العبرانيين

الرسالة إلى العبرانيين | 07 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح الرسالة إلى العبرانيين

للدكتور . وليم إدي

اَلأَصْحَاحُ ٱلسَّابِعُ

لما ذكر الكاتب (ص ٥: ٦ و١٠ و٦: ٢٠) إن المسيح كاهن على رتبة ملكي صادق ولم يدخل في هذا البحث لاشتغاله بغيره أتى هنا إلى الكلام فيه. وإذ كان مراده أن يُظهر فضل كهنوت المسيح على كهنوت اللاويين أتى المقابلة في هذا الأصحاح بين كهنوت ملكي صادق وكهنوت هارون وذريته وأظهر فضل الأول الذي كان كهنوت المسيح على رتبته على الثاني وذلك من جملة وجوه

(١) إن إبراهيم أبا المؤمنين قدم له العشور.

(٢) أنه قبل البركة منه.

(٣) أنه لم يقبل كهنوته على سبيل الوراثة بل بتعيين الله (ع ١ – ١٠).

وأما كهنوت المسيح فكان أفضل من كهنوت العهد القديم لأسباب

(١) أنه كان على رتبة ملكي صادق كما مرّ.

(٢) أن قيام كهنوت بعد الكهنوت اللاوي دليل على عدم كمال الأول وفضل الثاني عليه (ع ١١ – ١٧).

(٣) إن كهنوت المسيح كان يقسم والكهنوت اللاوي لم يكن كذلك (ع ٢١).

(٤) إن كهنوت المسيح دائم وكهنوت أولئك كان محدوداً بواسطة الموت (ع ٢٣).

(٥) إن الكهنة في العهد القديم كانوا خطأة وأما المسيح فكان بلا خطيئة فلم يضطر مثلهم أن يقدّم ذبائح عن نفسه بل الذبيحة التي قدمها كانت عن خطايا غيره. وهم قدموا ذبائح كثيرة وأما هو فقدّم ذبيحة واحدة فقط (ع ٢٧ و ٢٨).

١ «لأَنَّ مَلْكِي صَادِقَ هٰذَا، مَلِكَ سَالِيمَ، كَاهِنَ ٱللّٰهِ ٱلْعَلِيِّ، ٱلَّذِي ٱسْتَقْبَلَ إِبْرَاهِيمَ رَاجِعاً مِنْ كَسْرَةِ ٱلْمُلُوكِ وَبَارَكَهُ».

تكوين ١٤: ١٨ الخ

لأَنَّ اللام للتعليل تفيد أن ما يتبع من الكلام برهان على ما سبق من جهة فضل كهنوت ملكي صادق على الكهنوت اللاوي ففضل كهنوت المسيح عليه أيضاً لأنه كان على رتبة كهنوت ملكي صادق.

مَلْكِي صَادِقَ هٰذَا المشار إليه في الآية السابقة في نهاية (ص ٦).

مَلِكَ سَالِيمَ وصف أول لملكي صادق الذي كان ملكاً وكاهناً معاً. وأما ساليم فذُكرت باسم شاليم في (تكوين ١٤: ١٨). وذهب جمهور الآباء وأكثر المفسرين الحديثين إلى أن المراد بها أورشليم فإنه ما عدا مشابهة الاسم ذُكر في المزامير (مزمور ٧٦: ٢) إن «مظلة الله في ساليم ومسكنه في صهيون» على أن مظلته ومسكنه واحد بحسب الأسلوب العبراني في الإنشاء الشعري (انظر تفسير هذه الرسالة ص ٢: ٦). وهكذا يقول يوسيفوس اليهودي أيضاً. وقد ذهب القديس إيرونيموس وتبعه البعض إلى أن المراد مدينة في شكيم (يوحنا ٣: ٢٣).

كَاهِنَ ٱللّٰهِ ٱلْعَلِيِّ وصف ثانٍ لملكي صادق. وكان اتحاد الوظيفتين أي المُلك والكهنوت في شخص واحد كثيراً عند الوثنيين. وهكذا كان الأمر عند اليهود على عهد الملوك المكابيين كما ذكر يوسيفوس. وبالنظر إلى هذا الشرف المزدوج قد سمي المسيحيون «كهنوتاً ملوكياً» (١بطرس ٢: ٩) وفي الرؤيا قيل أن المسيح «جعل شعبه ملوكاً وكهنة لله» (رؤيا ١: ٦). وفي كهنوت ملكي صادق أمران جوهريان وهما أنه كهنوت ملوكي وأنه كهنوت أبدي. وقوله «العلي» معناه أن ملكي صادق كان كاهناً حقيقياً للإله الحقيقي خالق السماوات والأرض.

ٱلَّذِي ٱسْتَقْبَلَ إِبْرَاهِيمَ رَاجِعاً أي وهو راجع.

مِنْ كَسْرَةِ ٱلْمُلُوكِ الأربعة (تكوين ١٤: ١٧ – ٢٠).

وَبَارَكَهُ مراد الكاتب إظهار شرف كهنوت ملكي صادق الذي يُرى في أنه بارك إبراهيم أبا المؤمنين وجد لاوي الذي نتج منه ذرية الكهنوت عند اليهود (انظر ع ٧).

٢ « ٱلَّذِي قَسَمَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ عُشْراً مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. ٱلْمُتَرْجَمَ أَوَّلاً «مَلِكَ ٱلْبِرِّ» ثُمَّ أَيْضاً «مَلِكَ سَالِيمَ» أَيْ مَلِكَ ٱلسَّلاَمِ».

ٱلَّذِي قَسَمَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ عُشْراً مِنْ كُلِّ شَيْءٍ اغتنمه من الملوك الأربعة (ع ٤) كما كان يُعطى عُشر الأغلال لقيام خدمة الهيكل. وقد أظهر إبراهيم بذلك إقراره بكون ملكي صادق كاهن الله العلي.

ٱلْمُتَرْجَمَ أَوَّلاً نظراً إلى لقبه ملكي صادق من العبراني.

مَلِكَ ٱلْبِرِّ هذه ترجمة حرفية من اليوناني وهو من العبراني وهذا التركيب من المضاف والمضاف إليه بمعنى الصفة والموصوف وهو كثير في العبراني والعربي. ومن هذا الباب القول إله الرحمة أي الإله الرحيم وإله المجد أي الإله المجيد وقال الشيخ ابن الفارض «آهِ واشوقي لضاحي وجهها» أو لوجهها الضاحي. غير أنه هنا إضافة الصفة للموصوف وفي الآية إضافة الموصوف للصفة إذ المراد «بملك البر» الملك البار.

