العبرانيين

الرسالة إلى العبرانيين | 05 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح الرسالة إلى العبرانيين

للدكتور . وليم إدي

اَلأَصْحَاحُ ٱلْخَامِسُ

بعد أن قابل الكاتب المسيح بالملائكة (ص ١ و٢) وبموسى (ص ٣) وأظهر فضله عليهم جميعاً وذكر في معرض الكلام نصائح كثيرة ذكر في نهاية الأصحاح الذي سبق (ص ٤) إن المسيح رئيس كهنة عظيم فشرع حينئذ في المقابلة بينه وبين كهنة العهد القديم وإظهار فضله عليهم وهذا الكلام يشغل أكثر الرسالة إلى (ص ١٠).

وفي هذا الأصحاح يذكر الكاتب أن رئيس الكهنة في الرتبة اللاوية كان يؤخذ من الناس للقيام بخدمة الله ولا سيما تقديم القرابين والذبائح عن الناس (ع ١). وإذ هو منهم كان يشاركهم في الضعف الإنساني ويقدر أن يترفق بهم (ع ٢). ولذلك كان محتاجاً إلى تقديم الذبيحة عن نفسه كما عن الشعب (ع ٣). ولكن هذه الوظيفة لم يأخذها الإنسان من نفسه بل بدعوة من الله كما دعي هرون وذريته إليها (ع ٤) هكذا المسيح أُقيم لهذه الرتبة من الله (ع ٥ و٦). والتزم فيها التأنس ليكون إنساناً ومشاركاً للإنسان في ضعفه حتى لما كان في الجسد كان معرضاً للتجارب والضيقات كما تشهد صلواته لأجل النجاة ونجاته (ع ٧). ومع أنه كان ابن الله تعلّم الطاعة مما احتمله من الصعوبات لكي يترفق بالذين يطلبون مساعدته على طاعة الله (ع ٨ و٩) ودعوته إلى هذه الوظيفة كانت على رتبة ملكي صادق لا على رتبة هارون (ع ١٠). ثم يلتفت الكاتب إلى الذين كتب لهم ويوبخهم على عدم تقدمهم في المعرفة حتى صار يصعب عليه التكلم لضعف فهمهم الذي يشبه فهم الأطفال لا البالغين وهكذا إلى نهاية الأصحاح (ع ١١ – ١٤).

١ «لأَنَّ كُلَّ رَئِيسِ كَهَنَةٍ مَأْخُوذٍ مِنَ ٱلنَّاسِ يُقَامُ لأَجْلِ ٱلنَّاسِ فِي مَا لِلّٰهِ، لِكَيْ يُقَدِّمَ قَرَابِينَ وَذَبَائِحَ عَنِ ٱلْخَطَايَا».

ص ٢: ١٧ وص ٨: ٣ و٤ و٩: ٩ و١٠: ١١ و١١: ١٤

في هذه الآية وما يليها إلى ع ٤ يتكلم الكاتب في ما يتعلق بتعيين رئيس الكهنة وواجبات وظيفته وأهليته لخدمته وقصد بذلك أن يُظهر في الآيات التابعة أن جميع الأوصاف المطلوبة قد تمت في المسيح الكاهن الحقيقي الذي كان كهنة العهد القديم رمزاً إليه.

لأَنَّ الكلمة الأصلية تفيد السبب لما تقدم (ص ٤: ١٤) كما يُفهم من العربية.

كُلَّ رَئِيسِ كَهَنَةٍ مَأْخُوذٍ مِنَ ٱلنَّاسِ أي لما كان مأخوذاً من الناس وهو الشرط الأول في وظيفته.

يُقَامُ أي يُعين أو يُنصب.

لأَجْلِ ٱلنَّاسِ أي ليقوم مقامهم.

فِي مَا لِلّٰهِ معنى «ما» الموصولة هنا أنواع الخدمة المشهورة التي يطلبها الله من شعبه.

