سفر التكوين

سفر التكوين | 11 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر التكوين 

للقس . وليم مارش

اَلأَصْحَاحُ ٱلْحَادِي عَشَرَ

١ «وَكَانَتِ ٱلأَرْضُ كُلُّهَا لِسَاناً وَاحِداً وَلُغَةً وَاحِدَةً».

ٱلأَرْضُ كُلُّهَا أي الناس في كل الأرض المعروفة يومئذ. إن الكاتب بعدما تكلم على الأمم المختلفة في ما كان يُعرف من الأرض وهو أرمينية والأرضون التي كانت تُسقى من مياه دجلة والفرات وشبه جزيرة العرب وأرض وادي النيل وما جاور الذلتا وفلسطين وشطوط البحر المتوسط الشرقية والجزائر قبرس ورودس وكريت وأسيا الصغرى التي وصل إليها اللوديون وبعض أروبا التي بلغها الياقثيون وهي ما بين بحر قزيين والبحر الأسود أخذ هنا يبين على هذا التفرق وهو تبلبل الألسنة.

لِسَاناً وَاحِداً وَلُغَةً وَاحِدَةً وفي العبرانية «شفة واحدة وكلاماً واحداً» أي كانت لغة كل الناس يومئذ واحدة في اللفظ والمعنى وتركيب الجُمل. فإن العلماء منذ سنين قليلة كانوا يرون إن اللغة السنسكريتية (الهندية) واللغات السامية مختلفان أصلاً لكن المباحث الحديثة أثبتت أنهما واحدة في الأصل أو إنهما من أصل واحد.

٢ «وَحَدَثَ فِي ٱرْتِحَالِهِمْ شَرْقاً أَنَّهُمْ وَجَدُوا بُقْعَةً فِي أَرْضِ شِنْعَارَ وَسَكَنُوا هُنَاكَ».

ص ١٣: ١١ ص ١٠: ١٠ و١٤: ١ وإشعياء ١١: ١١ ودانيال ١: ٢

فِي ٱرْتِحَالِهِمْ أي انتقالهم من مكان إلى المكان بغية المرعى للماشية.

شَرْقاً في الأصل العبراني من الشرق «مقدم» وهي كذا في كل النسخ. ولكن كان جبل اراراط إلى الغرب الشمالي من شنعار فعلى ذلك لا يكون هو الجبل الذي استقرت السفينة عليه ولا غيره من جبال أرمينية وجبال الأكراد لأن النص يدل على أنه كان شرقي بابل. وجاء في النبإ الكلداني إن السفينة استقرت على جبل نيزير أو نزير أو الوند شرقي أشور. ومع أن أراراط يمكن أن يكون أريويرات (أي أرض مقدسة) يصعب بيان نقل اسم الوند إلى أرمينية بل يتعذر. ويظهر إن التوراة في مواضع أُخر تدل على أن أرمينية كانت سرير الجنس البشري ولذلك ترجم أكثر المفسرين. الكلمة العبرانية «مقدم» بما في العربية أي «شرقاً». وكذا معنى هذه الكلمة في (ص ١٣: ١١) (فتكون الميم فيها زائدة كالميم في مشرق).

أَرْضِ شِنْعَارَ (انظر تفسير ص ١٠: ١٠). كل أرض الكلدانيين سهل وتربتها خصبة لأنها ركام من الغرين ولا يزال ذلك شأنها فأرض الرأس في شمالي خليج العجم معدل زيادتها من تراكم الغرين وما تجرفه المياه إليه نحو ميل في نحو خمسين سنة فقد زادت تلك البلاد نحو مئة وثلاثين ميلاً عرضاً من غرين دجلة والفرات منذ كانت أور الكلدانيين مدينة عظيمة وفرضة بحرية.

٣ «وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَلُمَّ نَصْنَعُ لِبْناً وَنَشْوِيهِ شَيّاً. فَكَانَ لَهُمُ ٱللِّبْنُ مَكَانَ ٱلْحَجَرِ، وَكَانَ لَهُمُ ٱلْحُمَرُ مَكَانَ ٱلطِّينِ».

