رسالة بطرس الأولى | 04 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح رسالة بطرس الأولى
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح الرابع
أوصى الرسول في هذا الأصحاح المؤمنين بأن يتسلحوا بالنية التي كانت للمسيح ويكفوا عن الخطايا الماضية والسلوك في طريق الأمم متذكرين أن الله سوف يحاسبهم (ع ١ – ٦). وذكرهم بقرب نهاية كل شيء وأوجب عليهم أن يسهروا ويصلوا وأن يحب بعضهم بعضاً ويضيف بعضهم بعضاً وأمرهم بالأمانة في كل أعمالهم من وعظ وإحسان (ع ٧ – ١١). وأن لا يستغربوا الشدائد لأنهم يكونون بذلك شركاء آلام المسيح ولكن يجب أن لا يتألموا لكونهم مذنبين (ع ١٢ – ١٦). وأبان لهم إن الأبرار بالجهد يخلصون وإن الأشرار يهلكون لا محالة فوجب أن يستودعوا أنفسهم الخالق الأمين (ع ١٧ – ١٩).
حثهم على الاقتداء بالمسيح والكف عن الخطيئة ع ١ إلى ٦
١ «فَإِذْ قَدْ تَأَلَّمَ ٱلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا بِٱلْجَسَدِ، تَسَلَّحُوا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهٰذِهِ ٱلنِّيَّةِ. فَإِنَّ مَنْ تَأَلَّمَ فِي ٱلْجَسَدِ كُفَّ عَنِ ٱلْخَطِيَّةِ».
ص ٢: ٢١ وأفسس ٦: ١٣ ورومية ٦: ٧
فَإِذْ قَدْ تَأَلَّمَ ٱلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا بِٱلْجَسَدِ هذا على وفق ما قيل في (ص ٣: ١٨). ولم يرد بقوله «تألم» مجرد موته على الصليب بل كل ما احتمله من إنكار النفس والعار والآلام من أجل الاثمة وهو البار. وقال «بالجسد» إشارة إلى أنه احتمل ما ذُكر باعتبار كونه إنساناً.
تَسَلَّحُوا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهٰذِهِ ٱلنِّيَّةِ أي اعتمدوا كل الاعتماد أن «تتألموا بالجسد» كما تألم إذ اقتضت الحال. إن بطرس اعتبر تلك النية سلاحاً لنفوسهم في الجهاد الروحي الذي دُعوا إليه في مقاومة الشهوات الجسدية وفي احتمال الاضطهاد. وكثيراً ما ذكر بولس ما يحتاج إليه المؤمن من الأسلحة الروحية (رومية ١٣: ١٢ و٢كورنثوس ٦: ٧ وأفسس ٦: ١٠ – ١٧ و١تسالونيكي ٥: ٨).
فَإِنَّ مَنْ تَأَلَّمَ فِي ٱلْجَسَدِ كُفَّ عَنِ ٱلْخَطِيَّةِ هذا يصدق على المسيح وكل مسيحي. والمراد من «التألم بالجسد» الموت. ومعنى العبارة أن المؤمن اتحد بالمسيح حتى أنه مات عن الخطيئة بموت المسيح على الصليب بدليل قول بولس «نَحْنُ ٱلَّذِينَ مُتْنَا عَنِ ٱلْخَطِيَّةِ، كَيْفَ نَعِيشُ بَعْدُ فِيهَا… عَالِمِينَ هٰذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا ٱلْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ ٱلْخَطِيَّةِ لأَنَّ ٱلَّذِي مَاتَ قَدْ تَبَرَّأَ مِنَ ٱلْخَطِيَّةِ» (رومية ٦: ٢ و٦ و٧). وقوله في نفسه «مع المسيح صلبت» (غلاطية ٢: ٢٠ انظر أيضاً كولوسي ٢: ٢٠ و٣: ٣ و٢تيموثاوس ٢: ١١). إن المسيح مات عن الخطيئة أي أكمل كل ما كان عليه ليكفر عن الخطايا بدليل قوله «لأَنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِي مَاتَهُ قَدْ مَاتَهُ لِلْخَطِيَّةِ» (رومية ٦: ١٠) وقول المسيح «قد أكمل» (يوحنا ١٩: ٣٠). والمؤمن مات عن الخطيئة أي اعتزلها ولم يرتكبها بعد عمداً وتحرر من سلطتها عليه كاعتزال النفس للجسد بالموت.
٢ «لِكَيْ لاَ يَعِيشَ أَيْضاً ٱلزَّمَانَ ٱلْبَاقِيَ فِي ٱلْجَسَدِ لِشَهَوَاتِ ٱلنَّاسِ، بَلْ لإِرَادَةِ ٱللّٰهِ».
رومية ٦: ٢ وكولوسي ٣: ٣ وص ١: ١٤
لِكَيْ لاَ يَعِيشَ أَيْضاً ٱلزَّمَانَ ٱلْبَاقِيَ فِي ٱلْجَسَدِ هذا متعلق بقوله «تسلحوا بهذه النية» (ع ١). والمراد «بالزمان الباقي في الجسد» ما بقي للمؤمن من الحياة الجسدية على الأرض منذ إيمانه.
لِشَهَوَاتِ ٱلنَّاسِ أي الأمم الذين كانوا محيطين به وكان هو منهم قبلاً. ووُضعت تلك «الشهوات» في الآية التالية.
بَلْ لإِرَادَةِ ٱللّٰهِ ذكر هذه المقابلة لشهوات الناس وهو يبيّن الغاية التي على المسيحي أن يعيش لأجلها وهي إتمام مشيئة الله كما هي معلنة في كتابه. وهذا موافق لقول بولس في المسيح «وَهُوَ مَاتَ لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ ٱلأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ» (٢كورنثوس ٥: ١٥).
٣ «لأَنَّ زَمَانَ ٱلْحَيَاةِ ٱلَّذِي مَضَى يَكْفِينَا لِنَكُونَ قَدْ عَمِلْنَا إِرَادَةَ ٱلأُمَمِ، سَالِكِينَ فِي ٱلدَّعَارَةِ وَٱلشَّهَوَاتِ، وَإِدْمَانِ ٱلْخَمْرِ، وَٱلْبَطَرِ، وَٱلْمُنَادَمَاتِ، وَعِبَادَةِ ٱلأَوْثَانِ ٱلْمُحَرَّمَةِ».
١كورنثوس ١٢: ٢ ورومية ١٣: ١٣ وأفسس ٢: ٢ و٤: ١٧
لأَنَّ زَمَانَ ٱلْحَيَاةِ ٱلَّذِي مَضَى قبل الإيمان.
يكفينا أي يكفيكم فإنه تكلم بالنيابة عنهم تلطفاً. ومعنى قوله «يكفي» كمعنى قول المسيح «يكفي اليوم شره» وقوله «يكفي التلميذ أن يكون كمعلمه» (متّى ٦: ٣٤ و١٠: ٢٥). وفي العبارة إيجاز بليغ والمقصود أن ما مر من المعاصي زائد جداً فوجب الكفّ عنه وعدم العود إليه أبداً. وهذا أهم غايات الرسول من هذا الأصحاح وهو حثهم على اعتزال الخطايا التي هم عرضة لارتكابها لكونهم بين الوثنيين. وما ذُكر هو العلة الأولى لأن يكفوا عن الخطيئة. وهذا لا يستلزم أنه كان قبلاً يجوز لهم ارتكاب المحظورات فإنه بيان لوجوب أن ينفصلوا منذ ذلك الوقت عن الآثام كل الانفصال.
عَمِلْنَا إِرَادَةَ ٱلأُمَمِ أي عملوا عمل الأمم طوعاً لشهواتهم أو كما شاء الأمم أن يفعل المؤمنون. وفي قوله «إرادة الأمم» بذكر الخطايا التي امتازوا بها.
سَالِكِينَ أي مستمرين. نسب ما فعله الكثيرون إلى الكل.
ٱلدَّعَارَةِ أي الفسق.
ٱلشَّهَوَاتِ المحرمة (رومية ١: ٢٤).
إِدْمَانِ ٱلْخَمْرِ أي الإفراط فيه.
ٱلْبَطَرِ (رومية ١٣: ١٣ وغلاطية ٥: ٢١).
ٱلْمُنَادَمَاتِ المجالسات لرشف المسكرات كما اعتاد الوثنيون في ولائمهم.
عِبَادَةِ ٱلأَوْثَانِ ٱلْمُحَرَّمَةِ وما يقترن بها من الأعمال القبيحة المنهي عنها بحكم العقل السليم والكتاب الإلهي (رومية ١: ٢٦ – ٣١). مما أظهر قوة الإنجيل أنه قادر على كف الذين اعتادوا تلك الآثام عنها وإرشادهم إلى الله والحياة المقدسة ومكنهم منها. وما صدق على كفاية الزمن الماضي لارتكاب آثام الوثنيين لمن كتب إليهم بطرس يصدق على كفاية كل زمن لإطاعة الشهوة والسير في سنن العالم وإرضاء الناس لأن ما بقي من الحياة يقصر عن القيام بما يريده الله.
٤ «ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ يَسْتَغْرِبُونَ أَنَّكُمْ لَسْتُمْ تَرْكُضُونَ مَعَهُمْ إِلَى فَيْضِ هٰذِهِ ٱلْخَلاَعَةِ عَيْنِهَا، مُجَدِّفِينَ».
أفسس ٥: ١٣ وص ٣: ١٦
ٱلأَمْرُ أي السلوك في سنن الشهوات المحرمة الذي سلكوا فيه أولاً.
يَسْتَغْرِبُونَ أَنَّكُمْ لَسْتُمْ تَرْكُضُونَ مَعَهُمْ أي مع الوثنيين فإن الوثنيين سروا بهذه الأمور ولم يريدوا أن يتركوها ولم يقدروا أن يعرفوا لماذا تركها المؤمنون. وعبر «بالركض» عن الرغبة الشديدة في الخطايا المذكورة وكان بعض عبدة باخوس إله الخمر يركضون حقيقة في ولائمهم فإنهم كانوا يحيطون بمذبحه راكضين بالهتاف كالمجانين. فالأمم لم يسروا البتة بالدين المسيحي وما يطلبه من إنكار النفس والتوبة والقداسة وعجبوا من سرور المؤمنين بها كما تعجب فستوس من لذة بولس بالتكلم في دين المسيح فقال له «أَنْتَ تَهْذِي يَا بُولُسُ! ٱلْكُتُبُ ٱلْكَثِيرَةُ تُحَوِّلُكَ إِلَى ٱلْهَذَيَانِ» (أعمال ٢٦: ٢٤). إن الأمم لم يستطيعوا أن يروا موجبات ترك المؤمنين الإثم لأنهم لم يروا جرمه ولا خطره ولذلك حسبوا ما فعله المؤمنون جهالة.
فَيْضِ هٰذِهِ ٱلْخَلاَعَةِ عَيْنِهَا الخلاعة اتباع الشهوات حتى تتسلط وشبّه تلك الشهوات بالنهر الذي جاوز ماؤه شاطئيه.
مُجَدِّفِينَ جدف الأمم على المؤمنين بأن أخذوا يستغربون ما فعلوه ثم نسبوا إليهم الجهالة ثم خطأوهم ونسبوا إليهم مقاصد شريرة وأعمالاً رديئة سرّية ولقبوهم بألقاب قبيحة وقالوا أنهم مراؤون ومدّعون أنهم أقدس من غيرهم واتهموهم بفواحش لم يرتكبوها.
٥ «ٱلَّذِينَ سَوْفَ يُعْطُونَ حِسَاباً لِلَّذِي هُوَ عَلَى ٱسْتِعْدَادٍ أَنْ يَدِينَ ٱلأَحْيَاءَ وَٱلأَمْوَاتَ».
أعمال ١٠: ٤٢ و٢تيموثاوس ٤: ١ ورومية ١٤: ٩
ذكر الرسول ما في هذه الآية تعزية للمتهمين كذباً بغايات رديئة وأعمال شريرة.
ٱلَّذِينَ سَوْفَ يُعْطُونَ حِسَاباً هذا الكلام على الأمم المجدفين.
لِلَّذِي هُوَ عَلَى ٱسْتِعْدَادٍ أَنْ يَدِينَ في الوقت الذي عيّنه. والديّان هو الرب يسوع المسيح. وقوله «على استعداد أن يدين» يدل على أنه لا بد من الدينونة وأنها قريبة وهذا موافق لما في (أعمال ١٩: ٤٠ و٢١: ١٣ و٢كورنثوس ١٢: ١٤ وعبرانيين ١٣: ١٧).
ٱلأَحْيَاءَ وَٱلأَمْوَاتَ الباقين على وجه الأرض والذين ذهبوا إلى القبور من مُتَّهِمِين ومُتَّهَمِين ومُضطَّهِدين ومُضطَّهَدين فإنهم جميعاً يدانون بلا محاباة بدليل قوله في المسيح «أَوْصَانَا أَنْ نَكْرِزَ لِلشَّعْبِ، وَنَشْهَدَ بِأَنَّ هٰذَا هُوَ ٱلْمُعَيَّنُ مِنَ ٱللّٰهِ دَيَّاناً لِلأَحْيَاءِ وَٱلأَمْوَاتِ» (أعمال ١٠: ٤٢). وقول بولس لتيموثاوس «أُنَاشِدُكَ إِذاً أَمَامَ ٱللّٰهِ وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلْعَتِيدِ أَنْ يَدِينَ ٱلأَحْيَاءَ وَٱلأَمْوَاتَ» (٢تيموثاوس ٤: ١).
٦ «فَإِنَّهُ لأَجْلِ هٰذَا بُشِّرَ ٱلْمَوْتٰى أَيْضاً، لِكَيْ يُدَانُوا حَسَبَ ٱلنَّاسِ بِٱلْجَسَدِ، وَلٰكِنْ لِيَحْيَوْا حَسَبَ ٱللّٰهِ بِٱلرُّوحِ».
ص ١: ١٢ و٣: ١٩
فَإِنَّهُ لأَجْلِ هٰذَا أي لدينونة الأحياء والأموات. وهذا علة ثانية لأن لا يسلكوا بعد «لشهوات الناس بل لإرادة الله» (ع ٢).
بُشِّرَ ٱلْمَوْتٰى أَيْضاً هم المذكورون في (ع ٥). وذكر أنهم «موتى» لأنهم كانوا كذلك حين كتب هذه الرسالة وبُشروا بالإنجيل يوم كانوا أحياء وآمنوا به. وأكد لهم بطرس أن إخوتهم هؤلاء هم الذين سمعوا الإنجيل وآمنوا به واعترفوا بالمسيح وقُتلوا من أجل إيمانهم لم يزالوا أحياء أمام الله.
لِكَيْ يُدَانُوا حَسَبَ ٱلنَّاسِ بِٱلْجَسَدِ. فهؤلاء وإن كانوا قد حُكم عليهم بالموت بأيدي المضطهدين وماتت أجسادهم كأجساد سائر الناس هم بذلك في منزلة يسوع المسيح الذي قتله اليهود والأمم ومنزلة استفانوس الذي رحمه اليهود ومنزلة يعقوب الرسول الذي قتله هيرودس أغريباس ومنزلة سائر الشهداء الذين «رُجِمُوا، نُشِرُوا، جُرِّبُوا، مَاتُوا قَتْلاً بِٱلسَّيْفِ الخ» (عبرانيين ١١: ٣٧).
وَلٰكِنْ لِيَحْيَوْا حَسَبَ ٱللّٰهِ بِٱلرُّوحِ أي لتحيا أنفسهم في السماء حياة المجد والسعادة كقول يوحنا في رؤياه «رَأَيْتُ تَحْتَ ٱلْمَذْبَحِ نُفُوسَ ٱلَّذِينَ قُتِلُوا مِنْ أَجْلِ كَلِمَةِ ٱللّٰهِ وَمِنْ أَجْلِ ٱلشَّهَادَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُمْ… فَأُعْطُوا كُلُّ وَاحِدٍ ثِيَاباً بِيضاً… وَسَأَلَنِي وَاحِدٌ مِنَ ٱلشُّيُوخِ: هٰؤُلاَءِ ٱلْمُتَسَرْبِلُونَ بِٱلثِّيَابِ ٱلْبِيضِ، مَنْ هُمْ وَمِنْ أَيْنَ أَتَوْا؟ فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَيِّدُ أَنْتَ تَعْلَمُ. فَقَالَ لِي: هٰؤُلاَءِ هُمُ ٱلَّذِينَ أَتَوْا مِنَ ٱلضِّيقَةِ ٱلْعَظِيمَةِ» (رؤيا ٦: ٩ و١١ و٧: ١٣ و١٤). ونيلهم تلك السعادة الغاية العظمى من تبشيرهم بالإنجيل. إن المسيحيين الأولين انتظروا مجيء يسوع المسيح سريعاً وخافوا أن إخوتهم الذين ماتوا قبل مجيء المسيح يحرمون بعض الفوائد التي يتمتع بها إخوتهم الأحياء في مجيئه كما يتضح من (١تسالونيكي ٤: ١٣ – ١٨). وكما أن بولس اجتهد في أن يقنع أهل تسالونيكي إن الموتى والأحياء منهم يشتركون على السواء في فوائد مجيء المسيح هكذا اجتهد بطرس في تأكيد ذلك للذين كتب إليهم. والخلاصة أن التبشير الذي ذُكر هنا هو الدعوة إلى التوبة والإيمان لخلاص نفوس السامعين. والمبشرون هم المسيح والذين أرسلهم. ومكان التبشير هذه الأرض.
ومن تفاسير هذه الآية قول بعضهم إن الموتى المذكورين هنا هم الأشرار الذين ماتوا بالذنوب والخطايا وأشار إليهم المسيح بقوله «دَعِ ٱلْمَوْتٰى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ» (متّ ٨: ٢٢). وإنهم بُشروا بالإنجيل لكي يموتوا للخطيئة ويحيوا على الأرض حياة روحية جديدة لله. والذي ينفي هذا إن الموتى الذين في الآية الخامسة موتى حقيقة وما بعدها تفسير لها. وهو لا يوافق القرينة ولا غاية الرسول من كلامه هنا. ومن تلك التفاسير إن الموتى هنا هم الذين ماتوا روحاً وجسداً موتاً حقيقياً وذهبت أرواحهم إلى جهنم وإن المسيح بعد موته وقبل قيامته ذهب إليهم وبشرهم وخصّوا بالتبشير الذين ماتوا غرقاً أيام نوح بالطوفان وليس من سند كافٍ لهذا التفسير.
قرب نهاية كل شيء ووجوب الصحو والصلاة وممارسة الفضائل المسيحية للجميع ع ٧ إلى ١١
٧ «وَإِنَّمَا نِهَايَةُ كُلِّ شَيْءٍ قَدِ ٱقْتَرَبَتْ، فَتَعَقَّلُوا وَٱصْحُوا لِلصَّلَوَاتِ».
رومية ١٣: ١١ ويعقوب ٥: ٨ وعبرانيين ٩: ٢٦ و١يوحنا ٢: ١٨ وص ١: ١٣
إِنَّمَا نِهَايَةُ كُلِّ شَيْءٍ قَدِ ٱقْتَرَبَتْ هذا موافق لقوله «على استعداد أن يدين» (ع ٥) وقول المسيح في (متّى ٤: ١٧). وما قاله بطرس نفسه (٢بطرس ٣: ٤ – ١٠) فلم يشر بذلك إلى خراب أورشليم أو إلى موت بعض أفراد الناس بل إلى مجيء المسيح ثانية وما يتعلق به وقد أخبره الرب نفسه أنه لا يقدر أحد أن يعرف زمان مجيئه (لوقا ١٢: ٤١ – ٤٦) ولذلك كان عليه أن ينتظره دائماً كما قصد المسيح.
فَتَعَقَّلُوا أي لتكن شهواتكم وأهواؤكم خاضعة لعقولكم وضمائركم (انظر تفسير ١تيموثاوس ٣: ٢).
وَٱصْحُوا أي انتبهوا لئلا تسقطوا في الخطيئة لما هو محيط بكم من التجارب. فالعبارة كقول المسيح «اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ» (متّى ٢٦: ٤١).
لِلصَّلَوَاتِ الانفرادية والجمهورية. وغاية تلك الصلوات نيل القوة على احتمال التجارب والمعونة في الضيق. فالاقتراب إلى الله بالصلاة نافع للمؤمن لتأثيرها في قلبه ولكونها واسطة الحصول على المساعدة العلوية. وقوله «اصحوا للصلوات» يستلزم أنه يجب عليهم أن يغتنموا كل فرصة للاقتراب من عرش النعمة ويجعلوا كل حادثة من حوادث الدهر موضوع طلبة. والقرينة تدل أن قرب مجيء المسيح يوجب عليهم أن يتوقعوه وأن يسهروا ويصلوا كثيراً لأن يوم مجيئه يقترب يوماً فيوماً ولا يعلم أحد متى يأتي. وقد قال المسيح إن مجيئه يكون كمجيء لص في الليل والعالم غير مستعد له (متّى ٣٤: ٣٧ – ٤٣ ولوقا ٢١: ٣٤ و٣٥ و١تسالونيكي ٥: ٢) فكان عليهم أن يتعقلوا ويصحوا لكي يقتدروا في الصلاة لأن من يصحو للصلاة يكون غنياً في النعمة.
٨ «وَلٰكِنْ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ لِتَكُنْ مَحَبَّتُكُمْ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ شَدِيدَةً، لأَنَّ ٱلْمَحَبَّةَ تَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ ٱلْخَطَايَا».
ص ١: ٢٢ وأمثال ١٠: ١٢ ويعقوب ٥: ٢٠ و١كورنثوس ١٣: ٤
قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ أي ما يأتي أهم ما يُطلب منكم. وكان كذلك إما لأحوالهم الخاصة وإما لأمر المسيح وكون المحبة تكميل الناموس (رومية ١٣: ١٠ و١كورنثوس ١٣: ٤ و١٣).
لِتَكُنْ مَحَبَّتُكُمْ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ شَدِيدَةً هذا يدل على أن لهم شيئاً من الحب لكن الرسول رغب في أن يزداد كثيراً وأن يظهر أكمل ظهور بالقول والعمل. وقد أوصى الرسول قبل هذا بالمحبة الأخوية (ص ١: ٢٢).
لأَنَّ ٱلْمَحَبَّةَ تَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ ٱلْخَطَايَا هذا مقتبس من (أمثال ١٠: ١٢) إلا أنه جاء في سفر الأمثال «تستر كل الذنوب». ولعل ما ذكره بطرس هو الذي تداولته الألسنة لأن يعقوب اقتبسه كذلك (يعقوب ٥: ٢٠) وما يستر الكل يستر الكثير بالضرورة فلا مناقضة. ومعنى «ستر الخطايا» غفرانها كما يظهر من (مزمور ٣٢: ١ و٨٥: ٢). وكما إن محبة الوالد لأولاده تحمله على ستر زلاتهم كذلك محبة بعض الإخوة لبعض تحمل الواحد على عذر الآخر بدلاً من أن يراقبها ويسرّ بكشفها لغيره فإن مثل هذا ينشئ الخصومات في الكنيسة ولكن الستر ينشئ الوفاق. ومعنى العبارة أن المحب يستر ذنوب المحبوب عن الناس بسكوته عنها أو باعتذاره عنه ويسترها عن الله برده الضال عن ضلاله وإرشاده إلى المسيح ليرجع إليه بالتوبة والإيمان. ولعل ما قصده بطرس هنا سترها عن الناس وما قصده يعقوب (يعقوب ٥: ٢٠) هو سترها عن الله.
٩ «كُونُوا مُضِيفِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً بِلاَ دَمْدَمَةٍ».
١تيموثاوس ٣: ٢ وعبرانيين ١٣: ٢ وفيلبي ٢: ١٤
كُونُوا مُضِيفِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ما أوجب هذا على المسيحيين الأولين ذُكر في تفسير (رومية ١٢: ١٣ انظر ١تيموثاوس ٣: ٢ و٥: ١٠ وتيطس ١: ٨ وعبرانيين ١٣: ٢ و٣يوحنا ٥ – ٨).
بِلاَ دَمْدَمَةٍ أي بلا تذمر لما تكلفونه من عناء ونفقة وتعطيل وقت وكثير من واجبات الضيافة كإظهار البشاشة والترحيب.
١٠ «لِيَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ مَا أَخَذَ مَوْهِبَةً يَخْدِمُ بِهَا بَعْضُكُمْ بَعْضاً، كَوُكَلاَءَ صَالِحِينَ عَلَى نِعْمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمُتَنَوِّعَةِ».
رومية ١٢: ٦ و١كورنثوس ٤: ٧
بِحَسَبِ مَا أَخَذَ مَوْهِبَةً المراد «بالموهبة» هنا ما منحه الله الإنسان من الوسائل التي يستطيع أن ينفع غيره بها في الروحيات والجسديات. والمواهب الروحية التي أنعم الله بها على المسيحيين الأولين ذُكرت في (١كورنثوس ١٢: ١ – ١٠). ذكرهم بأنهم أخذوها ولم يقتنوها باجتهادهم فلزم من ذلك وجوب أن لا يستعملوها لمجرد نفع أنفسهم. وقوله «بحسب ما أخذ» يدل على تنوع المواهب.
يَخْدِمُ بِهَا بَعْضُكُمْ بَعْضاً هذا يقرب معنى ولفظاً مما قاله بولس في (رومية ١٢: ٦ – ٨ فارجع إلى تفسيره). ويلزم من هذا أن يقوموا بما توجبه عليهم تلك المواهب على أنواعها جسدية أو روحية لمن يحتاجون إليها (٢كورنثوس ٣: ٣ و٨: ١٩ و٢٠).
كَوُكَلاَءَ صَالِحِينَ وجب أن يعتبروا أنفسهم وكلاء الله في نفع غيرهم وإن الله أعطاهم مواهب ووزنات ونعمة ومعرفة ومالاً لتلك الغاية الخيرية لا لنفعهم ولذّتهم ومجدهم (انظر تفسير ١كورنثوس ٤: ١ و٢ ولوقا ١٦: ١ و٢ و٨). ونعت الوكلاء «بالصالحين» بياناً أنهم يستعملون مواهبهم في طريق يرضاها الله والناس ولعل بطرس خطر على باله وهو يكتب هذا الكلام مثَل العشر الوزنات (متّى ٢٥: ١٤ – ٣٠) ومثَل وكيل الظلم (لوقا ١٦: ١ – ١٣). وما يأتي في الآية التالية بيان ما قصده بالموهبة وطريق استعمالها.
١١ «إِنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ فَكَأَقْوَالِ ٱللّٰهِ، وَإِنْ كَانَ يَخْدِمُ أَحَدٌ فَكَأَنَّهُ مِنْ قُوَّةٍ يَمْنَحُهَا ٱللّٰهُ، لِكَيْ يَتَمَجَّدَ ٱللّٰهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي لَهُ ٱلْمَجْدُ وَٱلسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ. آمِينَ».
١تسالونيكي ٢: ٤ وتيطس ٢: ١ و١٥ وعبرانيين ١٣: ٧ وأعمال ٧: ٣٨ وأفسس ٦: ١٠ وص ١: ١٩ و١كورنثوس ١٠: ٣١ وص ٢: ١٢ ورؤيا ١: ٦ و٥: ١٣ وص ٥: ١١ ورومية ١١: ٣٦
إِنْ كَانَ يَتَكَلَّم أَحَدٌ أي يبشر بالإنجيل أو يعظ.
فَكَأَقْوَالِ ٱللّٰهِ أي لا يجوز له أن يتكلم بآرائه لكي يظهر علمه وفصاحته بل يجب عليه أن يتكلم بما أعلنه الله له بالوحي أو بالكتاب. وأكثر الإشارة «بالأقوال» إلى كلام العهد القديم إذ لم يكن نُشر في عصر بطرس من كلام الإنجيل إلا قليل (أعمال ٧: ٣٨ ورومية ٣: ٢ وعبرانيين ٥: ١٢) والخلاصة أنه يجب أن يحسب الله المتكلم وأنه هو آلة أو صوت (يوحنا ١: ٢٣).
وَإِنْ كَانَ يَخْدِمُ أَحَدٌ أي يفرّق الإحسان على المحتاجين. فلم يشر بذلك إلى قيام الشماس بما يجب عليه بل إلى ما هو على كل المؤمنين من خدمة الغرباء والمرضى والمساكين والمسجونين.
فَكَأَنَّهُ مِنْ قُوَّةٍ يَمْنَحُهَا ٱللّٰهُ أي يجب أن يعطي بتواضع حاسباً أن الله أعطاه ماله لكي ينفع غيره وأنهم يوزعون من خزائنه تعالى كما وزع يوسف من خزائن فرعون (تكوين ٤٧: ٢٣ – ٢٦).
لِكَيْ يَتَمَجَّدَ ٱللّٰهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ إن المحسنين الحقيقيين لا يأخذون الإكرام لأنفسهم لسخائهم بل يعترفون بأنهم ليسوا سوى وكلاء نعمة الله ويتحقق المحسن إليهم أنه لولا المسيح ما أحسنوا إليهم. ويتحقق الجميع إن المواهب التي اعتادتها الكنيسة إنما بلغتها بواسطة المسيح لأجل مجد الله. وأشار بقوله «كل شيء» إلى المواهب الجسدية والروحية.
ٱلَّذِي لَهُ ٱلْمَجْدُ وَٱلسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ المرجح إن هذا تسبيح لله اعتاده المسيحيون الأولون في مجتمعاتهم الروحية ويؤيد ذلك استعمال يوحنا الرسول إياه (رؤيا ١: ٦). ونسب بطرس هذا التسبيح إلى المسيح وأتى به هنا لإثبات أنه يجب أن يكرم الله بواسطة تلك المواهب لأنه يحق له هذا الإكرام في الكنيسة على الأرض وبين المتمجدين في السماء.
آمِينَ ليس هذا دليلاً على ختام الكلام بل إثبات لما سبق واشترك بطرس فيه كأنه قال «ليكن ذلك».
حث على الشجاعة والصبر في أيام الاضطهاد ع ١٢ إلى ١٩
١٢ «أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، لاَ تَسْتَغْرِبُوا ٱلْبَلْوَى ٱلْمُحْرِقَةَ ٱلَّتِي بَيْنَكُمْ حَادِثَةٌ، لأَجْلِ ٱمْتِحَانِكُمْ، كَأَنَّهُ أَصَابَكُمْ أَمْرٌ غَرِيبٌ».
ص ٢: ١١ وص ١: ٦
تكلم بطرس قبلاً على احتمال الاضطهادات بالصبر باعتبار أنها صادرة من الناس (ص ٣: ١٣ – ١٧) وتكلم عليها هنا باعتبار كونها علامات المشاركة للمسيح وتمهيداً لتمجدهم معه. وأبان وجوب الاحتراس من أنها تأتي عليهم تأديباً لهم على ذنوبهم ووجوب أن لا تكون إلا من أجل اسم المسيح وإن تلك المصائب جزء من الدينونة الآتية على العالم التي بداءتها من بيت الله.
أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ (ص ٢: ١١) ناداهم بهذا إيماء إلى أن ما يتكلم به ناتج عن خالص حبه لهم وشفقته عليهم.
لاَ تَسْتَغْرِبُوا أي لا تحسبوا ما سيقع عليكم من الأرزاء أمراً مخالفاً لما توقعتموه حين آمنتم بالمسيح أو لما أصاب غيركم من المؤمنين.
ٱلْبَلْوَى ٱلْمُحْرِقَةَ ٱلَّتِي بَيْنَكُمْ حَادِثَةٌ عنى بهذا شدة الاضطهاد لكنائس أسيا. ووصفها «بالمحرقة» إشارة إلى شدة الألم كأنه ألم ناشئ عن لذع النار للجسد وإلى قصد الله امتحانهم بها كما تُمتحن المعادن بنار البوطة الممحصة على وفق قول المرنم «جَرَّبْتَنَا يَا اَللّٰهُ. مَحَصْتَنَا كَمَحْصِ ٱلْفِضَّةِ» (مزمور ٦٦: ١٠ انظر أيضاً ص ١: ٧ ورؤيا ٣: ١٨).
لأَجْلِ ٱمْتِحَانِكُمْ أي لهذا سمح الله بوقوع البلوى.
كَأَنَّهُ أَصَابَكُمْ أَمْرٌ غَرِيبٌ هذا متعلق بقوله «لاَ تَسْتَغْرِبُوا» لأن البلوى لم تقع اتفاقاً وليست مخالفة لما وعد الله به تابعيه من الحماية وليست فوق المعتاد لأن المسيح قال «لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ. إِنْ كَانُوا قَدِ ٱضْطَهَدُونِي فَسَيَضْطَهِدُونَكُمْ» (يوحنا ١٥: ٢٠). «فِي ٱلْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ» (يوحنا ١٦: ٣٣). وقال بولس لمؤمني تسالونيكي «لاَ يَتَزَعْزَعَ أَحَدٌ فِي هٰذِهِ ٱلضِّيقَاتِ. فَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّنَا مَوْضُوعُونَ لِهٰذَا» (١تسالونيكي ٣: ٣ انظر متّى ١٦: ٢٤ ومرقس ٨: ٣٤ ولوقا ٩: ٢٣ وأعمال ١٤: ٢٢ و٢تيموثاوس ٣: ١٢).
١٣ «بَلْ كَمَا ٱشْتَرَكْتُمْ فِي آلاَمِ ٱلْمَسِيحِ ٱفْرَحُوا لِكَيْ تَفْرَحُوا فِي ٱسْتِعْلاَنِ مَجْدِهِ أَيْضاً مُبْتَهِجِينَ».
فيلبي ٣: ١٠ و٢كورنثوس ١: ٥ و٤: ١٠ ورومية ٨: ١٧ و٢تيموثاوس ٢: ١٢ وص ١: ٧ و٥: ١
كَمَا ٱشْتَرَكْتُمْ فِي آلاَمِ ٱلْمَسِيحِ ٱفْرَحُوا مشاركتهم المسيح في الآلام هي أنهم تألموا للغاية التي لها تألم المسيح وهي إثبات الحق والبر ومجد الله ونفع الناس. واضطُهدوا لكونهم متمثلين بالمسيح وتابعين إياه والمسيح أظهر أنه اعتبر ضيقات تلاميذه ضيقاته بقوله لشاول المضطهد لشعبه «شَاوُلُ، شَاوُلُ، لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي» (أعمال ٩: ٤ انظر أيضاً متّى ٥: ١٢ و٢كورنثوس ٤: ١٠ وكولوسي ١: ٢٤ وعبرانيين ١٣: ١٢ و١٣). وتفسير قول بولس في شركة آلام المسيح في تفسير (فيلبي ٣: ١٠ فارجع إليه). وقال «افرحوا» بالنظر إلى السماء بالمسيح ومواعيده لهم.
لِكَيْ تَفْرَحُوا فِي ٱسْتِعْلاَنِ مَجْدِهِ أَيْضاً أي عند مجيئه الثاني (متّى ٢٣: ٣٠).
مُبْتَهِجِينَ إن الفرح الذي أمر به في أول الآية جزئي وممزوج بالحزن لأنه جزء من الامتحان وأما الفرح المذكور ثانية فهو يكون عند نهايته ويكون كاملاً في حضرة الرب حين يثيبهم على كل ما فعلوه واحتملوه من أجل اسمه.
١٤ «إِنْ عُيِّرْتُمْ بِٱسْمِ ٱلْمَسِيحِ فَطُوبَى لَكُمْ، لأَنَّ رُوحَ ٱلْمَجْدِ وَٱللّٰهِ يَحِلُّ عَلَيْكُمْ. أَمَّا مِنْ جِهَتِهِمْ فَيُجَدَّفُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَتِكُمْ فَيُمَجَّدُ».
يوحنا ١٥: ٢١ وع ١٦ وعبرانيين ١١: ٢٦ ومتّى ٥: ١١ ولوقا ٦: ٢٢ وأعمال ٥: ٤١ و٢كورنثوس ٤: ١٠ و١٦
إِنْ عُيِّرْتُمْ بِٱسْمِ ٱلْمَسِيحِ أي من أجل المسيح لكونكم له على حد قول المسيح «مَنْ سَقَاكُمْ كَأْسَ مَاءٍ بِٱسْمِي لأَنَّكُمْ لِلْمَسِيحِ الخ» (مرقس ٩: ٤١).
فَطُوبَى لَكُمْ (انظر تفسير متّى ٥: ١٢). وعلّة كون الطوبى لهم إنهم أشبهوا المسيح بالنظر إلى احتمال العار فإنهم باحتماله أظهروا محبتهم له وشهدوا بصحة دعواه ولأنه تقترن بركات روحية عظيمة بهذه الضيقات الآن ومجازاة سماوية أخيراً.
لأَنَّ رُوحَ ٱلْمَجْدِ وَٱللّٰهِ يَحِلُّ عَلَيْكُمْ هذا «الروح» هو الروح القدس وُصف بصفتين والمعنى أنه الروح المجيد وأنه إله. وسمي أيضاً «روح الحق» (يوحنا ١٤: ١٧). و «روح القداسة» (رومية ١: ٤) و «روح النعمة» (عبرانيين ١٠: ٢٩)، ووعد المؤمنون بحلول «روح المجد والله» عليهم جزاء على ما أصابهم من تعيير الناس وتأثيره. ومعنى حلوله عليهم بقاؤه معهم ومنح إياهم الراحة والاطمئنان لتقويتهم وتعزيتهم كما وُعد المسيح بقول النبي «يَحِلُّ عَلَيْهِ رُوحُ ٱلرَّبِّ، رُوحُ ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْفَهْمِ، رُوحُ ٱلْمَشُورَةِ وَٱلْقُوَّةِ، رُوحُ ٱلْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ ٱلرَّبِّ» (إشعياء ١١: ٢). وكما قيل في شيوخ إسرائيل (عدد ١١: ٢٥ و٢٦) والله نفسه يمكث مع الذين يحل الروح عليهم لأنه روح الله فالراحة حيث كان. ولعل بطرس ذكر حين قال هذا السحابة المنيرة التي كانت تظهر في قدس الأقداس في الخيمة والهيكل وكانت لإسرائيل علامة حضور الله وحمايته لهم.
أَمَّا مِنْ جِهَتِهِمْ أي من جهة المضطَّهِدين.
فَيُجَدَّفُ عَلَيْهِ أي على الروح القدس الذي يحل على المؤمنين ويُعلن نفسه بهم. نسب بلينوس في ما كتبه إلى تريجانس الأمبراطور إلى المسيحيين العناد لأنهم أبوا أن يعبدوا الأوثان وقال إنهم مستحقون القصاص على ذلك. ونسب إليهم مرقس أوريليوس الأمبراطور الجهل بأنهم فضلوا أن يموتوا على أن يذبحوا للأوثان. وبإهانتهم للمسيحيين أهانوا الروح الذي حل عليهم.
وَأَمَّا مِنْ جِهَتِكُمْ فَيُمَجَّدُ بإكرامكم إياه بكلامكم وصبركم في الضيقات وطهارة سيرتكم.
١٥ «فَلاَ يَتَأَلَّمْ أَحَدُكُمْ كَقَاتِلٍ، أَوْ سَارِقٍ، أَوْ فَاعِلِ شَرٍّ، أَوْ مُتَدَاخِلٍ فِي أُمُورِ غَيْرِهِ».
ص ٢: ١٩ و٣: ١٧ و١تسالونيكي ٤: ١١ و٢تسالونيكي ٣: ١١ و١تيموثاوس ٥: ١٣
فَلاَ يَتَأَلَّمْ أَحَدُكُمْ كَقَاتِلٍ حذّرهم من أن يعرّضوا أنفسهم لبغض الحكام وللموت بارتكاب الذنوب وأن يتركوا سبيلاً لسوء الظن فيهم فيضطهدوهم. قال بعض المؤرخين الأولين أنه في بدء المناداة بالإنجيل اعترف بعض المجرمين المشهورين بالإيمان المسيحي وعرّضوا أنفسهم للموت شهادة بصحة دينهم لظنهم أنهم إذا ماتوا شهداء كفّر ذلك كل خطاياهم وتحققوا سعادتهم الأبدية.
مُتَدَاخِلٍ فِي أُمُورِ غَيْرِهِ (انظر تفسير فيلبي ٢: ٤ و٢تسالونيكي ٣: ١١ و١تيموثاوس ٥: ١٣). ولعله أشار بهذا إلى من يغضب الوثنيين بضحكه على عبادتهم الجهلية أو بانتقاده أعمالهم وقدحه فيهم على ذنوبهم أو بفرط غيرته بغية أن يغيروا عقائدهم فيعرّض بذلك نفسه لبغضهم وانتقامهم.
١٦ «وَلٰكِنْ إِنْ كَانَ كَمَسِيحِيٍّ فَلاَ يَخْجَلْ، بَلْ يُمَجِّدُ ٱللّٰهَ مِنْ هٰذَا ٱلْقَبِيلِ».
أعمال ٥: ٤١ و٢٨: ٢٢ ويعقوب ٢: ٧
وَلٰكِنْ إِنْ كَانَ كَمَسِيحِيٍّ أي إن تألم لكونه مسيحياً ولاعترافه بدين المسيح. استعمل بطرس اللقب الذي كان الوثنيون يلقبون به المؤمنين بالمسيح تعييراً لهم. ولم يُذكر هذا اللقب في العهد الجديد إلا في موضعين غير هذا (أعمال ١١: ٢٦ و٢٦: ٢٨). وكانوا يدعون بعضهم بعضاً «إخوة» و «تلاميذ وقديسين» و «الذين من هذا الطريق».
فَلاَ يَخْجَلْ كما يخجل لو لُقِّب بقاتل أو سارق أو بما شاكل ذلك وإن كان قصد الأعداء «بالمسيحي» أشد التعيير. وبالأولى يجب أن لا يخجلوا من الاعتراف باسم المسيح أو الموت من أجله.
يُمَجِّدُ ٱللّٰهَ الخ لأجل ذلك التعيير لأنه يجب عليه أن يحسبه شرفاً كما حسبه الرسل (أعمال ٥: ٤١ انظر أيضاً فيلبي ٣: ١٠ وكولوسي ١: ٢٤).
١٧ «لأَنَّهُ ٱلْوَقْتُ لابْتِدَاءِ ٱلْقَضَاءِ مِنْ بَيْتِ ٱللّٰهِ. فَإِنْ كَانَ أَوَّلاً مِنَّا، فَمَا هِيَ نِهَايَةُ ٱلَّذِينَ لاَ يُطِيعُونَ إِنْجِيلَ ٱللّٰهِ؟».
إرميا ٢٥: ٢٩ وحزقيال ٩: ٦ وعاموس ٣: ٢ و١تيموثاوس ٣: ١٥ وعبرانيين ٣: ٦ وص ٢: ٥ رومية ٢: ٩ و٢تسالونيكي ١: ٨ ورومية ١: ١ ومتّى ٢٤: ٢٤
لأَنَّهُ ٱلْوَقْتُ لابْتِدَاءِ ٱلْقَضَاءِ أشار بهذا إلى أن ما وقع عليهم من الاضطهاد بداءة الامتحان الذي قُضي به على كل الناس في يوم الدين العظيم الذي غايته تمييز القمح عن الزوان وفصل كل عن الآخر (متّى ٣: ١٢) والخراف عن الجداء (متّى ٢٥: ٣٢ و٣٣) والأبرار عن الأشرار.
مِنْ بَيْتِ ٱللّٰهِ أي الكنيسة بيت الله الروحي (ص ٢: ٥). وقول بولس في بداءة هذا القضاء «لأَنَّنَا لَوْ كُنَّا حَكَمْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا لَمَا حُكِمَ عَلَيْنَا، وَلٰكِنْ إِذْ قَدْ حُكِمَ عَلَيْنَا نُؤَدَّبُ مِنَ ٱلرَّبِّ لِكَيْ لاَ نُدَانَ مَعَ ٱلْعَالَمِ» (١كورنثوس ١١: ٣١ و٣٢). ولعل بطرس ذكر لما كتب هذا قول الله لملائكة النقمة «اَلشَّيْخَ وَٱلشَّابَّ وَٱلْعَذْرَاءَ وَٱلطِّفْلَ وَٱلنِّسَاءَ. ٱقْتُلُوا لِلْهَلاَكِ. وَلاَ تَقْرَبُوا مِنْ إِنْسَانٍ عَلَيْهِ ٱلسِّمَةُ، وَٱبْتَدِئُوا مِنْ مَقْدِسِي» (حزقيال ٩: ٦). ذهب بعضهم أن بطرس أراد «ببيت الله» هيكل أورشليم أو الأمة اليهودية وأشار إلى خراب أورشليم الذي كان على وشك الحدوث. والمرجّح أنه أشار بذلك إلى مؤمني الكنيسة المسيحية الذين كانوا حينئذ شعب الله الحقيقي.
فَإِنْ كَانَ أَوَّلاً مِنَّا، فَمَا هِيَ نِهَايَةُ الخ فإن كان الله قد سمح بأن يُصاب الطائعون بهذه الضيقات فكم بالأولى تكون مصائب العصاة شديدة لأنه إن كان قد سمح بوقوعها على الذين يحبهم لكي يمتحنهم فكم تكون مصائب أعدائه شديدة وهي عقاب لهم. وإن كان قد أدّب شعبه الضال لكي يأتي به إلى الطاعة ويقوده إلى وطنه السماوي فكم بالأولى يعاقب الأشرار المقاومين له (مزمور ٧٣: ١٢ – ١٨). وأراد «بالنهاية» القضاء المذكور في أول هذه الآية وهو الذي ابتدأ قبل اليوم في بيت الله لامتحانه وتنقيته ولم يُجرَ على العالم بعد. والمراد بالذين «لا يطيعون إنجيل الله» غير المؤمنين من اليهود والأمم. وفي هذا القول إنذار للمؤمنين أيضاً لئلا يجرّبوا فيرجعوا إلى الديانة اليهودية أو يقعوا في خطايا الوثنية.
١٨ «وَإِنْ كَانَ ٱلْبَارُّ بِٱلْجَهْدِ يَخْلُصُ، فَٱلْفَاجِرُ وَٱلْخَاطِئُ أَيْنَ يَظْهَرَانِ؟».
أمثال ١١: ٣١ ولوقا ٢٣: ٢١ و١تيموثاوس ١: ٩
إِنْ كَانَ ٱلْبَارُّ الخ هذا مقتبس من (أمثال ١١: ٣١) على ما في الترجمة السبعينية والمراد «بالبار» هنا هو الذي يجتهد أن يسير في طريق الله بخلاف الأشرار وإنما هو بار بالنسبة إلى الأشرار لا إلى المتبرّرين أخيراً أمام الله.
بِٱلْجَهْدِ يَخْلُصُ قال هذا بالنظر إلى شدة الامتحان الذي يُمتحن المؤمن به وإلى ضعفه. وحين ينظر الله يوم الدين في كل أعمال المسيحي في حياته على الأرض ويرى كم مرة نكث عهوده وكم مرة عصاه وكم كانت قلة إيمانه ومحبته وكثرة شكوكه وتذمراته على قضائه وكثرة مخالفته لضميره وقلة غيرته لمجد الله وخلاص نفوس الناس يحق أن يُقال «بالجهد خلص» لأنه كان قريباً جداً إلى الهلاك مراراً كثيرة.
فلو أمكن أفضل المسيحيين وهو يفارق هذا العالم أن يراجع كل حوادث حياته ويقابل نعمة الله عليه بعدم أمانته لله نعجب من أنه كيف أمكنه أن يدخل السماء ولم يعجب من أن بولس قال «بَلْ أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُهُ، حَتَّى بَعْدَ مَا كَرَزْتُ لِلآخَرِينَ لاَ أَصِيرُ أَنَا نَفْسِي مَرْفُوضاً» (١كورنثوس ٩: ٢٧). ويشبه هذا القول قوله «إِنِ ٱحْتَرَقَ عَمَلُ أَحَدٍ فَسَيَخْسَرُ، وَأَمَّا هُوَ فَسَيَخْلُصُ، وَلٰكِنْ كَمَا بِنَارٍ» (١كورنثوس ٣: ١٥). ولعل بطرس ذكر حين كتب هذه الآية قول المسيح له «سِمْعَانُ سِمْعَانُ، هُوَذَا ٱلشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَٱلْحِنْطَةِ! وَلٰكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ» (لوقا ٢٢: ٣١ و٣٢). وإذا نظرنا إلى الصعوبات التي في طريق خلاص المؤمن وشدة التجارب التي هو عرضة لها لم نعجب من قول المسيح «ٱجْتَهِدُوا أَنْ تَدْخُلُوا مِنَ ٱلْبَابِ ٱلضَّيِّقِ، فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَطْلُبُونَ أَنْ يَدْخُلُوا وَلاَ يَقْدِرُونَ» (لوقا ١٣: ٢٤). ويقوي رجاء المسيحي لخلاصه قول المسيح «غَيْرُ ٱلْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ ٱلنَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ» (لوقا ١٨: ٢٧). قال بطرس هذه الآية وهو ناظر إلى الموانع التي في طريق الخلاص ولكنه قال بعد ذلك وهو ناظر إلى عظمة وسائل نعمة للخلاص «يُقَدَّمُ لَكُمْ بِسِعَةٍ دُخُولٌ إِلَى مَلَكُوتِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱلأَبَدِيِّ» (٢بطرس ١: ١١).
فَٱلْفَاجِرُ وَٱلْخَاطِئُ أَيْنَ يَظْهَرَانِ أي أيّ رجاء لخلاصهما. والمعنى أنهما يهلكان لا محالة لكثرة خطاياهما وحبهما للخطيئة ولقساوة قلوبهما وقوة الشيطان عليهما ولأنهما لم يستعملا الوسائل التي منحها إياها الله لنيل الخلاص.
١٩ «فَإِذاً، ٱلَّذِينَ يَتَأَلَّمُونَ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ ٱللّٰهِ فَلْيَسْتَوْدِعُوا أَنْفُسَهُمْ كَمَا لِخَالِقٍ أَمِينٍ فِي عَمَلِ ٱلْخَيْرِ».
ص ٣: ١٧
فَإِذاً أي لأن بداءة القضاء من المؤمنين زهيدة جداً بالنسبة إلى نهاية الأشرار المخيفة ولأن الله يمتحنهم بهذه المصائب وينقيهم لكي لا يدانوا مع العالم.
ٱلَّذِينَ يَتَأَلَّمُونَ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ ٱللّٰهِ على المؤمنين أن يعتبروا اضطهاداتهم حتى الموت نفعاً لهم بمقتضى قضاء الله (ص ٣: ١٧ و٤: ١٥ و١٦).
فَلْيَسْتَوْدِعُوا أَنْفُسَهُمْ لحماية أجسادهم إذا استحسن الله أن يحيوا ولخلاصهم الأبدي في كل الأحوال. ولعله خطر هنا على بال بطرس قول المسيح على الصليب «يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي» (لوقا ٢٣: ٤٦). فأمرهم بطرس أن يحسبوا نفوسهم وديعة أو كنزاً يضعونه في الله بكل ثقة واطمئنان. فمعنى الاستيداع هنا كمعناه في (لوقا ١٢: ٤٨ وأعمال ١٤: ٢٣ و٢٠: ٣٢ و١تيموثاوس ١: ١٨ و٢تيموثاوس ١: ١٢ و١٤ و٢: ٢).
كَمَا لِخَالِقٍ أَمِينٍ كون الله خالق النفس يؤكد عنايته بها ويؤيد ذلك قول المسيح «شَعْرَةً مِنْ رُؤُوسِكُمْ لاَ تَهْلِكُ» (لوقا ٢١: ١٨). وكونه أميناً في كل مواعيده وعهوده لشعبه يؤكد حفظه للوديعة.
فِي عَمَلِ ٱلْخَيْرِ في هذه تحذير من الكسل والغفلة عن القيام بالواجبات والطمع في الخلاص لمجرد الاسم المسيحي فإن المسيح قال «لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، يَدْخُلُ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى ٧: ٢١).
السابق |
التالي |