لِكَيْ يُقَدِّمَ قَرَابِينَ وَذَبَائِحَ عَنِ ٱلْخَطَايَا هذه كانت أخصّ الخدمة التي كان يقوم بها رئيس الكهنة عوضاً عن الشعب أمام الله. معنى «القرابين» التقدمات الشكرية التي كان يقدمها الشعب في أزمنة مختلفة بحسب ترتيب الشريعة الموسوية. وتُستعمل أحياناً بمعنى أعم فيدخل فيها الذبائح عن الخطية أيضاً ولكن لما ذُكرت الذبائح هنا على حدتها اقتصرت على معناها الأخص. وأما الذبائح فكانت حيوانات معلومة تُذبح لأجل الخطايا. فكان الكاهن في قيامه بهذه الخدمة نائباً عن الشعب أمام الله ووسيطاً بينه تعالى وبينهم وسيأتي التفصيل في ذلك في الجزء التابع من الرسالة.

٢ «قَادِراً أَنْ يَتَرَفَّقَ بِٱلْجُهَّالِ وَٱلضَّالِّينَ، إِذْ هُوَ أَيْضاً مُحَاطٌ بِٱلضُّعْفِ».

ص ٢: ١٨ و٤: ١٥ وص ٧: ٢٨

قَادِراً أَنْ يَتَرَفَّقَ اختلف فلاسفة اليونانيين في كيف يجب أن تكون انفعالات الإنسان بالنظر إلى أفراح وأحزان الدنيا فقال فرقة منهم يجب أن يكون بلا حس وغير مبال بما يحدث. وقال غيرهم وهم أتباع أفلاطون ومنهم أرسطوطاليس بل يجب أن يكون إحساسه معتدلاً لا مفقوداً. فالكلمة التي كان يستعملها هذه الفرقة من الفلاسفة هي الكلمة المستعملة هنا أي أنه يجب أن يكون الكاهن المقام عن الشعب قادراً أن يرثي لضعفهم وأن يعاملهم باللطف لا بالشدة فإذا لم يكن كذلك لا يكون أهلاً لخدمته عنهم في ما لله.

بِٱلْجُهَّالِ وَٱلضَّالِّينَ يحتمل أن يكون المعنى الذين يضلون بغير معرفة لأنه كثيراً ما تُعطف كلمة على كلمة عند العبرانيين ويكون المراد بالعطف الوصف ومما يؤيد ذلك القول الكثير في العهد القديم على الذين يخطئون بجهالة أي بغير معرفة كافية بالشريعة أو بعدم الانتباه لها (لاويين ٤: ١). وقد يكون المعنى ما هو ظاهر من قوله «الجهال» بمعنى الأغبياء عن صوالحهم الحقيقية في طاعة الله والضالين عن سبل البر والاستقامة. وأما من خطئ عمداً وازدرى بالرب فليس له قربان ولا ذبيحة فتكون خطيئته كخطيئة التجديف على الروح القدس لا تُغفر (عدد ١٥: ٣٠ و٣١ ومتّى ١٢: ٣١ و٣٢).

إِذْ هُوَ أَيْضاً مُحَاطٌ بِٱلضُّعْفِ أي أن رئيس الكهنة إنسان كغيره من البشر فيكون بالضرورة معرضاً للتجارب والسقوط وقادراً أن يترفق بالضعفاء.

٣ «وَلِهٰذَا ٱلضَّعْفِ يَلْتَزِمُ أَنَّهُ كَمَا يُقَدِّمُ عَنِ ٱلْخَطَايَا لأَجْلِ ٱلشَّعْبِ هٰكَذَا أَيْضاً لأَجْلِ نَفْسِهِ».

لاويين ٤: ٤ و٩: ٧ و١٦: ٦ و١٥ إلى ١٧ وص ٧: ٢٧ و٩: ٧

وَلِهٰذَا ٱلضَّعْفِ الذي كان رئيس الكهنة محاطاً به.

يَلْتَزِمُ بمقتضى الشريعة والضمير لأنه خاطئ.

أَنَّهُ كَمَا يُقَدِّمُ الكلمة الأصلية كالعبرانية تفيد جميع أنواع التقدمات لله كالقرابين والذبائح كما مر (ع ١). ومفعولها مقدّر وتقديره التقدمات.

عَنِ ٱلْخَطَايَا لأَجْلِ ٱلشَّعْبِ هٰكَذَا أَيْضاً لأَجْلِ نَفْسِهِ لأنه خاطئ مثلهم. وقد أظهر الكاتب فضل المسيح عليهم من هذا القبيل في (ص ٧: ٢٦ – ٢٨) فإنه كان بلا شر ولا دنس غير محتاج إلى ذبيحة عن نفسه.

٤ «وَلاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ هٰذِهِ ٱلْوَظِيفَةَ بِنَفْسِهِ، بَلِ ٱلْمَدْعُوُّ مِنَ ٱللّٰهِ، كَمَا هَارُونُ أَيْضاً».

أيوب ٢٦: ١٨ ويوحنا ٢: ٢٧ وخروج ٢٨: ١ وعدد ١٦: ٥ و٤٠ و١أيام ٢٣: ١٣

وَلاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ هٰذِهِ ٱلْوَظِيفَةَ أي وظيفة الكهنوت.

بِنَفْسِهِ أي من تلقاء ذاته كما فعل قورح وداثان وإبيرام فهلكوا (عدد ص ١٦).

بَلِ ٱلْمَدْعُوُّ مِنَ ٱللّٰهِ، كَمَا هَارُونُ أَيْضاً الذي اختاره الله ونسله ليكونوا كهنة له (خروج ٢٨: ١). وهكذا في رتبة العهد الجديد لا يجوز لأي كان أن يقتحم خدمة الإنجيل بل الذي دعاه الله بفعل نعمته وتأهيله للخدمة وعنايته في الأحوال الخارجة التي تجعل طريق الإنسان واضحاً لهذه الخدمة السامية. وإنما مراد الكاتب هنا ليس هذا الأمر بل وجود الأوصاف التي ذكرها آنفاً من جهة كهنة اليهود في المسيح على ما سيأتي.

٥ «كَذٰلِكَ ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً لَمْ يُمَجِّدْ نَفْسَهُ لِيَصِيرَ رَئِيسَ كَهَنَةٍ، بَلِ ٱلَّذِي قَالَ لَهُ: أَنْتَ ٱبْنِي أَنَا ٱلْيَوْمَ وَلَدْتُكَ».

يوحنا ٨: ٥٤ ومزمور ٢: ٧ وص ١: ٥

كَذٰلِكَ أي كما أنه في العهد القديم لم يدعُ أحدٌ نفسه لرئاسة الكهنوت بل كان الأمر منوطاً بالله الذي دعا هارون ونسله هكذا –

ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً لَمْ يُمَجِّدْ نَفْسَهُ لِيَصِيرَ رَئِيسَ كَهَنَةٍ في أنه دعا نفسه إلى هذه الوظيفة.

بَلِ الذي دعاه إليها ومجده فيها هو الله.

ٱلَّذِي قَالَ لَهُ: أَنْتَ ٱبْنِي أَنَا ٱلْيَوْمَ وَلَدْتُكَ اقتباس من (مزمور ٢) وهو يشير إلى تأنسه لا إلى ولادته الأزلية (راجع تفسير ص ١: ٥) والمراد أن المسيح صار إنساناً ليصير رئيس كهنة ويقدم نفسه ذبيحة عن الخطايا.

٦ «كَمَا يَقُولُ أَيْضاً فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنْتَ كَاهِنٌ إِلَى ٱلأَبَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ».

مزمور ١١٠: ٤ وص ٧: ١٧ و٢١

كَمَا يَقُولُ أَيْضاً فِي مَوْضِعٍ آخَرَ من المزامير (مزمور ١١٠: ٤) وهذا المزمور يشير على ما ذهب جمهور المفسرين من المسيحيين واليهود إلى المسيح.

أَنْتَ كَاهِنٌ لم يقل رئيس كهنة لأن الرتبة التي صار فيها كاهناً كانت أعظم من رئاسة الكهنوت في الرتبة اللاوية كما سيأتي.

إِلَى ٱلأَبَدِ أي بدون نهاية لكهنوته (ص ٧: ٣ و٢٤) غير أن الكلام هنا مجازي لأن كهنوت المسيح ينتهي عند نهاية العالم والخطيئة ولزوم الذبيحة والاستغفار (١كورنثوس ١٥: ٢٤ – ٢٨) فعند ذلك ينتهي مُلك المسيح من حيث هو وسيط بين الله والناس.

عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ أي على شكل وظيفة ملكي صادق وسيأتي الكلام على ذلك مفصلاً في (ص ٧) أو على مقام ملكي صادق الأرفع من مقام الرتبة اللاوية فإن الكاتب يذكر ما سيأتي المعنيين. أثبت الكاتب في الآيتين السابقتين أن المسيح أُقيم للكهنوت من الله كما أقيم هارون في العهد القديم. وذكر أن رتبته لم تكن كرتبة هارون ولكن كرتبة ملكي صادق وسيرجع إلى الكلام على هذا. وأما في الآيات الثلاث الآتية فيذكر أهلية المسيح لهذه الوظيفة بالنظر إلى مشاركته للإنسان في الطبيعة الإنسانية كما كان يقدر رئيس الكهنة في الرتبة اللاوية أن يترفق بالجهال والضالين إذ هو أيضاً محاط بالضعف (ع ٢).

٧ «ٱلَّذِي، فِي أَيَّامِ جَسَدِهِ، إِذْ قَدَّمَ بِصُرَاخٍ شَدِيدٍ وَدُمُوعٍ طِلْبَاتٍ وَتَضَرُّعَاتٍ لِلْقَادِرِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ ٱلْمَوْتِ، وَسُمِعَ لَهُ مِنْ أَجْلِ تَقْوَاهُ».

مزمور ٢٢: ١ ومتّى ٢٧: ٤٦ و٥٠ ومرقس ١٥: ٣٤ و٣٧ متّى ٢٦: ٣٩ و٤٢ و٤٤ ومرقس ١٤: ٣٦ و٣٩ ويوحنا ١٧: ١ متّى ٢٦: ٥٣ ولوقا ٢٢: ٤٢ و٤٣ ويوحنا ١٢: ٢٧

ٱلَّذِي أي المسيح.

فِي أَيَّامِ أو زمان.

جَسَدِهِ أي تجسُّده لما كان معرضاً لأسواء وتجارب الطبيعة الإنسانية.

إِذْ ظرفية والمراد بها زمان التجسد.

قَدَّمَ بِصُرَاخٍ شَدِيدٍ وَدُمُوعٍ الإشارة إلى ما يظهر إلى ليلة جثسيماني.

طِلْبَاتٍ وَتَضَرُّعَاتٍ بعضهم يميز بين الكلمتين في المعنى وليس ذلك ظاهراً وربما لم يُرد من التكرار إلا تقرير المعنى فيُعبر عنهما بقولنا طلبات حارة جداً.

لِلْقَادِرِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ ٱلْمَوْتِ أي الله الذي بيده الحياة والموت. ومن هذه العبارة يظهر موضوع طلب المسيح وصلواته وهو الخلاص من الموت بدليل قوله «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هٰذِهِ ٱلْكَأْسُ» (متّى ٢٦: ٣٩).

وَسُمِعَ لَهُ أي أجاب الله طلباته ولكنهم اختلفوا في كيفية ذلك. فقال بعضهم أن المسيح طلب الخلاص من الموت فاستجابه الله لما أقامه من الموت أو لما أعانه في أهوال الموت. وقال غيرهم أن المسيح كان خائفاً من الموت فاستجابه في أنه أزال الخوف منه. والذين يقولون بالتفسير الثاني لا يتبعون الترجمة العربية في قوله –

مِنْ أَجْلِ تَقْوَاهُ بل يترجمونها بالنظر إلى خوفه لأننا نرى المسيح مضطرباً جداً بالنظر إلى ما كان أمامه من الموت وأحواله التي منها ما يمكننا ومنها ما لا يمكننا أن نفهمه فطلب الخلاص من هذه الكأس مع التسليم إذ قال «ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت» فسمع الله له ليس على شكل أنه خلّصه من الكأس ولكن في أنه أزال ذلك الاضطراب والخوف منه فإننا بعد تلك الصلاة في البستان نراه قابل المحاكمة ثم الصلب والموت بكل جراءة وشجاعة إلا دقيقة واحدة لما صرخ قائلاً «أَيْ: إِلٰهِي إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟» (متّى ٢٧: ٤٦). ويجب أن يكون التفسير هنا بكل تواضع ليس لأن الموضوع من أسمى ما يكون بل لأنه كان في أحوال ذلك اليوم الأخير من حياة المخلص على الأرض ما لا يستطيع الإنسان أن يفهمه والترجمة العربية هنا توافق تفسير أكثر المفسرين.

٨ «مَعَ كَوْنِهِ ٱبْناً تَعَلَّمَ ٱلطَّاعَةَ مِمَّا تَأَلَّمَ بِهِ».

ص ٣: ٦ وفيلبي ٢: ٨

مَعَ كَوْنِهِ ٱبْناً تَعَلَّمَ ٱلطَّاعَةَ مِمَّا تَأَلَّمَ بِهِ أي ولئن كان ابن الله فقد تعلّم الطاعة في الشدائد مختبراً ذلك عند آلامه ولا سيما الأخيرة. فيكون معنى جميع العبارة أن المسيح لما كان في الجسد وقع في ضيقات وتجارب مختلفة فقدم لله طلبات حارة لكي تعبر عنه إذا أمكن هذه الكأس فسمع له لما خلّصه من مضض الموت وعلى ذلك تعلّم الطاعة في وسط آلامه واختباره بالفعل مرارة التجارب والضيقات. وصار من الناس كرئيس الكهنة في العهد القديم قادراً أن يرثي للذين هم معرضون للتجارب والمحن المختلفة لأنه ذاقها وعرفها وتعلّم الطاعة فيها.

٩ «وَإِذْ كُمِّلَ صَارَ لِجَمِيعِ ٱلَّذِينَ يُطِيعُونَهُ سَبَبَ خَلاَصٍ أَبَدِيٍّ».

ص ٢: ١٠ و١١: ٤٠

وَإِذْ كُمِّلَ تكلم في الآية السابقة في أيام جسده وهنا يتكلم في حال مجده لما قام من الموت وصعد إلى السماء وقد مرّ الكلام على هذه الكلمة في (ص ٢: ١٠) بمعنى ارتفاع المسيح بعد اتضاعه أي ارتفاعه في السماء وتمجيده بعد اتضاعه على الأرض.

صَارَ لِجَمِيعِ ٱلَّذِينَ يُطِيعُونَهُ الطاعة المقرونة بالإيمان.

سَبَبَ خَلاَصٍ أَبَدِيٍّ أي حصّل لهم هذا الخلاص غير أنه خلاص من الموت الأبدي لا الموت الزمني على أنه يخلص شعبه من خوف الموت الزمني أيضاً.

١٠ «مَدْعُوّاً مِنَ ٱللّٰهِ رَئِيسَ كَهَنَةٍ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ».

ع ٦ وص ٦: ٢٠

مَدْعُوّاً مِنَ ٱللّٰهِ كان معيّناً كاهناً من الله كما سبق الكلام (ع ٥) ولكن المراد هنا أي الله خاطبه باعتبار كونه كاهناً كما يستدل من الكلمة الأصلية.

رَئِيسَ كَهَنَةٍ حسب الترجمة السبعينية. والكلمة التي كان استعملها في (ع ٦) أي كاهن كان حقها أن تقال هنا ولكن لما كانت الكلمة الأصلية في العبراني تحتمل المعنين جاز ترجمتها إلى اليونانية ثم إلى العربية «برئيس كهنة».

عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ هذه الآية مكرر قول سابق (ع ٦) لأنه الموضوع الذي قصد الكاتب أن يتكلم فيه وهو يرجع إليه بالتفصيل في (ص ٧) وعدل عنه الآن لأجل توبيخ العبرانيين على عدم تقدمهم في المعرفة لأجل إدراك المعاني التي يتضمنها هذا الموضوع.

١١ «اَلَّذِي مِنْ جِهَتِهِ ٱلْكَلاَمُ كَثِيرٌ عِنْدَنَا، وَعَسِرُ ٱلتَّفْسِيرِ لِنَنْطِقَ بِهِ، إِذْ قَدْ صِرْتُمْ مُتَبَاطِئِي ٱلْمَسَامِعِ».

يوحنا ١٦: ١٢ و٢بطرس ٣: ١٦ ومتّى ١٣: ١٥

اَلَّذِي مِنْ جِهَتِهِ الضمير يعود إلى المسيح والكلام فيه هو بالنظر إلى كونه رئيس كهنة على رتبة ملكي صادق.

