العبرانيين

الرسالة إلى العبرانيين | 02 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح الرسالة إلى العبرانيين

للدكتور . وليم إدي

اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّانِي

يُقسم مضمون هذا الأصحاح إلى قسمين الأول نتيجة مبنية على ما تقدم في الأصحاح الأول وهي أنه إذا كان الإنسان يُعاقب على مخالفته للشريعة القديمة التي أُعلنت بأفواه أنبياء وملائكة كان الأولى عقاب من أهمل الخلاص المعروض عليه في الديانة المسيحية التي أُعلنت بفم ابن الله الذي هو أفضل بما لا يُقاس من الملائكة وأُثبتت بآيات وعجائب كثيرة. وهذا القسم معترض في كلام الكاتب على فضل المسيح على الملائكة وهو يشغل الكلام من (ع ١ – ٤).

والقسم الثاني رجوع إلى المقابلة التي سبق ذكرها في الأصحاح الأول غير أنه كان الكلام في ما سبق على فضل المسيح باعتبار لاهوته وهنا على فضل المسيح بالنظر إلى ناسوته والنظر إلى موته أيضاً لأنه بذلك قد تمم عملاً عظيماً إذ صنع الخلاص للبشر وأعطاهم سنداً كافياً للاقتراب إلى الله بكل طمأنينة. فما كان يحتج به المعترض على فضل المسيح من جهة كونه إنساناً متألماً يرده الكاتب عليه ويًُظهر منه أن الأحوال التي بحسب الظاهر يُزدرى بها هي بالحقيقة أعظم مما تستطيع الملائكة أن تفعله.

١ «لِذٰلِكَ يَجِبُ أَنْ نَتَنَبَّهَ أَكْثَرَ إِلَى مَا سَمِعْنَا لِئَلاَّ نَفُوتَهُ».

لِذٰلِكَ أي بناء على ما تقدم في الأصحاح الماضي من جهة فضل الديانة المسيحية على اليهودية إذ أُعلنت هذه بواسطة ملائكة وتلك بواسطة ابن الله نفسه.

يَجِبُ أَنْ نَتَنَبَّهَ أَكْثَرَ باعتبار مقام المتكلم في العهد الجديد.

إِلَى مَا سَمِعْنَا من تعاليم الديانة المسيحية. والكاتب هنا يجعل نفسه من المُخاطبين ومثل هذا كثير في سائر اللغات المشهورة.

لِئَلاَّ نَفُوتَهُ أي نتجاوزه فلا نستفيد منه كأنه يقول لئلا نهمله فلا يكون لنا خلاص به. ونحن عرضة لإهمال الكلام أكثر مما نحن عرضة لرفضه أو مقاومته أو الغفلة عنه فإنه لا أحد يختار لنفسه الهلاك بل أن يصل إليه تدريجاً والذين يسلكون في طريق الهلاك هم الذين لا يعملون شيئاً بل يمشون حسب شهواتهم. هكذا على رأي الأكثرين وبعضهم يفهم الكلمة الأصلية بمعنى لئلا نعثر وبعضهم لئلا ننسى ولا يبعد بعض هذه المعاني عن بعض لأن جميعها يعود إلى المعنى المورد آنفاً.

٢ «لأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ ٱلْكَلِمَةُ ٱلَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا مَلاَئِكَةٌ قَدْ صَارَتْ ثَابِتَةً، وَكُلُّ تَعَدٍّ وَمَعْصِيَةٍ نَالَ مُجَازَاةً عَادِلَةً».

تثنية ٢٣: ٢ ومزمور ٦٨: ١٧ وأعمال ٧: ٥٣ وغلاطية ٣: ١٩ وعدد ١٥: ٣٠ و٣١ وتثنية ٤: ٣ و١٧: ٢ و٥ و١٢ و٢٧: ٢٦

لأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ ٱلْكَلِمَةُ الشريعة.

ٱلَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا مَلاَئِكَةٌ ذهب البعض إلى أن كلام الكاتب هنا محمول على اعتقاد اليهود أن الشريعة أعلنتها الملائكة وأنه اعتقاد باطل لأن الله هو الذي نطق بها وخاطب بها موسى. غير أن هذا لا يمنع وساطة الملائكة لأنه حسب المثل الجاري عند الأقدمين من يفعل بغيره يفعل بنفسه يقال أن الله فعل ما أمر الملائكة أن يفعلوه كما يُقال أن سليمان بنى الهيكل وهو لم يبنه بيده بل بالواسطة وفضلاً عن ذلك قد أشار بولس إلى هذا الأمر في قوله «إن الشريعة ترتيب بواسطة ملائكة» (غلاطية ٣: ١٩). واستفانوس يقول «أخذتم الناموس بترتيب ملائكة» (أعمال ٧: ٥٣) وقيل أيضاً في التثنية (تثنية ٣٣: ٢) «جَاءَ ٱلرَّبُّ مِنْ سِينَاءَ وَأَشْرَقَ لَـهُمْ مِنْ سَعِيرَ وَتَلألأَ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ، وَأَتَى مِنْ (أو مع) رَبَوَاتِ ٱلْقُدْسِ (أي الملائكة)». وعلى ذلك يكون هذا الأمر مذكوراً في الكتب المقدسة على أننا لا نعرف كيف كانت وساطتهم في ذلك غير أنه يترجّح أن الكلام الذي كان يسمعه موسى كانت تنطق به الملائكة على ما أمرهم الله به.

قَدْ صَارَتْ ثَابِتَةً بمعنى أنه أجريت جميع أحكامها ولا سيما إنذاراتها ومواعيدها.

وَكُلُّ تَعَدٍّ وَمَعْصِيَةٍ الكلمتان بمعنى واحد فالعطف عطف تفسير لزيادة البيان.

نَالَ مُجَازَاةً عَادِلَةً تفسير لقوله «ثابتة» كما يظهر بمراجعة تاريخ اليهود.

