سفر التكوين | 03 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر التكوين
للقس . وليم مارش
اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّالِثُ
١ «وَكَانَتِ ٱلْحَيَّةُ أَحْيَلَ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ ٱلْبَرِّيَّةِ ٱلَّتِي عَمِلَهَا ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ، فَقَالَتْ لِلْمَرْأَةِ: أَحَقّاً قَالَ ٱللهُ لاَ تَأْكُلاَ مِنْ كُلِّ شَجَرِ ٱلْجَنَّةِ؟».
رؤيا ١٢: ٩ و٢٠: ٢ متّى ١٠: ١٦ و٢كورنثوس ١١: ٣
وَكَانَتِ ٱلْحَيَّةُ الحيّة في العبرانية «نحش» فهي والحنَش في العربية من أصل واحد قُلبت فيه بعض الأحرف.
أَحْيَلَ وفي العبرانية «عروم» وفي العربية العَرِم المؤذي وعرمه آذاه شديداً وأعرمه جنى عليه ما لم يجنه ومعناها في العبرانية أوفر مكراً وخداعاً. وتأتي بمعنى أذكى وأدهى وعلى هذا جرت ترجمة السبعين فكأن شرها كان بأن استخدمت ذكاءها للخداع. والظاهر من النص إن حواء لم تظهر أدنى دهشة أو تعجُب من مخاطبة الحية لها. وهذا يدل على أنه كان قد مرّ عليها زمان طويل في الفردوس حتى عرفت كثيراً من طبائع الحيوانات فيه وألِفتها.
فَقَالَتْ لِلْمَرْأَةِ أغوت الحيّة المرأة لتغوي الرجل فإنها من فرط احتيالها رأت إغواءه بواسطة معينته وحبيبته الوحيدة من سكان الفردوس أسهل من الإتيان إليه رأساً. وهل كانت هذه الحية حية حقيقية استخدمها الشيطان أو كانت الشيطان نفسه ظهر بصورة حية وهل تكلمت حقيقة أو لا وهل الكلام مجاز وتمثيل ذلك لا نعلمه وترك الجواب على هذه المسائل خير من إتيانه ما لم نقف على ما يدل على اليقين. فعلينا إن نذكر هنا إن الله قصد إخبارنا بتجربة الإنسان وسقوطه ودخول الخطيئة إلى العالم على ذلك الأسلوب فيجب أن نقتصر على معرفة المقصود من النبإ. وسيأتي تفصيل ذلك في تفسير (ع ١٤).
أَحَقّاً قَالَ ٱللهُ الاستفهام هنا للتعجب والإنكار معاً كأنها قالت أعجب كل العجب من أن الله يقول ذلك وهو مما لا أكاد أصدقه. وغايتها من ذلك إن توقع في نفس حواء أن الباري سبحانه وتعالى قاس ظالم ومن كل كذلك وجب أن لا يُطاع وأن تنسي المرأة أن الرب الإله «يهوه إلوهيم» الرحيم المحسن هو الذي نهى عن الأكل من تلك الشجرة.
مِنْ كُلِّ شَجَرِ ٱلْجَنَّةِ لم يقل الله ذلك فهذا كذب من الحيّة قصدت منه حمل حواء على زيادة الكره لله.
٢، ٣ «٢ فَقَالَتِ ٱلْمَرْأَةُ لِلْحَيَّةِ: مِنْ ثَمَرِ شَجَرِ ٱلْجَنَّةِ نَأْكُلُ، ٣ وَأَمَّا ثَمَرُ ٱلشَّجَرَةِ ٱلَّتِي فِي وَسَطِ ٱلْجَنَّةِ فَقَالَ ٱللهُ: لاَ تَأْكُلاَ مِنْهُ وَلاَ تَمَسَّاهُ لِئَلاَّ تَمُوتَا».
ص ٢: ١٧
فَقَالَتِ ٱلْمَرْأَةُ أبانت حواء الواقع غير منتبهة للحيلة.
٤ «فَقَالَتِ ٱلْحَيَّةُ لِلْمَرْأَةِ: لَنْ تَمُوتَا!».
ع ١٣ ويوحنا ٨: ٤٤ و٢كورنثوس ١١: ٣
لَنْ تَمُوتَا نسبت هنا الكذب والاحتيال إلى الله جلّ وعلا.
٥ «بَلِ ٱللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَٱللهِ عَارِفَيْنِ ٱلْخَيْرَ وَٱلشَّرَّ».
ع ٧ أعمال ١٢: ٢٢ و٢تسالونيكي ٢: ٤ ص ٢: ٩ وتثنية ١: ٣٩ و٢صموئيل ١٤: ١٧ و١ملوك ٣: ٩
تَكُونَانِ كَٱللهِ في معرفة الخير والشر. كانت حواء في جوابها على كلام الحيّة الأول مصيبة ولكنها لعدم انتباهنا لقصد الحيّة بكذبها ولم تظنها كذبت قصداً لأنها هي لم تكن قد عرفت ما هو الكذب سقطت في التجربة وخسرت السعادة. ويجب هنا أن لا نشدد اللوم على حواء كأننا خير منها فإنها لم تجرب بغرض دنيء بل بالمعرفة وبلوغ الكمال فشاءت أن ترتفع إلى مقام فوق مقامها الطبيعي لكنها أثمت بمخالفة نهي الله ولذلك سقطت.
٦ «فَرَأَتِ ٱلْمَرْأَةُ أَنَّ ٱلشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ ٱلشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضاً مَعَهَا فَأَكَلَ».
١تيموثاوس ٢: ١٤ ع ١٢ و١٧
فَرَأَتِ ٱلْمَرْأَةُ… فَأَخَذَتْ وَأَكَلَتْ وَأَعْطَتْ فترى من هذا إن السقوط لم يكن دفعياً بل تدريجياً. رأت الشجرة فهاجت الشهوة إذ حركها جمالها وصلاحها للأكل وترتب الفائدة العظيمة عليه فكان جمالها جاذباً للنظر. وصلاحها للأكل جاذباً للنفس وشهوتها. وترتب اتساع المعرفة والعلم على الأكل منها على ما قالت الحية جاذباً للعقل. فكان هنالك جاذب حسي وجاذب عقلي وجاذب وجداني فلم يبق في حواء شيء لم يقُد إلى التجربة فعجزت عن مقاومتها فسقطت ولكنها لو اعتصمت بالإيمان بالله لغلبت كل تلك الجواذب وثبتت. ولما صارت إلى ذلك أخذت من الثمرة وأعطت زوجها فأكل معها وسقط معها. وهذه أول مرة دُعي آدم رجلها.
٧ «فَٱنْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ. فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ وَصَنَعَا لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ».
ع ٥ وص ٢١: ١٩ وعدد ٢٢: ٣١ و٢ملوك ٦: ٢٠ وأعمال ٢٦: ١٨ ص ٢: ٢٥ ورؤيا ١٦: ١٥
فَٱنْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا أي شعرا بمعصيتهما على أثر أكلهما من الثمرة التي نهاهما الله عن الأكل منها. ويظهر من سياق الكلام أنهما أكلا معاً وإلا كان خطأ حواء مضاعفاً بإغرائها آدم بالأكل لأنها بذلك تكون قادته إلى الشر الذي عرفته. على أن فعلها لا يخلو من بعض المعرفة والاستحسان ولا بد من أن آدم أطاعها طمعاً بأن يصير مثل الله فكان شريكها أيضاً في علة الإقدام على المعصية. لكن تلك المعرفة التي حصلا عليها كانت شراً من الجهل لأنها أوجبت عليهما الموت بعد الخزي والعار. نعم إنهما حصلا على تنبه الذهن واتساع العلم لكن ذلك كلفهما نفقة عظيمة وهي البر والسلام.
فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ لا داعي إلى القول بأن هذا التين نوع من الموز وهو المعروف عند النباتيين «بموزا بارادسياكا» أي الموز الفردوسي الذي يبلغ طول ورقته عشر اقدام. وإن الكلمة في الأصل العبراني (תאנה) (تانه) جاءت في سائر ما ذُكرت فيه من المواضع بمعنى التين المعتاد فهو من أقدم ما عرفه البشر من الأشجار وانتفعوا به. والصعوبة هنا في قوله «خاطا» ومترجم السريانيّة انتبه لذلك وصعب عليه إثبات أن حواء كانت عرفت الخياطة وتحكمها ولذلك ترجم العبارة بقوله «لصقا أوراق التين». والحق إن الكلمة العبرانية تعني عملاً أكثر من هذا. والمرجّح أنه مرّ وقت طويل بين معصيتهما وعقابهما عليها ولذلك لم يسرعا إلى التستر فكان لهما أن ينظرا في الوسيلة فاخترعا الخياطة غير المحكمة.
مَآزِرَ جمع مئزر وهو ما يستر العورة من الحقوين إلى أسفل.
٨ «وَسَمِعَا صَوْتَ ٱلرَّبِّ ٱلإِلٰهِ مَاشِياً فِي ٱلْجَنَّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ ٱلنَّهَارِ، فَٱخْتَبَأَ آدَمُ وَٱمْرَأَتُهُ مِنْ وَجْهِ ٱلرَّبِّ ٱلإِلٰهِ فِي وَسَطِ شَجَرِ ٱلْجَنَّةِ».
خروج ١٩: ١٩ و١ملوك ١٩: ١٢ وأيوب ٣٨: ١ ومتّى ٣: ١٧ رؤيا ٢١: ٣ نشيد الأنشاد ٢: ١٧ و٤: ٦ إرميا ٢٣: ٢٤ وعاموس ٩: ٣
وَسَمِعَا صَوْتَ ٱلرَّبِّ ٱلإِلٰهِ مَاشِياً فِي ٱلْجَنَّةِ هذا يدل على أن الله كان يظهر لهما في الفردوس ويخاطبهما وإنهما كانا في خير نعمة وقربى من ربهما قبل ان يعصياه ولعله كان يظهر لهما في هيئة ملاك.
عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ ٱلنَّهَارِ أي عند انخفاض الحر وأخذهما في التنزه فكان رب الجنة يعاشرهما في ذلك الوقت المناسب للعشرة. والكلمة العبرانية (מחהלך) المترجمة بماشٍ تفيد السَّير للمسرة.
فَٱخْتَبَأَ آدَمُ وَٱمْرَأَتُهُ مِنْ وَجْهِ ٱلرَّبِّ ٱلإِلٰهِ كان ذلك نتيجة المعصية فهربهما من الله كان أمراً جديداً فإنهما كانا قبل السقوط يسرَّان بالمشي معه ولكنه لم يتركهما كما تركاه بل طلبهما. واستناج الآباء الأولون من ذلك إن ما أتاه الله كان إنباء بتجسد الابن الذي جاء ليطلب ما قد هلك. والذي نراه هنا أنّ أول عواقب الخطيئة الخجل لأنهما اجتهدا قبل كل شيء في أن يسترا جسديهما وأنّ ثانيهما الخوف لأنهما هربا واختبأا لكن صوت الله وصل إليهما وبعد التوبيخ والقصاص وهب لهما الشفاء والرجاء.
٩ «فَنَادَى ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ آدَمَ: أَيْنَ أَنْتَ؟».
أَيْنَ أَنْتَ الاستفهام هنا للتوبيخ ولحمل المسؤول على الإقرار عن علة ما أتاه لا لطلب الفهم لأن الله عرف أين كان ووجه الصوت إلى مخبإه. فكأنه تعالى قال له يا آدم قل لي لماذا هربت مني بعد أن كنت تسرع إليّ مسروراً بلقائي فأين كنت وإلى أين صرت. والظاهر أن آدم فهم ذلك لأنه أجابه ببيان العلة لا ببيان المخبإ كما في الآية التالية.
١٠ «فَقَالَ: سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي ٱلْجَنَّةِ فَخَشِيتُ، لأَنِّي عُرْيَانٌ فَٱخْتَبَأْتُ».
خروج ٣: ٦ و١يوحنا ٣: ٢٠
لأَنِّي عُرْيَانٌ فَٱخْتَبَأْتُ هذا جواب سؤال عن العلة لا جواب سؤال عن المكان. والذي جعل عريه علة الهرب من الله عصيانه فإنه قبل ذلك كان يلاقي ربه وهو عريان بلا خجل ولا خشية. فانظر إن آدم اتخذ هنا نتيجة الخطيئة عذراً وأولاده جارون مجراه.
١١ «فَقَالَ: مَنْ أَعْلَمَكَ أَنَّكَ عُرْيَانٌ؟ هَلْ أَكَلْتَ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ ٱلَّتِي أَوْصَيْتُكَ أَنْ لاَ تَأْكُلَ مِنْهَا؟».
مَنْ أَعْلَمَكَ أَنَّكَ عُرْيَانٌ نبّه الله بهذا ضمير آدم وجعله يشعر بنقصه وإن سوء حاله نتيجة عمله فالاستفهام هنا للتنبيه.
١٢، ١٣ «١٢ فَقَالَ آدَمُ: ٱلْمَرْأَةُ ٱلَّتِي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أَعْطَتْنِي مِنَ ٱلشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ. ١٣ فَقَالَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ لِلْمَرْأَةِ: مَا هٰذَا ٱلَّذِي فَعَلْتِ؟ فَقَالَتِ ٱلْمَرْأَةُ: ٱلْحَيَّةُ غَرَّتْنِي فَأَكَلْتُ».
ص ٢: ٢٢ أيوب ٣١: ٣٣ وأمثال ٢٨: ١٣ ع ٤ و٥ و٢كورنثوس ١١: ٣ و١تيموثاوس ٢: ١٤
هِيَ أَعْطَتْنِي أي أكلت إطاعة لمن خلقتها لي. لم يشعر آدم بما كان عليه من التكليف والمسوؤلية وما عليه من الواجبات لمن خُلقت له معيناً وأنه كان يجب عليه أن يحرسها ويساعدها على التجربة. ومن الخطإ أن نظن إن آدم حاول بذلك أن يجعل اللوم على حواء ثم على الله الذي أعطاه إياها فالأولى أن نفهم إن آدم أجاب بالواقع التاريخي حسب الظاهر وإنه كان عليه أن يفعل ما فعل.
فَقَالَتِ ٱلْمَرْأَةُ: ٱلْحَيَّةُ غَرَّتْنِي جواب حواء أحسن من جواب آدم لأن فيه اعترافاً بأنها خُدعت وضلت وتعدّت وصية الله. وفي جواب آدم أنه فعل ما كان يجب عليه لحواء من الطاعة والتسليم.
١٤، ١٥ «١٤ فَقَالَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ لِلْحَيَّةِ: لأَنَّكِ فَعَلْتِ هٰذَا، مَلْعُونَةٌ أَنْتِ مِنْ جَمِيعِ ٱلْبَهَائِمِ وَمِنْ جَمِيعِ وُحُوشِ ٱلْبَرِّيَّةِ. عَلَى بَطْنِكِ تَسْعَيْنَ وَتُرَاباً تَأْكُلِينَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكِ. ١٥ وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ ٱلْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ».
ص ٤: ١١ وتثنية ٣٣: ٢٤ إشعياء ٦٥: ٢٥ و ميخا ٧: ١٧ متّى ٣: ٧ و١٣: ٣٨ و٢٣: ٣٣ ويوحنا ٨: ٤٤ وأعمال ١٣: ١٠ و١يوحنا ٣: ٨
لِلْحَيَّةِ إن الحيّة خدعت أبوينا عمداً بغية أن تقودهما إلى المعصية فلم يكن لها من عذر فعوقبت بلا فداء.
هذا العقاب جاء موافقاً لصورة المجرب والمقصود به عقاب الشيطان لا عقاب الحيوان فإن الحيّة لم تكن سوى تمثيل له. وفي ذلك ثلاثة مقاصد:
- الأول: إن الحيّة عوقبت بالسعي على البطن واللعنة من جميع البهائم والوحوش أي الحيوانات الداجنة والحيوانات الآبدة. والحية المعروفة اليوم ليست من تلك الحيوانات فيُظن أن الحية كانت مستوية القامة حسناء وإنها كانت داجنة عند آدم وكانت في بيته. ولكن مثل هذا التغير من خواص الأساطير التمثيلية والمعنى أن الشيطان صار بما أتاه إلى حال الذل والانحطاط والقبح كما صارت الحية إلى تلك الحال بعد بديع الجمال وإنه لا زال يغوي الآدميين ويضرهم مع ما صار إليه من الخزي وسوء المنقلب.
- الثاني: إن الحيّة عُوقبت بأكل التراب كناية عن الخيبة والدناءة وكذا أمر الشيطان فإنه بتجربته أعلن خزي نفسه ومجد الله. ومثله ملتون الشاعر في قصيدته المسماة بالفردوس المفقود ببطل إن كان ساقطاً والحق أنه عدو روحي ذليل.
- الثالث: دوام العداوة بين الحيّة والناس فهي تلدغ عقب الإنسان في سبيله وهو يطأها في ذلك السبيل ويسحقها. والواقع ينبئك بكره الناس للحية مع حسن صورة كثير من أنواعها. وقتلى لدغ الحيّات في البلاد الحارة كالهند أكثر من قتلى الوحوش المفترسة والعداوة الدائمة بين الإنسان والشيطان أظهر من أن تبيّن الناس الحيات والشيطان غريزي.
نَسْلِهَا… يَسْحَقُ رَأْسَكِ هنا الأمر كله وما بقي من أسفار الوحي إيضاح له وتفصيل للحرب والنصرة الأخيرة. وهنا المقصود من كل النبإ السابق على الصورة المذكورة. وفيه نرى النسبة الحّبية بين الله والإنسان والحب المنسوب إلى يهوه العهد الذي هو ذات لا ألوهية مجردة. فإن الله الرحيم غرس للإنسان الجنة وأنبت له فيها كل لذيذ وطيب ونافع وولاه إياها وجعلها له سكناً وأذن له أن يمشي معه فيها ووهب له التمتع بطيب العيش بما ولاه من العناية بها والأعمال فيها ومشاهدة أعمال العناية والتقدم في سنن المعرفة وترقية القوى العقلية ولما رأى أنه وحده من العقلاء الحسيين خلق له الزوجة اللطيفة الحسناء المحبوبة ولم يترك شيئاً يقتضيه كمال سعادته. ومع هذه كله عصاه ولكن الله لم يتركه للهلاك الأبدي بل وعده بمخلص وقائد يحارب الشيطان فيمشي هو تحت راية ذلك القائد العظيم ويجاهد فيفوز وينتصر ولا يكون انتصاره بقوة نفسه بل بقوة «نسل المرأة». وهذا النسل أسّ كل الوحي وحجر زاويته وروح النبوءة كلها. وكنى بنسل الحيّة عن كل جنود الشيطان.
١٦ «وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: تَكْثِيراً أُكَثِّرُ أَتْعَابَ حَبَلِكِ. بِٱلْوَجَعِ تَلِدِينَ أَوْلاَداً. وَإِلَى رَجُلِكِ يَكُونُ ٱشْتِيَاقُكِ وَهُوَ يَسُودُ عَلَيْكِ».
مزمور ٤٨: ٦ وإشعياء ١٣: ٨ و٢١: ٣ ويوحنا ١٥: ٢١ ص ٤: ٧ ونشيد الأنشاد ٧: ١٠ و١كورنثوس ١١: ٣ و١٤: ٣٤ وأفسس ٥: ٢٢ إلى ٢٤ وتيطس ٢: ٥ و١بطرس ٣: ١ و٥ و٦
وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ الخ لم يلعن المرأة كما لعن الحيّة لكنه عاقبها على إطاعتها للحيّة وإخطائها إليه تعالى وجعل عقابها أمرين:
الأول: إكثار أتعاب حبلها ووجع ولادتها. نعم إن من عقابها أحزانها واضطرابها بأمور كثيرة في هذا العالم ولكن ذلك مشترك فذكر هنا عقابها المختص بها وهو أعظم رزاياها في هذه الدنيا فإنها تتعب بالحبل أشد الأتعاب وتتعرض بالولادة للموت مع شديد الألم على أنها تفرح بعد الولادة بأن أتت بإنسان جديد في العالم.
يعسر على علماء الطبيعيات التعليل عن سبب أمراض حبل النساء وأوجاع الولادة بخلاف البهائم لأن هذه البهائم تحبل وتلد في صحة أحسن صحتها المعتادة وميلادها غالباً سهل بلا ألم. فلا يمكن تفسير هذا الفرق إلا بالعقاب الإلهي المذكور في هذه الآية.
الثاني: اشتياقها إلى رجلها وسيادته عليها. فانظر كيف انقلبت حالها أن الرجل كان يشتاق إليها ويطيعها كأنها تسود عليه قبل المعصية. والخلاصة أنها كانت مشتاقاً إليها فصارت مشتاقة وكانت مُطاعة سائدة فصارت مُطيعة مسودة. ومعنى اشتياقها إلى الرجل الخ ميلها أن يكون لها زوج وأنها تحبه وتخضع له وصارت في حال تفتقر فيها إلى ذلك. لكن بعض الناس جاز الحدّ بالتسلّط عليها. فإن هذا العقاب بلغ مبلغاً عظيماً بين الوثنيين فإن المرأة عندهم هبطت إلى أدنى دركات الذلّ. ولم تكن قليلة الذل عند اليهود وإن لم تهبط عندهم هبوطها عند الوثنيين فإن الرجل اليهودي كان يشتري المرأة من أبيها ويجعلها رهن إرادته في كل شيء. والمسيح ألغى هذا العقاب كله فالمرأة المسيحية كالرجل في الإنسانية والكرامة (غلاطية ٣: ٢٨).
١٧ – ١٩ «١٧ وَقَالَ لآدَمَ: لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِ ٱمْرَأَتِكَ وَأَكَلْتَ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ ٱلَّتِي أَوْصَيْتُكَ قَائِلاً: لاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، مَلْعُونَةٌ ٱلأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِٱلتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. ١٨ وَشَوْكاً وَحَسَكاً تُنْبِتُ لَكَ، وَتَأْكُلُ عُشْبَ ٱلْحَقْلِ. ١٩ بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزاً حَتَّى تَعُودَ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ».
ص ٢: ١٧ ص ٥: ٢٩ وإشعياء ٢٤: ٥ و٦ ورومية ٨: ٢٠ و٢٢ أيوب ٥: ٧ ومزمور ١٢٧: ٢ وجامعة ٢: ٢٣ و٣: ١٠ أيوب ٣١: ٤٠ وهوشع ١٠: ٨ ومتّى ٧: ١٦ وعبرانيين ٦: ٨ ص ١: ٢٩ ومزمور ١٠٤: ١٤ و٢تسالونيكي ٣: ١٠ ص ٢: ٧ ص ٢: ١٧ وأيوب ٢١: ٢٧ و٣٤: ١٥ ومزمور ١٠٤: ٢٩ و١٤٦: ٤ وجامعة ٣: ٢٠ و١٢: ٧ و رومية ٥: ١٢
وَقَالَ لآدَمَ هنا أول ما سمي الإنسان بآدم بدون أداة التعريف وما سبق ذُكر بها فهنا علم وما سبق اسم جنس. ولم يقصر ما قال عليه وحده بل جعله على نسله كله.
لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِ ٱمْرَأَتِكَ ما كان قد اتخذه عذراً هو الذي كان مؤاخذة فكأنه تعالى قال له اعتذرت بأنك سمعت لامرأتك فأقول لك أن ذلك السمع عينه هو خطيئتك لأنه كان يجب عليك أن تسمع لقولي لا لقولها ولا سيما إن قولها مناف لقولي.
شَوْكاً وَحَسَكاً تُنْبِتُ لَكَ… بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزاً وهنا انقلبت حال آدم كما انقلبت حال حواء فإن العالم ساد عليه بعد أن كان سيداً له. كانت الأرض تنبت له أطيب الأثمار وأنفعها فصارت تنبت له أخبثها وأضرها. وليس المعنى أنه خلق هذه جديداً بل جعلها تنبت بلا عناء الفلاحة والزراعة وجعل الجيدة محتاجة إلى ذلك بالتعب والألم. وقد ثبت في علم النبات إن بزرة واحدة من بزور الشوك تُنتج أول سنة ٢٤٠٠ بزرة وفي السنة الثانية ٥٧٦٠٠٠٠ بزرة وهلم جراً.
لأَنَّكَ تُرَابٌ هذا التعليل يدل على أن الموت كان من أحوال الإنسان الأصلية وإن الخلود من أحوال روحه. والبرهان الذي أقامه الأسقف بتلر على خلود النفس يستلزم موت الجسد فإنه قال الموت انحلال المركّب وانقسامه إلى أجزائه ولكن النفس جوهر بسيط فلا ينحل ولا ينقسم. وكان جسد آدم مركباً من أجزاء التراب المختلفة فكان قابلاً الانحلال والانقسام. وكان لأبوينا الأولين أن يخلدا في الجنة على سبيل المنحة الإلهية لا البنية الطبيعية كما دل على ذلك شجرة الحياة الرمزية ولكنهما فقدا تلك المنحة بالمعصية. وكان عرق الجبين مؤذناً بذلك لأنه من صنوف الانحلال.
٢٠ «وَدَعَا آدَمُ ٱسْمَ ٱمْرَأَتِهِ «حَوَّاءَ» لأَنَّهَا أُمُّ كُلِّ حَيٍّ».
وَدَعَا آدَمُ ٱسْمَ ٱمْرَأَتِهِ «حَوَّاءَ» لأَنَّهَا أُمُّ كُلِّ حَيٍّ وفي العبرانية (הוה) (حوه) وفي اليونانية (ZOE) ونوقش في اللفظة العبرانية أموصوف هي أي حياة كما في ترجمة السبعين أم صفة أي محيية أو معطية حياة بمعنى أنها تنتج أحياء. كان الموت حينئذ من أحوال آدم فكانت امرأته في درجة عالية من الاعتبار لأنه كان دوام الإنسان وإن «نسل المرأة» الذي ينهض البشر من السقوط نسلها. فإذاً كان عقاب المرأة بأنه تكثيراً كثر أتعاب حبلها وإنها بالوجع تلد أولاداً من أسباب جعلها ثمينة في عيني الرجل وبأنه يكون اشتياقها إلى رجلها حمله على أن ينظر إليها بالحنو والمحبة. ولم يفه بشيء من التوبيخ لها فتفسير قوله في الآية الثانية عشرة بأنه جعل الحق عليها وعلى الله سبحانه وتعالى خطأ والصواب ما فسرناه به في موضعه فهو لم يلُم حواء ولم يلُم خالقه بل كان معناه ما خلاصته إني لم أحسب أكلي من الثمرة خطيئة لأني اقتديت في ذلك بالمعينة المحبوبة الشريفة التي أعيطتنيها ورأيتها من خير هباتك. والتفت إليها حينئذ وسماها «حواء» أي حياته والمعوّضة عليه عما خسره والتي ستلد من ينقذه من الموت.
٢١ «وَصَنَعَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ لآدَمَ وَٱمْرَأَتِهِ أَقْمِصَةً مِنْ جِلْدٍ وَأَلْبَسَهُمَا».
ع ٧
أَقْمِصَةً مِنْ جِلْدٍ هذا يدل على أن الحيوانات ذُبحت في الفردوس ولم يتحقق نصاً أن الإنسان كان يتخذ لحوم البهائم طعاماً إلا بعد الطوفان ولم يكن طعامه قبل ذلك سوى البقول والأثمار وسائر الأطعمة النباتية (انظر تفسير ص ١: ٢٩). ولم يكن من ذبيحة قبل أن تدخل الخطيئة الأرض فإن تلك الجلود من جلود البهائم التي كان آدم يذبحها لله ثبت إن الله علّم آدم على أثر سقوطه في الخطيئة أن «لا مغفرة بلا سفك دم».
«٢٢ وَقَالَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ: هُوَذَا ٱلإِنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا عَارِفاً ٱلْخَيْرَ وَٱلشَّرَّ. وَٱلآنَ لَعَلَّهُ يَمُدُّ يَدَهُ وَيَأْخُذُ مِنْ شَجَرَةِ ٱلْحَيَاةِ أَيْضاً وَيَأْكُلُ وَيَحْيَا إِلَى ٱلأَبَدِ».
ع ٥ ص ٢: ٩ ورؤيا ٢: ٧ و٢٢: ٢
كَوَاحِدٍ مِنَّا (انظر تفسير ص ١: ٢٦) انحط الإنسان بالسقوط أدبياً وارتفع عقلياً فعرف أنه مستقل وأخذ يزاول الاختيار والعمل بمقتضى الإرادة إلى غير ذلك من أمور المشابهة لله.
لَعَلَّهُ يَمُدُّ يَدَهُ كان آدم حينئذ قد أخذ يتعرّض لأعمال الله ويفسد الصالحات فلو صار إلى حياة جسدية خالدة لحارب الله وخلع طاعته ووقع هو ونسله في شر الشقاء ولكنه لا يفتأ يميل إلى الخلود ويطلبه على أنه كان في جهاد وحزن وتوبة وإيمان وموت ولهذا لم يكن الفردوس الوطن المناسب له. فالله برحمته أمره بترك الفردوس ليعيش في أحوال مناسبة لمصلحته الأدبية والروحية.
٢٣ «فَأَخْرَجَهُ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ مِنْ جَنَّةِ عَدَنٍ لِيَعْمَلَ ٱلأَرْضَ ٱلَّتِي أُخِذَ مِنْهَا».
ص ٢: ٥ و٤: ٢ و٩: ٢٠
لِيَعْمَلَ ٱلأَرْضَ هذا هو عين عمله في الآية الخامسة عشرة من الأصحاح الثاني فبقي عمله وتغيرت حاله.
٢٤ «فَطَرَدَ ٱلإِنْسَانَ، وَأَقَامَ شَرْقِيَّ جَنَّةِ عَدَنٍ ٱلْكَرُوبِيمَ، وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ ٱلْحَيَاةِ».
ص ٤: ١٦ خروج ٢٥: ١٨ وحزقيال ١٠ عدد ٢٢: ٢٣
فَطَرَدَ ٱلإِنْسَانَ في هذا إكراه لآدم على ترك الجنة فإنه خرج من بيت سعادته كارهاً شاعراً أنه أتى ما يغيظ الله وإن طرده من عواقب معصيته وعقاب عليها وإن كان ذلك خيراً له لِما صار إليه من الأحوال المنافية لأحواله السابقة. واختلفت الآراء في مدة إقامة آدم وحواء في الفردوس والأرجح أنها كانت طويلة قبل السقوط وقصيرة بعده.
وَأَقَامَ فأغلق دونه باب الفردوس إلى الأبد.
شَرْقِيَّ جَنَّةِ عَدَنٍ بقي آدم ساكناً في أرض عدن ولعله كان حذاء الفردوس أي قريباً منه (قابل بهذا ما في ص ٤: ١٦).
ٱلْكَرُوبِيمَ كان الكروبيم مثال العظمة والقوة وهم في العبرانية جمع «كروب» وهو مخلوق سماوي مشتق على ما قال بعضهم من الكرب أي الشق والحرث. وقال بعضهم مجهول الأصل. وقال آخر إن كان الكروب من أصل سامي أي من لفظة سامية اشتق منها فربما هو مقلوب ركوب أي مركوب على وفق قول المرنم «رَكِبَ عَلَى كَرُوبٍ» (مزمور ١٨: ١٠). (ولعله من الكرب بمعنى القرب في العبرانية ولم يزل معنى القرب في هذه المادة في العربية ففي القاموس «كاربه قاربه» فإن الكروبيم من الملائكة المقربين). وهو في الفارسية بمعنى الحارس. وصورة الكروب على ما في سفر الخروج صورة ذي جناحين ولعلها صورة ثور ذي أجنحة والوجه وجه إنسان كما تبين من عاديات التمثايل التي اكتُشفت في آثار نينوى (انظر حزقيال ٢٥: ٢٠ و١: ٥ الخ وقابل ذلك مع ما في رؤيا ٤: ٦ – ٨) وصورها تختلف عن صور الحيوانات الأربعة المذكورة في حزقيال (حزقيال ١: ٥) التي هي نظير حيوانات سفر الرؤيا (رؤيا ٤: ٦ – ٨).
وكان عمل الكروبيم في آية التفسير حراسة الفردوس لئلا يرجع الإنسان إليه. وكان عمل الكروب الإشاري على غطاء التابوت حراسته أيضاً لئلا يدنو منه سوى الحبر الأعظم في يوم الكفارة وكروب الرؤيا يخلتف عن ذلك في العمل والإشارة.