ٱلْكَلاَمُ كَثِيرٌ عِنْدَنَا أي لنا كلام كثير في هذا الشأن.

وَعَسِرُ ٱلتَّفْسِيرِ أي صعب التوضبح وذلك ليس لسمو الموضوع فقط ولكن على الخصوص لعدم إدراك المخاطبين.

لِنَنْطِقَ بِهِ حتى تفهموه.

إِذْ قَدْ صِرْتُمْ مُتَبَاطِئِي ٱلْمَسَامِعِ أي صرتم بطيئي الفهم لأنه كثيراً ما يأتي معنى السمع كذلك.

١٢ «لأَنَّكُمْ إِذْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ لِسَبَبِ طُولِ ٱلزَّمَانِ، تَحْتَاجُونَ أَنْ يُعَلِّمَكُمْ أَحَدٌ مَا هِيَ أَرْكَانُ بَدَاءَةِ أَقْوَالِ ٱللّٰهِ، وَصِرْتُمْ مُحْتَاجِينَ إِلَى ٱللَّبَنِ لاَ إِلَى طَعَامٍ قَوِيٍّ».

ص ٦: ١ و١كورنثوس ٣: ١ – ٣

لأَنَّكُمْ تعليل لقوله أنهم كانوا بطيئي الفهم.

إِذْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ قادرين أن تعلموا غيركم الديانة المسيحية.

لِسَبَبِ طُولِ ٱلزَّمَانِ الذي مرّ عليكم في اتباعكم لها.

تَحْتَاجُونَ أَنْ يُعَلِّمَكُمْ أَحَدٌ مَا هِيَ أَرْكَانُ بَدَاءَةِ الأصول الأولية التي لا يسبقها شيء. وفي بعض النسخ «يعلمكم أحد أركان بداءة» الخ.

أَقْوَالِ ٱللّٰهِ تعاليمه المعلنة.

وَصِرْتُمْ مُحْتَاجِينَ إِلَى ٱللَّبَنِ لاَ إِلَى طَعَامٍ قَوِيٍّ أي كما أن الأطفال يغتذون باللبن ولا يستطيعون أن يتناولوا طعاماً أقوى هكذا أنتم في الأمور الروحية لا تفهمون منها إلا أصولها الأولية فلا تستطيعون أن تفهموا معانيها العالية أو الغامضة لأنكم بمنزلة الأطفال في عدم استطاعتهم للتغذية والقوت بغير اللبن.

١٣ «لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَتَنَاوَلُ ٱللَّبَنَ هُوَ عَدِيمُ ٱلْخِبْرَةِ فِي كَلاَمِ ٱلْبِرِّ لأَنَّهُ طِفْلٌ».

١كورنثوس ١٣: ١١ و١٤: ٢٠ وأفسس ٤: ١٤ و١بطرس ٢: ٢

لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَتَنَاوَلُ ٱللَّبَنَ اتباع لتشبيهه السابق من جهة كونهم كالأطفال الذين لا يدركون إلا أبسط الحقائق وأصولها الأولية.

هُوَ عَدِيمُ ٱلْخِبْرَةِ عديم الاستطاعة الكافية أو الخبرة بالشيء حتى ينتج من ذلك عدم فهمه بالكفاية لأجل التصرف أو النفع به.

فِي كَلاَمِ ٱلْبِرِّ أي تعاليم الديانة المسيحية التي تعلم الطاعة وطريقة التبرير بنعمة الله المجانية بواسطة المسيح.

لأَنَّهُ طِفْلٌ عديم المعرفة الكافية لفهم المطلوب.

١٤ «وَأَمَّا ٱلطَّعَامُ ٱلْقَوِيُّ فَلِلْبَالِغِينَ، ٱلَّذِينَ بِسَبَبِ ٱلتَّمَرُّنِ قَدْ صَارَتْ لَـهُمُ ٱلْحَوَاسُّ مُدَرَّبَةً عَلَى ٱلتَّمْيِيزِ بَيْنَ ٱلْخَيْرِ وَٱلشَّرِّ».

١كورنثوس ٢: ٦ وأفسس ٤: ١٣ وفيلبي ٣: ١٥ وإشعياء ٧: ١٥ و١كورنثوس ٢: ١٤ و١٥

وَأَمَّا ٱلطَّعَامُ ٱلْقَوِيُّ فَلِلْبَالِغِينَ الذين بلغوا أشدهم في النمو فيستطيعون أن يدركوا التعاليم السامية ويستفيدوا منها.

ٱلَّذِينَ بِسَبَبِ ٱلتَّمَرُّنِ الكلام راجع للبالغين في النمو الجسدي ومعناه معاطاة التعاليم الروحية واختبارهم إياها في حياتهم المسيحية السرّية.

قَدْ صَارَتْ لَـهُمُ ٱلْحَوَاسُّ هي الحواس الجسدية المشهورة بالخمس غير أن المراد هنا هو الإحساس النفساني الباطني في المسيحي.

مُدَرَّبَةً أي ماهرة مستقيمة نظراً إلى خبرتهم بالأمور الروحية.

عَلَى ٱلتَّمْيِيزِ بَيْنَ ٱلْخَيْرِ وَٱلشَّرِّ العبارة منقولة عن اصطلاح عبراني في العهد القديم والمراد هنا ليس الوضع الأصلي الذي يتعلق بأوائل المعرفة الروحية ولكن بحالة متقدمة في المعرفة والخبرة المسيحية كما يظهر من مراجعة ما يقتضيه سياق الكلام.

فوائد

  1. إنه يجب على جميع خدمة الدين أن يكونوا رحماء يرثون لضعف الخطاة وجهلهم وضلالهم ويترفقون بهم. فإن كهنة العهد القديم كانوا محاطين بالضعف كغيرهم والمسيح شارك البشر في طبيعتهم لكي يختبر ضعفهم فيجترئوا على التقدم إليه وطلب الرحمة والمعونة منه. فلا يجوز لخدمة العهد الجديد أن يكونوا أقل رفقاً فيعاملوا الساقطين بالقساوة لأنهم هم أيضاً ضعفاء معرضون للسقوط وخطأة في عيني الله.
  2. إنه لما أطاع المسيح الشريعة في ناسوته في الآلام الشديدة علّمنا كيف نطيع الله في وسط الشدائد والمصائب التي كثيراً ما تحدث لنا وإننا لا نستطيع أن نتعلم أفضل أنواع الطاعة إلا في الاحتمال للمصائب التي تأتينا. هذا وإن الطاعة لله من أخص فرائض الديانة التي لا نستطيع أن نرضيه تعالى بدونها.
  3. إنه كثيراً ما يبقى المسيحي في حال الضعف وعدم المعرفة زماناً طويلاً وربما بقي كذلك إلى زمن موته فلا يتقدم نحو الكمال المسيحي بل يدوم كالطفل ويحتاج إلى تكرير مبادئ الديانة المسيحية الأولى. ولذلك يجب على خدَمة الإنجيل أن لا يملوا من الإنذار الدائم بوجوب التوبة إلى الله والإيمان بالمسيح وحياة البر والتقوى. وعلى المخدومين أن يجتهدوا في مطالعة الكتاب المقدس واستعمال وسائط التعليم فإن الأمور الروحية كالعلوم العالمية تستلزم الدرس المدقق والتفتيش والتأمل لا مجرد الاستماع للواعظ.
  4. إن الضمير الذي يدل الإنسان على التمييز بين الخير والشر قابل للتربية والتدريب. وكيفية ذلك أنه إذا تعودت النفس سمع تنبيهاته والطاعة لأحكامه صار شديد الحس دائم التنبية وإذا لم تتعود الانتباه لصوته الباطني كف عن العمل وذهب الإنسان في طريق الإثم من غير أن يعارضه شيء. وهو أول قوة من قوى النفس تشعر بأثقال الخطيئة وتستيقظ من غفلة الإنسان الطبيعية عند رجوعه إلى الله بالتوبة. ولذلك كان من أهم الأمور للخاطئ وللمسيحي أن يلتفت إلى ما ينادي به الضمير في أعماق النفس فإنه نائب الله في إرشاد الإنسان في طريق الحياة ولا خطر على من يتبعه إذا كان مستنيراً بما أعلنه الله في كتابه من حيث ما يجب على الإنسان من عمل الخير والابتعاد عن الشر.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى