رسالة بطرس الأولى | 03 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح رسالة بطرس الأولى
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح الثالث
في هذا الأصحاح بيان ما يجب على المؤمنات لرجالهن من إكرامهم ومن لباسهن وتمثلهن بسارة في سلوكهن (ع ١ – ٦). وما يجب على المؤمنين لنسائهم من إكرامهن الإكرام اللائق بهن (ع ٧). وما يجب على كل الإخوة من الاتحاد والمحبة وعدم المجازاة على الشر بشر (ع ٨ – ١٤). ووجوب الاستعداد للمجاوبة أن يذكروا المسيح في ضيقاته وصبره وانتصاره متذكرين طول آناة روحه وهو يبشر العصاة الذين هلكوا بالطوفان ونجاة نوح وأهله (ع ١٨ – ٢٢).
ما يجب على المؤمنات لرجالهن ع ١ إلى ٦
١ «كَذٰلِكُنَّ أَيَّتُهَا ٱلنِّسَاءُ كُنَّ خَاضِعَاتٍ لِرِجَالِكُنَّ، حَتَّى وَإِنْ كَانَ ٱلْبَعْضُ لاَ يُطِيعُونَ ٱلْكَلِمَةَ، يُرْبَحُونَ بِسِيرَةِ ٱلنِّسَاءِ بِدُونِ كَلِمَةٍ».
ص ٢: ١٨ ع ٧ وأفسس ٥: ٢٢ و١كورنثوس ٩: ١٩
كَذٰلِكُنَّ أَيَّتُهَا ٱلنِّسَاءُ أي كما يجب على العبيد أن يسلكوا بمقتضى الإنجيل يجب على النساء الخ.
كُنَّ خَاضِعَاتٍ لِرِجَالِكُنَّ الخضوع أول الواجبات المذكورة هنا وقول بطرس هنا كقول بولس في (١كورنثوس ١١: ٣ – ٩ وأفسس ٥: ٢٢ وتيطس ٢: ٥) فانظر تفسير كل ذلك. كانت أحوال النساء بين الوثنيين في عصر الرسول مما يُرثى له لأن الشريعة الرومانية أباحت للرجل سلطة على امرأته وأولاده كسلطته على عبده وبهيمته. ومن المحتمل أن المرأة المؤمنة كانت عرضة لأن تترك زوجها الظالم فنصح بولس المؤمنات أن لا يتركن أزواجهن (١كورنثوس ٧: ١٣ – ١٥). وأمرها بطرس أيضاً هنا بالخضوع في تلك الحال وأن تؤثر فيها الخضوع على الترك وأبان إحدى علل ذلك.
وَإِنْ كَانَ ٱلْبَعْضُ لاَ يُطِيعُونَ ٱلْكَلِمَةَ أي وإن كان لإحدى المؤمنات بعل وثني. وهذا لا بد من أن يحدث كثيراً في أول دخول الإنجيل بين الأمم فإن النساء تقبل الإنجيل والرجال يرفضونه فإنه فرض هنا أن الرجال الوثنيين لا يقتنعون بوعظ المبشرين وإنهم يرفضونه عند سماعهم إياه من أفواههم.
يُرْبَحُونَ بِسِيرَةِ ٱلنِّسَاءِ بِدُونِ كَلِمَةٍ أي يُربحون للإيمان بالمسيح والطاعة له بحسن سلوك نسائهم إذ يقتنعون بصحة الدين المسيحي وقوته وهم يلاحظون على توالي الأيام تأثيره في طباع النساء وأقوالهن وأعمالهن فيستدلون على أنه من الله. وهذا لا يستلزم أن الحق ليس بآلة لتجديد القلب في مثل تلك الحال (على ما في يعقوب ١: ١٨ ويوحنا ١٧: ١٧). بل يدل على أن ما عجز الحق عنه وهو ينادي به على منبر الكنيسة يستطيعه بأن يُعلن بسيرة النساء المقدسة فإنه بحسن سلوكهن وإضاءة أنوارهن يكن أفضل مبشرات ويتم حقيقة قول المرنم «ٱلرَّبُّ يُعْطِي كَلِمَةً. ٱلْمُبَشِّرَاتُ بِهَا جُنْدٌ كَثِيرٌ» (مزمور ٦٨: ١١).
٢ «مُلاَحِظِينَ سِيرَتَكُنَّ ٱلطَّاهِرَةَ بِخَوْفٍ».
مُلاَحِظِينَ لعل الرجال توهموا أن التبشير بالإنجيل المنادي بالحرية المسيحية ينشئ عصيان النساء في البيت كما توهم السادة أنه ينشئ عصيان العبيد لكنهم بعد أن رأوا عكس ذلك طرحوا ذلك التوهم.
سِيرَتَكُنَّ ٱلطَّاهِرَةَ بِخَوْفٍ وصف الرسول بما ذكره بالإيجاز كل سلوك المرأة المؤمنة بمقتضى الإنجيل. ثم فسر ذلك بما يأتي سلباً وإيجاباً. و «الخوف» هنا الخوف من الله لا الخوف من الأزواج.
٣ «وَلاَ تَكُنْ زِينَتُكُنَّ ٱلزِّينَةَ ٱلْخَارِجِيَّةَ مِنْ ضَفْرِ ٱلشَّعْرِ وَٱلتَّحَلِّي بِٱلذَّهَبِ وَلِبْسِ ٱلثِّيَابِ».
١تيموثاوس ٢: ٩ وإشعياء ٣: ١٨
ينتج من هذه الآية أن بعض مؤمنات كنائس أسيا الصغرى كن غنيات ويؤيد ذلك ما قيل في مؤمنات أفسس (١تيموثاوس ٢: ٩).
لاَ تَكُنْ زِينَتُكُنَّ إلخ لم يقصد الرسول أن يحذرهنّ من محبة لبس الملبوسات الثمينة والزينة والتحلي بالذهب بل أن يوضح لهم إن أفضل طريق إلى جذب قلوب رجالهن إليهن وأن يتمثلوا بهن في قبول إنجيل المسيح هو أن لا يتوقعن أن يربحنهم للحق بالزيتة الخارجية بل بالفضائل القلبية. ذكر الرسول هنا ثلاثة أنواع من الزينة التي اعتادتها النساء وهي «ضفر الشعر» و «التحلي بالذهب» و «لبس الثياب الفاخرة» وهي تشغل كثيراً من الوقت وتقتضي نفقة وافرة واهتماماً زائداً وقد ذكر مؤرخو الرومانيين في ذلك العصر وفرة نفقات النساء على الملبوسات والحلي وفرط اهتمامهن بذلك فقال بلينوس «بلغت قيمة حلي إحدى السيدات وهي لاليا بولينا ما يعدل أربع مئة ألف واثنين وثلاثين ألفاً من الليرات الإنكليزية. وكان لهنّ جوار خاصة لضفر الشعر وتفتيله وتعليق اللآلئ به». فلم يرد بطرس أن تتمثل المؤمنات بهن في الترفه والزينة الخارجية بل قصد أن يبين لهنّ أن هذه الزينة ليست شيئاً بالنسبة إلى زينة أخرى اختارها الله وسرّ بها وهي ما يُبلغ بها المقصود وهي جذب قلوب الرجال إلى قبول ديانتهن. وهذا يوافق قول بولس «كَذٰلِكَ أَنَّ ٱلنِّسَاءَ يُزَيِّنَّ ذَوَاتِهِنَّ بِلِبَاسِ ٱلْحِشْمَةِ مَعَ وَرَعٍ وَتَعَقُّلٍ، لاَ بِضَفَائِرَ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ لآلِئَ أَوْ مَلاَبِسَ كَثِيرَةِ ٱلثَّمَنِ، بَلْ كَمَا يَلِيقُ بِنِسَاءٍ مُتَعَاهِدَاتٍ بِتَقْوَى ٱللّٰهِ بِأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ» (١تيموثاوس ٢: ٩ و١٠ فانظر تفسير ذلك).
٤ «بَلْ إِنْسَانَ ٱلْقَلْبِ ٱلْخَفِيَّ فِي ٱلْعَدِيمَةِ ٱلْفَسَادِ، زِينَةَ ٱلرُّوحِ ٱلْوَدِيعِ ٱلْهَادِئِ، ٱلَّذِي هُوَ قُدَّامَ ٱللّٰهِ كَثِيرُ ٱلثَّمَنِ».
بَلْ إِنْسَانَ ٱلْقَلْبِ ٱلْخَفِيَّ هذا معطوف على قوله «الزينة الخارجية» فغاية كون هذا «الإنسان» زينة لهن ربح أزواجهن لحق الإنجيل. والمقصود «بإنسان القلب الخفي» ما عبر عنه بولس «بالإنسان الباطن» (رومية ٧: ٢٢ وأفسس ٣: ١٦) و «الإنسان الداخل» (٢كورنثوس ٤: ١٦). وهو الطبيعة الجديدة التي يخلقها الروح القدس في القلب على صورة المسيح. ونُعت «بالخفي» لأنه غير محسوس كالحلي على أنواعه لكن تدل عليه نتائجه في السيرة. و «القلب» هنا هو النفس المتجددة بالروح القدس المتحلية بالانفعالات المسيحية والفضائل السماوية.
فِي ٱلْعَدِيمَةِ ٱلْفَسَادِ فهي ليست كالحلي الظاهرة التي يزول جمالها وتفنى ولكنها دائمة كالنفس المتحلية بها.
زِينَةَ ٱلرُّوحِ ٱلْوَدِيعِ ٱلْهَادِئِ هذا وصف آخر للزينة الحقيقية فضلاً عن كونها قلبية دائمة. وهي زينة التواضع والهدوء وعكسها الكبرياء وطلب التمسك بالحقوق وخشونة الطبع وإظهار الغضب. وهذا مبني على إنكار النفس والاقتداء بالمسيح الوديع المتواضع القلب (متّى ١١: ١٩ و٢١: ٥).
قُدَّامَ ٱللّٰهِ كَثِيرُ ٱلثَّمَنِ لأنه «لَيْسَ كَمَا يَنْظُرُ ٱلإِنْسَانُ. لأَنَّ ٱلإِنْسَانَ يَنْظُرُ إِلَى ٱلْعَيْنَيْنِ، وَأَمَّا ٱلرَّبُّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى ٱلْقَلْبِ» (١صموئيل ١٦: ٧). فوصفه بطرس وصف طيب ناردين الذي دهنت به مريم الرب (يوحنا ١٢: ٣). ووصف اللؤلؤة التي شبه الرب بها ملكوت السماوات (متّى ١٣: ٤٦). وزينة المؤمنة هنا مثل صفات المرأة الفاضلة التي ذُكرت في سفر الأمثال (أمثال ص ٣١) ولا سيما قوله «العز والبهاء لباسها» (أمثال ٣١: ٢٥). وظن بعضهم أن «كثير الثمن» هو «الروح الوديع الهادئ» وظن آخر أنه «إنسان القلب الخفي» وهذا هو الأرجح. وهو صفة طبيعة المؤمنة المتجددة التي تجعل زوجها يحبها ويقتدي بها وبربها وتجعلها محبوبة كريمة إلى الله أبداً.
٥ «فَإِنَّهُ هٰكَذَا كَانَتْ قَدِيماً ٱلنِّسَاءُ ٱلْقِدِّيسَاتُ أَيْضاً ٱلْمُتَوَكِّلاَتُ عَلَى ٱللّٰهِ، يُزَيِّنَّ أَنْفُسَهُنَّ خَاضِعَاتٍ لِرِجَالِهِنَّ».
١تيموثاوس ٥: ٥ وص ١: ٣
في هذه الآية إثبات لما سبق وبرهان على أن الله يسر بتلك الزينة.
فَإِنَّهُ هٰكَذَا ذكر تقيّات شعب الله القديم اللواتي كانت زينتهن خضوعهن لرجالهن لكي يرغّب المؤمنات في أن يتزين تزينهن ويؤكد لهنّ أن الله كما سرّ بأولئك قديماً يسرّ باللواتي يقتدينَ بهنّ اليوم.
ٱلنِّسَاءُ ٱلْقِدِّيسَاتُ اللواتي كرّمت أسماؤهن بأن ذُكرت ومُدحت في الأسفار المقدسة فوصفهن الرسول وصف الأنبياء القدماء (لوقا ١: ٧٠ وأعمال ٣: ٢١ وأفسس ٣: ٥). لأنهنّ امتزنَ على سائر نساء شعب الله القديم.
ٱلْمُتَوَكِّلاَتُ عَلَى ٱللّٰهِ ّهذا وصف ثانٍ لصلاحهن ّيدل على أن قلوبهنّ كانت متوجهة إلى الله لا إلى أمور هذا العالم وإنهنّ طلبنَ المدح منه تعالى لا من البشر وإنهن اعتبرنَ إنجاز مواعيد الله لهن أفضل من كل مقتنياتهنّ على الأرض.
يُزَيِّنَّ أَنْفُسَهُنَّ خَاضِعَاتٍ لِرِجَالِهِنَّ كان خضوعهنّ زينتهنّ والمراد به القيام بواجباتهنّ البيتية. واعتبرت تلك النساء أن هذا الخضوع يرضي الله وإنه تعالى يثيبهنّ عليه فلم تشتهِ أن تتزين الزينة الخارجية الفانية التي يعتبرها العالم.
٦ «كَمَا كَانَتْ سَارَةُ تُطِيعُ إِبْرَاهِيمَ دَاعِيَةً إِيَّاهُ سَيِّدَهَا. ٱلَّتِي صِرْتُنَّ أَوْلاَدَهَا، صَانِعَاتٍ خَيْراً، وَغَيْرَ خَائِفَاتٍ خَوْفاً ٱلْبَتَّةَ».
تكوين ١٨: ١٢ ع ١٤
كَمَا كَانَتْ سَارَةُ تُطِيعُ إِبْرَاهِيمَ اتخذت النساء القديسات إطاعة سارة لإبراهيم قياساً للإطاعة لرجالهنّ واتخذنها مثالاً لأنها أم الإسرائيليين وكانت تستحق أن يقتدي بها كل بناتها في ملكوت الله قديماً وحديثاً. وحصر بطرس كل صفات سارة باعتبار كونها زوجة بقوله «تطيع».
دَاعِيَةً إِيَّاهُ سَيِّدَهَا لم يُذكر في العهد القديم أنها كانت تناديه بقولها «سيدي» لكنها دعته بذلك في خطابها لنفسها (تكوين ١٨: ١٢) فاتخذ بطرس ذلك دليلاً على أنها كانت تخاطبه بذلك دائماً وأنها اعتبرته رب البيت الذي يحق له أن يسوسه وأن يخضع له كل أهله. وذُكرت سارة في الرسالة إلى العبرانيين بين اللواتي امتزنَ بحسن الإيمان (عبرانيين ١١: ١١). نعم إن تاريخ الكتاب المقدس ذكر أنها أصرّت على إجراء مشيئتها في طلبها من إبراهيم أن يطرد هاجر مرتين (تكوين ١٦: ٥ و٦ و٢١: ١٠) ولكن لا يحق لنا أن نحسب ذلك عدم خضوع منها لأنها أتت ذلك رغبة في وقاية حقوق ابنها إسحاق وفي إنجاز وعد الله في شأنه. ولا يستلزم ما قيل هنا وجوب أن تدعو كل مؤمنة زوجها بسيدها بل أن تكرمه وتعتبره الإكرام والاعتبار الذين يستلزمها ذلك الوصف.
ٱلَّتِي صِرْتُنَّ أَوْلاَدَهَا أي حق لكنّ أن تدعينَ أولادها وأن تجازينَ من الله مجازاتها. وصف بطرس النساء التقيّات قديماً بكونهن متوكلات على الله أي راجيات إنجاز وعده. وكان موضوع رجائهن الخاص إتيان المسيح الموعود به وذلك كما كان موضوع إيمان إبراهيم كان أيضاً موضوع إيمان سارة. ولم يكن كل المؤمنات في عصر الإنجيل أولاد إبراهيم وسارة بالطبيعة بل باشتراكهنّ في إيمانها. آمنت سارة بالمسيح المتوقع أن يأتي فكان عليهنّ أن يؤمنّ بالمسيح الذي قد أتى وبذلك يشتركنَ في كل البركات الروحية التي حصلت سارة عليها.
صَانِعَاتٍ خَيْراً هذه حالٌ قامت مقام الشرط والمعنى أنكن إذا ثابرتن على صنع الخير كما سبق من أمرها دمتنّ أولادها وأُثبتُنّ إثابتها.
غَيْرَ خَائِفَاتٍ خَوْفاً ٱلْبَتَّةَ من تهديدات رجالكن الوثنيين واضطهادتهم وما أشبه ذلك فتكنّ بذلك متمثلات بسارة في أنها كانت أمينة لزوجها ولله بلا التفات إلى النتائج الضارة. فالذين يصونكنّ من أن يتزعزع إيمانكنّ في أثناء التجارب الشديدة هو خوف الله على وفق قول المسيح «لاَ تَخَافُوا مِنَ ٱلَّذِينَ يَقْتُلُونَ ٱلْجَسَدَ… بَلْ خَافُوا بِٱلْحَرِيِّ مِنَ ٱلَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ ٱلنَّفْسَ وَٱلْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ» (متّى ١٠: ٢٨). ولعل بطرس خطر على باله حين كتب هذا قول الحكيم «لاَ تَخْشَى مِنْ خَوْفٍ بَاغِتٍ، وَلاَ مِنْ خَرَابِ ٱلأَشْرَارِ إِذَا جَاءَ. لأَنَّ ٱلرَّبَّ يَكُونُ مُعْتَمَدَكَ، وَيَصُونُ رِجْلَكَ مِنْ أَنْ تُؤْخَذَ» (أمثال ٣: ٢٥ و٢٦).
ما يجب على الرجال للنساء ع ٧
٧ «كَذٰلِكُمْ أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ كُونُوا سَاكِنِينَ بِحَسَبِ ٱلْفِطْنَةِ مَعَ ٱلإِنَاءِ ٱلنِّسَائِيِّ كَٱلأَضْعَفِ، مُعْطِينَ إِيَّاهُنَّ كَرَامَةً كَٱلْوَارِثَاتِ أَيْضاً مَعَكُمْ نِعْمَةَ ٱلْحَيَاةِ، لِكَيْ لاَ تُعَاقَ صَلَوَاتُكُمْ».
أفسس ٥: ٢٥ وكولوسي ٣: ١٩ و١تسالونيكي ٤: ٤
كَذٰلِكُمْ أي كما أنه على النساء واجبات للرجال كذلك على الرجال واجبات لهنّ.
أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ أي المؤمنون. المرجّح أنه أراد المؤمنين الذين نساؤهم لم تزل وثنية كما أنه أراد في ما سبق (ع ١) المؤمنات اللواتي رجالهنّ لم يزالوا وثنيين.
كُونُوا سَاكِنِينَ… مَعَ ٱلإِنَاءِ ٱلنِّسَائِيِّ أي لا تطلّقوا نساءكم ولا تنفصلوا عنهنّ ولا تقسوا عليهنّ. ولعله خطر لبطرس كلام بولس في هذا الشأن وهو قوله «إِنْ كَانَ أَخٌ لَهُ ٱمْرَأَةٌ غَيْرُ مُؤْمِنَةٍ، وَهِيَ تَرْتَضِي أَنْ تَسْكُنَ مَعَهُ فَلاَ يَتْرُكْهَا» (١كورنثوس ٧: ١٢). ومعنى «الفطنة» النباهة والتعقل والمراد أن يتأملوا في مقتضيات الأحوال بين الزوجين وأن يأتوا في تصرفهم ما يربحون به نساءهم للمسيح فيرضون الله بذلك ويخلّصون أنفسهنّ وينالون الراحة والسلام في المستقبل. ولا ريب في أنه قصد أن ينالوا الفطنة بمطالعة كلام الله والتعلّم منه ما يجب عليهم لنسائهم وأن يطلبوا إرشاد الروح القدس في الصلاة. ومراده «بالإناء النسائي» جنس الإناث من البشر. وسبق في الكتاب تشبيه الأجساد بالآنية فمنه في العهد القديم ما في (إشعياء ٢٩: ١٦ و٤٥: ٩ و٦٤: ٨ وإرميا ١٨: ٦ و١٩: ١١ و٢٢: ٢٨ وهوشع ٨: ٨) وفي العهد الجديد ما في (أعمال ٩: ١٥ ورومية ٩: ٢١ و٢٣ و٢كورنثوس ٤: ٧ و٢تيموثاوس ٢: ٢١).
كَٱلأَضْعَفِ أي الإناء الأضعف بالنسبة إلى الرجل ويستلزم هذا إن كلا من النساء والرجال آنية (أي آلات) قصد الله أن يُجري بها مقاصده في هذا العالم. والفرق بينهما أن أحدهما أضعف من الثاني في الطبيعة أي أن قوة أجساد النساء أقل من قوة أجساد الرجال فهنّ أكثر منهم تعرّضاً للأمراض والآلام وأقل منهم تحملاً للتعب ومشقات الحياة. وهذا لا يستلزم أن النساء أضعف من الرجال عقولاً. وما يظهر من ضعف عقولهنّ أحياناً علّته أن ليس لهنّ ما للرجال من وسائل التعلم فإنه لما تيسرت لهنّ الوسائل في بعض البلاد ظهرت قوة عقولهنّ فلم تكن أقل من قوة عقول الرجال. وكون المرأة أضعف من الرجل جسداً يوجب على الرجال أن يعاملها باللطف والرقة اللذين يجبان على القوي الشريف للضعيف.
مُعْطِينَ إِيَّاهُنَّ كَرَامَةً واجبة لهنّ من الاعتبار والاهتمام والعناية ومراعاة الحقوق.
ٱلْوَارِثَاتِ أَيْضاً مَعَكُمْ نِعْمَةَ ٱلْحَيَاةِ ذكر هذا علة لأن يعطوهنّ ما يجب من الإكرام فإن الله وهب لهنّ نفساً خالدة كما وهب للرجال ولم يميّز بين الرجال والنساء في بذل مواهب الحياة الأبدية فباب الإيمان مفتوح لكل من الفريقين لكي يدخلوها ويخلصوا.
ذهب بعضهم إلى أن «الحياة» هنا هي الحياة الطبيعية وأن معنى العبارة أن الله وهب للزوجين قوة إنشاء النسل وهذا اتخذاه ميراثاً وصل إليهما من أيام آدم حسب قضاء الله في قوله تعالى «ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ. وَبَارَكَهُمُ ٱللّٰهُ وَقَالَ لَهُمْ: أَثْمِرُوا وَٱكْثُرُوا وَٱمْلأُوا ٱلأَرْضَ» (تكوين ١: ٢٧ و٢٨). وهذا من المحتمل لكن نرجّح الأول.
لِكَيْ لاَ تُعَاقَ صَلَوَاتُكُمْ هذا يستلزم أنه إذا قصر المؤمنون عن القيام بما يجب عليهم للنساء ولم يراعوا حقوقهن أنبتهم ضمائرهم وما استطاعوا أن يصلّوا بما يجب من الإيمان والحرارة وحدثت خصومات في البيت وهي من المنافيات لروح الصلاة واغتاظ الله عليهم ولم يقبل صلواتهم على وفق قول المرنم «إِنْ رَاعَيْتُ إِثْماً فِي قَلْبِي لاَ يَسْتَمِعُ لِيَ ٱلرَّبُّ» (مزمور ٦٦: ١٨ انظر أيضاً متّى ٦: ١٥ و١كورنثوس ٧: ٥). ولعل معنى بطرس أنه متى انتفت مراعاة الحقوق ونشأ عن ذلك خصام في البيت امتنعت فيه الصلاة على وجه يرضي الله ولم تُنل البركة الموعود بها في قوله «إِنِ ٱتَّفَقَ ٱثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى ٱلأَرْضِ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا مِنْ قِبَلِ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، لأَنَّهُ حَيْثُمَا ٱجْتَمَعَ ٱثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِٱسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ» (متّى ١٨: ١٩ و٢٠). والخلاصة أنه على الرجال أن يكرموا النساء الإكرام الذي لهنّ لئلا يعرّضوا أنفسهم للضرر الجسيم الذي ينشأ من عدم استماع صلواتهم.
واجبات الإخوة عامة بعضهم لبعض من جهة الاتحاد والمحبة وعدم مجازاة الشرّ بالشرّ ع ٨ إلى ١٣
٨ «وَٱلنِّهَايَةُ، كُونُوا جَمِيعاً مُتَّحِدِي ٱلرَّأْيِ بِحِسٍّ وَاحِدٍ، ذَوِي مَحَبَّةٍ أَخَوِيَّةٍ، مُشْفِقِينَ، لُطَفَاءَ».
رومية ١٢: ١٦ وص ١: ٢٢ وأفسس ٤: ٢ و٣٢ وفيلبي ٢: ٦ وص ٥: ٥
وَٱلنِّهَايَةُ انتهى هنا من النصح الخاص في ما مرّ ورجع إلى النصح العام في الواجبات المدنية والمنزلية فالكلام الآتي متعلق بما سبق في (ص ٢: ١١).
كُونُوا جَمِيعاً مُتَّحِدِي ٱلرَّأْيِ لكي يستحسن من حولكم من الأمم دينكم من سلوككم فيدينوا به. فإظهار المؤمنين بالمسيح المحبة الأخوية من أعظم وسائل ربح الناس للمسيح بدليل قوله له المجد «لِيَكُونَ ٱلْجَمِيعُ وَاحِداً، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا، لِيُؤْمِنَ ٱلْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي» وقوله «أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ، وَلِيَعْلَمَ ٱلْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي» (يوحنا ١٧: ٢١ و٢٣). وليس المراد أن يكونوا متحدين في العقائد فقط بل في الآراء والغايات والمواساة أيضاً (انظر رومية ١٢: ١٦ و١٥: ٥ و١كورنثوس ١: ١٠ و٢كورنثوس ١٣: ١١ وفيلبي ٢: ٢ و٣: ١٥).
بِحِسٍّ وَاحِدٍ على وفق قول بولس «فَرَحاً مَعَ ٱلْفَرِحِينَ وَبُكَاءً مَعَ ٱلْبَاكِينَ» (رومية ١٢: ١٥).
ذَوِي مَحَبَّةٍ أَخَوِيَّةٍ (انظر تفسير ص ١: ٢٢).
مُشْفِقِينَ على البائسين والمصابين (أفسس ٤: ٣٢).
لُطَفَاءَ الأصل اليوناني يفيد أن هذا اللطف الناشئ عن التواضع أمام الله وأمام الناس. وهذا لم يعتبره الرومانيون فضيلة بل اعتقدوا أنه دناءة ولكنه في الدين المسيحي يعد من أعظم الفضائل. وهذا يشبه قول بولس «فَٱلْبَسُوا… أَحْشَاءَ رَأْفَاتٍ، وَلُطْفاً، وَتَوَاضُعاً، وَوَدَاعَةً، وَطُولَ أَنَاةٍ» (كولوسي ٣: ١٢).
٩ «غَيْرَ مُجَازِينَ عَنْ شَرٍّ بِشَرٍّ أَوْ عَنْ شَتِيمَةٍ بِشَتِيمَةٍ، بَلْ بِٱلْعَكْسِ مُبَارِكِينَ، عَالِمِينَ أَنَّكُمْ لِهٰذَا دُعِيتُمْ لِكَيْ تَرِثُوا بَرَكَةً».
رومية ١٢: ١٧ و١تسالونيكي ٥: ١٥ وص ٢: ٢١ و٢٣ و١كورنثوس ٤: ١٢ ولوقا ٦: ٢٨ ورومية ١٢: ١٤ وغلاطية ٣: ١٤ وعبرانيين ١٦: ١٤ و١٢: ١٧
غَيْرَ مُجَازِينَ عَنْ شَرٍّ بِشَرٍّ انتقل هنا من الكلام على واجبات بعض الإخوة لبعض إلى الكلام على ما يجب عليهم لأعدائهم وهذا موافق لسنة الإنجيل وهي أن «يغلب الشر بالخير» (رومية ١٢: ٢١).
أَوْ عَنْ شَتِيمَةٍ بِشَتِيمَةٍ منع في العبارة السابقة عن الشر العملي ومنع في هذه عن الشر الكلامي.
بَلْ بِٱلْعَكْسِ مُبَارِكِينَ إن أهل العالم يلعنون من يلعنهم ولكن المسيح قال «بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ ٱلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ» (متّى ٥: ٤٤).
لِهٰذَا دُعِيتُمْ أي لترغبوا في نفع المؤذي الشرير فعلاً وقولاً. فإن المسيح دعاهم أن يحملوا الصليب ويتبعوه وهذه الدعوة أوجبت عليهم أن يجازوا الشر بالخير واللعنة بالبركة. وهذا تعليم إنسان عُهد أنه استل سيفه وضرب آخر انتقاماً منه على جوره وأجاب على الهزء والتهمة باللعنات (متّى ٢٦: ٥١ و٧٣ و٧٥) فأظهر شدة تغيّره بفعل الروح القدس وإرشاده.
لِكَيْ تَرِثُوا بَرَكَةً هذا بيان الطريق الذي اختاره الله إلى نيل البركة المحفوظة في السماء وهي طريق الآلام والتعييرات والاضطهادات (أعمال ١٤: ٢٢) فإنهم دُعوا لكي يحتملوا ذلك بالصبر والصلاة من أجل أعدائهم. فكأنه قال لهم أنكم ذاهبون إلى السماء لترثوا البركة من الله لمجرّد نعمته لا لاستحقاقكم إياه فأمر يسير أن تحتملوا شيئاً من تعيير الناس على الطريق. وهذا على وفق قصد الله وهي أن المتوقعين إرث الخير يفعلون الخير. والخير المراد هنا إماتة الانفعالات الطبيعية الحاملة على الانتقام قولاً وفعلاً.
١٠ «لأَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحِبَّ ٱلْحَيَاةَ وَيَرَى أَيَّاماً صَالِحَةً، فَلْيَكْفُفْ لِسَانَهُ عَنِ ٱلشَّرِّ وَشَفَتَيْهِ أَنْ تَتَكَلَّمَا بِٱلْمَكْرِ».
مزمور ٣٤: ١٢ الخ
في هذه الآية أسباب أُخر تحمل على إطاعة ما قيل في (ع ٩) وهي النتائج المباركة من مثل ذلك السلوك بمقتضى مواعيد الله في كتابه. واقتبس كلامه معنىً من (مزمور ٣٤: ١٣ – ١٨).
مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحِبَّ ٱلْحَيَاةَ أي من رغب في الحياة ليلذ بها هو مغاير لمن يجد الحياة فارغة مكدرة. فمن أراد أن تكون حياته مملوءة بركة ويرى أياماً صالحة أن يختبرها (مزمور ٢٧: ١٣ وعبرانيين ١١: ٣).
فَلْيَكْفُفْ لِسَانَهُ عَنِ ٱلشَّرِّ الخ هذا شرط التمتع بالحياة السعيدة ومعنى العبارة صون اللسان مما يؤذي الآخرين. «والمكر» الخداع وهذا موافق لقول يعقوب (يعقوب ١: ٢٦ و٣: ١ – ١٢).
١١ «لِيُعْرِضْ عَنِ ٱلشَّرِّ وَيَصْنَعِ ٱلْخَيْرَ، لِيَطْلُبِ ٱلسَّلاَمَ وَيَجِدَّ فِي أَثَرِهِ».
لِيُعْرِضْ عَنِ ٱلشَّرِّ كقول الحكيم «لاَ تَسِرْ فِي طَرِيقِ ٱلأَثَمَةِ. تَنَكَّبْ عَنْهُ. لاَ تَمُرَّ بِهِ. حِدْ عَنْهُ وَٱعْبُرْ» (أمثال ٤: ١٤ و١٥).
وَيَصْنَعِ ٱلْخَيْرَ فترك الشر دون صنع الخير غير كافٍ. ومثل هذا ما في (مزمور ٣٧: ٢٧ وإشعياء ١: ١٦ و١٧ ورومية ١٢: ٩).
لِيَطْلُبِ ٱلسَّلاَمَ لأنه قلّما وُجد بلا طلب وأكثر الناس لا يحبونه ولهذا قال بولس «إِنْ كَانَ مُمْكِناً فَحَسَبَ طَاقَتِكُمْ سَالِمُوا جَمِيعَ ٱلنَّاسِ» (رومية ١٢: ١٨). ولعلّ طالبيه لا ينالونه إلا من عرش النعمة.
وَيَجِدَّ فِي أَثَرِهِ إذ فرّ منه فلا يتركه يبعد عنه.
١٢ «لأَنَّ عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ عَلَى ٱلأَبْرَارِ وَأُذْنَيْهِ إِلَى طِلْبَتِهِمْ، وَلٰكِنَّ وَجْهَ ٱلرَّبِّ ضِدُّ فَاعِلِي ٱلشَّرِّ».
لأَنَّ عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ عَلَى ٱلأَبْرَارِ هذه الآية مقتبسة من (مزمور ٣٤: ١٥) وفيها ما يدل على ما في قلب الله من الرضى عن أصدقائه والغيظ على أعدائه. ومعنى العبارة أن الله يراقب الأبرار بالمحبة ويسر بهم ويعتني بأمورهم ويحفظهم ويباركهم. وهذه المراقبة تتكفل لهم بكل وقاية وبركة مع أن الناس يفترون عليهم ويسعون في إضرارهم.
وَأُذْنَيْهِ إِلَى طِلْبَتِهِمْ ليسمع صلواتهم في الضيقات. قال ذلك ليعزّيهم ويشجعهم في أوقات الاضطهاد. وإن قاتلي استفانوس سدوا آذانهم لكي لا يسمعوا شهادته ليسوع (أعمال ٧: ٥٧) لكن أذن المسيح كانت مفتوحة لتسمع طلبته من أجل قاتليه وذراعيه ممدودتان لقبوله (أعمال ٧: ٦٠).
وَلٰكِنَّ وَجْهَ ٱلرَّبِّ ضِدُّ فَاعِلِي ٱلشَّرِّ لم يذكر باقي الآية في المزمور وهي قوله «لِيَقْطَعَ مِنَ ٱلأَرْضِ ذِكْرَهُمْ» (مزمور ٣٤: ١٦) لكن وجه الرب ضدهم يستلزم ذلك. وما ذكر في هذا الفصل يفيد أن حب السلام وطلبه يؤديان إلى طول العمر وهذا يصدقه اختبار الناس غالباً ولكنه لا يمنع من أن الصديقين قد يموتون في منتصف العمر ويكونون عرضة للجوع والوباء والموت كسائر الناس ولكن كون عيني الله عليهم للخير يحقق لهم أنهم لا يصيبهم شر حقيقي مهما حدث. فإن اجتهد الشيطان وأشرار الناس في إضرارهم لم يستطيعوا أن يضروا سوى أجسادهم وصيتهم وقتياً والله يوم الدين يبرّرهم ويثيبهم على كل آلامهم من أجله أمام الملائكة الأطهار وكل الخليقة الناطقة.
١٣ «فَمَنْ يُؤْذِيكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُتَمَثِّلِينَ بِٱلْخَيْرِ؟».
أمثال ١٦: ٧
فَمَنْ يُؤْذِيكُمْ أي لا أحد يؤذيكم وهذا على حد قول بولس «إِنْ كَانَ ٱللّٰهُ مَعَنَا فَمَنْ عَلَيْنَا!» وقوله «مَنْ سَيَشْتَكِي… ومَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَدِينُ… ومَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ ٱلْمَسِيحِ؟» (رومية ٨: ٣١ و٣٣ – ٣٥). وجاء بذلك في صورة الاستفهام تقريراً للمراد. ومثل ذلك ما في (إشعياء ٥٠: ٨ و٩).
إِنْ كُنْتُمْ مُتَمَثِّلِينَ بِٱلْخَيْرِ أي بأهل الخير ولا سيما المسيح. المخاطبون هنا هم الأبرار المذكورون في الآية السابقة وكون عيني الرب عليهم بالمحبة والعناية وأذنيه إلى طلبتهم يؤكد أن الشيطان وأشرار الناس لا يستطيعون أن يؤذوهم الأذى الحقيقي فلا يضرهم شيء إلا إذا أعرضوا عن التمثل بالخير وعدلوا إلى الشر.
وجوب الاستعداد للمجاوبة عن الرجاء المسيحي ع ١٤ إلى ١٧
١٤ «وَلٰكِنْ وَإِنْ تَأَلَّمْتُمْ مِنْ أَجْلِ ٱلْبِرِّ فَطُوبَاكُمْ. وَأَمَّا خَوْفَهُمْ فَلاَ تَخَافُوهُ وَلاَ تَضْطَرِبُوا».
ص ٢: ١٩ الخ و٤: ١٥ ويعقوب ٥: ١١ وإشعياء ٨: ١٢ ع ٦
وَلٰكِنْ وَإِنْ تَأَلَّمْتُمْ مِنْ أَجْلِ ٱلْبِرِّ أي على فرض ذلك كما يحدث أحياناً وهو أن الله قد يسمح بأن «الأبرار المتمثلين بالخير» يُضطهدون لأنهم أتباع المسيح. والذي فرضه بطرس هنا ذكر بولس أنه الواقع بقوله «جَمِيعُ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعِيشُوا بِٱلتَّقْوَى فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ يُضْطَهَدُونَ» (٢تيموثاوس ٣: ١٢). قال بطرس هنا «تألمتم من أجل البر» وقال في موضع آخر «متألماً بالظلم» وكلاهما بمعنى واحد.
فَطُوبَاكُمْ لأن المسيح قال «طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ ٱلْبِرِّ، لأَنَّ لَـهُمْ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ» (فانظر تفسير متّى ٥: ١٠). وفسّر قوله هنا بقوله في (ص ٤: ١٣ و١٤).
وَأَمَّا خَوْفَهُمْ فَلاَ تَخَافُوهُ هذا أول نصح من أربعة للمضطهدين فنهاهم عن الخوف من تهديد أعدائهم الذين قصدوا بتهديدهم أن يصدوهم عن المسيح ويحملوهم على إنكاره فشجعهم على أن لا يخافوا من إضرارهم. وهذا مبني على قول النبي «لاَ تَخَافُوا خَوْفَهُ وَلاَ تَرْهَبُوا. قَدِّسُوا رَبَّ ٱلْجُنُودِ فَهُوَ خَوْفُكُمْ وَهُوَ رَهْبَتُكُمْ»(إشعياء ٨: ١٢ و١٣ انظر أيضاً مزمور ٩١: ٥).
وَلاَ تَضْطَرِبُوا للخطر المحيط بكم كما اضطرب هيرودس من نبإ المجوس (متّى ٢: ٣) وكما اضطرب التلاميذ لما شاهدوا المسيح ماشياً على وجه البحر (متّى ١٤: ٢٦) وقد نهى المسيح تلاميذه عن الاضطراب حين وداعه إيّاهم (يوحنا ١٤: ١) قال يوحنا فم الذهب «إن حكمت الأمبراطورة بأن أُنفى فلتفعل لأني حيث ذهبت فالأرض للرب وملؤها. وإن أرادت أن تطرحني في البحر فلتطرح فإني أذكر يونان النبي. وإن شاءت أن تلقيني في أتون النار المتقد فلتلق فقد أُلقي فيه قبلي ثلاثة فتيان من العبرانيين. وإن ألقتني للوحوش الضارية ذكرت أن دانيال ألقي في جب الأسود. وإن حكمت علي بالرجم كنت بذلك شريك استفانوس أول الشهداء. وإن قطعت رأسي فلي أسوة بيوحنا المعمدان. وإن سلبت مالي فأنا عالم أني أتيت إلى هذا العالم بلا شيء وإني أخرج منه بلا شيء». وقوله بيان حسن لمراد بطرس الرسول هنا.
١٥ «بَلْ قَدِّسُوا ٱلرَّبَّ ٱلإِلٰهَ فِي قُلُوبِكُمْ، مُسْتَعِدِّينَ دَائِماً لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ سَبَبِ ٱلرَّجَاءِ ٱلَّذِي فِيكُمْ بِوَدَاعَةٍ وَخَوْفٍ».
ص ١: ٣ وكولوسي ٤: ٦ و٢تيموثاوس ٢: ٢٥ وص ١: ١٧
في هذه الآية النصح الثاني للمضطهدين من أجل البر.
قَدِّسُوا ٱلرَّبَّ ٱلإِلٰهَ فِي قُلُوبِكُمْ هذا هو الواسطة لوقايتهم من الخوف والاضطراب وهم مدعوون إلى أن يتألموا. وهذا كقول النبي (إشعياء ٨: ١٣). ومعنى «التقديس» التمجيد كمعناه في الطلبة الأولى من الصلاة الربانية. فعلى المضطهَدين أن يذكروا صفات الله المجيدة وأن يتأملوا في قدرته ومحبته وأمانته لمواعيده بدلاً من أن يفتكروا في قوة أعدائهم وما يمكنهم أن يضروهم به. فتقديس الرب في قلوبهم يطرد منها الخوف من الناس (انظر لوقا ١٢: ٤ و٥). وأمثلة انتصار خوف الله على خوف الناس ما كان من والدي موسى (عبرانيين ١١: ٢٣). وما كان من موسى نفسه (عبرانيين ١١: ٢٧). والفتيان الثلاثة الذين أنذرهم ملك بابل بالموت (دانيال ٣: ٦). والرسل حين هددهم مجلس اليهود (أعمال ٤: ١٩ و٢٠). ومثل هذا قول المسيح بفم إشعياء «جَعَلْتُ وَجْهِي كَٱلصَّوَّانِ وَعَرَفْتُ أَنِّي لاَ أَخْزَى. قَرِيبٌ هُوَ ٱلَّذِي يُبَرِّرُنِي. مَنْ يُخَاصِمُنِي» (إشعياء ٥٠: ٧ و٨). والتأمل في مواعيد الرب يساعد المضطهَدين ومن تلك المواعيد ما في (مزمور ٦٢: ١ و٢ و٥ – ١٢ وفيلبي ٤: ٦) وفي ذكر ما وجده الأتقياء من المعونة كما في (مزمور ٣٤: ٩ و١٠ و١٧: ٢٢).
مُسْتَعِدِّينَ دَائِماً لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ الخ هذا النصح الثالث للمضطهَدين وهو أن يكونوا دائماً مستعدين لما ذُكر. فعبّر عن الإيمان المسيحي هنا بالرجاء لأن «ٱلإِيمَانُ هُوَ ٱلثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى» (عبرانيين ١١: ١). وقوله هنا يتضمن ستة أمور:
الأول: إن للمؤمنين رجاء يمتازون به عن سائر الناس. إن لكل الناس آمالاً فأمل أهل العالم متعلق بالأرضيات ورجاء المؤمنين المسيحيين متعلق بالسماويات وسمى رجاءهم «رجاء الخلاص» و «رجاء الحياة الأبدية» و «رجاء مجد الله» و «رجاء البر الذي بالإيمان».
الثاني: إن ذلك الرجاء بُني على علل كافية لا أوهام باطلة. وأساسه مواعيد كتاب الله بل الله نفسه وعمل الفداء بيسوع المسيح.
الثالث: إن ذلك الرجاء لا يمكن كتمانه ولا يجوز لأن المسيح قال «كُلُّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِي قُدَّامَ ٱلنَّاسِ أَعْتَرِفُ أَنَا أَيْضاً بِهِ قُدَّامَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، وَلٰكِنْ مَنْ يُنْكِرُنِي قُدَّامَ ٱلنَّاسِ أُنْكِرُهُ أَنَا أَيْضاً قُدَّامَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى ١٠: ٣٢ و٣٣ ولوقا ١٢: ٨). ولو أراد المسيحي أن يكتم رجاءه في قلبه لا يسمح له الشيطان بذلك بل يهيج عليه الناس خيفة أن يهرب من خدمته فيضطر إلى الإقرار إما إلى أنه للشيطان وإما إلى أنه عليه.
الرابع: أن يتوقع المؤمنون أن يسألهم الناس عن سبب ذلك الرجاء. والسائلون ثلاثة أنواع:
-
- الأول: الذين يريدون أن يعرفوه لكي يشتركوا.
- الثاني: الذين يسمعون نبأ الدين المسيحي ويرونه أمراً حديثاً غريباً فيحبون أن يعرفوا ما هو كفلاسفة أثينا (أعمال ١٧: ١٦ و٢٠).
- الثالث: الذين يبغضون المسيح ويطلبون علة شكاية على تعليمه واتباعه لكي يجروهم قدام الملوك والولاة كما أنبأ المسيح (لوقا ٢١: ١٢).
الخامس: إنه يجب على المسيحيين أن يكونوا مستعدين لبيان حقيقة إيمانهم والمحاماة عنه في الوقت والمكان الموافقين. وهذا يستلزم أن يعرفوا مبادئ الدين المسيحي الجوهرية كما هي معلنة في الكتاب المقدس وأن يقابلوا آراءهم بها لكي يتحققوا صحتها لأن الإنسان لا يمكنه أن يجاوب غيره على ما لم يكن قد عرفه حق المعرفة. وأحسن ما يمكن من أجوبة المؤمن عن إيمانه هو ما بُني على اختباره كجواب الأعمى المؤمن الذي فتح يسوع عينيه فإنه قدم ذلك برهاناً على أن المسيح نبي إذ قال «إِنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَٱلآنَ أُبْصِرُ» (يوحنا ٩: ٢٥). وتقديم بولس برهانه على إيمانه بيسوع أنه شاهده في طريق دمشق وسمع صوته (أعمال ٢٢: ٦ – ٨). وبرهان الرسل على إيمانهم بقيامة يسوع المسيح إنهم شاهدوه بأعينهم وأنهم تكلموا معه وأكلوا معه (أعمال ١٠: ٤١).
السادس: المجاوبة عن سبب ذلك الرجاء بوداعة وخوف. فنال «بوداعة» نهياً عن الافتخار بأن إيمانهم خير من إيمان غيرهم وعن حب الجدال والقسوة في الكلام وعن تهديد مقاوميهم بغضب الرب عليهم. ومثل تلك الوداعة ما أظهرها يسوع أمام بيلاطس (يوحنا ١٨: ٣٦ و٣٧) وبطرس ويوحنا في مجلس السبعين (أعمال ٤: ٧ – ١٢). وبولس أمام فستوس وأغريباس (أعمال ص ٢٦). والمراد «بالخوف» هنا خوف الله الذي هم شهود له فيخافون أن لا يحاموا عن الحق كما يجب نظراً لأهمية الشهادة التي يؤدونها. وهذا الخوف يحملهم على أن لا يتكلوا على حكمتهم وفصاحتهم بل على تعليم الروح القدس على وفق أمر الرب في (متّى ١٠: ١٩ و٢٠).
١٦ «وَلَكُمْ ضَمِيرٌ صَالِحٌ، لِكَيْ يَكُونَ ٱلَّذِينَ يَشْتِمُونَ سِيرَتَكُمُ ٱلصَّالِحَةَ فِي ٱلْمَسِيحِ يُخْزَوْنَ فِي مَا يَفْتَرُونَ عَلَيْكُمْ كَفَاعِلِي شَرٍّ».
ع ٢١ و١تيموثاوس ١: ٥ وعبرانيين ١٣: ١٨ وص ٢: ١٢ و١٥
في هذه الآية النصح الرابع للمضطهدين من أجل البر وهم يؤدون الشهادة ليسوع.
وَلَكُمْ ضَمِيرٌ صَالِحٌ مراد الرسول هنا أنه من الصفات الضرورية للذين يشهد برجائه في المسيح هو أن يشهد له ضميره بأنه يسلك بمقتضى مطاليب الديانة التي يعترف بها على وفق ما سبق من تسميتهم «متمثلين بالخير» و «المتألمين من أجل البر» وإنهم «يقدسون الرب في قلوبهم» وفيه تصريح بوجوب أن يكون لهم قداسة القلب والسيرة وإن أقوى شهادة بصحة الدين المسيحي حسن سلوك أتباعه.
وشرط «الضمير الصالح» أن يكون مستنيراً بكلمة الله وروحه القدوس وأن يكون مرشوشاً بدم يسوع المسيح (عبرانيين ٩: ١٤) وأن يكون له حكم رئاسي على النفس.
لِكَيْ يَكُونَ ٱلَّذِينَ يَشْتِمُونَ سِيرَتَكُمُ ٱلصَّالِحَةَ فِي ٱلْمَسِيحِ المعنى هنا كمعنى ما في (ص ٢: ١٢) فارجع إلى تفسيره. وقيّد سيرتهم بقوله «في المسيح» هنا كما فعل في (١كورنثوس ٤: ١٧ وكولوسي ٢: ٦) فإنه اعتبر أن المسيحي يحيا الحياة كلها في المسيح.
يُخْزَوْنَ فِي مَا يَفْتَرُونَ عَلَيْكُمْ الخ متى تبيّن من الواقع أن المشتكين مفترون أي كاذبون. فذلك الخزي مثل ما كان خزيهم في أفسس حين وبخ كاتب المدينة الذين شهدوا على بولس ورفقائه كذباً (أعمال ١٩: ٣٧ – ٤٠). ومثل ما كان حين قال بيلاطس لليهود «قَدَّمْتُمْ إِلَيَّ هٰذَا ٱلإِنْسَانَ كَمَنْ يُفْسِدُ ٱلشَّعْبَ. وَهَا أَنَا قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْ أَجِدْ فِي هٰذَا ٱلإِنْسَانِ عِلَّةً مِمَّا تَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَلاَ هِيرُودُسُ أَيْضاً» (لوقا ٢٣: ١٤ و١٥). ومثل ما كان حين شهد فستوس وأغريباس لبولس بقولهما «إِنَّ هٰذَا ٱلإِنْسَانَ لَيْسَ يَفْعَلُ شَيْئاً يَسْتَحِقُّ ٱلْمَوْتَ أَوِ ٱلْقُيُودَ» (أعمال ٢٦: ٣١).
١٧ «لأَنَّ تَأَلُّمَكُمْ إِنْ شَاءَتْ مَشِيئَةُ ٱللّٰهِ وَأَنْتُمْ صَانِعُونَ خَيْراً، أَفْضَلُ مِنْهُ وَأَنْتُمْ صَانِعُونَ شَرّاً».
ص ١: ٦ و٢: ١٥ و٤: ١٩ وأعمال ١٨: ٢١ وص ٢: ٢٠ و٤: ١٥
ما قيل في هذه الآية إثبات لوجوب أن يكون لهم ضمير صالح وهذا موافق لقوله سابقاً «لأَنَّ هذَا فَضْلٌ، إِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَجْلِ ضَمِيرٍ نَحْوَ اللهِ، يَحْتَمِلُ أَحْزَانًا مُتَأَلِّمًا بِالظُّلْمِ» (انظر تفسير ص ٢: ١٩ و٢٠).
لأَنَّ تَأَلُّمَكُمْ حتى الموت بدليل (ع ١٨).
إِنْ شَاءَتْ مَشِيئَةُ ٱللّٰهِ هذا بيان أن أعداءهم لا يقدرون عليهم إلا بإرادة الله فمجرد مشيئة الله ذلك علة لاحتمال الآلام بالصبر. ومن المعلوم أن الله لا يسمح بتألم شعبه ما لم يقصد أن يكون تألمهم وسيلة إلى نيلهم «أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيّاً» (٢كورنثوس ٤: ١٧).
وَأَنْتُمْ صَانِعُونَ خَيْراً لنفوسكم ولنفوس غيركم وللدين المسيحي.
أَفْضَلُ مِنْهُ وَأَنْتُمْ صَانِعُونَ شَرّاً أوضح معنى هذا في (ص ٤: ١٤) وهذا حق لأنه إذا تألم المؤمن من أجل الشر فذلك عار على اسمه وعلى الدين الذي يعترف به وعلى ربه فيجلب عليه غضب الله.
إثبات ما سبق من مثال المسيح ع ١٨ إلى ٢٢
١٨ «فَإِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ ٱلْخَطَايَا، ٱلْبَارُّ مِنْ أَجْلِ ٱلأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى ٱللّٰهِ، مُمَاتاً فِي ٱلْجَسَدِ وَلٰكِنْ مُحْيىً فِي ٱلرُّوحِ».
ص ٢: ٢١ وعبرانيين ٩: ٢٦ و٢٨ و١٠: ١٠ ورومية ٥: ٢ وأفسس ٣: ١٢ وص ٤: ١ وكولوسي ١: ٢٢ وص ٤: ٦
قرر بولس في هذا الفصل أن المسيح تألم مع أنه بار وأنه بموته أبطل سلطة الموت وأنه صعد إلى المجد عن يمين الله وأورد ذلك برهاناً على أنهم «إذا تألموا من أجل البر فطوبى لهم» (ع ١٤) وعلى أنه ليس أمراً غريباً ولا حادثاً مخيفاً إن البار يتألم ظلماً.
فَإِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً هذا فضل ما يمكنه تقديمه من أمثلة تألم البار. ولا عجب من أن ما حدث للمسيح الملك يحدث لبعض عبيده وما حدث لمن امتاز عن كل ما سواه بالقداسة حتى حقّ له أن يتفرد بلقب القدوس أن يحدث للشهداء من البشر.
تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً موت الجسد لا يكون إلا مرة للشهيد كما حدث للمسيح وهذا تعزية للمؤمن المعرّض للموت شهيداً.
مِنْ أَجْلِ ٱلْخَطَايَا، ٱلْبَارُّ مِنْ أَجْلِ ٱلأَثَمَةِ هذا بيان أنه لم يتألم المسيح لأنه خطئ وبيان أنه (مع كونه باراً) مات من أجل الخطأة أي مات بدلاً عنهم كفارة للخطايا كما اتضح في (رومية ٨: ٣ وغلاطية ١: ٤ وعبرانيين ١: ٦ و٨ و١٨ و٢٦ و١٣: ١١ و١يوحنا ٢: ٢ و٣: ١٠). ويتضح من هذا إن آلام المسيح كانت فضلاً عن كونها آلام بار ممتاز بالقداسة أشد من آلام الشهداء إلى غير النهاية لأنه احتمل قصاص خطأة العالم كله حين كفّر عن خطاياهم. فكم يجب على الذين استحقوا الموت على خطاياهم أن يحتملوا الموت من أجل اسم المسيح بالصبر بعد أن أزال المسيح بموته شوكة الموت. فلا عجب من أن يتألموا من أجل البر والمسيح البار مات من أجل الخطأة.
لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى ٱللّٰهِ (يوحنا ٣: ١٤ و١٢: ٣٢) فإذاً المؤمنون بموت المسيح موقوفون لله لكي يحيوا له ويموتوا له. والذين هم بعيدون من الله لجهلهم إياه قرّبهم المسيح إليه بتعليمه إياهم لأنه أعلن الله لهم (يوحنا ١: ١٧) «لأَنَّ ٱللّٰهَ ٱلَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ ٱلَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ ٱللّٰهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ»(٢كورنثوس ٤: ٦). ولأنه جعل المصالحة بينه وبين الذين كانوا أعداءه بدليل قول بولس «إِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ» (٢كورنثوس ٥: ١٩) ولأنه كفر عن الخطأة بموته «لأَنَّهُ جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللّٰهِ فِيهِ» (١كورنثوس ٥: ٢١ انظر أيضاً يوحنا ١: ٢٩ و١٤: ٦) ولأنه جعلهم مماثلين صورته ومتحدين به تعالى (أعمال ٥: ٣١). إن الله خلق نفس الإنسان لتجد الراحة والسعادة بالاتحاد به ولما انفصلت عنه بالخطيئة عجزت عن أن تجد الراحة الحق وعن أن ترجع وتجد السعادة التي خُلقت لها إلا بالمسيح بدليل قول بولس «ٱلآنَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ ٱلْمَسِيحِ. لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا» (أفسس ٢: ١٣ و١٤ و١٧). ونتيجة هذا التعليم أنه يجب أن لا يستثقلوا أن يموتوا شهداء في سبيل الحق إذا كان موتهم شهادة للمسيح وللحق ووساطة لتقريب أعدائهم من وثنيين ويهود إلى الله بإيمانهم بالمسيح.
مُمَاتاً فِي ٱلْجَسَد أي باعتبار كونه إنساناً (رومية ١: ٣) فالمراد «بالجسد» هنا الطبيعة البشرية بدليل قول بولس في المسيح «ٱلَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ ٱلْجَسَدِ» (رومية ١: ٣) وقول يوحنا «الكلمة صار جسداً» (يوحنا ١: ١٤). وقول بولس «الله ظهر في الجسد» (١تيموثاوس ٣: ١٦) وقول يوحنا أيضاً «كُلُّ رُوحٍ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي ٱلْجَسَدِ فَهُوَ مِنَ ٱللّٰهِ» (١يوحنا ٤: ٢) «لأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ إِلَى ٱلْعَالَمِ مُضِلُّونَ كَثِيرُونَ، لاَ يَعْتَرِفُونَ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ آتِياً فِي ٱلْجَسَدِ» (٢يوحنا ٧). ومعنى العبارة أن المسيح بالنظر إلى ناسوته أثر الموت فيه كما يؤثر في سائر الناس أي انفصلت نفسه عن جسده انفصالاً حقيقياً.
مُحْيىً فِي ٱلرُّوحِ أي روحه الإلهية باعتبار كونه ابن الله الأقنوم الثاني في اللاهوت. فلا يمكن أن يكون مراد بولس «بالروح» هنا نفس المسيح البشرية لأنه قال في الآية التالية «إن المسيح ذهب به في أيام نوح وبشر» ولا يمكن أن يكون مراده به الروح القدس لأنه ذهب هو عينه. وقال «محي» لا حياً لأنه جدّد حياته بالقيامة من الأموات كما جاء في هذا المعنى في ستة مواضع من العهد الجديد هنا وفي (يوحنا ٥: ٢١ ورومية ٤: ١٧ و٨: ١١ و١كورنثوس ١٥: ٢٢ و٤٥). ومعنى العبارة أن المسيح باعتبار كونه إلهاً وإنساناً بعد ما انتهت حياته البشرية على الأرض دخل بقوة نفسه في حياته الروحية على أثر القيامة وهي الحياة التي يحياها الآن. فحياته الآن انتهت على الصليب هي حياته الجسدية والحياة الباقية له الآن حياة روحية جددها بقوته الإلهية. وهذا موافق لقوله «أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضاً. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً» (يوحنا ١٠: ١٧ و١٨).
١٩ «ٱلَّذِي فِيهِ أَيْضاً ذَهَبَ فَكَرَزَ لِلأَرْوَاحِ ٱلَّتِي فِي ٱلسِّجْنِ».
ص ٤: ٦
ٱلَّذِي فِيهِ أي في الروح الإلهي الذي به أحيا نفسه بعد قتله وهو روح ابن الله الأزلي الذي تجسّد في الوقت الذي عيّنه الله.
ذَهَبَ فَكَرَزَ في أيام نوح كما يظهر من الآية التالية. ولا معنى خاص لقوله «ذهب» فقوله «ذهب وكرز» كقوله «جاء وبشركم» (أفسس ٢: ١٧) فهو معنى قول الكتاب «فنزل الرب لينظر» (تكوين ١١: ٥ انظر أيضاً تكوين ١٨: ٢١). وقيل مثله في الإنجيل فإنه جاء فيه «إن المسيح انصرف من هناك ليعلم ويكرز» (متّى ٢١: ١) وقول المسيح لتلاميذه «لِنَذْهَبْ إِلَى ٱلْقُرَى ٱلْمُجَاوِرَةِ لأَكْرِزَ هُنَاكَ» (مرقس ١: ٣٨). ومعنى «كرز» نادى وموضوع المناداة الإنذار بالطوفان ووجوب الاستعداد له. وكانت تلك الكرازة بواسطة نوح. وكثيراً ما نسب إلى الله المناداة بواسطة بعض مخلوقاته من الملائكة والناس. وهذا موافق لقول بولس في المسيح إنه كان مع بني إسرائيل في البرية (١كورنثوس ١٠: ٤).
لِلأَرْوَاحِ ٱلَّتِي فِي ٱلسِّجْنِ المراد «بالسجن» هنا دار الموتى أو جهنم كما في (٢بطرس ٢: ٤ ويهوذا ٦ ورؤيا ٢٠: ٧). و «الأرواح» هنا هم الذين كانوا في دار الموتى حين كتب بطرس هذه الرسالة ولكنهم كانوا أحياء في أيام نوح وأبوا أن يسمعوا كرازة المسيح بفم نوح. وعبّر عنهم «بالأرواح» لأنهم كانوا أرواحاً مفارقة أجسادها يوم كتب هذه الرسالة وهذا على وفق ما في (عبرانيين ١٢: ٢٣). واتضح زمان تلك الكرازة بقوله «فِي أَيَّامِ نُوحٍ، إِذْ كَانَ ٱلْفُلْكُ يُبْنَى» (ع ٢٠). وإن موضعها الأرض لا جهنم وإن الكارز هو المسيح وأنه كرز بفم نوح ولذلك قال في نوح أنه كان «كارزاً للبر» (٢بطرس ٢: ٥).
ذهب بعضهم أن المقصود «بالأرواح التي في السجن» الأشرار مطلقاً باعتبار كونهم عبيد الشيطان وأسراه وأنهم مقيّدون بسلاسل الإثم وأنهم عاجزون عن أن يطلقوا أنفسهم وإن المسيح كرز لهم تارة بأنبيائه وتارة برسله وتارة بنفسه. وهذا الرأي على وفق قول إشعياء فيه «رُوحُ ٱلسَّيِّدِ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ ٱلرَّبَّ مَسَحَنِي… لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِٱلْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِٱلإِطْلاَقِ» (إشعياء ٦١: ١).
٢٠ «إِذْ عَصَتْ قَدِيماً، حِينَ كَانَتْ أَنَاةُ ٱللّٰهِ تَنْتَظِرُ مَرَّةً فِي أَيَّامِ نُوحٍ، إِذْ كَانَ ٱلْفُلْكُ يُبْنَى، ٱلَّذِي فِيهِ خَلَصَ قَلِيلُونَ، أَيْ ثَمَانِي أَنْفُسٍ بِٱلْمَاءِ».
رومية ٢: ٤ وتكوين ٦: ٣ و٥ و١٣ وعبرانيين ١١: ٧ و٢بطرس ٢: ٥ وتكوين ٨: ١٨ وأعمال ٢: ١٤ وص ١ : ٩ و٢٢ و٢: ٢٥ و٤: ١٩
إِذْ عَصَتْ قَدِيماً، حِينَ كَانَتْ أَنَاةُ ٱللّٰهِ تَنْتَظِرُ مَرَّةً فِي أَيَّامِ نُوحٍ، إِذْ كَانَ ٱلْفُلْكُ يُبْنَى وذلك مدة مئة وعشرين سنة وكان نوح يبني الفلك بعد ما أنذره الله بالطوفان (تكوين ٦: ٣) والأرجح أنه كان ينادي كل مدة البناء وينذر بالخطر ويحث الناس على التوبة والاستعداد لأنه كان «كارزاً للبر» وقد قيل «بِٱلإِيمَانِ نُوحٌ لَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ عَنْ أُمُورٍ لَمْ تُرَ بَعْدُ خَافَ، فَبَنَى فُلْكاً لِخَلاَصِ بَيْتِهِ، فَبِهِ دَانَ ٱلْعَالَمَ» (عبرانيين ١١: ٧ و٢بطرس ٢: ٥).
ٱلَّذِي فِيهِ خَلَصَ قَلِيلُونَ، أَيْ ثَمَانِي أَنْفُسٍ وهم نوح وامرأته وأبناؤه الثلاثة ونساؤهم الثلاث (تكوين ٧: ٧).
الذين ذهبوا إلى أن «الأرواح التي في السجن» هم الأشرار مطلقاً ذهبوا أيضاً إلى أن بطرس ذكر كرازة المسيح في أيام نوح مثالاً لكل كرازته للخطأة وأنه ذكر القليلين الذين آمنوا وقتئذ بكرازته (وهم ثماني أنفس فقط) ليقابل بهم الألوف الذين آمنوا به بتبشير الرسل بعد قيامته وصعوده.
بِٱلْمَاءِ أي من الغرق فيه فإن الماء كان واسطة خلاصهم لأنه حمل الفلك.
٢١ «ٱلَّذِي مِثَالُهُ يُخَلِّصُنَا نَحْنُ ٱلآنَ، أَيِ ٱلْمَعْمُودِيَّةُ. لاَ إِزَالَةُ وَسَخِ ٱلْجَسَدِ، بَلْ سُؤَالُ ضَمِيرٍ صَالِحٍ عَنِ ٱللّٰهِ بِقِيَامَةِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
تيطس ٣: ٥ وأعمال ١٦: ٣٣ وعبرانيين ٩: ١٤ و١٠: ٢٢ وص ١: ٣
ٱلَّذِي مِثَالُهُ يُخَلِّصُنَا نَحْنُ ٱلآنَ كان الماء واسطة الخلاص الجسدي لقليلين في أيام نوح كذا صار الماء واسطة خلاص روحي للمؤمنين. ولم يبين الرسول أن هذا تشبيه لا يصح من كل وجه أي لا يصح من جهة مقدار الماء أو طريق استعماله أو فاعليته بل اقتصر على بيان أنه تشبيه.
أَيِ ٱلْمَعْمُودِيَّةُ فهي تخلص المؤمنين من جهنم إلى كل ما يتعلق بهذا السر إذا مورست كما يجب. فإن شرط المعمودية الحقيقية أن تقترن بالتوبة الخالصة وبالإقرار بالإيمان بيسوع المسيح ووقف النفس له وأن تُتخذ علامة تطهير القلب بالروح القدس وختم العهد بين المعتمد والله. والخلاصة أن الماء خلص نوحاً وأهل بيته بحمله الفلك الذي كانوا فيه وإن ماء المعمودية يشير إلى تطهيرنا من الخطيئة الذي يقربنا من الله وبهذا المعنى قيل إن رش دم خروف الفصح خلص الإسرائيليين لأنه كان كماء المعمودية هنا يشير إلى الذي به خلصوا.
لاَ إِزَالَةُ وَسَخِ ٱلْجَسَدِ أي لا معمودية الماء الخارجية فقط لأنه لا يصدر عنها سوى تطهير جسدي زهيد بل المعمودية الروحية. قال الرسول ذلك احتراساً من أن ينسبوا إلى السر قوة على الخلاص.
بَلْ سُؤَالُ ضَمِيرٍ صَالِحٍ عَنِ ٱللّٰهِ كانت عمدة الكنيسة تسأل الذين يطلبون المعمودية والدخول إلى شركة الكنيسة الأولى عن إيمانهم واختبارهم وقصدهم معاهدة الله فكانت أجوبتهم تدل على توبتهم الحقيقية عن الخطيئة وولادتهم ثانية من الروح القدس وكونهم متحدين بالمسيح بالإيمان إذا كانت تلك الأجوبة صادرة عن نيّة صادقة وإخلاص وكان ذلك إعداداً للمعمودية وعلامة استحقاقهم إياها. وذاك الضمير الصالح ليس من مؤثرات المعمودية بل من خواص الذين يستحقونها. فالقول في المعمودية الخارجية ووجوب المعمودية الروحية هنا كقول الرسول في الفرائض الموسوية «قَرَابِينُ وَذَبَائِحُ لاَ يُمْكِنُ مِنْ جِهَةِ ٱلضَّمِيرِ أَنْ تُكَمِّلَ ٱلَّذِي يَخْدِمُ، وَهِيَ قَائِمَةٌ بِأَطْعِمَةٍ وَأَشْرِبَةٍ وَغَسَلاَتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَفَرَائِضَ جَسَدِيَّةٍ فَقَطْ، مَوْضُوعَةٍ إِلَى وَقْتِ ٱلإِصْلاَحِ… فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلّٰهِ بِلاَ عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ» (عبرانيين ٩: ٩ و١٠ و١٤).
ولعل السؤال هنا سؤال الله لضمير المؤمن أن يأتي إليه ليعاهده على إخلاص النية أو هو الطلب الذي يطلبه المؤمن من الله للمعونة حتى يستطيع أن يقوم بما أوجبت عليه المعمودية والأولى أنه سؤال عمدة الكنيسة. وخلاصة هذه الآية إن المعمودية المطلوبة إشارة إلى معمودية الروح القدس متى كانت مقترنة بتجدد القلب (الموصوف هنا «بضمير صالح عند الله») فهي واسطة خلاص المؤمنين من الموت الروحي الأبدي كما إن الماء الذي حمل الفلك كان واسطة لخلاص نوح وأهل بيته من الموت الجسدي.
بِقِيَامَةِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ هذا متعلق «بيخلصنا» في أول الآية ومعنى الجملة أنه لولا قيامة المسيح كانت تلك المعمودية باطلة وعجزت عن الخلاص كما يتضح من (رومية ٦: ٤ و٥ و١كورنثوس ١٥: ١٣ و١٤ و٢٩). والقيامة من الأموات هي أول النتائج المجيدة من موت المسيح «البار من أجل الاثمة» (ع ١٨).
جاء تفاسير كثيرة للآيات الثلاث (أعمال ١٩ – ٢١) منها إن «الأرواح التي في السجن» هم الأشرار الذين كانوا أسرى الشيطان في سجن الإثم وإن هؤلاء هم الذين ذهب المسيح إليهم وكرز لهم بعد قيامته بواسطة رسله والمبشرين. والذي يبطل هذا التفسير إن بطرس نسب الذهاب والكرازة إلى المسيح نفسه لا إلى رسله وكون المراد بالأرواح التي في السجن كل الخطأة مما يعسر قوله على العقل. ومنها إن تلك الأرواح كانت في جهنم وإنها أرواح الذين هلكوا بالطوفان وإن المسيح نزل إلى جهنم وبشرها ويبطل هذا التفسير أنه مخالف لتعليم الكتاب إن زمن التبشير ونيل النعمة لا يكونان إلا مدة الحياة الحاضرة بدليل قوله «بعد الموت الدينونة» (عبرانيين ٩: ٢٧). ولا يمكننا أن نرى سبباً لكرازة المسيح للذين ماتوا زمن الطوفان دون غيرهم. وليس في هذا التفسير شيء يوافق غاية الرسول هنا وهو حثّ المضطهدين ظلماً على الصبر والاحتمال. وقد سند بعضهم القول بالمطهر بتلك الآيات فذهبوا إلى أن المسيح ذهب إلى المطهر لكي يخلص الذين احتملوا من العذاب ما يكفي للتطهير. ولا شيء في الكتاب يسند هذا الرأي ولو كان صحيحاً لأُثبت بآيات أُخر من آيات الكتاب ولكنه تخالفه آيات كثيرة.
٢٢ «ٱلَّذِي هُوَ فِي يَمِينِ ٱللّٰهِ، إِذْ قَدْ مَضَى إِلَى ٱلسَّمَاءِ، وَمَلاَئِكَةٌ وَسَلاَطِينُ وَقُوَّاتٌ مُخْضَعَةٌ لَهُ».
مرقس ١٦: ١٩ وعبرانيين ٤: ١٤ و٦: ٢٠ ورومية ٨: ٣٨ وعبرانيين ١: ٦
ما في هذه الآية بيان لعظمة المسيح ومجده وهو نتيجة «آلام البار من أجل الأثمة» وبيان ما للمؤمن أن يتوقعه إذا اقتدى بالمسيح باحتماله الضيقات والإهانة والمقاومة من الخطأة قديماً وحديثاً.
ٱلَّذِي هُوَ فِي يَمِينِ ٱللّٰهِ، إِذْ قَدْ مَضَى إِلَى ٱلسَّمَاءِ (انظر أعمال ١: ٩ وتفسيره) أي مضى إلى مسكن الملائكة والقديسين ومظهر مجد الله وهو نزل منها ليتألم وصعد إليها ليتمجد. وقال «في يمين الله» إيماء إلى مشاركته للآب في السلطة والمقام (انظر تفسير مرقس ١٦: ١٩).
وَمَلاَئِكَةٌ وَسَلاَطِينُ وَقُوَّاتٌ مُخْضَعَةٌ لَهُ (انظر تفسير أفسس ١: ٢٠ و٢١ وكولوسي ٢: ١ – ١٥). غاية بطرس من هذا القول بيان أنه لا عجب أن يتألم المؤمنون على ذنوب لم يرتكبوها لأن المسيح البار كذا تألم. إنه مات لكي يقرب الناس إلى الله فيجب أن يسر المؤمنون إذ دُعوا ليشهدوا بصحة الدين المسيحي بالموت ويكونوا لذلك واسطة تقريب العصاة إلى الله بالإيمان والتوبة. وآلام المسيح انتهت بقيامته وصعوده وتكلله بالمجد والكرامة كذا تنتهي آلام المؤمنين الذين يتألمون ظلماً لأنهم يشاركونه في مجده بدليل قوله «مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَجْلِسَ مَعِي فِي عَرْشِي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضاً وَجَلَسْتُ مَعَ أَبِي فِي عَرْشِهِ» (رؤيا ٣: ١٢).
السابق |
التالي |