديم إنما كان الناموس الطقسي فقط وقد أُبدل في العهد الجديد بخدمة روحية سماوية. فليس لنا الآن ذبائح دموية وكهنوت بشري وهيكل أرضي بل ذبيحة الصليب وكهنوت المسيح وعبادة روحية. فإنه لما أعلن لنا المسيح أن الله روح والذين يسجدون لله يسجدون بالروح والحق وأن عبادته تعالى غير مقيدة بمكان عرفنا أن تلك العبادات الجسدية المذكورة في العهد القديم كانت زمنية رمزية وقد بطلت عند إقامة الديانة المسيحية فإبطاله إكمال لا نسخ لأنه إذا جاء المرموز إليه بطل الرمز. فإذا وضعنا شيئاً من ذلك في عبادتنا المسيحية نكون قد رجعنا إلى ما أبطله الله وعدلنا عن الخدمة الروحية التي كاهنها في السماء والتي لا تحتاج إلى رسوم جسدية.
- لا يستطيع الإنسان الفاسد الطبيعة أن يقوم بخدمة الله الروحية أو يحفظ شريعته الطاهرة إلا إذا كتبها الله على قلبه ولذلك يجب أن تكون صلاة المسيحي على الدوام ما قاله داود «قلباً نقياً اخلق فيّ يا الله وروحاً مستقيماً جدد في داخلي».
-
أعظم مواعيد الله للجنس البشري هو زمن افتقاده إيانا عندما تنتشر معرفته بين الجميع فيعرفونه من صغيرهم إلى كبيرهم وهو يكون لهم إلهاً وهم يكونون له شعباً جاعلاً نواميسه في أذهانهم وكاتباً إياها على قلوبهم.
السابق |
التالي |