غلاطية

الرسالة إلى غلاطيّة| 03 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح الرسالة إلى غلاطيّة

للدكتور . وليم إدي

اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّالِثُ

إثبات كون التبرير بالإيمان وأن الذين تحت الناموس هم تحت اللعنة. وهذا الأصحاح بداءة القسم الثاني من هذه الرسالة وهو ينتهي في (ص ٥: ١٢) وفيه احتجاج على أن التبرير بالإيمان لا بأعمال الناموس. وافتتح كلامه فيه بتوبيخ الغلاطيين على سرعة انقيادهم بحيلة بعض المعلمين حتى أنهم تركوا الإنجيل وتمسكوا بالناموس (ع ١). وسألهم أن يشهدوا بمقتضى اختبارهم أنهم نالوا موهبة الروح القدس التي هي أعظم المواهب بواسطة الإنجيل لا بحفظهم الرسوم الناموسية (ع ٢ – ٥) وأورد لهم مثالاً من العهد القديم إبراهيم الذي تبرر بالإيمان وأنهم هم أولاده إذا آمنوا إيمانه (ع ٦ – ٩). وأن الناموس أوجب اللعنة على كل من تحته لتعديهم إياه فاستحال أن يتبرر أحد به. والمسيح حمل هذه اللعنة عنا حتى يمكننا أن نتبرر قدام الله بالإيمان به. وبذلك الإيمان يمكن الأمم أن تنال بركة إبراهيم وتخلص كما خلص هو (ع ١٠ – ١٤). ومما يثبت أن التبرير بالإيمان هو أن الوعد كان لإبراهيم قبل إعطاء الناموس على سبيل العهد وفيه إشارة إلى المسيح والتبرير به وكان مبنياً على الإيمان فمن المحال أن ينسخه الناموس الذي أعطي بعده بسنين كثيرة (ع ١٥ – ١٨). وبيان غاية الناموس ودفع اعتراض أن تعليم التبرير بالإيمان جعل الناموس بلا قيمة (ع ١٩ و٢٠). ودفع اعتراض آخر وهو أن الناموس مناف لمواعيد الإنجيل (ع ٢١ – ٢٤). وأن تعليم التبرير بالإيمان يحرر الإنسان من عبودية الناموس ويجعله ابناً لله فإن الناموس ليس سوى مؤدب يقود إلى المسيح فبالإيمان نصير أولاد الله وأهل بيت واحدٍ بالمسيح وأولاد إبراهيم وورثة ما وُعد به (ع ٢٥ – ٢٩).

إثبات كون التبرير بالإيمان وأن الذين تحت الناموس هم تحت لعنة ع ١ إلى ١٤

١ «أَيُّهَا ٱلْغَلاَطِيُّونَ ٱلأَغْبِيَاءُ، مَنْ رَقَاكُمْ حَتَّى لاَ تُذْعِنُوا لِلْحَقِّ؟ أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ أَمَامَ عُيُونِكُمْ قَدْ رُسِمَ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ بَيْنَكُمْ مَصْلُوباً!».

ص ٥: ٧ ص ٢: ١٤ عدد ٢١: ٩

أَيُّهَا ٱلْغَلاَطِيُّونَ ٱلأَغْبِيَاءُ وصفهم الرسول بالغباوة لأنهم لم يستعملوا عقولهم للتمييز بين الحق والباطل في أمر التبرير ولتقلبهم السريع في آرائهم وعقائدهم وبيّن أسفه وتعجبه من تركهم الإنجيل لأجل الناموس.

مَنْ رَقَاكُمْ استعار الرسول ما زعمه الناس من تأثير السحر في الألباب لتأثير تعليم الكذبة في قلوب الغلاطيين لتصوره أن انحرافهم عن الحق الصريح الذي اعتقدوه أولاً إلى البدعة القبيحة المهلكة التي جاء بها المضلون لا يمكن إلا بمثل ما يُزعم من أعمال السحرة مما تُظلم به العقول وتُفسد الأذهان. فكأن أولئك الخادعين حوّلوا عيون الغلاطيين باحتيالهم ومكرهم المشبه أعمال السحرة المزعومة عن النظر إلى المسيح مصلوباً وموضوع الإيمان والاعتقاد إلى أعمال الناموس كأنه علة الخلاص الجوهرية.

حَتَّى لاَ تُذْعِنُوا لِلْحَقِّ أي تسلموا بحق الإنجيل الذي خلاصته أن الخاطئ لا يتبرر إلا بالإيمان بالمسيح.

رُسِمَ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ بَيْنَكُمْ مَصْلُوباً لم يتعجب الرسول لو حدث ما كان منهم من تقلب الآراء ممن لم يكن لهم فرصة أن يعرفوا حقيقة عمل المسيح للفداء وتأثيره في تبرير المؤمن كما عرفوا هم من تبشيره إياهم فإنه أعلن ذلك لهم بتعليمه ووعظه بكل وضوح كأنهم وقفوا أمام صليب المسيح وشاهدوه يتألم ويموت من أجل خطايا البشر. فكان من الواجب أن تأثير ذلك يكون علة غاية الشدة حتى يمنع كل قوة من تحويل نظرهم إلى غيره. والتأثير الذي نسبه الرسول إلى مشاهدة المسيح مصلوباً على وفق قول المسيح «وَأَنَا إِنِ ٱرْتَفَعْتُ عَنِ ٱلأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ ٱلْجَمِيعَ» (يوحنا ١٢: ٣٢). ورسم المسيح مصلوباً بوضوح البشرى يتضمن بيان تأثير موته عن المؤمنين وهو التبرير مجاناً. وقال «رسم بينكم مصلوباً» بياناً أن تبشيره بذلك كان على غاية الوضوح كأن المسيح صُلب في غلاطية كما صُلب في أورشليم. وهذا الموضوع كان أعظم مواضيع تبشير بولس في كل مكان بدليل قوله لأهل كورنثوس «لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئاً بَيْنَكُمْ إِلاَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوباً» (١كورنثوس ٢: ٢).

والمراد من قوله «من رقاكم الخ» هو أنه بعدما تحققتم موت المسيح وآلامه عرفتهم الغاية من ذلك كيف سلمتم أن أولئك المضلين يخدعونكم حتى تصرفوا عن إيمانكم به وتتوقعوا التبرير بواسطة أخرى.

٢ «أُرِيدُ أَنْ أَتَعَلَّمَ مِنْكُمْ هٰذَا فَقَطْ: أَبِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ أَخَذْتُمُ ٱلرُّوحَ أَمْ بِخَبَرِ ٱلإِيمَانِ؟».

أعمال ٢: ٣٨ و٨: ١٥ و١٠: ٤٧ و١٥: ٨ وع ١٤ وأفسس ١: ١٣ وعبرانيين ٦: ٤ رومية ١٠: ١٦ و١٧

أُرِيدُ أَنْ أَتَعَلَّمَ مِنْكُمْ هٰذَا فَقَطْ لأن جواب السؤال الآتي كاف وحده لإزالة كل ريب في أي الأمرين أعظم الإنجيل أم الناموس وأيهما يجب أن نلقي عليه رجاء الخلاص. خاطبهم كأنهم أناس جُددوا واختبروا قوة الروح القدس فاستند على اختبارهم لاعتقاده أنه كاف لتقديرهم على الإجابة عن السؤال والحكم بصحة آرائهم الأولى أو آرائهم المحدثة.

أَبِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ أي هل أُثبتم لطاعتكم أعمال الناموس أدبية أو رمزية أو رسمية بما يأتي.

أَخَذْتُمُ ٱلرُّوحَ أي الروح القدس. وأشار بذلك إلى كل تأثيرات الروح القدس الظاهرة والباطنة في تجديد القلوب وتقديسها وفي تعزية المصابين ومنح المواهب العجيبة من النبوءة والتكلم بالألسنة وترجمتها وتمييز الأرواح ومواهب الشفاء وغير ذلك مما كان آية حضور الروح وقوته. وأُعطيت المؤمنين الأولين تثبيتاً للتعليم الإنجيلي الذي سمعوه وقبلوه (أعمال ٨: ١٧ و١٠: ٤٤ – ٤٦ و١٩: ٦ و١كورنثوس ص ١٢ وص ١٤).

أَمْ بِخَبَرِ ٱلإِيمَانِ خبر الإيمان هنا هو عين وعظ بولس لأن موضوعه الإنباء بأن الإيمان هو واسطة التبرير والخلاص. وهذا خلاصة الإنجيل كله وهو الآلة استعملها الروح القدس للتجديد والتنوير. وغنيٌ عن البيان أن هبة الروح مقترنة بالتبشير بالإنجيل لا بالمناداة بالناموس وفي ذلك دليل قاطع أن الإنجيل حق وأنه من الله. والمقابلة هنا بين الإيمان والأعمال لا بين سمع الخبر والعمل.

٣ «أَهٰكَذَا أَنْتُمْ أَغْبِيَاءُ! أَبَعْدَمَا ٱبْتَدَأْتُمْ بِٱلرُّوحِ تُكَمِّلُونَ ٱلآنَ بِٱلْجَسَدِ؟».

ص ٤: ٩ عبرانيين ٧: ١٦ و٩: ١٠

أَهٰكَذَا أَنْتُمْ أَغْبِيَاءُ تقوم هذه الغباوة بما يأتي من كلامه وحقيقتها هي تفضيل الإنسان بعد الاختبار الأدنى على الأعلى. والاستفهام للتعجب فقد صعب على الرسول تصديق أن الغلاطيين بعدما قبلوا الإنجيل من شفتيه وشاهدوا آيات تأثيرهم بينهم تركوه وتمسكوا بالتعليم الفاسد.