٣ «فَكَيْفَ نَنْجُو نَحْنُ إِنْ أَهْمَلْنَا خَلاَصاً هٰذَا مِقْدَارُهُ، قَدِ ٱبْتَدَأَ ٱلرَّبُّ بِٱلتَّكَلُّمِ بِهِ، ثُمَّ تَثَبَّتَ لَنَا مِنَ ٱلَّذِينَ سَمِعُوا».

ص ١٠: ٢٨ و٢٩ و١٢: ٢٥ ومتّى ٤: ١٧ ومرقس ١: ١٤ وص ١: ٢ ولوقا ١: ٢

فَكَيْفَ نَنْجُو نَحْنُ أي لا يمكن أن ننجو. كما أن المتعدين على الشريعة القديمة نالوا مجازاة عادلة هكذا نحن في العهد الجديد بل مجازاتنا أولى كما سيرد.

إِنْ أَهْمَلْنَا أي فتنا (ع ١) وتغافلنا عن دعوة الإنجيل إذا تعوّج إيماننا أو انشغلت قلوبنا بأمور الدنيا ولهونا عن مصالح أنفسنا. غير أنه لما كان معظم موضوع الكاتب في عدم العدول عن الإيمان المسيحي ربما كانت الإشارة إلى ذلك خاصة.

خَلاَصاً أي طريق الخلاص المقدمة في الإنجيل.

هٰذَا مِقْدَارُهُ أي أعظم مقداراً من الديانة المعلنة في العهد القديم وذلك لجملة وجوه منها أنه –

قَدِ ٱبْتَدَأَ ٱلرَّبُّ بِٱلتَّكَلُّمِ بِهِ أي الرب يسوع الذي هو أشرف من الملائكة الذين كانوا وسطاء العهد القديم فهو الذي ابتدأ بالإنذار بالديانة المسيحية ثم علّمها للرسل وأودعهم إياها وأهلّهم بروحه أن ينادوا بها.

ثُمَّ تَثَبَّتَ أي أُعطي بطريق محققة جديرة بالتصديق.

لَنَا أي لجمهور المسيحيين.

مِنَ ٱلَّذِينَ سَمِعُوا الرّسل ومفعول «سمعوا» محذوف فهو إما المسيح أو كلمة الخلاص المشار إليها.

٤ «شَاهِداً ٱللّٰهُ مَعَهُمْ بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَمَوَاهِبِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، حَسَبَ إِرَادَتِهِ؟».

مرقس ١٦: ٢٠ وأعمال ١٤: ٣ و١٩: ١١ ورومية ١٥: ١٨ و١٩ و١كورنثوس ٢: ٤ وأعمال ٢: ٢٢ و٤٣ و١كورنثوس ١٢: ٤ و٧ و ١١ وأفسس ١: ٥ و٩

شَاهِداً ٱللّٰهُ مَعَهُمْ أي مثبتاً شهادتهم.

بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ التي كانت تفعلها الرسل شهادة بأن تعليمهم هو من الله.

وَمَوَاهِبِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ التي بها كان الرسل وغيرهم يستطيعون عمل العجائب والمعجزات كشفاء الأمراض والتكلم بألسنة غريبة والتنبي وقوة الوعظ.

حَسَبَ إِرَادَتِهِ أي إرادة الروح أو الله (١كورنثوس ١٢: ٦ – ١١).

٥ «فَإِنَّهُ لِمَلاَئِكَةٍ لَمْ يُخْضِعِ «ٱلْعَالَمَ ٱلْعَتِيدَ» ٱلَّذِي نَتَكَلَّمُ عَنْهُ».

ص ٦: ٥ و٢بطرس ٣: ١٣

بعد أن أثبت الكاتب في الأصحاح الأول فضل المسيح وسموه على الملائكة من وجوه عديدة وعدل عن موضوعه إلى كلام تنبيهي لتحريض الذين كتب إليهم هذه الرسالة في الآيات الأربع الأولى من هذا الأصحاح عاد إلى قوله السابق وذكر في بقيته سمو المسيح وفضله من جهة اتخاذه طبيعة الإنسان. وقد أظهر في ذلك براعة عجيبة في الجدال والحجة فإنه من نفس الاعتراض بأن المسيح في صيرورته إنساناً قد سقط إلى رتبة أدنى من رتبة الملائكة يقيم برهاناً جديداً على مقام المسيح السامي وهو أنه بسبب اتضاعه قد ارتقى إلى درجة التكليل بالمجد الأعلى لأنه إنما صار إنساناً لأجل خلاص الناس وفي إتمامه لهذا العمل العظيم قد أُخضعت له كل الأشياء من حيث هو ابن الإنسان وهذا لم ينله أحد من الملائكة.

فَإِنَّهُ لِمَلاَئِكَةٍ لَمْ يُخْضِعِ «ٱلْعَالَمَ ٱلْعَتِيدَ» ٱلَّذِي نَتَكَلَّمُ عَنْهُ المراد «بالعالم العتيد» (١) العالم بعد مجيء المسيح الأول وهو العالم العتيد بالنسبة إلى ما كان في زمان العهد القديم ففي هذا العالم العتيد انتشر الإنجيل وأُلغيت الطقوس الموسوية. (٢) ما يكون بعد مجيء المسيح الثاني والقيامة والدينونة وإقامة ملكوت المجد.

ولما لم يُخضع الله العالم العتيد الذي نتكلم للملائكة بل أخضعه للإنسان أو لمن اتخذ الطبيعة الإنسانية لم يكن المسيح أدنى رتبة من الملائكة لأنه صار إنساناً وخضع لسلطان الموت.

٦ «لٰكِنْ شَهِدَ وَاحِدٌ فِي مَوْضِعٍ قَائِلاً: مَا هُوَ ٱلإِنْسَانُ حَتَّى تَذْكُرَهُ، أَوِ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ؟».

أيوب ٧: ١٧ ومزمور ٨: ٤ الخ و١٤٤: ٣

لٰكِنْ شَهِدَ وَاحِدٌ هو داود واستغنى عن ذكر الاسم لشهرة المزمور ومؤلفه عند اليهود.

فِي مَوْضِعٍ (مزمور ٨: ٤ – ٦).

قَائِلاً: مَا هُوَ ٱلإِنْسَانُ حَتَّى تَذْكُرَهُ، أَوِ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ؟ كان ذكر في بداءة المزمور أعمال الله العجيبة في السماوات وعظمته تعالى ومنها يعدل إلى الإنسان الذي يراه بالنسبة إليها حقيراً جداً فيرفع هتافه لعظمة الله نظراً إلى الإنسان أيضاً. الإنسان وابن الإنسان بمعنى واحد وهو كثير الوجود في النظم العبراني حيث يتكرر الشيء باسم جديد أو المعنى بكلمات جديدة فهو عندهم من باب البديع في اللغة ولكل ذلك مثال في الآية:

مَا هُوَ ٱلإِنْسَانُ حتى «تفتكره».

أَوِ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ حتى «تفتقده».

و «تذكره» و «تفتقده» بمعنى واحد من باب ما ذُكر والمراد ذكره وافتقاده بالعناية والخيرات والرحمة.

٧ «وَضَعْتَهُ قَلِيلاً عَنِ ٱلْمَلاَئِكَةِ. بِمَجْدٍ وَكَرَامَةٍ كَلَّلْتَهُ، وَأَقَمْتَهُ عَلَى أَعْمَالِ يَدَيْكَ».

وَضَعْتَهُ أي خفضته.

قَلِيلاً الكلمة في اليوناني المنقولة عن السبعينية والكلمة في الأصل العبراني بمعنى واحد يحتمل الإشارة إلى ظرفين الأول الزمان أي وضعته زماناً قليلاً أي المدة التي كان بها على الأرض. والثاني المقام أي وضعته وضعاً يسيراً عن رتبة الملائكة في درجة الروحانية وربما كان الأول في ذهن كاتب هذه الرسالة والثاني في ذهن كاتب المزمور.

عَنِ ٱلْمَلاَئِكَةِ في الأصل العبراني الآلهة ولكن الترجمة السبعينية (عن الملائكة) تثبت صحتها الترجمة الكلدانية وفهم علماء اليهود القدماء هذه الكلمة بمعنى الملائكة. والشخص المشار إليه في الآية هو الإنسان على الإطلاق والمسيح ابن الإنسان على الخصوص.

بِمَجْدٍ وَكَرَامَةٍ كَلَّلْتَهُ المجد والكرامة بمعنى واحد وأتى ذلك لتوضيح المعنى وتقريره وهذا كثر في العبرانية والعربية ويُعرف عند النحاة بعطف التفسير.

وَأَقَمْتَهُ أي سلّطته.

عَلَى أَعْمَالِ يَدَيْكَ أي أعمالك. في الأصل العبراني كلمة «مجد» مسبوقة بحرف عطف بمعنى ولكن للاستدراك أي أنك وإن خفضته عن الملائكة بمجد وكرامة كلّلته الخ.

٨ «أَخْضَعْتَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ. لأَنَّهُ إِذْ أَخْضَعَ ٱلْكُلَّ لَهُ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً غَيْرَ خَاضِعٍ لَهُ عَلَى أَنَّنَا ٱلآنَ لَسْنَا نَرَى ٱلْكُلَّ بَعْدُ مُخْضَعاً لَهُ».

متّى ٢٨: ١٨ وكولوسي ١٥: ٢٧ وأفسس ١: ٢٢ وص ١: ١٣ و١كورنثوس ١٥: ٢٥

أَخْضَعْتَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ أي أعطيته سلطاناً مطلقاً كاملاً. الإشارة في هذه الكلمات أولاً إلى الإنسان بوجه العموم كما يظهر من قول الله عند خليقته (تكوين ١: ٢٦) (ثم على معنى أعلى للمسيح كما يُظهر الكاتب في الكلام التابع).

لأَنَّهُ إِذْ أَخْضَعَ ٱلْكُلَّ لَهُ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً غَيْرَ خَاضِعٍ لَهُ أي أن الكلام شامل لا يترك شيئاً خارجاً عن وقوع السلطة عليه إلا الله وحده.

عَلَى أَنَّنَا ٱلآنَ لَسْنَا نَرَى ٱلْكُلَّ بَعْدُ مُخْضَعاً لَهُ أي أننا لسنا نرى الإنسان حائزاً كل السلطان المعطى له أو لسنا نرى النبوءة إلى الآن صادقة بالكلية على المسيح نظراً إلى خضوع كل العالم له.

٩ «وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي وُضِعَ قَلِيلاً عَنِ ٱلْمَلاَئِكَةِ، يَسُوعَ، نَرَاهُ مُكَلَّلاً بِٱلْمَجْدِ وَٱلْكَرَامَةِ، مِنْ أَجْلِ أَلَمِ ٱلْمَوْتِ، لِكَيْ يَذُوقَ بِنِعْمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمَوْتَ لأَجْلِ كُلِّ وَاحِدٍ».

فيلبي ٢: ٧ إلى ٩ وأعمال ٢: ٣٣ ويوحنا ٣: ١٦ و١٢: ٣٢ ورومية ٥: ١٨ و٨: ٣٢ و٢كورنثوس ٥: ١٥ و١تيموثاوس ٢: ٦ و١يوحنا ٢: ٢ ورؤيا ٥: ٩

وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي وُضِعَ قَلِيلاً عَنِ ٱلْمَلاَئِكَةِ، يَسُوعَ، نَرَاهُ مُكَلَّلاً بِٱلْمَجْدِ وَٱلْكَرَامَةِ أي أن النبوءة تشير إلى المسيح أكثر مما إلى الإنسان فخُفض عن الملائكة لما لبس الجسد الإنساني وصار بحسب الظاهر ومن لبسه للجسد دونهم في الدرجة العقلية الروحانية. و «المجد والكرامة» التي تكلل بهما يسوع هما أعظم مما تكلل به الإنسان الأرضي.

مِنْ أَجْلِ أَلَمِ ٱلْمَوْتِ أي أن تكلّله كان بسبب ألم الموت الذي احتمله لأجل الناس وهذا المعنى كثير الوجود في الكتب (انظر فيلبي ٢: ٨ – ١١ وعبرانيين ١٢: ٢).

لِكَيْ يَذُوقَ قال البعض أن يسوع كُلّل بمجد وكرامة عندما تولى رتبة المخلص للعالم فكان تكلّله هذا قبل موته وهذا التفسير يوافق هذه الآية. ولكن يُعترض عليه بأن حال المسيح قبل موته كانت حال اتضاع وكانت حال ارتفاعه بعد القيامة والصعود. فالأرجح أن الكاتب لم ينظر بهذه الآية إلى المجد الذي تكلل المسيح به بل إلى موته كأنه قال نرى يسوع مكللاً بالمجد والكرامة من أجل ألم الموت وأما آلامه فهي لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد.

بِنِعْمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمَوْتَ هذه النعمة هي أولاً للمسيح فإن الآب أعطى الابن النعمة وليس بالكيل وأعطاه نعمة خاصة عند موته على الصليب. وثانياً نعمة الله للناس فإنه بذل ابنه للموت لكي يخلّص المؤمنون به.

لأَجْلِ كُلِّ وَاحِدٍ لليهودي واليوناني بلا تمييز في الجنسية فلا ينتج من هذا الكلام أن جميع الناس على الإطلاق يخلصون لأن المسيح مات لأجل جميعهم وهو يبطل القول أن المسيح لم يمت لأجل جميع الناس بل لأجل المنتخبين فقط كما رأى بعض اللاهوتيين لأن الكاتب لم يتعرض لكلتا المسئلتين ولكنه أراد مقاومة غلط جار بين اليهود أن المسيح يكون لهم فقط وفوائد مجيئه تكون لهم على سبيل الأولوية والأصل. «يذوق الموت» أي يختبره ويتعاطاه بالفعل.

١٠ «لأَنَّهُ لاَقَ بِذَاكَ ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِهِ ٱلْكُلُّ وَبِهِ ٱلْكُلُّ، وَهُوَ آتٍ بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إِلَى ٱلْمَجْدِ أَنْ يُكَمِّلَ رَئِيسَ خَلاَصِهِمْ بِٱلآلاَمِ».

لوقا ٢٤: ٤٦ ورومية ١١: ٣٦ وأعمال ٣: ١٥ و٥: ٣١ وص ١٢: ٢ ولوقا ١٣: ٣٢ وص ٥: ٩

لأَنَّهُ لاَقَ بِذَاكَ ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِهِ ٱلْكُلُّ وَبِهِ ٱلْكُلُّ لعل العبرانيين عثروا في التعليم أن المسيح تألم لأن كل منتظرهم كان أنه يكون ملكاً مقتدراً يخلصهم من أعدائهم فلا يليق به كما ظنوا أنه يتألم كأنه ضعيف. فقال الكاتب جواباً لهذا الاعتراض أنه يليق بالله وهو خالق كل شيء والمعتني بكل شيء أن المسيح يتألم وسيأتي بيان ذلك.

وَهُوَ آتٍ بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إِلَى ٱلْمَجْدِ «الأبناء الكثيرون» هم جميع بني البشر وهم أبناء الله لأنه خلقهم ويعتني بهم ويحبهم وبذل ابنه لأجلهم أجمعين لكي يخلص جميع الذين يؤمنون به. وأما المؤمنون فهم أبناء الله بمعنى خاص «والمجد» هو الخلاص أي المجد الأبدي بعد حياة الآلام والتعب.

أَنْ يُكَمِّلَ كان يسوع بلا خطية وكاملاً في جميع صفاته والكمال المشار إليه هو الاستعداد الكامل للقيام بعمله باعتبار أنه مخلص وشفيع فإنه يقدر أن يرثي لضعفاتنا لأنه كان إنساناً ضعيفاً ويقدر أن يعين المجربين لأنه كان مجرباً مثلهم في كل شيء بلا خطية. الكلمة عند اليونانيين كانت بمعنى المجد الذي يناله الإنسان جزاء.

رَئِيسَ خَلاَصِهِمْ أي صانع خلاصهم أو رئيسهم ومخلصهم. المطلوب في رئيس (١) أن يكون منظوراً فيقتدي الناس به ويسمعونه ويطيعوهه ولذلك تجسد المسيح. (٢) أن يشترك في آلام أتباعه وهكذا كان موسى ويشوع وداود وأعظم القواد في عصرنا وهكذا كان بولس وغيره في الحرب الروحية. فيكون بينه وبين أتباعه رباط المحبة مع الاعتبار ويكون مختبراً أمور أتباعه ولا يكفي الرئيس الحقيقي أن يكون مقتدراً في تعليم العلوم المختصة برتبته دون معرفته بتلاميذه ومحبته لهم.

بِٱلآلاَمِ أي بآلام الموت. وهذا رد على الذين كانوا يعترضون على تأنس المسيح وموعظة لثبات المؤمنين في شدائدهم.

١١ «لأَنَّ ٱلْمُقَدِّسَ وَٱلْمُقَدَّسِينَ جَمِيعَهُمْ مِنْ وَاحِدٍ، فَلِهٰذَا ٱلسَّبَبِ لاَ يَسْتَحِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِخْوَةً».

ص ١٠: ١٠ و١٤ وأعمال ١٧: ٢٦ ومتّى ٢٨: ١٠ ويوحنا ٢٠: ١٧ ورومية ٨: ٢٩

أثبت الكاتب في الآيات السابقة أن اتخاذ المسيح الصورة البشرية لم يجعله في مرتبة أدنى من مرتبة الملائكة الروحانيين بل بالعكس قد رقاه إلى أعلا درجة في المجد لأنه لما لبس الجسد قدّم في الجسد وكان موت الجسد كفارة عن خطايا الناس. وفي بقية الأصحاح يذكر فوائد أُخر نتجت للناس لما صار المسيح إنساناً. وفي (ع ١١ – ١٣) يذكر واحدة من هذه الفوائد وهي أنه بتأنسه قد رقى شعبه إلى نسبة سامية من جهته ومن جهة الله فصاروا إخوة له وأولاداً معه وبه لله. ولإثبات الذي يقدمه بشأن ذلك مبني على أقوال العهد القديم. غير أنه في هذه الاقتباسات وغيرها قد يظهر لليهودي المتعنت أنه لا شيء فيها من الإشارة إلى المعنى المراد وأنها في غير محلها فنجيب على ذلك مرة كافية في هذا الصدد. (١) إن الكاتب يخاطب اليهود المؤمنين بيسوع أنه المسيح لا اليهود غير المؤمنين وإلا كان يقدم حججاً أصرح ويجادل على نوع غير ما اتبعه في هذه الرسالة. (٢) إن تفاسير العلماء عند اليهود قد اختلفت كثيراً الآن عما كانت عليه في زمان الكاتب فأتى بآيات من العهد القديم كانوا يقهمونها في زمانه كما أوردها وإلا فلم يقدمها. (٣) إن البيان على كون الكاتب من الرجال المقدسين الذين تكلموا كما حرّكهم الروح ليس أقل مما لنا على رجال العهد القديم المتّبعين بالاتفاق.

لأَنَّ ٱلْمُقَدِّسَ وَٱلْمُقَدَّسِينَ لا خلاف من جهة أن المراد «بالمقدِّس» المسيح «وبالمقدَّسين» شعبه المسيحيون المرتبطون به برباط الإيمان والمحبة والطاعة. ولكن اختلفوا في معنى التقديس فمنهم من يقول هو عمل الخلاص بوجه الإجمال في الإنسان وهو يحتوي على التبرير والتقديس كليهما. ومنهم من يقول هو التكريس كما في (يوحنا ١٧: ١٩) «أقدِّس أنا ذاتي» أي كرّس المسيح ذاته لعمل الفداء فتفيد الكلمة هنا المكرِّس والمكرَّسين لخدمة الله (ص ٩: ١٤ و١٠: ٢٩) وهذا التكريس بتقديم جسد يسوع المسيح (ص ١٠: ١٠) وكلا التفسيرين بمعنى المسيح وشعبه.

جَمِيعَهُمْ مِنْ وَاحِدٍ «الواحد» هو الله على قول البعض وآدم على قول آخر وإبراهيم على قول آخر. وربما كان المعنى أنهم جميعاً ذوو واحدة أي إنسانية فإن المراد هنا تأنُّس المسيح وفضله في الناسوت على الملائكة لأنه تألم فيه وارتقى إلى المجد وكفّر عن خطايا الناس وشاركهم في الطبيعة لأجل تقريبهم إليه (ع ١٧ و١٨) فرقاهم إلى أن يصيروا إخوة له. ومنهم من يفهم أن نسبة الإخوة له راجعة لا إلى مشاركته لهم في الطبيعة الإنسانية ولكن إلى عمل الله الذي به يتبناهم ويرقيهم إلى بنوة كبنوة المسيح له وأنه يوجد في نسبة البنوة هذه أكثر مما يظن معظم اللاهوتيين والمفسرين إذ أنهما بنوة حقيقية كبنوة المسيح من كل وجه إلا بنوته الأزلية. والذين يقولون ذلك يذهبون إلى أنه لا أبوة في الله إلا لشعبه فقط وأن هذه الصفة فيه ليست من الصفات المقصورة على المسيح ولكنها تمتد إلى غيره. وفي ذلك مباحث لا داعٍ إليها هنا.

فَلِهٰذَا ٱلسَّبَبِ أي لكونهم من الله أو لكونه مشاركاً لهم في الطبيعة لما صار إنساناً مثلهم.

لاَ يَسْتَحِي لا يحتقر نفسه.

أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِخْوَةً وفي هذه العبارة وغيرها من أمثالها (فيلبي ٢: ٧ و٨) برهان صريح على أن المسيح لم يكن إنساناً فقط وإلا فكيف يقال أنه «لا يستحي أن يدعوهم إخوة» وإنه «يلبس صورة العبد» (فيلبي ٢: ٧).

١٢ «قَائِلاً: أُخَبِّرُ بِٱسْمِكَ إِخْوَتِي، وَفِي وَسَطِ ٱلْكَنِيسَةِ أُسَبِّحُكَ».

مزمور ٢٢: ٢٢ و٢٥

قَائِلاً: أُخَبِّرُ بِٱسْمِكَ إِخْوَتِي نقلاً من العهد القديم عن (مزمور ٢٢: ٢٢). وهذا المزمور نبوءة بالمسيح ولا يصدق على أحد كما يصدق عليه فإنه فضلاً عن نبوءات صريحة فيه لم تتم إلا في المسيح وكان إنجازها فيه على نوع عجيب من المطابقة (ع ١ و٨ و١٦ و١٨) يشار إلى زمان فيه يذكر «ويرجع إلى الرب كل أقاصي الأرض ويسجد أمامه كل قبائل الأمم». ولا خلاف في أن هذه الأزمنة هي أزمنة المسيح. والشاهد في العبارة قوله «إخوتي» وهو ما يريد الكاتب إثباته. وأما قوله –

وَفِي وَسَطِ ٱلْكَنِيسَةِ أُسَبِّحُكَ فهو تتمة العدد المقتبس ولأجل استحضار العبارة المقصودة لذهن القاري. «الكنيسة» وهي الجماعة حسب الأصل العبراني وترجمة المزامير. وإنما تُرجمت هنا بالكنيسة لموافقة اليوناني والمعنى واحد.

