الرسالة إلى غلاطيّة| 04 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة إلى غلاطيّة
للدكتور . وليم إدي
اَلأَصْحَاحُ ٱلرَّابِعُ
مقابلة بين حال العبودية التي كنا فيها قبل المسيح تحت الناموس وحال البنوة التي صرنا إليها بعده وفضل الثانية على الأولى (ع ١ – ١١). وتذكير الرسول الغلاطيين بمحبتهم السابقة له (ع ١٢ – ٢٠). وتمثيله بياناً لفضل الذين هم تحت الإنجيل على الذين تحت الناموس (ع ٢١ – ٣١).
حالنا تحت الناموس حال الأولاد القاصرين وحالنا في المسيح حال الورثة الراشدين ع ١ إلى ١١
١ «وَإِنَّمَا أَقُولُ: مَا دَامَ ٱلْوَارِثُ قَاصِراً لاَ يَفْرِقُ شَيْئاً عَنِ ٱلْعَبْدِ، مَعَ كَوْنِهِ صَاحِبَ ٱلْجَمِيعِ».
إِنَّمَا أَقُولُ هذا مقدمة لما سيقوله في شأن القاصرين من الورثة والراشدين منهم لا إشارة إلى ما قبله.
مَا دَامَ ٱلْوَارِثُ قَاصِراً صرّح هنا بالقانون المتعارف وقتئذ في الأمور الدنيوية من جهة قاصري الورثة. ففي الأمور العالمية يحصل الوارث على ميراثه عند موت والده ولكن الله لكونه ينبوع الحياة وهو الحي الذي لا يموت يجعل أولاده ورثة بدون ما يقابل الموت من التغيير وعد عيّن لأولاد وقت نيل الميراث.
لاَ يَفْرِقُ شَيْئاً عَنِ ٱلْعَبْدِ وذلك مع كون الميراث محسوباً له وسيكون في ملكه. ولكنه ما دام قاصراً يكون بمنزلة العبد في كونه لا يقدر على التصرف بالميراث أكثر مما يقدر على ذلك عبد البيت فلا يقدر أن يشتري عقاراً ولا يبيع ملكاً ولا يكتب صكاً يثبت عند أرباب الحكومة. والمراد «بالقاصر» هنا الناس قبل ميلاد المسيح ولا سيما الأمة اليهودية.
مَعَ كَوْنِهِ صَاحِبَ ٱلْجَمِيعِ لأنه الوارث.
٢ «بَلْ هُوَ تَحْتَ أَوْصِيَاءَ وَوُكَلاَءَ إِلَى ٱلْوَقْتِ ٱلْمُؤَجَّلِ مِنْ أَبِيهِ».
بَلْ هُوَ تَحْتَ أَوْصِيَاءَ وَوُكَلاَءَ هذا لا يصدق في الدنيويات ما لم يمت الأب أو يغب أو يُشغل بأمور ذات الشأن. ولم يذكر الرسول بأي واسطة صار الناس في تلك الحال. والحق أنهم صاروا فيها بمشيئة الله وقضائه. وفي الأصل اليوناني الأوصياء هم الذين يوكل إليهم النفوس والوكلاء الذين يوكل إليهم الأموال.
إِلَى ٱلْوَقْتِ ٱلْمُؤَجَّلِ مِنْ أَبِيهِ في بعض الممالك أرباب الحكومة تعيّن السن التي عندها يستولي الوارث على ميراثه وفي غيرها الوالد يعيّن ذلك. ولنا مما قيل هنا أن تعيين ذلك كان في غلاطية للوالد. وأبونا السماوي بحكمته غير المحدودة قد اختار الوقت الذي فيه يشغل شعبه من قصوره تحت رق الناموس إلى بلوغه الكامل في حرية الإنجيل.
٣ «هٰكَذَا نَحْنُ أَيْضاً: لَمَّا كُنَّا قَاصِرِينَ كُنَّا مُسْتَعْبَدِينَ تَحْتَ أَرْكَانِ ٱلْعَالَمِ».
ص ٢: ٤ وع ٩ وص ٥: ١ وكولوسي ٢: ٨ و٢٠ وعبرانيين ٩: ١٠
هٰكَذَا نَحْنُ المتنصرون من اليهود والأمم قبل إيماننا بالمسيح بدليل قوله «قَبْلَمَا جَاءَ ٱلإِيمَانُ كُنَّا مَحْرُوسِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، مُغْلَقاً عَلَيْنَا إِلَى ٱلإِيمَانِ ٱلْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ» (ص ٣: ٢٣).
كُنَّا قَاصِرِينَ أي مثل القاصرين عن الميراث.
مُسْتَعْبَدِينَ تَحْتَ أَرْكَانِ ٱلْعَالَمِ المراد «بأركان العالم» هنا مبادئ العلم والمعنى إنا كنا كالذين يتعلمون حروف الهجاء. وهذا على وفق قوله «لأَنَّكُمْ إِذْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ لِسَبَبِ طُولِ ٱلزَّمَانِ، تَحْتَاجُونَ أَنْ يُعَلِّمَكُمْ أَحَدٌ مَا هِيَ أَرْكَانُ بَدَاءَةِ أَقْوَالِ ٱللّٰهِ» (عبرانيين ٥: ١٢ انظر أيضاً كولوسي ٢: ٨ و٢٠). وهو موافق لكل ما قيل في الأصحاح السابق من كوننا تحت مؤدب لأن نظام العهد القديم كان لليهود مدرسة إعدادية للإنجيل وكان قائماً بالأمور الخارجية من رسوم وعوائد وظلال الخيرات الآتية ونبوءات تنجز وتتم كلها في الديانة المسيحية بدليل قوله «تَحْفَظُونَ أَيَّاماً وَشُهُوراً وَأَوْقَاتاً وَسِنِينَ» (ع ١٠). وكذلك الوثنيون فإنهم عبدوا الماديات كالأجرام السماوية والعناصر الطبيعية المحسوسة فيحق أن تسمى ديانتهم «عبودية لأركان العالم» بالنسبة إلى العبادة الروحية التي أعلنها المسيح بقوله «اَللّٰهُ رُوحٌ. وَٱلَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِٱلرُّوحِ وَٱلْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا» (يوحنا ٤: ٢٤). فيصح أن يقال على اليهود والأمم أنهم كانوا يعتبرون الرسوم أكثر من الحقائق والمحسوسات أكثر من الروحيات.
٤ «وَلٰكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ ٱلزَّمَانِ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ».
تكوين ٤٩: ١٠ ودانيال ٩: ٢٤ ومرقس ١: ١٥ وأفسس ١: ١٠ يوحنا ١: ١٤ ورومية ١: ٣ وفيلبي ٢: ٧ وعبرانيين ٢: ١٤ تكوين ٣: ١٥ وإشعياء ٧: ١٤ وميخا ٥: ٣ ومتّى ١: ٢٣ ولوقا ١: ٣١ و٢: ٧ متّى ٥: ١٧ ولوقا ٢: ٢٧
لَمَّا جَاءَ مِلْءُ ٱلزَّمَانِ حسب تعيين الله الآب عندما رأى العالم مستعد لمجيء المسيح وقبوله. فلو أتى المسيح على أثر سقوط البشر لما شعر بعظمة جرم الخطية ومرارة أثمارها وعجزهم أن يخلصوا أنفسهم بأعمالهم على ما في شريعة موسى أو غيرها من المكتوب على ألواح ضمائرهم وما شعر بالحاجة إلى مخلص ولكن في مدة نحو أربعة آلاف سنة اخترعوا أدياناً مختلفة فوجدوها غير كافية لإصلاح أحوالهم وتحققوا بطلانها وعرفوا عجزهم عن أحسن منها. فاحتيج إلى أعداد الطريق لمجيء المسيح بواسطة نبوءات وإشارات حت يُعرف عند مجيئه أنه المخلص الموعود به. وإلى أن تكون حال العالم السياسية والمدنية موافقة لذلك المجيء. وكذا كان لأن العالم كان عند مجيء المسيح رئيس السلام في حال السلام تحت سلطة الدولة الرومانية وفي حال يتمكن بها من إدراك الإنجيل وانتشاره فيه. وكان مجيء المسيح نهاية النظام الاستعدادي وبداءة النظام الجديد الباقي بدليل قوله «قَدْ كَمَلَ ٱلّزَمَانُ وَٱقْتَرَبَ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ» (مرقس ١: ١٥).
أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ من السماء. وإرسال الله إياه يستلزم أنه كان قبل أن أُرسل على وفق قوله «وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ» وكونه ابن الله يستلزم أنه إله على وفق قوله «وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ» (يوحنا ١: ١ و٢). وقوله «ٱلَّذِي هُوَ صُورَةُ ٱللّٰهِ غَيْرِ ٱلْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ. فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ ٱلْكُلُّ: مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى ٱلأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشاً أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاَطِينَ. ٱلْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ. اَلَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ ٱلْكُلُّ» (كولوسي ١: ١٥ – ١٧).
مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ هذا دليل قاطع على ناسوته مع كونه ابن الله وذا طبيعة إلهية. وولادته من امرأة تستلزم مشاركته لكل البشر في الطبيعة.
مَوْلُوداً تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ بتعيين الله وإرادته هو. والمراد «بالناموس» هنا نوعاه الرسمي والأدبي اللذان أعلنهما الله لليهود وتممه المسيح وقام بكل مطاليبه باعتبار كونه نائباً عن الجنس البشري واحتمل ما وجب على الإنسان بتعديه ذلك الناموس. وبالنظر إلى ولادته تحت الناموس وتتميمه خُتن وقُدم في الهيكل (يوحنا ٢: ٢١ و٢٢ و٢٧ ومتى ٥: ١٧) وعُمد ليكمل كل بر (متّى ٣: ١٥) وبكونه «مولوداً تحت الناموس» اقتدر أن يفدي الذين هم تحت الناموس بحمله عنهم لعنة الناموس (ص ٣: ١٣). ولو وُلد المسيح من أميّة لم يستطع أن يفدي الذين تحت الناموس لعدم قيامه بمطاليبه. ولكونه يهودياً استطاع أن يكمل كل ما أوجبه الناموس ولذلك قال «إِنَّ ٱلْخَلاَصَ هُوَ مِنَ ٱلْيَهُودِ» (يوحنا ٤: ٢٢) أي ابتدأ منهم لكي يشترك فيه كل الجنس البشري بعدئذ.
٥ «لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِنَنَالَ ٱلتَّبَنِّيَ».
متّى ٢٠: ٢٨ وص ٣: ١٣ وأفسس ١: ٧ وتيطس ٢: ١٤ وعبرانيين ٩: ١٢ و١بطرس ١: ١٨ و١٩ و٣: ١٨ ورؤيا ٥: ٩ و١٤: ٣ يوحنا ١: ١٢ وص ٣: ٢٦ وأفسس ١: ٥
لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ بطاعته الكاملة له وتأديته بموته الثمن المطلوب لفدائهم. فهو اقتدى اليهود أولاً من الدينونة التي أوجبها عليهم الناموس المكتوب ثم الأمم الذين لم يعرفوا ذلك الناموس فإنه فداهم من دينونة الناموس المكتوب على قلوبهم وضمائرهم لأن اليهود والأمم كانوا خطأة جميعاً خالفوا شريعة الله الأبدية وعرضوا أنفسهم للهلاك. وفدانا من العبودية للناموس باعتبار كونه نيراً ثقيلاً على ضمائر الناس فضلاً عن أنه فدانا من لعنة الناموس.
لِنَنَالَ ٱلتَّبَنِّيَ على وفق قوله «وَأَمَّا كُلُّ ٱلَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ» فانظر تفسير هذا هناك (يوحنا ١: ١٢ وانظر أيضاً تفسير رومية ٨: ١٥ و٢٣).
والتبني من ملحقات التبرير من الخطيئة ومن دينونة الناموس ويؤهل الإنسان لدخول البيت الذي الله الآب أبوه والمسيح بكره بين إخوة كثيرين. وفوائد التبني تفوق كثيراً ما حصل عليه الإنسان بخلقه في حال البر لأنه بالتبني يخلق جديداً على صورة المسيح وينال الروح القدس.
٦ «ثُمَّ بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ رُوحَ ٱبْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخاً: يَا أَبَا ٱلآبُ».
رومية ٥: ٥ و٨: ١٥
أَرْسَلَ ٱللّٰهُ رُوحَ ٱبْنِهِ كما في قوله «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَسْتُمْ فِي ٱلْجَسَدِ بَلْ فِي ٱلرُّوحِ إِنْ كَانَ رُوحُ ٱللّٰهِ سَاكِناً فِيكُمْ. لأَنَّ كُلَّ ٱلَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ ٱللّٰهِ فَأُولٰئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ. إِذْ لَمْ تَأْخُذُوا رُوحَ ٱلْعُبُودِيَّةِ أَيْضاً لِلْخَوْفِ، بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ ٱلتَّبَنِّي ٱلَّذِي بِهِ نَصْرُخُ: «يَا أَبَا ٱلآبُ!». اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضاً يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ ٱللّٰهِ. فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَداً فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضاً، وَرَثَةُ ٱللّٰهِ وَوَارِثُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ» (رومية ٨: ٩ و١٤ – ١٧). فنيل الروح نتيجة التبني وبرهان كماله ونحصل عليه وقت الإيمان والولادة الجديدة ولكنه لا يكمل دفعة واحدة لكنه يستمر مع كل النمو الروحي في بني الله. وعبر عن الروح القدس «بروح ابنه» لأنه هو عين الروح الذين سكن في ابن الله الأزلي وهو الروح الذي حصله لنا بفدائه إيانا. ودعي «بروح التبني» (رومية ٨: ١٥) و «روح المسيح» (رومية ٨: ٩). ووجوده فينا شرط ضروري لكي نصير للمسيح.
صَارِخاً يَا أَبَا ٱلآبُ كوننا أولاد الله يمكننا من أن نقترب إلى الآب السماوي بمحبة الأولاد لوالدهم وأن نجسر على مخاطبته بهذه العبارة. والروح القدس هو الفاعل في هذا الصراخ والمؤمن آلة مريدة له وهو يحرك أشواقنا في الصلاة ويشفع فينا. والكلام على قوله «يا أبا الآب» فُصل في تفسير (رومية ٨: ١٥) فارجع إليه.
٧ «إِذاً لَسْتَ بَعْدُ عَبْداً بَلِ ٱبْناً، وَإِنْ كُنْتَ ٱبْناً فَوَارِثٌ لِلّٰهِ بِٱلْمَسِيحِ».
رومية ٨: ١٦ و١٧ وص ٣: ٢٩
إِذاً جاء الرسول في هذه الآية بنتيجة كل ما سبق من الكلام على الفداء والتبني وسكنى الروح في المؤمنين بالنظر إلى كون زمن العبودية والقصور قد مضى وأنهم بلغوا كل حقوق الابن الرشيد ونالوا الميراث.
لَسْتَ خاطب الجمع بضمير المفرد بياناً إن ما صرّح لهم به يصدق على كل فرد من أفراد المؤمنين.
بَعْدُ أي منذ إتيان المسيح وقبولكم إياه بالإيمان.
بَلِ ٱبْناً (ع ٥).
وَإِنْ كُنْتَ ٱبْناً فَوَارِثٌ بمقتضى الشريعة الرومانية المدنية التي اعتادها الغلاطيون وبموجب هذه الشريعة البنون والبنات سواء في حقوق الميراث.
لِلّٰهِ بِٱلْمَسِيحِ ليس المؤمنون ورثة باستحقاقهم ولا بتسلسلهم من إبراهيم ولا بالناموس بل بفداء المسيح والتبني. ففي هبتهما اتفق الإله الواحد المثلث الأقانيم فإن الآب بذل ابنه الوحيد والابن فدانا من رق الناموس وصالحنا مع الآب والروح القدس أنشأ فينا روح التبني وشهد ببنوتنا.
٨ «لٰكِنْ حِينَئِذٍ إِذْ كُنْتُمْ لاَ تَعْرِفُونَ ٱللّٰهَ ٱسْتُعْبِدْتُمْ لِلَّذِينَ لَيْسُوا بِٱلطَّبِيعَةِ آلِهَةً».
أفسس ٢: ١٢ و١تسالونيكي ٤: ٥ رومية ١: ٢٥ و١كورنثوس ١٢: ٢ وأفسس ٢: ١١ و١٢ و١تسالونيكي ١: ٩
خص بولس كلامه في هذه الآية والثلاث التي تليها بمتنصري الأمم في غلاطية. وذكرهم بأنهم حين كانوا وثنيين كانوا عبيداً لمن ليسوا بآلهة وحرروا من رقهم وبلغوا معرفة الإله الحق وأعلن الله أنه اعترف بأنهم له. فقال لهم الرسول كيف استطعتم أن ترجعوا بعد ذلك إلى الرسوم الخارجية. فأخافه عملهم من أنه تعب لأجلهم عبثاً.
إِذْ كُنْتُمْ لاَ تَعْرِفُونَ ٱللّٰهَ أبان الرسول في رسالته إلى الرومانيين أن الوثنيين عرفوا الله أصلاً ولكنهم لعدم استحسانهم أن يبقوا الله في معرفتهم فسدوا وضلوا عن سبيله. وكان يمكنهم أن يعرفوه من مصنوعاته ومع هذا جهلوا أزليته وقدرته وقداسته (رومية ١: ٢١ و٢٨).
ٱسْتُعْبِدْتُمْ قال هذا لأن عبادتهم كانت عبادة خوف وكانت هواناً لهم كالعبيد الأدنياء لقبح طريقتها.
لِلَّذِينَ لَيْسُوا بِٱلطَّبِيعَةِ آلِهَةً أي لا وجود لهم أصلاً إنما هم صور خيال صوّرتها القلوب الفاسدة (١كورنثوس ٨: ٤ و١٠: ١٩ و٢٠) وإن كان لآلهة الأمم وجود فهي إما الشياطين وإما أرواح الموتى (١كورنثوس ١٠: ٢٠).
٩ «وَأَمَّا ٱلآنَ إِذْ عَرَفْتُمُ ٱللّٰهَ، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ عُرِفْتُمْ مِنَ ٱللّٰهِ، فَكَيْفَ تَرْجِعُونَ أَيْضاً إِلَى ٱلأَرْكَانِ ٱلضَّعِيفَةِ ٱلْفَقِيرَةِ ٱلَّتِي تُرِيدُونَ أَنْ تُسْتَعْبَدُوا لَهَا مِنْ جَدِيدٍ؟».
١كورنثوس ٨: ٣ و١٣: ١٢ و٢تيموثاوس ٢: ١٩ ص ٣: ٣ وكولوسي ٢: ٢٠ رومية ٨: ٣ وعبرانيين ٧: ١٨
إِذْ عَرَفْتُمُ ٱللّٰهَ أي علمتم وجوده وصفاته الروحية.
عُرِفْتُمْ مِنَ ٱللّٰهِ بمجرد نعمته لا باستحقاقهم أو بفحصهم عنه فإنه تعالى تنازل وأعلن نفسه في قلوبهم وأذهانهم ولما آمنوا به قبلهم أولاداً له وحقق لهم ذلك القبول بعلامات ظاهرة. وقال هذه العبارة دفعاً لتوهم أنهم عرفوا الله بقدرتهم وبحثهم.
فَكَيْفَ تَرْجِعُونَ الاستفهام هنا للتعجب. فإنّ حالهم كان كحال عالِم بلغ معارف الفلاسفة وأحكم العلوم والفنون ثم تركها ورجع إلى تعلم أبجدية الأطفال.
ٱلأَرْكَانِ ٱلضَّعِيفَةِ أي المبادئ الدينية ونعتها «بالضعيفة» لأنها لم تكن كافية لتقدير الإنسان على الخلاص.
ٱلْفَقِيرَة بالنسبة إلى الإنجيل الغني الوافر البركات الروحية (يوئيل ٢: ١٩ و٣: ١٨ وعاموس ٩: ١٣ و١٤ وإشعياء ٥٥: ١ و٦٥: ٢١ و٢٥ ويوحنا ٧: ٣٧ و٣٨) وأمثال ذلك كثيرة.
أَنْ تُسْتَعْبَدُوا لَهَا مِنْ جَدِيدٍ بعدما تركتموها. والعبودية تصدق على أتباع الأديان اليهودية والوثنية لأنها رسوم خارجية بلا تأثير روحي. فاعتبر بولس العبادة التي مارسها الفريسيون وعلمها المعلمون المتهودون والتي مال إليها الغلاطيون أركاناً ضعيفاً وفقيرة كالديانة الوثنية نفسها.
١٠ «أَتَحْفَظُونَ أَيَّاماً وَشُهُوراً وَأَوْقَاتاً وَسِنِينَ؟».
رومية ١٤: ٥ وكولوسي ٢: ١٦ لاويين ٢٣: ٢٤ لاويين ٢٣: ٤ و٢أيام ٨: ١٣
أَتَحْفَظُونَ الاستفهام للتعجب فهو بمعنى أن يقال عجباً من أنكم بعدما استنرتم وعرفتم الإله الحق وعبادته الروحية فعلتم ما يأتي.
أَيَّاماً تختص بالرسوم اليهودية من الأهلّة والأعياد والسبوت (كولوسي ٢: ١٦). ولم يذكر الختان لأنهم على ما يظهر لم يقبلوه لكنهم كانوا عرضة لقبوله.
وَشُهُوراً اي أوائل الشهور (لاويين ٢٣: ٢٤ وعدد ٢٨: ١١) أو الشهر السابع من كل سنة باعتبار أنه أقدس الشهور.
وَأَوْقَاتاً وَسِنِينَ كعيد الفصح ويوم الخمسين وعيد المظال.
لا شيء مما ذُكر يشير إلى نسخ تقديس يوم الرب بل إلى طريق حفظ اليهود للسبوت التي وبخهم عليها المسيح قولاً وفعلاً لأنهم جعلوا حفظ السبت ثقلاً لا بركة. فإن الرسول اعتبر حفظهم لتلك الأوقات دليلاً على رغبتهم في الرجوع إلى سائر رسوم الناموس الموسوي.
١١ «أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ أَكُونَ قَدْ تَعِبْتُ فِيكُمْ عَبَثاً!».
ص ٢: ٢ و٥: ٢ و٤ و١تسالونيكي ٣: ٥
أخذ الرسول بدلاً من أن يوبخهم يأسف على أنهم ما انتفعوا بتعليمه وحزن على خسارتهم لا خسارته.
تذكير الرسول الغلاطيين بمحبتهم السابقة له ع ١٢ إلى ٢٠
١٢ «أَتَضَرَّعُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ، كُونُوا كَمَا أَنَا لأَنِّي أَنَا أَيْضاً كَمَا أَنْتُمْ. لَمْ تَظْلِمُونِي شَيْئاً».
١كورنثوس ١٩: ٢٠ إلى ٢٢ و٢كورنثوس ٢: ٥
أظهر الرسول بأسلوب كلامه شدة رغبته في أن يلقوا عنهم نير العبودية للديانة اليهودية كما ألقاه هو إذ ترك كل حقوقها وامتياراتها لكي يكون مساوياً لهم.
كُونُوا كَمَا أَنَا لأَنِّي أَنَا أَيْضاً كَمَا أَنْتُمْ أنا تركت العوائد والرسوم اليهودية وصرت مثلكم. وهذا كقوله «صِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ ٱلْيَهُودَ، وَلِلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ كَأَنِّي تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ لأَرْبَحَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، وَلِلَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ كَأَنِّي بِلاَ نَامُوسٍ مَعَ أَنِّي لَسْتُ بِلاَ نَامُوسٍ لِلّٰهِ، بَلْ تَحْتَ نَامُوسٍ لِلْمَسِيحِ لأَرْبَحَ ٱلَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ» (١كورنثوس ٩: ٢٠ و٢١).
لَمْ تَظْلِمُونِي شَيْئاً أشار بذلك إلى حين بشرهم أولاً بالإنجيل وعاش بينهم لا يهودياً بل كواحد منهم فقال إنكم حينئذ لم تكونوا أعدائي ولا ضررتموني شيئاً بل أظهرتم لي المواساة في شدائدي وأكرمتموني فيلزم من ذلك أني صرت عدوكم بعد ذلك الوقت بصدقي لكم (ع ١٦). وقال ذلك ليبين أن قوله في الآية الحادية عشرة «أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ أَكُونَ قَدْ تَعِبْتُ فِيكُمْ عَبَثاً» لم يكن لومه إياهم على ضرر أو تعد شخصي عليه لأن ارتدادهم عن الحق لم يضره هو بل ضر أنفسهم وأغاظ الله والمسيح ولم يغظه هو.
١٣ «وَلٰكِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي بِضَعْفِ ٱلْجَسَدِ بَشَّرْتُكُمْ فِي ٱلأَوَّلِ».
١كورنثوس ٢: ٣ و٢كورنثوس ١١: ٣٠ و١٢: ٧ و٩ ص ١: ٦
أتى بهذه الآية بياناً أنهم لم يضروه ولم يحتقروه لمصابه (ع ١٤).
تَعْلَمُونَ… بَشَّرْتُكُمْ اتضح من قوله هنا أنه في سفره الثاني للتبشير سنة ٥٢ ب.م لم يقصد أن يقيم طويلاً بغلاطية بل أن يمر بها لكنه أُعيق هناك لمرض أو ضعف اعتراه فكان له بذلك فرصة لتبشيرهم بالإنجيل. فإذاً ليس للغلاطيين ما يحملهم على إظهار المن له على تبشيره إياهم لأنه لم يقم عندهم اختياراً بل كان ذلك بعناية الله وترتيبه.
فِي ٱلأَوَّلِ هذا يدل على أنه زارهم مرتين وذكر لوقا الزيارة الأولى في (أعمال ١٦: ٦) والثانية في (أعمال ١٨: ٢٣).
١٤ «وَتَجْرِبَتِي ٱلَّتِي فِي جَسَدِي لَمْ تَزْدَرُوا بِهَا وَلاَ كَرِهْتُمُوهَا، بَلْ كَمَلاَكٍ مِنَ ٱللّٰهِ قَبِلْتُمُونِي، كَٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ».
٢كورنثوس ١٢: ٧ و٢صموئيل ١٩: ٢٧ وزكريا ١٢: ٨ وملاخي ٢: ٧ متّى ١٠: ٤٠ ولوقا ١٠: ١٦ ويوحنا ١٣: ٢٠ و١تسالونيكي ٢: ١٣
تَجْرِبَتِي هي مصابه الجسدي الذي لم يبين ما هو لكن نستنتج مما قيل هنا أنه كان مما يحمل الناس على الاستخفاف به وتبشيره بالإنجيل والمرجح أن هذه التجربة هي النازلة التي سماها «شوكة الجسد» (٢كورنثوس ١٢: ٧). وأما الغلاطيون فلم يحتقروه من أجلها ولم يستخفوا بتبشيره.
بَلْ كَمَلاَكٍ مِنَ ٱللّٰهِ قَبِلْتُمُونِي الخ أي قبلتموني بغاية الإكرام (٢صموئيل ١٩: ٢٧ وزكريا ١٢: ٨). وقبولهم إياه كالمسيح نفسه يستلزم أنهم أكرموه أكثر مما يكرمون الملاك بمقدار ما هو أعظم من الملائكة والخالق أعظم من مخلوقاته.
١٥ «فَمَاذَا كَانَ إِذاً تَطْوِيبُكُمْ؟ لأَنِّي أَشْهَدُ لَكُمْ أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ لَقَلَعْتُمْ عُيُونَكُمْ وَأَعْطَيْتُمُونِي».
افتخر الغلاطيون يومئذ بسعادتهم وسرورهم بسمع تعليمه وانتقالهم من عبودية الناموس إلى حرية الإنجيل.
فَمَاذَا كَانَ إِذاً تَطْوِيبُكُمْ ارتدادهم عن الإيمان الأول يستلزم أنه لم يكن حينئذ أساس متين لسعادتهم وأن فرحهم بنعمة الإنجيل كان بلا سبب كاف. فغاية بولس من هذا الكلام جعلهم يخجلون من سرعة تقلبهم.
لأَنِّي أَشْهَدُ لَكُمْ إن شعورهم بقيمة عظمة الإنجيل واعترافهم بالفضل لبولس لكونه واسطة نيلهم ذلك حملهم على إظهار كل الممنونية له.
لَوْ أَمْكَنَ لَقَلَعْتُمْ عُيُونَكُمْ الخ الناس يعتبرون عيونهم أعز ما لهم حتى استعاروا الحدقة لأعز الأشياء (تثنية ٣٣٢: ١٠ ومزمور ١٧: ٨ وأمثال ٧: ٢). ولعل العبارة مثل جار يومئذ لإظهار غاية الممنونية على عظيم البركة. وليس في هذا ما هو كاف لإثبات قول بعضهم بأن شوكة بولس التي في الجسد كانت الرمد الشديد حتى شفقوا عليه ورغبوا لو أمكنهم أن يبدلوا عينيه المصابتين بعيونهم الصحيحة.
١٦ «أَفَقَدْ صِرْتُ إِذاً عَدُوّاً لَكُمْ لأَنِّي أَصْدُقُ لَكُمْ؟»
ص ٢: ٥ و١٤
أَفَقَدْ صِرْتُ إِذاً عَدُوّاً لَكُمْ جاء بالاستفهام بدلاً من التصريح تلطفاً. والداعي لهذا السؤال أن الفرق بين معاملتهم إياه وقتئذ ومعاملتهم إياه في الحال يشير أن صداقتهم الأولى تحولت إلى عداوة. وذكر أنه لم يعلم علة عدواتهم له إلا أنه كلمهم بالحق.
لأَنِّي أَصْدُقُ لَكُمْ صدق لهم بقوله أن ارتدادهم من الإنجيل إلى الديانة اليهودية خطيئة لله ولنفوسهم وأن ذلك غاية الجهل. إن الغلاطيين لم يحسبوه عدواً في أول زيارته لهم وإنما حسبوه عدواً قبل أن كتب هذه الرسالة فيكون صدقه في زيارته الثانية المذكورة في (أعمال ١٨: ٢٣) وأنه رأى حينئذ بداءة ارتدادهم عن الحق وحذرهم منها. والصديقون يحبون توبيخ الأمين (مزمور ١٤١: ٥) وأما الجاهل الشرير فيبغضه (أمثال ٩: ٨). إن علة عدم محبة كثيرين للإنجيل هو أنه يصدق لهم في تنبيههم على خطاياهم وخطرهم.
١٧ «يَغَارُونَ لَكُمْ لَيْسَ حَسَناً، بَلْ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّوكُمْ لِكَيْ تَغَارُوا لَهُمْ».
رومية ١٠: ٢ و٢كورنثوس ١١: ٢
يَغَارُونَ أي المعلمون المفسدون الذين يجتهدون كل الاجتهاد في أن يهوّدوكم (ص ١: ٧ و٥: ١٠). وقول بولس في أولئك المعلمين كقول المسيح في الفريسيين «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ ٱلْمُرَاؤُونَ، لأَنَّكُمْ تَطُوفُونَ ٱلْبَحْرَ وَٱلْبَرَّ لِتَكْسَبُوا دَخِيلاً وَاحِداً» (متى ٢٣: ١٥).
لَيْسَ حَسَناً أي ليس بإخلاص لغاية نافعة لكم بل رغبة في مدح اليهود لهم. فالغيرة بلا معرفة كالسيف في يد المجنون.
بَلْ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّوكُمْ عنّي وعن المسيح نفسه بتعليمهم وجوب حفظ الناموس للخلاص.
لِكَيْ تَغَارُوا لَهُمْ أي يخصصوا كل محبتكم بأنفسهم ولا يتركوا شيئاً منها لي.
١٨ حَسَنَةٌ هِيَ ٱلْغَيْرَةُ فِي ٱلْحُسْنَى كُلَّ حِينٍ، وَلَيْسَ حِينَ حُضُورِي عِنْدَكُمْ فَقَطْ».
لم يعترض الرسول على انتصار المتعلمين للمعلمين وغيرة كل من الفريقين للآخر بشرط أن تكون الغاية حسنة والنية خالصة. وكان مسروراً بغيرتهم له يوم كان بينهم ولكنه أراد أن لا تفتر محبتهم له وأن لا يعدلوا عن الغيرة له وهو غائب عنهم.
١٩ «يَا أَوْلاَدِي ٱلَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضاً إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ».
١كورنثوس ٤: ١٥ وفليمون ١٠ ويعقوب ١: ١٨
يَا أَوْلاَدِي هم أولاده الروحيون لأنهم آمنوا بواسطته فخاطبهم كما اعتاد مخاطبة غيرهم ممن آمنوا كذلك (١كورنثوس ٤: ١٥ و١تسالونيكي ٢: ١١ وفيلبي ٢: ٢٢ وفليمون ١٠). وخاطبهم بالرقة لكي يستميل قلوبهم إليه وإلى الحق الذي علّمه.
أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضاً حسب تعبه في الإتيان بهم من تمسكهم بالأوثان إلى المسيح كألم الولادة. ومثل حزنه بارتدادهم عن الحق وشوقه الشديد إلى رجوعهم إلى إيمانهم الأول ومحبتهم الأولى بألم الوالدة عند الولادة. وقال «أتمخض بكم أيضاً» لأنه اعتبرهم محتاجين إلى أن يولدوا ثانية بعد ارتدادهم كأن نجاتهم من التعليم اليهودي الكاذب وعودهم إلى الإنجيل الحق الذي بشر به ليست أقل شأناً من نجاتهم أولاً من عبادة الأوثان وأن اهتمامه وتعبه وحزنه في الثانية ليست أقل منها في الأولى. وغني عن البيان ما في ذلك من المجاز وعدم تمام مطابقته للواقع حقيقة لأنه لا يمكن الإنسان أن يولد غير مرة واحدة ولادة طبيعية بدليل قوله «لأَنَّ ٱلَّذِينَ ٱسْتُنِيرُوا مَرَّةً، وَذَاقُوا ٱلْمَوْهِبَةَ ٱلسَّمَاوِيَّةَ وَصَارُوا شُرَكَاءَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَذَاقُوا كَلِمَةَ ٱللّٰهِ ٱلصَّالِحَةَ وَقُوَّاتِ ٱلدَّهْرِ ٱلآتِي، وَسَقَطُوا، لاَ يُمْكِنُ تَجْدِيدُهُمْ أَيْضاً لِلتَّوْبَةِ» (عبرانيين ٦: ٤ – ٦).
إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ لا تستريح الوالدة من همها وخوفها قبل أن ترى مولودها. كذا قال بولس أنه لا يستريح من تعبه واهتمامه بهم قبل أن يرى آيات ولادتهم الجديدة الروحية التي ليست سوى سكنى المسيح في قلوبهم وإنشائه حياة جديدة فيهم كالحياة التي أنشأها فيه وقال هو فيها «فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (ص ٢: ٢٠).
إن المسيحي لا يحصل على صورة المسيح دفعة بل ينمو يوماً فيوماً في النعمة والمشابهة للمسيح حتى يبلغ «إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ ٱلْمَسِيحِ» (أفسس ٤: ١٣). ويتصور المسيح في المؤمن متى استطاع أن يقول «لِيَ ٱلْحَيَاةَ هِيَ ٱلْمَسِيحُ» (فيلبي ١: ٢١) وحين «يَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (فيلبي ٣: ٨). وحين لا يفتخر إلا في موته وقيامته وبره (أفسس ٣: ١٧ – ١٩ وكولوسي ١: ٢٧).
٢٠ «وَلٰكِنِّي كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ حَاضِراً عِنْدَكُمُ ٱلآنَ وَأُغَيِّرَ صَوْتِي، لأَنِّي مُتَحَيِّرٌ فِيكُمْ!».
كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ حَاضِراً عِنْدَكُمُ لأنهم في غيبته ارتدوا عن إيمانهم وحولوا قلوبهم عنه فأمل أن حضوره يقرب بعضهم من بعض وأنه يستطيع أن يفيدهم بالكلام أكثر مما يفديهم بالرسائل.
وَأُغَيِّرَ صَوْتِي أعدل عن عبارات اللوم والتوبيخ وأخاطبكم بالكلام أكثر مما يقيدهم بالرسائل.
لأَنِّي مُتَحَيِّرٌ فِيكُمْ أي لا أعرف كيف أخاطبكم لأني لم أعلم هل اقتنعتم بما كتبته إليكم أو لا فهل تحتاجون إلى زيادة البراهين لكي ترجعوا إلى الحق أو لا فلو كنت عندكم كنت عرفت نتيجة ما كتبته إليكم واجعلوا كلامي موافقاً لمقتضى الحال.
تمثيل الرسول بياناً لفضل الذين هم تحت الإنجيل على الذين هم تحت الناموس ع ٢١ إلى ٣١
٢١ «قُولُوا لِي، أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ تُرِيدُونَ أَنْ تَكُونُوا تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، أَلَسْتُمْ تَسْمَعُونَ ٱلنَّامُوسَ؟».
وجه الرسول كلامه هنا إلى متنصري اليهود في غلاطية الذين مالوا إلى تفضيل تعليم الناموس على تعليم الإنجيل وأخذ يبين لهم خطأهم من الناموس نفسه بأسلوب استعمل فيه ما دل على الأحوال والحوادث في ما يشبه بمعناها الأصلي تشبيه التمثيل. والأرجح أن المعلمين الفريسيين استمالوا الغلاطيين إلى طاعة الناموس بإيراد أمثال منه فاستحسن الرسول أن يدفعهم بمثل أسلحتهم.
ٱلَّذِينَ تُرِيدُونَ أَنْ تَكُونُوا تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ أي تطيعون أوامره على رجاء أن تتبرروا بذلك.
أَلَسْتُمْ تَسْمَعُونَ ٱلنَّامُوسَ لكي تفهموا حقيقة معناه. «فالسمع» هنا بمعناه في (متى ١٣: ٩ و١٣ ولوقا ١٦: ٢٩ و٣١). ومقصوده أنهم لا يستطيعون أن يدركوا تمام معنى الناموس ويبقون تحته بغية التبرر به. والمراد «بالناموس» هنا التوراة أي أسفار موسى الخمسة على اصطلاح اليهود في قسمة أسفارهم المقدسة وأخذ تمثيله من أول أسفارها وأتى بولس ذلك بوحي الله. ونتعلم من ذلك أن في تاريخ شعب الله المختار إشارات ورموزاً كما في رسومهم الدينية (١كورنثوس ١٠: ١ – ٤ و١٥: ٤٥ و٤٧ ورؤيا ١١: ٨).
٢٢ «فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ كَانَ لإِبْرَاهِيمَ ٱبْنَانِ، وَاحِدٌ مِنَ ٱلْجَارِيَةِ وَٱلآخَرُ مِنَ ٱلْحُرَّةِ».
تكوين ١٦: ١٥ تكوين ٢١: ٢
لإِبْرَاهِيمَ إن اليهود والذين رغبوا في الالتصاق بهم عظموا إبراهيم كثيراً وأرادوا أن يُنسبوا إليه نسبة الأولاد إلى الوالد بدليل قول يوحنا المعمدان «لاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْرَاهِيمُ أَباً» (متى ٣: ٩ انظر أيضاً رومية ٩: ٧ و٩). والحادثة التاريخية التي ذكرها الرسول هنا ذُكرت في (تكوين ص ١٦ وص ٢١).
ٱلْجَارِيَةِ هاجر المصرية (تكوين ١٦: ١).
ٱلْحُرَّةِ سارة.
٢٣ «لٰكِنَّ ٱلَّذِي مِنَ ٱلْجَارِيَةِ وُلِدَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ، وَأَمَّا ٱلَّذِي مِنَ ٱلْحُرَّةِ فَبِٱلْمَوْعِدِ».
رومية ٩: ٧ و٨ تكوين ١٨: ١٠ و١٤ و٢١: ١ و٢ وعبرانيين ١١: ١١
الابنان المذكوران هنا من أب واحد لكنهما مختلفان ومعظم الخلاف قائم بأن أحدهما ابن جارية مولود مجرد ولادة طبيعية والثاني ابن حرة مولود بالوعد.
ٱلَّذِي مِنَ ٱلْجَارِيَةِ أي إسماعيل.
وُلِدَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ أي على أسلوب الشريعة الطبيعية كسائر الأولاد فلم يتعلق به وعد لا قبل الحبل به ولا قبل ميلاده.
ٱلَّذِي مِنَ ٱلْحُرَّ أي إسحاق.
فَبِٱلْمَوْعِدِ أي بقوة الله ومعجزته على وفق الوعد لإبراهيم بدليل قوله «كَمَا قِيلَ: «هٰكَذَا يَكُونُ نَسْلُكَ». وَإِذْ لَمْ يَكُنْ ضَعِيفاً فِي ٱلإِيمَانِ لَمْ يَعْتَبِرْ جَسَدَهُ وَهُوَ قَدْ صَارَ مُمَاتاً، إِذْ كَانَ ٱبْنَ نَحْوِ مِئَةِ سَنَةٍ وَلاَ مُمَاتِيَّةَ مُسْتَوْدَعِ سَارَةَ» (رومية ٤: ١٨ و١٩ انظر أيضاً تكوين ١٧: ١٦ و١٩ و١٨: ١٠ و١١).
٢٤ «وَكُلُّ ذٰلِكَ رَمْزٌ، لأَنَّ هَاتَيْنِ هُمَا ٱلْعَهْدَانِ، أَحَدُهُمَا مِنْ جَبَلِ سِينَاءَ ٱلْوَالِدُ لِلْعُبُودِيَّةِ، ٱلَّذِي هُوَ هَاجَر».
تثنية ٢٣: ٢
وَكُلُّ ذٰلِكَ رَمْزٌ أي كل الأمور المتعلقة بهذا التاريخ لها معنى روحي غير ظاهر من لفظه والمعنى الروحي مضاف إلى الحرفي غير مانع إياه. والرموز ليست ببراهين لكنها توضح الأمر بعد بيانه وتزينه. وعلى هذا كان كل النظام اليهودي رمزاً إلى المسيح من تاريخ ونبوءة وعبادة ورسوم وأعمال (كولوسي ٢: ١٧ وعبرانيين ٨: ١٥ و٩: ٢٣ و١٠: ١).
هَاتَيْنِ الأُمّين هاجر وسارة اللتين ابناهما ابنا العهدين.
هُمَا ٱلْعَهْدَانِ أي مشيرتان إليهما إشارة الرمز إلى المرموز إليه كما قيل أن «ٱلْحَصَاد هُوَ ٱنْقِضَاءُ ٱلْعَالَمِ. وَٱلْحَصَّادُونَ هُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ» وأن الخبز والخمر في العشاء الرباني هما جسد المسيح ودمه (متى ١٣: ٣٩ و٢٦: ٢٦ – ٢٨). وأن الصخرة التي تبعت بني إسرائيل هي المسيح (١كورنثوس ١٠: ٤). وعبودية الأم الأولى أوجبت عبودية ابنها وحرية الثانية أوجبت حرية ابنها.
أَحَدُهُمَا مِنْ جَبَلِ سِينَاءَ أي بداءة أحد العهدين من جبل سينا يوم أُعطي الناموس.
ٱلْوَالِدُ لِلْعُبُودِيَّةِ أي الذي يلد أولاداً في حال العبودية وتلك حالهم منذ ولدوا. وشبه بهم الرسول اليهود وهم تحت العهد القديم الموسوي.
ٱلَّذِي هُوَ هَاجَرُ أي المشار إليه بهاجر في هذا التمثيل.
٢٥ «لأَنَّ هَاجَرَ جَبَلُ سِينَاءَ فِي ٱلْعَرَبِيَّةِ. وَلٰكِنَّهُ يُقَابِلُ أُورُشَلِيمَ ٱلْحَاضِرَةَ، فَإِنَّهَا مُسْتَعْبَدَةٌ مَعَ بَنِيهَا».
في هذه الآية بيّن الرسول علة اتخاذه هاجر رمز إلى سينا وإلى العهد القديم.
لأَنَّ هَاجَرَ جَبَلُ سِينَاءَ فِي ٱلْعَرَبِيَّةِ معنى هذه العبارة غير واضح والأرجح أن معناها أن الجبل الذي سماه اليهود «سينا» سماه قدماء العرب «هاجر». وتسمى اليوم رؤوس ذلك الجبل الثلاثة جبل موسى وجبل الصفصافة وجبل كاترينا. ومعلوم أن الأرض التي هربت إليها هاجر بإسماعيل هي العربية (تكوين ١٦: ٧ و١٤). وأن بعض عرب البادية سموا «بالهاجريين» (مزمور ٨٣: ٧ و١أيام ٥: ١٩). ولم يُعط الناموس على جبل صهيون في أرض الميعاد بل على سينا خارجاً عنها لذلك رأى بولس أن يشير إلى الناموس بهاجر التي هي أجنبية لأنها كانت أَمة مصرية. وهذا مقصود الرسول وإن لم نتيقن معنى بعض الألفاظ.
وَلٰكِنَّهُ يُقَابِلُ أُورُشَلِيمَ أي يوافق أن نجعله في التمثيل مقابلاً لأورشليم لأن جبل سينا وهاجر والعهد القديم والشعب اليهودي وأورشليم الأرضية مرتبط بعضها ببعض في هذا التمثيل.
ٱلْحَاضِرَةَ أي التي توجد في الوقت الحاضر وكانت يومئذ قصبة مملكة اليهود ومركز دينهم وسياستهم.
فَإِنَّهَا مُسْتَعْبَدَةٌ مَعَ بَنِيهَا أي أورشليم مع شعب اليهود كالأم مع الأولاد مستعبدة للناموس الذي أُعطي في سينا. وكانوا تحت رق الناموس لأنهم التصقوا به واتكلوا عليه وعلى ذبائحه ورسومه وكهنوته بغية أن يتبرروا به.
لم يذكر هنا العهد الثاني بل ترك للقارئ أن يكمل التمثيل بقوله «إن العهد الآخر هو سارة وهي تقابل أورشليم العليا التي هي متحررة مع بنيها».
٢٦ «وَأَمَّا أُورُشَلِيمُ ٱلْعُلْيَا، ٱلَّتِي هِيَ أُمُّنَا جَمِيعاً، فَهِيَ حُرَّةٌ».
إشعياء ٢: ٢ وعبرانيين ١٢: ٢٢ ورؤيا ٣: ١٢ و٢١: ٢ و١٠
وَأَمَّا أُورُشَلِيمُ ٱلْعُلْيَا أي الروحية الرفيعة جداً بالنظر إلى المقام لا إلى المكان وهي الكنيسة المسيحية المشار إليها بقوله «قَدْ أَتَيْتُمْ إِلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ، وَإِلَى مَدِينَةِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ: أُورُشَلِيمَ ٱلسَّمَاوِيَّةِ» (عبرانيين ١٢: ٢٢). وقول يوحنا «رَأَيْتُ ٱلْمَدِينَةَ ٱلْمُقَدَّسَةَ أُورُشَلِيمَ ٱلْجَدِيدَةَ نَازِلَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ» (رؤيا ٢١: ٢). فأورشليم الجديدة الروحية هي قصبة ملكوت المسيح المجيد ومركزه كما كانت أورشليم الأرضية قصبة النظام الموسوي ومركزه وكل مؤمن بالمسيح هو من أهل تلك المدينة الروحية. ولم يقصد الرسول بأورشليم هنا كنيسة المسيح الممجدة بعد بلوغها مسكنها السماوي الأبدي بل الكنيسة المسيحية على الأرض في حال المحاربة للعالم والجسد والشيطان.
أُمُّنَا جَمِيعاً أي أم جميع المؤمنين بالمسيح حيث كانوا فهم كنيسة المسيح الواحدة ولها إنجيل واحد وإيمان واحد ورجاء واحد للخلاص برب واحد هو يسوع المسيح وتضم كل المؤمنين قبل مجيء المسيح وبعده والمجاهدين اليوم على الأرض منهم والمنتصرين الممجدين في السماء. وابتدأت أورشليم العليا بإبراهيم نفسه وبالوعد له وظهرت بظهور المسيح وإنجاز عهد النعمة وستظهر كمال الظهور بمجيئه الثاني.
فَهِيَ حُرَّةٌ وهذه الحرية هي التي تميز أورشليم العليا من أورشليم السفلى ولم يذكر أنها سارة فاكتفى بالإشارة إليها بأنها حرة وأم أولاد الموعد وأنها هي المقصود بالعهد بالجديد الذي هو عهد النعمة (ع ٢٤). لأنها حرة كان كل أولادها أحراراً لأن لهم الحرية الروحية والتحرر من العبودية للناموس والخطية والموت ولأنهم يملكون النعمة ومغفرة الخطايا والبر وراحة الضمير والفرح بالرب وموهبة الروح القدس والحياة الأبدية وذلك على وفق قوله «مُبَارَكٌ ٱللّٰهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ فِي ٱلْمَسِيحِ» (أفسس ١: ٣).
٢٧ «لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: ٱفْرَحِي أَيَّتُهَا ٱلْعَاقِرُ ٱلَّتِي لَمْ تَلِدْ. اِهْتِفِي وَٱصْرُخِي أَيَّتُهَا ٱلَّتِي لَمْ تَتَمَخَّضْ، فَإِنَّ أَوْلاَدَ ٱلْمُوحِشَةِ أَكْثَرُ مِنَ ٱلَّتِي لَهَا زَوْجٌ».
إشعياء ٥٤: ١
في هذه الآية برهان من النبوءات على صحة قوله في التمثيل أن أورشليم العليا أم كل المؤمنين والدليل مقتبس من (إشعياء ٥٤: ١) على ما في ترجمة السبعين. وكان في أول أمره نبوءة بنجاة بني إسرائيل من عبودية بابل ورجوعهم إلى أورشليم واستقلالهم ونجاحهم حتى تحولت أورشليم من كونها في مثل حال أرملة حزينة إلى كونها في مثل حال أم مسرورة ذات أولاد كثيرة فاستعار بولس ذلك لحال كنيسة المسيح التي هي ملكوته على الأرض إيضاحاً لعظمتها المستقبلة بعد كونها صغيرة مهانة محتقرة.
ٱفْرَحِي أَيَّتُهَا ٱلْعَاقِرُ ٱلَّتِي لَمْ تَلِدْ قيل هذا في أورشليم يوم كانت مهدومة وذلك مدة سبي بابل واشبهت يومئذ سارة التي كانت عاقراً في الجسد قبل الموعد بخلاف هاجر التي وُلدت حسب الطبيعة وكانت بمنزلة الناموس على ما في تمثيل الرسول. وشبه سارة بأورشليم العليا الروحية التي لم يكن لها أولاد روحية من الأمم مدة كون إسرائيل تحت الناموس وشبهها أيضاً بالكنيسة المسيحية في أول أمرها وهي مهانة ومضطهدة.
ٱلَّتِي لَمْ تَتَمَخَّضْ… ٱلْمُوحِشَةِ قيل هذا أصلاً في أورشليم أيام السبي بالنسبة إلى حالها في أيام داود وسليمان. واتخذه بولس رمزاً إلى سارة التي كانت عاقراً زمناً طويلاً بخلاف هاجر التي ولدت بعد مدة الحمل من زيجتها. واتخذ سارة نفسها رمزاً إلى الكنيسة المسيحية في أول نشأتها وهي صغيرة محتقرة مبغضة مضطهدة.
أَكْثَرُ مِنَ ٱلَّتِي لَهَا زَوْجٌ هذا وصف أورشليم أيام سبي بابل فإنها كانت كالأرملة واتخذها الرسول نبوءة ورمزاً إلى الكنيسة المسيحية التي سيكون أكثر أعضائها من الوثنيين الذين كانوا قبل مجيء المسيح ومدة الناموس غير معاهدين الله وبلا موعد فلم يكونوا يومئذ كنيسة بمنزلة عروس الله بعلها فكان حالها خلاف حال الكنيسة اليهودية التي كان الله بعلها بمقتضى العهد بينه وبينها بدليل قول النبي «لأَنَّ بَعْلَكِ هُوَ صَانِعُكِ، رَبُّ ٱلْجُنُودِ ٱسْمُهُ» (إشعياء ٥٤: ٥ انظر أيضاً إرميا ٢: ٢). كان للكنيسة اليهودية أولاد كثيرة تحت العهد الأول عند الناموس ولكن بمقتضى الوعد تكون أولاد الكنيسة الإنجيلية أكثر من أولاد تلك جداً.
٢٨ «وَأَمَّا نَحْنُ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ فَنَظِيرُ إِسْحَاقَ، أَوْلاَدُ ٱلْمَوْعِدِ».
أعمال ٣: ٢٥ ورومية ٩: ٨ وص ٣: ٢٩
وَأَمَّا نَحْنُ المؤمنون بالمسيح وأعضاء الكنيسة المسيحية الذين لسنا كالكنيسة التي كان لها زوج.
فَنَظِيرُ إِسْحَاقَ، أَوْلاَدُ ٱلْمَوْعِدِ لا مجرد أولاد وُلدوا «حسب الجسد» كإسماعيل بل نحن نظير إسحاق في كوننا ولدنا بمقتضى «الموعد» المذكور في الآية الثالثة والعشرين. وهذا على وفق قول الرسول «أَيْ لَيْسَ أَوْلاَدُ ٱلْجَسَدِ هُمْ أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ، بَلْ أَوْلاَدُ ٱلْمَوْعِدِ يُحْسَبُونَ نَسْلاً» (رومية ٩: ٨). والموعد هو قوله «بنسلك تتبارك كل قبائل الأرض» ونحن حصلنا عليه وصرنا أولاده بالنعمة والإيمان.
٢٩ «وَلٰكِنْ كَمَا كَانَ حِينَئِذٍ ٱلَّذِي وُلِدَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ يَضْطَهِدُ ٱلَّذِي حَسَبَ ٱلرُّوحِ، هٰكَذَا ٱلآنَ أَيْضاً».
تكوين ٢١: ٩ ص ٥: ١١ و٦: ١٢
رجع الرسول في هذه الآية إلى تاريخ إسماعيل وإسحاق بعد أن تركه للاستشهاد بنبوءة إشعياء النبي عليه بعض الفوائد. وغايتها بيان أن كوننا أولاد الموعد لا يمنع من أن نُضطهد وأن تصرف إسماعيل مع إسحاق كان رمزاً إلى تصرف اليهود والمائلين إلى ديانتهم من المتنصرين مع المؤمنين.
ٱلَّذِي وُلِدَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ إي إسماعيل.
يَضْطَهِدُ ٱلَّذِي حَسَبَ ٱلرُّوحِ أي إسحاق الذي وُلد بقوة إلهية خارقة العادة. وكلامه في الاضطهاد هنا مبني على ما قيل في عمل إسماعيل في (تكوين ٢١: ٩) وفي نسله الذي ظل يتعدئ على الإسرائيليين كما قيل في الهاجريين (١أيام ٥: ١٠ و١٩ ومزمور ٨٣: ٧). وهذا كله رمز إلى الاضطهادات التي أثارتها الكنيسة اليهودية المولودة «حسب الجسد» على الكنيسة المسيحية المولودة «حسب الروح» تصديقاً لقول المسيح «سَيُخْرِجُونَكُمْ مِنَ ٱلْمَجَامِعِ، بَلْ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُكُمْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ خِدْمَةً لِلّٰهِ» (يوحنا ١٦: ٢).
هٰكَذَا ٱلآنَ أَيْضاً أي لا يزال اليهود يضطهدون المسيحيين إلى الآن حتى في غلاطية ويساعدهم على ذلك الحزب اليهودي في الكنيسة النصرانية (أعمال ٩: ٢٩ و١٣: ٤٥ و٤٩ و٥٠ و١٤: ١ و٢ و١٩ و١٧: ٥ و١٣ و١٨: ٥ و٦ وص ٥: ١٢ و٦: ١٢ و١٧).
٣٠ «لٰكِنْ مَاذَا يَقُولُ ٱلْكِتَابُ؟ ٱطْرُدِ ٱلْجَارِيَةَ وَٱبْنَهَا، لأَنَّهُ لاَ يَرِثُ ٱبْنُ ٱلْجَارِيَةِ مَعَ ٱبْنِ ٱلْحُرَّةِ».
ص ٣: ٨ و٢٢ تكوين ٢١: ١١٠ و١٢ قضاة ١١: ٢ ويوحنا ٨: ٣٥
ٱلْكِتَابُ أي أسفار العهد القديم والكلام مقتبس من سفر التكوين وهو قول سارة لإبراهيم حين رأت إسماعيل يمزح أي يهزأ بإسحاق (تكوين ٢١: ١٠) والله استحصنه وأثبته (تكوين ٢١: ١٢). وكانت النتيجة أنه طُرد إسماعيل من بيت إبراهيم. وعلى هذا بنى الرسول كلامه في استحالة اتفاق الديانة اليهودية والديانة المسيحية أي الناموس والإنجيل واتحاد الناموس والإنجيل معاً سبيلاً إلى التبرير واتفاق عبودية الأول وحرية الثاني والخضوع لرسوم الناموس الذي اجتهد المعلمون الفريسيون في إجبار الغلاطيين عليه ومطالب الإنجيل الذي سمعوه من بولس وقبلوه في أول أمرهم وخلاصة كلامه أن الذين تمسكوا بالناموس كانوا كنسل هاجر مطرودين بعملهم من ميراث الوعد لإبراهيم.
٣١ «إِذاً أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ لَسْنَا أَوْلاَدَ جَارِيَةٍ بَلْ أَوْلاَدُ ٱلْحُرَّةِ».
يوحنا ٨: ٣٦ وص ٥: ١ و١٣
إِذاً أي نتيجة ما ذكر.
لَسْنَا أَوْلاَدَ جَارِيَةٍ أي لسنا نحن المؤمنين بالمسيح أولاد أمة يهودية كانت أو وثنية.
بَلْ أَوْلاَدُ ٱلْحُرَّةِ فإذاً نحن أحرار لأننا ورثة كسائر أولاد الحرة بدليل قوله «فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ فَأَنْتُمْ إِذاً نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ، وَحَسَبَ ٱلْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ» (ص ٣: ٢٩). وقوله «إِذاً لَسْتَ بَعْدُ عَبْداً بَلِ ٱبْناً، وَإِنْ كُنْتَ ٱبْناً فَوَارِثٌ لِلّٰهِ بِٱلْمَسِيحِ» (ص ٤: ٧). ولأننا لم نُطرد كإسماعيل بل قبلنا الله أولاداً له بدليل قوله «أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ… لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِنَنَالَ ٱلتَّبَنِّيَ» (ص ٤: ٤ و٥).
مقابلة ما جاء به بولس بتمثيله في هذا الأصحاح
الديانة اليهودية | الديانة المسيحية |
الجارية هاجر | الحرة سارة |
ابن الجارية إسماعيل | ابن الحرة إسحاق |
العهد القديم | العهد الجديد |
الناموس | الإنجيل |
جبل سينا في العربية | جبل صهيون في أرض الميعاد |
الولادة الطبيعية | الولادة الروحية |
أورشليم الأرضية | أورشليم العليا |
المُستعبدة | الحرة |
الولود | العاقر |
نسل قليل | نسل كثير |
مُضطَّهِدَة | مُضطّهَدَة |
مطرودة | وارثة |
فوائد
- إن ميراث المؤمن من خير المواريث فإننا ندخل بيت الله بالإيمان بالمسيح بصفة أولاد في ذلك البيت وأنه فيه الله آب وإله كل تعزية والمسيح أخ بكر بين إخوة كثيرين وهم المفتدون من البشر والمقدسون بالروح القدس والملائكة خدم الله وشركاء سعادتنا وأعوان لنا فيها (ع ٥).
- إنه يعسر على الخاطئ الذي يشعر بخطيئته وبما يستحقه من غضب الله كل العسر أن يخاطب الله بقوله «يا أبا الآب» لأنه يحتاج إلى أن يرسل الروح القدس إلى قلبه حتى يستطيع ذلك. وتلفظه بهذه العبارة بالإيمان خير من التلفظ بألف صلاة باللسان (ع ٦).
- إن البرهان الوحيد القاطع على كوننا أولاد الله ورثة البركات المختصة بملكوته هو أن لنا روح البنوة والميل إلى أبينا السماوي أي روح المحبة والتسليم والطاعة المقترن بالإيمان بالمسيح والاتكال عليه للخلاص (ع ٦).
- إن الولد يكون وارثاً بالنظر إلى ولادته لا بأعماله ولا باستحقاقه. والمسيحيون يحصلون على الميراث السماوي من مغفرة الخطايا والبر والقيامة بالمجد والسعادة الأبدية بلا عمل منهم بل بنعمة الله المجانية بالمسيح (ع ٧).
- إنه لو تحققنا عظمة البركات المقترنة بكوننا أولاد الله وورثته وشعرنا بها لم نكترث بشيء مما يكترث به العالم من البر الذاتي والحكمة البشرية والقوة والشرف والمال واللذات فإذا خسرنا هذه كلها لم نأسف عليها ولا نحزن شيئاً (ع ٧).
- إن كثيراً من الحوادث المذكورة في تاريخ العهد القديم يحسن أن تكون مُثلاً تتضح بها حقائق العهد الجديد وقصد الله ان يعلّمنا بها تعاليم ذات شأن. ومن هنا يتبين لنا علة كون ذلك المقدار العظيم من كتاب الوحي تاريخياً. وكلما تأملنا فيه وأدركنا معناه زدنا استفادة بمعرفة الأمور الإلهية (ع ٢٤).
- إن الله لا يفضل إنساناً على آخر لأجل الولادة الطبيعية فاختار هابيل لا قايين وهو البكر وكذلك فضل يعقوب على عيسو وإفرايم على منسى فكل مؤمن بالمسيح عضو من كنيسة الأبكار في السماء ووارث كل مجدها (ع ٢٨).
- إن كل إنسان يعلم أن حال الحرية خير من حال العبودية فأعلن الله في كتاب الوحي أن النظام الموسوي برسومه ورموزه بالنظر إلى النظام المسيحي الروحي كحال العبودية بالنسبة إلى حال الحرية. فعلينا أن نشكر الله على نور الإنجيل وحريته ونتحاشى أن نثقل على أنفسنا وعلى غيرنا بما لم يُلزمنا به من الرسوم والعوائد (ع ٣١).
السابق |
التالي |