ص ١٤: ١٠ وخروج ٢: ٣

هَلُمَّ نَصْنَعُ لِبْناً وَنَشْوِيهِ شَيّاً يغلب في كثير من بلادنا أن يُصنع اللِبن ويجفف بالشمس فيبقى كثيراً. وكان هذا بداءة التمدن في إقامة المساكن ثم رأوا أنه إذا شُوي كان أكثر بقاء لزيادة منعته عن الانحلال بمياه المطر. وكانوا يجعلون ملاطه الكلس أو الحُمر فيزيد قوة وامتناعاً.

ٱلْحُمَرُ (القار المعدني ويُعرف ما صَلُبَ منه بالزفت).

٤ «وَقَالُوا: هَلُمَّ نَبْنِ لأَنْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجاً رَأْسُهُ بِٱلسَّمَاءِ. وَنَصْنَعُ لأَنْفُسِنَا ٱسْماً لِئَلاَّ نَتَبَدَّدَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ ٱلأَرْضِ».

تثنية ١: ١٨ ص ٦: ٤ و٢صموئيل ٨: ١٣ وإشعياء ٦٣: ١٢

بُرْجاً رَأْسُهُ بِٱلسَّمَاءِ أي عالياً في الجو حتى ترى زرقة الجو عند رأسه. وهذا كقوله في مدن الكنعانيين «مُدُنٌ عَظِيمَةٌ مُحَصَّنَةٌ إِلَى ٱلسَّمَاءِ» (تثنية ١: ٢٨). وكان لهم في بناء ذلك البرج غايتان الأولى أن يكون لهم منارة يهتدون بها في رجوعهم من رحلاتهم والثانية أن يبقوا أمة و احدة تقوى على توالي السنين وتُخضع سائر الأمم التي تجاورها فيشتهرون بذلك «ويصنعون لأنفسهم اسماً». وجاء في الأساطير القديمة وذكر بعضها يوسيفوس إن نمرود كان غير تقي فأمر ببناء ذلك البرج ليعصي الله وينقذ به شعبه من طوفان ثان. ولا شيء في الكتاب يؤيد ذلك.

٥ – ٧ «٥ فَنَزَلَ ٱلرَّبُّ لِيَنْظُرَ ٱلْمَدِينَةَ وَٱلْبُرْجَ ٱللَّذَيْنِ كَانَ بَنُو آدَمَ يَبْنُونَهُمَا. ٦ وَقَالَ ٱلرَّبُّ: هُوَذَا شَعْبٌ وَاحِدٌ وَلِسَانٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِهِمْ، وَهٰذَا ٱبْتِدَاؤُهُمْ بِٱلْعَمَلِ. وَٱلآنَ لاَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ كُلُّ مَا يَنْوُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ. ٧ هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هُنَاكَ لِسَانَهُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ بَعْضُهُمْ لِسَانَ بَعْضٍ».

ص ١٨: ٢١ ص ٩: ١٩ وأعمال ١٧: ٢٦ ع ١ مزمور ٢: ١ مزمور ٢: ٤ وأعمال ٢: ٤ إلى ٦ ص ٤٢: ٢٣ وتثنية ٢٨: ٤٩ وإرميا ٥: ١٥ وأعمال ٢٢: ٩ و١كورنثوس ١٤: ٢ و١١

فَنَزَلَ ٱلرَّبُّ (أي علم مقاصدهم وأعمالهم كمن ينزل إلى بعيد عنه ليراه تمام الرؤية). ومن مصطلح سفر التكوين أن ينسب إلى الله أعمال البشر مجازاً لإيضاح المعنى أكمل إيضاح وبيان محبة الله للناس وعنايته بهم. وفي هذه الآيات و(ص ١٨: ٢١) إظهار عدل الله وبره فإن الرب وُصف بأنه ملك عظيم قدير يسمع في الأعالي والمساكن السماوية مناجاة الناس ويعلم مقاصدهم وأطماعهم.

ٱلْمَدِينَةَ وَٱلْبُرْجَ أي بابل وبرجها والظاهر أن قصدهم من المدينة كان بعض قصدهم من البرج وكانوا يريدون أن يكونوا مملكة واحدة عاصمتها تلك المدينة.

وَنُبَلْبِلْ هُنَاكَ لِسَانَهُمْ هذا لا يحتاج إلى صنع معجزة فإنه مما يقع عادة فإذا تفرق قوم لا تمر مدة طويلة إلا اختلفت لهجاتهم كما تراه من أمر اللغة العربية العامية اليوم لكن النبأ يستلزم سرعة التغيير اللغوي. وهذا يستلزم أنه مر وقت طويل وهم يتكلمون بلغة واحدة إذ كانوا مجتمعين في مكان واحد.

٨ «فَبَدَّدَهُمُ ٱلرَّبُّ مِنْ هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ ٱلأَرْضِ، فَكَفُّوا عَنْ بُنْيَانِ ٱلْمَدِينَةِ».

ص ١٠: ٢٥ و٣٢ ولوقا ١: ٥١

فَبَدَّدَهُمُ ٱلرَّبُّ مِنْ هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ ٱلأَرْضِ الخ من شأن اختلاف اللغات تفريق بعض الناس عن بعض طبعاً واجتماع المتكلمين بلغة واحدة كما هو المشاهَد وهذا منعهم عن إكمال ما شرعوا فيه وعنى بكل وجه الأرض قسم الأرض الذي كانوا قد عرفوه.

٩ « لِذٰلِكَ دُعِيَ ٱسْمُهَا «بَابِلَ» لأَنَّ ٱلرَّبَّ هُنَاكَ بَلْبَلَ لِسَانَ كُلِّ ٱلأَرْضِ. وَمِنْ هُنَاكَ بَدَّدَهُمُ ٱلرَّبُّ عَلَى وَجْهِ كُلِّ ٱلأَرْضِ».

لِذٰلِكَ دُعِيَ ٱسْمُهَا بَابِلَ قال بين سمث: بابل في الآرامية باب إل أي باب الله وفي الأشورية باب إلي ومعناه كذلك (ص ١٠: ١٠). ومن الغريب قول بعضهم إن بابل مركبة من باب وبيل أي باب بعل. وإل اسم الله في الآرامية وإلي اسمه في الأشورية وإلاه اسمه في العربية في الأصل (وعلى هذا تكون الألف واللام في الله زائدتين أو الواقع أنه لما نُكر إله أُدخلتا للتعريف) وألوهو اسمه في السريانية. وهذا لا يستلزم خطأ الكتاب المقدس في بيان علة تسميتها. فإن الناس دعوها باب الله والله دعاها بابل أي بلبلة لأنه في كل اللغات يكون تمثيل الكلام المشوش الغامض بعمل الشفتين في إخراج صوت الباء. فالكلمة نفسها في العبرانية بلبل وفي اليونانية بمبينو وفي اللاتينية بلبوتيو. ويُسمى الذي لا يفصح اللفظ بلفظة بلبوس فإذاً المدينة بقي اسمها بلفظه ولكن غُيّر معناه كما كان من أمر نابال فإن معناه في الأصل عود (أي آلة الطرب المعروفة) ولكن امرأته جعلت معناه حماقة (١صموئيل ٢٥: ٢٥) انتهى كلام بين سمث.

(وبقي لنا هنا كلام وهو أن رسم بابل في العبرانية «ببل» لا «باب إل» ولا «باب إلي» ولا «باب بعل» فهو على ذلك ليس اسماً لسوى البلبلة ولعله مصدر فعل ممات لفظه «ببل» بمعنى جمجم أي لم يبن أو لم يُفهم. ولم يزل هذا الفعل في بعض اللغات الآرية كالإنكليزية. ولعله أُخذ أصلاً عن لفظ الاطفال عند تكلمهم ولم تزل منه بقية في العربية كالببة وأصلها البب لأن تاء التأنيث من الزوائد وهي حكاية صوت الولد عند تلفظه فيكون تسميتها عند بعض الأمم القديمة بباب إل و باب إلي طارئة لا أصلية. ويجوز كما قال العلامة سمث أن يكون للاسم العلم معنيان ويختار المتكلم أحدهما لمناسبته لغرضه كما فعلت امرأة نابال. وهذا مما استفاض في العربية فإن تدمر اسم أعجمي معناه النحل لكن المتنبي اتخذ فعلاً مضارعاً من الدمار في قوله:

وليس بغير تدمر مستغاث وتدمر كاسمها لهم دمار

فقول المتنبي هنا كقول أبيجايل في زوجها لداود «لا يضعن سيدي قلبه… على نابال لأن كاسمه هكذا هو نابال اسمه والحماقة عنده». وفي قول النابغة إن سليمان بنى تدمر إشارة إلى أن اسمها ليس بعربي وهذا قوله:

إلا سليمان إذ قال الإله له قُم في البرية فأحددها عن الفند
وجيش الجن أني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد

وما أتته إبياجيل والمتنبي نوع من البديع يُعرف في العربية بالاتفاق. ومنه قول الرضي بن أبي حصينة المصري للإفرنج حين غزاهم لؤلؤ صاحب الملك الناصر:

عدوكم لؤلؤ والبحر مسكنه والدر في البحر لا يخشى من الغِير

وقصص بابل عند قدماء الوثنيين موافقة لنبإ التوراة. فإن فيها أن ذلك البرج أُريد أن يكون رأسه في السماء وأن الذين قصدوا ذلك خطئوا وأثموا. وظهر فيها أن الكاتب سرّ بخيبتهم وإن الآلهة كانت تهدم ليلاً ما يبنونها نهاراً فبلبل أخيراً بعل أبو الآلهة ألسنتهم. ومن العجب أنه جاء في هذه الأسطورة الفعل بلبل الذي في العبرانية عينه.

وبقي في هذا مسئلة برج بابل وهي هل كان ذلك البرج هيكل بعل الذي هدمه زركسيس وكان مبنياً في وسط بابل أو برج بُرسيا الذي كان في ضاحيتها وعلى أمد ميلين منها جنوباً. فإن هذا البرج كان مرصداً لفلكي الكلدانيين القدماء. قال أوبرت معنى اسمه «برج اللغات». والذي نرجحه أن البرج الخرب المعروف الآن ببرج نمرود وهو البرج المذكور في آية الكتاب لأن هيكل بعل بُني بعده بدليل أنه أُنشئ في زمان الملوك الكلدانيين.

مواليد سام

١٠ – ٢٦ «١٠ هٰذِهِ مَوَالِيدُ سَامٍ: لَمَّا كَانَ سَامٌ ٱبْنَ مِئَةِ سَنَةٍ وَلَدَ أَرْفَكْشَادَ، بَعْدَ ٱلطُّوفَانِ بِسَنَتَيْنِ. ١١ وَعَاشَ سَامٌ بَعْدَ مَا وَلَدَ أَرْفَكْشَادَ خَمْسَ مِئَةِ سَنَةٍ، وَوَلَدَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. ١٢ وَعَاشَ أَرْفَكْشَادُ خَمْساً وَثَلاَثِينَ سَنَةً وَوَلَدَ شَالَحَ. ١٣ وَعَاشَ أَرْفَكْشَادُ بَعْدَ مَا وَلَدَ شَالَحَ أَرْبَعَ مِئَةٍ وَثَلاَثَ سِنِينَ، وَوَلَدَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. ١٤ وَعَاشَ شَالَحُ ثَلاَثِينَ سَنَةً وَوَلَدَ عَابِرَ. ١٥ وَعَاشَ شَالَحُ بَعْدَ مَا وَلَدَ عَابِرَ أَرْبَعَ مِئَةٍ وَثَلاَثَ سِنِينَ، وَوَلَدَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. ١٦ وَعَاشَ عَابِرُ أَرْبَعاً وَثَلاَثِينَ سَنَةً وَوَلَدَ فَالَجَ. ١٧ وَعَاشَ عَابِرُ بَعْدَ مَا وَلَدَ فَالَجَ أَرْبَعَ مِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً، وَوَلَدَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. ١٨ وَعَاشَ فَالَجُ ثَلاَثِينَ سَنَةً وَوَلَدَ رَعُوَ. ١٩ وَعَاشَ فَالَجُ بَعْدَ مَا وَلَدَ رَعُوَ مِئَتَيْنِ وَتِسْعَ سِنِينَ، وَوَلَدَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. ٢٠ وَعَاشَ رَعُو ٱثْنَتَيْنِ وَثَلاَثِينَ سَنَةً وَوَلَدَ سَرُوجَ. ٢١ وَعَاشَ رَعُو بَعْدَ مَا وَلَدَ سَرُوجَ مِئَتَيْنِ وَسَبْعَ سِنِينَ، وَوَلَدَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. ٢٢ وَعَاشَ سَرُوجُ ثَلاَثِينَ سَنَةً وَوَلَدَ نَاحُورَ. ٢٣ وَعَاشَ سَرُوجُ بَعْدَ مَا وَلَدَ نَاحُورَ مِئَتَيْ سَنَةٍ، وَوَلَدَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. ٢٤ وَعَاشَ نَاحُورُ تِسْعاً وَعِشْرِينَ سَنَةً وَوَلَدَ تَارَحَ. ٢٥ وَعَاشَ نَاحُورُ بَعْدَ مَا وَلَدَ تَارَحَ مِئَةً وَتِسْعَ عَشَرَةَ سَنَةً، وَوَلَدَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. ٢٦ وَعَاشَ تَارَحُ سَبْعِينَ سَنَةً، وَوَلَدَ أَبْرَامَ وَنَاحُورَ وَهَارَانَ».

ص ١٠: ٢٢ و١أيام ١: ١٧ لوقا ٣: ٣٥ و٣٦ و١أيام ١: ١٩ يشوع ٢٤: ٢ و١أيام ١: ٢٦

هٰذِهِ مَوَالِيدُ سَامٍ هنا كما في الأصحاح الخامس من كبير الاختلاف بين العبرانية والسامرية والسبعينية فعلى ما في العبرانية كل السنين من سام إلى ميلاد إبراهيم ٣٩٠. وعلى ما في السامرية ١٠٤٠. وعلى ما في السبعينية ١٢٧٠. ويحصل هذا الفرق بزيادة مئة سنة على سن كل من الآباء قبل ميلاد ابنه الأكبر. وفي السبعينية ايضاً أدراج قينان بين أرفكشاد وشالح. وهذا الاختلاف ليس بقليل في التاريخ لكن العلماء منذ زمن بعيد حكموا بأن هذه المواليد لم يُقصد بها التاريخ الزماني وقالوا اعتمادها في ذلك يؤدي إلى الخطإ (على أن العمدة عندنا النسخة العبرانية لأنها الأصل فيرجع إليها عند الاختلاف إلا ما ندر).

ومواليد سام هنا كمواليد شيث عدداً (ص ٥) وهذا العدد عند اليهود من الأعداد المقدسة أو المعتبرة. والأسماء هنا عبرانية إلا أرفكشاد (ص ١٠: ٢٢) وهي ما يأتي:

شَالَحُ أي إرسال فهو يشير إلى إرسال الناس إلى أرضين جديدة يسكنونها.

عَابِرَ أي عبور فهو يشير إلى أن المهاجرين عبروا المجاري الفاصلة ولعل منها دجلة وغلبوا الموانع ومنها محاربة القبائل الحاميّة في ما بين النهرين.

فَالَجَ أي فلج أعني قسمة فهو تذكار لانفصال العرب اليقطانين عن الأصل (انظر تفسير ص ١٠: ٢٥).

رَعُوَ أي مصاحبة فهو يشير إلى اجتماع المهاجرين اليقطانين.

سَرُوجَ أي شبك أو تشبيك ولعله يشير إلى اختلاط الساميين بعد انقسامهم بواسطة الزيجة.

نَاحُورَ أي لهثٌ أو جهاد ولعل في ذلك إشارة إلى السعي والاجتهاد في القرب من الله الذي فصل به شعبه عن سائر الأجيال والقبائل وميّزه بعقيدة التوحيد. ويظهر من أقوال يشوع أن الوثنية انتشرت بين قبائل سام حتى لحق تأثيرها بناحور وتارح (يشوع ٢٤: ٢). والمرجّح أن ابتداء الرجوع إلى التوحيد كان من تعليم إبراهيم ورفضه ما كان عليه قومه. وكانوا يعبدون يومئذ الترافيم وبقي ذلك بين القوم طويلاً كما تبين من نبإ لابان وراحيل (ص ٣١: ٣٠ و٣٤).

تَارَحَ أي جولان أو طوفان فهو يدل على بداءة افتراق بعض القبيلة أو العشيرة عن بعض للاختلاف في العقائد الدينية وكانت نهايته مهاجرة إبراهم إلى كنعان.

أَبْرَامَ أي أب سام أو أبو علاء أو أبو رفعة فهو ينبئ بارتفاع إبراهيم بعد ذلك بأن يكون قصده سامياً. ويصعب علينا تعيين زمن ميلاده. فإنه قيل هنا «وعاش تارح سبعين سنة وولد أبرام وناحور وهاران». وفي الآية الثانية والثلاثين «وكانت أيام تارح مئتين وخمس سنين». ولكن قال القديس استفانوس أن تارح مات في حاران قبل هجرة إبراهيم (أعمال ٧: ٤). وجاء في هذا السفر (أي سفر التكوين) أنه «كَانَ أَبْرَامُ ٱبْنَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً لَمَّا خَرَجَ مِنْ حَارَانَ» (ص ١٢: ٤). فلنا من ذلك أحد أمرين الأول أن تارح كان ابن مئة وثلاثين سنة يوم ولد أبرام فيكون أبرام أصغر أبنائه. والثاني أن كل أيام تارح مئة وخمس وأربعون سنة كما في النسخة السامرية. ورأى بعضهم أن هذا هو الحق لأمرين الأول أن ناحور مات في سن المئة والثامنة والأربعين فلا يرجح أن تارح يعيش أكثر من ذلك كثيراً كما في العبرانية لأن العمر كان يقصر بعد الطوفان بالتدريج. والثاني أن إبراهيم حسب من المحال أن يولد للإنسان أولاد وهو في سن المئة ولو كان قد وُلد وأبوه في سن المئة والثلاثين لم ينطق بما نطق به (ص ١٧: ١٧).

مواليد تارح

٢٧ «ًوَهٰذِهِ مَوَالِيدُ تَارَحَ: وَلَدَ تَارَحُ أَبْرَامَ وَنَاحُورَ وَهَارَانَ. وَوَلَدَ هَارَانُ لُوطا».

وَهٰذِهِ مَوَالِيدُ الخ الكلام على هذه المواليد يشغل هذه الآية وما بعدها إلى (ص ١٥: ١١) وهو من أكثر ما في سفر التكوين لذة وفائدة لأن فيه تاريخ حياة أبينا إبراهيم الذي سُرّ الله بأن اختاره لوضع أساس الكنيسة الإسرائيلية التي كانت برسومها ومزاميرها وأنبيائها نور الدين الحق والطريق الممهدة لمجيء المسيح. ولكن مع أن إبراهيم هو المركز الأصلي دُعيت المواليد هنا مواليد تارح لا مواليد إبراهيم كما دعي تاريخ يوسف مواليد يعقوب (ص ٣٧: ٢) وذلك ليبين اتصال إبراهيم بالسلف وإن تارح كان ممثلاً لسام.

وَلَدَ تَارَحُ أَبْرَامَ اجتهد المفسرون للتوفيق بين ما قاله استفانوس في سفر الأعمال (أعمال ٧: ٤) وما قيل في هذا السفر في الأصل العبراني بأن جعلوا إبراهيم أصغر أولاد تارح وذُكر أولاً لحسن مبدإه الروحي. فقال بعضهم هذا مخالف لقواعد اللغة العبرانية (ولهذا أثبت صحة ما في النسخة السامرية على ما ذُكر في تفسير ع ٢٦).

٢٨ «وَمَاتَ هَارَانُ قَبْلَ تَارَحَ أَبِيهِ فِي أَرْضِ مِيلاَدِهِ فِي أُورِ ٱلْكِلْدَانِيِّينَ».

وَمَاتَ هَارَانُ قَبْلَ تَارَحَ أَبِيهِ وفي الأصل العبراني مات هاران تجاه أبيه أو في حضرة أبيه. وهذا أول أنباء التوراة بموت الولد موتاً طبيعياً قبل والده.

أُورِ ٱلْكِلْدَانِيِّينَ وفي الأصل العبراني «أوركسديم» وعُرفت هذه المدينة على اليقين مما اكتُشف من الكتابات السفينية أنها مدينة أم قير الباقية أطلالها إلى اليوم. وكان سكان هذه المدينة الأكاديون وهم أمة طورانية نشأت عن نسل يافث ثم غلبها الساميون ومن ثم غلبوا كل أهل شنعار أي بلاد بابل وطردوا منها الكوشيين. وظن المستر سيس أن ذلك كان قبل الميلاد بنحو ألفي سنة أو ثلاثة آلاف سنة. ولكنه حقق أن مصيرها دولة قانونية اسم ملكها لغباغاس وانقسامها إلى عدة ممالك خاضعة لصولجانه كان قبل ميلاد المسيح بثلاثة آلاف سنة. وفي بعض المشاهد اليوم كثير من قطع القرميد التي عليها الرسوم السفينية وعددها نحو ٤٠٠٠٠ من مكتبة الملك لغباغاس وعُرف منها أن اللغة الأكادية كانت في ذلك الوقت منتشرة وكثير من المؤلفات التي وُجدت في خرب أغاني مترجم منها. وبها زال كل الصعوبات المتعلقة بقدم الكتابة بالحروف الهجائية الصوتية أيام لم يكن للناس سوى الرسوم الهيروغليفية الإشارية أي كتابة المصريين بصور المخلوقات. وسافر إبراهيم من تلك المدينة أيام كانت مهد المعارف وبلغت أوج الشهرة. وأنبأت تلك الكتابات بكثير مما كان فيها من الأعمال المتعلقة بأمور المعاش وهي ما وُجد مرسوماً على الآنية الخزفية فالمرجّح إن ذلك الأمير أي أبرام حمل معه ألواح القرميد والاسطوانات المكتوبة عليها الأنباء القديمة والحجج والصكوك والرسائل والمقالات العلمية. فلا نعجب اليوم من الاتفاق بين أنباء كتاب التكوين قبل هجرة إبراهيم والأنباء التي حفظتها لنا الكتابات السفينية كما كنا نعجب قبل الوقوف عليها. على أن المؤمن بالوحي لا يعجز عن دفع الشبه الناشئة عن مخالفة تلك الأنباء لما في الكتاب المقدس فإن معظم ذلك الخلاف أو كله راجع إلى عقائدهم الخرافية فإنهم كانوا وثنيين مشركين عندهم آلة كثيرة وآمنوا باثني عشر إلهاً كبيراً وعدد لا يحصى من الآلهة الصغيرة. وزاد الوثنيون الساميون بعض الآلهة عليها ومن ذلك البعلة زوجة البعل وإستار وهي الزهرة عند العرب وفينُس إلاهة الحب والجمال عند اليونان. فهذا مما لم تذكره التوراة ولا أثر فيها لخرافات نظير هذه. ولا يوجد في المؤلفات الكلدانية شيء يحاكي في السمو والجلالة ما أتى في بداءة هذا النبإ في كتاب الوحي وهو قوله «في البدء خلق الله السموات والأرض».

وإذ كانت «أور» كلمة أكادية وجب أن نعتزل اللغات الساميّة في تفسير معناها فهي تعني على مقتضى الأكادية أم قير أي كثيرة القير أو مصدر القير لأنه كان يُستخرج منها ثم دعيت مُقير.

٢٩ «وَاتَّخَذَ أَبْرَامُ وَنَاحُورُ لَهُمَا ٱمْرَأَتَيْنِ: ٱسْمُ ٱمْرَأَةِ أَبْرَامَ سَارَايُ، وَٱسْمُ ٱمْرَأَةِ نَاحُورَ مِلْكَةُ بِنْتُ هَارَانَ، أَبِي مِلْكَةَ وَأَبِي يِسْكَةَ».

ص ١٧: ١٥ و٢٠: ١٢ ص ٢٢: ٢٠

سَارَايُ… مِلْكَةُ كانت ساراي أخت إبراهيم من أبيه وغير أمه (ص ٢٠: ١٢) وكانت ملكة ابنة أخي ناحور. وكانت مثل هذه الزيجة جائزة يومئذ بل كان الاقتران بين الأقرباء سُنّة دينية (ص ٢٤: ٣ و٤ و٢٨: ١ و٢).

يِسْكَةَ هي ابنة هاران وأخت ملكة لعلها ذُكرت هنا لأنها كانت مشهورة بشيء لم يذكره الكتاب لا لأنها امرأة لوط كما ظن بعضهم فيكون ذكرها كذكر نعمة (انظر ص ٤: ٢٢).

٣٠ «وَكَانَتْ سَارَايُ عَاقِراً لَيْسَ لَهَا وَلَدٌ».

ص ١٦: ١ و٢

(هذه الآية من جملتين الثانية تفسير للأولى مثل هذا كثير في الكتاب المقدس ولا سيما الأسفار الشعرية).

٣١ « وَأَخَذَ تَارَحُ أَبْرَامَ ٱبْنَهُ، وَلُوطاً بْنَ هَارَانَ ٱبْنَ ٱبْنِهِ، وَسَارَايَ كَنَّتَهُ ٱمْرَأَةَ أَبْرَامَ ٱبْنِهِ، فَخَرَجُوا مَعاً مِنْ أُورِ ٱلْكِلْدَانِيِّينَ لِيَذْهَبُوا إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ. فَأَتَوْا إِلَى حَارَانَ وَأَقَامُوا هُنَاكَ».

ص ١٢: ١ نحميا ٩: ٧ ص ١٠: ١٩ أعمال ٧: ٤

حَارَانَ هي حاران المذكورة في سفر الأعمال (أعمال ٧: ٤) قال بعضهم هي مكان أو مدينة في الشمال الشرقي من الجزيرة أي ما بين النهرين واسمها منقول عن اسم فاعل معناه جاف. وقال آخر أنه أُرفا. وآخر أنها على أمد عشرين ميلاً جغرافياً من إدسا وعلى الجنوب الغربي منها وإن اسمها كلمة أكادية معناها طريق. وقال المستر سَيس أنها باب الطريق من الشرق إلى الغرب.

وكانت هجرة تارح تُعد انتقال قبيلة من الساميين شمالاً (انظر تفسير ع ٦) إذ حاربها العيلاميون وكانوا يومئذ متسلطين على غربي أسيا وكانت علة محاربتهم لتلك القبيلة أو معظمها الخلاف الديني لأن أهل أور كانوا يعبدون الإله سينا أي القمر. وتارح لم يكن نقي الإيمان كإبراهيم لكنه لم يكن من متعصبي الوثنيين ولم تكن وثنيته صرفاً. ولماذا قصدوا كنعان. الذي يظهر لنا من الكتابات إن الله دعا إبراهيم إلى أرض كنعان (ص ١٢: ١). ولعله كان المتواتر في عشيرة إبراهيم أو الواصل إليهم من الآباء السالفين أن أرض كنعان هي أرض الرجاء. وغزوة أمرافل ملك شنعار ومن معه لجنوبي فلسطين على ما ذكر في لأصحاح الرابع عشر وعلى ما عرفناه من تلك الحركات العامة بما لنا من وسائل المعرفة اليوم توجب علينا أن لا نفرض أن البُعد بين الفريقين كما بين بابل وكنعان سبب عدم معرفة بعضهم البعض. ونعرف من ذلك أيضاً أن دعوة الله لإبراهيم كانت في أور الكلدانيين (انظر ص ١٥: ٧ ونحميا ٩: ٧ وأعمال ٧: ٢). ونعلم من أول الأصحاح الثاني عشر أن الله لم يعيّن أمور دعوته لإبراهيم تمام التعيين في ذلك الوقت.

٣٢ «وَكَانَتْ أَيَّامُ تَارَحَ مِئَتَيْنِ وَخَمْسَ سِنِينَ. وَمَاتَ تَارَحُ فِي حَارَانَ».

أَيَّامُ تَارَحَ (انظر تفسير ع ٢٨) يُفهم من التوراة السامرية أن أبرام ترك حاران في السنة التي مات فيها تارح وأن ناحور كان مع تارح حينئذ (ص ٢٤: ١٠). وإن أبرام دُعي أن يترك عشيرته وبيت أبيه وأن كل الذين كانوا مع تارح هاجروا مع أبرام إلى أرض كنعان (ع ٣١ وص ١٢: ١).

السابق
التالي

 

زر الذهاب إلى الأعلى