١٣ «وَأَيْضاً: أَنَا أَكُونُ مُتَوَكِّلاً عَلَيْهِ. وَأَيْضاً: هَا أَنَا وَٱلأَوْلاَدُ ٱلَّذِينَ أَعْطَانِيهِمِ ٱللّٰهُ».

مزمور ١٨: ٢ وإشعياء ١٢: ٢ وإشعياء ٨: ١٨ ويوحنا ١٠: ٢٩ و١٧: ٦ و٩ و١١ و١٢

وَأَيْضاً أَنَا أَكُونُ مُتَوَكِّلاً عَلَيْهِ قوله «وأيضاً» أي أنه يقتبس اقتباساً آخر بالمعنى نفسه ولكنهم اختلفوا في المحل المنقولة عنه هذه العبارة فقال بعضهم هو (مزمور ١٨: ٣) وغيرهم (٢صموئيل ٢٢: ٣) لكن ليس في هذه الأماكن إشارة إلى المسيح ولا نسب اليهود هذا الكلام إلى المسيح. فالأصوب أن يقال أن النقل من (إشعياء ٨: ١٧).

وَأَيْضاً هَا أَنَا وَٱلأَوْلاَدُ ٱلَّذِينَ أَعْطَانِيهِمِ ٱللّٰهُ هذه العبارة لاحقة السابقة في (إشعياء ٨: ١٨) ولكن توهم بعضهم من قوله «أيضاً» أنه يلزم من ذلك أن الكاتب نقل من مكان آخر وإلا لما فضل بهذه الكلمة. وهذه النتيجة غير لازمة وقد جاء لهذا الفصل مثال في ما نقل في هذه الرسالة (ص ١٠: ٣٠ عن تثنية ٣٢: ٣٥ و٣٦). ومعنى هذا الاقتباس أنه لما كان الإنسان فقيراً إلى الله ومحتاجاً إلى الاتكال عليه والتسليم إليه وكان المسيح يستعمل هذه الألفاظ المأخوذة عن العهد القديم ثبت أنه قد شاركهم حقيقة في الطبيعة الإنسانية فإنه باعتبار ناسوته كان متوكلاً على الله ومسلماً أمره وأمر شعبه وكنيسته إليه تعالى. فهم إذاً إخوته وهو المعنى المراد بالاقتباس. وأما فصله الآية إلى قسمين بقوله «وأيضاً» فلأنه يُراد أمران متميزان في القسمين فيُراد في القسم الأول مشابهة المسيح بالبشر لسبب اتكاله على الله وفي الثاني نسبته إلى شعب الله التي يظهر منها أيضاً مشابهته لهم.

١٤ «فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ ٱلأَوْلاَدُ فِي ٱللَّحْمِ وَٱلدَّمِ ٱشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذٰلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِٱلْمَوْتِ ذَاكَ ٱلَّذِي لَهُ سُلْطَانُ ٱلْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ».

يوحنا ١: ١٤ ورومية ٨: ٣ وفيلبي ٢: ٧ و١كورنثوس ١٥: ٥٤ و٥٥ وكولوسي ٢: ١٥ و٢تيموثاوس ١: ١٠

الفائدة العظيمة الصادرة من تجسُّد المسيح ذكرها الكاتب بنوع أصرح في هذه الآيات (ع ١٤ – ١٨) وهي موته بالجسد كفارة عن خطايا الناس. ولكنه ذكر فائدتين أُخريين تتعلقان بتجسده على الأرض وعمله الفداء. الواحدة أنه خلّص شعبه من الخوف من الموت المستولي على الإنسان وهو في حال الخطية (ع ١٥) فإنه بالمسيح قد زالت شوكة الموت وأهواله التي كانت قد تمكنت من الإنسان لسبب كونه خاطئاً مستحقاً العقاب ولا تزول إلا عند الإيمان بالمسيح ونيل المغفرة بواسطته. والثانية أنه لما تألم وتجرب صار أقرب للمؤلّمين والمجرّبين عندما دعاهم إليه بثقة (ع ١٨) وقد ذكر أن هذه الفوائد إنما ينالها أولئك الذين انتخبهم الله منذ الأزل بحسب مطلق سلطانه وحكمته الفائقة. وهذا التعليم من أسرار الإله التي لا ندركها.

فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ ٱلأَوْلاَدُ أي تلاميذ المسيح وشعبه وسمّاهم «أولاداً» لأنهم هكذا بالروح وقد أشار إليهم بهذا الاسم في الآية السابقة. ومما يقرب إلى هذه التسمية أنهم زرع المسيح (إشعياء ٥٣: ١٠).

فِي ٱللَّحْمِ وَٱلدَّمِ أي في الطبيعة الإنسانية القائمة بجسد مؤلف من لحم ودم وهي طبيعة ضعيفة.

ٱشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذٰلِكَ فِيهِمَا الدوسيتيون الذين أنكروا أن جسد المسيح كان حقيقياً لاعتقادهم أن عالم الهيولي مجلس الشر بدلوا الكلمة الأصلية (كذلك) بكلمة أخرى واتخذوها بمعنى شبيه وقالوا أن جسد المسيح كان بحسب الظاهر فقط لا بالحقيقة وأنه كان يشبه أجساد البشر فقط لا من طبيعتها فكان خيالاً من غير مادة ولذلك يقول «اشترك هو أيضاً كذلك فيهما» أي في جسد حقيقي يقبل الموت وفيه مات ليقهر عدو الأنفس العظيم.

لِكَيْ يُبِيدَ أي يبطل.

بِٱلْمَوْتِ أي بواسطة موت المسيح.

ذَاكَ أي سلطان ذلك.

ٱلَّذِي لَهُ سُلْطَانُ ٱلْمَوْتِ قد اختلفوا في سلطان الشيطان على الموت فقال البعض أنه موكل بقبض الأرواح عند الموت وهو موافق لاعتقاد اليهود أنه يوجد ملك مقام لهذا الأمر فيسمونه ملك الموت واسمه عندهم صمّائيل. ويجري مجراهم الإسلام الذين يسمونه عزرائيل ولا يوجد إشارة واضحة لهذا الأمر في الكتب المقدسة. وقال غيرهم بل المعنى أنه لما كان الشيطان يجرب الناس لارتكاب الخطية ويقتادهم إلى الموت والهلاك فقيل أن له سلطان الموت. وقال غيرهم إنما المراد كونه رئيساً للعصاة في هذه الحياة ورئيس عالم العذاب في الآخرة كما كان رئيس ملائكة في السماء قبل سقوطه وعلى ذلك يكون له سلطان في تنفيذ أحكام القصاص الذي الموت الطبيعي جزء منه ورمز له. وربما كان الصواب بين التفسيرين الآخيرين كما يظهر من التأمل في الخلاص الذي أتى به المسيح لشعبه فإنه خلصهم من سلطان الشيطان في التجربة وساعة الموت وعذابات الآخرة لا من الموت الزمني نفسه فلا يقال عن المسيح أنه تحت سلطان التجربة بمعنى أنه خاضع لها فيسقط كلما جربه الشيطان لأن يمين المسيح تقويه كلما طلبها على أنه يسقط أحياناً كثيرة. وأما في ساعة الموت فالمسيح قد كسر شوكتها لأنه قد أزال عن شعبه الدينونة التي يُخشى منها ولا سيما عند الموت (١كورنثوس ١٥: ٥٥). وأما عذابات الآخرة فلا شيء منها على المسيحي (رومية ٨: ١١).

أَيْ إِبْلِيسَ هو رئيس الشياطين والممتاز بينهم في القوة والحكم والتقدم.

١٥ «وَيُعْتِقَ أُولَئِكَ ٱلَّذِينَ خَوْفاً مِنَ ٱلْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ ٱلْعُبُودِيَّةِ».

لوقا ١: ٧٤ ورومية ٨: ١٥ و٢تيموثاوس ١: ٧

وَيُعْتِقَ من العبودية. كما يظهر من نهاية الآية والفعل معطوف على «يبيد» في الآية السابقة والمعنى أن المسيح لم يبد سلطان الشيطان فقط من جهة تجريبه للخطية واقتياده للهلاك ولكنه يعتق أيضاً شعبه من تلك العبودية للخوف من الموت المستولية على كل الناس.

أُولَئِكَ ٱلَّذِينَ خَوْفاً مِنَ ٱلْمَوْتِ الخوف من الموت عام جميع الناس ومعظمه يعود إلى عواقب الموت لا إلى الموت نفسه.

كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ أي أن الخوف من الموت متمكن من جميع الناس كل مدة الحياة وليس في طاقة الفلسفة العقلية أن تزيل هذه المخاوف لأن جميع براهينها إنما تقتصر على كون الموت شريعة عامة على كل فرد من أفراد البشر وأنه نهاية حياة قصيرة للجميع مملوءة وجعاً وشقاء فلا تمس شوكة الموت الحقيقية التي هي الخطية. وإنما هذا العتق مكفل بالديانة التي تعلم طريقة الخلاص من دينونة الخطية وعقابها.

تَحْتَ ٱلْعُبُودِيَّةِ أي الأسر للخوف من الموت والذل الدائم من جرى استيلائه.

١٦ «لأَنَّهُ حَقّاً لَيْسَ يُمْسِكُ ٱلْمَلاَئِكَةَ، بَلْ يُمْسِكُ نَسْلَ إِبْرَاهِيمَ».

لأَنَّهُ حَقّاً لَيْسَ يُمْسِكُ ٱلْمَلاَئِكَةَ الكلمة الأصلية المترجمة هنا بقوله «يمسك» تحتمل جملة معان وجميعها يتفرع من القبض والمسك باليد فاتخذها جمهور الآباء بمعنى أن المسيح لم يأخذ على نفسه صورة الملائكة بل الصورة البشرية وخالفهم جمهور المتأخرين الذين يفهمون الكلمة الآن بدون خلاف بمعنى الإغاثة والإجارة على ذلك كان حقها أن تترجم هنا بكلمة «يجير» فكأنه يقول أن المسيح أعرض عن إجارة وإغاثة الملائكة الذين سقطوا ولكنه أجار نسل إبراهيم. والحق أن تفسير الآباء يعود أخيراً إلى هذا.

بَلْ يُمْسِكُ نَسْلَ إِبْرَاهِيمَ أي جاء إلى معونتهم. والمراد «بنسل إبراهيم» أن المسيح جاء بالجسد من نسل إبراهيم. ولا يُستنتج من ذلك أن الخلاص لليهود فقط لأن المسيح من نسل آدم أيضاً (لوقا ٣: ٢٣ و٣٨) ولكن الكاتب قال نسل إبراهيم لأنه كلم اليهود. وأما السبب في الإعراض عن الملائكة الساقطين وقصر فوائد الخلاص على الجنس البشري فغير معلوم لأن الكتب المقدسة لم تعلنه. وقد قيل في ذلك –

  1. إن ترك الله للملائكة الأشرار مبني على أن تكليفهم للطاعة وسؤالهم عن ذلك كانا على درجة أبلغ من تكليف الإنسان لأن معرفتهم بالله وشريعته وعواقب مخالفته كانت أعظم.
  2. إنهم كانوا الطاغين لجنس الإنسان.
  3. إنهم ولاة في عالم الظلمة والموت يخاصمون الله على إهلاك الإنسان. وفي كل ذلك نظر وربما كان الأصوب ترجيع الأمر إلى سلطان الله المطلق أو إلى سر من أسرار حكمته لا ندركه نحن.

١٧ «مِنْ ثَمَّ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْبِهَ إِخْوَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لِكَيْ يَكُونَ رَحِيماً، وَرَئِيسَ كَهَنَةٍ أَمِيناً فِي مَا لِلّٰهِ حَتَّى يُكَفِّرَ خَطَايَا ٱلشَّعْبِ».

فيلبي ٢: ٧ وص ٤: ١٥ و٥: ١ و٢

مِنْ ثَمَّ أي أنه لما قصد المسيح إجارة الإنسان.

كَانَ يَنْبَغِي أي لزم وهذا اللزوم من وجه ممارسته لرياسة الكهنوت في التكفير عن الشعب ومشاركته لهم في ضعفاتهم وحاسياتهم حتى يجترئوا على الاقتراب منه بكل ثقة وطمأنينة.

أَنْ يُشْبِهَ إِخْوَتَهُ الجنس البشري الذين أراد خلاصهم.

فِي كُلِّ شَيْءٍ جوهري لصيرورته إنساناً حتى لا ينقصه شيء من الضعف الإنساني إذا كان سليماً من الخطإ ومن الإحساسات الإنسانية كما فسر ذلك بعده بقوله «لأَنْ لَيْسَ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ» (ص ٤: ١٥).

لِكَيْ يَكُونَ رَحِيماً، وَرَئِيسَ كَهَنَةٍ أَمِيناً فِي مَا لِلّٰهِ حَتَّى يُكَفِّرَ خَطَايَا ٱلشَّعْبِ ذكر هنا الداعي لمشابهته لإخوته في اتخاذه جسداً بشرياً وطبيعة إنسانية. وهو من وجهين الأول أن يكون رحيماً ومعنى هذه الكلمة عن االترفق بحالهم والرثي لهم في حال الضعف والضيق. والثاني أن يمارس عمل رئيس الكهنة عند اليهود التي كان أخص جوهرها التكفير للخطية كما سيأتي. ومعنى «التكفير» التغطية والمراد بها غفران الخطية أو الإيفاء عنها. وسيأتي الكلام في هذه الرسالة تفصيلاً على رئاسة الكهنوت عند اليهود وقيام المسيح بها. وأما قوله «أميناً في ما لله» فمعناه أنه كان قائماً حق القيام بما يتعلق بواجبات هذه الرتبة أمام الله.

١٨ «لأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّباً يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ ٱلْمُجَرَّبِينَ».

ص ٤: ١٥ و١٦ و٥: ٢ و٧: ٢٥

لأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّباً أي بسبب تألمه عندما احتمل التجارب وهي نوعان الواحد التعرّض للأسواء والشرور كما تجرّب إبراهيم لما طُلب منه أن يقدم ابنه إسحاق ذبيحة وأيوب عندما ابتُلي بالمصائب. والآخر التعرّض لسطوة الخطية وتملقاتها. ولا يخفى أن المسيح قد احتمل الأمرين فإنه كان عرضة لكثير من شرور الحياة كالبغض والاضطهاد وتعرّض أيضاً لتجارب الشيطان وغيره ولكنه خرج منها دائماً منصوراً عليها ولم يخضع لواحدة منها.

يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ ٱلْمُجَرَّبِينَ أي أنه لما اختبر حال الإنسان في الطبيعة الإنسانية واحتمل فيها الضيق والتجارب صار أهلاً للرقي لهم والترفق بهم وإمدادهم بالعون والإغاثة عند صراخهم له حين الشدة والضيق والتجربة.

فوائد

  1. إنه يجب على الإنسان الذي تبلغه الدعوة المسيحية أن يحذر كل الحذر من إهمالها في ما يتعلق بالإيمان والعمل كليهما فإنه بإهمالها يخسر جميع فوائد العهد الجديد وبركاته ويعرّض نفسه لأشد العقاب. فإنه إذا كان المذنب في العهد القديم يجازي جزاء شديداً كان قصاص المذنب في العهد المسيحي أشد جداً لسبب فضل المتكلم وزيادة النور والتثبيت. ولذلك نرى في الديانة المسيحية تهديدات مخيفة للذين يهملون واجباتها وتحذيرات شديدة من السقوط في عواقب الغفلة والإهمال والوقوع في يدي الله الحي.
  2. إنه قد نسي الإنسان الله وأخطأ إليه وهو تعالى لم ينسنا ولم يدخل في الدينونة معنا بل افتقد جنسنا الساقط في إرسال ابنه الوحيد الذي وُضع قليلاً عن الملائكة لكي يذوق الموت لأجل كل واحد. وقد أظهر بذلك فرط محبته للجنس البشري وغنى نعمته بيسوع المسيح لجميع الخطأة.
  3. إن المسيح اتخذ طبيعة بشرية لكي يقهر فيها سلطان الموت بموته كفارة للخطايا ولكي يشارك شعبه في طبيعتهم ويختبر ضعفهم فيحق لهم أن يؤمنوا ويثقوا بكونه رحيماً مشفقاً يسمع صراخهم في بلواهم لأنه قد ابتُلي مثهلم. فيا لها من محبة عجيبة وتنازل أعجب لما صار الإله إنساناً لكي يخلص الناس ويعرّض نفسه لهم ويدعوهم إلى طلبه والإيمان به والثقة فيه وليجدوا فيه العون والمدد الذي يحتاجون إليه في بلاياهم ومصائبهم وأحزانهم وتجاربهم وسقطاتهم. فهو خزانه جامعة لكل احتياجاتهم المتنوعة إيفاء لخطاياهم وعون في ضعفاتهم وملجأ في أحزانهم وشفاء لأمراضهم وأخ يسندهم في الخطوب كافة إلى أن يوصلهم بالسلام إلى تلك المنازل السماوية التي ذهب وأعدّها لجميع الذين يؤمنون باسمه ويتكلون عليه.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى