غلاطية

الرسالة إلى غلاطيّة| 05 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح الرسالة إلى غلاطيّة

للدكتور . وليم إدي

اَلأَصْحَاحُ ٱلْخَامِسُ

هذا الأصحاح بداءة القسم العملي من هذه الرسالة وهو حث الغلاطيين على الثبات في الحرية المسيحية وتحذيرهم من العبودية الناموسية التي رغب المعلمون الكاذبون في أن يجذبوهم إليها (ع ١ – ١٢). وتحذيرهم أيضاً من سوء استعمال حريتهم وحثهم على المحبة الأخوية (ع ١٣ – ١٥). والسلوك بالروح وبيان أعمال الجسد وأعمال الروح (ع ١٦ – ٢٦).

حث الرسول الغلاطيين على الثبات في الحرية المسيحية ع ١ إلى ١٢

١ «فَٱثْبُتُوا إِذاً فِي ٱلْحُرِّيَّةِ ٱلَّتِي قَدْ حَرَّرَنَا ٱلْمَسِيحُ بِهَا، وَلاَ تَرْتَبِكُوا أَيْضاً بِنِيرِ عُبُودِيَّةٍ».

يوحنا ٨: ٣٢ ورومية ٦: ١٨ و١بطرس ٢: ١٦ أعمال ١٥: ١٠ وص ٢: ٤ و٤: ٩

فَٱثْبُتُوا إِذاً بنى هذا الأمر على ما سبق من احتجاجه على فضل الحرية المسيحية على العبودية اليهودية وهو حثهم على التمسك بالأولى وإعراضهم عن الثانية إذ لا نفع لهم من الحرية التي اشتراها المسيح لهم وتمتعوا بها أولاً ما لم يثبتوا فيها.

فِي ٱلْحُرِّيَّةِ وهي حرية روحية لا جسدية كالتي نالها اليهود بأمر قورش بعد أسرهم سبعين سنة في بابل وهي التحرر من لعنة الناموس وعبوديته والخطية والموت الروحي وقوة إبليس وجهنم وهي تشتمل على الشعور بتمام مغفرة خطايانا والاقتراب إلى عرش النعمة بلا مانع والحصول على كل حقوق الابن في بيت أبيه. فالمسيحي الذي حصل على هذه الحرية يكون شاكراً الله وسعيداً في خدمته تعالى لأنه ملك وابن ملك ولو كان كبولس يوم كان مقيداً في سجن رومية فإنه كان يومئذ حراً أكثر من نيرون الذي سجنه لأن هذا كان عبداً لشر الشهوات وأفظعها.

حَرَّرَنَا ٱلْمَسِيحُ بِهَا كون المسيح أصل هذه الحرية يستلزم كونها ثمينة جداً وخطر الاستخفاف بها وتركها. والمسيح اشتراها لنا بدمه ويهبها لنا بشفاعته فمن المستحيل أن تُنال بالناموس أو ببرنا ولذلك وهبها لنا مجاناً بدليل قوله «فَإِنْ حَرَّرَكُمْ ٱلٱبْنُ فَبِٱلْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَاراً» (يوحنا ٨: ٣٦). وقيمة هذه الحرية واضحة من أنها لم يهبها لنا ملك من ملوك الأرض ولا نبي ولا رئيس آباء ولا ملاك من السماء بل المسيح ابن الله وفعل ذلك لينقذنا من شر الظالمين وهم الناموس والخطيئة والموت وإبليس فهي تعتق ضمائرنا من خوف غضب الله وهي فضلاً عما تمنحنا من البركات لنفوسنا في الحياة هنا والخلاص بعد الموت تحرر من شوكة القبر أجسادنا التي زُرعت في الفساد والضعف والهوان حتى تقوم في عدم الفساد والقوة والمجد (١كورنثوس ١٥: ٤٢ – ٤٤).

وَلاَ تَرْتَبِكُوا أَيْضاً بِنِيرِ عُبُودِيَّةٍ المراد «بنير العبودية» الاتكال على أعمال الناموس للتبرير (ص ٤: ٢٤). وشبه ذلك الاتكال بالنير الذي يحنو الرقبة ويمنع من الحركة لأنه بالناموس يُستعبد النفس والضمير. ووصف بطرس الناموس بما وصفه بولس هنا بقول «لِمَاذَا تُجَرِّبُونَ ٱللّٰهَ بِوَضْعِ نِيرٍ عَلَى عُنُقِ ٱلتَّلاَمِيذِ لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا وَلاَ نَحْنُ أَنْ نَحْمِلَهُ» (أعمال ١٥: ١٠) وقال «أيضاً» لأنهم لما كانوا وثنيين كانوا متسعبدين للأوثان وعبادتها.

٢ «هَا أَنَا بُولُسُ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ إِنِ ٱخْتَتَنْتُمْ لاَ يَنْفَعُكُمُ ٱلْمَسِيحُ شَيْئاً!»

أعمال ١٥: ١ و١٦: ٣

حذرهم بهذه الآية من كل تسليم بدعاوي المتهودين لأن التسليم بواحدة يستلزم التسليم بالكل لأنه لا يمكن المؤمن أن يتمسك بكلتي الديانتين المسيحية واليهودية فإذا تمسك بإحداهما ترك الأخرى.

هَا أَنَا بُولُسُ الذي بشرتكم بالإنجيل أولاً وأنا الذي اختتنت وكنت شديد التمسك بضرورية الاختتان وسائر الرسوم الموسوية.

خاطبه الرسول هنا بسلطته الرسولية معتبراً أن مجرد قوله برهان كاف على صحة دعواه وبطلان تعليم المعلمين المتهودين الذين علموا أن الختان ضروري للخلاص.

إِنِ ٱخْتَتَنْتُمْ أي قبلتم الختان باعتبار كونه شرطاً ضرورياً للتبرير والخلاص فذلك علامة قبول الديانة اليهودية والاتكال على الناموس.

لاَ يَنْفَعُكُمُ ٱلْمَسِيحُ شَيْئاً للتبرير أمام الله ولخلاص نفوسكم وذلك لأنكم بقبولكم الختان عدلتم عن طلب الخلاص بالمسيح وطلبتموه بالختان وشهدتهم بذلك أنكم لا تؤمنون بالقدرة على الخلاص بإنجيل النعمة.

أخذ المسيح على نفسه أن يتمم كل رسوم الناموس عنا باعتبار كونه نائبنا ولما كان الختان واحداً منها اختتن (لوقا ٢: ٢١). فالذي يجتهد الآن في أن يتمم الناموس لنفسه بشيء من رسومه يصرح بذلك أن المسيح لم يتممه حتى يتبرر الإنسان بفدائه وأنه رفض الاتكال على المسيح ونعمته باعتبار أنه واسطة التبرير. هذا وقول بولس هنا لا يستلزم أن المختون يمنعه ختانه من أن يكون مسيحياً حقيقياً. فالمراد منه أن الإنسان بعد أن يصير مسيحياً ويسمع مثل ما ذُكر من التعليم والتحذير وطلب الختان معتبراً إياه ضرورياً للخلاص يكون قد ترك المسيح باعتبار كونه كافياً للخلاص.

ولا منافاة بين كلام بولس هنا وختنه لتيموثاوس (أعمال ١٦: ٣) لأنه لم يختنه بغية الخلاص بل بغية أن يسعفه بتبشير اليهود لأنه لم يقدر أن يخاطبهم بلا ختان لكونه ابن يوناني وهم يعتقدون التدنس بمخالطة من لم يختتن.

٣ «لٰكِنْ أَشْهَدُ أَيْضاً لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُخْتَتِنٍ أَنَّهُ مُلْتَزِمٌ أَنْ يَعْمَلَ بِكُلِّ ٱلنَّامُوسِ».

ص ٣: ١٠

أَشْهَدُ أَيْضاً هذا ليس مكرر ما في الآية الثانية بل تقرير له. وقال «أشهد» لأنه أقوى من «أقول».

مُلْتَزِمٌ أَنْ يَعْمَلَ بِكُلِّ ٱلنَّامُوسِ أي ناموس موسى لأن الختان عند اليهود رسم ابتدائي يلزم المختون بحفظ ذلك الناموس كله كما أن المعمودية تلزم المعمود أن يسلم نفسه كل التسليم للمسيح وأن يؤمن به ويطيعه على وفق ما أعلن في الإنجيل. وقال «لكل إنسان» بياناً لنفي الاستثناء من كلامه.

إن كون الذين تحت الناموس هم تحت لعنة (ص ٣: ١٠) على كافية أن المؤمنين لا يقبلون أقل شيء من رسوم الناموس لأنه يوجب عليهم حفظ الناموس كله ويعرضهم للدينونة به.

٤ «قَدْ تَبَطَّلْتُمْ عَنِ ٱلْمَسِيحِ أَيُّهَا ٱلَّذِينَ تَتَبَرَّرُونَ بِٱلنَّامُوسِ. سَقَطْتُمْ مِنَ ٱلنِّعْمَةِ».

رومية ٩: ٣١ و٣٢ وص ٢: ٢١ عبرانيين ١٢: ١٥

قَدْ تَبَطَّلْتُمْ عَنِ ٱلْمَسِيحِ قال هذا إثباتاً لقوله آنفاً «لا ينفعكم المسيح شيئاً» (ع ٢). إن التبرير بالناموس والتبرير بالمسيح متنافيان فالذي يطلب الأول يهجر الثاني فكأنه قال إن اختتنتم انقطعت كل علاقاتكم بالمسيح وصرحتم بأنكم تتبررون بأعمالكم ولا ترون من حاجة إلى الاتكال على أعمال غيركم واستحقاقه.

ٱلَّذِينَ تَتَبَرَّرُونَ بِٱلنَّامُوسِ أي تظنون التبرر به ممكناً وتجتهدون في حفظه.

سَقَطْتُمْ مِنَ ٱلنِّعْمَةِ أي عدلتم عن طلب الخلاص بالنعمة إذ طلبتموه بالناموس بناء على استحقاقكم. فالنعمة هي ما يهبه لنا الله مجاناً بدون أن نستحقه. فإذا اعتمد المؤمن على أعماله واستحقاقه للتبرير بعد اتكاله على النعمة لذلك فقد ترك يد الرحمة التي انتشلته من الدينونة والموت وما ذلك سوى سقوط هائل. وبولس لم يقصد أن يصرح بأن مؤمني غلاطية قد بلغوا هذا الحد من الارتداد أي حد السقوط من النعمة بل أراد أن يوضح لهم ما ينتج بالضرورة عن قبولهم تعليم المفسدين والتسليم بوجوب حفظ الرسوم الموسوية. ولا يستلزم ذلك ظن بولس أن الإنسان بعد أن يؤمن الإيمان الحق يسقط من النعمة كل السقوط ويهلك لأن ذلك الاستلزام مناف لكثير من أقواله فمعظم غايته مما قاله هنا أن يُري الناس الخطر العظيم الذي يعرضون أنفسهم له حتى يُعرضوا عنه.

٥ «فَإِنَّنَا بِٱلرُّوحِ مِنَ ٱلإِيمَانِ نَتَوَقَّعُ رَجَاءَ بِرٍّ».

رومية ٨: ٢٤ و٢٥ و٢تيموثاوس ٤: ٨

فَإِنَّنَا نحن المؤمنين بالمسيح. أبان في هذه الآية بأي شيء يمتاز المؤمنون عن الذين يطلبون أن يتبرروا ويخلصوا بالناموس.

بِٱلرُّوحِ أي بفعل الروح القدس لأننا به نؤمن الإيمان الحق وننال البر التام. إن البر الذي بالناموس بشري محض لكونه نتيجة مجرد العمل الإنساني وأما البر الذي بالإيمان فهو مجرد هبة الله بواسطة الروح القدس.

نَتَوَقَّعُ بمزيد الرغبة ووافر الصبر حتى ننال المقصود في السماء (انظر رومية ٨: ١٩ و٢٣ و٢٥). فالذين يطلبون البر بالناموس يزعمون أنهم يدركونه في هذه الحياة وأما المسيحي فيتوقع البر الكامل في الحياة الآتية.

رَجَاءَ بِرٍّ أي البر الذي نرجوه وقد وعد الله به فهو يتضمن التبرير ونتائجه. فالمسيحي الذي يقوده الروح القدس ينتظر أن ينال الخلاص التام بالمسيح وحده. فيتبرر حين يؤمن ويتقدس بعض التقدس هنا ويكمل تقدسه حين يبلغ السماء ويتمتع هنالك إلى الأبد بالسعادة والمجد المعد له والموعود هو به على وفق قوله «ٱلَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ فَهٰؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضاً. وَٱلَّذِينَ دَعَاهُمْ فَهٰؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضاً. وَٱلَّذِينَ بَرَّرَهُمْ فَهٰؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضاً» (رومية ٨: ٣٠) وقوله «مِنْهُ أَنْتُمْ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، ٱلَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ ٱللّٰهِ وَبِرّاً وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً» (١كورنثوس ١: ٣٠).

٦ «لأَنَّهُ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لاَ ٱلْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئاً وَلاَ ٱلْغُرْلَةُ، بَلِ ٱلإِيمَانُ ٱلْعَامِلُ بِٱلْمَحَبَّةِ».

١كورنثوس ٧: ١٩ وص ٣: ٢٨ و٦: ١٥ وكولوسي ٣: ١١ ١تسالونيكي ١: ٣ ويعقوب ٢: ١٨ و٢٠ و٢٢

غاية الرسول من هذه الآية أن المؤمن من اليهود والمؤمن من الأمم سواء قدام الله فختان الأول لا ينفعه شيئاً وعدم ختان الثاني لا يخسره شيئاً فالأمر الضروري هو الاتحاد بالمسيح.

لأَنَّهُ أي علة توقع رجاء البر من الإيمان.

فِي ٱلْمَسِيحِ أي باتحاد المؤمنين بالمسيح بواسطة الإيمان الحي.

لاَ ٱلْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئاً وَلاَ ٱلْغُرْلَةُ أي لا فرق بين المختون والأغرل قبل الإيمان في نيل التبرير والقبول إنما الفرق بينهما في الخارجيات العرضية. والله لا ينظر إلى الظاهرات والعرضيات بل ينظر إلى الاتحاد بالمسيح (ص ٦: ١٥ و١كورنثوس ٧: ١٨ – ٢٠). وما صدق من قول بولس على المؤمنين من أهل الختان المؤمنين من أهل الغرلة يصدق على الأحزاب التي انقسمت إليها الكنيسة المسيحية قديماً وحديثاً فلا فرق بين الأسماء التي عُرفوا فيها بين الناس فالضروري أن يؤمن الإنسان بالمسيح ويعترف به علناً ويعبد الله بالروح والحق ويطيع مشيئته تعالى على ما هي معلنة في أسفار وحيه بدليل قوله «لأَنَّهُ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لَيْسَ ٱلْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئاً وَلاَ ٱلْغُرْلَةُ، بَلِ ٱلْخَلِيقَةُ ٱلْجَدِيدَةُ» (ص ٦: ١٥).

بَلِ ٱلإِيمَانُ ٱلْعَامِلُ بِٱلْمَحَبَّةِ هذا هو الذي ينفع لا الختان ولا الغرلة. والإيمان الحقيقي الذي هو شرط الخلاص من صفته أن يكون عاملاً بالمحبة وبهذه الصفة يمتاز عن الإيمان الفارغ الذي وصفه يعقوب الرسول بكونه «ميتاً» (يعقوب ٢: ١٧ و٢٠). نعم إن الإنسان يتبرر بالإيمان وحده ولكن إيمانه المبرر لا يبقى وحده بل تنشأ فيه حالاً الرغبة في الأعمال الصالحة التي هي مجموعة في أمرين المحبة لله والمحبة للناس. فالإيمان والأعمال مقترنان في المسيحي كالضوء والحرارة في الشمس فالمحبة التي تظهر بالأعمال الصالحة دليل على صحة الإيمان. وهذه الآية بيان للاتفاق بين تعليم بولس وتعليم يعقوب في شأن الإيمان فكل اعتقد صحة الإيمان العامل بالمحبة ونادى به ولم يعتقد أحدهما صحة الإيمان العقيم. وذكر بولس في ١كورنثوس ١٣: ١٢ «الإيمان والرجاء والمحبة» والتي قال عنها «أنها أعظم كل الفضائل» هي المحبة.

٧ «كُنْتُمْ تَسْعَوْنَ حَسَناً. فَمَنْ صَدَّكُمْ حَتَّى لاَ تُطَاوِعُوا لِلْحَقِّ؟»

رومية ٢: ٨ وص ٣: ١

أعلن بولس في هذه الآية والآيات الخمس التي تليها أسفه على انحراف مؤمني غلاطية عن الطريق المستقيمة ولومه للذين أضلوهم.

كُنْتُمْ تَسْعَوْنَ حَسَناً هذا تمثيل مبني على ما يحدث في السباق إلى الغرض إراد به بيان السلوك المسيحي. وقد جاء مثل ذلك في (ص ٢: ٢ وفيلبي ٣: ١٤ و١كورنثوس ٩: ٢٤ – ٢٧ و٢تيموثاوس ٤: ٧). والسعي في الآية لنيل الحياة الأبدية. والطريق التي يُسعى فيها هي التبرير بالإيمان على ما أُعلن في الإنجيل.

فَمَنْ صَدَّكُمْ الاستفهام هنا للتعجب والأسف كأن أحداً اعترض الساعي وصرفه عن سنن سيره.

حَتَّى لاَ تُطَاوِعُوا لِلْحَقِّ المعلن في الإنجيل الذي يعلم أن التبرير بالإيمان. فالصد المذكور في الآية الذي هو علة الانحراف هو عينه تعليم وجوب أن تُخفظ الرسوم الموسوية.

٨ «هٰذِهِ ٱلْمُطَاوَعَةُ لَيْسَتْ مِنَ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ».

ص ١: ٦

هذا جواب منه لسؤاله وأتى به على أسلوبين أسلوب النفي أولاً وأسلوب الإيجاب ثانياً.

هٰذِهِ ٱلْمُطَاوَعَةُ التي سلمتم بها وهي طلب التبرير بأعمال الناموس.

لَيْسَتْ مِنَ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ أي ليست من الله كما يتبين من قوله في أمر الجعالة «أَسْعَى نَحْوَ ٱلْغَرَضِ لأَجْلِ جِعَالَةِ دَعْوَةِ ٱللّٰهِ ٱلْعُلْيَا فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (فيلبي ٣: ١٤). فإنه قد صرّح سابقاً بأن الله دعاهم إلى إنجيل نعمة المسيح ويستحيل أنه تعالى يرضى أن يقبلوا تعليماً فاسداً يعدل بهم عن الطريق التي سيرهم فيها.

٩ «خَمِيرَةٌ صَغِيرَةٌ تُخَمِّرُ ٱلْعَجِينَ كُلَّهُ».

١كورنثوس ٥: ٦ و١٥: ٣٢

خَمِيرَةٌ صَغِيرَةٌ تُخَمِّرُ ٱلْعَجِينَ كُلَّهُ هذا مثل مبني على خواص الخميرة المعروفة يشير إلى أن تأثير مبدإ صغير صالح أو شرير ينشئ نتائج عظيمة. وقد جاءت «الخميرة» بمعنى حسن في (متّى ١٣: ٣٣ ولوقا ١٣: ٢١). وجاءت بمعنى رديء هنا وفي (مرقس ٨: ١٥ و١كورنثوس ٥: ٦ انظر أيضاً تفسير الآية الأخيرة من الشاهدين). ومعنى الرسول هنا أن قليلاً من تأثير التعليم الفاسد يفسد الكنيسة كلها. وقصد بتلك «الخميرة الصغيرة» التعليم الفاسد وهو وجوب الختان فإنه يستلزم حفظ كل الرسوم الموسوية ويصرفهم كل الصرف عن الإنجيل والإيمان بالمسيح.

١٠ «وَلٰكِنَّنِي أَثِقُ بِكُمْ فِي ٱلرَّبِّ أَنَّكُمْ لاَ تَفْتَكِرُونَ شَيْئاً آخَرَ. وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي يُزْعِجُكُمْ سَيَحْمِلُ ٱلدَّيْنُونَةَ أَيَّ مَنْ كَانَ».

٢كورنثوس ٢: ٣ و٨: ٢٢ ص ١: ٧ ٢كورنثوس ١٠: ٦

وَلٰكِنَّنِي أَثِقُ بِكُمْ أيها الغلاطيون المؤمنون الذين كانوا يسعون حسناً فإنهم مع انحرافهم عن الحق إلى التمسك ببعض الأضاليل ما فتئ يثق بهم أنهم يصغون إلى تحذيره إياهم من خطر الطريق التي مالوا إليها وإنهم يرجعون إلى الطريق التي سعوا فيها أولاً وهي طريق النعمة والإيمان.

فِي ٱلرَّبِّ يسوع المسيح. كانت ثقته برجوعهم مبنية على ثقته بالمسيح الذي اتحد به وعمل فيه وبه (فيلبي ٢: ٢٤ و٢تسالونيكي ٣: ٤). فإنه وثق أن المسيح يسمع صلواته من أجلهم ويجعل كلامه يؤثر في قلوبهم وأنه يكمل فيهم العمل الصالح الذي ابتدأ فيهم إلى يوم يسوع المسيح كما وثق بمؤمني فيلبي (فيلبي ١: ٦).

أَنَّكُمْ لاَ تَفْتَكِرُونَ شَيْئاً آخَرَ غير ما علمتكم إياه وأنتم قبلتموه أولاً وأرغب في أن تكونوا كذلك الآن.

ٱلَّذِي يُزْعِجُكُمْ بأن يشكّكم في كون الإيمان بالمسيح كافياً للخلاص وأن يسبب لكم انشقاقاً في كنيستكم. فإنه لم ينسب انحرافهم عن الحق إليهم بل إلى بعض المفسدين من المعلمين المتهودين (ع ١٢ و٢كورنثوس ١١: ٤). وهذا الكلام جوابه على سبيل الإيجاب لسؤاله في الآية السابعة.

سَيَحْمِلُ ٱلدَّيْنُونَةَ أي دينونة الله.

أَيَّ مَنْ كَانَ لم يصرّح باسم المزعج الذي هو علة العثرة بل أشار إلى أن الله يعرفه وأنه تحت مسؤولية ثقيلة وعرضة لدينونة يستحيل عليه أن يهرب منها مهما سما مقامه واعتباره.

١١ «وَأَمَّا أَنَا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ فَإِنْ كُنْتُ بَعْدُ أَكْرِزُ بِٱلْخِتَانِ فَلِمَاذَا أُضْطَهَدُ بَعْدُ؟ إِذاً عَثْرَةُ ٱلصَّلِيبِ قَدْ بَطَلَتْ».

كولوسي ١٥: ٣٠ وص ٤: ٢٩ و٦: ١٢ و١٧ و١كورنثوس ١: ٢٣

فَإِنْ كُنْتُ بَعْدُ أَكْرِزُ بِٱلْخِتَانِ يظهر من هذا أن بعضهم اتهمه بأنه نادى في غير كنيسة غلاطية بوجوب الختان وأتى ذلك بعد تنصره إلى تلك الساعة ولعلهم بنوا تهمتهم على ختنه تيموثاوس في بداءة سفره الثاني للتبشير بالإنجيل (أعمال ١٦: ٣).

فَلِمَاذَا أُضْطَهَدُ بَعْدُ أشار إلى الواقع الذي عرفوه وهو أن اليهود لم يفتأوا يضطهدونه وهذا برهان على أنه لم يغيّر كرازته.

إِذاً عَثْرَةُ ٱلصَّلِيبِ قَدْ بَطَلَتْ كنى الرسول «بالختان» عن كل رسوم الناموس لأن أهل الناموس امتازوا به. وكنى «بالصليب» عن الدين المسيحي لامتياز المسيحيين به. فلو نادى بوجوب الختان لكان كأنه نادى بناموس موسى فقرر أنه يهودي فاستحال أن يضطهده اليهود. ولكن اليهود كانوا لا يزالون يبغضونه ويضطهدونه وهذا دليل قاطع على أنه نادى بأن الإيمان بيسوع المسيح مصلوباً الواسطة الوحيدة للخلاص وهذا أعظم عثرة لليهود.

١٢ «يَا لَيْتَ ٱلَّذِينَ يُقْلِقُونَكُمْ يَقْطَعُونَ أَيْضاً!».

أعمال ١٥: ١ و٢ و٢٤ يشوع ٧: ٢٥ و١كورنثوس ٥: ١٣ وص ١: ٨ و٩

ظن بعضهم أن الرسول أظهر في هذه الآية رغبته في أن يقطع الذين يوجبون الختان من الكنيسة التي أقلقوها به ولكن ذهب أكثر المفسرين ومذهبهم هو المرجح إلى أنه تمنى أن الذين يحبون الختان ويستحسنونه لا يكتفون به بل يحببون كما فعل بعض عبدة الإلاهة سبيلي التي كان هيكها بينهم في مدينة باسينوس. ولا يخفى على القارئ أن بولس قال ذلك على سبيل التهكم لا أنه رغب فيه حقيقة. والظاهر أن الناس في عصر بولس توسعوا في الكلام أكثر مما يستحسنه مسيحيو هذا العصر.

يُقْلِقُونَكُمْ أي ينتزعون راحتكم وسلامة كنيستكم ويقلق هنا بمعنى يزعج في (ع ١٠).

تحذير الرسول الغلاطيين من سوء استعمال حريتهم وحثهم على المحبة الأخوية ع ١٣ إلى ١٥

١٣ «فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا دُعِيتُمْ لِلْحُرِّيَّةِ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ. غَيْرَ أَنَّهُ لاَ تُصَيِّرُوا ٱلْحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ، بَلْ بِٱلْمَحَبَّةِ ٱخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً».

١كورنثوس ٨: ٩ و١بطرس ٢: ١٦ و٢بطرس ٢: ١٩ ويهوذا ٤ و١كورنثوس ٩: ١٩ وص ٦: ٢

أبان أن المعلمين المفسدين استحقوا كل ما سبق من اللوم لما أضروا به من تعليمهم لأنهم سلبوا حريتهم في المسيح.

دُعِيتُمْ لِلْحُرِّيَّةِ إن الذي دعاهم لها هو الله وتلك الحرية هي الخلاص بالنعمة مجاناً بدون حفظ الرسوم الموسوية للتبرير والخلاص وهذا عكس تعليم أولئك المفسدين فهم بذلك ممن قاوموا إرادة الله وقصده (ص ٣: ٢٨ و٤: ٩).

أخذ الرسول هنا ينصح لمؤمني غلاطية وهذا هو القسم الثالث من رسالته.

لاَ تُصَيِّرُوا ٱلْحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ رأى الرسول مؤمني الغلاطيين عرضة للسقوط في هوايا الشهوات المحظورة وكانت كل الكنائس المؤلفة من متنصري الأمم عرضة لذلك لاقتران القبائح بعبادة الأوثان في الهياكل. وكان سكان كورنثوس التي كان فيها يوم كتب هذه الرسالة عرضة لذلك السقوط فرأى من الموافق أن يحذر الغلاطيين من سوء استعمال حريتهم كأن يجعلوها حجة للانهمال في اللذات الجسدية لأن للحرية المسيحية حدوداً إنجيلية فلا تبيح للمؤمن أن يفعل ما يشاء (١بطرس ٢: ١٦ و٢بطرس ٢: ١٩).

بَلْ بِٱلْمَحَبَّةِ ٱخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً حذرهم سابقاً من العبودية للرسوم الموسوية والخطيئة والشهوات لأنها شر أنواع العبودية ودعاهم هنا إلى الخدمة الحبية لأنها شريفة ممدوحة لذيذة ولا تنافي الحرية الحقة. فرُبط المحبة ليست بقيود الرق بدليل قوله «فإني إذ كنت حراً من الجميع استعبدت نفسي للجميع لأربح الأكثرين».

١٤ «لأَنَّ كُلَّ ٱلنَّامُوسِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُكْمَلُ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ».

متّى ٧: ١٢ و٢٢: ٤٠ ويعقوب ٢: ٨ لاويين ١٩: ١٨ ومتّى ٢٢: ٣٩ ورومية ١٣: ٨ و٩

بعد أن وضع بولس أساس التعليم المسيحي وهو المسيح وبره بنى عليه وجوب الأعمال الصالحة وضمنها كلها في شريعة المحبة.

كُلَّ ٱلنَّامُوسِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُكْمَلُ الخ هذا مقتبس من سفر اللاويين (لاويين ١٩: ١٨). والناموس قسمان الأول المحبة غير المحدودة لله والثاني محبة القريب كالنفس. والثاني مبني على الأول ويستحيل دونه كما أبان يوحنا الرسول بقوله «إِنْ قَالَ أَحَدٌ: «إِنِّي أُحِبُّ ٱللّٰهَ» وَأَبْغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. لأَنَّ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ ٱلَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ ٱللّٰهَ ٱلَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ؟ وَلَنَا هٰذِهِ ٱلْوَصِيَّةُ مِنْهُ: أَنَّ مَنْ يُحِبُّ ٱللّٰهَ يُحِبُّ أَخَاهُ أَيْضاً» (١يوحنا ٤: ٢٠ و٢١). فخلاصة كل الناموس المحبة بدليل قوله «لاَ تَكُونُوا مَدْيُونِينَ لأَحَدٍ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِأَنْ يُحِبَّ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، لأَنَّ مَنْ أَحَبَّ غَيْرَهُ فَقَدْ أَكْمَلَ ٱلنَّامُوسَ… وَإِنْ كَانَتْ وَصِيَّةً أُخْرَى، هِيَ مَجْمُوعَةٌ فِي هٰذِهِ ٱلْكَلِمَةِ: «أَنْ تُحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ». اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَصْنَعُ شَرّاً لِلْقَرِيبِ، فَٱلْمَحَبَّةُ هِيَ تَكْمِيلُ ٱلنَّامُوسِ» (رومية ١٣: ٨ – ١٠). وكانت المحبة تكميل الناموس لأن وجودها يتكفل بالقيام بكل ما يجب علينا لله وللناس. وهذا على وفق قول المسيح في (متّى ٢٢: ٣٩) وبيّن الرسول ذلك بقوله «اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ وَهٰكَذَا تَمِّمُوا نَامُوسَ ٱلْمَسِيحِ» (ص ٦: ٢).

١٥ «فَإِذَا كُنْتُمْ تَنْهَشُونَ وَتَأْكُلُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، فَٱنْظُرُوا لِئَلاَّ تُفْنُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً».

هذه الآية بيان للضرر الناتج من عدم الامتثال لوصيته إذا جعلوا الحرية «فرصة للجسد» وخالفوا شريعة المحبة.

إِذَا كُنْتُمْ تَنْهَشُونَ وَتَأْكُلُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً كما تفعل الوحوش الضارية. فإذا لم تحب أخانا حسدناه ثم أبغضناه ثم تآمرنا عليه ثم هجمنا عليه. وأشار بهذا إلى الانقسامات والخصومات التي كانت كنيسة غلاطية عرضة للوقوع فيها بقبولها المعلمين الفريسيين وبدعهم فتُسلب بذلك كل ما فيها من الاتفاق والسلام فيغار البعض على وجوب الختان وحفظ الأيام والأعياد وسائر الرسوم اليهودية ويتحمس البعض عليها ويسعى في إبطالها.

لِئَلاَّ تُفْنُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي لئلا تتلاشى كنيستكم بسبب هذه الخصومات. وحذرهم من هذه العاقبة المحزنة لكي يحترسوا منها ويخدموا بعضهم بعضاً بالمحبة متمسكين بإيمان واحد.

إن تاريخ الكنيسة يشهد بصدق ما أشار إليه بولس هنا من الخطر على نمو الكنيسة من التحزب والخصام ووجوب الاحتراز منهما لأنهما منعا الكنيسة من التقدم والنمو عدداً وتقوى حتى نتج عنهما حروب دموية فني بها أموال الناس وحياتهم. فلا شيء في العالم مما يسلب راحته وسلامه ويهين اسم المسيح ويمنع نجاح الكنيسة وتقوى أعضائها أكثر من الاختلافات الدينية.

السلوك بالروح وبيان أعمال الجسد وأعمال الروح ع ١٦ إلى ٢٦

١٦ «وَإِنَّمَا أَقُولُ: ٱسْلُكُوا بِٱلرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ ٱلْجَسَدِ».

رومية ٦: ١٢ و٨: ١ و٤ و١٢ و١٣: ١٤ وع ٢٥ و١بطرس ٢: ١١

وَإِنَّمَا أَقُولُ تفسير لما قال في (ع ١٣).

ٱسْلُكُوا بِٱلرُّوحِ أي سلموا أنفسكم لإرشاد الروح القدس تحصلوا على حرية مضاعفة أي تتحرروا من الناموس على ما ذُكر في أكثر الرسالة ومن العبودية للشهوات الجسدية التي كلامنا فيها. والسلوك بالروح يكون بمقتضى القانون الذي وضعه الروح القدس لنرشد به ضمائرنا ونقيس عليه أعمالنا. وهذا مثل قوله «بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ رُوحَ ٱبْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخاً: يَا أَبَا ٱلآبُ» (ص ٤: ٦ ومثله ما في ع ١٦ – ١٨ من هذا الأصحاح وما في رومية ٨: ٢ و٥ و١١ و١٣). واستعارة السلوك للحياة المسيحية كثيرة في الإنجيل فجاءت في البشائر ثلاث مرات وفي رسائل بولس ثلاثاً وثلاثين مرة وفي رسائل يوحنا عشر مرات وفي سفر الرؤيا مرة واحدة.

فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ ٱلْجَسَدِ أي شهوة الإنسان الطبيعي بعد السقوط وقبل التجدد لأن كل أفكاره وأعماله نتائج الشهوة البشرية. وجاء «الجسد» بهذا المعنى في (ع ١٣ و١٧ و١٩ ويوحنا ٣: ٦) فإن كلا من الروح والجسد يضاد الآخر فحيث تسلط الواحد لم يبق من قوة للثاني. وطريق أن يتحرر الإنسان من الشهوات الجسدية هي أن يمتلئ بالروح القدس.

١٧ «لأَنَّ ٱلْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ ٱلرُّوحِ وَٱلرُّوحُ ضِدَّ ٱلْجَسَدِ، وَهٰذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا ٱلآخَرَ، حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لاَ تُرِيدُونَ».

رومية ٧: ٢٣ و٨: ٦ و٧ رومية ٧: ١٥ و١٩

لأَنَّ هذا تعليل لما أبانه من المضادة بين الجسد والروح ولقوله «اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد».

ٱلْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ ٱلرُّوحِ أي إن أميال الإنسان الرديئة تجعله يرغب في غير ما يحثه الروح القدس على الافتكار فيه والعمل به. ولم يعن «بالجسد» هنا مجرد الشهوات الجسدية المحظورة بل كل العواطف الرديئة التي تستخدم الجسد آلة لها فإن الجسد ليس مركز الشر كما زعم أتباع ماني لأن الكتاب المقدس لم ينسب إليه شيئاً من الشرور الذاتية فإن الله خلقه ليكون مسكن الروح القدس (١كورنثوس ٦: ١٩ و١٠ و٢كورنثوس ٦: ١٦). والمسيح فدى الجسد والنفس معاً.

وَهٰذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا ٱلآخَرَ كما يشهد بالاختبار كل مسيحي فحص ضميره. وأطال بولس البيان في كلامه على المحاربة بين الطبيعة العتيقة الخاطئة التي تدعى «الجسد» والطبيعة الجديدة المقودة بروح الله في (رومية ٧: ١٥ – ٢٣ و٢٥). والحرب قائمة في الإنسان دائماً بين العقل والشهوة والضمير والخطيئة والله والشيطان. والشعور بهذه المحاربة والأسف منها برهان قاطع على الولادة الجديدة وفعل الروح القدس في القلب لإماتة الأميال الفاسدة.

حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لاَ تُرِيدُونَ لقوة بقايا الطبيعة البشرية التي لم يتم خضوعها لشريعة الله على وفق قول المسيح لتلاميذه «أَمَّا ٱلرُّوحُ فَنَشِيطٌ وَأَمَّا ٱلْجَسَدُ فَضَعِيفٌ» (متى ٢٦: ٤١). ولقوة التجربة المحيطة بنا التي جعلت بولس يقول «لَسْتُ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُهُ، بَلْ مَا أُبْغِضُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ» (رومية ٧: ١٥) ويصرخ «وَيْحِي أَنَا ٱلإِنْسَانُ ٱلشَّقِيُّ» (رومية ٧: ٢٤). ولكن الكتاب المقدس يؤكد للمؤمن انتصاره أخيراً على طبيعته الفاسدة بمعونة المسيح وفعل الروح القدس حتى يتمكن من قال أولاً «من ينقذني من جسد هذا الموت» من أن يقول «اشكر الله بيسوع المسيح ربنا».

١٨ «وَلٰكِنْ إِذَا ٱنْقَدْتُمْ بِٱلرُّوحِ فَلَسْتُمْ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ».

رومية ٦: ١٤ و٨: ٢

إِذَا ٱنْقَدْتُمْ بِٱلرُّوحِ تمام الانقياد أي سلمتم أنفسكم لتعليمه وإرشاده امتثالاً لقوله «اسلكوا بالروح» (ع ١٦).

فَلَسْتُمْ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ لكي تطيعوه بقوتكم الذاتية رغبة في أن تتبرروا به. إن المؤمنين لكونهم منقادين بروح الله ولكونهم صاروا أبناء الله يفعلون باختيارهم ما يأمر به الناموس ويمتنعون عما ينهي عنه كذلك (رومية ٨: ١٤) ويسلكون في جدة الحياة (رومية ٦: ٤) فالشكر والمحبة يسوقانهم إلى السير في الطريق المستقيم فلا يحتاجون بعد إلى الناموس المكتوب ظاهراً لأن المسيح كتبه على قلوبهم وهو يقدرهم على القيام به (رومية ٦: ١٤ و١٥ و١٨ و١تيموثاوس ١: ١٩) فيجب أن لا يخيف الناموس المؤمن لأنه لا يستطيع أن يحكم عليه لأن المسيح أوفى كل مطاليب الناموس عنه واللابس بره يقف بلا عيب أمام العرش (٢بطرس ٣: ١٤).

١٩ «وَأَعْمَالُ ٱلْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ: ٱلَّتِي هِيَ زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ».

١كورنثوس ٣: ٣ وأفسس ٥: ٣ وكولوسي ٣: ٥ ويعقوب ٣: ١٤ و١٥

أَعْمَالُ ٱلْجَسَدِ ذكر الرسول أعمال الجسد وأعمال الروح ليبين المضادة التي بينهما على ما أبان في (ع ١٦) فذكر أولاً سبعة عشر من أعمال الجسد (ع ١٩ – ٢١) وثانياً تسعة من أعمال الروح (ع ٢٢ و٢٣) وأراد بقوله «أعمال الجسد» أعمال الذين يسلمون أنفسهم لأميالهم الطبيعية الخاطئة ولا ينقادون بروح الله.

ظَاهِرَةٌ على وفق قول المسيح «من أثمارهم تعرفونهم» (متّى ٧: ١٦). ولم يقصد بولس هنا أن يكتب قائمة كل الخطايا بل الخطايا التي كان الغلاطيون عرضة لارتكابها مما اعتادوه يوم كانوا وثنيين ومن التجارب التي كانت محيطة بهم. ولا حاجة إلى القول إنه لم يتهمهم بارتكاب كل ما ذكره من الخطايا. والتي ذكرها أربعة أنواع:

الأول: الرذائل الذاتية التي يخطأ الإنسان بارتكابها إلى جسده.

الثاني: الخطايا التي يخطأ بارتكابها إلى الله وهي بارتكابها إلى جسده.

الثالث: الخطايا التي يخطأ بارتكابها إلى قريبه.

الرابع: الخطايا الناتجة عن تجاوز الحد في المباح.

هِيَ زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ هذه الأربعة خطايا يرتكبها الإنسان على ذاته وينجس بها جسده الذي قصد الله أن يكون هيلكاً للروح القدس (١كورنثوس ٦: ١٩ – ٢٠) وهي مما اعتاده الوثنيون ولم ينه عنها أحد من فلاسفتهم الأدبيين وأفضلهم كسقراط وأفلاطون وشيشرون وأنهم لم يُحرموا الزنا إلا بكونه تعدياً على حقوق الزوج وكان مقترناً دائماً بعبادة الزهرة وغيرها من الإلاهات وحُسب جزءا من عبادتهن.

٢٠ «عِبَادَةُ ٱلأَوْثَانِ سِحْرٌ عَدَاوَةٌ خِصَامٌ غَيْرَةٌ سَخَطٌ تَحَزُّبٌ شِقَاقٌ بِدْعَةٌ».

عِبَادَةُ ٱلأَوْثَانِ سِحْرٌ هاتان خطيتان وثنيتان حرمهما الله. ولم يكن المسيحي محتاجاً إلى التحذير من ارتكاب أولاهما عمداً وظاهراً لكن كان معرضاً لها بحضوره الولائم الوثنية في الهياكل والبيوت ليأكل لحم ما قدم للأوثان أو بمجاراة الوثنيين في عوائدهم. وكثيراً ما توغل أهل أسية الصغرى في اعتقاد السحر وممارسته. قيل في متنصري أفسس «كَانَ كَثِيرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَ ٱلسِّحْرَ يَجْمَعُونَ ٱلْكُتُبَ وَيُحَرِّقُونَهَا أَمَامَ ٱلْجَمِيعِ. وَحَسَبُوا أَثْمَانَهَا فَوَجَدُوهَا خَمْسِينَ أَلْفاً مِنَ ٱلْفِضَّةِ» (أعمال ١٩: ١٩ انظر أيضاً رؤيا ٢١: ٨).

عَدَاوَةٌ خِصَامٌ العداوة البغض الباطن والخصام وهو معلولها إعلانها في الظاهر.

غَيْرَةٌ الغيرة هنا الرغبة في السبق والأفضلية.

سَخَطٌ السخط أول مراتب الغضب ويستعمل غالباً لغضب الإنسان على من هو دونه.

تَحَزُّبٌ أي انضمام أصحاب الرأي الواحد وانفصالهم عن غيرهم.

شِقَاقٌ الخلاف ظاهراً وباطناً بعد الاتفاق (١كورنثوس ٣: ٣).

بِدْعَةٌ ما أُحدث في الدين وخالف الحق (١كورنثوس ١١: ١٩).

٢١ «حَسَدٌ قَتْلٌ سُكْرٌ بَطَرٌ، وَأَمْثَالُ هٰذِهِ ٱلَّتِي أَسْبِقُ فَأَقُولُ لَكُمْ عَنْهَا كَمَا سَبَقْتُ فَقُلْتُ أَيْضاً: إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هٰذِهِ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ».

١كورنثوس ٦: ٩ وأفسس ٥: ٥ وكولوسي ٣: ٦ ورؤيا ٢٢: ١٥

حَسَدٌ الحزن على نعمة الغير وتمني زوالها عنه.

قَتْلٌ هذا نهاية الخطايا المذكورة التي يرتكبها الإنسان على قريبه وشريها.

سُكْرٌ بَطَرٌ السكر مجاوزة الحد في تناول الخمر وما شاكلها. والبطر مجاوزة الحد في المسرة وكانت الأمم التي الغلاطيون منها مشهورة بالأمرين. وذكرهما الرسول قسماً مستقلاً لأن الشراب والسرور ليسا بمحرّمَين بالذات بل بمجاوزة الحد فيهما.

ٱلَّتِي أَسْبِقُ فَأَقُولُ أي أقول قبل ارتكابكم إياها وقبل أن تختبروا صدق قولي في يوم الدين.

كَمَا سَبَقْتُ فَقُلْتُ أَيْضاً في زيارته الأولى أو الثانية أو في كلتيهما حين نادى بينهم بالإنجيل الذي ينهي عن كل الفجور ويطلب الاقتداء بالمسيح.

مِثْلَ هٰذِهِ المذكور من الرذائل.

مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ الذي أنشأه المسيح على الأرض وسوف يتم في السماء دار القداسة التي «لَنْ يَدْخُلَهَا شَيْءٌ دَنِسٌ وَلاَ مَا يَصْنَعُ رَجِساً وَكَذِباً» (رؤيا ٢١: ٢٧). فإنه «خَارِجاً ٱلْكِلاَبَ وَٱلسَّحَرَةَ وَٱلزُّنَاةَ وَٱلْقَتَلَةَ وَعَبَدَةَ ٱلأَوْثَانِ، وَكُلَّ مَنْ يُحِبُّ وَيَصْنَعُ كَذِباً» (رؤيا ٢٢: ١٥). والخلاصة أنه بدون قداسة لا يقدر أحد أن يعاين الرب (عبرانيين ١٢: ١٤). وهذه العبارة مخيفة لكل من لم يتجدد ويتقدس.

٢٢ «وَأَمَّا ثَمَرُ ٱلرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ».

يوحنا ١٥: ٢ وأفسس ٥: ٩ كولوسي ٣: ١٢ ويعقوب ٣: ١٧ رومية ١٥: ١٤ و١كورنثوس ١٣: ٧

ثَمَرُ ٱلرُّوحِ أي الأعمال الناتجة عن تأثير الروح القدس من الذين يسلمون أنفسهم إلى إرشاده. ودعاها «ثمراً» لأنها نتيجة طبيعية من ذلك المنشئ كما أن الثمر نتيجة طبيعية من النبات وكما أن الأعمال الشريرة تنشأ من قلب الإنسان الشرير طبعاً بدون تأثير من خارج. وبعض الفضائل المذكورة هنا لم يُحسب من الفضائل عند الوثنين وهو المحبة وطول الأناة والفرح والسلام والوداعة. وفي تعبيره عن أعمال الروح بلفظ مفرد هو «الثمر» خلافاً لما عبر به عن الرذائل إشارة إلى أن الفضائل الروحية متحدة وعبر عنها في (ع ١٤) «بالمحبة» وفي موضع آخر «بثمر النور» (أفسس ٥: ٩).

مَحَبَّةٌ هي الفضيلة المسيحية الأساسية وهي تشتمل على كل ما سواها من الفضائل وتحيط بالسموات والأرض.

فَرَحٌ سَلاَمٌ ويجمعهما سعادة المسيحي الداخلية فيكون مبتهجاً مطمئناً أبداً بناء على مغفرة خطاياه والمصالحة مع الله ورجاء السماء.

طُولُ أَنَاةٍ احتمال التعدّيات بالصبر.

لُطْفٌ إظهار ما في القلب من اللين والرفق بالفعل.

صَلاَحٌ الرغبة في نفع القريب والسعي في سبيله.

إِيمَانٌ هو فضيلة جوهرية في الدين المسيحي كما هو ظاهر في البشائر والرسائل ولعل الرسول وضعه مقابلاً لبدعة في قائمة الرذائل التي حذر منها.

٢٣ «وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ. ضِدَّ أَمْثَالِ هٰذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ».

أعمال ٢٤: ٢٥ و٢بطرس ١: ٦ و١تيموثاوس ١: ٩

وَدَاعَةٌ السكون والاستقرار والاطمئنان في كل الأمور ولا سيما وقت التعديات وهي ضد الرئاسة والانتقام. ومدحها المسيح بقوله «طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ ٱلأَرْضَ» (متى ٥: ٥).

تَعَفُّفٌ وهو ضبط النفس عن المحرّمات ومجاوزة الحد في المباحات.

ضِدَّ أَمْثَالِ هٰذِهِ لَيْسَ نَامُوس «هذه» إشارة إلى الفضائل المذكورة ولا يضادها الناموس لأنها الأثمار التي ينشئها روح الله في المنقادين بالروح. والذي يضاده الناموس هو الخطيئة لأنه ينهي عنها. وأما هذه الفضائل فيأمر بها لكن ليس له قوة على أن ينشئها في قلب الإنسان بل له القوة على عقاب مبغضيها.

٢٤ «وَلٰكِنَّ ٱلَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا ٱلْجَسَدَ مَعَ ٱلأَهْوَاءِ وَٱلشَّهَوَاتِ».

رومية ٦: ٦ و١٣: ١٤ وص ٢: ٢ و١بطرس ٢: ١١

ٱلَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ أي المتحدين بالمسيح بالإيمان المعتمدين باسمه المنكرين العالم والشهوات والشيطان.

قَدْ صَلَبُوا ٱلْجَسَدَ ولذلك يستحيل أن يخالفوا الناموس بأن يخطئوا إلى الله أو أنفسهم أو قريبهم إذ أماتوا كل ميل إلى ارتكاب الخطيئة حين آمنوا بالمسيح المصلوب وسلموا أنفسهم له واتحدوا به.

إن تجديد الخاطئ هو إماتة الإنسان العتيق وشهواته وإقامة الإنسان الجديد. وكنى «بالصليب» عن الموت كما كنى «بالولادة الجديدة» عن القيامة مع المسيح (ص ٢: ٢٠ و٦: ١٤ ورومية ٦: ٤ – ٦ وكولوسي ٣: ٥).

٢٥ «إِنْ كُنَّا نَعِيشُ بِٱلرُّوحِ فَلْنَسْلُكْ أَيْضاً بِحَسَبِ ٱلرُّوحِ».

رومية ٨: ٤ و٥ وع ١٦

إِنْ كُنَّا نَعِيشُ بِٱلرُّوحِ أي إن كنا أنا وأنتم نعيش بواسطة الروح الذي ينشئ الحياة الروحية فينا ويحفظها ونستنير به ونقاد لكي نعمل مشيئة الله.

فَلْنَسْلُكْ الخ قال إن ما يفعله الله فينا علة أن نفعل نحن أيضاً مع الله لنأتي بالنتيجة التي يريدها الله.

بِحَسَبِ ٱلرُّوحِ أي نجعل سيرتنا على وفق القانون الذي وضعه الروح القدس وظل يرشدنا به ويقدرنا على مداومة السير بمقتضاه. وذلك السلوك مما يجب على المسيحي كل يوم ما دام حياً.

٢٦ لاَ نَكُنْ مُعْجِبِينَ نُغَاضِبُ بَعْضُنَا بَعْضاً، وَنَحْسِدُ بَعْضُنَا بَعْضاً».

فيلبي ٢: ٣

لاَ نَكُنْ مُعْجِبِينَ أي لنعتزل الكبرياء وهذا كقوله «لاَ شَيْئاً بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ ٱلْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» (فيلبي ٢: ٣). حذر الرسول الغلاطيين بهذه الآية مما كانوا عرضة له من الكبرياء والتقلب والاختلاف.

نُغَاضِبُ بَعْضُنَا بَعْضاً، وَنَحْسِدُ الخ قال ذلك لأن الغلاطيين اشتهروا بحب المباهاة والخصومات ولكن هذه الخصلة لم تكن مما اختصوا به فإنها مما لم تخل منها مدينة أو قرية وهي لا تضر في موضع على وجه الأرض كضررها في الكنيسة إذا كانت في معاملة بعض أعضائها لبعض.

فوائد

  • إن السعي في أمور الدين ممدوح وأما السعي حسناً فأحق منه بالمدح لأنه يؤكد نيل الجعالة فالذي «يسلك بالروح» فلا بد من أن «يسعى حسناً» ولا يستطيع أحد أن يصده عن تقدمه في السعي (ع ٧).
  • إن كلمة الله نهتنا عن أن نثق بالبشر ومع ذلك قال بولس للغلاطيين إنه يثق بهم لكن ثقته بهم لم تبن على شدة عزمهم ووفرة مواعيدهم وما شاهدوه من ثبوتهم بل على قوة الله الساندة لهم ونعمة المسيح الجاذبة لهم وتأثير الروح القدس ليقدسهم (ع ١٠).
  • إنه إذا نادى أحد بدين المسيح على طريق لا تؤدي إلى أن يقاومه أهل العالم واضطهادهم لتابعيه كان ذلك دليلاً قاطعاً على أن مناداته ليست بالإنجيل الحق فالصليب الذي لا يكون عثرة ولا جهالة لأحد ليس بالصليب الذي حمله المسيح على الجلجثة وأمرنا أن نحمله وراءه. فالتبشير بالصليب يعلم أن الخلاص يكون مجاناً بالمسيح وحده ويمنع من الاتكال على الأعمال الصالحة ويجعل الكل خطأة أمام الله على السواء ويوجب التواضع على تابعيه ومساواة بعضهم لبعض. وما دام هو كذلك يبغضه الناس ويبغضون المنادين به ويضطهدونهم ويطلبون ملاشاة تعليمه من الأرض (ع ١١).
  • إن هذا الأصحاح يبين طريق هداية الذين ضلوا عن الحق وذلك يكون بثلاثة أمور:
  • الأول: تذكيرهم محبتهم الأولى وطاعتهم (ع ٧).
  • الثاني: تحذيرهم من الخطر الذي في طريق الضلال (ع ٩ و١٠).
  • الثالث: أن يُسلك أمامهم بالاستقامة والاستمرار في طريق الحق ليقتدوا (ع ١١).
  • إن تحرر المؤمن من الناموس الأدبي باعتبار كونه واسطة للتبرير وعلة للخلاص من الدينونة لا يحرره من وجوب اتخاذه ذلك الناموس قانوناً لحياته فبإيمانه يبدل طاعته للناموس كطاعة العبد لسيده بالخوف والتكلف بطاعته له طاعة الابن لأبيه مختاراً مسروراً (ع ١٣).
  • إنه ليس من مؤمن على الأرض نال من القوة الروحية والقداسة ما به الكفاية حتى لا يشعر بتجارب الجسد وحتى يمكنه أن يغلب تلك التجارب بقدرته الذاتية. وليس من مؤمن ضعيف إلى حد لا يقدر عنده أن يغلب كل التجارب الجسدية بالروح القدس (ع ١٦).
  • إن وجود المحاربة بين الجسد وروح الله في إنسان دليل قاطع على تجدده وهي تمتاز عن المحاربة بين عقل الإنسان وشهواته بأن نتيجة الأولى الانتصار دائماً بعكس الثانية. فمن قال إنه «لا نفع من الاجتهاد في نيل القداسة ودفع الخطيئة لأني مهما اجتهدت لم يمكني إلا أن أفعل ما لا أريد فيأسرني الشيطان وشهواتي» فهو ضال وسيهلك. ولكن الذي يقاوم الخطيئة ويستغيث بقوة من العلى قائلاً «من ينقذني من جسد الموت هذا» يقوده الروح القدس بعد المجاهدة العنيفة إلى النصرة الأخيرة السماوية التامة والسارة (ع ١٧).
  • إنه لا ينجو من سلطة الناموس على أن يدينه ولا من سلطة الفساد على قلبه إلا بتأثير الروح القدس (ع ١٨).
  • إن جرم خطيئة الخاطئ وكونه عرضة للعقاب لا يقومان بمجرد أعماله الخارجية التي تغيظ الله وتضر نفسه وقريبه بل بفساد قلبه الباطن الذي حمله على ارتكاب تلك الأعمال. وهذا الفساد يكرهه الله كثيراً وهو يحقق انفصال الإنسان عنه تعالى. فقول الكتاب «إن الذين يفعلون مثل هذه (الخطايا) لا يرثون ملكوت الله» لا يصدق على الذين يرتكبونها كلها أو يرتكبها مراراً فقط بل على الإنسان الذي يسمح لواحدة منها أن تتسلط عليه ولا يرجع عنها. وإن لم يرتكب الإنسان واحدة منها فعلاً ولكنه أراد أن يرتكبها وامتنع خجلاً من الناس وخيفة من النار فالله الفاحص القلب يدينه (ع ١٩ – ٢١).
  • إن الإنجيل يدعونا إلى فرح فإن فرحنا به كان ذلك دليلاً على أننا اتكلنا على المسيح لمغفرة الخطايا وإننا تحققنا ميراثنا الأبدي وإننا وجدنا نير المسيح هيناً وحمله حفيفاً وإننا وجدنا تعزية عظيمة في مواعيد الكتاب الإلهي باتحادنا بالمسيح وسكنى الروح القدس فينا. وهو شهادة للعالم بأننا لسنا عبيداً نخدم سيداً قاسياً بل سيداً هو خير السادة يمنحنا أفضل التعزية والمعونة وأعد لنا أحسن الثواب (ع ٢٢).
  • إنه لا يكفي أن يمتنع عن أعمال الجسد بل يجب أن نزيد على ذلك ممارسة الفضائل المسيحية. وتلك الفضائل كثيراً ما يمارسها المؤمنون ويخافون من أنهم ليسوا مسيحيين حقيقيين والناس تشاهدهم يمارسونها. وأثمار الروح هذه يأتي بها كل مسيحي بالحق والفرق بين المسيحيين في ذلك أن بعضهم يمتاز بكثرة ممارسة بعضها والآخر بكثرة ممارسة الآخر (ع ٢٢ و٢٣).
  • إنه يسوغ لنا أن نعبر عن الموت للخطيئة بالصلب لأن المصلوب لا يموت دفعة بل تدرجاً من الجوع والعطش وفقدان الدم والألم والالتهاب بجراح الصلب كذلك المسيحي حين يتوب يأخذ في الموت للخطيئة كأنه سُمر على الصليب وقتئذ فتضعف شهواته شيئاً فشيئاً على أثر توبته وسهره وجهاده للخطيئة وندامته عليها ولا يزال يصلب طبيعته الفاسدة إلى أن تنتهي حياته الأرضية فكل قدرته على صلب الجسد ينالها بموت المسيح على الصليب (ع ٢٤).
  • إن علامة وجود الحياة الروحية هي العمل الروحي فالحياة الخارجية تثبت صحة الحياة الداخلية. والسلوك بالروح ضروري لحفظ تلك الحياة وتقويتها ولمداومة صلب الجسد (ع ٢٥).
السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى