الرسالة إلى غلاطيّة| 06 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة إلى غلاطيّة
للدكتور . وليم إدي
اَلأَصْحَاحُ ٱلسَّادِسُ
في هذا الأصحاح نصائح مختلفة منها أن يعامل المؤمن القوي أخاه الضعيف بالرفق (ع ١). وأن يحمل حمل أخيه (ع ٢). وأن يحترس من العجب بنفسه (ع ٣ – ٥). وأن يسخو على معلميه المسيحيين (ع ٦ – ٨). وأن لا يمل من عمل الخير (ع ٩ و١٠). ونصيحة كتبها بيده تحذيراً للغلاطيين من المعلمين الذين رغبوا في تهويدهم (ع ١١ – ١٧). والبركة الرسولية التي اعتادها الرسول (ع ١٨).
نصائح مختلفة ع ١ إلى ١٠
١ «أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ، إِنِ ٱنْسَبَقَ إِنْسَانٌ فَأُخِذَ فِي زَلَّةٍ مَا، فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ ٱلرُّوحَانِيِّينَ مِثْلَ هٰذَا بِرُوحِ ٱلْوَدَاعَةِ، نَاظِراً إِلَى نَفْسِكَ لِئَلاَّ تُجَرَّبَ أَنْتَ أَيْضاً».
رومية ١٤: ١ و١٥: ١ وعبرانيين ١٢: ١٣ ويعقوب ٥: ١٩ و١كورنثوس ٢: ١٥ و٣: ١ و١كورنثوس ٤: ٢١ و٢تسالونيكي ٣: ١٥ و٢تيموثاوس ٢: ٢٥ و١كورنثوس ٧: ٥ و١٠: ١٢
قال سابقاً أن العيشة بالروح توجب عليهم السلوك بالروح (ص ٥: ٢٥ و١٦). وأبان هنا أن تلك العيشة توجب عليهم أن يرفقوا بإخوتهم ويحلموا عليهم ويعاملوهم بالحب والوداعة.
أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ خاطبهم بولس بكلام المحبة ليستميلهم إلى أعمال المحبة وهذا أقوى من إقامة الأدلة.
إِنِ ٱنْسَبَقَ إِنْسَانٌ فَأُخِذَ فِي زَلَّةٍ أي بغتته التجربة وغلبته نظراً لقوتها وضعفه وعدم استعداده لمقاومتها وسماها «زلة» تمييزاً عن خطيئة العمد التي لا تكون إلا بعد التأمل. فبطرس انسبق وأُخذ في زلة يوم أنكر المسيح ويهوذا سلم ربه عمداً بعد التأمل. وزلة المؤمن تدل على احتياجه إلى مساعدة إخوته الذين هم أقوى منه في الحياة الروحية. وتلطف الرسول كثيراً بفرضه أن الغلاطيين لم يبد منهم سوى الزلات لتجربة بغتية.
فَأَصْلِحُوا لم يقل اغتاظوا منه وعاقبوه بل سألهم أن يتخذوا الوسائل التي تقوده إلى التوبة وحياة التقى. فلا يحسن أن يحملنا بغضنا للخطيئة على أن نبغض الخاطئ بل يجب أن يحملنا على طلب إصلاحه.
أَنْتُمُ ٱلرُّوحَانِيِّينَ دعا المؤمنين روحانيين إشارة إلى ما قاله في الأصحاح السابق من أن المؤمنين يعيشون بالروح ففرض أن ذلك شأن كل مؤمن وهو أن الروح القدس ساكن فيه ويعمل بواسطته ولم يخص بهذا خدم الدين بل وصف به كل أعضاء الكنيسة. والذين وصفهم «بالروحانيين» هنا وصفهم «بالأقوياء» في الرسالة إلى الرومانيين (رومية ١٤: ١).
بِرُوحِ ٱلْوَدَاعَةِ أي بالهدوء والحلم والسكينة وهي من أول الصفات التي يجب على المصلح إظهارها. فإذا انتفخ المصلح وافتخر بأنه لم يزل كما يزل إخوه وأظهر ذلك قولاً وفعلاً استحال عليه أن يصلحه فيجب أن يظهر بكلامه وأعماله أنه يحبه ويشفق عليه ويرغب في رجوعه إلى طريق الحق.
نَاظِراً إِلَى نَفْسِكَ الخ أي يجب أن يتخذ زلة أخيه تنبيهاً له ليحترس من مثلها كقول الرسول «إِذاً مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ فَلْيَنْظُرْ أَنْ لاَ يَسْقُطَ» (١كورنثوس ١٠: ١٢) أو المعنى افعل للأخ الزال كما تريد أن غيرك يفعل لك إذا زللت أي عامله بالرفق إذ لا تعلم أنه يمكن أن تزل بعد قليل مثله.
٢ «اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ وَهٰكَذَا تَمِّمُوا نَامُوسَ ٱلْمَسِيحِ».
رومية ١٥: ١ وص ٥: ١٣ و١تسالونيكي ٥: ١٤ يوحنا ١٣: ١٤ و١٥ و٣٤ و١٥: ١٢ ويعقوب ٢: ٨ و١يوحنا ٤: ٢١
أعلن الرسول في هذه الآية طريقاً أخرى لإظهار المؤمن حبه لأخيه فوق إصلاحه إياه إذا زلّ.
اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ أي ساعدوا الإخوة على أتعابهم وهمومهم وضعفهم وضيقاتهم حاسبين أثقالهم أثقالكم. وهذا مما يوجب علينا المواساة لإخوتنا والصلاة معهم ومن أجلهم ومساعدتهم بالنصائح والمال واليد كما تقتضي الحال.
هٰكَذَا تَمِّمُوا نَامُوسَ ٱلْمَسِيحِ أي المحبة لأنها هي ناموس المسيح بدليل قوله «هٰذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ» (يوحنا ١٥: ١٢). وقوله «وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضاً بَعْضُكُمْ بَعْضاً» (يوحنا ١٣: ٣٤ انظر أيضاً ص ٥: ٤ ورومية ١٣: ٨ و١يوحنا ٣: ٢٣).
٣ «لأَنَّهُ إِنْ ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ شَيْءٌ وَهُوَ لَيْسَ شَيْئاً، فَإِنَّهُ يَغِشُّ نَفْسَهُ».
رومية ١٢: ٣ و١كورنثوس ٨: ٢ وص ٢: ٦ و٢كورنثوس ٣: ٥ و١٢: ١١
علّم الرسول أن أعظم موانع المواساة هو الإعجاب بالنفس وأن معرفة الإنسان نفسه وضعفه من أحسن ما يحمل على المواساة وطول الأناة فقال ما في هذه الآية.
إِنْ ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ شَيْءٌ أي توهم أنه أفضل مما هو في الواقع وأنه أكثر من غيره قوة وحكمة وقداسة. فإن كل إنسان مائل إلى أن يرى نفسه أعظم مما هو كذلك والتواضع من أندر الفضائل. ويصدق على أكثر الناس ما قيل على كنيسة لاودكية «تَقُولُ: إِنِّي أَنَا غَنِيٌّ وَقَدِ ٱسْتَغْنَيْتُ، وَلاَ حَاجَةَ لِي إِلَى شَيْءٍ، وَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ أَنْتَ ٱلشَّقِيُّ وَٱلْبَائِسُ وَفَقِيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ» (رؤيا ٣: ١٧)
فَإِنَّهُ يَغِشُّ نَفْسَهُ بأوهامه الباطلة.
٤ «وَلٰكِنْ لِيَمْتَحِنْ كُلُّ وَاحِدٍ عَمَلَهُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ ٱلْفَخْرُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ فَقَطْ، لاَ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ».
١كورنثوس ١١: ٢٨ و٢كورنثوس ١٣: ٥ لوقا ١٨: ١١
لما كان غش النفس والافتخار الباطل سمّين قاتِلين ذكر الرسول في هذه الآية درياقهما.
لِيَمْتَحِنْ كُلُّ وَاحِدٍ عَمَلَهُ اعتبر الرسول كل أعمال الإنسان عملاً واحداً يُعلن حال قلبه فعليه أن يمتحنه بمقابلته بشريعة الله وسيرة المسيح لا بزلات الضعفاء وأن يقابل فضائله الوهمية بالفضائل الحقة المعلنة في الكتاب الإلهي.
وَحِينَئِذ أي بعد امتحانه نفسه ومقابلته عمله بالعمل المطلوب في الإنجيل.
يَكُونُ لَهُ ٱلْفَخْرُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ أي من ضميره المستنير بالروح القدس الذي يشهد له بأن روح الله جدده وجعله في صورة المسيح وحقق له أنه عمل بمقتضى الأمانة والإخلاص لمجد الله ونفع إخوته.
لاَ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ أي لا يفتخر بمقابلته عمله بنقائص غيره وزلاته بناء على أنه خير منه أو لا يفتخر بمدح غيره إياه على أعماله.
٥ «لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ سَيَحْمِلُ حِمْلَ نَفْسِهِ».
رومية ٢: ٦ و١كورنثوس ٣: ٨
ذكر الرسول في هذه الآية الموجب لامتحان الإنسان لنفسه وعدم اعتداده بمدح الناس أو ذمهم إياه. والحمل المذكور فيها غير الحمل المذكور في الآية الثانية فالمذكور هنا هو حمل الإنسان المسؤولية أمام الله والمذكور هناك حمله ضيقات غيره وهمومه.
كُلَّ وَاحِدٍ سَيَحْمِلُ حِمْلَ نَفْسِهِ أي أن الله يدعوه للحساب عن كل أعماله «فِي ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي فِيهِ يَدِينُ ٱللّٰهُ سَرَائِرَ ٱلنَّاسِ» (رومية ٢: ١٦) فلا يستطيع الإنسان أن يحتج لنفسه بذكره خطايا غيره التي هي أعظم من خطاياه وإن دانه الله حينئذ لم يعزه أن الناس مدحوه قبلاً. هذا وإن على كل إنسان في هذا العالم حمل هموم وأحزان وأن اختباره ثقل ذلك الحمل يودي به إلى أن يشفق على المصابين ويساعدهم. فالذين يشعرون بضعفهم ونقصانهم واحتياجهم إلى المغفرة يميلون إلى أن يرحموا من زلوا وسقطوا.
٦ «وَلٰكِنْ لِيُشَارِكِ ٱلَّذِي يَتَعَلَّمُ ٱلْكَلِمَةَ ٱلْمُعَلِّمَ فِي جَمِيعِ ٱلْخَيْرَاتِ».
رومية ١٥: ٢٧ و١كورنثوس ٩: ١١ و١٤
ذكر الرسول في هذه الآية إحدى طرق حملهم أثقال غيرهم وهي أن يُعطوا المعلمين الروحيين بعض خيراتهم الزمنية.
ٱلَّذِي يَتَعَلَّمُ ٱلْكَلِمَةَ أي يسمع تعليم الإنجيل.
لِيُشَارِكِ… ٱلْمُعَلِّمَ فِي جَمِيعِ ٱلْخَيْرَاتِ أي المقتنيات الدنيوية التي يحتاج إليها المعلمون لقيام حياتهم. وفي قوله «ليشارك» إشارة إلى أن نسبة المعلمين إلى الشعب كنسبة الشريك إلى شريكه في أن كلا من الفريقين يحتاج إلى الآخر ويجب أن يشتركا في البركات والمصائب. وبذل الخيرات الزمنية ليست سوى مكافأة زهيدة بالنسبة إلى بذل البركات الروحية. ويستحق المعلمون الروحيون أن يأخذوا نفقتهم من المتعلمين بدليل قول المسيح «إن الفاعل مستحق أجرته» (لوقا ١٠: ٧) وكثيراً ما أبان الرسول وجوب ذلك (١كورنثوس ٩: ١ – ١٤ و١تسالونيكي ٢: ٦ و٩ و٢كورنثوس ١١: ٧ وفيلبي ٤: ١٠ و١تيموثاوس ٥: ١٧ و١٨). ونستنتج من كلامه هنا أنه لم يكن للمعلمين الروحيين في الكنائس الأولى رواتب معينة بل كان الشعب يعطيهم ما يستحسنه ليفرغوا أنفسهم لخدمة الإنجيل.
٧ «لاَ تَضِلُّوا! اَللّٰهُ لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ ٱلَّذِي يَزْرَعُهُ ٱلإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضاً».
١كورنثوس ٦: ٩ و١٥: ٣٣ أيوب ١٣: ٩ و١يوحنا ١: ٨ و٣: ٧ لوقا ١٦: ٢٥ ورومية ٢: ٦ إلى ١٠ و٢كورنثوس ٩: ٦
الغاية من هذه الآية إثبات وجوب السخاء.
لاَ تَضِلُّوا بزعمكم أنكم قادرون على الامتناع من بذل الصدقات للمعلمين الروحيين وأن الله لا يسأل عن ذلك ولا يغتاظ بسببه.
اَللّٰهُ لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ أي لا يتكبر عليه ولا يهزأ بدون أن يعاقب الشامخ عليه وقد أمر بأن يؤد الشعب نفقة الرعاة. فإذا ادعى إنسان أنه مسيحي وأن يعطي ما أمر به الله لأولئك الخدم فقد شمخ على الله وعرّض نفسه للدينونة ولا سيما الذي يدعي الكرم ويعد بإظهاره ولا يعطي شيئاً. ولعلهم غشوا أنفسهم وغيرهم بحججهم الباطلة لبخلهم ولكنهم لا يستطيعون أن يغشوا الله العالم بكل شيء. إياهم من الضلال ببيانه أن الله وضع قانوناً واحداً وهو أن الإنسان يحصد ما يزرعه في الجسديات والروحيات فإذاً يُثاب الكريم على كرمه ويُعاقب البخيل على بخله.
ٱلَّذِي يَزْرَعُهُ ٱلإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ سبق الكلام على السخاء المسيحي في تفسير (٢كورنثوس ٩: ٦) فارجع إليه. والعبارة هنا مثل استعمله مؤلفو الأمم القدماء وجاء في أقوال أيوب وأتى به بولس بياناً للعلاقة بين أعمالنا في هذا العالم وما يكون لنا من الثواب والعقاب في العالم الآتي فإن الحياة الحاضرة بمنزلة الزرع والحياة المستقبلة بمنزلة زمان الحصاد. ومعنى قوله «إياه يحصد» أنه لا يجمع من ثمر مزروعه إلا مثله فمن زرع حنطة حصد حنطة ومن زرع زواناً حصد زواناً ومثل ذلك يكون في الروحيات لأن الإنسان بمقتضى ترتيب الله يجني من أعماله هنا حزناً أو فرحاً في الآخرة كأنه ثمر تلك الأعمال. فخسارة الأشرار وآلامهم نتيجة طبيعية من أعمالهم ولكن سعادة الأبرار كلها من النعمة على ما اقتضاه وعد الله بالمسيح للمؤمنين الأمناء.
٨ «لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ ٱلْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَاداً، وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ ٱلرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً».
أيوب ٤: ٨ وأمثال ١١: ١٨ و٢٢: ٨ وهوشع ٨: ٧ و١٠: ١٢ ورومية ٨: ١٣ ويعقوب ٣: ١٨
هذه الآية برهان على صحة الجزء الآخر من الآية السابقة وكلاهما برهان على صحة الجزء الأول منها وهو قوله «الله لا يُشمخ عليه» وغاية الرسول تحذيرهم من أن يمتنعوا عن عمل الخير بناء على رجائهم إن الله لا يعاقبهم على الامتناع عنه.
مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ الزرع الذي يزرعه هو أعماله وزرعه لجسده إتيان الأعمال التي علتها حب الذات وغايتها نفع الذات. وكانت زرعاً للجسد لأنها ترضي الطبيعة البشرية غير المتجددة. ولم يقل يزرع لنفسه لأنه أراد أن يبين نوع أعماله وهي أنها جسدية شهوانية دنيوية لا روحية.
فَمِنَ ٱلْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَاداً أي تمتعاً وقتياً هنا وهلاكاً أبدياً هناك وهذا كل ما يقدر أن يعطيه الجسد من يزرع له وهو المشاركة له في فساده وذلك خلاصة نتيجة كل الشهوات الجسدية والأعمال الصادرة عنها (رومية ٦: ٢١ و١كورنثوس ٣: ١٧ و٦: ١٣ و٢بطرس ٢: ١٢).
وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ أي من يطلب الأمور الروحية ويجعلها غايته الأولى ويفعل ذلك بإرشاد الروح القدس رغبة في رضاه بمقتضى القانون الذي وضعه الروح نفسه (ع ١٦). وقد أبان في ما سبق افتقار المؤمنين إلى الروح القدس ليستطيعوا أن يحيوا حياة مقدسة (رومية ٨: ١١ و١٥ – ١٦).
يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً الزارع للروح لا سواه. لأن من يزرع زواناً لا يستطيع أن يحصد قمحاً ولا يستطيع الذين يزرعون للجسد أن يحصدوا حياة أبدية (مزمور ١٢٦: ٦ وأمثال ١١: ١٨ و٢٢: ٨ وإشعياء ٣: ١٠ وهوشع ٨: ٧ و١٠: ١٢ ولوقا ١٦: ٢٥ ورومية ٨: ١١ ويعقوب ٥: ٧). والعلاقة بين ما ذُكر هنا من أمور الزرع للجسد والزرع للروح والموضوع الذي هو في صدده أي السخاء المسيحي هي أن الرسول اعتبر إنفاق الإنسان كل ماله على نفسه بلا التفات إلى حاجة المعلمين الروحيين «زرعاً للجسد» واعتبر إنكار الإنسان نفسه ليحصل على ما يبذله في سبيل الإنجيل لمجد الله ولإطاعة أوامره «زرعاً للروح». والمبدأ الذي يصدق على واحدة من الواجبات المسيحية يصدق على جميعها.
٩ «فَلاَ نَفْشَلْ فِي عَمَلِ ٱلْخَيْرِ لأَنَّنَا سَنَحْصُدُ فِي وَقْتِهِ إِنْ كُنَّا لاَ نَكِلُّ».
١كورنثوس ١٥: ٥٨ و٢تسالونيكي ٣: ١٣ متّى ٢٤: ١٣ وعبرانين ٣: ٦ و١٤ و١٠: ٣٦ و١٢: ٣ و٥ ورؤيا ٢: ١٠
فَلاَ نَفْشَلْ فِي عَمَلِ ٱلْخَيْرِ أي الإحسان إلى المحتاجين أو كل عمل يمدحه الله وينفع الناس. ذكر هنا شرطاً ضرورياً لعمل الخير كان الغلاطيون محتاجين إلى التنبيه عليه لشدة ميلهم إلى التقلب السريع وذلك الشرط هو الثبات أو الاستمرار. وذكر هذا الشرط الضروري لأنه كثيراً ما يحدث في الروحيات كما يحدث في الجسديات أن تمضي مدة طويلة بين الزرع والحصاد. ولعل إثابة الأبرار لا تكمل لهم قبل مجيء الرب ثانية بدليل قول يعقوب الرسول «تَأَنَّوْا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ إِلَى مَجِيءِ ٱلرَّبِّ. هُوَذَا ٱلْفَلاَّحُ يَنْتَظِرُ ثَمَرَ ٱلأَرْضِ ٱلثَّمِينَ مُتَأَنِّياً عَلَيْهِ حَتَّى يَنَالَ ٱلْمَطَرَ ٱلْمُبَكِّرَ وَٱلْمُتَأَخِّرَ. فَتَأَنَّوْا أَنْتُمْ وَثَبِّتُوا قُلُوبَكُمْ، لأَنَّ مَجِيءَ ٱلرَّبِّ قَدِ ٱقْتَرَبَ» (يعقوب ٥: ٧ و٨). والمراد بنهيه إياهم عن الفشل تحذيرهم من ان يقودهم طول وقت استمرارهم على عمل الخير دون إثابة إلى الفتور والتواني والشك في نيل الثواب وعدم الاجتهاد في العمل وإنكار النفس. وبواعث الفشل في عمل الخير كثيرة منها إن من طبعنا الميل إلى الكسل ومنها فشل كثيرين حولنا ممن يدعون أنهم مسيحيون وأنها كثرة الموانع والصعوبات وقلة النتائج الظاهرة من أتعابنا ومنها عدم شكر الذين نحسن إليهم.
فِي وَقْتِهِ على حسابه تعالى لا على حسابنا لأن الوقت الذي عيّنه الله للثواب هو الوقت الأنسب.
لاَ نَكِلُّ فإن من فشل باطناً كلّ فعلاً والمعنى النهي عن الكف عن عمل الخير والحث على الاستمرار عليه بالإيمان والغيرة والاجتهاد.
١٠ «فَإِذاً حَسْبَمَا لَنَا فُرْصَةٌ فَلْنَعْمَلِ ٱلْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ، وَلاَ سِيَّمَا لأَهْلِ ٱلإِيمَانِ».
يوحنا ٩: ٤ و١٢: ٣٥ ١تسالونيكي ٥: ١٥ و١تيموثاوس ٦: ١٨ وتيطس ٣: ٨ أفسس ٢: ١٩ وعبرانيين ٣: ٦
حَسْبَمَا لَنَا فُرْصَةٌ إن الفرصة لعلم الخير من الله ومتى وُجدت كانت دعوة الله إلى العمل فكأنه يقول للإنسان وقتئذ «اذهب واعمل في كرمي» وإن ظهرت لنا الفرصة صغيرة واحتقرها غيرنا لم يكن ذلك سبباً يثنينا في خدمته ولكل خادم أمين في صرح أو كوخ يقول «نعماً أيها العبد الأمين ادخل إلى فرح سيدك». كثيرون يقفون بطالين يتوقعون فرصاً أعظم من الفرص التي لهم فيأتيهم بغتة الليل الذي لا يكون فيه عمل. وما أحسن هنا قول الجامعة «كُلُّ مَا تَجِدُهُ يَدُكَ لِتَفْعَلَهُ فَٱفْعَلْهُ بِقُوَّتِكَ، لأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَلٍ وَلاَ ٱخْتِرَاعٍ وَلاَ مَعْرِفَةٍ وَلاَ حِكْمَةٍ فِي ٱلْهَاوِيَةِ ٱلَّتِي أَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَيْهَا» (جامعة ٩: ١٠) لأننا إذا لم نغتنم الفرصة حين نُصيبها تمضي عنا ولا ترجع.
فَلْنَعْمَلِ ٱلْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ إن احتياج الناس إلينا بيان ما يجب علينا لهم ونوع احتياجهم بيان لنوع النفع الذي يجب أن نقوم لهم به خبزاً كان لأجسادهم أو قوتاً سماوياً لأرواحهم. قال بولس «إِنِّي مَدْيُونٌ لِلْيُونَانِيِّينَ وَٱلْبَرَابِرَةِ، لِلْحُكَمَاءِ وَٱلْجُهَلاَءِ» (رومية ١: ١٤) لأنهم كانوا محتاجين إلى مناداته بالإنجيل لخلاص نفوسهم.
وَلاَ سِيَّمَا لأَهْلِ ٱلإِيمَانِ يجب على المسيحي أن ينفع كل الناس على قدر الاستطاعة والفرصة فإن لم يستطع أن ينفع كل من أراد نفعهم وجب عليه بمقتضى وصية الرسول أن يخص بما استطاعه المحتاج من إخوته المؤمنين. إن ما يجب علينا لغيرنا يختلف باختلاف قربنا إليه فالإنسان يعتني طبعاً بامرأته وأولاده وذوي قرباه قبل غيرهم وما نعمله طبعاً لمن هم من لحمنا ودمنا يوجب علينا الكتاب المقدس أن نعمله لإخوتنا وإخواننا في المسيح وهم أقرباؤنا بالإيمان (أفسس ٢: ١٩ و١تيموثاوس ٣: ١٥ وعبرانيين ٣: ٦ و١بطرس ٢: ٥ و٤: ١٧).
خاتمة الرسالة التي كتبها الرسول بيده تحذيراً من المعلمين المفسدين ع ١١ إلى ١٦
١١ «اُنْظُرُوا، مَا أَكْبَرَ ٱلأَحْرُفَ ٱلَّتِي كَتَبْتُهَا إِلَيْكُمْ بِيَدِي!».
اُنْظُرُوا دعا سامعي قراءة رسالته إلى أن ينظروا بعيونهم ما بقي من سطور رسالته وأن يعتبروا كبر أحرفها دليلاً على أنه كتبها بيده. لكن ذهب بعض المفسرين إلى أن بولس كتب كل هذه الرسالة بيده خلافاً لعادته فإن الرسول اعتاد أن يستخدم كاتباً يملي عليه ما يريد إرساله فيكتبه وهو يكتب اسمه بيده شهادة لصحته (رومية ١٦: ٢٥ – ٢٧ و١كورنثوس ١٦: ٢١ – ٢٤ وكولوسي ٤: ١٨ و٢تسالونيكي ٢: ٢ و٣: ١٧ و١٨). ولم يكتف في هذه الرسالة بمجرد تسطير اسمه بل كتب فصلاً بناء على أهمية ما فيه وهو تحذيرهم من المعلمين الذي قصدوا تهويدهم. ولا نعلم لماذا كتب بحروف أكبر من حروف الكاتب وظن بعضهم أن علة ذلك ضعف نظره وأيدوا ظنهم بما قيل في (ص ٤: ١٥).
١٢ «جَمِيعُ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعْمَلُوا مَنْظَراً حَسَناً فِي ٱلْجَسَدِ، هٰؤُلاَءِ يُلْزِمُونَكُمْ أَنْ تَخْتَتِنُوا، لِئَلاَّ يُضْطَهَدُوا لأَجْلِ صَلِيبِ ٱلْمَسِيحِ فَقَطْ».
ص ٢: ٣ و١٤ ص ٥: ١١ فيلبي ٣: ١٨
يُرِيدُونَ أَنْ يَعْمَلُوا مَنْظَراً حَسَناً فِي ٱلْجَسَدِ لكي يشتهروا بالغيرة للرسوم الدينية الخارجية وغايتهم من ذلك أن يظهروا للناس إنهم أتقياء كما كان من أمر الفريسيين «فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي ٱلْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا ٱلشَّوَارِعِ، لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ» (متّى ٦: ٥).
يُلْزِمُونَكُمْ أَنْ تَخْتَتِنُوا لكي يمدحهم يهود وطنهم على أنهم هودوا كثيرين من الأمم.
لِئَلاَّ يُضْطَهَدُوا الخ لأنهم لو قبلوهم في الكنيسة بلا ختان لعرضوا أنفسهم لاضطهاد اليهود على تبشيرهم بأن الخلاص بمجرد الإيمان بفداء المسيح المصلوب دون أعمال الناموس (ص ٥: ١١ و١كورنثوس ١: ٢٤).
١٣ «لأَنَّ ٱلَّذِينَ يَخْتَتِنُونَ هُمْ لاَ يَحْفَظُونَ ٱلنَّامُوسَ، بَلْ يُرِيدُونَ أَنْ تَخْتَتِنُوا أَنْتُمْ لِكَيْ يَفْتَخِرُوا فِي جَسَدِكُمْ».
معنى هذه الآية أن المعلمين المتهودين لم يلزموهم بالختان عن إخلاص بل للتخلص من الاضطهاد والحصول على المدح لكسبهم دخلاء كثيرين تمثلاً بفريسي أورشليم الذين كانوا «يَطُوفُونَ ٱلْبَحْرَ وَٱلْبَرَّ لِتَكْسَبُوا دَخِيلاً وَاحِداً» (متّى ٢٣: ١٥) لأنهم بختنهم متنصري الأمم جعلوهم دخلاء اليهود وهذا كاف ليصرف عنهم غضب اليهود.
١٤ «وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ ٱلْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ».
فيلبي ٣: ٣ و٧ و٨ رومية ٦: ٦ وص ٢: ٢٠
قابل هنا موضوع افتخاره وهو صليب المسيح بموضوع افتخار المعلمين المفسدين الذين افتخروا بالختان وغيره من الرسوم اليهودية وخافوا من الاضطهاد من أجل ذلك الصليب وحسبوه عثرة.
فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ أي أنزّه نفسي عن الافتخار بشيء من رسوليتي أو أعمالي أو الرسوم الخارجية.
إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أي إلا بموت المسيح على الصليب تكفيراً لخطايانا بالنظر إلى كون ذلك أساس إيمانه ورجائه ومصالحته لله وكونه موضوع وعظه وغاية أتعابه وذكر مع اسم المسيح ألقابه تعظيماً لشأنه.
بِهِ أي بالصليب لكونه آلة صلبه وكان أولاً آية العار لأنه من أدوات قتل الأشرار لكنه بعد ما عُلق المسيح عليه كان أعظم آيات الافتخار لأنه كان يشير إلى الكفارة التي تمت عليه فداء للعالم.
صُلِبَ ٱلْعَالَمُ لِي قال هذا لأنه بالصليب زالت سلطة العالم عليه. كان قبلاً متمسكاً بالعالم ولكنه لما آمن بالمسيح مصلوباً اتحد به واشترك في كل ما أصابه حتى صار العالم كمصلوب له وميت عنه ولا قوة له عليه ولا جمال له في عينيه. واعتبر العالم هنا منفصلاً عن الله بالنظر إلى كونه مركز الأباطيل والشهوات المحرمة. ولا ريب في أنه أطلق العالم على كل الأمور الخارجية المحسوسة التي هي تجارب تقود إلى الخطيئة وكذلك كل رسوم الديانة من الختان وأشكاله مما يميل الإنسان إلى الاتكال عليه بغية التبرير والخلاص. ونظر بولس إلى آلام المسيح على الصليب باعتبار كونها آية محبته وواسطة فدائه وإلى المواعيد المبنية على ما احتمله على الصليب وإلى الميراث الذي اقتناه به فنال قوة على رفض العالم من أجله.
إن الإنسان الطبيعي يميل إلى الافتخار بكل ما سوى الصليب من صيت ونجاح دنيوي وغنىً ومقام فلا يريد أن يصلب العالم له لأنه مشهد إعلان عظمته ومصدر لذاته.
وَأَنَا لِلْعَالَمِ أي وأنا صلبت للعالم. قال ذلك لأن الصليب أنشأ فيه أعظم الاتضاع أمام الله وأشد الشعور بالخطيئة لأنها لا تكفر عنه إلا بموت ابن الله عليه. و «صُلب للعالم» لأن أهله من اليهود والأمم احتقروه وأبغضوه لتبشيره بالصليب واعتباره إياه العلة الوحيدة للخلاص. فالعالم في عيني المسيحي بلا رونق ولا جاذبية والمسيحي فقد كل شوق إلى العالم ولذة به فإذا مات كل منهما عن الآخر فالأشياء العتيقة قد مضت والمسيح صار الكل وفي الكل. والمسيحي ربح بالصليب أكثر مما خسره بتركه العالم فكان ذلك عوضاً من احتقار العالم له وبغضه إياه. وفي هذه الآية ثلاثة أنواع من الصلب.
الأول: صلب الرب يسوع المسيح القربان العظيم الذي بدونه لا قيمة لإنكار الذات ولا إمكان له ولذلك قال الرسول «حاشا لي أن أفتخر إلا بصليبه».
الثاني: صلب العالم المجرب المحتال الذي يجتهد أن ينزع من النفس كل طهارة وإيمان. وقدرته على الخداع والاضرار تبرهنت بإهلاك ألوف وربوات كثيرة من الناس وقوة أباطيله وشهواته الجاذبة أُبطلت بالصليب كأنه عُلق عليه ومات. وهذا ما دل عليه قوله «به صُلب العالم لي».
الثالث: صلب الرسول للعالم بدليل قوله «وأنا للعالم» إشارة إلى كونه قد انقطع عن الاكتراث بالمدح البشري واللذة الدنيوية والمكاسب المحرمة وعن كنز الكنوز في الأرض. وفي كل ما قاله في افتخاره بالصليب وحده أظهر رغبته في أن يقتدي به متنصرو غلاطية فيجعلوا الصليب موضوع افتخارهم
١٥ «لأَنَّهُ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لَيْسَ ٱلْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئاً وَلاَ ٱلْغُرْلَةُ، بَلِ ٱلْخَلِيقَةُ ٱلْجَدِيدَةُ».
١كورنثوس ٧: ١٩ وص ٥: ٦ وكولسي ٣: ١١ و٢كورنثوس ٥: ١٧
هذه الآية تعليل للأية السابقة وبيان لعدم افتخاره برسوم الدين الخارجية كالختان وأشباهه واعتبارها كلا شيء ولافتخاره بصليب المسيح وحده واعتباره الولادة الجديدة بالروح القدس جوهر كل الديانة.
فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أي في إنجيله أو في الإنسان المتحد به بالإيمان.
لَيْسَ ٱلْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئاً وَلاَ ٱلْغُرْلَةُ أتى الرسول بهذه العبارة ثلاث مرات في (ص ٥: ٦) ومرة هنا ومرة في (١كورنثوس ٧: ١٩) وكملها في كل منها بما يختلف عما يكملها في الآخرى فكملها في الأولى بقوله «بل الإيمان العامل بالمحبة» وفي الثانية بقوله «بل الخليقة الجديدة» وفي الثالثة بقوله «بل حفط وصايا الله» فبدل أمرين ليسا بشيء في الدين بثلاثة أشياء جوهرية به.
الأول: «الإيمان» لكونه الآلة التي بها نتمسك بالمسيح.
الثاني: «الخليقة الجديدة» التي هي نتيجة التمسك بالمسيح بالإيمان.
الثالث: «حفظ وصايا الله» الذي هو علامة ظاهرة تدل على الإيمان والتجديد.
ٱلْخَلِيقَةُ ٱلْجَدِيدَةُ هي نتيجة موت الإنسان العتيق بالصليب وابتداء حياة جديدة والإيمان والاتحاد بالمسيح الذي قام من الموت ويحيا إلى الأبد. وعنى «بالخليقة الجديدة» الإنسان الذي خلقه الله جديداً بدليل قوله «إِذاً إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ» (٢كورنثوس ٥: ١٧ انظر أيضاً أفسس ٢: ١٠ و١٥ و٤: ٢٤).
إن اليهود كانو يسلمون بأن الغرلة لا تنفع شيئاً لكنهم اغتاظوا كثيراً من قول بولس ذلك على الختان فإنه صرّح بعدم نفع كل من هما على السواء لنيل البر أمام الله. وما قاله عليهما يصدق على كل الرسوم الخارجية في الدين إذا نظرنا إليها بالذات فلا ينفع الختان ولا الغرلة شيئاً في التبرير والخلاص ولا أكل اللحم أو الامتناع عن أكله ولا حفظ الأعياد الدينية ولا عدم حفظها ولا الصوم ولا الإفطار ولا الزيجة ولا البتولية. نعم إن العالم بكل رسومه وشرائعه وبره لا ينفع شيئاً في الخلاص أو التبرير إنما الذي ينفع هو الخليقة الجديدة أي ولادة الإنسان ثانية بقوة الروح القدس حين ينظر بالإيمان إلى المسيح المصلوب.
١٦ «فَكُلُّ ٱلَّذِينَ يَسْلُكُونَ بِحَسَبِ هٰذَا ٱلْقَانُونِ عَلَيْهِمْ سَلاَمٌ وَرَحْمَةٌ، وَعَلَى إِسْرَائِيلَ ٱللّٰهِ».
مزمور ١٢٥: ٥ وفيلبي ٣: ١٦ رومية ٢: ٢٩ و٤: ١٢ و٩: ٦ إلى ٨ وص ٣: ٧ و٩ و٢٩ وفيلبي ٣: ٣
يَسْلُكُونَ بِحَسَبِ هٰذَا ٱلْقَانُونِ أي يؤمنون بالمسيح ويسلكون بمقتضى الإيمان على وفق القاعدة المذكورة في (ع ١٥) وهذه القاعدة موضوع كل هذه الرسالة. وفحواها التبرير بالإيمان وحده بدون اتكال على الرسوم الخارجية اليهودية. والذين يقبلون تلك القاعدة ويسلكون بمقتضاها جرياً على ما سبق من تعليمه طلب لهم أعظم البركات.
عَلَيْهِمْ من الله.
سَلاَمٌ بينهم وبين الله وفي قلوبهم وضمائرهم (أفسس ٢: ١٤ – ١٧). وهذا ثمرة كفارة المسيح والتبرير بالإيمان بدليل قوله «إِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِٱلإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ ٱللّٰهِ» (رومية ٥: ١). وهو من أفضل البركات التي نلناها بالمسيح ولا يمكن العالم أن يمنحه لنا ولا أن ينزعه منا (يوحنا ١٤: ٢٧).
وَرَحْمَةٌ اقترنت أيضاً الرحمة بالسلام في (١تيموثاوس ١: ٢ و٢تيموثاوس ١: ٢ و٢يوحنا ٣). وعبر عنها بالنعمة في (ص ١: ٣) فراجع التفسير هناك وتفسير (رومية ١: ٧).
وَعَلَى إِسْرَائِيلَ ٱللّٰهِ هذا وصف ثان للذين «يسلكون بهذا القانون» وهم إسرائيل الروحي لا «إسرائيل حسب الجسد» (١كورنثوس ١٠: ١٨) بل الذين إيمانهم كإيمان إبراهيم (ص ٣: ٧ – ٩ و١٤ و١٩ ورومية ٤: ١١ و١٢ و٩: ٦ – ٨).
١٧ «فِي مَا بَعْدُ لاَ يَجْلِبُ أَحَدٌ عَلَيَّ أَتْعَاباً، لأَنِّي حَامِلٌ فِي جَسَدِي سِمَاتِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ».
٢كورنثوس ١: ٥ و٤: ١٠ و١١: ٢٣ وص ٥: ١١ وكولوسي ١: ٢٤
فِي مَا بَعْدُ أي في كل المستقبل.
لاَ يَجْلِبُ أَحَدٌ عَلَيَّ أَتْعَاباً سواء كان من المفسدين أو المؤمنين. حسب ما مضى من الزمان كافياً لاضطرابه باجتهاد المعلمين المفسدين في أن يرفعوا عليه الشكايات الباطلة ويبثوا التعاليم الضارة ورجا أن المؤمنين من الغلاطيين لا يزعجونه بعصيانهم لتعليمه وإنكارهم سلطته الرسولية لأن كل دعاويه ثبتت بعلامات ظاهرة.
لأَنِّي حَامِلٌ فِي جَسَدِي سِمَاتِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ وهي آثار الجراح الباقية في جسده من الرجم والجلد وسائر الاضطهادات التي احتملها في خدمة الإنجيل على ما أبان بقوله «مِنَ ٱلْيَهُودِ خَمْسَ مَرَّاتٍ قَبِلْتُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ضُرِبْتُ بِٱلْعِصِيِّ. مَرَّةً رُجِمْتُ. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ٱنْكَسَرَتْ بِيَ ٱلسَّفِينَةُ» (٢كورنثوس ١١: ٢٤ و٢٥). كان الناس قديماً يكوون العبيد على خدودهم أو جباههم أو أذرعهم بحديد حام يُعرف بآثارها أنهم عبيد سيد أو هيكل وثني خاصة (رؤيا ٧: ٣ و١٣: ١٦). فحسب بولس آثار جراحاته كتلك الآثار في أنها تدل الناس على أنه عبد ليسوع المسيح ملك الملوك خاصة وأنه يستحيل أن يقنعوه بتملق أو تهديد بأن يغير ثقته به أو أن يغير التعليم الذي أمره سيده أن ينادي به.
١٨ نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مَعَ رُوحِكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ. آمِينَ».
٢تيموثاوس ٤: ٢٢ وفليمون ٢٥
هذه خاتمة الرسالة التي عظم بها الرسول نعمة الله المجانية الغفرانية والإيمان باعتبار كونه الطريق الوحيد للتبرير. وأبان فيها شدة رغبته في ثبوتهم في التعليم الصحيح والسلوك التقوي ختمها بكلمات المحبة وطلب البركة. وتلك البركة وهي أن تنال روحهم من العلى النعمة التي تبررهم وتقدسهم وتسعدهم إلى الأبد.
فوائد
- إن الله أمر شعبه في الأيام القديمة أن يعينوا عشر دخلهم نفقة للكهنة واللاويين الذين يخدمون في الهيكل ولكن في أيام الإنجيل لم يعين المقدار المالي الذي يجب على المسيحيين أن يبذلوه للنفقة على قسوسهم ومعلميهم في الدين لكن الواضح من كلامه أنه توقع من المؤمنين أن يعطوا طوعاً بسخاء ما يحتاج إليه أولئك القسوس والمعلمين لكي يقوموا بعملهم مطمئنين (ع ٦).
- إن تعليم الإنجيل كون كل أعمالنا بمنزلة الزرع الذي نحصد منه بعد زرعه سعادة أو شقاء يجعل حياتنا في هذه الدنيا ذات شأن عظيم لأن حالنا الأبدية متوقفة على سلوكنا في الوقت القصير الذي يتقضى علينا هنا ولأن أعمالنا الصغيرة لها نتائج دائمة كأعمالنا الكبيرة كما أن صغار البزور تأتي بأثمارها كالكبيرة ولأن تلك لا تنفك تؤثر في غيرنا بعد موتنا لأن كل ما نفعله يأتي بثمر كثير يُزرع كل منه ويثمر أيضاً وهلم جراً حتى ينتفع بعمل الواحد أو يُضر بلاد واسعة. وكذا تكون النتيجة من كتبه أو تعاليمه بعد فنائه في قبره. فإذا هدى أحد خاطئاً إلى التوبة والإيمان بالمسيح فربما هدا هذا المهدي كثيرين إلى ذلك وهؤلاء يهدون غيرهم حتى يصير المؤمنون بواسطته جيشاً كبيراً وإذا أضل غيره اتسع الضلال كما اتسع الهدى.
- ولنا من ذلك أنه لا يحق لأحد إن هلك أن يتذمر على الله من أجل هلاكه أو مرارته لأن كل آلام الخطأة ليس إلا أكل ثمر أعمالهم.
- ولنا منه أيضاً أن لا يحق لأحد أن ينتظر السعادة في العالم الآخر ما لم يتخذ وسائل نيلها هنا فالذي يريد أن يحصد بالابتهاج يجب أن يزرع بالدموع فالتوبة والإيمان والمحبة والسخاء هي الزرع الذي منه نجني أثمار الفرح في جنة الله (ع ٨).
- إن تطوع الإنسان في جيش الرب أبدي فيجب على المتطوع أن لا يكل في الجهاد أو يرجع عنه مهما عظمت الموانع أو كثرت وعليه أن يجاهد في الحداثة وهو قوي والكهولة وهو قد حصل على الحكمة والعلم والاختبار وفي الشيخوخة ما دام قادراً أن يشهد للحق الذي آمن به ولجودة القائد الذي تجند له (ع ٩).
- إننا مكلفون بأن ننفع جميع الذين لنا فرصة أن ننفعهم بقطع النظر عن كونهم من جنسنا أو طائفتنا أو مقامنا. فإن أمكننا أن ننفع الذين في أقاصي الأرض بمالنا أو تعليمنا لم يجز لنا أن نمتنع عن ذلك (ع ١٠).
- إن أحد الأمور التي تمتاز بها حياتنا هنا عن حياتنا في الآخرة هو أنه لنا فرصة هنا لإنكار أنفسنا نفعاً لغيرنا وبذلك نكنز كنزاً في السماء. وهذه الفرصة مقصورة على ما ذكر وعلى شهادتنا للمسيح قدام الناس وشهادتنا بحق إنجيله لكي نقود الضالين إليه (ع ١٠).
- إنه يحق أن يكون الصليب موضوع افتخار لكل مسيحي لأسباب كثيرة نذكر ثمانية منها.
الأول: عظمة ذاك الذي صُلب عليه.
الثاني: طهارة الذي مات عليه وهو البار لأجل الأثمة.
الثالث: إن الصليب كان واسطة إكرام الناموس لله وإظهاراً لعدله وحقه تعالى.
الرابع: إنه به عظمت محبة الآب الذي بذل ابنه الوحيد عن الخطأة ومحبة الابن الذي رضي أن يموت عنهم.
الخامس: إنه به كانت المصالحة بين الله والإنسان التي لا يمكن أن تُنال بغير هذا القربان.
السادس: إننا به نموت للعالم ونحيا لله.
السابع: إننا به نتعزى في كل ضيقاتنا وفي ساعة الموت.
الثامن: إننا به نفوز بدخول السماء والمشاركة للمسيح في كل اتحادها (ع ١٤).
- إنه يجب أن يكون لنا علامات تدل على أننا للمسيح وذلك لا يكون بأثواب مخصوصة كالمسوح وأمثالها أو صورة الصليب تطبع على لحمنا أو تناط بأعناقنا ولا بعبوس الوجه بل بسلوك طاهر وإنكار الذات والغيرة للحق والتواضع والسخاء والصبر في الضيقات والمحبة الأخوية (ع ١٧).
- إن الكنيسة المسيحية في هذا العصر لا تفتقر إلى هذه الرسالة للحذر من الرجوع إلى ممارسة الختان وسائر الرسوم اليهودية والاتكال عليها بغية التبرير لكنها تحتاج إليها للحذر من كل اتكال على البر الذاتي والرسوم الخارجية وتثبيتها في العقيدة الجوهرية وهي أن الإنسان يجب أن يؤمن بالمسيح لكي يتبرر وأن يُصلب مع المسيح لكي يتقدس. وفي هذه الرسالة عُظمت النعمة التي بها يخلص الخطأة ويحفظ المؤمنون.
السابق |