أَبَعْدَمَا ٱبْتَدَأْتُمْ بِٱلرُّوحِ ابتدأوا عند إيمانهم بالحياة المسيحية بتأثير الروح القدس وإرشاده. وهذا الروح علمهم العبادة الروحية ووهب لهم الحرية التي بها يحرر المسيح شعبه.

تُكَمِّلُونَ كما زعمتم واجتهد المعلمون الكاذبون في أن يقنعوكم.

بِٱلْجَسَدِ أي بالناموس وسمي (جسداً) للمقابلة بالروح. إن اعتقاد التبرير بأعمال الناموس هو الذي يستحسنه العقل البشري ويستعبد الناس للرسوم الجسدية التي هي أرضية وصعبة ودنيئة. فالاتكال على الناموس ورسومه للخلاص بدلاً من الاتكال على يسوع المسيح بالإيمان والاقتداء به هو «التكميل بالجسد» في كل عصر من عصور العالم فلم يُظهر الغلاطيون وحدهم تلك الغباوة.

٤ «أَهٰذَا ٱلْمِقْدَارَ ٱحْتَمَلْتُمْ عَبَثاً؟ إِنْ كَانَ عَبَثاً!».

عبرانيين ١٠: ٣٥ ٣٦ و٢يوحنا ٨

ٱحْتَمَلْتُمْ بما احتملوا حين آمنوا وتمسكوا بالإنجيل وابتدأوا بالروح من اضطهاد اليهود والأمم بتهييج اليهود إياهم فأصابهم ما أصاب التسالونيكيين الذين قال فيهم «مُتَمَثِّلِينَ بِكَنَائِسِ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي هِيَ فِي ٱلْيَهُودِيَّةِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، لأَنَّكُمْ تَأَلَّمْتُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً مِنْ أَهْلِ عَشِيرَتِكُمْ تِلْكَ ٱلآلاَمَ عَيْنَهَا كَمَا هُمْ أَيْضاً مِنَ ٱلْيَهُودِ، ٱلَّذِينَ قَتَلُوا ٱلرَّبَّ يَسُوعَ وَأَنْبِيَاءَهُمْ» (١تسالونيكي ١٤ و١٥).

عَبَثاً لأنكم لو قبلتم الناموس من أول أمركم لخلصتم من ذلك الاضطهاد وإن سقطتم من النعمة الآن تخسروا كل البركات الموعود بها الذين اضطهدوا من أجل إيمانهم بالحق (ص ٤: ١١ و١كورنثوس ١٥: ٢).

إِنْ كَانَ عَبَثاً لم ييأس الرسول من رجوعهم عن الاتكال على أعمال الناموس للخلاص إلى الإيمان بالمسيح ورجا أنهم يجنون إثمار امتحانهم وضيقاتهم.

٥ «فَٱلَّذِي يَمْنَحُكُمُ ٱلرُّوحَ، وَيَعْمَلُ قُوَّاتٍ فِيكُمْ، أَبِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ أَمْ بِخَبَرِ ٱلإِيمَانِ؟».

٢كورنثوس ٣: ٨

هذا مكرر الآية الثانية معنى للتقرير. إن وجوب السؤال الذي سألهم إياه هنا يجدونه بالنظر حولهم في الاماكن التي يُظهر الروح القدس قوته في متجدديها فيتحققون أبالمناداة بناموس موسى مقترنة أعمال الروح أم بالمناداة بإنجيل يسوع المسيح.

فَٱلَّذِي يَمْنَحُكُمُ ٱلرُّوحَ هو الله فهو يعطي المؤمنين آيات الروح الخارقة العادة ومنح ذلك بالتبشير بالإنجيل لا بحفظ أعمال الناموس.

وَيَعْمَلُ قُوَّاتٍ أي يستمر على منح القوات الروحية والمواهب.

فِيكُمْ أي بينكم أيها المؤمنون بالمسيح. إن الله منحهم تلك القوات وهي العلامات الظاهرة والباطنة الدالة على وجوده وقوته.

أَبِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ أَمْ بِخَبَرِ ٱلإِيمَانِ أي أحين كنتم مجتهدين في حفظ الناموس فمنحكم الله الروح والآيات أم حين آمنتم بالمسيح بواسطة التبشير. ولا بد من أن يكون جواب هذا السؤال أن الله صدق «خبر الإيمان» بآيات الروح القدس.

٦ «كَمَا آمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِٱللّٰهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرّاً».

تكوين ١٥: ٦ ورومية ٤: ٣ و٩ و٢١ و٢٢ ويعقوب ٢: ٣٢

قدر الرسول أنهم أجابوه بقوله «بخبر الإيمان» فأخذ يبرهن من تاريخ إبراهيم ما برهنه من اختبارهم.

كَمَا آمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِٱللّٰهِ أي أن تاريخ إبراهيم يثبت ما برهنته من اختباركم فكما أن الله منحكم الروح القدس بإيمانكم لا بأعمالكم كذلك نال إبراهيم التبرير بالإيمان لا بالأعمال. والخلاصة أن التبرير وموهبة الروح القدس كلهيما من متعلقات الإيمان. والآية كلها مقتبسة من سفر التكوين (تكوين ١٥: ٦) واقتبست في الرسالة إلى رومية (رومية ٤: ٣) وسبق تفسيرها هناك. والكلمة ذات الشأن فيها «آمن» وغاية الرسول أن يبرهن فضل الإيمان على الناموس وبرهانه هو أن إبراهيم نال ما وُعد به من البركات بواسطة إيمانه. وهذا الإيمان يمكن الأمم كما يمكن اليهود فإذاً لا فضل لليهودي على اليوناني من جهة الحقوق والامتيازات التي افتخر اليهود بها ولا نفع من تلك الرسوم الثقيلة التي أراد المعلمون الفريسيون أن يحملوا الغلاطيين إياها.

آمن إبراهيم وتبرر قبل أن أُعطي ناموس موسى ويتضح من ذلك أن حفظ ذلك الناموس لم يكن ضرورياً لإبراهيم أي أنه لم يكن مضطراً إلى حفظه وإلا لم يمكن أن يتبرر والذي لم يكن ضرورياً له ليس بضروري لغيره. وبهذا البرهان أبطل تعليم الذين أوجبوا حفظ الناموس.

٧ «ٱعْلَمُوا إِذاً أَنَّ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنَ ٱلإِيمَانِ أُولَئِكَ هُمْ بَنُو إِبْرَاهِيمَ».

يوحنا ٨: ٣٩ ورومية ٤: ١١ و١٢ و١٦

ٱعْلَمُوا إِذاً أي تحققوا من مثَل إبراهيم.

أَنَّ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنَ ٱلإِيمَانِ أي الذين حياتهم الروحية ناشئة عن الإيمان ورجاؤهم الخلاص مبني عليه خلافاً للذين بنوا رجاءهم الخلاص على حفظ الناموس.

أُولَئِكَ هُمْ بَنُو إِبْرَاهِيمَ أي هم وحدهم لا الذين من الأعمال وهم نسل إبراهيم الروحي كما يتضح من الرسالة إلى أهل رومية (رومية ٤: ١١ و١٢ و١٦ و٩: ٦ – ٨). والبرهان أنهم أولاده أن إيمانهم مثل إيمانه ويمتازون به كما هو امتاز وتبرروا به كما هو تبرر ورضي الله عنهم كما رضي عنه فخلصوا به كما خلص.

٨ «وَٱلْكِتَابُ إِذْ سَبَقَ فَرَأَى أَنَّ ٱللّٰهَ بِٱلإِيمَانِ يُبَرِّرُ ٱلأُمَمَ، سَبَقَ فَبَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ «فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ ٱلأُمَمِ».

رومية ٩: ١٧ وع ٢٢ تكوين ١٢: ٣ و١٨: ١٨ و٢٢: ١٨ وأعمال ٣: ٢٥

وَٱلْكِتَابُ إِذْ سَبَقَ فَرَأَى مثل كتاب الله كأنه سبق ورأى ما سبق ورأى مؤلفه.

أَنَّ ٱللّٰهَ بِٱلإِيمَانِ يُبَرِّرُ ٱلأُمَمَ حسب قضائه الأزلي الذي أعلنه بعض الإعلان بوعده لإبراهيم في قوله «فيك تتبارك جميع الأمم» (تكوين ١٢: ٣).

وتخصيصه الأمم هنا بالتبرير بالإيمان لا يلزم منه أن الله لم يقصد أن يبرر اليهود أيضاً بالإيمان لكنه خص الأمم بالذكر لأن الغلاطيين من الأمم والأمر المبحوث عنه ما هو ضروري للخلاص.

سَبَقَ فَبَشَّرَ أي تنبأ قبل إنجاز الوعد وقبل مجيء المسيح وقبل دعوة الأمم. وسمى أنباءه «تبشيراً» لأن جوهر الخبر المبهج أن الأمم تتبرر بالإيمان. وكون الوعد لإبراهيم إنجيلاً سابقاً بتبين من قول المسيح «أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ» (يوحنا ٨: ٥٦).

فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ ٱلأُمَمِ أي بكونك أباً روحياً لجميع المؤمنين. فاتخاذ هذه الكلمة إشارة إلى المؤمنين من نسل إبراهيم لا يمنع من اتخاذها في موضع آخر بمعنى آخر هو المسيح (ع ١٦) والمراد «بجميع الأمم» كل قبائل الأرض من اليهود والأمم الذين اقتفوا خطوات إبراهيم في الإيمان واتخذوه أباً روحياً فصاروا ورثة البركات التي نالها. والبركة التي وعد بها إبراهيم تؤكد لكل المؤمنين جميع فوائد ملكوت المسيح (أعمال ٣: ٢٥ ورومية ٤: ١٣) و هذا الوعد خلاصة وعدين الأول قوله «تتبارك فيك جميع قبائل الأرض» (تكوين ١٢: ٣) والثاني قوله «إِبْرَاهِيمُ يَكُونُ أُمَّةً كَبِيرَةً وَقَوِيَّةً، وَيَتَبَارَكُ بِهِ جَمِيعُ أُمَمِ ٱلأَرْضِ» (تكوين ١٨: ١٨).

٩ «إِذاً ٱلَّذِينَ هُمْ مِنَ ٱلإِيمَانِ يَتَبَارَكُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُؤْمِنِ».

كما أن إبراهيم تبرر بإيمانه بوعد الله كذلك الذين يؤمنون إيمان إبراهيم ينالون بركة التبرير التي نالها إبراهيم وتلك البركة تتضمن غفران الخطايا ونسبة كل استحقاق المسيح إلى المؤمن والخلاص التام. والمراد «بالذين هم من الإيمان» المؤمنون بالمسيح (ع ٧). ومعنى قوله «يتباركون مع إبراهيم» يُعتبرون أولاده باعتبار كونه أباهم الروحي وأنهم يشاركونه هم وسائر المؤمنين في البركة كقول المسيح «أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ مِنَ ٱلْمَشَارِقِ وَٱلْمَغَارِبِ وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ» (متى ٨: ١١). فكل من يشاركونه في الإيمان يشاركونه في التبرير وفي الخلاص.

ٱلْمُؤْمِنِ الذي امتاز إبراهيم به وتبرر هو الإيمان بالله وبهذا الإيمان عينه يمتاز كل من سواه وبه يتبررون ثم يتقدسون ثم يتمجدون.

١٠ «لأَنَّ جَمِيعَ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ هُمْ تَحْتَ لَعْنَةٍ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ ٱلنَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ».

رومية ٣: ٩ – ٢٠ تثنية ٢٧: ٢٦ وإرميا ١١: ٣

لأَنَّ هذه الآية تثبت الآية التاسعة لأن الذين اتكلوا على أعمال الناموس لا يقدرون أن يشاركوا إبراهيم في بركته لأنهم تحت لعنة الناموس لعجزهم عن طاعته الكاملة.

ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ هذا مقابل لقوله «الذين هم من الإيمان» (ع ٧ و٩). والمراد بقوله «الذين هم من أعمال الناموس» الذين يتكلون على القيام بأعمال الناموس للتبرير والخلاص.

هُمْ تَحْتَ لَعْنَةٍ أوضح هذا الرسول في الرسالة إلى رومية (رومية ٣: ٢٠) وتلك اللعنة هي التي صرّح الناموس بها على كل من تعدّاه جزئياً أو كلياً. فحفظ بعضه دون بعض لا يرفع تلك اللعنة بدليل قول يعقوب الرسول «مَنْ حَفِظَ كُلَّ ٱلنَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِماً فِي ٱلْكُلِّ» (يعقوب ٢: ١٠) والكون «تحت لعنة» تعرّض للعقاب والهلاك الأبدي. وخلاصة الآية أن كل الذين طلبوا خلاص نفوسهم بأعمال الناموس عرضوا أنفسهم لحمل عقابه لأنه من المحال أن يحفظ الإنسان الناموس كله (رومية ٣: ١٩).

لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ في سفر التثنية (تثنية ٢٧: ٢٦) واقتبس معنى لا لفظاً.

مَنْ لاَ يَثْبُتُ هذا دليل على أن الناموس يطلب الطاعة الدائمة.

فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ هذا دليل على وجوب أن تكون الطاعة كاملة. وكون الإنسان لا يستطيع تلك الطاعة ظاهر في قول الرسول «نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَقُولُهُ ٱلنَّامُوسُ فَهُوَ يُكَلِّمُ بِهِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلنَّامُوسِ، لِكَيْ يَسْتَدَّ كُلُّ فَمٍ، وَيَصِيرَ كُلُّ ٱلْعَالَمِ تَحْتَ قِصَاصٍ مِنَ ٱللّٰهِ» (رومية ٣: ١٩).

١١، ١٢ «١١ وَلٰكِنْ أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَتَبَرَّرُ بِٱلنَّامُوسِ عِنْدَ ٱللّٰهِ فَظَاهِرٌ، لأَنَّ ٱلْبَارَّ بِٱلإِيمَانِ يَحْيَا. ١٢ وَلٰكِنَّ ٱلنَّامُوسَ لَيْسَ مِنَ ٱلإِيمَانِ، بَلِ ٱلإِنْسَانُ ٱلَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِهَا».

ص ٢: ١٦ حبقوق ٢: ٤ ورومية ١: ١٧ وعبرانيين ١٠: ٣٨ رومية ٤: ٤ و٥ و١٠: ٥ و٦ و١١: ٦ لاويين ١٨: ٥ ونحميا ٩: ٢٩ وحزقيال ٢٠: ١١ ورومية ١٠: ٥

في هاتين الآيتين برهان على أن الناموس لا يأتي بالبركة الموعود بها إبراهيم لأنه لا يقدر أن يبرر أحداً لأن شرط التبرير الإيمان وليس للناموس من تعلق بالإيمان وليس له سوى الأعمال.

بِٱلنَّامُوسِ أي بواسطته أو بواسطة حفظه.

عِنْدَ ٱللّٰهِ أي بمقتضى حكمه حين يقف الإنسان أمامه للمحاكمة.

فَظَاهِرٌ بشهادة كلمة الله كما جاء في نبوءة حبقوق حسب ترجمة السبعين (حبقوق ٢: ٤ انظر تفسير هذه الآية في تفسير رومية ١: ١٧). والمعنى أنه لا يستطيع الخاطئ أن يتبرر بالأعمال لأن الله عيّن طريقاً آخر للتبرير.

ٱلنَّامُوسَ لَيْسَ مِنَ ٱلإِيمَانِ لأن مبدأه الأصلي الأعمال لا الإيمان. والآية التي اقتبسها الرسول إثباتاً لقوله هي من سفر اللاويين (لاويين ١٨: ٥). والشرط الجوهري في الناموس على من يرغب في نيل الحياة الزمنية والأبدية بواسطته هو العمل بدوام الطاعة الكاملة لا الإيمان.

ٱلَّذِي يَفْعَلُهَا أي الفرائض والأحكام على ما في الأصل المقتبس منه (لاويين ١٨: ٥).

١٣، ١٤ «١٣ اَلْمَسِيحُ ٱفْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ ٱلنَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ. ١٤ لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلأُمَمِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِنَنَالَ بِٱلإِيمَانِ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ».

رومية ٨: ٣ و٢كورنثوس ٥: ٢١ وص ٤: ٥ تثنية ٢١: ٢٣ رومية ٤: ٩ و١٦ إشعياء ٣٢: ١٥ و٤٤: ٣ وإرميا ٣١: ٣٣ و٣٢: ٤٠ وحزقيال ١١: ١٩ ويوئيل ٢: ٢٨ و٢٩ وزكريا ١٢: ١٠ ويوحنا ٧: ٣٩ وأعمال ٢: ٣٣

إن المسيح أتى كل الذين كانوا تحت لعنة الناموس بالخلاص لأنه حررهم منها فالناموس أتاهم باللعنة وهذا كل ما استطاعه فابتدأ عمل المسيح حيث انتهى عمل الناموس إذ أتى بالإنقاذ من اللعنة.

ٱفْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ ٱلنَّامُوسِ لكي تأتينا البركة التي وُعد إبراهيم بها. إن جميع الناس يهوداً وأمماً احتاجوا إلى الفداء لأن جميعهم كانوا تحت اللعنة سواء فاليهود كانوا تحتها لتعديهم الناموس المكتوب والأمم لتعديهم الناموس المعلن لهم بالخليقة والضمائر (رومية ٣: ٩ و١٠). وعبر عن إنقاذ المسيح «بالاقتداء» لأن الفداء إيفاء المطلوب لإطلاق الأسير فالمسيح فدانا واشترانا بثمن من حمل العقاب على خطايانا بتأديته الثمن الذي طلبه الناموس بموته على الصليب مرة واحدة عن الجميع بدليل قوله «لأنكم قد اشتريتم بثمن» (١كورنثوس ٦: ٢٠ و٧: ٢٣) وقوله «عَالِمِينَ أَنَّكُمُ ٱفْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى… بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ ٱلْمَسِيحِ» (١بطرس ١: ١٨ و١٩). وقوله «وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً قَائِلِينَ: مُسْتَحِقٌّ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ ٱلسِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَٱشْتَرَيْتَنَا لِلّٰهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ» (رؤيا ٥: ٩). وقوله «هٰؤُلاَءِ هُمُ ٱلَّذِينَ يَتْبَعُونَ ٱلْحَمَلَ حَيْثُمَا ذَهَبَ. هٰؤُلاَءِ ٱشْتُرُوا مِنْ بَيْنِ ٱلنَّاسِ بَاكُورَةً لِلّٰهِ وَلِلْحَمَلِ» (رؤيا ١٤: ٤ انظر أيضاً متى ٢٠: ٢٨ و١تيموثاوس ٢: ٦ ورومية ٣: ٢٤ و١كورنثوس ١: ٣ وأفسس ١: ٧ و١٤ و٤: ٣٠ وكولسي ١: ١٤ وعبرانيين ٩: ١٥). والذي جمل المسيح على افتدائنا هو محبته غير المحدودة على وفق قضاء الله الأزلي بالفداء.

ولعنة الناموس هي اللعنة التي صرّح بها على كل الذين لا يحفطون الناموس حفظاً تاماً.

إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا وهو البار واختار ذلك طوعاً. فرضي أن ينقل الله اللعنة من الجميع إليه وأن يعامله كأنه مذنب فعلاً كما كان في شريعة موسى يُنقل ذنب المذنب اليهودي إلى التيس عزازيل (لاويين ص ١٦) وهذا مثل قوله «لأَنَّهُ جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللّٰهِ فِيهِ.» (٢كورنثوس ٥: ٢١).

لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ في سفر التثنية (تثنية ٢١: ٢٣) وهذا المكتوب هو ما أوصى به موسى في أمر المذنبين الذين رجموا أولاً ثم علقوا على الخشبة ومنه أن تبقى جثثهم معلقة ليلاً لئلا تتدنس الأرض المقدسة بها. والمسيح حمل لعنة الناموس على الصليب حتى مات. وفي الأصل العبراني المقتبس منه «ملعون من الله» وترك الرسول لفظتي «من الله» لأن المسيح لم يكن ملعوناً من الله حقيقة لكن الله عامله كأنه كذلك لأنه احتمل من تلقاء نفسه لعنة الخطأة وأتى ذلك على وفق إرادة الآب الذي سر بتقديمه نفسه على الصليب بدليل قوله «أَحَبَّنَا ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَاناً وَذَبِيحَةً لِلّٰهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً» (أفسس ٥: ٢).

ذكر بولس لعنتين الأولى في الآية العاشرة وهو قوله «ملعون من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في أعمال الناموس ليعمل به» وهذه اللعنة عمت الجنس البشري. والثانية في الآية الثالثة عشرة وهي قوله «ملعون كل من عُلق على خشبة» وهذه اللعنة احتملها المسيح ليفدينا من اللعنة الأولى وكلتاهما من لعنات الناموس وإحداهما تشير إلى الذنب والأخرى تشير إلى العقاب فالمسيح «لعنة» بدلاً من جميع «الذين هم من أعمال الناموس» بكونه «من عُلق على خشبة».

لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلأُمَمِ هذا غاية مصير المسيح لعنة. و «بركة إبراهيم» هي البركة التي وُعد بها هو ونسله وخلاصتها التبرير بالإيمان والخلاص بالمسيح.

لِنَنَالَ بِٱلإِيمَانِ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ نحن المؤمنون من اليهود والأمم بلا التفات إلى النسل. و «موعد الروح» هنا هو المشار إليه في الآية الثانية من هذا الأصحاح. وهو من أعظم البركات الموعود بها في ملكوت المسيح (يؤيل ٢: ٢٨ و٢٩ ولوقا ٢٤: ٤٠ وأعمال ٢: ١٦ – ٢١). وقيّد هنا نيل الموعد بالإيمان. والعبارة جواب لسؤاله في الآية الثانية وهو قوله «أبأعمال الناموس أخذتم الروح أم بخبر الإيمان».

بيان غاية الناموس ع ١٥ إلى ٢٩

١٥ «أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ بِحَسَبِ ٱلإِنْسَانِ أَقُولُ: لَيْسَ أَحَدٌ يُبْطِلُ عَهْداً قَدْ تَمَكَّنَ وَلَوْ مِنْ إِنْسَانٍ، أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ».

عبرانيين ٩: ١٧

بِحَسَبِ ٱلإِنْسَانِ أَقُولُ أي أضرب لكم مثلاً إثباتاً لما سبق مما اعتاده الناس في الأمور اليومية.

لَيْسَ أَحَدٌ يُبْطِلُ عَهْداً قَدْ تَمَكَّنَ إن العهد بعد أن يتفق عليه الناس ويصدقونه لا يمكن أن يُغفل عنه كأنه لم يكن ولا يمكن أن يغيره أحد بلا اتفاق الجميع على تغييره. والمراد بأنه «تمكن» أنه تثبت بوعد أو قسم أو ذبيحة أو طريق آخر بمقتضى عوائد البلاد.

وَلَوْ مِنْ إِنْسَانٍ ما صدق في عهود الناس من دوامها بلا تغير يصدق بالأولى في عهود الله. وكان وعد الله لإبراهيم على طريق العهد (تثنية ١٢: ٧ و١٥: ١٨) وكان عهداً أبدياً.

أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ بوضع شروط جديدة لإنجازه. قال الرسول هذا لأن الحزب اليهودي أراد أن يضيف إلى عهد إبراهيم شرطاً جديداً وهو حفظ شريعة موسى الرمزية وادعوا أنه دون حفظها لا يقدر أحد أن ينال بركات العهد. وحاولوا أن يضيفوا على العهد الأبدي شيئاً أرضياً خارجياً وقتياً وهذا الشرط الجديد وهو إطاعة الناموس يستحيل على كل أحد أن يقوم به فإذا يستحيل عليه أن ينال بركة العهد به.

١٦ «وَأَمَّا ٱلْمَوَاعِيدُ فَقِيلَتْ فِي «إِبْرَاهِيمَ وَفِي نَسْلِهِ». لاَ يَقُولُ «وَفِي ٱلأَنْسَالِ» كَأَنَّهُ عَنْ كَثِيرِينَ، بَلْ كَأَنَّهُ عَنْ وَاحِدٍ. وَفِي «نَسْلِكَ» ٱلَّذِي هُوَ ٱلْمَسِيحُ».

تكوين ١٢: ٣ و٧ و١٧: ٧ و٨ و٢٢: ١٨ وع ٨ ١كورنثوس ١٢: ١٢

هذه الآية معترضة بيّن الرسول بها أن المسيح هو الموعود به في عهد إبراهيم ويلزم من ذلك أنه لم ينجز حتى أتى هو وعلى هذا لا يمكن أن يبطل العهد بالناموس الذي كان قبل إتيانه.

ٱلْمَوَاعِيدُ عبّر عن الموعد بالجمع لتكرره لإبراهيم وغيره من الآباء (تكوين ١٢: ٣ و١٣: ١٥ و١٥: ٥ و١٨ و١٧: ٧ و٢٢: ١٨).

فِي إِبْرَاهِيمَ وَفِي نَسْلِهِ هذا مقتبس من (تكوين ١٣: ١٥ و١٧: ٨). والموعود به حقيقة هو الأرض المقدسة لكن بولس اعتبره وعداً روحياً أيضاً لا لإبراهيم وحده بل لنسله معه ولا سيما المسيح.

لاَ يَقُولُ وَفِي ٱلأَنْسَالِ لئلا يقال أنه كان لأولاد قطورة وابن هاجر وأولاد عيسو.

كَأَنَّهُ عَنْ وَاحِدٍ وَفِي نَسْلِكَ (تكوين ١٧: ٧). والمعنى أن الذي أعطي الوعد هو نسل إبراهيم الروحي أي المؤمنون الذين يسوع المسيح هو رأسهم ونائبهم وهم جسده لاتحادهم به بالإيمان الحي. فكلمة «نسل» اسم جنس يتضمن كل أولاد إبراهيم الروحيين لا أولاده الطبيعيين كما توهّم اليهود (ع ٢٨ و٢٩ ورومية ٤: ١٦ و١٨ و٩: ٨).

وليس في نسل إبراهيم الروحي من تمييز بين متنصري اليهود ومتنصري الأمم وكلاهما من أهل الموعد كأنهم نسل واحد بدليل قوله «تتبارك فيك جميع قبائل الأرض» وشرط نيله واحد للكل وهو أنه بالإيمان لا أن البعض يناله بالإيمان والبعض بالناموس بل يناله الكل بالإيمان مختونين وغلفاً. وهذا على وفق قوله «فَإِنَّهُ لَيْسَ بِٱلنَّامُوسِ كَانَ ٱلْوَعْدُ لإِبْرَاهِيمَ أَوْ لِنَسْلِهِ أَنْ يَكُونَ وَارِثاً لِلْعَالَمِ، بَلْ بِبِرِّ ٱلإِيمَانِ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ ٱلَّذِينَ مِنَ ٱلنَّامُوسِ هُمْ وَرَثَةً، فَقَدْ تَعَطَّلَ ٱلإِيمَانُ وَبَطَلَ ٱلْوَعْدُ» (رومية ٤: ١٣ و١٤).

ٱلَّذِي هُوَ ٱلْمَسِيحُ لا باعتبار كونه يسوع الناصري مفرداً بل باعتباره مع أتباعه الذين هم أعضاء جسده وكونه آدم الثاني ورأس المفديين. وخلاصة ما قيل هنا هو ما قاله في (ع ٢٨ و٢٩) «لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعاً وَاحِدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ. فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ فَأَنْتُمْ إِذاً نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ، وَحَسَبَ ٱلْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ» (انظر أيضاً ١كورنثوس ١٢: ١٢).

١٧ «وَإِنَّمَا أَقُولُ هٰذَا: إِنَّ ٱلنَّامُوسَ ٱلَّذِي صَارَ بَعْدَ أَرْبَعِمِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً، لاَ يَنْسَخُ عَهْداً قَدْ سَبَقَ فَتَمَكَّنَ مِنَ ٱللّٰهِ نَحْوَ ٱلْمَسِيحِ حَتَّى يُبَطِّلَ ٱلْمَوْعِدَ».

خروج ١٢: ٤٠ و٤١ رومية ٤: ١٣ و١٤ وع ٢١

وَإِنَّمَا أَقُولُ هذا الإشارة إلى ما قاله آنفاً في عهود الناس (ع ١٥) بياناً أن الناموس الذي أُعطي بعد ما وعد الله الآباء مراراً لا يمكن أن ينسخ الوعد.

إِنَّ ٱلنَّامُوسَ الذي طلب الطاعة بدل شرط الوعد الذي هو عطية مجانية بشرط الأعمال.

ٱلَّذِي صَارَ بَعْدَ أي بعد الوعد.

أَرْبَعِمِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً أي أن إعطاء الناموس على طور سينا كان بعد هذه المدة من الوعد لإبراهيم فحسب مدة تغرب إبراهيم وإسحاق ويعقوب مع مدة العبودية وعبر عنها استفانوس بأربع مئة سنة يوم آخر المواعيد ليعقوب وذلك بعد أن كان لإبراهيم في أور الكلدانيين بنحو مئتي سنة. وغاية بولس بيان أن الوعد سبق الناموس فقوى بذلك سلطان الوعد.

لاَ يَنْسَخُ عَهْداً أي موعداً كما كان ينسخه لو جعل حفظ الناموس شرطاً لنيل البركات الموعود بها بالعهد على سنن قوله «إِنْ كَانَ ٱلَّذِينَ مِنَ ٱلنَّامُوسِ هُمْ وَرَثَةً، فَقَدْ تَعَطَّلَ ٱلإِيمَانُ وَبَطَلَ ٱلْوَعْدُ!» (رومية ٤: ١٤). والنتيجة أن العهد لم يتغير أي بقي عهد النعمة لا عهد الأعمال والهبة المجانية لا الخدمة. والإيمان لا الناموس.

فَتَمَكَّنَ مِنَ ٱللّٰهِ كما جاء في الآية الخامسة عشرة.

نَحْوَ ٱلْمَسِيحِ أي لكي يتم بالمسيح. وهذه العبارة ليست في كل النسخ وليست بضرورية لتكميل المعنى.

حَتَّى يُبَطِّلَ ٱلْمَوْعِدَ هذا متعلق بقوله «لا ينسخ عهداً» والكلام عليه هناك.

١٨ «لأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ ٱلْوِرَاثَةُ مِنَ ٱلنَّامُوسِ فَلَمْ تَكُنْ أَيْضاً مِنْ مَوْعِدٍ. وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ وَهَبَهَا لإِبْرَاهِيمَ بِمَوْعِدٍ».

رومية ٨: ١٧ رومية ٤: ١٤ و ١١: ٦

ٱلْوِرَاثَةُ جمع الرسول في هذه الكلمة كل البركات الروحية والزمنية الموعود بها إبراهيم ونسله بالإيمان وأعظمها المسيح والتبرير به الآن والتمجيد به أخيراً على وفق قوله «إِنْ كُنَّا أَوْلاَداً فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضاً، وَرَثَةُ ٱللّٰهِ وَوَارِثُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ» (رومية ٨: ١٧ انظر أيضاً ص ٤: ٧).

مِنَ ٱلنَّامُوسِ أي لو كان حفظه شرط نيل البركات التي تتضمنها الوراثة.

فَلَمْ تَكُنْ أَيْضاً مِنْ مَوْعِدٍ لأن الموعد من النعمة المجانية التي تُقبل بالإيمان ولو كانت الوراثة من الناموس لكانت أجرة لا هبة مجانية. فالناموس والموعد ضدان باعتبار كونهما واسطتين للخلاص فالأول شرطه الأعمال والثاني شرطه الإيمان.

وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ وَهَبَهَا لإِبْرَاهِيمَ بِمَوْعِدٍ وهذا دليل على أن الوراثة ليست من الناموس.

١٩ «فَلِمَاذَا ٱلنَّامُوسُ؟ قَدْ زِيدَ بِسَبَبِ ٱلتَّعَدِّيَاتِ، إِلَى أَنْ يَأْتِيَ ٱلنَّسْلُ ٱلَّذِي قَدْ وُعِدَ لَهُ، مُرَتَّباً بِمَلاَئِكَةٍ فِي يَدِ وَسِيطٍ».

يوحنا ١٥: ٢٢ ورومية ٤: ١٥ و٥: ٢٠ و٧: ٨ و١٣ و١تيموثاوس ١: ٩ ع ١٦ أعمال ٧: ٥٣ وعبرانيين ٢: ٢ خروج ٢٠: ١٩ و٢١ و٢٢ وتثنية ٥: ٥ و٢٢ و٢٣ و٢٧ و٣١ ويوحنا ١: ١٧ وأعمال ٧: ٣٨ و١تيموثاوس ٢: ٥

فَلِمَاذَا ٱلنَّامُوسُ أي فإن قال المعترض بناء على قولنا لا تبرير بالناموس ولا خلاص به «ألا يستلزم ذلك أن الناموس بلا نفع». وجواب هذا السؤال ألجأ بولس أن يوضح النسبة بين الناموس الموسوي والدين المسيحي فذكر أربعة أمور تتعلق بالناموس.

الأول: إن غايته الكف عن الخطيئة لا إنشاء القداسة.

الثاني: إنه وقتي تمهيدي.

الثالث: إنه أُعطي بواسطة الملائكة وموسى.

الرابع: إن حفظه متوقف على عمل الإنسان القابل السقوط.

قَدْ زِيدَ أي أنه لم يكن جزءاً من الوعد أُضيف إليه وإلا خالف ما قاله في الآية الخامسة عشرة من منع الزيادة. فإذا كان دخوله عرضاً مستقلاً بنفسه اعترض بين الوعد والإنجاز تمهيداً للوفاء به وبيان شدة الاحتياج إليه.

بِسَبَبِ ٱلتَّعَدِّيَاتِ لا نعرف كل أنواع هذا السبب ولكننا نذكر أعظمها وهي أربعة:

الأول: منع وقوع التعديات أو كف الناس عن ارتكابها كقوله «عَالِماً هٰذَا: أَنَّ ٱلنَّامُوسَ لَمْ يُوضَعْ لِلْبَارِّ، بَلْ لِلأَثَمَةِ وَٱلْمُتَمَرِّدِينَ، لِلْفُجَّارِ وَٱلْخُطَاةِ، لِلدَّنِسِينَ وَٱلْمُسْتَبِيحِينَ، لِقَاتِلِي ٱلآبَاءِ وَقَاتِلِي ٱلأُمَّهَاتِ، لِقَاتِلِي ٱلنَّاس… وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ آخَرُ يُقَاوِمُ ٱلتَّعْلِيمَ ٱلصَّحِيحَ» (١تيموثاوس ١: ٩ و١٠).

الثاني: بيان العقاب للمتعدين وبذلك تستيقظ ضمائرهم وتنشأ فيهم الرغبة في الفداء.

الثالث: تكثير التعديات على وفق قوله «وَأَمَّا ٱلنَّامُوسُ فَدَخَلَ لِكَيْ تَكْثُرَ ٱلْخَطِيَّةُ» (رومية ٥: ٢٠). وقوله «لَمْ أَعْرِفِ ٱلْخَطِيَّةَ إِلاَّ بِٱلنَّامُوسِ. فَإِنَّنِي لَمْ أَعْرِفِ ٱلشَّهْوَةَ لَوْ لَمْ يَقُلِ ٱلنَّامُوسُ «لاَ تَشْتَهِ». وَلٰكِنَّ ٱلْخَطِيَّةَ وَهِيَ مُتَّخِذَةٌ فُرْصَةً بِٱلْوَصِيَّةِ أَنْشَأَتْ فِيَّ كُلَّ شَهْوَةٍ. لأَنْ بِدُونِ ٱلنَّامُوسِ ٱلْخَطِيَّةُ مَيِّتَةٌ» (رومية ٧: ٧ و٨ انظر أيضاً ١كورنثوس ١٥: ٥٦) وذلك التكثير ليس من غاية الناموس ولا من تأثيره الذاتي لأن الناموس صالح ومقدس وعادل (رومية ٧: ١٢ و١٤ و٢٢) لكنه من تأثيره في طبيعة الإنسان الفاسدة فهو يحمل تلك الطبيعة على مقاومته وارتكاب المحظورات.

الرابع: بيان حقيقة الخطية وشرها وفظاعتها بمقابلتها بشريعة الله المقدسة وبذلك يتيقن الخطأة شرهم وفظاعة عصيانهم فيريهم عظمة مرضهم تمهيداً لشفائه ببيان افتقارهم إليه ولترغيبهم في المخلص الموعود به طبيباً روحانياً «لأَنَّ ٱلنَّامُوسَ يُنْشِئُ غَضَباً، إِذْ حَيْثُ لَيْسَ نَامُوسٌ لَيْسَ أَيْضاً تَعَدٍّ» (رومية ٤: ١٥). و «لأَنَّ بِٱلنَّامُوسِ مَعْرِفَةَ ٱلْخَطِيَّةِ» (رومية ٣: ٢٠). فبكل من تلك الأنواع ولا سيما الرابع كان الناموس مؤدباً لنا يقودنا إلى المسيح (ع ٢٤) أي ممهداً قلوبنا لقبوله.

إِلَى أَنْ يَأْتِيَ ٱلنَّسْلُ الذي قد وعد به وهو المسيح كما بُيّن في الآية السادسة عشرة. وأراد بقوله «إلى أن يأتي» كل المدة التي من إعطاء الموعد إلى إنجازه بالمسيح. والناموس دخل بينهما معترضاً وأكمل غايته من جهة إيضاح التعديات كما سبق.

مُرَتَّباً بِمَلاَئِكَةٍ واشتراك الملائكة في إعطاء الناموس ظاهر في قول موسى «جَاءَ ٱلرَّبُّ مِنْ سِينَاءَ وَأَشْرَقَ لَهُمْ مِنْ سَعِيرَ وَتَلَأْلَأَ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ، وَأَتَى مِنْ رَبَوَاتِ ٱلْقُدْسِ، وَعَنْ يَمِينِهِ نَارُ شَرِيعَةٍ لَهُمْ» وفي اليونانية «ربوات الملائكة» بدل من «ربوات القدس» في العبرانية (تثنية ٣٣: ٢). وقال استفانوس في خطابه لمجلس اليهود « ٱلَّذِينَ أَخَذْتُمُ ٱلنَّامُوسَ بِتَرْتِيبِ مَلاَئِكَةٍ» (أعمال ٧: ٥٣). وقال الرسول في الرسالة إلى العبرانيين « لأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ ٱلْكَلِمَةُ ٱلَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا مَلاَئِكَةٌ» (عبرانيين ٢: ٢) ولم تكن الملائكة في الناموس سوى آلات لتبليغ الناس إياه ولإعلان الآيات المقترنة به.

فِي يَدِ وَسِيطٍ أي موسى الذي جاء من حضرة الله إلى الشعب حاملاً بيده لوحي الشريعة كقوله «أنا كنت واقفاً بين الرب وبينكم في ذلك الوقت لكي أخبركم بكلام الرب. لأنكم خفتم من أجل النار ولم تصعدوا إلى الجبل». وسمي وسيطاً لتوسطه بين شعب إسرائيل والرب. وظن بعضهم أن الوسيط هنا المسيح هذا ليس بحق لأن المسيح وسيط العهد الجديد لا الناموس (عبرانيين ٨: ٦ و٩: ١٥ و١٢: ٢٤).

٢٠ «وَأَمَّا ٱلْوَسِيطُ فَلاَ يَكُونُ لِوَاحِدٍ. وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ وَاحِدٌ».

رومية ٣: ٢٩ و٣٠

الغاية من هذه الآية أن الناموس لا يبطل الوعد وأنه دون الوعد لكونه وقتياً. واختلف المفسرون في معنى هذه الآية وبلغت أقوالهم فيه ما بين ٢٥٠ و٣٠٠ حتى قال بعضهم أنها ٤٣٠ وسنذكر الذي أنفق عليه الأكثرون.

وَأَمَّا ٱلْوَسِيطُ فَلاَ يَكُونُ لِوَاحِدٍ أي يستحيل أن يكون لواحد إذ وجود الوسيط يستلزم وجود شخصين أو مشيئتين لقطع العهد بينهما وكان للناموس وسيط فإذا كان عهداً بين اثنين هما الله والإنسان وشرطه الطاعة الكاملة من الإنسان فإذا هو عرضة للنسخ بخطيئة الإنسان وقد وقع ذلك.

وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ وَاحِدٌ وهو رب الوعد وهو الذي أعطى الوعد ولم يكن غيره وفعل وحده إذ أعطاه إبراهيم بنفسه دون وسيط وهو لا يتغير. فالوعد ليس من نوع العهد بين فريقين بل هو هبة مجانية وشرطه متعلق بالله وحده فإذاً لا يمكن أن يسقط أو يخلف. والعبارة كقول النبي «إِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ» (تثنية ٦: ٤) ولا منافاة بين قوله هنا وقوله «إن المسيح وسيط» (١تيموثاوس ٢: ٢٥) لأن موضوع كلام بولس هنا الوعد لإبراهيم لا الإنجيل. وعمل المسيح باعتبار كونه وسيطاً يفرق عن عمل موسى باعتبار أنه كذلك فإن المسيح صالح الخصمين المختلفين وجعلهما واحداً بنفسه.

٢١ «فَهَلِ ٱلنَّامُوسُ ضِدَّ مَوَاعِيدِ ٱللّٰهِ؟ حَاشَا! لأَنَّهُ لَوْ أُعْطِيَ نَامُوسٌ قَادِرٌ أَنْ يُحْيِيَ، لَكَانَ بِٱلْحَقِيقَةِ ٱلْبِرُّ بِٱلنَّامُوسِ».

ص ٢: ٢١

كون الناموس دون الوعد لا يستلزم أنه مناف له فإنه كان للناموس غاية خاصة هي تمهيد الطريق لنيل الوعد بالإيمان وإن كان ليس من شأنه أن يهب الحياة أو يبرر الخاطئ. فكان بذلك معيناً للوعد لأنه أثبت على كل الناس أنهم خطأة ومفتقرون إلى المسيح الموعود به.

فَهَلِ ٱلنَّامُوسُ الذي له وسيط.

ضِدَّ مَوَاعِيدِ ٱللّٰهِ التي كانت منه رأساً بلا وسيط. وعبر عن الوعد بالمواعيد جمعاً كما في الآية السادسة عشرة لتكريره مراراً لإبراهيم وسائر الآباء.

حَاشَا كلمة تنزيه لتأكيد النفي أتى بها دلالة على أن الناموس لا يمكن أن ينافي الوعد لأن الله منشئ الناموس كما أنه منشئ الوعد.

لَوْ أُعْطِيَ نَامُوسٌ قَادِرٌ أَنْ يُحْيِيَ كما ذهب إليه الفريسيون وبعض متنصري اليهود وهذا فرض مستحيل كما أبان في (ع ١١ و١٢ وص ٢: ١٦ ورومية ٣: ٢٠) فكون الناموس قانوناً خارجياً مكتوباً بأحرف يمتنع عليه أن يهب الحياة الروحية لأناس موتى بالخطيئة وأن يغير صفاتهم. إن الناموس طاهر صالح مقدس ولا يمكن أن يكون أحسن مما هو لكنه لا يتكفل بأن يهب الحياة ولا البر الذي هو شرطه. فإذا لا منافاة بين الناموس والوعد كأنهما متباريان لنيل غاية واحدة فغاية كل منهما غير غاية الآخر.

لَكَانَ بِٱلْحَقِيقَةِ ٱلْبِرُّ بِٱلنَّامُوسِ أي بالشريعة التي أُعلنت في طور سينا وهي لا يمكن أن يكون أحسن منها فإذا ما أمكن أن يكون البر بها استحال بالأولى أن يكون بشريعة دونها.

٢٢ «لٰكِنَّ ٱلْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى ٱلْكُلِّ تَحْتَ ٱلْخَطِيَّةِ، لِيُعْطَى ٱلْمَوْعِدُ مِنْ إِيمَانِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ».

ع ٨ رومية ٣: ٩ و١٩ و٢٣ و١١: ٣٢ رومية ٤: ١١ و١٢ و١٦

ٱلْكِتَابَ هو شريعة الله المكتوبة والمراد به هنا أسفار العهد القديم كما جاء في (يوحنا ٥: ٣٩).

أَغْلَقَ عَلَى ٱلْكُلِّ تَحْتَ ٱلْخَطِيَّةِ بدلاً من أن يهب البر والحياة الروحية. ومعنى «أغلق الخ» أثبت على كل إنسان من اليهود والأمم أنه تحت سلطة الخطيئة والدينونة كأسرى السجن بلا قوة على الهرب منه. وهذا مثل قوله «لأَنَّ ٱللّٰهَ أَغْلَقَ عَلَى ٱلْجَمِيعِ مَعاً فِي ٱلْعِصْيَانِ لِكَيْ يَرْحَمَ ٱلْجَمِيعَ» (رومية ١١: ٣٢ انظر أيضاً رومية ٣: ٩ و١٩). وهذه العبارة كشف سر العلة لعدم منع دخول الخطيئة إلى العالم وفيها مختصر تاريخ عمل الفداء.

لِيُعْطَى ٱلْمَوْعِدُ أي ما وعد به وسمي في الآية الثامنة عشرة «وراثة». وهو يتضمن الفداء من كل نتائج الخطيئة والحياة الأبدية.

مِنْ إِيمَانِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ فهو موضوع الإيمان وواهبه فالإيمان اليد التي بها يتمسك الخاطئ بالهبة المجانية التي في الموعد. والكلمة ذات الشأن في هذه الآية «ليعطى» وهي بيان أننا لا نستحق شيئاً بأعمال الناموس ولا ننال شيئاً به وأن الموعد هبة مجانية.

لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ «إيمان يسوع المسيح كما ذُكر».

٢٣ «وَلٰكِنْ قَبْلَمَا جَاءَ ٱلإِيمَانُ كُنَّا مَحْرُوسِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، مُغْلَقاً عَلَيْنَا إِلَى ٱلإِيمَانِ ٱلْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ».

في هذه الآية بيان آخر لغاية الناموس.

قَبْلَمَا جَاءَ ٱلإِيمَانُ أي قبل وجود إيمان يسوع المسيح (المذكور في الآية السابعة) في قلوب الناس. ولم يكن له وجود قبل أن أتى المسيح ونادى بإنجيله الذي أنبأ الناس بإتيان المسيح الموعود به ووجوب الإيمان به.

كُنَّا مَحْرُوسِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، مُغْلَقاً عَلَيْنَا كما في (ع ٢٢). ومعنى هذه الآية كمعنى قوله «أَنَّ ٱلنَّامُوسَ يَسُودُ عَلَى ٱلإِنْسَانِ مَا دَامَ حَيّاً. فَإِنَّ ٱلْمَرْأَةَ ٱلَّتِي تَحْتَ رَجُلٍ هِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِٱلنَّامُوسِ بِٱلرَّجُلِ ٱلْحَيِّ. وَلٰكِنْ إِنْ مَاتَ ٱلرَّجُلُ فَقَدْ تَحَرَّرَتْ مِنْ نَامُوسِ ٱلرَّجُلِ… أَمَّا ٱلآنَ فَقَدْ تَحَرَّرْنَا مِنَ ٱلنَّامُوسِ، إِذْ مَاتَ ٱلَّذِي كُنَّا مُمْسَكِينَ فِيهِ» (رومية ٧: ١ و٢ و٦). والخلاصة أن الناموس حارس شديد وتأديبه قوي حتى يستحق أن يسمى عبودية ونضطر أن نطيعه إذ يقول «افعل هذا فتحيا» وأنه كان تمهيداً وقتياً إلى أن يأتي الوقت المعيّن لإعلان الحرية الإنجيلية.

إِلَى ٱلإِيمَانِ ٱلْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ كان الإيمان موجوداً في قضاء الله ومحجوباً عن الناس إلى أن أتى المسيح وبشر به وآمن الناس به. وغاية حراسة الناموس تأهيلنا لنظام الإيمان الآتي.

٢٤ «إِذاً قَدْ كَانَ ٱلنَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى ٱلْمَسِيحِ، لِكَيْ نَتَبَرَّرَ بِٱلإِيمَانِ».

متّى ٥: ١٧ ولوقا ١٦: ١٦ ورومية ١٠: ٤ وكولوسي ٢: ١٧ وعبرانيين ٩: ٩ و١٠ أعمال ١٣: ٣٩ وص ٢: ١٦ وفيلبي ٣: ٩ وعبرانيين ٧: ١٨ و١٩

إِذاً أي ينتج مما قيل في الآية السابقة وفيه شيء من التلميح إلى ما سيذكره في (ع ٢٦) من كوننا أبناء الله.

ٱلنَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا الكلمة اليونانية المترجمة «بمؤدب» هي παιδαγωγος (بيداغوغس) ومعناها الخادم الأمين الذي كانوا في الأيام القديمة يكلون إليه الولد منذ الطفولة إلى أن يكون رشيداً فيحميه من الضرر الجسدي والأدبي ويرافقه من البيت إلى المدرسة ومن المدرسة إلى البيت ويعده لحرية الشبيبة والرشد والعمل. وكان ينتهي عمل المؤدب حين يبلغ الولد رشده ويكون أهلاً للحرية. وليس المراد أن ناموس موسى وحده مؤدبنا بل الناموس الأدبي العام المعلن في الخليقة والضمير والكتاب.

إِلَى ٱلْمَسِيحِ الخ ليس المراد من هذا أن يسوع هو بمنزلة المعلم الذي كان المؤدب يقود الولد إليه في الطفولة لأن ليس من غاية الرسول هنا أن يشير إلى تعليم المسيح بل المراد الإشارة إلى كون المسيح أعظم من الناموس فالناموس يسلمه إلى المسيح متى أعده لذلك. فوجوده تحت تأديب الناموس وسلطته أفضل استعداد له لإطاعته المسيح المبنية على المحبة ولضبطه نفسه وفي ذلك الحرية الفضلى. ولما ارتقى الإنسان عن حراسة الناموس إلى حرية المسيح صار عضواً من ملكوت المسيح وتبرر بالإيمان وغُفرت خطاياه الماضية وحُسب باراً عند الله. إن الناموس يقودنا إلى المسيح لأنه يأمرنا بطاعة لا نستطيعها وينذرنا بالعقاب على عصياننا وبذلك يحملنا على الالتجاء إلى المسيح الذي قام بكل ما يجب علينا واحتمل القصاص عن خطايانا ووهب لنا مجاناً البر والحياة الأبدية التي طلبناهما من الناموس عبثاً.

٢٥ «وَلٰكِنْ بَعْدَ مَا جَاءَ ٱلإِيمَانُ لَسْنَا بَعْدُ تَحْتَ مُؤَدِّبٍ».

بَعْدَ مَا جَاءَ ٱلإِيمَانُ أي الإيمان بالمسيح الذي هو جوهر الوعد الذي كان الناموس إعداداً له وهو «غاية الناموس وتكميله».

لَسْنَا بَعْدُ تَحْتَ مُؤَدِّبٍ لأن الناموس إعدادي فهو وقتي فمتى اتحد المسيحي بالمسيح بالإيمان تبرر وتحرر من دينونة الناموس وشكواه وصار يعمل باختياره ما كان يجبره عليه الناموس ولا يقوم هو به.

٢٦ «لأَنَّكُمْ جَمِيعاً أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ بِٱلإِيمَانِ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ».

يوحنا ١: ١٢ ورومية ٨: ١٤ إلى ١٦ وص ٤: ٥ و١يوحنا ٣: ١ و٢ ورؤيا ٢١: ٧

هذه الآية بيان أننا لا نحتاج بعد إلى مؤدب.

جَمِيعاً من مؤمني اليهود والأمم.

أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ راشدون من أهل بيت الله لا أطفال يحتاجون إلى مؤدب يرشدهم ولهم كل حقوق الأبناء الراشدين في بيت أبيهم محررون من حراسة الناموس المختصة بالطفولة وقد أصابوا الحرية التامة. فالولادة الجديدة حين آمنوا جعلتهم أبناء «وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ، بَلْ مِنَ ٱللّٰهِ» (يوحنا ١: ١٢ انظر أيضاً ١يوحنا ٣: ١ و٢ و١٠).

بِٱلإِيمَانِ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أي حصلنا على البنوة لله بواسطة الإيمان بالمسيح المخلص. فالإيمان عمل حر راشد يحصل به المؤمن على اتحاد محي بالمسيح.

٢٧ «لأَنَّ كُلَّكُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَمَدْتُمْ بِٱلْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ ٱلْمَسِيحَ».

رومية ٦: ٣ رومية ١٣: ١٤

ٱعْتَمَدْتُمْ بِٱلْمَسِيحِ المعمودية رسم خارجي يدل على فعل داخلي. وهي من جهة المؤمن علامة وقفه نفسه لخدمة الله (رومية ٦: ٣ و٤) وقبوله المسيح مخلصاً له. ومن جهة الله علامة مغفرته خطايا المؤمن وتجديده إياه بالروح القدس وختم اتحاده بالمسيح بالإيمان. وقوله «اعتمدتم بالمسيح» كقوله «اعتمدتم ليسوع المسيح» (رومية ٦: ٣). وقول المسيح «عَمِّدُوهُمْ بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلٱبْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (متّى ٢٨: ١٩).

قَدْ لَبِسْتُمُ ٱلْمَسِيحَ حين اعتمدتم. ومعنى هذا كمعنى قوله «أَنْ تَخْلَعُوا مِنْ جِهَةِ ٱلتَّصَرُّفِ ٱلسَّابِقِ ٱلإِنْسَانَ ٱلْعَتِيقَ ٱلْفَاسِدَ… وَتَتَجَدَّدُوا بِرُوحِ ذِهْنِكُمْ، وَتَلْبَسُوا ٱلإِنْسَانَ ٱلْجَدِيدَ» (أفسس ٤: ٢٢ – ٢٤). وقوله «إِذْ خَلَعْتُمُ ٱلإِنْسَانَ ٱلْعَتِيقَ مَعَ أَعْمَالِهِ، وَلَبِسْتُمُ ٱلْجَدِيدَ ٱلَّذِي يَتَجَدَّدُ لِلْمَعْرِفَةِ حَسَبَ صُورَةِ خَالِقِهِ» (كولوسي ٣: ٩ و١٠).

وهذه الآية تتضمن أمرين:

الأول: إنه بواسطة معمودية الروح التي معمودية الماء علامة لها وختم نولد ثانية وننتقل من عبودية الناموس ودينونته إلى الاتحاد الحي بالمسيح. فالبنوة لله لأن المسيح ابن الله «لأَنَّ كُلَّ ٱلَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ ٱللّٰهِ فَأُولٰئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ» (رومية ٨: ١٤).

الثاني: إن المسيح بتعميده إيانا بالروح القدس يجعل النعمة الداخلية على وفق العلامة الخارجية.

إن الله لم يقصد أن تكون أسرار الكنيسة مجرد علامات فارغة بل قصد أن تقترن بالمرموز بها إليه. فعلينا أن نتوقع ذلك حسب وعده إذا أتيناها بإخلاص النية والمعرفة الكافية لإدراك ما يشار إليه بها. والمعمودية تمارس مرة واحدة ولا تكرر وأما المؤمن المسيحي المعتمد فلبس المسيح حين تعمده ويستمر كذلك كل يوم فيجتهد في أن يبلغ الاتحاد الكامل به والمشابهة له.

٢٨ «لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعاً وَاحِدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ».

رومية ١٠: ١٢ و١كورنثوس ١٢: ١٣ وص ٥: ٦ وكولوسي ٣: ١١ يوحنا ١٠: ١٦ و١٧: ٢٠ وأفسس ٢: ١٤ إلى ١٦ و٤: ٤ و١٥

كون كل المؤمنين أولاد الله يجعلهم متساوين ويبطل أمام الله كل الامتيازات المتعلقة بالأصل والمقام والجنس ويجعلهم سواء باعتبار كونهم أعضاء كنيسة المسيح. والكلام هنا ليس مجرد خبر بأمر واقع بل تصريح أيضاً بأنه لا يجوز أن لا يكون كذلك بدليل قول يعقوب الرسول «يَا إِخْوَتِي، لاَ يَكُنْ لَكُمْ إِيمَانُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، رَبِّ ٱلْمَجْدِ، فِي ٱلْمُحَابَاةِ.َ.. وَلٰكِنْ إِنْ كُنْتُمْ تُحَابُونَ تَفْعَلُونَ خَطِيَّةً» (يعقوب ٢: ١ و٩). وهذا القانون في الدينيات لا في السياسيات والمدنيات. والإنجيل صرّح بأن كل الناس خطأة أمام الله على السواء وأنهم مفتقرون إلى نعمة الفداء كذلك وقد رفع النساء والعبيد إلى مقامهم الواجب والتمتع بكل ما يحق لهم لا دفعة ينشأ عنها الهياج والانقلاب بل تدريجاً بأن قرب قلوب ببعض الناس من بعض وأقنعهم بأن كل البشر إخوة.

لَيْسَ يَهُودِيٌّ أي بخلاف ظن اليهود أنهم أفضل البشر لأن الله فضلهم على سائر الناس (رومية ١٠: ١٢ و١كورنثوس ١٢: ١٣ وكولوسي ٣: ١١).

وَلاَ يُونَانِيٌّ تفرق اليونانيون على أثر فتوحات اسكندر الكبير في كل العالم المعروف وقتئذ وانتشرت اللغة اليونانية كذلك وسمى اليهود كل من ليس منهم يونانياً فكان الأمم واليونانيون مترادفين عندهم. فيكون المراد من اليهود واليونان جميع الناس كالمراد من كل اثنتين من الكلمات الآتية فإن كل الامتيازات أُبطلت بمقتضى الإنجيل حين صرنا أبناء الله بالإيمان بالمسيح.

لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ إن العبيد لم يكونوا في عصر بولس مساوين للأحرار ولكن الإنجيل صرّح بأن لهم كل ما للأحرار من الحقوق الدينية (١كورنثوس ٧: ٢١ و٢٢ وأفسس ٦: ٨).

لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى إنه كان للذكور في شريعة موسى ما ليس للإناث من الحقوق الروحية وأما الإنجيل فجعل حقوق الفريقين متساوية. والتمييز بين الذكر والأنثى طبيعي فجعله الرسول في منزلة التمييزين البشريين المذكورَين آنفاً.

وَاحِدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أي في الإيمان به. وهذا مثل قوله في المسيح «لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلٱثْنَيْنِ وَاحِداً، وَنَقَضَ حَائِطَ ٱلسِّيَاجِ ٱلْمُتَوَسِّطَ» (أفسس ٢: ١٤). إن الكنيسة جسد واحد رأسه المسيح (أفسس ٤: ١٥ و١كورنثوس ١٢: ١٥).

٢٩ «فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ فَأَنْتُمْ إِذاً نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ، وَحَسَبَ ٱلْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ».

تكوين ٢١: ١٠ و١٢ ورومية ٩: ٧ وعبرانيين ١١: ١٨ رومية ٨: ١٧ وص ٤: ٧ و٢٨ وأفسس ٣: ٦

هذه الآية نتيجة احتجاج الرسول في اثنتين وعشرين آية سبقت في هذا الأصحاح إثباتاً لقوله «ٱعْلَمُوا إِذاً أَنَّ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنَ ٱلإِيمَانِ أُولَئِكَ هُمْ بَنُو إِبْرَاهِيمَ» (ع ٧) أي أن المؤمنين بالمسيح هم أولاد إبراهيم الحقيقيين وورثة الوعد لأن المسيح هو نسل إبراهيم الحقيقي وأن المؤمنين به متحدون به فصاروا واحداً وقد لبسوا المسيح وهذا يحقق كونهم نسل إبراهيم الروحي وورثة كل البركات التي يتضمنها الوعد.

فوائد

  • إن الذين يتوقعون الخلاص بطريق غير طريق الإيمان بالمسيح هم مخدوعون كل الخداع (ع ١).
  • إن قول الإنسان لأخيه «يا غبي» على سبيل الهزء والإهانة يعرّضه للدينونة بدليل قول المسيح في بشارة متى (متى ٥: ٢٢) لكنه لا يكون كذلك إذا قال له هذا على سبيل الحزن والشفقة عليه لما يعتريه من العماية الروحية الاختيارية والرغبة في أن يكون مستنيراً ويرجع عن غباوته (ع ١).
  • إنه في أسفار العهد القديم بُشّر اليهود بالمسيح بواسطة رموز وإشارات ونبوءات يلتبس معناها لكنه في الإنجيل جاء الجوهر بدل الظل والمرموز إليه بدل الرمز والحقيقة بدل الرسم والمتنبأ به بدل النبوءة وأوضح كل ما كان مبهماً من أمور ملكوته وتعليمه والنجاة بواسطته (ع ١).
  • إن الطريق الوحيدة لنيل الروح القدس «خبر الإيمان» أي التبشير بالإنجيل ويشهد الروح بذلك. ومن بدء الخليقة إلى الآن لم ينل أحد ذلك الروح بالإصغاء إلى خبر الأعمال الصالحة ووجوب الطاعة للناموس (ع ٢).
  • إن البداءة الحسنة في أمر ممدوح لا تكفي فيجب على البادئ أن يستمر على العمل فباطلاً نتوقع الخلاص إذا ابتدأنا السير في طريق الإيمان بالمسيح وإرشاد الروح ثم عدلنا عن ذلك إلى طلب خلاصنا بأعمالنا الصالحة. فبداءة الحياة المسيحية ونهايتها وما بينهما ذلك كله بالإيمان (ع ٣).
  • إن تأثيرات الإنجيل العجيبة في الإنسان من أحسن الأدلة على كونه من الله (ع ٥).
  • إن توقع التبرير مما هو علة الدينونة من أفظع أنواع الجهل. فمتوقعه كذلك كمن يتوقع الدفء من جليد القطب الشمالي والبرودة من لهيب الأتون (ع ١٠).
  • إن كون التبرير بالإيمان لا بأعمال الناموس من تعليم العهد القديم كما أنه من تعليم العهد الجديد (ع ١١).
  • إن عهد الله لإبراهيم بُني على المسيح وثُبت به فالناموس الذي أُعطي بعد ذلك لم يُقصد به تغيير مطاليب الناموس وعظمتها إذا رغبوا في أن يخلصوا بالطاعة له ويحملهم على أن يطلبوا بواسطة العهد البركات التي عجزوا عن نيلها بالناموس (ع ١٧).
  • إنه لا يجوز أن نفهم بالناموس كل العهد القديم ولا أن نفهم بالإنجيل العهد الجديد وحده ولا أن نقول بما أن المسيح أتى وهو غاية الناموس والإنجيل حل محل الناموس لم يبق من حاجة إلى العهد القديم لأن المراد بالناموس الذي أُبطل هو المبدأ أن الخاطئ يخلص بقيامه بالأعمال التي يطلبها الناموس. فالعهد الجديد يثبت الناموس باعتبار كونه قانون الحياة كما يثبته العهد القديم مع أنه ينفي إمكان نيل الخلاص بواسطته. وفي العهد القديم تصريح بالخلاص المجاني كما في العهد الجديد. والفرق بين العهدين أنه في العهد القديم أُعلن الإنجيل برموز ووعد فكان محجوباً شيئاً وفي العهد الجديد أُعلن كل الإعلان والروح القدس أُعطي ليكتب الإنجيل على قلوب المؤمنين فكلاهما من مصدر واحد وإنجيلهما واحد وما جمعهما في إعلانه المقدس لا يفرقهما إنسان (ع ٢٥).
  • إننا إذا لبسنا ثوباً كان حينئذ لنا ما نستر به عيوننا ونزين أجسادنا فبر يسوع المسيح رداؤنا الحسن متى لبسناه سترت خطايانا واحتمينا به من غضب الله وتزينا به أمامه تعالى بحلية المسيح (ع ٢٧).
  • إن المعمودية آية اتحادنا بالمسيح بالإيمان وبنوتنا لله ودخولنا ملكوته. والذي عبر عنه بولس «بالإيمان» في (ع ٢٦) عبر عنه «بالمعمودية» في (ع ٢٧). وهذا دليل على أنه لا يمكن أن نتصور إيماناً لا يحمل المؤمن على المعمودية ولا أن نتصور معمودية بلا إيمان (ع ٢٦ و٢٧).
السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى