الرسالة إلى غلاطيّة| 02 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة إلى غلاطيّة
للدكتور . وليم إدي
اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّانِي
بيان دعوته وسلطته الرسوليتين ومحاماته عنهما من أعدائه ع ١ إلى ١٠
ذكر الرسول في هذا الأصحاح زيارته مرة أخرى لأورشليم وأبان أن كل ما حدث له هناك برهان على استغنائه عن سائر الرسل بمعرفة الدين المسيحي إذ قبلوه مساوياً لهم واعتبروه رسول الأمم.
١ «ثُمَّ بَعْدَ أَرْبَعَ عَشَرَةَ سَنَةً صَعِدْتُ أَيْضاً إِلَى أُورُشَلِيمَ مَعَ بَرْنَابَا، آخِذاً مَعِي تِيطُسَ أَيْضاً».
أعمال ١٥: ٢
بَعْدَ أَرْبَعَ عَشَرَةَ سَنَةً لم نتبين من هذه الرسالة بداءة هذه المدة فهل هي بعد تنصره أو بعد زيارته التي ذكرها لكن بمقابلته ما أنبأ به هنا بما قاله لوقا في سفر الأعمال يظهر أنها كانت بعد تنصره وأن تلك الزيارة كانت في زمن المجمع الأول من مجامع الكنيسة (أعمال ١٥) وكان هذا المجمع في سنة ٥٠ ب. م فيكون تنصره سنة ٣٦ ب. م.
ولم يقل صعدت ثانية لأن صعوده هذا كان الثالث وكان الثاني في سنة ٤٥ ب. م أي بعد تسع سنين من تنصره ولم يذكرها للغلاطيين لأنه لم يكن من غرضه في ما كتبه إليهم أن يذكر كل زياراته لأورشليم بل ما كان منها يستلزم مخالطة الرسول وفي زيارته الثانية لم يكن له من فرصة لمخالطتهم لأنه أتى حينئذ مع برنابا لتقديم ما جمعه من الصدقات لفقراء أورشليم من كنيسة أنطاكية (أعمال ١١: ٣٠). ويظهر من كلام لوقا في سفر الأعمال أن ذلك كان في أثناء اضطهاد هيرودس للكنيسة وكان بطرس يومئذ في السجن وكان يعقوب أخو يوحنا قد قُتل وأن يعقوب أخا الرب كان حينئذ مختبئاً على ما يظهر (أعمال ١٢: ١٧) وأن بطرس اختبأ أيضاً بعد أن أُنقذ من السجن (أعمال ١٢: ١٧ – ١٩) فالمرجّح أنه وضع الصدقة التي أتى بها عند أمناء من المؤمنين ورجع حالاً آخذاً يوحنا مرقس معه بدون أن يشاهد أحداً من الرسل فلم يكن من داع لذكر هذه الزيارة في هذه الرسالة.
بَرْنَابَا ذكر أولاً أنه «ابن التعزية» وأنه كان كريماً (أعمال ٥: ٣٦). وأنه عرّف بولس بالرسل وبعض المؤمنين في أورشليم (أعمال ٩: ٢٧). وأنه بعد ما بشر مؤمنو القيروان وقبرس الأمم في أنطاكية وبلغ ذلك كنيسة أورشليم أرسلته ليرى ما حدث هناك فسر كثيراً بانتشار الإنجيل بينهم وأنه ذهب بعد ذلك إلى طرسوس وأتى ببولس ليساعده على التبشير في أنطاكية (أعمال ١١: ٢٢ – ٢٦). وأنه أتى بالصدقات مع بولس إلى أورشليم سنة ٤٥ (أعمال ١١: ٣٠). وأنه على أثر رجوعه تعيّن من كنيسة أنطاكية بأمر الروح القدس ليبشر الأمم فذهب مع بولس في سفره الأول للتبشير سنة ٤٥ ب. م وأنه عند رجوعهما مكث مدة في أنطاكية. ثم أُرسل مع غيره من كنيسة أنطاكية إلى أورشليم ليستشير الرسل والمشايخ في أنه هل يجب أن يختتن مؤمنو الأمم أولاً. ومدة ذلك هي المدة المشار إليها في هذه الآية.
تِيطُسَ كان من جملة من عُينوا رفقاء لبولس وبرنابا (أعمال ١٥: ٢) وذُكر هنا مقدمة لما في الآية الثالثة. ولم يذكره لوقا باسمه في أعمال الرسل والذي نعلمه من أمره إنه يوناني الأصل لا يهودي وإنه لم يختتن على أثر إيمانه وأن بولس أعزه كثيراً ودعاه شريكاً وعاملاً معه (٢كورنثوس ٨: ٢٣). وأنه كان مع بولس في أفسس سنة ٥٦ ب. م وأرسله إلى كورنثوس نائباً عنه وانتظر رجوعه إليه بشوق في ترواس (٢كورنثوس ٢: ١٣) ولكنه لم يتربص إلى أن يأتي فذهب لملاقاته في مكدونية واجتمع به هناك (٢كورنثوس ٦: ٧ و١٣ – ١٥). ثم أرسله ثانية إلى كورنثوس برسالته الثانية إليها وكلفه أن يحث المؤمنين على أن يسرعوا في جمع الصدقات لفقراء أورشليم. ومن ثم لم يسمع شيئاً من نبإه إلا في أثناء المدة بين سجن بولس المرة الأولى والمرة الثانية في رومية وكان وقتئذ في كريت (تيطس ١: ٥) وتركه بولس هناك. وبعد هذا كتب إليه رسالة تبين منها أن بولس توقع أن يجتمع به في نيكابوليس ويشتي معه. ولم يقل أن ذلك تم أولاً لكن نستنتج أنه تم لأنه كتب إلى تيموثاوس من رومية أيام سجنه الثاني أنه أرسل تيطس إلى دلماطية وهي شمالي نيكابوليس وعلى مقربة منها (٢تيموثاوس ٤: ١٠).
٢ «وَإِنَّمَا صَعِدْتُ بِمُوجَبِ إِعْلاَنٍ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمِ ٱلإِنْجِيلَ ٱلَّذِي أَكْرِزُ بِهِ بَيْنَ ٱلأُمَمِ، وَلٰكِنْ بِٱلٱنْفِرَادِ عَلَى ٱلْمُعْتَبَرِينَ، لِئَلاَّ أَكُونَ أَسْعَى أَوْ قَدْ سَعَيْتُ بَاطِلاً».
أعمال ١٥: ١٢ ع ٦ فيلبي ٢: ١٦ و١تسالونيكي ٣: ٥
بِمُوجَبِ إِعْلاَنٍ ذكر ذلك لبيان أنه لم يصعد ليستشير الرسل ويتعلم منهم ويثبتوا رسوليته ولبيان أهمية الأمر الذي صعد لأجله وهو أنه هل يجب على مؤمني الأمم أن يقوموا بالرسوم الموسوية. ولا منافاة في ما قيل هنا من أمر الإعلان لما قيل في أعمال الرسل إن كنيسة أنطاكية أرسلته لاحتمال أن يكون الإعلان علة نصحه للكنيسة أن ترسل لجنة إلى أورشليم هو واحد منها. كذلك دُعي بطرس ليذهب من يافا إلى قيصرية بواسطة رؤيا من السماء وبواسطة مرسلين من قبل كرنيليوس (أعمال ١٠: ٨ و٢٠).
وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمِ أي على أعضاء كنيسة أورشليم في خطبة عامة (أعمال ١٥: ٤).
ٱلإِنْجِيلَ ٱلَّذِي أَكْرِزُ بِهِ بَيْنَ ٱلأُمَمِ أتى هذا ليبيّن أنه إلى زمان المجمع كان يبشر بالتعليم الذي علمه الغلاطيون وظل يعلّمه إلى الوقت الذي كتب فيه هذه الرسالة والأمر ذو الشأن في هذا التعليم أن التبرير بالإيمان لا بأعمال الناموس.
بِٱلٱنْفِرَادِ عَلَى ٱلْمُعْتَبَرِينَ أبان في الآية التاسعة من هم هؤلاء المعتبرون. ويظهر من هذه الآية أن بولس وبرنابا وبعض الرسل والمشائخ اجتمعوا اجتماعاً سرياً قبل المجمع العام ليعطوا فرصة لهما أن يقصا بالتفصيل أبناء أعمالهما ويبينا أسباب أنهما لم يوجبا على متنصري الأمم أن يختتنوا عندما يعتمدون وكيف أن الله أظهر رضاه بتصرفهما بمنحه الأمم مواهب الروح القدس. فلو حضرا المجمع العام بدون ذلك الاجتماع السري لربما حدث صراخ وضجيج ومقاومة ممن رغبوا في إلزام الأمم بالقيام برسوم الشريعة الموسوية فمنعهم من ذلك من حق النظر في المسئلة. فنتج من الاجتماع السري أن الذين حضروه اقتنعوا بجودة تصرف بولس. ففي المجمع العام جاهر بطرس ويعقوب بتصديق كل ما علّمه وعمله فحصل تصديق الباقين لذلك بلا صراخ ولا ضجيج وأجمعوا على الحكم. واقتصر لوقا في سفر الأعمال على ذكر المجمع العام وبولس لم يذكر هذا المجمع لشهرة أمره فاكتفى بذكر الاجتماع الانفرادي وموافقة الرسل له.
لِئَلاَّ أَكُونَ أَسْعَى ألخ لو حدث صراخ وضجيج في الكنيسة لم يكن فرصة لحق النظر في الأمر وامتنع على الكنيسة والرسل أن يعرفوا حقيقة تصرف بولس وعلة عدم طلبه من متنصري الأمم أن يختتنوا فنشأ عن ذلك أن يحكموا بأن تصرفه كان خطأ وأوجبوا على مهتدي الأمم حفظ الرسوم الموسوية. فلم يخش بولس أنه كان مخطئاً في تعليمه لعلمه أن الروح القدس كان يرشده ويبلغه تعليم المسيح نفسه إنما خشي أن لا تكون له فرصة لبسط حقيقة الأمر أمام الكنيسة فلا يدركوه حق الإدراك فيظن الأعضاء والرسل أنه «سعى باطلاً». وعبر عن تصرفه «بالسعي» إيماء إلى الألعاب اليونانية البرزخية التي يسعى المتبارون بها في السباق لكي ينال السابق الجعالة (فيلبي ٢: ١٦ و٢تيموثاوس ٤: ٧). فسعى بولس مثلهم لكي يحصل للأمم التحرير من رق الناموس. وهذا ما طلبه وحصل مؤمني الأمم شكوك ومخاوف واضطرابات ومنع تقدم الإنجيل في الأمم.
٣ «لٰكِنْ لَمْ يَضْطَرَّ وَلاَ تِيطُسُ ٱلَّذِي كَانَ مَعِي، وَهُوَ يُونَانِيٌّ، أَنْ يَخْتَتِنَ».
هذه الآية والاثنتان اللتان بعدها كلام معترض بين الآية الثانية والسادسة. وذُكرت خلاصة مباحث المجمع في الآية السابعة وغاية الرسول ما جاء به من كلام المعترض أن كنيسة أورشليم والرسل لم يتعرضوا له في تصرفه بأمر متنصري الأمم.
لٰكِنْ لَمْ يَضْطَرَّ وَلاَ تِيطُسُ الخ أي أنه بدلاً من أن يحكموا أني سعيت باطلاً وبوبخوني ويأبوا عملي لم يوجبوا على تيطس أن يختتن وهو مولود وثنياً وكان رفيقي وشريكي في التبشير وذلك مما يظهر للبعض أنه يوجب عليه الختان أكثر مما يوجبه على سواه. ولنا من الآيتين الآتيتين والآية الخامسة من الأصحاح الخامس عشر من سفر الأعمال أنه كان في الكنيسة قوم متعصبون في الرسوم الموسوية وقد ألحوا كثيراً في طلب اختتان تيطس إثباتاً لرأيهم بوجوب ختان المتنصرين من الأمم.
٤ «وَلٰكِنْ بِسَبَبِ ٱلإِخْوَةِ ٱلْكَذَبَةِ ٱلْمُدْخَلِينَ خُفْيَةً، ٱلَّذِينَ دَخَلُوا ٱخْتِلاَساً لِيَتَجَسَّسُوا حُرِّيَّتَنَا ٱلَّتِي لَنَا فِي ٱلْمَسِيحِ كَيْ يَسْتَعْبِدُونَا».
أعمال ١٥: ١ و٢٤ و٢كورنثوس ١١: ٢٦ ص ٣: ٢٥ و٥: ١ و١٣ و٢كورنثوس ١١: ٢٠ وص ٤: ٣ و٩
أبان بولس في هذه الآية أمرين الأول سبب طلب البعض اختتان تيطس وهو سد أفواه المعترضين والثاني إباؤه أن يختنه لا لأن الاختتان محرم فإنه ختن تيموثاوس على أثر تنصره (أعمال ١٦: ٣) لكن أتى ذلك اختياراً لا اضطراراً ولعله كان يختن تيطس كذلك لولا أن الإخوة الكذبة طلبوا بذلك بناء على زعمهم أنه ضروري للخلاص فلو سلم بذلك لطفاً وتسكيتاً للمعترضين لادعوا أن الختان واجب على الجميع بمقتضى حكم الرسل والكنيسة وكانت نتيجة ذلك وجوبه على كل متنصري الأمم وكذا وجوب كل الرسوم الموسوية فبطل أن يكون التبرير بمجرد الإيمان.
ٱلإِخْوَةِ ٱلْكَذَبَةِ يجب أن نميز بين هؤلاء وبين الإخوة الضعفاء الذين كان بولس يحتملهم دائماً ويعلمهم ويتساهل معهم في العرضيات بغية تسكين ضمائرهم المضطربة (رومية ص ١٤ وص ٥: ١ – ٣). وكان هؤلاء الإخوة الكذبة من الفريسيين قد تنصروا ظاهراً لا باطناً فتظاهروا بأنهم مؤمنون بالمسيح لكي يُبقوا المسيحيين تحت نير العبودية الناموسية.
ٱلْمُدْخَلِينَ خُفْيَةً أي خدعوا الكنيسة بتظاهرهم أنهم مسيحيون فأدخلتهم في شركتها.
دَخَلُوا ٱخْتِلاَساً أي بدون حق لأنهم فريسيون في الباطن.
لِيَتَجَسَّسُوا حُرِّيَّتَنَا أي ليعرفوا مقدار ما للمؤمنين في الكنيسة من الحرية في استعمال الرسوم الموسوية أو تركها بغية أن يسلبوهم تلك الحرية كما يدل عليه قوله «كي يستعبدونا».
ٱلَّتِي لَنَا فِي ٱلْمَسِيحِ إن المؤمنين بالمسيح متحدون به بإيمان حي ومحررون من رق الناموس لأن المسيح أكمل الناموس بكل حروفه ونقطه (متّى ٥: ١٨ ورومية ١٠: ٤) وبذلك اشترى لشعبه الحرية من ثقل الناموس الرمزي وأبطل تمييز بعض الناس على بعض وجعل المؤمنين من كل أمة سواء في حقوق الملكوت السماوي. فلا حرية حقة إلا بالمسيح وبدونه كل البشر عبيد الخطيئة (يوحنا ٨: ٣٢ – ٣٦ ورومية ٥: ١ – ١٢).
كَيْ يَسْتَعْبِدُونَا أي يستعبدوا كل الكنيسة المسيحية للرسوم الموسوية. وكانت غاية أولئك الكذبة من تجسسهم أن يعرفوا إلى أي حد عدل المسيحيون عن رسوم الناموس لكي يشتكوا عليهم ويردوا متنصري اليهود إلى تحت النير العتيق ويجبروا مؤمني الأمم على حمله.
٥ «ٱلَّذِينَ لَمْ نُذْعِنْ لَهُمْ بِٱلْخُضُوعِ وَلاَ سَاعَةً، لِيَبْقَى عِنْدَكُمْ حَقُّ ٱلإِنْجِيلِ».
ع ١٤ وص ٣: ١ و٤: ١٦
ٱلَّذِينَ لَمْ نُذْعِنْ لَهُمْ… وَلاَ سَاعَةً لم يسلم بولس البتة بختن تيطس إجابة لطلب أولئك الدعاة الكذبة لأنهم طلبوا ذلك بناء على أن الختان ضروري للخلاص فأبطلوا بذلك كون التبرير بمجرد الإيمان. قبل بولس أن يكون يهودياً ليخلص اليهود (١كورنثوس ٩: ٢٠ – ٢٢) ولكن ذلك تسليم حبي في أمر عرضي لم يتعلق بشيء من مبادئ الدين الجوهرية. ولو سلم لهم بأن يختن تيطس لكان قد خان الإنجيل وسلب متنصري الأمم الحرية التي اشتراها المسيح لهم.
لِيَبْقَى عِنْدَكُمْ حَقُّ ٱلإِنْجِيلِ أي معكم أيها المؤمنون من الأمم في غلاطية. إنكم رضيتم أن تتركوا حريتكم وأنا راغب في أن تحفظوها لنفعكم. والمراد «بحق الإنجيل» هنا هو كون خلاصهم بالمسيح باعتبار كون المسيح علة الخلاص الوحيدة الكافية وذلك يكون بالإيمان به لا بأعمال الناموس (ص ١: ٦).
٦ «وَأَمَّا ٱلْمُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ شَيْءٌ، مَهْمَا كَانُوا، لاَ فَرْقَ عِنْدِي: اَللّٰهُ لاَ يَأْخُذُ بِوَجْهِ إِنْسَانٍ فَإِنَّ هٰؤُلاَءِ ٱلْمُعْتَبَرِينَ لَمْ يُشِيرُوا عَلَيَّ بِشَيْءٍ».
ص ٦: ٣ أعمال ١٠: ٣٤ ورومية ٢: ١١ ٢كورنثوس ١٢: ١١
هذه الآية متعلقة بالآية الثالثة وما بينهما كلام معترض جيء به بياناً لأمر تيطس.
ٱلْمُعْتَبَرُونَ الذين حسبوا الكنيسة في الغالب رؤساءها ولعل الإخوة الكذبة قد علموا الغلاطيين أنهم كذلك. وسموا في الآية التاسعة «أعمدة» وفي رسالة كورنثوس الثانية «فائقي الرسل» (٢كورنثوس ١١: ٥ و١٢) وهم بطرس ويوحنا ويعقوب.
مَهْمَا كَانُوا، لاَ فَرْقَ عِنْدِي ما كان بولس في أمر الدين يكترث برأي بشر لرفعة مقامه أو لمشاهدته المسيح عياناً وسمعاً (٢كورنثوس ٥: ١٦) أو لاعتبار الكنيسة إياه. إنه لم يستخف بسائر الرسل ولكن أراد أن يظهر عدم رضاه بالاعتبار الزائد الذي وجهه المعلمون الكاذبون إلى بعض الرسل إهانة لبولس وإثباتاً لآراء الذين نسبوا إلى أولئك الرسل إيجاب حفظ الرسوم الموسوية وغايتهم إبطال قول بولس بأن حفظ الرسوم الموسوية لا ينفع المؤمنين بالمسيح شيئاً.
اَللّٰهُ لاَ يَأْخُذُ بِوَجْهِ إِنْسَانٍ أي إنه لا ينظر إلى أمور الإنسان الظاهرة كمقامه وسلطته بقطع النظر عن استحقاقه في الباطن (أعمال ١٠: ٤ و٣٤ ورومية ٢: ١١ وأفسس ٦: ٩ وكولوسي ٣: ٢٥). فإنه لم يعتبر أن أولئك الرسل أعظم من بولس نظراً لما امتازوا به من الأمور الخارجية التي استند عليها المعلمون الكاذبون فرأى أن اعتبار الله إياه أهم من اعتبار الرسل له مهما اعتبرهم الناس فإنه أخذ سلطته الرسولية من الله وحده فاستغنى عن رضى الرسل له وإثباتهم رسوليته.
لَمْ يُشِيرُوا عَلَيَّ بِشَيْءٍ فوق ما أعلنه الله لي بوحيه. قال سابقاً أنه لم يتعلم الإنجيل من الرسل في وقت اهتدائه وزاد على هذا ما في هذه الآية بياناً أنه لم يتعلم شيئاً منهم حين أتى إلى أورشليم بعد ذلك.
٧ «بَلْ بِٱلْعَكْسِ، إِذْ رَأَوْا أَنِّي ٱؤْتُمِنْتُ عَلَى إِنْجِيلِ ٱلْغُرْلَةِ كَمَا بُطْرُسُ عَلَى إِنْجِيلِ ٱلْخِتَانِ».
١تسالونيكي ٢: ٤ أعمال ١٣: ١٦ ورومية ١: ٥ و١١: ١٣ و١تيموثاوس ٢: ٧ و٢تيموثاوس ١: ٦١
بَلْ بِٱلْعَكْسِ أي أنهم بدلاً من أن يعلموني شيئاً جديداً اكتفوا بتثبيتهم وتصديقهم ما علمته وسلموا بما قبلته بالوحي وهو أن أبشر الأمم بالإنجيل دون أن أوجب عليهم الختان أو غيره من الرسوم اليهودية.
إِذْ رَأَوْا أَنِّي ٱؤْتُمِنْتُ من الله على خدمة إنجيل الغرلة دائماً. رأوا ذلك من نتائج عمله التي ذكرها في الآية الثامنة مما أخبر به بطرس وبرنابا (ع ٢ وأعمال ١٥: ١٢).
إِنْجِيلِ ٱلْغُرْلَةِ أي ما بشر به الأمم من وجوب الإيمان بالمسيح بدون جعل الختان شرطاً للخلاص أو للاشتراك في الكنيسة المسيحية. واؤتُمن كذلك يوم آمن بالمسيح (أعمال ٩: ١٥) وحين كان في الهيكل (أعمال ٢٢: ١٧ – ٢١).
كَمَا بُطْرُسُ عَلَى إِنْجِيلِ ٱلْخِتَانِ دعا الله بطرس ليكون مبشر اليهود خاصة (١بطرس ١: ١). وكان إنجيل بولس وإنجيل بطرس واحداً إلا أن المبشرين به كانوا مختلفين. ولكن لم يكن ذلك التعيين محظور المخالفة فإن بولس كان يبشر اليهود أولاً في كل مكان وجدهم فيه (أعمال ١٣: ٥ و١٤: ١ و١٨: ٦ ورومية ١: ١٦) وبطرس فتح باب الكنيسة المسيحية للأمم (أعمال ص ١٠: وص ١١ و١٥: ٧).
٨ «فَإِنَّ ٱلَّذِي عَمِلَ فِي بُطْرُسَ لِرِسَالَةِ ٱلْخِتَانِ عَمِلَ فِيَّ أَيْضاً لِلأُمَمِ».
أعمال ٩: ١٥ و١٣: ٢ و٢٢: ٢١ و٢٦: ١٧ و١٨ و١كورنثوس ١٢: ٦ و١٥: ١٠ وص ١: ١٦ و٣: ٥ وفيلبي ٢: ١٣ وكولوسي ١: ٢٩
هذه الآية تفسير الآية السابعة.
عَمِلَ فِي بُطْرُسَ لِرِسَالَةِ ٱلْخِتَانِ أي اتخذ الله تبشيره وسيلة إلى تجديد قلوب اليهود بقوة الروح القدس في قلوبهم وبذلك أثبت مرسليته إليهم.
عَمِلَ فِيَّ أَيْضاً لِلأُمَمِ أي شهد لي كما شهد لبطرس بهدايته الناس إلى الإيمان والخلاص بواسطة تبشيري. وفضلاً عن إثبات الله مرسلية كل منهما بإنجاح تبشيره أثبتها بإجراء المعجزات على أيديهما (رومية ١٥: ١٨ و١٩ و٢كورنثوس ١٢: ١٢).
٩ «فَإِذْ عَلِمَ بِٱلنِّعْمَةِ ٱلْمُعْطَاةِ لِي يَعْقُوبُ وَصَفَا وَيُوحَنَّا، ٱلْمُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ أَعْمِدَةٌ، أَعْطَوْنِي وَبَرْنَابَا يَمِينَ ٱلشَّرِكَةِ لِنَكُونَ نَحْنُ لِلأُمَمِ وَأَمَّا هُمْ فَلِلْخِتَانِ».
رومية ١: ٥ و١٢: ٣ و٦ و١٥: ١٥ و١كورنثوس ١٥: ١٠ وأفسس ٣: ٨ متّى ١٦: ١٨ وأفسس ٢: ٢٠ ورومية ٢١: ١٤
عَلِمَ بِٱلنِّعْمَةِ ٱلْمُعْطَاةِ لِي أي تحققوا رضى الله إياي من البراهين التي أقمتها على أنه دعاني رسولاً.
يَعْقُوبُ ذُكر أنه رئيس مجمع أورشليم الأول (أعمال ١٥: ١٣) وأنه أخو الرب (ع ١٩). وأما يعقوب أخو يوحنا فقطع هيرودس رأسه قبل المجمع بست سنين أي سنة ٤٤ ب. م.
صَفَا (يوحنا ١: ٤٢) ومعناه صخر كمعنى بطرس.
يُوحَنَّا هو ابن زبدي وسالومي وأخو يعقوب الرسول الشهيد.
ٱلْمُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ أَعْمِدَةٌ أي الذين اعتبرتهم كنيسة أورشليم أنهم كذلك نظراً لسنهم وأعمالهم واختبارهم وتقواهم وحكمتهم ومعرفتهم بالإنجيل. فإنهم لما اعتبروا الكنيسة بناء روحياً (١كورنثوس ٥: ٦ وأفسس ٢: ١٦) اعتبروا هؤلاء أعمدة فيها.
أَعْطَوْنِ يَمِينَ ٱلشَّرِكَةِ دليلاً على أنهم اعتبروني أخاً وثقوا بي وبأني شريكهم في الرسولية.
لِنَكُونَ نَحْنُ لِلأُمَمِ اتفقنا على قسمة عمل التبشير على المنوال المذكور.
إن الرسل بما في هذه الآية وما ذُكر قبلها أثبتوا تسوية بولس لهم وصدقوا حسن تصرفه بقبول مؤمني الأمم في شركة الكنيسة بلا ختان.
١٠ «غَيْرَ أَنْ نَذْكُرَ ٱلْفُقَرَاءَ. وَهٰذَا عَيْنُهُ كُنْتُ ٱعْتَنَيْتُ أَنْ أَفْعَلَهُ».
أعمال ١١: ٣٠ و٢٤: ١٧ ورومية ١٥: ٢٥ و١كورنثوس ١٦: ١ و٢كورنثوس ص ١ وص ٩ كليهما
الشيء الوحيد الذي كلفت به الكنيسة بولس وبرنابا هو أن يستمروا على ما ابتدأه تبرعاً (أعمال ١١: ٢٨ – ٣٠).
أَنْ نَذْكُرَ ٱلْفُقَرَاءَ أي فقراء أورشليم واليهودية.
ٱعْتَنَيْتُ أَنْ أَفْعَلَهُ أي رغبت فيه من تلقاء نفسي. وهذا يستلزم أنه وعد به. ويظهر إنجاز وعده مما ذُكر في (أعمال ٢٤: ١٧ ورومية ١٥: ٢٥ و١كورنثوس ١٦: ١ و٢كورنثوس ٨: ٩).
إن بولس كان مجتهداً في ممارسة الأعمال الصالحة مع أنه لم يعتبرها علة للتبرير.
مقاومة بولس لبطرس في أنطاكية ع ١١ إلى ٢١
١١ «وَلٰكِنْ لَمَّا أَتَى بُطْرُسُ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ قَاوَمْتُهُ مُواجَهَةً، لأَنَّهُ كَانَ مَلُوماً».
أعمال ١٥: ٣٥
أَتَى بُطْرُسُ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ لم يذكر لوقا في أعمال الرسل زيارة بطرس لأنطاكية والأرجح أنه حدث في أثناء المدة المشار إليها في (أعمال ١٥: ٣٥) على أثر رجوع بولس وبرنابا إلى أورشليم وقبل وقوع الاختلاف بينهما وشروع بولس في سفره الثاني بدليل وجود برنابا في أنطاكية حينئذ.
قَاوَمْتُهُ مُواجَهَةً أي وبخته في اجتماع الكنيسة وهو حاضر ولم أشكه وهو غائب.
لأَنَّهُ كَانَ مَلُوماً من عمله خلاف المبادئ التي أثبتها قبلاً. والمرجح أن الكنيسة لامته أيضاً. وكانت علة مقاومة بولس إياه أنه خالف المبدأ الذي هو حامى عنه قولاً وفعلاً في يوم تنصر كرنيليوس وهو أن لا فرق بين مؤمني اليهود ومؤمني الأمم غير المختونين (أعمال ١٠: ١٠ – ٢٠ و١١: ٣ – ١٧) والمبدأ الذي أقر به أمام مجمع أورشليم في تلك الأثناء (أعمال ١٥: ٧ – ١١ وع ٩) وصدقه في أول مجيئه إلى أنطاكية. فإنه خالفه حينئذ بانفصاله عن مؤمني الأمم كأنهم ليسوا مساوين لمؤمني اليهود. ولا ريب أن الذي حمل بولس على مقاومة بطرس على عمله قدام الكنيسة هو ما نتج عنه من العثرة والتشويش في كنيسة أنطاكية التي أكثر أعضائها من مؤمني الأمم وما في ذلك من العثرة لعموم الكنيسة بين الأمم وسلب حقوقها من جهة الحرية والأخوية التامة بذلك. والذي حمل بطرس على ذلك الانفصال هو طبعه السريع التأثر والتقلب كما تبين من إسراعه إلى المشي على الماء (متى ١٤: ٢٨ – ٣٣) وإنكاره سيده على أثر وعده بالثبوت (مرقس ١٤: ٢٩ و٦٦).
١٢ «لأَنَّهُ قَبْلَمَا أَتَى قَوْمٌ مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ كَانَ يَأْكُلُ مَعَ ٱلأُمَمِ، وَلٰكِنْ لَمَّا أَتَوْا كَانَ يُؤَخِّرُ وَيُفْرِزُ نَفْسَهُ، خَائِفاً مِنَ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنَ ٱلْخِتَانِ».
أعمال ١٠: ٢٨ و١١: ٣
قَوْمٌ مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ أي من كنيسة أورشليم التي كان يعقوب راعيها ولعله عينهم لينوبوا عنه في بيان آرائه وهم لم يعلنوها كما هي. فإن رأي يعقوب أنه يجب على المولودين يهوداً عند إيمانهم أن يحفظوا الناموس تمام الحفظ كما يظهر من خطابه (أعمال ١٥: ١٦ – ٢١) ومما نصح بولس به (أعمال ٢١: ٢٠ – ٢٥) فالمرجّح أنه لم يقصد بإرسال القوم إلا أن يحث مؤمني اليهود على حفظ الرسوم الموسوية فزادوا على قوله أنه يجب ذلك على كل المؤمنين من اليهود والأمم.
كَانَ يَأْكُلُ مَعَ ٱلأُمَمِ بدون التفات إلى مطاليب الرسوم الناموسية إذ ذلك محرم بمقتضاها كما قال بطرس أمام كرنيليوس (أعمال ١٠: ٢٨). وعلة تحريم الأكل مع الأمم كون الآكل معهم عرضة لأن يأكل شيئاً اعتبرته الشريعة نجساً لكن بطرس تعلم من الرؤيا في يافا أن الله قد أبطل كون الفرق بين الطاهر والنجس دينياً فطوعاً لتلك الرؤيا أكل مع كرنيليوس ورفقائه. وأتى مثل ذلك في أنطاكية أول إتيانه إليها. وقد قاوم الفريسيون المسيح على أكله مع العشارين والخطاة (لوقا ١٥: ٢).
لَمَّا أَتَوْا كَانَ يُؤَخِّرُ وَيُفْرِزُ نَفْسَهُ أبى أن يأكل مع مؤمني الأمم وبذلك عرّض بأنهم نجسون وغير مساوين لمؤمني اليهود وأن الشريعة الموسوية من جهة تمييز الأطعمة لم تزل قائمة وواجبة. وهذا يمنع من اشتراك الفريقين مؤمني اليهود ومؤمني الأمم في العشاء الرباني وولائم المحبة وتناول الطعام المعتاد في بيوتهم.
خَائِفاً مِنَ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنَ ٱلْخِتَانِ أي من متنصري اليهود الذين جاءوا من عند يعقوب فخاف بطرس من أنهم يعيرونه على خيانته لدينه اليهودي كما سبق منه بعدما أكل مع كرنيليوس وأنه يخسر اعتبارهم واعتبار أصدقائه القدماء. وسبق لبطرس من مثل ذلك لأنه كان أول من أقر بالمسيح وأول من أنكره وأول من أقر بحقوق الأمم وأول من أنكر هذه الحقوق فميله إلى التقلب عرضه للملامة واستحقها هنا. ولكنه يستحق أيضاً المدح لأنه كان سريع التوبة والاعتراف بذنبه والذي يؤكد تواضعه أنه قبل توبيخ أصغر منه سناً من العاملين معه في الإنجيل. وقد مدح بولس وقال إنه «أَخُونَا ٱلْحَبِيبُ» ومدح رسائله التي ذُكر في إحداها سوء تصرفه في أنطاكية (٢بطرس ٣: ١٥ و١٦).
١٣ «وَرَاءَى مَعَهُ بَاقِي ٱلْيَهُودِ أَيْضاً، حَتَّى إِنَّ بَرْنَابَا أَيْضاً ٱنْقَادَ إِلَى رِيَائِهِمْ!».
رَاءَى أي فعل خلاف ما عرف أنه الصواب بغية رضى الناس. ولم يفعل ذلك رفقاً بضعفاء الإيمان من الإخوة على مقتضى المحبة والسلام مما علم بولس وجوبه (١كورنثوس ٩: ٢٠ ورومية ١٤: ١ و١٥: ٣) بل إنكاراً للحق الذي سلموا به باطناً وأنكروه ظاهراً لأن الذين فرزوا أنفسهم عنهم هم بالحق إخوتهم في المسيح ومساوون لهم عنده وأن المسيح حررهم من رق الناموس.
بَاقِي ٱلْيَهُودِ من المتنصرين في أنطاكية فاقتدوا ببطرس نظراً لسنه ومقامه.
ولا حاجة إلى البيان لسوء تأثير ما أتاه بطرس لولا مقاومة بولس له فلا بد من أنه كان يقسم كنيسة أنطاكية إلى حزبين وكذا سائر الكنائس المؤلفة من الفريقين.
حَتَّى إِنَّ بَرْنَابَا أَيْضاً الخ مع أنه قد سرّ سابقاً بدخول الأمم في كنيسة أنطاكية (أعمال ١١: ٢٣) وشارك بولس في تبشير الأمم وكان غيوراً في المحاماة عن حقوق مؤمني الأمم في مجمع أورشليم (ع ٩ وأعمال ١٥: ١٢). وما فعله برنابا دليل على قوة تأثير التربية والعادة منذ الصغر وسلوك الذين نعتبرهم.
١٤ «لٰكِنْ لَمَّا رَأَيْتُ أَنَّهُمْ لاَ يَسْلُكُونَ بِٱسْتِقَامَةٍ حَسَبَ حَقِّ ٱلإِنْجِيلِ، قُلْتُ لِبُطْرُسَ قُدَّامَ ٱلْجَمِيعِ: إِنْ كُنْتَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ تَعِيشُ أُمَمِيّاً لاَ يَهُودِيّاً، فَلِمَاذَا تُلْزِمُ ٱلأُمَمَ أَنْ يَتَهَوَّدُوا؟».
ع ٥ و١تيموثاوس ٥: ٢٠ أعمال ١٠: ٢٨ و١١: ٣
لاَ يَسْلُكُونَ بِٱسْتِقَامَةٍ أي يراؤون كما في (ع ١٣) وهو أنهم لم يسلكوا حسب حق الإنجيل أو لم يحفظوا حق الإنجيل فلو ساروا على سنن الاستقامة والإخلاص لثبتوا بتعليمهم وعملهم في الحرية الإنجيلية أي التحرر من رق الناموس ومن الاتكال على أعمال الناموس بغية التبرر أمام الله ولكنهم أنكروا بسلوكهم تعليم الإنجيل أن التبرير بالإيمان بيسوع المسيح وحده.
قُلْتُ لِبُطْرُسَ قُدَّامَ ٱلْجَمِيعِ أي على مرأى ومسمع من المؤمنين فإن بطرس انفصل جهاراً وكان اضراره بالحق جهاراً فاقتضت الحال أن تكون المحاماة عن الحق جهاراً.
إِنْ كُنْتَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ تَعِيشُ أُمَمِيّاً كونه يهودي الأصل يوجب عليه أن يحفظ الناموس لكنه في أول الأمر أكل مع الأمم بلا التفات إلى صنف الطعام ولا إلى الرسوم الموسوية التي حظرت عليه الأكل معهم. والعبارة تدل على أن بطرس كان مستمراً على ذلك (ع ١٨ وأعمال ١٥: ١٠ و١١).
فَلِمَاذَا تُلْزِمُ ٱلأُمَمَ أَنْ يَتَهَوَّدُوا بسلوكك لأنك ممن يٌقتدى بهم. والمراد «بالتهود» هنا أن يعيشوا عيشة اليهود بمراعاة الرسوم الموسوية. فينتج طبعاً من سلوكه أن حفظ الناموس ضروري لمؤمني الأمم لأنهم بدون ذلك لا يستطيعون أن يخالطوا مؤمني اليهود. وهذا مناف لقول بطرس في المجمع «فَٱلآنَ لِمَاذَا تُجَرِّبُونَ ٱللّٰهَ بِوَضْعِ نِيرٍ عَلَى عُنُقِ ٱلتَّلاَمِيذِ لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا وَلاَ نَحْنُ أَنْ نَحْمِلَهُ؟ لٰكِنْ بِنِعْمَةِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ نُؤْمِنُ أَنْ نَخْلُصَ كَمَا أُولَئِكَ أَيْضاً» (أعمال ١٥: ١٠ و١١). وإذا وجب عليهم أن يراعوا الشريعة الرمزية في أمر واحد كتمييز الأطعمة فتح الطريق لوجوب مراعاتها في سائر الأمور.
١٥، ١٦ «١٥ نَحْنُ بِٱلطَّبِيعَةِ يَهُودٌ وَلَسْنَا مِنَ ٱلأُمَمِ خُطَاةً، ١٦ إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ ٱلإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، آمَنَّا نَحْنُ أَيْضاً بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا».
أعمال ١٥: ١٠ و١١ متّى ٩: ١١ وأفسس ٢: ٣ و١٢ أعمال ١٣: ٣٨ و٣٩ رومية ١: ١٧ و٣: ٢٢ و٢٨ و٨: ٣ وص ٣: ٢٤ وعبرانيين ٧: ١٨ و١٩ مزمور ١٤٣: ٢ ورومية ٣: ٢٠ و ص ٣: ١١
نَحْنُ بِٱلطَّبِيعَةِ يَهُودٌ هذا جزء من خطاب بولس لبطرس إذ لا يصح أن يخاطب بذلك الغلاطيين الذين هم من الأمم بالطبيعة. وأراد بقوله «نحن» نفسه وبطرس. وبقوله «بالطبيعة يهود» إنهما مولودان يهوديين وليس بدخيلين.
وَلَسْنَا مِنَ ٱلأُمَمِ خُطَاةً جرى بولس هنا مجرى اليهود في اعتبارهم الأمم خطأة لكونهم لم يخضعوا للناموس ولم يكونوا من أهل الناموس إذ وُلدوا خارج الناموس والعهد.
إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ ٱلإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ أي نتحقق أن الأعمال التي يأمر بها الناموس ليست بعلة لتبرير الخاطئ حتى أن الله يحسبه بريئاً من الخطيئة غير عرضة للعقاب فالتبرير بتلك الأعمال محال. وإذ تحققنا ذلك عدلنا عن الاتكال على الناموس وعلى حقوقنا اليهودية بجعلنا أنفسنا قدام الله كخطأة الأمم بالنظر إلى التبرير بالأعمال فقصر التبرير على عمل المسيح.
بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وحده فالإيمان هو الآلة التي بها يتمسك الخاطئ بالمسيح للتبرير.
آمَنَّا نَحْنُ أَيْضاً أي نحن الذين وُلدوا بهوداً. كل رسومنا ليست بكافية لتبريرنا وأن الناموس عاجز عن التبرير فلذلك لجأنا إلى المسيح متكلين عليه وحده للتبرير باعتبار أنه هو وحده العلة الوحيدة الكافية لذلك.
لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ أي بيسوع نفسه الذي هو موضوع الإيمان وعلة التبرير.
لاَ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ على الإطلاق رمزية كانت أو أدبية إذ حفظها لم يكن ولا يكون علة تبرير أو تقديس أحد من الجنس البشري.
لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا هذا مقتبس من (مزمور ١٤٣: ١٢) احتج به بولس باعبتار أنه مبدأ ديني في العهد القديم وكرر في العهد الجديد (رومية ٣: ٢٠). وخلاصة كلامه هنا مقابلة موسى بالمسيح باعتبار كل منهما موضوع الاتكال ومقابلة الناموس بالوعد والأعمال بالإيمان والأجرة بالهبة واللعنة بالبركة.
وأورد بولس في الرسالة إلى رومية علتين لاستحالة التبرير بأعمال الناموس الأولى أن الناموس يطلب الطاعة الكاملة وهذا يعجر الإنسان عنه. والثانية أن الناموس لا يمكن الإنسان من تبرير نفسه لأنه حرف مكتوب لا قوة حيّة.
١٧ «فَإِنْ كُنَّا وَنَحْنُ طَالِبُونَ أَنْ نَتَبَرَّرَ فِي ٱلْمَسِيحِ نُوجَدُ نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضاً خُطَاةً، أَفَٱلْمَسِيحُ خَادِمٌ لِلْخَطِيَّةِ؟ حَاشَا!».
١يوحنا ٣: ٨ و٩
فَإِنْ كُنَّا أنت يا بطرس وأنا.
وَنَحْنُ طَالِبُونَ أَنْ نَتَبَرَّرَ فِي ٱلْمَسِيحِ أي بعدما آمنا بالمسيح واتحدنا به بالإيمان بناء على تعليم الإنجيل أن المسيح قام بمطاليب الناموس عنا.
نُوجَدُ نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضاً خُطَاةً كالأمم عند اليهود غير متبررين تمام التبرير لأننا عدلنا عن حفظ شريعة موسى.
أَفَٱلْمَسِيحُ خَادِمٌ لِلْخَطِيَّةِ؟ لأنه جعلنا نترك الاتكال على الناموس وأبقانا غير متبررين وعرضة للهلاك الأبدي. وهذه نتيجة لا بد منها إذا سلمنا أن المسيح لم يبررنا حق التبرير وترك موسى (رومية ٢: ١٤ و١كورنثوس ٩: ٢١). ونحن جعلنا أنفسنا مثل مؤمني الأمم بأكلنا معهم فصرنا خطاة مثلهم.
إن بطرس بانفصاله عن مؤمني الأمم وانحيازه إلى مؤمني اليهود أقر بوجوب أن يحفظ المؤمنون بالمسيح ناموس موسى وأنهم لا يتبررون بدونه وينتج من ذلك أن الذين عدلوا عن الاتكال على الناموس بغية التبرير واتكلوا على المسيح ليسوا متبررين فإذن لم ينتفعوا شيئاً بالمسيح وينتج بطلان قول يوحنا المعمدان فيه «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» وبطلان قول المسيح نفسه «مَنْ يُؤْمِنُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا ٣: ١٥). وواضح أن التعليم الذي هذه نتيجته لا يمكن أن يكون حقاً والسلوك الذي أوجبه لا يمكن أن يكون «استقامة».
حَاشَا هذا شديد نفي لذلك الفكر وإظهار لكرهه فهو مثل ما في (١كورنثوس ٦: ١٥). وجاء مثله عشر مرات في الرسالة إلى أهل رومية ومرة في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس وثلاث مرات في هذه الرسالة.
١٨ «فَإِنِّي إِنْ كُنْتُ أَبْنِي أَيْضاً هٰذَا ٱلَّذِي قَدْ هَدَمْتُهُ، فَإِنِّي أُظْهِرُ نَفْسِي مُتَعَدِّياً».
لم يزل الرسول يخاطب بطرس والذين مالوا معه في أنطاكية.
فَإِنِّي إِنْ كُنْتُ أنا وغيري من المسيحيين يأتي قولاً أو فعلاً بما يدل على ضرورية حفظ الناموس. وجعل نفسه بمنزلة بطرس وغيره ممن مالوا معه تلطفاً.
أَبْنِي أَيْضاً هٰذَا ٱلَّذِي قَدْ هَدَمْتُهُ بانفرازي عن مؤمني الأمم بياناً لوجوب حفظ الرسوم الناموسية للتبرير. والمقصود بالذي «هدمه» هنا هو التبرير بالأعمال. وهدمه بالتبشير بإنجيل النعمة أو ما نادى به من الإيمان بالمسيح. وكان بولس يحب الاستعارات البنائية ومن ذلك قوله «إنه لا يبني على أساس آخر» (رومية ١٥: ٢٠). وقوله «إن المسيح أساس الكنيسة» (أفسس ٢: ٢٠). وقوله «إن المسيح حجر الزاوية» (أفسس ٢: ٢٠ انظر أيضاً ٢كورنثوس ٥: ١ و١٠: ٤). والرسوم التي هدمها اعتبرها كقالب بًُني عليه ويُرفع متى تم البناء لبلوغ الغاية منه. والمراد «ببناء ما هدمه» الرجوع إلى حفظ الناموس للتبرير فإنه رجوع عن المسيح إلى موسى للخلاص ومن إنجيل الحرية إلى نير العبودية. وبناء النظام الموسوي ثانية لا يمكن إلا بهدم النظام المسيحي فلما بشر بطرس كرنيليوس بأنه يتبرر بمجرد الإيمان بالمسيح هدم تعليم أن التبرير بأعمال الناموس. وأتى مثل ذلك في خطابه بمجمع أورشليم وبسلوكه في أول وصوله إلى أنطاكية ولكن سلوكه بعد ذلك كان شروعاً في بناء ما قد هدمه.
أُظْهِرُ نَفْسِي مُتَعَدِّياً أي أقر بأني خطئت بترك الناموس حين آمنت وباتكالي على المسيح وحده للتبرير وبأني تعديت على الناموس باعتباري أن الناموس وقتي وتمهيد للإنجيل وللإيمان بالمسيح وبذلك أكون قد أظهرت أني لست متبرراً بالإيمان بالمسيح وأني لم أزل تحت الدينونة. واستحق أن يسمى فعله تعدياً لأنه به يكون قد هدم ما بناه المسيح بتعليمه وخدمته وموته «إِذْ مَحَا ٱلصَّكَّ ٱلَّذِي عَلَيْنَا فِي ٱلْفَرَائِضِ… وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ ٱلْوَسَطِ مُسَمِّراً إِيَّاهُ بِٱلصَّلِيبِ» (كولوسي ٢: ١٤).
ذهب بعضهم أنه فرغ هنا من خطابه لبطرس وأخذ يخاطب الغلاطيين والحق أنه يصعب تعيين نهاية الأول وبداءة الثاني كما صعب ذلك في خطاب المسيح لنيقوديموس (يوحنا ص ٣). والمرجح أنه ابتدأ هنا يتلفت إلى الغلاطيين وهو يخاطب بطرس وفرغ من مخاطتبه في نهاية هذا الأصحاح.
١٩ «لأَنِّي مُتُّ بِٱلنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ لأَحْيَا لِلّٰهِ».
رومية ٦: ١١ و١٤ و٧: ٤ و٦ و٨: ٢ و٢كورنثوس ٥: ١٥ و١تسالونيكي ٥: ١٠ وعبرانيين ٩: ١٤ و١بطرس ٤: ٢
لأَنِّي ترك الفرض وأخذ يتكلم في الواقع. ومراده من هذه الآية أنه لم يكن معترضاً بترك الناموس بالنظر إلى التبرير.
مُتُّ بِٱلنَّامُوسِ أي بواسطة الناموس لأنه كان مؤدباً لي ليرشدني إلى الفادي لأنه «كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح» (ص ٣: ٢٤) فحكم علي بالخطيئة فالجأني أن أهرب إلى المسيح من غضب الله (رومية ٣: ٢٠) وعلمني أنه وقتي وأن كل رموزه تشير إلى الكاهن السماوي (رومية ١٠: ٤) ووعدني بشريعة جديدة تُكتب على القلب (تثنية ١٨: ١٥ – ١٩ وإرميا ٣١: ٣٣).
لِلنَّامُوسِ أي مت له باعتبار كونه علة التبرير وعلة الدينونة فإن المسيح حين مات أكمل الناموس الرسمي وحرر المؤمنين من مطاليبه وكل المؤمنين متحدون به بواسطة الإيمان فماتوا معه للناموس فخلصوا منه ولم يعتبروه واسطة للتبرير. وهذا خلاف ما اعتقده بولس أولاً حين اجتهد في حفظه وتوقع أن يتبرر به (فيلبي ٣: ٣ و٦). وكلامه في هذه الآية على وفق قوله «إِذاً يَا إِخْوَتِي أَنْتُمْ أَيْضاً قَدْ مُتُّمْ لِلنَّامُوسِ بِجَسَدِ ٱلْمَسِيحِ» (رومية ٧: ٤) وقوله «إِذاً إِنْ كُنْتُمْ قَدْ مُتُّمْ مَعَ ٱلْمَسِيحِ عَنْ أَرْكَانِ ٱلْعَالَمِ» (كولوسي ٢: ٢٠). ومعنى «الموت للناموس» التحرر من حفظه للتبرير ومن لعنته على التعدي السابق.
لأَحْيَا لِلّٰهِ فالموت عن الخطيئة ضروري للحياة للبر والموت والناموس ضروري للتمهيد للتبرير بالإيمان لأنه ما دام الإنسان يتكل على الناموس للتبرير والحياة لا يقدر أن يتمسك بالمسيح الذي يقدر المؤمن أن يحيا لله. والحياة لله هي حياة الطاعة الاختيارية كطاعة الأولاد المبنية على الاتحاد بالمسيح والنعمة التي يهبها والروح الذي يمنحه والشكر لله على رحمته. فالمؤمن فوق كونه مات للناموس بالنظر إلى كونه علة التبرير مات عن الخطيئة باعنبار كونها قوة متسلطة عليه وقام بالحياة الجديدة أعني حياة البر والقداسة.
٢٠ «مَعَ ٱلْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ ٱلآنَ فِي ٱلْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي ٱلإِيمَانِ، إِيمَانِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي».
رومية ٦: ٦ وص ٥: ٢٤ و٦: ١٤ و٢كورنثوس ٥: ١٥ و١تسالونيكي ٥: ١٠ و١بطرس ٤: ٢ ص ١: ٤ وأفسس ٥: ٢ وتيطس ٢: ١٤
مَعَ ٱلْمَسِيحِ صُلِبْتُ هذا تفسير لقوله «متّ للناموس» (ع ١٩) وبيان لاتحاده بالمسيح. وكان ذلك حين آمن فإن بولس كان متحداً بالمسيح اتحاداً كان به أن ما حدث للمسيح حدث له. فمات المسيح بالناموس حاملاً لعنة الناموس بتعلقه على الخشبة. ومات المسيح للناموس بأن أكمل كل رسومه وإشاراته وظلاله وكان موته آخر مطاليبه بدليل قوله «أطاع حتى الموت» (كولوسي ٢: ٨) وبولس بالنظر إلى اتحاده بالمسيح تحرر من كل مطاليبه باعتبار كونها شرطاً للخلاص. فمات بصلبه مع المسيح عن الناموس والعالم والخطيئة.
فَأَحْيَا حياة جديدة روحية باتحادي بالمسيح الحي بدليل قوله «أَنَا هُوَ ٱلْقِيَامَةُ وَٱلْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى ٱلأَبَدِ» (يوحنا ١١: ٢٥ و٢٦). فغاية موتي للناموس أن أحيا مع المسيح فموتي من جهة لا يمنع حياتي من جهة أخرى إذ حياتي الجديدة هي التي تستحق أن تسمى حياة.
لاَ أَنَا شاول اليهودي الإنسان العتيق الأرضي من الأرض. كما كنت في الحياة العتيقة تحت سلطة الخطيئة ولعنة الناموس بل الإنسان الجديد (ص ٥: ٢٤ وكولوسي ٣: ١١). «ولا أنا» بقوة نفسي لأن حياتي ليست لي بل للمسيح الحي فيّ ولست أحيا مستقلاً بل متحداً بالمسيح.
بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ ذلك الذي صُلب ولكنه قام من الموت فهو علة حياتي فإني اتحدت به اتحاد الغصن بالكرمة فحياتي بحياته. والمسيح يحيا في كل فرد من أفراد شعبه المؤمن كحياة الكرمة في كل غصن من أغصانها.
فَمَا أَحْيَاهُ ٱلآنَ فِي ٱلْجَسَدِ منذ آمنت بمقابلة حياتي الآن بحياتي قبل إيماني أو بمقابلة حياتي الظاهرة الزمنية بحياتي الحقيقية الروحية. وحياته في الجسد هي الحياة الظاهرة للناس وأما حياته الجديدة فمستترة مع المسيح في الله أي بالمسيح باعتبار كونه يحيا فيه (كولوسي ٣: ٣).
فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي ٱلإِيمَانِ هذه مقابلة حياته في الجسد فإن الحياة الروحية تمتاز بالإيمان عن الحياة الطبيعية فبالإيمان تتحد نفس المؤمن بالمسيح حتى أنه يلبس المسيح (ص ٣: ٢٧). وهذه الحياة تبتدئ بالإيمان فالإيمان علة دوامها وبه يصير المسيحي عظماً من عظام المسيح ولحماً من لحمه (أفسس ٥: ٣٠). وينال قوته الروحي منه (يوحنا ١٥: ١).
إِيمَانِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ فالمسيح غاية هذه الحياة ومصدرها (كولوسي ٣: ٤ انظر أيضاً يوحنا ١٥: ٥ و١٧: ٢٣). وكون المسيح ابن الله في الجوهر جعله أصل حياة كل المؤمنين وجعل موته على الصليب كفارة عن المؤمنين وينبوع حياة أبدية لهم (يوحنا ٥: ٢٥ و٢٦). والمسيح شخص والإيمان به تمسك المؤمن به وتوكله عليه لا مجرد الإيمان بالعقائد.
ٱلَّذِي أَحَبَّنِي مجاناً وهذه المحبة رباط الاتحاد بينه وبين المسيح. وقال «احبني» لا أحب الجنس البشري إشارة إلى أن المسيح أحب كل فرد من المؤمنين ومات من أجله.
وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي هذا برهان محبته وهو أعظم برهان يمكن إيراده. فموت المسيح عن الخاطئ كأنه الخاطئ الوحيد في الكون هو الذي جعله يتأكد خلاصه وينشيء فيه فرط الشكر له. وقوله «لأجلي» بمعنى بدلي أي أن ذلك البار مات من أجلي أنا الخاطئ لكي لا أموت موتاً أدبياً.
٢١ «لَسْتُ أُبْطِلُ نِعْمَةَ ٱللّٰهِ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِٱلنَّامُوسِ بِرٌّ، فَٱلْمَسِيحُ إِذاً مَاتَ بِلاَ سَبَبٍ».
رومية ١١: ٦ وص ٣: ٢١ و٥: ٤ وعبرانيين ٧: ١١
لَسْتُ أُبْطِلُ نِعْمَةَ ٱللّٰهِ لا بتعليمي ولا بعملي بمقتضى الرسوم والعوائد اليهودية كما يفعل أولئك المتعلمون المتهودون الذين يجعلون النعمة الإلهية عبثاً بإيجابهم حفظ الناموس للتبرير. ونعمة الله هي ما تطلب تبرير الخاطئ وتقديسه وخلاصه التام مجاناً وهي ظاهرة في المسيح فكأن الرسول قال خُيرت بين الناموس والمسيح فاخترت المسيح. وفي نفي تبطيل النعمة عن نفسه تعريض بأن غيره بطلها وهم أما المعلمون الفريسيون الذين أفسدوا ضمائر الناس بتعليمهم أو بطرس الذي شاركهم بسلوكه فإنهم فضلوا ناموس العدل على ناموس النعمة وتركوا المسيح فأبانوا أن موته لم يكن ضرورياً وأنه كان باطلاً.
إِنْ كَانَ بِٱلنَّامُوسِ بِرٌّ أي نتيجة تبرير. والكلام هنا فرض وهو إن كان الخاطئ يتبرر ويخلص بواسطة ناموس موسى أو ناموس آخر أو عمل آخر كان ذلك برهاناً على صحة ما يأتي.
فَٱلْمَسِيحُ إِذاً مَاتَ بِلاَ سَبَبٍ أي لم يكن من حاجة ولا داع إلى موته فكان موته عبثاً. وهذا ما استلزمه بالضرورة تعليم الفريسيين الذي سماه آنفاً «إنجيلاً آخر» فبيّن هذا الاستلزام بطلانه وما فيه من التجديف. والواقع أن المسيح مات وهذا برهان قاطع أن الناموس عاجز عن التبرير فلا سبيل إلى تبرير الخاطئ سوى موت ابن الله. وهذا نهاية خطاب بولس كثيراً فلم يذكر شيئاً من أمر تأثير خطابه فيهم ولا ريب في أن بطرس خجل وتاب كما فعل يوم أنكر سيده على أنه بقي في الكنيسة الأولى قوم تمسكوا بتعاليم الذين قاوموا بولس هنا وسموا الأبونيين والغنوسيين وأضروا الكنيسة كثيراً. وأما تعليم «إن البار بالإيمان يحيا» فبقي وانتصر وقوي بمقاومتهم إياه كما انتصر على غيرهم ولن يزال بنتصر على رغم كل مقاوميه.
فوائد
- إن الحرية في المسيح التي دفع عنها بولس لم تمنعه من أن يكون «خادماً للجميع» لكي يربح نفوسهم للمسيح لكنها منعته من الخضوع لأمر بشري ينافي حكم ضميره أو يدعي أنه من أوامر الله وأنه شرط ضروري للخلاص. والذي أتاه من تلقاء نفسه لكي لا يعثر أخوه الضعيف لا يعتبره منافياً لحريته في المسيح فكان لا يفتأ يميّز بين أوامر الناس وأوامر الله ورأى أنه حر أن يطيع الأولى أو لا بمقتضى استحسانه وأما الثانية فرأى أنه مضطر أن يطيعها فإنه ختن تيموثاوس استحساناً وأبى أن يختن تيطس لأن بعض الذين معه أرادوا إجباره على ذلك لاعتبارهم أنه ضروري للخلاص (ع ٤).
- إن أشد أعداء الحق ضرراً لراحة الكنيسة ونجاحها هم الأعداء الذين فيها وقد دخلوها لأغراض نفسانية لا لتمجيد المسيح (ع ٤).
- إنه لا يحسن في أمور الدين أن ننظر إلى عظمة الذين يعتقدون هذه العقيدة أو تلك ولا إلى وفرة عددهم بل إلى كون العقيدة موافقة لتعليم المسيح أو لا (ع ٦).
- إن كل المواهب الروحية من الله فاقتدارنا على تعليمنا غيرنا منه وكل نجاح في التبشير من آلائه وعلى ذلك يجب أن نطلب الاقتدار والنجاح منه في الصلاة وإننا إذ حصلنا عليهما وجب أن نشكره ونعطيه كل المجد (ع ٨).
- إنه ليس كل اتفاق حسناً فقد يتفق الكثيرون على ما لا يحل فإن بولس لو وافق الذين أوجبوا على متنصري الأمم حفظ شريعة موسى على آرائهم لا تنفي الخلاف بينه وبين كنيسة أورشليم والرسل في أول أمرهم ولكن الاتفاق الحقيقي كان حينما أقنع الرسل الثلاثة وغيرهم من عمدة الكنيسة ببراهين الروح القدس على أن الطريق التي سار فيها بتبشيره الأمم بالإنجيل هي طريق الحق فأعطوه يمين الشركة (ع ٩).
- إن الذي يرغب في أن يرضي الناس يعرّض نفسه للسقوط من سبيل الاستقامة وقد وقع بطرس في هذه التجربة فينبغي أن تكون على حذر منها وأن نجتهد في رضى الله والتمسك بالحق أكثر من التمسك رضى أفضل الناس وأعز الأصحاب كما فعل بولس لما قاوم بطرس مع أنه أقدم منه في الإيمان وبرنابا مع أنه رفيقه العزيز (ع ١٣ و١٤).
- إنه إذا كنا مستحقين للتوبيخ فخير لنا أن يكون لنا موبخ أمين كبولس وأن يجعلنا الله متواضعين لنقبل ما استحققنا من التوبيخ كبطرس (ع ١٤).
- إنه يجب على المعلمين المسيحيين أن يحذروا من أن يفسدوا بسيرتهم ما أصلحوه بتعليمهم فيكونوا كما يبني بيد ويهدم بأخرى (ع ١٨).
- إن غاية تحررنا من الناموس هي أن لا لنحيا لأنفسنا ولا لشهواتنا ولا للعالم بل لله (ع ١٩).
- إن مشاركتنا للمسيح ليست مجرد المشاركة في صلبه لأن ذلك يجعل ديننا بلا سرور فإننا مدعوون إلى مشاركته في حياته أيضاً (ع ٢٠).
- إن كون «المسيح أحبنا وأسلم نفسه من أجلنا» مختصر عمل الفداء وأعظم مواضيع التعزية وأسمى موجبات المحبة والشكر والخدمة. فكلما اعتبرنا أن موته كان عنا خاصة وأنه ذكر أسماءنا حين عُلق على الصليب وطلب أن نكون معه في ملكوته وأن خطايانا هي التي حملته على سفك دمه شعرنا بزيادة المنة له (ع ٢٠).
- إن كل من يعلم أن الإنسان يمكنه أن يخلص بدون اتكاله على ذبيحة المسيح الكفارية يبطل نعمة الله ويجعل موت المسيح بلا سبب وكذلك قيامته وانتصاره على الخطيئة والهاوية. فصرح بولس أن ذلك نتيجة ضرورية من تعليم أن التبرير والخلاص بالناموس. فكان يجب أن تكون هذه النتيجة كافية لمنع كل أحد من قبول ذلك التعليم ومع هذا نرى أكثر الناس متكلين على بر أنفسهم دون نعمة المسيح وهذا عين الخطيئة التي هي الازدراء بالنعمة والحكم أن المسيح مات بلا سبب وهم ينادون بذلك بأعمالهم مع مدحهم النعمة والافتخار بالصليب بأفواههم.
- إن الدين المسيحي يوجب على تابعيه أمرين هما الموت والحياة أي الموت عن الخطيئة والعالم وحب الذات وشهوات الجسد وعن الناموس كعلة التبرير والحياة للمسيح ولله حياة القداسة والإيمان والاتحاد بالمسيح والطاعة له والاجتهاد في توسيع ملكوته. وفي كل منهما نحتاج إلى الإيمان لأنه بدون الإيمان بأنه الذبيحة الكفارية وأنه حمل لعنة الناموس عنا ومحا خطايانا وهو على الصليب لا نستطيع أن نموت عن الخطيئة والناموس ولا يمكننا بلا إيمان أن نقوم معه في جدة الحياة ونحيا حياة القداسة والطاعة باتحادنا به وقبولنا روحه القدوس (ع ٢٠).
السابق |
التالي |