ثُمَّ يقال له –

أَيْضاً مَلِكَ سَالِيمَ أَيْ مَلِكَ ٱلسَّلاَمِ ترجمة ساليم عن العبراني. وهذا الوصفان أي «البر والسلام» يناسبان المسيح تمام المناسبة مع أننا لا نقول أن الكاتب قصد بذكرها التعليم أنهما رمزان إلى صفات المسيح (انظر مزمور ٧٢: ١ و٢ وإشيعاء ٩: ٧ و٣٢: ١ وإرميا ٢٣: ٥) وهذه الآيات تذكر بر المسيح (وانظر أيضاً إشعياء ٥٣: ١١ وإرميا ٢٣: ٦ ودانيال ٩: ٢٤) وهي آيات تذكر البر المنسوب إلى شعبه. ونتيجة البر هي السلام (انظر مزمور ٧٢: ٣ و٧ وإشعياء ٩: ٥ وزكريا ٩: ٩). ولاحظ أن البر أولاً ثم السلام لأن لا سلام حقيقي إلا السلام المؤسس على البر.

٣ «بِلاَ أَبٍ بِلاَ أُمٍّ بِلاَ نَسَبٍ. لاَ بَدَاءَةَ أَيَّامٍ لَهُ وَلاَ نِهَايَةَ حَيَاةٍ. بَلْ هُوَ مُشَبَّهٌ بِٱبْنِ ٱللّٰهِ. هٰذَا يَبْقَى كَاهِناً إِلَى ٱلأَبَدِ».

بِلاَ أَبٍ بِلاَ أُمٍّ اختلفوا كثيراً في تفسير هذا العبارة من الزمن القديم إلى الآن. والظاهر ليس المراد أنه لم يكن لملكي صادق أب وأم بالحقيقة بل أن كهنوته لم يتصل إليه من أبيه وأمه وسلفائه كما كان الأمر في الكهنوت اللاوي الذي كان محصوراً في نسل لاوي رئيس أحد الأسباط وفي ذرية هارون أخي موسى الذي أقامه الله وذريته لهذه الخدمة. ومما يؤيد ذلك قوله –

بِلاَ نَسَبٍ أي سلف كهنوتي خلفه ملكي صادق في الوظيفة بل إنما أتته من الله رأساً (انظر ع ٦).

لاَ بَدَاءَةَ أَيَّامٍ لَهُ وَلاَ نِهَايَةَ حَيَاةٍ لا يذكر الكتاب ولادته ولا موته.

بَلْ هُوَ مُشَبَّهٌ بِٱبْنِ ٱللّٰه المسيح غير مخلوق ومنذ الأزل وإلى الأبد فالأمر واضح أن لا أحد من بني البشر يقدر أن يشبهه في هذه الأمر ولكن الكاتب ذكر ملكي صادق وجعله رمزاً إلى المسيح لأسباب (١) أنه ملك وكاهن. (٢) أن اسمه واسم مدينته يناسبان صفة البر في المسيح ونتيجة البر أي السلام. (٣) إن عدم ذكر ولادته وموته يناسب كون المسيح غير مخلوق وهو كاهن إلى الأبد. والأمر الجوهري في التشبيه هو دوام كهنوت المسيح.

٤ «ثُمَّ ٱنْظُرُوا مَا أَعْظَمَ هٰذَا ٱلَّذِي أَعْطَاهُ إِبْرَاهِيمُ رَئِيسُ ٱلآبَاءِ عُشْراً أَيْضاً مِنْ رَأْسِ ٱلْغَنَائِمِ».

تكوين ١٤: ٢٠

ثُمَّ حرف للانتقال إلى قول أو معنى جديد.

ٱنْظُرُوا النظر هنا بمعنى التأمل.

مَا أَعْظَمَ في الرتبة والمقام.

هٰذَا أي ملكي صادق.

ٱلَّذِي أَعْطَاهُ إِبْرَاهِيمُ رَئِيسُ ٱلآبَاءِ الاثني عشر الذين كانوا أصل شعب اليهود.

عُشْراً كما كان يُقدم الغلاّت لله على يد الكهنة.

أَيْضاً بحسب وضع الكلمة في العربية يكون المراد أن إبراهيم أعطى ملكي صادق الإكرام الواجب له وأيضاً عشراً من الغنائم وهو المعنى المراد حسب قول المحققين.

مِنْ رَأْسِ ٱلْغَنَائِمِ أي من أفضلها. معنى الكلمة الأصلية «رأس الكومة» فإن ملوك الوثنيين القدماء بعد انتصارهم على أعدائهم كانوا يجمعون الغنيمة في كومة ثم يأخذون ما في رأس الكومة لآلهتهم فكانت بمنزلة تقديم أبكار الأغلال عند العبرانيين. وأما مراد الكاتب من جميع العبارة فتعظيم ملكي صادق وتخفيض مقام إبراهيم بالنسبة إليه بناء على أنه لما كان إبراهيم خليل الله وأصل شعب اليهود وقد أعطى ملكي صادق عشراً فكان ذلك دليلاً على فضل كهنوته على كهنوت اللاويين وإذ كان المسيح على رتبة ملكي صادق في الكهنوت فكان أسمى مقاماً من كهنة اليهود. وكل ذلك ظاهر من الكلام التابع.

٥ «وَأَمَّا ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ بَنِي لاَوِي، ٱلَّذِينَ يَأْخُذُونَ ٱلْكَهَنُوتَ، فَلَهُمْ وَصِيَّةٌ أَنْ يُعَشِّرُوا ٱلشَّعْبَ بِمُقْتَضَى ٱلنَّامُوسِ أَيْ إِخْوَتَهُمْ، مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا مِنْ صُلْبِ إِبْرَاهِيمَ».

عدد ١٨: ٢١ و٢٤ و٢٦

وَأَمَّا ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ بَنِي لاَوِي الكلام ليس على جميع اللاويين بل على الكهنة الذين كانوا من ذرية هارون بدليل قوله –

ٱلَّذِينَ يَأْخُذُونَ ٱلْكَهَنُوتَ أي الذين إذ كانوا من ذريّة هارون قبلوا الوظيفة الكهنوتية الخاصة بهم.

فَلَهُمْ وَصِيَّةٌ من الله.

أَنْ يُعَشِّرُوا يأخذوا عشور أغلال –

ٱلشَّعْبَ بِمُقْتَضَى ٱلنَّامُوسِ (ع ١٨: ٢١).

أَيْ إِخْوَتَهُمْ بني إسرائيل.

مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا مِنْ صُلْبِ إِبْرَاهِيمَ فكانوا مساوين لهم في الجنسية ولكنهم كانوا مكلفين بتقديم العشور لإخوتهم اللاويين. وأما مراد الكاتب في كل ذلك فهو أن أشرف سبط من أسباط اليهود كان أدنى من رتبة ملكي صادق وكان كهنوته أعلى من كهنوتهم.

٦ «وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي لَيْسَ لَهُ نَسَبٌ مِنْهُمْ قَدْ عَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارَكَ ٱلَّذِي لَهُ ٱلْمَوَاعِيدُ!».

تكوين ١٤: ١٩ ورومية ٤: ١٣ وغلاطية ٣: ١٦

وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي لَيْسَ لَهُ نَسَبٌ مِنْهُمْ الكلام على ملكي صادق الذي لم يأخذ الكهنوت عن سلسلة وراثية رأسها هارون بل كهنوته معطى له من الله بدون أن يسلفه أو يخلفه أحد فيه.

قَدْ عَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ أي أخذ العشور منه كما كان يأخذ اللاويون أعشار أغلال الشعب اليهودي (ع ٥).

وَبَارَكَ ٱلَّذِي لَهُ ٱلْمَوَاعِيدُ! أي إبراهيم الذي وعده بمواعيد لم يعد بها أحداً آخر. ومن ذلك يُنتج الكاتب فضل ملكي صادق الذي كان كهنوت المسيح على رتبته.

٧ «وَبِدُونِ كُلِّ مُشَاجَرَةٍ: ٱلأَكْبَرُ يُبَارِكُ ٱلأَصْغَرَ».

وَبِدُونِ كُلِّ مُشَاجَرَةٍ أي بغير أدنى خلاف.

ٱلأَكْبَرُ يُبَارِكُ ٱلأَصْغَرَ لا يطيق اليهود أن ينكروها وبمقتضاها كان ملكي صادق أرفع مقاماً من إبراهيم لأنه كان ملكاً وكاهناً وإبراهيم لم يكن شيئاً من ذلك. هذا وإن الصغر والكبر هنا لا يرجعان إلى أكثر من المقام والرتبة فلا تعرُّض في ذلك إلى التقوى أو إلى مقاصد الله من جهة إبراهيم وذريته. فمن جهة الرتبة الكهنوتية كان ملكي صادق أعلى مقاماً من إبراهيم ولكننا لا نقرأ أنه كان أقرب إلى الله أو أنه تمّت بواسطته مواعيد كريمة كما كان الأمر في إبراهيم الذي جاء منه المسيح وبنسله تباركت شعوب الأرض. قيل في (تكوين ١٤: ١٨) أن ملكي صادق أخرج خبزاً وخمراً ولا نقدر أن نرى في ذلك رمزاً بل هو على سبيل الإضافة فقط.

٨ «وَهُنَا أُنَاسٌ مَائِتُونَ يَأْخُذُونَ عُشْراً، وَأَمَّا هُنَاكَ فَٱلْمَشْهُودُ لَهُ بِأَنَّهُ حَيٌّ».

ص ٥: ٦ و٦: ٢٠

وَهُنَا أُنَاسٌ مَائِتُونَ الخ الكهنة من اللاويين كانوا بشراً فماتوا كما يموت جميع الناس وأما ملكي صادق فالمشهود له بأنه حي أن موته غير مذكور في الكتاب مع أنه مات بلا شك. ولكن جوهر الكلام هو في المرموز إليه وليس في الرمز لأن المسيح هو حي إلى الأبد فيكون كهنوت المسيح أفضل من كهنوت اللاويين. فإذا مات ملكي صادق أو لم يمت لا فرق لأن مدار البحث هو المسيح. فلا نقول إن عدم موته بل عدم ذكر موته مما جعل ملكي صادق رمزاً إلى المسيح.

٩ «حَتَّى أَقُولُ كَلِمَةً: إِنَّ لاَوِي أَيْضاً ٱلآخِذَ ٱلأَعْشَارَ قَدْ عُشِّرَ بِإِبْرَاهِيمَ!».

حَتَّى أَقُولُ كَلِمَةً جملة معترضة لتلطيف المقول أو الاعتذار عنه. وربما يكون المعنى دعوني أقول شيئاً على أسلوبكم.

إِنَّ لاَوِي أَيْضاً ٱلآخِذَ ٱلأَعْشَارَ المراد بلاوي السبط وعلى الخصوص ذرية هارون وكان يأخذ الأعشار من بقية الأسباط.

قَدْ عُشِّرَ بِإِبْرَاهِيمَ أي أُخذ منه لما أعطى إبراهيم ملكي صادق عشراً مما اغتنمه من الملوك الأربعة. وقد يؤخذ على الكاتب هنا أنه يستعمل برهاناً أشبه بالبراهين التلمودية المبنية على الظاهر الحرفي لا على الجوهر المعنوي فمن جملة ما يُرد على ذلك أن صدر العبارة (حتى أقول كلمة) يفيد أن الكاتب لم يقصد بكلامه ما يؤخذ هنا يحتجّ على الأسلوب العبراني وأشار إليه في بداءة القول. ومنهم من يقول بل المعنى صريح وحقيقي أن إبراهيم لاوي عشر لملكي صادق فكان كهنوته أرفع من كهنوت نسل إبراهيم.

١٠ «لأَنَّهُ كَانَ بَعْدُ فِي صُلْبِ أَبِيهِ حِينَ ٱسْتَقْبَلَهُ مَلْكِي صَادِقَ».

لأَنَّهُ أي لاوي الذي الكاتب يقابل كهنوته بكهنوت ملكي صادق.

كَانَ بَعْدُ فِي صُلْبِ أَبِيهِ أي على نوع ما كان موجوداً.

حِينَ ٱسْتَقْبَلَهُ مَلْكِي صَادِقَ عند رجوع إبراهيم من كسرة الملوك الأربعة فكأنّ لاوي أيضاً أعطى عشوراً لملكي صادق. وكثيراً ما يعمل الإنسان ما يُنسب إلى أولاده وهم لم يولدوا بعد كبناء بيت أو بيعه أو الدخول في جنسية أو فعل ما يجب الكرامة أو ما يجلب الهوان على نسله. فيصح القول أن نسل إبراهيم أعطوا الأعشار فيه بالاعتبار الخاص بهذا التشبيه كله إلى أمرين أولهما أن المسيح يستحق أن يكون كاهناً ليس بناء على ما أخذه من السلف بل على ما فيه. وثانيهما أن كهنوت المسيح إلى الأبد وكما أنه لم يأخذه من أناس قبله لا يسلمه لأناس يأتون بعده.

١١ «فَلَوْ كَانَ بِٱلْكَهَنُوتِ ٱللاَّوِيِّ كَمَالٌ إِذِ ٱلشَّعْبُ أَخَذَ ٱلنَّامُوسَ عَلَيْهِ مَاذَا كَانَتِ ٱلْحَاجَةُ بَعْدُ إِلَى أَنْ يَقُومَ كَاهِنٌ آخَرُ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ، وَلاَ يُقَالُ: عَلَى رُتْبَةِ هَارُونَ؟».

غلاطية ٢: ٢١ وع ١٨ و١٩ وص ٨: ٧

فَلَوْ «الفاء» هنا عاطفة لا سببية تدل على انتقال إلى قول جديد بمنزلة ثم. و «لو» حرف امتناع فإن المعنى أنه لما امتنع الكمال بالكهنوت اللاوي لزم قيام كاهن آخر على رتبة جديدة.

كَانَ بِٱلْكَهَنُوتِ ٱللاَّوِيِّ أي الكهنوت الهاروني الذي كان منحصراً في سبط لاوي وإنما تسمى باللاوي وهو الاسم الأعم لأن جميع السبط كان قائماً بخدمة هذا الكهنوت.

كَمَالٌ أي نيل الكمال وقد اختلفوا على معنى الكمال هنا والأرجح فهم الكلمة بحسب استعمالها في ما يلي من هذه الرسالة (قابل ص ٩: ٩ بعدد ١٤) وهو أن في العهد القديم لم يكن في الكهنوت الكفاءة لراحة ضمائر الناس من جهة خطاياهم بل إنما كانت فاعلية ذلك الكهنوت وتلك الذبائح التي كانت مرتبطة به مأخوذة من الكهنوت والذبيحة اللذين تما في عمل المسيح.

إِذِ ٱلشَّعْبُ أَخَذَ ٱلنَّامُوسَ عَلَيْهِ جملة معترضة أي أن الشعب اليهودي أخذ الناموس عن يد الكهنة ومنوطاً بهم بحيث إذا تغيّر الكهنوت تغيّر الناموس أيضاً.

مَاذَا كَانَتِ ٱلْحَاجَةُ بَعْدُ إِلَى أَنْ يَقُومَ كَاهِنٌ آخَرُ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ، وَلاَ يُقَالُ «عَلَى رُتْبَةِ هَارُونَ»؟ أي لو أكمل الكهنوت اللاوي والشريعة المرتبطة به جميع ما يلزم من جهة التطهير من الخطية وتطمين الضمير فلماذا يُقال في المزامير أنه سيقوم كاهن أخر من رتبة أخرى غير رتبة هارون فإنه ذا دليل واضح على أن كهنوت هارون لم يكن كافياً لتتميم جميع المطلوب.

١٢ «لأَنَّهُ إِنْ تَغَيَّرَ ٱلْكَهَنُوتُ فَبِٱلضَّرُورَةِ يَصِيرُ تَغَيُّرٌ لِلنَّامُوسِ أَيْضاً».

لأَنَّهُ إِنْ تَغَيَّرَ ٱلْكَهَنُوتُ فَبِٱلضَّرُورَةِ يَصِيرُ تَغَيُّرٌ لِلنَّامُوسِ أَيْضاً قوله «تغير» في الأصل نُقل والمراد نُقل الكهنوت من ذرية هارون إلى المسيح. ولما ذكر الكاتب في الآية السابقة أن الناموس أتى مع الكهنوت وبه قال هنا أن تغير الكهنوت يوجب تغير الناموس أيضاً. وإنما المراد بالناموس هنا ليس الناموس الأدبي ولكن الناموس الرسمي المعروف بالطقسي الذي كان مرتبطاً بخدمة الكهنة اللاويين وموقوفاً عليهم فإننا الآن نشاهد اليهود تاركين كثيراً من رسومهم وشرائعهم لعدم وجود الكهنة فيهم كالذبائح وغيرها.

١٣ «لأَنَّ ٱلَّذِي يُقَالُ عَنْهُ هٰذَا كَانَ شَرِيكاً فِي سِبْطٍ آخَرَ لَمْ يُلاَزِمْ أَحَدٌ مِنْهُ ٱلْمَذْبَحَ».

لأَنَّ ٱلَّذِي يُقَالُ عَنْهُ هٰذَا وهو المسيح المقول فيه أنه يكون كاهناً على رتبة ملكي صادق.

كَانَ شَرِيكاً فِي سِبْطٍ آخَرَ أي كان من سبط آخر غير سبط لاوي والمراد سبط يهوذا الذي أتى منه المسيح بالجسد.

لَمْ يُلاَزِمْ أَحَدٌ مِنْهُ ٱلْمَذْبَحَ أي لم يخدم أحد من هذا السبط خدمة المذبح أي خدمة الكهنوت.

١٤ «فَإِنَّهُ وَاضِحٌ أَنَّ رَبَّنَا قَدْ طَلَعَ مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا، ٱلَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ عَنْهُ مُوسَى شَيْئاً مِنْ جِهَةِ ٱلْكَهَنُوتِ».

إشعياء ١١: ١ ومتّى ١: ٣ ولوقا ٣: ٣٣ ورومية ١: ٣ ورؤيا ٥: ٥

فَإِنَّهُ وَاضِحٌ أي أنه من المعلوم.

أَنَّ رَبَّنَا يسوع المسيح.

قَدْ طَلَعَ أو خرج.

مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا الذي منه كانت مريم أم المسيح.

ٱلَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ عَنْهُ مُوسَى شَيْئاً مِنْ جِهَةِ ٱلْكَهَنُوتِ بل كان قد حُضر الكهنوت في سبط لاوي وذرّية هارون (عدد ١٨: ٧). ذكر ذلك الكاتب وصمت عن النتيجة على أنها واضحة وهي إذ انتقل الكهنوت من ذرّية هارون وسبط لاوي إلى واحد من سبط يهوذا على رتبة جديدة فقد تغير أيضاً الكهنوت بتمامه والشرائع الكهنوتية معه.

١٥ «وَذٰلِكَ أَكْثَرُ وُضُوحاً أَيْضاً إِنْ كَانَ عَلَى شِبْهِ مَلْكِي صَادِقَ يَقُومُ كَاهِنٌ آخَرُ».

ع ١٢ وأعمال ٢٦: ٨ و٢٣

وَذٰلِكَ أي تغير الكهنوت.

أَكْثَرُ وُضُوحاً أَيْضاً في الآية السابقة ذكر تغيُّر الكهنوت من انتقاله من سبط لاوي إلى سبط يهوذا وفي هذه الآية يذكر هذا التغيُّر من انتقاله من رتبة إلى رتبة أخرى وهو المراد بقوله «أيضاً».

إِنْ كَانَ عَلَى شِبْهِ مَلْكِي صَادِقَ يَقُومُ كَاهِنٌ آخَرُ فإنه بذلك يزيد وضوح أن الكهنوت قد تغيّر لأنه انتقل من جهتين الجهة الأولى السبط والثانية الرتبة.

١٦ «قَدْ صَارَ لَيْسَ بِحَسَبِ نَامُوسِ وَصِيَّةٍ جَسَدِيَّةٍ، بَلْ بِحَسَبِ قُوَّةِ حَيَاةٍ لاَ تَزُولُ».

قَدْ صَارَ أي أُقيم الكاهن المذكور في نهاية الآية السابقة.

لَيْسَ بِحَسَبِ نَامُوسِ وَصِيَّةٍ جَسَدِيَّةٍ الكهنة من نسل هارون وصاروا كهنة لأنهم من نسله وأما المسيح فبحسب قوة حياة لا تزول والمراد بذلك ما يأتي:

(١) إن كهنوت المسيح لا ينتهي كما انتهى كهنوت أبناء هارون عند موتهم لأن المسيح بعد ما قدم نفسه ذبيحة عن الخطايا قام من الأموات وهو الآن عن يمين الله يشفع في شعبه فتدوم هذه الشفاعة حتى يكون جميع شعبه قد خلص فيسلم الملك لله الآب.

(٢) إن في المسيح حياة منذ الأزل وإلى الأبد فلا يمكن الموت أن يسود عليه (أعمال ٢: ٢٤) فحياة المسيح هذه غير المحدودة قوة أيضاً غير محدودة وخدمته للعالم خدمة مؤثرة وللخلاص وهو ينشئ الحياة الروحية في جميع المؤمنين به. وليست هذه الحياة البقاء فقط بل المجد والسعادة وكل ما له قيمة حقيقية في الحياة.

١٧ «لأَنَّهُ يَشْهَدُ أَنَّكَ كَاهِنٌ إِلَى ٱلأَبَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ».

مزمور ١١٠: ٤ وص ٥: ٦ و١٠ و٦: ٢٠

لأَنَّهُ يَشْهَدُ أي الله في الكتب المقدسة والسفر المراد هنا هو المزامير.

أَنَّكَ كَاهِنٌ إِلَى ٱلأَبَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ إثبات لنقل الكهنوت إلى المسيح وتغيُّر الشرائع الكهنوتية بتغيُّر الشخص المقام لها. وأما قوله «إلى الأبد» فإليه يتجه جميع المعنى المراد بذكر الاقتباس من المزامير مرة أخرى وهو تفسير لقوله في الآية السابقة «بحسب قوة حياة لا تزول». فإن الكاتب أراد زوال الكهنوت الأول وعدم زوال كهنوت المسيح. والآن إذ أثبت نقل الكهنوت وتغيّر شرائعه أتى إلى الكلام على عدم كفاءة جميع الشرع القديم لنيل المغفرة وطمأنينة الضمير فإلى لزوم شريعة جديدة روحية توافق حال الإنسان بالنظر إلى أنه خاطئ.

١٨ «فَإِنَّهُ يَصِيرُ إِبْطَالُ ٱلْوَصِيَّةِ ٱلسَّابِقَةِ مِنْ أَجْلِ ضَعْفِهَا وَعَدَمِ نَفْعِهَا».

ع ١٦ ورومية ٨: ٣ وغلاطية ٤: ٩

قد ذكر الكاتب هنا إبطال الشرائع الكهنوتية وسببه وإقامة شريعة أفضل مكانها فقال –

فَإِنَّهُ يَصِيرُ إِبْطَالُ ٱلْوَصِيَّةِ ٱلسَّابِقَةِ كلمة «يصير» هنا ترجمة حرفية عن اليوناني وليس المراد بها أكثر من وقوع الإبطال. وقوله «السابقة» يعنى الشريعة التي سبقت الشريعة المسيحية.

مِنْ أَجْلِ ضَعْفِهَا أي عدم وجود قوة فيها لمحو الخطيئة وتسكين ضمير الخاطئ.

وَعَدَمِ نَفْعِهَا من هذا الوجه لأن لها منافع من غير وجوه ذكرها بولس الرسول في رسالته إلى غلاطية (غلاطية ٣: ١٩ – ٢٤) وفي رسالته الأولى إلى تيموثاوس (١تيموثاوس ١: ٨ و٩) فإن الشريعة الأولى وُضعت ليس لتطهر الإنسان من خطاياه بذات فعلها بل لكونها مرشدة إلى المسيح الذي هو غاية الناموس للبر لكل من يؤمن (رومية ١٠: ٤). وكلام بولس الرسول أكثره في الناموس الأدبي كالوصايا العشر وغيرها. وقوله هنا أن هذه الشريعة تقدر أن تعلّم الإنسان ما يجب عليه وتُظهر له خطيئته لعدم قيامه بالواجبات ولكنها لا تقدر أن تخلص من الخطيئة ولا تقدر أن تغيّر طبيعته الفاسدة المشار إليها بالجسد. وأما كلام كاتب الرسالة إلى العبرانيين فأكثره في الناموس الرمزي وكون الذبائح والفرائض لا تقدر من ذاتها أن تطهّر الإنسان من الخطيئة.

١٩ «إِذِ ٱلنَّامُوسُ لَمْ يُكَمِّلْ شَيْئاً. وَلٰكِنْ يَصِيرُ إِدْخَالُ رَجَاءٍ أَفْضَلَ بِهِ نَقْتَرِبُ إِلَى ٱللّٰهِ».

أعمال ١٣: ٣٩ ورومية ٣: ٢٠ و٢١ و٢٨ و٨: ٣ وغلاطية ٢: ١٦ وص ٩: ٩ وغلاطية ٣: ٢٤ وص ٦: ١٨ و٨: ٦ ورومية ٥: ٢ وأفسس ٢: ١٨ و٣: ١٢ وص ٤: ١٦ و١٠: ١٩

إِذِ للتعليل.

ٱلنَّامُوسُ الرمزي على وجه الإطلاق فإن جميعه كان متعلقاً بالكهنوت ومؤسساً عليه.

لَمْ يُكَمِّلْ شَيْئاً أي أحداً ومعنى «التكميل» هنا التطهير من الخطيئة أو التبرير أو التأهيل لنيل كمال السماء.

وَلٰكِنْ يَصِيرُ إِدْخَالُ مقابلة لقوله في ما سبق «يصير إبطال». والمعنى حدوث الإبطال والإدخال ووقوعهما.

رَجَاءٍ أَفْضَلَ من الرجاء الضعيف الذي كان في العهد القديم.

بِهِ نَقْتَرِبُ إِلَى ٱللّٰهِ عن ثقة لأنه مبني على إعلان رحمة الله على نوع أوضح وعلى ذبيحة المسيح التي يحق أن يُركن إليها. فهذا الرجاء هو الذي يكمل الإنسان – الناموس لم يكمل شيئاً ولكن الرجاء المسيحي الأفضل يكمل الإنسان (انظر تفسير ص ٦: ١٩).

٢٠ «وَعَلَى قَدْرِ مَا إِنَّهُ لَيْسَ بِدُونِ قَسَمٍ».

إثبات آخر لفضل كهوت المسيح على كهنة العهد القديم وذلك أنه صار كاهناً بقسم إلهي خلافاً لهم.

وَعَلَى قَدْرِ مَا إِنَّهُ لَيْسَ بِدُونِ قَسَمٍ تتمة هذه العبارة متضمنة في (ع ٢٢) فيكون التركيب هكذا وعلى قدر ما أنه ليس بدون قسم صار يسوع كاهناً على قدر ذلك قد صار ضامناً لعهد أفضل. وأما (ع ٢١) فمعترض للتفسير. والمراد بالسلبين في العبارة توضيح الإيجاب بمعنى أنه صار كاهناً بقسَم.

٢١ «لأَنَّ أُولَئِكَ بِدُونِ قَسَمٍ قَدْ صَارُوا كَهَنَةً، وَأَمَّا هٰذَا فَبِقَسَمٍ مِنَ ٱلْقَائِلِ لَهُ: أَقْسَمَ ٱلرَّبُّ وَلَنْ يَنْدَمَ، أَنْتَ كَاهِنٌ إِلَى ٱلأَبَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ».

مزمزر ١١٠: ٤

لأَنَّ أُولَئِكَ أي كهنة العهد القديم.

بِدُونِ قَسَمٍ قَدْ صَارُوا كَهَنَةً، وَأَمَّا هٰذَا أي المسيح.

فَبِقَسَمٍ مِنَ ٱلْقَائِلِ لَهُ: أَقْسَمَ ٱلرَّبُّ وَلَنْ يَنْدَمَ، أَنْتَ كَاهِنٌ إِلَى ٱلأَبَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ هنا الأمر الذي يتجه إليه كلام الكاتب وهو أن كهنوت المسيح كان بقسم كما أن ما اتجه إليه كلامه في (ع ١٧) كان أن كهنوت المسيح إلى الأبد. والندم في الآية بمعنى عدم التغيُّر. وعدم القسم للعهد القديم مما يدل على أنه سيتغير ووجود القسم للعهد الجديد يدل على أنه لا يتغيّر.

٢٢ «عَلَى قَدْرِ ذٰلِكَ قَدْ صَارَ يَسُوعُ ضَامِناً لِعَهْدٍ أَفْضَلَ».

ص ٨: ٦ و٩: ١٥ و١٢: ٢٤

عَلَى قَدْرِ ذٰلِكَ هنا الشطر الثاني للآية ٢٠ الذي لا يتم المعنى بدونه. والمراد أنه كما أن كهنوت المسيح كان أفضل من الكهنوت اللاوي لأنه كان بقسَم هكذا العهد الجديد أفضل من القديم والرجاء المبني عليه أفضل من الرجاء المبني على العهد القديم لأن يسوع صار ضامناً له وذلك لأن جميع مواعيد العهد الجديد مبنية على المسيح الذي قد اشتراها لنا بآلامه وموته.

قَدْ صَارَ يَسُوعُ ضَامِناً لِعَهْدٍ أَفْضَلَ من العهد القديم وهو الجديد. الضمانة لله هي بمعنى أن المسيح ضامن لصدق مواعيد الله في إنجيله للخطأة. وأما قوله «عهد» فمعاهدة من الله لتتميم مواعيده.

٢٣ «وَأُولٰئِكَ قَدْ صَارُوا كَهَنَةً كَثِيرِينَ لأَنَّ ٱلْمَوْتَ مَنَعَهُمْ مِنَ ٱلْبَقَاءِ».

بعد أن ذكر الكاتب فضل العهد الجديد على القديم من جهة تثبيت كهنوته بقسم ذكرها هنا فضله من جهة أخرى وهي تغيُّر أشخاص الكهنوت في العهد القديم ودوام شخص الكاهن في الجديد.

وَأُولٰئِكَ أي كهنة العهد القديم.

قَدْ صَارُوا كَهَنَةً كَثِيرِينَ الكلام على رؤساء الكهنة الذين تسموا هنا بالاسم الجنسي للوظيفة الكهنوتية.

لأَنَّ ٱلْمَوْتَ مَنَعَهُمْ الذي كان يصيب كل فرد منهم.

مِنَ ٱلْبَقَاءِ في الوظيفة الكهنوتية فلذلك كان يخلف الواحد منهم الآخر عند الموت لأجل دوام الوظيفة.

٢٤ «وَأَمَّا هٰذَا فَلأَنَّهُ يَبْقَى إِلَى ٱلأَبَدِ، لَهُ كَهَنُوتٌ لاَ يَزُولُ».

وَأَمَّا هٰذَا أي المسيح.

فَلأَنَّهُ يَبْقَى إِلَى ٱلأَبَدِ كاهناً على التقدير الصحيح لأن بقاءه مطلقاً ليس المراد هنا فإن جميع المنتقلين إلى العالم الثاني باقيين في الوجود ومنهم الكهنة أنفسهم الذين يقابل الكاتب المسيح بهم.

لَهُ كَهَنُوتٌ لاَ يَزُولُ أي لا يفرغ إلى غيره كما كان الأمر في رؤساء الكهنة وكهنة العهد القديم الذين تركوا وظيفتهم لغيرهم عند الموت. فلم يبق إذاً في الكنيسة المسيحية كاهن حقيقي غير المسيح الذي لا يزال يمارس وظيفة الكهنوت إلى نهاية العالم.

٢٥ «فَمِنْ ثَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضاً إِلَى ٱلتَّمَامِ ٱلَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ بِهِ إِلَى ٱللّٰهِ، إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ».

رومية ٨: ٣٤ و١تيموثاوس ٢: ٥ وص ٩: ٢٤ و١يوحنا ٢: ١

فَمِنْ ثَمَّ أي لسبب كونه كاهناً أبدياً.

يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضاً من دينونة الخطيئة وعقابها.

إِلَى ٱلتَّمَامِ قد ترجم البعض الأصل اليوناني على الدوام والأصح أن المراد هو الخلاص التام. وأما قوله «يقدر» فمبني على أنه لما كان رئيس الكهنة يدخل إلى قدس الأقداس في الهيكل مرة في السنة لأجل الاستغفار عن نفسه وعن الشعب كان الأَولى أن المسيح الذي دخل إلى السماء نفسها بعد أن قدّم نفسه قرباناً لأجل خطايا العالم يقدر أن يخلص خلاصاً تاماً كاملاً.

ٱلَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ بِهِ إِلَى ٱللّٰهِ أي بواسطته ككاهنهم وشفيعهم. الذين إذ يشعرون بخطاياهم وعدم استحقاقهم يفرّون إلى المسيح وبواسطته إلى مراحم الله لنيل الخلاص.

إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ والمراد هنا كهنوته أي لا يزال ممارساً لهذه الوظيفة بدون انقطاع. وقوله «إذ» تعليل لقوله «يقدر» أي أنه قادر على تخليص الذين يأتون إلى الله بواسطته لأنه لا يزال في الوظيفة الكهنوتية المتوقف عليها الخلاص.

لِيَشْفَعَ فِيهِمْ أي ينوب عنهم ويقوم مقامهم أمام الله ويتوسل لأجلهم ويستغفر لهم وهو المراد بوساطة المسيح عند الله لأجل الخطأة على أننا لا نقدر أن نفهم هذا الأمر العظيم تمام الفهم ولا أن نعبر بألفاظ بشرية عما يجري في السماء. ومن الأمور الجوهرية المذكورة في هذه الرسالة أن المسيح أخذ طبيعتنا البشرية وجُرّب مثلنا في كل شيء فيقدر أن يرثي لضعفاتنا وهو قدّم نفسه مرة ذبيحة عن الخطيئة. وهو ابن الله. ونتيجة شفاعته النعمة عوناً في حينه. ولنا في (يوحنا ١٧) مثال شفاعته وهو على الأرض في الجسد ومنه نقدر أن نفهم شيئاً من أمور شفاعته في السماء.

٢٦ «لأَنَّهُ كَانَ يَلِيقُ بِنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ مِثْلُ هٰذَا، قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ ٱنْفَصَلَ عَنِ ٱلْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ».

أعمال ٢: ٢٧ وص ٤: ١٥ وأفسس ١: ٢٠ و٤: ١٠ وص ٨: ١

في هذه الآية وما يليها يقابل الكاتب المسيح برؤساء الكهنة في العهد القديم ويذكر علة جديدة لفضله عليهم وهي أنهم كانوا معرّضين للخطيئة وهو لم يكن كذلك بل كان قدوساً بريئاً من الخطإ.

لأَنَّهُ كَانَ يَلِيقُ بِنَا المراد هنا كما يستدل من القرينة اللزوم أي أنه كان لازماً لنا.

رَئِيسُ كَهَنَةٍ مِثْلُ هٰذَا الإشارة إلى المسيح. قال سابقاً «كاهن» وهنا «رئيس كهنة» لأن الكلام السابق كان في الصفات التي فيها لا فرق بين الكهنة ورئيس الكهنة وأما الكلام هنا ففي الأعمال المختصة بالوظيفة وفيها فرق بين رئيس الكهنة والكهنة.

قُدُّوسٌ أي طاهر في الباطن والقلب.

بِلاَ شَرٍّ غير مضر لأحد وهي صفة الطهارة أو القداسة أو الاستقامة في الخارج كما أن كلمة «قدوس» تدل على الاستقامة والطهارة الباطنة.

وَلاَ دَنَسٍ الإشارة الأولى في الكلمة هي إلى الطهارة الرمزية حسب الشريعة الموسوية والمراد هنا الخلو من العيب والخطيئة والخطإ فهي مفسرة للكلمتين السابقتين.

قَدِ ٱنْفَصَلَ عَنِ ٱلْخُطَاةِ أي مع أنه عاشرهم وخالطهم لم يشاركهم في الخطيئة بل كان دائماً منفصلاً عنهم في السيرة لأنه لم يظهر منه في كل حياته مرة واحدة ما يقرب من الخطيئة أو ما يشبهها. وفي الجملة المعنى أنه لم يتدنس بواسطة مخالطته للخطأة بل كان دائماً نقياً طاهراً. وقال بعضهم المراد هنا أن المسيح انفصل عن الخطأة عند صعوده إلى السماء فليس عليه الآن تجارب ولا مقاومة كما كان وهو على الأرض في الجسد فلا شيء يعيقه عن إتمام وظيفة رئيس الكهنة.

وَصَارَ أَعْلَى مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ أي رُقي إلى يمين العزة (ص ٢: ٩) لسبب طهارته وليتمم هناك وظيفة رئاسة كهنوته.

٢٧ «ٱلَّذِي لَيْسَ لَهُ ٱضْطِرَارٌ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلُ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ أَنْ يُقَدِّمَ ذَبَائِحَ أَوَّلاً عَنْ خَطَايَا نَفْسِهِ ثُمَّ عَنْ خَطَايَا ٱلشَّعْبِ، لأَنَّهُ فَعَلَ هٰذَا مَرَّةً وَاحِدَةً، إِذْ قَدَّمَ نَفْسَهُ».

لاويين ٩: ٧ و١٦: ٦ و١١ وص ٥: ٣ و٩: ٧ ولاويين ١٦: ١٥ ورومية ٦: ١٠ وص ٩: ١٢ و٢٨ و١٠: ١٢

ٱلَّذِي لَيْسَ لَهُ ٱضْطِرَارٌ الكلام على المسيح والمراد أنه لما كان بريئاً من الخطيئة والخطإ لم يكن محتاجاً أو مضطراً إلى تقديم ذبيحة عن نفسه.

كُلَّ يَوْمٍ مِثْلُ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ قد اختلفوا كثيراً على معنى قوله «كل يوم» لأن المشهور أن رؤساء الكهنة لم يقدموا ذبيحة مشتهرة إلا مرة في السنة وهنا يقول كل يوم فتفسيراً لذلك قال بعهضم قوله كل يوم متعلق بالمسيح والمعنى لم يكن المسيح مضطراً لتقديم ذبيحة كل يوم كما كانت تفعل رؤساء الكهنة كل سنة. وقال غيرهم بل كان رئيس الكهنة يقدم ذبائح يومية ما عدا الذبيحة السنوية ويظنون أنهم يرون أثراً لذلك في التوراة ويستشهدون قول فيلو اليهودي الذي كان معاصراً للرسل وهذه عبارته «ورئيس الكهنة بحسب الشرائع يقدم طلبات وذبائح يومية». وقال آخرون المراد برؤساء الكهنة عموم الكهنة الذين كانوا يقدمون ذبائح يومية (خروج ٢٩: ٣٨ – ٤٢).

أَنْ يُقَدِّمَ ذَبَائِحَ أَوَّلاً عَنْ خَطَايَا نَفْسِهِ ثُمَّ عَنْ خَطَايَا ٱلشَّعْبِ كما كان يفعل رئيس الكهنة عند اليهود.

لأَنَّهُ فَعَلَ هٰذَا مَرَّةً وَاحِدَةً، إِذْ قَدَّمَ نَفْسَهُ عن خطايا الشعب. وقوله «مرة واحدة» لا يسمح بتكرار أو إعادة للذبيحة مطلقاً.

٢٨ «فَإِنَّ ٱلنَّامُوسَ يُقِيمُ أُنَاساً بِهِمْ ضَعْفٌ رُؤَسَاءَ كَهَنَةٍ. وَأَمَّا كَلِمَةُ ٱلْقَسَمِ ٱلَّتِي بَعْدَ ٱلنَّامُوسِ فَتُقِيمُ ٱبْناً مُكَمَّلاً إِلَى ٱلأَبَدِ».

ص ٥: ١ و٢ ص ٢: ١٠ و٥: ٩

فَإِنَّ ٱلنَّامُوسَ الموسوي.

يُقِيمُ أُنَاساً بِهِمْ ضَعْفٌ رُؤَسَاءَ كَهَنَةٍ المراد بالضعف هنا الضعف الأدبي أي الميل إلى السقوط في الخطيئة.

وَأَمَّا كَلِمَةُ ٱلْقَسَمِ (مزمور ١١٠: ٤).

ٱلَّتِي بَعْدَ ٱلنَّامُوسِ نظراً إلى الزمان.

فَتُقِيمُ لرئاسة الكهنوت.

ٱبْناً هو ابن الله الطاهر والأشرف من جميع رؤساء كهنة العهد القديم.

مُكَمَّلاً أي ممجداً وفوق كل عيب.

إِلَى ٱلأَبَدِ أي كهنوته بلا نهاية بمعنى أنه لا يعقبه أحد فيه كما كان الأمر عند اليهود في العهد القديم.

فوائد

  1. الإشارة والرموز في العهد القديم التي كانت تدل على رئيس كهنة العهد الجديد كثيرة جداً ويظهر منها الفضل العظيم الذي لابن الله على جميع الكهنوت القديم.
  2. إنه لما كان المسيح الكاهن العظيم الحي إلى الأبد بطل الكهنوت الموسوي الذي كان يشير إليه واستحال وجود كهنوت آخر في الكنيسة المسيحية. ولما كانت ذبيحته كافية للوفاء عن خطايا العالم وتقدمت مرة واحدة فقط لم تمكن إعادتها بنوع من الأنواع. وأما قول الذين يزعمون أن في العشاء السري ذبيحة تُقدم عن الأحياء والأموات وأنها نفس الذبيحة التي قدمها المسيح على الصليب وتذكارها معاً وأنها تُقدم مراراً لا تحصى كل يوم وأن الذبيحة الأصلية كانت استغفارية فدائية وذبيحة القداس موصلة للبشر ما حصل من فوائد تلك الذبيحة فمن الأقوال المنافية لنص الكتاب منافاة محضة بل هو من باب التخليط الذي يخفي ما لا معنى له تحت ستر كلام العلم والفلسفة الكاذبة.
  3. إنه ليس لأسقف رومية شيء من الحق بتسميته نفسه الحبر الأعظم فإن ذلك اختلاس صريح للقب اختص بالمسيح بعد ظهوره على الأرض. وبما أنه حي أبداً فليس له خليفة يخلفه كما كان الأمر في العهد القديم لا في الاسم ولا في الوظيفة.
  4. إنه لما صار المسيح ضامناً للعهد الجديد وشفيعاً في الخطأة تيسر لهم الاقتراب إلى عرش النعمة بكل ثقة وطمأنينة فغاية ما يطلب منهم هو التوبة عن خطاياهم والإيمان بمواعيد الله الصادقة والاتكال على دم المسيح واتباع خطوات ذلك الذي لم يفعل خطيئة ولا وُجد في فمه مكر الذي كان قدوساً بلا شر ولا دنس منفصلاً عن الخطأة.
  5. إن يسوع يقدر أن يخلص إلى التمام أي من جميع الخطايا مهما كانت كثيرة وعظيمة وجميع الناس البرابرة والمتمدنين في جميع الأماكن ومن جميع الأجناس وفي كل العصور ومن جميع عواقب الخطيئة فلا شيء من الدينونة على الذين هم في المسيح يسوع لا في جهنم ولا في المسمى مطهراً ولا يُطلب من الإنسان شيء من الأعمال أو من الآلام على سبيل الكفارة لخطاياه.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى