بطرس الأولى

رسالة بطرس الأولى | 02 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح رسالة بطرس الأولى

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الثاني

ينقسم هذا الأصحاح إلى ثلاثة أقسام:

الأول: حث المؤمنين المولودين من فوق أن يطرحوا عن أنفسهم كل خبث ومكر وأشبهاهما وأن يقبلوا كلمة الله باجتهاد ورغبة لكي ينموا في الحياة الروحية كما يشتهي المولودون حديثاً القوت الموافق لهم وينالون بذلك القوة الجسدية والنمو الجسدي (ع ١ – ٣).

الثاني: بيان البركات التي نالوها بإيمانهم وقصر غيرهم عنها (ع ٤ – ١٠) وتفصيل تلك البركات.

    • إنهم اتخذوا المسيح حجراً حياً بُني عليه هيكل الله الروحي وقد رفضه غيرهم فصاروا بقبولهم إياه كهنوتاً مقدساً لكي يقدموا لله تقدمات روحية مرضية لله تعالى (ع ٤ و٥).
    • كان المسيح كرامة لهم لكونه أساس كل رجائهم وتحققوا متانة هذا الأساس الذي شك فيه غيرهم وأنكروه (ع ٦ – ٨).
    • إنهم الآن جنس مختار وأمة مقدسة وعينهم الله لكي يمجدوه على الأرض مع أنهم لم يكونوا سابقاً من شعب الله وكانوا محسوبين خارج دائرة رحمته (ع ٩ و١٠).

الثالث: بيان ما يجب عليهم بالنظر إلى تلك البركات والنسب التي منحهم إياها (ع ١١ – ٢٥) وتفصيل ذلك.

    • إنهم يعيشون كغرباء معتزلين الشهوات ويسلكون في سنن القداسة بين الأمم المحيطين بهم (ع ١١ و١٢).
    • وجوب الخضوع للحكام (ع ١٣ – ١٧).
    • وجوب أن يخضع العبيد لسادتهم وإن ظلموهم (ع ١٨ – ٢٠).
    • إن يتمثلوا هم بالمسيح الذي احتمل الآلام الشديدة بصبر ويتوقع أنهم يسلكون في خطواته.

وجوب النمو بالحق ع ١ إلى ٣

١ «فَٱطْرَحُوا كُلَّ خُبْثٍ وَكُلَّ مَكْرٍ وَٱلرِّيَاءَ وَٱلْحَسَدَ وَكُلَّ مَذَمَّةٍ».

أفسس ٤: ٢٢ و٢٥ و٣١ ويعقوب ١: ٢١ و٤: ١١

فَٱطْرَحُوا بناء على ما سبق من أمر ولادتهم الروحية وما عليهم أن يطرحوه هو كل ما هو متعلق بحياتهم القديمة الشريرة وهم عبيد للشيطان وما لا يوافق الحياة الجديدة التي اشتركوا فيها. والمراد «بطرحها» إنهم لا يرجعون إليها بل يحسبونها خرقة نجسة ألقوها عنهم مرة إلى الأبد (رومية ١٣: ١٢ وأفسس ٤: ٢٢ و٢٣ وكولوسي ٣: ٨).

خُبْثٍ المراد «بالخبث» هنا إرادة الإنسان أذى غيره بغضاً له وانتقاماً منه (رومية ١: ٢٩ و١كورنثوس ٥: ٨ وأفسس ٤: ٣١ وكولوسي ٣: ٨ وتيطس٣: ٣).

مَكْرٍ (ص ٢: ٢٢ و٣: ١٠) والمراد «بالمكر» هنا كل نوع من أنواع الخداع (انظر تفسير رومية ١: ٢٩ و٢كورنثوس ١٢: ١٦ و١تسالونيكي ٢: ٣).

ٱلرِّيَاءَ أي ادعاء الإنسان ما ليس فيه من الفضيلة أو القداسة (انظر تفسير غلاطية ٢: ١٣ و١تيموثاوس ٤: ٢).

ٱلْحَسَدَ هو هنا غضب الإنسان على غيره لأنه حصل على ما لم يحصل هو عليه (رومية ١: ٢٩).

مَذَمَّةٍ (٢كورنثوس ١٢: ٢٠) أمر بطرس المؤمنين أن يبذلوا جهدهم ليتخلصوا من هذه الرذائل نتائج فساد طبيعتهم الأصلي باستعمال الوسائط التي أعدها الله لتنقيتهم منها ونموهم في المعرفة والبر والقداسة.

٢ «وَكَأَطْفَالٍ مَوْلُودِينَ ٱلآنَ ٱشْتَهَوْا ٱللَّبَنَ ٱلْعَقْلِيَّ ٱلْعَدِيمَ ٱلْغِشِّ لِكَيْ تَنْمُوا بِهِ».

متّى ١٨: ٣ و١٩: ١٤ ومزمور ١٠: ١٥ ولوقا ١٨: ١٧ و١كورنثوس ١٤: ٢٠ و٣: ٢ وأفسس ٤: ١٥

كَأَطْفَالٍ مَوْلُودِينَ ٱلآنَ (ص ١: ٢٣) شبّه التغير الذي ظهر فيهم يوم آمنوا بالولادة إيماء إلى الحال التي كانوا فيها وهم وثنيون أو يهود وانتقالهم إلى الحياة الجديدة. فحسب ذلك كتغير الجنين إلى أن يولد فيه ينتقل إلى حال النور والطهارة والحرية وقبول النمو جسداً وعقلاً وبه يدخل عالماً جديداً. فسقوطهم في الخطايا التي أمرهم أن يطرحوها يبرهن أنهم ليسوا بالغين بل إنهم كأطفال في المسيح في الضعف والاحتياج. وقصد بولس بهذا التشبيه أن يشير بالأكثر إلى احتياج الطفل المولود الآن واحتياج المؤمن إلى القوت المناسب للحياة الجديدة ووجوب أن يشتهي المؤمنون القوت الروحي اشتهاء الطفل القوت الجسدي. وأتى المسيح بهذا التشبيه في مخاطبته لتلاميذه بقوله «إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا وَتَصِيرُوا مِثْلَ ٱلأَوْلاَدِ فَلَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى ١٨: ٣).

ٱشْتَهَوْا ٱللَّبَنَ ٱلْعَقْلِيَّ أي اطلبوه برغبة كما يطلب الطفل لبن أمه غير ملتفت إلى سواه. فالقوت الذي يجب على المؤمنين أن يطلبوه وُصف «بالعقلي» تمييزاً له عن اللبن الحقيقي فإنه هو القوت الذي يلائم عقل الإنسان ونفسه وأنه هو القوت الذي أعده الله لكي يقيت طبيعة الإنسان الروحية المخلوقة على صورته تعالى وحقيقته الإنجيل الذي قبلوه من بولس ورفقائه وقد ذُكر في (ص ١: ٢٣). والحق المعلن في الإنجيل الذي يقتات به عقل الإنسان المستنير بالروح القدس هو القوت الوحيد الكافي الذي أعده الله غذاء لأولاده على هذه الأرض لكي يستعدوا ويكونوا أهلاً لخدمته هنا ولتمجيده في السماء.

ٱلْعَدِيمَ ٱلْغِشِّ أي الخالص من كل الشوائب من تقاليد اليهود والفلسفة اليونانية. وهذا كقول المرنم «نَامُوسُ ٱلرَّبِّ كَامِلٌ يَرُدُّ ٱلنَّفْسَ. شَهَادَاتُ ٱلرَّبِّ صَادِقَةٌ تُصَيِّرُ ٱلْجَاهِلَ حَكِيماً. وَصَايَا ٱلرَّبِّ مُسْتَقِيمَةٌ تُفَرِّحُ ٱلْقَلْبَ. أَمْرُ ٱلرَّبِّ طَاهِرٌ يُنِيرُ ٱلْعَيْنَيْنِ» (مزمور ١٩: ٧ و٨ انظر أيضاً يعقوب ١: ٢١).

لِكَيْ تَنْمُوا بِهِ كما ينمو الأطفال بلبن الأمهات حتى يبلغوا البلوغ الجسدي. كذلك ينمو المؤمنون حتى يبلغوا الخلاص التام ويصيروا أولاد الله على وفق قول يوحنا الرسول «ٱلآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ ٱللّٰهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلٰكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (١يوحنا ٣: ٢). وهذا يشير إلى أكثر من النجاة من جهنم ويتضمن نيل الحياة الأبدية في السماء. وتمثيله تقدمهم «بالنمو» يشير إلى زيادتهم رويداً رويداً في القداسة حتى يصيروا مشابهين لصورة المسيح. واعتبر كلمة الله واسطة لذلك النمو إذا دُرست وتؤمل فيها مع طلب مساعدة الروح القدس على إدراك معناها والانتفاع بها لأن مجرد الأكل بالفم لا يقوي الجسد فمجرد قراءة الكلمة أو مجرد سمعها كفرض من فروض العبادة لا يقيت النفس.

٣ «إِنْ كُنْتُمْ قَدْ ذُقْتُمْ أَنَّ ٱلرَّبَّ صَالِحٌ».

عبرانيين ٦: ٥ ومزمور ٣٤: ٨ وتيطس ٣: ٤

إِنْ كُنْتُمْ قَدْ ذُقْتُمْ «إن» هنا للقطع لا للشك فكأنه قال لأنكم ذقتم حلاوة تعليم الإنجيل في شأن المسيح أول إيمانكم استمروا على طلب ذلك التعليم لكي تغتذوا به. فاتخذ الرسول كلمات داود النبي (مزمور ٣٤: ٨) بياناً لمراده فكما أن داود سرّ بمواعيد الله بأن يحميه وهو هارب من شاول انتعش المسيحيون وتقووا بالمسيح نفسه الذي هو خبز الحياة. فعليهم أن يستمروا على الجوع إلى تعليمه في الإنجيل لكي ينموا به هم وأولادهم في الحياة الروحية.

وجوب الاستمرار على الإيمان بالمسيح الأساس الوطيد وإن رفضه بعض الناس ع ٤ إلى ٦

٤ «ٱلَّذِي إِذْ تَأْتُونَ إِلَيْهِ، حَجَراً حَيّاً مَرْفُوضاً مِنَ ٱلنَّاسِ، وَلٰكِنْ مُخْتَارٌ مِنَ ٱللّٰهِ كَرِيمٌ».

ٱلَّذِي إِذْ تَأْتُونَ إِلَيْهِ أي الذي لا تفتأون تقتربون إليه إظهاراً لثقتكم به ومحبتكم إياه وغيرتكم في خدمته ووسيلة الإتيان إليه والصلاة له وقراءة كلامه والاقتيات به بالإيمان على ما هو معلن في الإنجيل.

حَجَراً حَيّاً أي معتبريه كذلك فعدل بطرس هنا عن تشبيه المؤمنين بالأطفال وشبههم بأجزاء هيكل عظيم روحي أبقى وأمجد من هيكل أورشليم المادي. قصد الرسول أن يبين مجد الهيكل الروحي ولذلك أبان مجد أساسه وهو أنه المسيح عينه وهذا موافق لما قيل في (متّى ٢١: ٤٢ وأعمال ٤: ١١ ورومية ١١: ١١ وأفسس ٢: ٢٠). وتشبيه المسيح «بالحجر» يشير إلى كونه مستحقاً أن يوثق به بالنظر إلى رزانته وحقه وأمانته. ووصف «الحجر بالحي» تمييزاً للمسيح عن كون الحجر جماداً لا حياة له. فنسب إليه صفات الحياة والنور لأن المسيح حي ومحي بدليل قوله «اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ ٱلآنَ، حِينَ يَسْمَعُ ٱلأَمْوَاتُ صَوْتَ ٱبْنِ ٱللّٰهِ، وَٱلسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ» (يوحنا ٥: ٢٨ انظر يوحنا ٦: ٤٨ و١٤: ١٩ وأعمال ٢: ٢٨). فيليق أن يكون أساس هيكل الله الحي حياً وأن تكون حجارته كذلك (ع ٢٥). وعلى هذا سمي المسيح «الخبز الحي» و «الماء الحي» (يوحنا ٤: ١٠ و٦: ٥١). ومما يستحق الذكر هنا هو أن بطرس لم يشر البتة إلى كونه صخراً وأن المسيح بنى كنيسته عليه كما فسر بعضهم قول المسيح في (متّى ١٦: ١٨) مع أن هنا محل ذكره لو كان حقاً.

مَرْفُوضاً مِنَ ٱلنَّاسِ كما قيل في (مزمور ١١٨: ٢٢) واقتُبست هذه الآية منه أيضاً في (ع ٧). والمراد «بالناس» هنا رؤساء اليهود الذين باعتبار كونهم بنائي هيكل الله رأوا أنهم قادرون على أن يحكموا بما يجب أن تكون صفات هيكله تعالى فلم يجدوها في المسيح ولهذا لم يعطوه مقام الإكرام في الهيكل بل رفضوا أن يكون له فيه محل مطلقاً إذ ادعوا أنه مضل وطلبوا قتله بناء على زعمهم أنه مجدف وخائن (إشعياء ٥٣: ٣ وتفسير متّى ٢١: ٤٢) وكما رفض اليهود المسيح بطلبهم موته يومئذ يرفضه اليوم كل الذين لا يقبلونه مخلصاً.

وَلٰكِنْ مُخْتَارٌ مِنَ ٱللّٰهِ كَرِيمٌ هذا يبين عظمة الفرق بين اعتبار الله للمسيح واعتبار اليهود له فالذي رفضوه هو الذي إياه اختار الله منذ الأزل (ص ١: ٢٠). مستحقاً أن يكون أساس هيكله ورأس زاويته فالذي استهانوا به اعتبره الله أكرم من كل من سواه في الوجود (متّى ٣: ١٧).

٥ «كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً مَبْنِيِّينَ كَحِجَارَةٍ حَيَّةٍ، بَيْتاً رُوحِيّاً، كَهَنُوتاً مُقَدَّساً، لِتَقْدِيمِ ذَبَائِحَ رُوحِيَّةٍ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ ٱللّٰهِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».

١كورنثوس ٣: ٩ و١تيموثاوس ٣: ١٥ وغلاطية ٦: ١٠ ع ٩ وإشعياء ٦١: ٦ و٦٦: ٢١ ورؤيا ١: ٦ وعبرانيين ١٣: ١٥ ورومية ١٥: ١٦

كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً مَبْنِيِّينَ أي قوموا بكل ما عليكم لتكونوا مبنيين على المسيح الأساس الذي وضعه الله لأن وضعه ذلك الأساس مكنكم من أن تبنوا عليه وأوجب عليكم أن تبنوا عليه.

كَحِجَارَةٍ حَيَّةٍ يبني بها الهيكل الروحي الذي هو مسكن الله العلي وواسطة تمجيده في العالم. فكما أن الأساس «حجر حي» (ع ٤) وجب أن تكون سائر أجزاء الهيكل حية. وصار المؤمنون كذلك باتحادهم بالمسيح وبنائهم عليه موافقة لقوله «إِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ» (يوحنا ١٤: ١٩).

بَيْتاً رُوحِيّاً نعته «بالروحي» لتمييزه عن كل بيت أو هيكل مصنوع بأيد ولكونه مسكن الروح القدس وهذا هو الغاية من بنائهم على المسيح وهو ينافي زعم اليهود أن هيكل الله في أورشليم هو هيكل الله الحق وأنهم هم وحدهم رعية الله الخاصة. وهذا موافق لقول بولس الرسول «فَلَسْتُمْ إِذاً بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلاً، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ ٱلْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ ٱللّٰهِ، مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ ٱلرُّسُلِ وَٱلأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ ٱلزَّاوِيَةِ، ٱلَّذِي فِيهِ كُلُّ ٱلْبِنَاءِ مُرَكَّباً مَعاً يَنْمُو هَيْكَلاً مُقَدَّساً فِي ٱلرَّبِّ. ٱلَّذِي فِيهِ أَنْتُمْ أَيْضاً مَبْنِيُّونَ مَعاً، مَسْكَناً لِلّٰهِ فِي ٱلرُّوحِ» (أفسس ٢: ١٩ – ٢٢).

كَهَنُوتاً مُقَدَّساً هذا بيان قصد الله من بنيانهم على الأساس الذي هو المسيح. كان في عهد موسى تحت العهد القديم هيكل الله (أي الشعب الذي يعبد الله فيه) ممتازاً عن الكهنوت. لكن في العهد المسيحي صار الاثنان واحداً لأن الكنيسة بيته وكهنوته معاً. حسب بطرس كل جماعة المؤمنين كهنة لا فرقة من فرق الكنيسة كخدم الدين. ونعت ذلك الكهنوت «بالمقدس» لأنه فرز لعابد الله وأذن له بالاقتراب منه تعالى للاعتراف بخطاياه ونيل المغفرة. إن خدم الدين في الإنجيل امتازوا عن عامة الشعب بالنبوءة والتعليم إذ قيل حين صعد المسيح إلى العلاء «أَعْطَى ٱلْبَعْضَ أَنْ يَكُونُوا رُسُلاً، وَٱلْبَعْضَ أَنْبِيَاءَ، وَٱلْبَعْضَ مُبَشِّرِينَ، وَٱلْبَعْضَ رُعَاةً وَمُعَلِّمِينَ» (أفسس ٤: ١١). ولم يقل فقط أعطى البعض أن يكونوا كهنة تمييزاً عن بقية الشعب فإذاً الكنيسة كلها كهنة والكهنوت غير مقصور على بعضها.

لِتَقْدِيمِ ذَبَائِحَ رُوحِيَّةٍ لما كان المؤمنون «بيتاً روحياً وكهنوتاً مقدساً» ولم يبق من حاجة إلى هيكل خاص في أورشليم وكهنوتاً ممتازاً خاصاً وجب أن يكون لهم ما يقدمونه من القرابين بالنظر إلى كونهم كهنة لأن كل رئيس كهنة يقام لكي يقدم قرابين وذبائح (عبرانيين ٨: ٣) ولزم أن تكون قرابينهم موافقة لخدمتهم الروحية أي قرابين روحية لا مادية كالثيران والغنم والمعزى التي كانت تُقدم في العهد القديم. وكان بمقتضى ذلك العهد أن يقدَّم لله أولاً ذبائح دموية لتكفير الخطايا ولتهيئة طريق الاقتراب إلى الله وقيل بعد تقدمة تلك الذبائح أن تقدم ذبائح وقف الذات لله وذبائح الحمد والشكر له. وأُعد بموجب العهد الجديد طريق الاقتراب إلى الله بذبيحة المسيح كفارة مرة إلى الأبد فلم يبق بعد ذلك من احتياج إلى الكهنة لتقديم ذبائح الكفارة. وبقي للمسيحيين أن يقدموا أنفسهم لله بدليل قول الرسول «أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ ٱللّٰهِ، عِبَادَتَكُمُ ٱلْعَقْلِيَّةَ» (رومية ١٢: ١) وأن يقدموا له أيضاً تقدمات الحمد والشكر التي تُعرف أيضاً «بثمر الشفاه» (عبرانيين ١٣: ١٥ انظر أيضاً مزمور ٥٠: ٣ و١٦: ١٧ وهوشع ١٤: ٣) «والصلوات التي عدّت بخوراً» (مزمور ١٤١: ٢ ورؤيا ٨: ٣ و٤). و «أعمال البر» بدليل قوله «لاَ تَنْسَوْا فِعْلَ ٱلْخَيْرِ وَٱلتَّوْزِيعَ، لأَنَّهُ بِذَبَائِحَ مِثْلِ هٰذِهِ يُسَرُّ ٱللّٰهُ» (عبرانيين ١٣: ١٦) و «القلب المنكسر المنسحق» (مزمور ٥١: ١٧) والطاعة التي فُضلت على سائر الذبائح (١صموئيل ١٥: ٢٢) وسكب الحياة من أجل المسيح (فيلبي ٢: ١٧).

مَقْبُولَةٍ عِنْدَ ٱللّٰهِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ بناء على تقديمه نفسه ذبيحة كفارة على الصليب وشفاعته في السماء فبدون المسيح لا تكون تقدمات شكرنا لله أكثر قبولاً من دخول كنعاني قدس الأقداس يوم الكفارة العظيمة (عبرانيين ٩: ٢٤ و٢٥ و١٠: ١٩ – ٢٢).

٦ «لِذٰلِكَ يُتَضَمَّنُ أَيْضاً فِي ٱلْكِتَابِ: هَئَنَذَا أَضَعُ فِي صِهْيَوْنَ حَجَرَ زَاوِيَةٍ مُخْتَاراً كَرِيماً، وَٱلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لَنْ يُخْزَى».

إشعياء ٢٨: ١٦ وع ٦ و٨ ورومية ٩: ٣٢ و٣٣ و١٠: ١١ وأفسس ٢: ٢٠

رجع بطرس عن وصف الهيكل الروحي إلى وصف المسيح أساسه وكلامه مقتبس من (إشعياء ٢٨: ١٦). حسب الترجمة السبعينية وصرّح فيه بأن غاية الله في البناء أن يجعل المسيح رأسه أو حجر الزاوية.

هَئَنَذَا أَضَعُ فِي صِهْيَوْنَ (انظر تفسير رومية ٩: ٣٣ وأفسس ٢: ٢٠). وما قيل هنا من أن النبوءة المتعلقة بصهيون تمت بالمسيح بيان للمؤمنين من اليهود إنهم لم يخسروا حقوقهم بالنظر إلى كونهم عبرانيين لأنهم يجدون في المسيح كل ما كان لآبائهم.

بيان إكرام المسيحيين بأنهم إسرائيل الحقيقي ع ٧ إلى ١٠

٧ «فَلَكُمْ أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ تُؤْمِنُونَ ٱلْكَرَامَةُ، وَأَمَّا لِلَّذِينَ لاَ يُطِيعُونَ فَٱلْحَجَرُ ٱلَّذِي رَفَضَهُ ٱلْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ ٱلزَّاوِيَةِ».

ع ٧ و٨ و٢كورنثوس ٢: ١٦ ومتّى ٢١: ٤٢ ومزمور ١١٨: ٢٢ ولوقا ٢: ١٤

أصاب الرسول بأن أظهر للمؤمنين ما حصلوا عليه من إكرام الله إياهم بواسطة إيمانهم بالمسيح عوضاً عما خسروه من إكرام الناس لأن متنصري اليهود لما آمنوا به طُردوا من الهيكل والأمة وحُسبوا غرباء ومتنصري الأمم خسروا كل حقوقهم المتعلقة بدين آبائهم.

فَلَكُمْ أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ تُؤْمِنُونَ ٱلْكَرَامَةُ أي عين الكرامة التي للأساس أو حجر الزاوية الذي وصفه في الآية السادسة بأنه «مختار كريم» وزاد على ذلك هنا إن الله يعتبر المبنيين عليه بالإيمان شركاء له في الكرامة وأن لا داعي إلى أن يخزوا به كما خزي به رؤساء اليهود لأن كل مواعيد الله لإسرائيل تمّت به.

وَأَمَّا لِلَّذِينَ لاَ يُطِيعُونَ أي لا يقبلون البراهين على أن يسوع المسيح هو الأساس ولا يؤمنون به.

فَٱلْحَجَرُ ٱلَّذِي رَفَضَهُ ٱلْبَنَّاؤُونَ رفضه أولاً رؤساء اليهود فإنهم أبوا أن يتخذوه أساس رجائهم للخلاص وطلبوا نوعاً آخر من المخلّص والملك (انظر تفسير متّى ٢١: ٤٢ وأعمال ٤: ١١ ورومية ٩: ٣٣). ورفضه ثانياً كل الذين يبنون رجاءهم الخلاص على غيره.

هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ ٱلزَّاوِيَةِ للمؤمنين المبنيين عليه وهذه العبارة مقتبسة من (مزمور ١١٨: ٢٢). و «رأس الزاوية» هو الحجر الذي يستقر عليه كل البناء وهو الذي يربط كل أجزائه حتى تكون واحداً. والمقصود بهذا التمثيل بيان أن اتحاد كل المؤمنين بالمسيح يجعلهم متحدين بعضهم ببعض (أفسس ٢: ٢٠ – ٢٢). وصار أيضاً بمقتضى القرينة زينة ومجداً لهم بخلاف ما كان لغيرهم.

٨ «وَحَجَرَ صَدْمَةٍ وَصَخْرَةَ عَثْرَةٍ. ٱلَّذِينَ يَعْثُرُونَ غَيْرَ طَائِعِينَ لِلْكَلِمَةِ، ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي جُعِلُوا لَهُ».

إشعياء ٨: ١٤ و١كورنثوس ٢: ٢٣ وغلاطية ٥: ١١ ورومية ٩: ٢٢

حَجَرَ صَدْمَةٍ وَصَخْرَةَ عَثْرَةٍ هذا مقتبس من (إشعياء ٨: ١٤). وهو إيضاح لما ينتج لرافضي المسيح من رفضهم إياه. وليس المراد «بالصدمة» هنا شكهم فيه بل خزيهم وإضرارهم كما في (إرميا ١٣: ١٦ وأمثال ٤: ١٩ ودانيال ١١: ١٩). وهو موافق لقول المسيح «كُلُّ مَنْ يَسْقُطُ عَلَى ذٰلِكَ ٱلْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ، وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ؟» (لوقا ٢٠: ١٧ و١٨). وكانت صدمتهم علة خراب هيكلهم ومدينتهم وأمتهم. كذلك يهلك بخطاياهم كل الذين يرفضون أن يتخذوا المسيح مخلصاً لهم.

غَيْرَ طَائِعِينَ لِلْكَلِمَةِ هذا يبين أن علة صدمتهم عدم إطاعتهم لقول الله الذي يكلّفهم أن يؤمنوا بابنه (يوحنا ٣: ١٦ – ١٩ ومتّى ١٧: ٥). والمراد «بالكلمة» هنا الإنجيل الذي يُعلن المسيح وعظمته وهذه الكلمة هي التي ينمو المؤمنون بها (ع ٢). وهي التي تكون لغير المؤمنين علة دينونة وهلاك.

ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي جُعِلُوا لَهُ قال هذا ليبيّن أن رفض اليهود للمسيح وصدمتهم به ليسا بالاتفاق ولا مما لم ينتظره الله بل كان بمقتضى قصد الله منذ الأزل وما تنبأ به أنبياء العهد القديم. لا يمكننا أن نعرف تمام المعرفة قصد الله في أمر الذين يخلصون وأمر الذين يهلكون ويتضح مما قيل هنا أن الله عيّن يسوع المسيح أن يكون أساس كنيسته وأن ينادي بأنه مخلص العالم وأن كل من يؤمن به يخلص وأن كل من لا يؤمن به يهلك بخطاياه وأن دينونته تكون أعظم من دينونة غيره من الرافضين لأنه رفض المسيح بعد معرفته إياه وبعبارة أخرى إن الله عيّن يسوع المسيح كرامة وخلاصاً للمؤمنين وحجر صدمة وصخرة عثرة للعصاة والرافضين وأنه عرف منذ الأزل من هم الذين يؤمنون ويخلصون ومن يرفضون ويهلكهم وعيّن كلاً من الفريقين (انظر تفسير يوحنا ١٢: ٣٩ و٤٠ ورومية ٩: ١٥ – ١٨).

٩ «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ ٱقْتِنَاءٍ، لِكَيْ تُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ مِنَ ٱلظُّلْمَةِ إِلَى نُورِهِ ٱلْعَجِيبِ».

تثنية ١٠: ١٥ وإشعياء ٤٣: ٢٠ وخروج ١٩: ٦ وتثنية ٧: ٦ وتيطس ٢: ١٤ وأعمال ٢٦: ١٨ وإشعياء ٤٢: ١٦ و٢كورنثوس ٤: ٦

نسب في هذه الآية إلى المؤمنين بالمسيح كل الألقاب والحقوق التي كانت لإسرائيل قديماً.

فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ لُقب بهذا شعب إسرائيل قديماً (تثنية ٤: ٣٧ و١٤: ٢ ومزمور ١٠٥: ٦ وإشعياء ٤٣: ٢٠ وهوشع ١١: ١) ونُسب في الإنجيل إلى المؤمنين بمعنى أسمى من ذاك لأن الله اختارهم من العالم ليكونوا له خاصة (يوحنا ١: ١٢ ورومية ٨: ١٧ و٢كورنثوس ٦: ١٨ وغلاطية ٣: ٢٦ و٢٩ وأفسس ١: ٤ – ٦ و٢: ١٩ و١بطرس ١: ٢).

كَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ قال الله قديماً لبني إسرائيل «أنتم تكونون لي مملكة كهنة» (خروج ١٩: ٦) أي مملكة مؤلفة من كهنة. واعتبرهم كذلك وهم في حضيض جبل سيناء قبل أن يتخذ سبط لاوي نائباً عن الأمة كلها. وللكهنة حق ليس لغيرهم وهو اقترابهم من الله في العبادة. وهذه البركة حصل عليها المؤمنون بالمسيح ونُسب إليهم الإكرام الذي يختص بالملوك الممتازين على سائر الناس بالسلطة. والمسيحيون كذلك ملوك لأن لهم سلطاناً على أن يخضعوا أعداءهم الروحيين جنود الظلمة وشهواتهم. وهذا مثل قول إشعياء «أَمَّا أَنْتُمْ فَتُدْعَوْنَ كَهَنَةَ ٱلرَّبِّ، تُسَمَّوْنَ خُدَّامَ إِلٰهِنَا» (إشعياء ٦١: ٦) وقول دانيال «أَمَّا قِدِّيسُو ٱلْعَلِيِّ فَيَأْخُذُونَ ٱلْمَمْلَكَةَ وَيَمْتَلِكُونَ ٱلْمَمْلَكَةَ إِلَى ٱلأَبَدِ وَإِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ» (دانيال ٧: ١٨). وقيل في سفر الرؤيا بلسان المفديين «جَعَلْتَنَا لإِلٰهِنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً» (يوحنا ١٧: ٢٢ رؤيا ٥: ١٠) ولعل معنى «الكهنوت الملوكي» هنا أن المؤمنين يخدمون يهوه «ملك الملوك ورب الأرباب». إن المسيح ملك وكاهن (مزمور ٢: ٦ و١١٠: ٤). واتحاد المؤمنين بالمسيح يجعلهم كهنة وملوكاً بدليل القول «ٱلَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ، وَجَعَلَنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً لِلّٰهِ أَبِيهِ» (رؤيا ١: ٥ و٦).

أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ وهذا مما لقب الله به شعب إسرائيل في القديم (خروج ١٩: ٦). فإن الله قال لموسى «قُلْ لِكُلِّ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: تَكُونُونَ قِدِّيسِينَ لأَنِّي قُدُّوسٌ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكُمْ» (لاويين ١٩: ٢). وقال موسى لهم «إِنَّكَ أَنْتَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلٰهِكَ. إِيَّاكَ قَدِ ٱخْتَارَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ لِتَكُونَ لَهُ شَعْباً أَخَصَّ مِنْ جَمِيعِ ٱلشُّعُوبِ ٱلَّذِينَ عَلَى وَجْهِ ٱلأَرْضِ» (تثنية ٧: ٦). فالأمة التي كانت للرب خاصة رفضها لعصيانها وأخذ الكنيسة المسيحية بدلاً منها (غلاطية ٣: ٢٨ و٢٩ وأفسس ٥: ٢٢ – ٢٧ وعبرانيين ١٢: ٢٢ و٢٣).

شَعْبُ ٱقْتِنَاءٍ وهذا على وفق قول الله لبني إسرائيل «تَكُونُونَ لِي خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ ٱلشُّعُوبِ. فَإِنَّ لِي كُلَّ ٱلأَرْضِ» (خروج ١٩: ٥). هكذا يقول الرب «هٰكَذَا يَقُولُ ٱلرَّبُّ خَالِقُكَ يَا يَعْقُوبُ وَجَابِلُكَ يَا إِسْرَائِيلُ: لاَ تَخَفْ لأَنِّي فَدَيْتُكَ.. جَعَلْتُ مِصْرَ فِدْيَتَكَ كُوشَ وَسَبَا عِوَضَكَ. إِذْ صِرْتَ عَزِيزاً فِي عَيْنَيَّ مُكَرَّماً، وَأَنَا قَدْ أَحْبَبْتُكَ. أُعْطِي أُنَاساً عِوَضَكَ وَشُعُوباً عِوَضَ نَفْسِكَ» (إشعياء ٤٣: ١ – ٤). ومثل هذا كلام الرسول في الكنيسة وهو قوله «ٱلَّذِي فِيهِ لَنَا ٱلْفِدَاءُ، بِدَمِهِ… ٱلَّذِي فِيهِ أَيْضاً نِلْنَا نَصِيباً، مُعَيَّنِينَ سَابِقاً حَسَبَ قَصْدِ ٱلَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ… ٱلَّذِي هُوَ عَرْبُونُ مِيرَاثِنَا، لِفِدَاءِ ٱلْمُقْتَنَى، لِمَدْحِ مَجْدِهِ» (أفسس ١: ٧ – ١٤). وقوله أيضاً «لأَنَّ ٱللّٰهَ لَمْ يَجْعَلْنَا لِلْغَضَبِ، بَلْ لاقْتِنَاءِ ٱلْخَلاَصِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (١تسالونيكي ٥: ٩). وقوله «كُلَّ شَيْءٍ لَكُمْ: أَبُولُسُ، أَمْ أَبُلُّوسُ، أَمْ صَفَا، أَمِ ٱلْعَالَمُ، أَمِ ٱلْحَيَاةُ، أَمِ ٱلْمَوْتُ، أَمِ ٱلأَشْيَاءُ ٱلْحَاضِرَةُ، أَمِ ٱلْمُسْتَقْبَلَةُ. كُلُّ شَيْءٍ لَكُمْ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلِلْمَسِيحِ» (١كورنثوس ٣: ٢١ – ٢٣).

لِكَيْ تُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ أي لكي تشهد بعظمة الله وقوته وقداسته وسائر صفاته التي يعبّر الكتاب عنها باسمه كقوله «هٰذَا ٱلشَّعْبُ جَبَلْتُهُ لِنَفْسِي. يُحَدِّثُ بِتَسْبِيحِي» (إشعياء ٤٣: ٢١). ولهذا عينه دعا الله إسرائيل من مصر وصنع آيات وعجائب أمامه ليجعل اسمه مكرماً بدليل قول داود الملك «وَأَيَّةُ أُمَّةٍ عَلَى ٱلأَرْضِ مِثْلُ شَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ ٱلَّذِي سَارَ ٱللّٰهُ لِيَفْتَدِيَهُ لِنَفْسِهِ شَعْباً، وَيَجْعَلَ لَهُ ٱسْماً، وَيَعْمَلَ لَكُمُ ٱلْعَظَائِمَ وَٱلتَّخَاوِيفَ لأَرْضِكَ أَمَامَ شَعْبِكَ ٱلَّذِي ٱفْتَدَيْتَهُ لِنَفْسِكَ مِنْ مِصْرَ مِنَ ٱلشُّعُوبِ وَآلِهَتِهِمْ» (٢صموئيل ٧: ٢٣ انظر أيضاً إشعياء ٦٣: ١١ و١٢ ومزمور ١٠٨ وإرميا ١٣: ١١). وبهذا المعنى قيل في المؤمنين «لِكَيْ يُعَرَّفَ ٱلآنَ عِنْدَ ٱلرُّؤَسَاءِ وَٱلسَّلاَطِينِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ بِوَاسِطَةِ ٱلْكَنِيسَةِ بِحِكْمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمُتَنَوِّعَةِ» (أفسس ٣: ١٠). فالكنيسة تخبر «بغنى نعمته» وعظمة قدرته وعمق علمه وعدم تغيّر قصده وسمو محبته فإنها عُيّنت لتخبر بذلك (أفسس ١: ٥ و١٢ و١٤ وفيلبي ١: ١١). وتأتي ذلك على الأرض (يوحنا ١٥: ٨) وفي السماء (رؤيا ٤: ٨ و١١). فالله لم يختر المؤمنين للعظمة والمجد بل اختارهم دعاة باسمه بين الأمم كما اختار إسرائيل قديماً (إشعياء ٤٣: ١٢).

مِنَ ٱلظُّلْمَةِ إِلَى نُورِهِ ٱلْعَجِيبِ أي الذين دعاهم الله الآب لأن الدعوة تنسب غالباً في الإنجيل إلى الأقنوم الأول. والذين دعاهم متنصرو اليهود والأمم الذي كتب بطرس إليهم وأكثرهم من متنصري الأمم والوسيلة التي دعاهم الله بها هي بولس ورفقاؤه. وأشار «بالظلمة» إلى ما كانوا فيه من حال الجهالة والخطيئة والشقاء. وأراد «بنوره العجيب» معرفة الإنجيل (٢كورنثوس ٤: ٦ وأفسس ٥: ٨). وهذا النور الإنجيلي عبارة عن المعرفة والقداسة والسعادة ويتضمن نور وجه الله والمدينة السماوية.

١٠ «ٱلَّذِينَ قَبْلاً لَمْ تَكُونُوا شَعْباً، وَأَمَّا ٱلآنَ فَأَنْتُمْ شَعْبُ ٱللّٰهِ. ٱلَّذِينَ كُنْتُمْ غَيْرَ مَرْحُومِينَ، وَأَمَّا ٱلآنَ فَمَرْحُومُونَ».

هوشع ١: ١٠ و٢: ٢٣ ورومية ٩: ٢٥ و١٠: ١٩

ٱلَّذِينَ قَبْلاً لَمْ تَكُونُوا شَعْباً هذا يصدق بالأكثر على متنصري الأمم لكنه يصدق على متنصري اليهود أيضاً بدليل قوله تعالى «وَأَرْحَمُ لُورُحَامَةَ، وَأَقُولُ لِلُوعَمِّي: أَنْتَ شَعْبِي وَهُوَ يَقُولُ: أَنْتَ إِلٰهِي» (هوشع ٢: ٢٣) ذكر بطرس هنا الفرق بين حالهم وهم مؤمنون وحالهم قبل آن آمنوا لكي يحثهم على أن يستمروا على أن يخبروا بين الأمم بفضائل الله (انظر تفسير رومية ٩: ٢٥ وأفسس ٢: ١٢ و١٣).

وجوب السلوك باستقامة وقداسة بين الأمم المحيطة ع ١١ و١٢

١١ «أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ كَغُرَبَاءَ وَنُزَلاَءَ أَنْ تَمْتَنِعُوا عَنِ ٱلشَّهَوَاتِ ٱلْجَسَدِيَّةِ ٱلَّتِي تُحَارِبُ ٱلنَّفْسَ».

عبرانيين ٦: ٩ وص ٤: ١٢ ورومية ١٢: ١ ولاويين ٢٥: ٢٣ وحزقيال ٣٩: ١٢ وص ١: ١٧ وعبرانيين ١١: ١٣ وأفسس ٢: ١٩ ورومية ١٣: ١٤ وغلاطية ٥: ١٦ و٢٤ ويعقوب ٤: ١

أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ خاطب المؤمنين بهذا ليستميلهم إلى قبول نصحه.

أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ كَغُرَبَاءَ وَنُزَلاَءَ طلب منهم في ما سبق أن يسلكوا كما يليق بدعوتهم بيسوع المسيح خلافاً لسيرتهم قبل تجدّدهم. وطلب هنا أن يسلكوا حسناً ليمجدوا الله قدام العالم الشرير المضطهد. فالمؤمنون «غرباء ونزلاء» لأنهم أولاد الله وهم ساكنون بين أولاد الشرير. إن السماء وطنهم وهم ماكثون يسيراً على الأرض وكنزهم في السماء فقلوبهم كذلك. وغايتهم العظمى أن يوسعوا ملكوت الله في هذا العالم وأن يمروا في أرض الغرباء والأعداء بلا أذى لأنفسهم وأنهم يصلون إلى السماء آمنين وأن يأخذوا معهم من استطاعوا أخذه من الرفقاء (انظر تفسير فيلبي ٣: ٢٠).

أَنْ تَمْتَنِعُوا عَنِ ٱلشَّهَوَاتِ ٱلْجَسَدِيَّةِ أي عن الأعمال التي تقود تلك الشهوات إليها وقد ذُكرت في (غلاطية ٥: ١٩ – ٢١) فانظر تفسيرها. ولا يليق بالغرباء والنزلاء أن يعيشوا كأنهم في وطنهم وأن يخضعوا لشهواتهم كما يفعل أهل هذا العالم الذين نصيبهم ولذاتهم وكنوزهم هنا. فتلك الشهوات تمنعهم من التقدم إلى وطنهم السماوي وتقلل رغبتهم في لذّاته الروحية الطاهرة ولهذا قال بولس لمؤمني رومية «ٱلْبَسُوا ٱلرَّبَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ، وَلاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيراً لِلْجَسَدِ لأَجْلِ ٱلشَّهَوَاتِ» (رومية ١٣: ١٤) وقال لمؤمني غلاطية «ٱلَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا ٱلْجَسَدَ مَعَ ٱلأَهْوَاءِ وَٱلشَّهَوَاتِ» (غلاطية ٥: ٢٤). وقال لتيموثاوس «أَمَّا ٱلشَّهَوَاتُ ٱلشَّبَابِيَّةُ فَٱهْرُبْ مِنْهَا» (٢تيموثاوس ٢: ٢٢) ولهذا قال بطرس «لاَ تُشَاكِلُوا شَهَوَاتِكُمُ ٱلسَّابِقَةَ فِي جَهَالَتِكُمْ» (١بطرس ١: ١٤). وهذا يستلزم أن يمتنعوا عن كل اللذات المحظورة ويعتزلوا إفراط الرغبة في الأشياء المنظورة الوقتية الجائزة. وأفضل الطرق إلى ذلك الهرب من التجربة وطلب المعونة السماوية وشغل الأفكار بالأمور الروحية والتلذذ بالسماويات حتى لا يبقى محل في القلب للدنيويات.

ٱلَّتِي تُحَارِبُ ٱلنَّفْسَ أي تمنعها من التقدم في الروحيات وتنزع سلامها وطهارتها وتعمي الضمير والبصيرة وتفسد الذوق والتصوّر. وهذا يصدق على كل شهوة جسدية ومن شر تلك الشهوات الزنى والسكر فهما يسبيان النفس ويقيدانها كما قُيد شمشون الجبار الذي قلع عينيه الفلسطينيون وأجبروه أن يطحن لهم.

١٢ «وَأَنْ تَكُونَ سِيرَتُكُمْ بَيْنَ ٱلأُمَمِ حَسَنَةً، لِكَيْ يَكُونُوا فِي مَا يَفْتَرُونَ عَلَيْكُمْ كَفَاعِلِي شَرٍّ يُمَجِّدُونَ ٱللّٰهَ فِي يَوْمِ ٱلافْتِقَادِ، مِنْ أَجْلِ أَعْمَالِكُمُ ٱلْحَسَنَةِ ٱلَّتِي يُلاَحِظُونَهَا».

ع ١٥ وص ٣: ١٦ و٢كورنثوس ٨: ٢١ وفيلبي ٢: ١٥ وتيطس ٢: ٨ وأعمال ٢٨: ٢٢ وص ١٤: ١١ و١٦ ومتّى ٥: ١٦ و٩: ٨ ويوحنا ١٣: ٣١ وإشعياء ١٠: ٣ ولوقا ١٩: ٤٤

وَأَنْ تَكُونَ سِيرَتُكُمْ بَيْنَ ٱلأُمَمِ حَسَنَةً (انظر تفسير فيلبي ١: ٢٧ و٤: ٨) ما قاله سلباً في (ع ١١) قاله إيجاباً هنا وأمرهم أن يسلكوا بين الأمم حسناً لكي يروا أعمالهم الصالحة ويمجدوا إلههم الذي في السماء. وأراد «بسيرتهم» سلوكهم اليومي الظاهر لكل مشاهد. فالحسنة هي الصالحة التي يمدحها الجميع.

لِكَيْ يَكُونُوا فِي مَا يَفْتَرُونَ عَلَيْكُمْ كَفَاعِلِي شَرٍّ هذا يشير إلى تهمة شاعت بين الأمم يومئذ للمسيحيين. إن الأمم لم يميزوا في أول الأمر بينهم وبين اليهود فحسبوهم فرقة منهم (أعمال ١٨: ١٥ و٢٥: ١٨ – ٢٠) وفي السنة ٦٤ ب. م وهو وقت الاضطهاد النيروني ابتدأت المملكة الرومانية تعتبر المسيحيين طائفة مستقلة. ويظهر من أقوال المؤرخين الرومانيين ولا سيما الرقيم الذي كتبه بلينوس المؤرخ إلى الأمبراطور تريجانس إن المسيحيين كانوا يُتهمون بشر الفظائع. وعلة ذلك أنهم كانوا ينفردون للعبادة الروحية وممارسة العشاء الربي وكثيراً ما اضطروا أيام الاضطهاد أن يجتمعوا في الليل سراً. وكثيراً ما حامى المسيحيون عن أنفسهم ودفعوا تلك التهم الباطلة وحمل الوثنيين حسدهم للمسيحيين وبغضهم لهم أن ينسبوا إليهم كل النوازل. قال ترتليانس المسيحي «إنه فاض نهر تيبر وطمّ وجرف ما تحت أسوار رومية وزعزعها فنسبوا ذلك إلى المسيحيين. وكانوا إذا لم يفض النيل كعادته في مصر ولم يسقِ الأرض نسبوا ذلك إليهم. وإذا حدث زلزال في المملكة أو جوع أو وبأ نسبوا ذلك إليهم وصرخوا «ألقوهم إلى الأسود».

يُمَجِّدُونَ ٱللّٰهَ فِي يَوْمِ ٱلافْتِقَادِ يحتمل أن المراد «بيوم الافتقاد» يوم مجيء الرب للانتقام من الأمم أو يوم مجيئه ليرحمهم والقرينة تدل على أن المراد هو الثاني أي وقت سكب الله روحه القدوس عليهم مع التبشير بالإنجيل كما هو في (لوقا ١: ٦٨ و٧٨ و١٩: ٤٤ وأعمال ١٥: ١٤) فيكون قودهم إلى التوبة والإيمان بالمسيح بواسطة سيرة المسيحيين المقدسة من جملة الوسائل إلى تمجيد الله.

مِنْ أَجْلِ أَعْمَالِكُمُ ٱلْحَسَنَةِ الخ أفضل دفع للتهمة الرديئة حسن السيرة فأمرهم بطرس أن يظهروا بتصرفهم في ما نُسب إليهم من الشر أن لا صحة لتلك التهمة. جهل أكثر الأمم عقائد الديانة المسيحية وصفات مؤسسها وتابعيها وأبغضهم كثيرون منهم وراقبوهم بأشد الحرص ليجدوا علة شكاية عليهم فوجب على المسيحيين أن يجتهدوا كل الاجتهاد في أن يشهدوا بأعمالهم بصحة دينهم وقداسة الإله الذي يعبدونه ذاكرين قول المسيح لتلاميذه «فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هٰكَذَا قُدَّامَ ٱلنَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ ٱلْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى ٥: ١٦).

وجوب الخضوع لذوي السلطة الزمنية ع ١٣ إلى ١٧

١٣ «فَٱخْضَعُوا لِكُلِّ تَرْتِيبٍ بَشَرِيٍّ مِنْ أَجْلِ ٱلرَّبِّ. إِنْ كَانَ لِلْمَلِكِ فَكَمَنْ هُوَ فَوْقَ ٱلْكُلِّ».

رومية ١٣: ١

فَٱخْضَعُوا لِكُلِّ تَرْتِيبٍ بَشَرِيٍّ الخضوع لذوي السلطة من جملة الوسائل التي أمر بطرس المؤمنين بممارستها لكي يدفعوا عنهم التهم الكاذبة وليخلصوا من الاضطهاد. والمراد «بالترتيب البشري» هنا ما أمر به متسلطو الأرض مما يوافق كلام الله وقيّده «بالبشري» تمييزاً له من الترتيب الإلهي. ومن الواضح أنه أراد أن يخضعوا لما لا يخالف شريعة الله (انظر تفسير أعمال ٤: ١٩).

مِنْ أَجْلِ ٱلرَّبِّ أي لكي لا يُهان اسم الرب ودينه بعصيانهم ولئلا يثور عليهم الاضطهاد. أو المعنى أن مثل هذا الخضوع يكون سارّاً للمسيح الذي قال لتلاميذه «أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ» (متّى ٢٢: ٢١).

إِنْ كَانَ لِلْمَلِكِ فَكَمَنْ هُوَ فَوْقَ ٱلْكُلِّ أي قيصر الذي هو أعظم من كل من رجال المملكة. وهذا يوافق قول بولس «لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِينِ ٱلْفَائِقَةِ» (رومية ١٣: ١). ويوم كتب بولس إلى الرومانيين كان أمبراطور المملكة كلوديوس قيصر (أعمال ١٨: ٢) ولما كتب بطرس هذه الرسالة كان أمبراطورها نيرون. وعبارة الأصل هنا تفصيل لقوله «فاخضعوا لكل ترتيب بشري» وكان الذين كتب إليهم بطرس هذه الرسالة من سكان أسيا الصغرى وكانت يومئذ من أجزاء المملكة الرومانية.

١٤ «أَوْ لِلْوُلاَةِ فَكَمُرْسَلِينَ مِنْهُ لِلانْتِقَامِ مِنْ فَاعِلِي ٱلشَّرِّ، وَلِلْمَدْحِ لِفَاعِلِي ٱلْخَيْرِ».

رومية ١٣: ٣ و٤

أَوْ لِلْوُلاَةِ َكَمُرْسَلِينَ مِنْهُ أوجب عليهم بطرس أن يخضعوا للولاة لأنهم نواب الأمبراطور قيصر يحكمون بأمره.

لِلانْتِقَامِ مِنْ فَاعِلِي ٱلشَّرِّ، وَلِلْمَدْحِ لِفَاعِلِي ٱلْخَيْرِ نسب إلى الولاة الأعمال التي أقامهم الله للمحافظة عليها وأوجب على الناس الطاعة لهم من أجلها وهي الأعمال التي كانت المملكة الرومانية تمارسها غالباً وكانت من نواميس تلك المملكة. وهذا موافق لقول بولس «فَإِنَّ ٱلْحُكَّامَ لَيْسُوا خَوْفاً لِلأَعْمَالِ ٱلصَّالِحَةِ بَلْ لِلشِّرِّيرَةِ. أَفَتُرِيدُ أَنْ لاَ تَخَافَ ٱلسُّلْطَانَ؟ ٱفْعَلِ ٱلصَّلاَحَ فَيَكُونَ لَكَ مَدْحٌ مِنْهُ، لأَنَّهُ خَادِمُ ٱللّٰهِ لِلصَّلاَحِ الخ» (رومية ١٣: ٣ و٤).

١٥ «لأَنَّ هٰكَذَا هِيَ مَشِيئَةُ ٱللّٰهِ أَنْ تَفْعَلُوا ٱلْخَيْرَ فَتُسَكِّتُوا جَهَالَةَ ٱلنَّاسِ ٱلأَغْبِيَاءِ».

ص ٣: ١٧ وع ١٢

لأَنَّ هٰكَذَا هِيَ مَشِيئَةُ ٱللّٰهِ الخ لأنه بطاعتهم للولاة يسكّنون الذين يتهمونهم بأنهم يريدون الفتنة على أرباب الحكومة وارتكاب الآثام المضرّة بالآداب وراحة البلاد. وكان الناس يتهمون المسيح بمثل هذا وبمثله اتهموا الرسل والمسيحيين الأولين وأفضل طريق إلى دفع ذلك السيرة الطاهرة والطاعة الدائمة. نسب بطرس هذه التهم إلى الناس الأغبياء الذين جهلوا حقيقة الدين المسيحي وأعمال تابعيه وشكوهم بما لم يرتكبوه من الذنوب. وهذا يشبه قول بولس لتيطس «مقدماً… كَلاَماً صَحِيحاً غَيْرَ مَلُومٍ، لِكَيْ يُخْزَى ٱلْمُضَادُّ، إِذْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ رَدِيءٌ يَقُولُهُ عَنْكُمْ» (تيطس ٢: ٨).

١٦ «كَأَحْرَارٍ، وَلَيْسَ كَٱلَّذِينَ ٱلْحُرِّيَّةُ عِنْدَهُمْ سُتْرَةٌ لِلشَّرِّ، بَلْ كَعَبِيدِ ٱللّٰهِ».

يوحنا ٨: ٣٢ ويعقوب ١: ٢٥ و١كورنثوس ٧: ٢٢ ورومية ٦: ٢٢

كَأَحْرَارٍ استثقل اليهود نير الرومانيين وادّعوا حرية سياسية لم يحصلوا عليها (يوحنا ٨: ٣٣) وكانوا أيضاً عبيداً للخطيئة (يوحنا ٨: ٣٤). والمؤمنون بالمسيح تحرروا من دينونة الناموس بالمسيح ومن عبودية الشيطان وشهوات الجسد ونير السنن اليهودية وكون الأعمال شرط الخلاص. وكانوا أحراراً بحرية أبناء الله لأنهم أطاعوا شريعته اختياراً إطاعة البنين لا إطاعة العبيد خوفاً من الانتقام فاتهمهم أعداؤهم لتصريحهم بتلك الحرية الروحية بأنهم تحرروا من الشريعة الأدبية ومن الشريعة الرومانية. وغلط بعض المسيحيين في حقيقة الحرية التي حررهم المسيح بها ولذلك أبان بطرس حقيقتها.

وَلَيْسَ كَٱلَّذِينَ ٱلْحُرِّيَّةُ عِنْدَهُمْ سُتْرَةٌ لِلشَّرِّ وهم الذين اتخذوا حريتهم بالمسيح حجة لعدم إطاعة الولاة السياسيين واتخذوا كونهم تحت النعمة لا تحت الناموس حجة على استمرارهم في الإثم (رومية ٦: ١). وادّعوا أنهم يقودهم الروح ولذلك كانوا ناموساً لأنفسهم غير خاضعين إلا لما يعلنه لهم الروح. فكل من لم يتخذوا الشريعة الأدبية قانوناً لحياتهم لأنهم غير مكلفين بها ليطيعوها يتخذون الحرية «سترة للشر» وقال الرسول فيهم أيضاً «وَاعِدِينَ إِيَّاهُمْ بِٱلْحُرِّيَّةِ، وَهُمْ أَنْفُسُهُمْ عَبِيدُ ٱلْفَسَادِ» (٢بطرس ٢: ١٩).

بَلْ كَعَبِيدِ ٱللّٰهِ أي خاضعين لكل أوامره تعالى خضوعاً اختيارياً بمسرّة تامة (انظر تفسير ١كورنثوس ٧: ٢٢ و٩: ٢١ وغلاطية ٥: ١٣).

١٧ «أَكْرِمُوا ٱلْجَمِيعَ. أَحِبُّوا ٱلإِخْوَةَ. خَافُوا ٱللّٰهَ. أَكْرِمُوا ٱلْمَلِكَ».

رومية ١٢: ١٠ و١٣: ٧ وص ١: ٢٢ وأمثال ٢٤: ٢١ ومتّى ٢٢: ٢١ وع ١٣

أَكْرِمُوا ٱلْجَمِيعَ أي جميع الناس إكراماً يليق بهم باعتبار كونهم مخلوقين على صورة الله وأولاد أب واحد سماوي حسب مقامهم في العالم ونسبتهم إلى غيرهم سياسة وديناً. وهذا الإكرام يستلزم إعطاء كل ذي حق حقه فكراً وقولاً وعملاً.

أَحِبُّوا ٱلإِخْوَةَ أي أتباع المسيح الممتازين عن سائر الناس بأنهم إخوة لأن المسيح دعاهم «إخوة» (متّى ٢٣: ٨). وهم دعوا أنفسهم كذلك منذ أول أمرهم. نعم إن المسيحيين مكلفون بأن يحبوا جميع الناس لكنهم مكلفون بنوع خاص أن يحب بعضهم بعضاً المحبة الأخوية (ص ١: ٢٢).

خَافُوا ٱللّٰهَ (لوقا ١٢: ٤ و٥ انظر تفسير ص ١: ١٧) وفُسّر هذا الخوف «بالخشوع والتقوى» (عبرانيين ١٢: ٢٨) و «بتكميل القداسة» (٢كورنثوس ٧: ١ انظر أيضاً فيلبي ٢: ١٢) فاتضح من هذا أن معنى «خوف الله» هنا الاحتراس من إغاظته بناء على المحبة له وتوقيره لعظمته بالنظر إلى كونه الخالق وأبا الكل وملك الملوك. والخلاصة أن هذا الخوف عبارة عن كل ما يجب علينا لله.

أَكْرِمُوا ٱلْمَلِكَ الإكرام اللائق به بالنظر إلى مقامه وصفاته. وقد يقوم هذا الإكرام بمجرد الخضوع له أي الصبر على جوره لكونه شريراً مضطهداً. وذكر الحكيم الوصيتين الأخريين مما ذُكرت في هذه الآية بقوله «يَا ٱبْنِي، ٱخْشَ ٱلرَّبَّ وَٱلْمَلِكَ» (أمثال ٢٤: ٢١). والتعلّق بين هذه الوصايا غير ظاهر فذهب بعضهم إلى أنها أربعة تفاصيل لفعل الخير المذكور في (الآية ١٥) وذهب آخر أنها مجموع كل الواجبات السياسية والدينية لبيان أن لا اختلاف بين تلك الواجبات.

ما يجب على العبيد المؤمنين ولا سيما وجوب أن يقتدوا بالمسيح في احتمال الظلم ع ١٨ إلى ٢٥

١٨ «أَيُّهَا ٱلْخُدَّامُ، كُونُوا خَاضِعِينَ بِكُلِّ هَيْبَةٍ لِلسَّادَةِ، لَيْسَ لِلصَّالِحِينَ ٱلْمُتَرَفِّقِينَ فَقَطْ، بَلْ لِلْعُنَفَاءِ أَيْضاً».

أفسس ٦: ٥ ويعقوب ٣: ١٧

أَيُّهَا ٱلْخُدَّامُ، كُونُوا خَاضِعِينَ بِكُلِّ هَيْبَةٍ لِلسَّادَةِ (انظر تفسير أفسس ٦: ٥ – ٩). «الخدام» تشمل العبيد والأحرار المستأجرين ولعل بطرس دعا الفريقين خداماً لطفاً بالعبيد. وكان العبيد في عصر بطرس كثيرين جداً في بيوت أغنياء الرومانيين واليونانيين. قال بلينوس المؤرخ أنه كان لأحد معارفه الرومانيين أربعة آلاف عبد. وكانوا في شقاء عظيم لأنه لم يكن لهم بمقتضى الشريعة الرومانية شيء من الحقوق فكان للسادة أن يفعلوا بهم ما شاءوا من أن يبيعوهم ويجلدوهم ويعذبوهم ويقتلوهم بالصلب أو بإلقائهم إلى الوحوش المفترسة أو غير ذلك من طرق القتل. ولما اهتدى كثيرون من العبيد إلى الدين المسيحي اقتضت الحال أن يكون في الإنجيل كثير من النصائح لهم مما يتعلق بالواجب عليهم لسادتهم وبالواجب على السادة المؤمنين لهم. فأوجب بطرس هنا على العبيد أن يقوموا بما يجب عليهم بالأمانة كما يليق بالمسيحيين وأن يحتملوا بحلم وصبر ظلم القساة من سادتهم (انظر ١كورنثوس ٧: ١ – ٢٤ و١٢: ١٣ وغلاطية ٣: ٢٨ وأفسس ٦: ٥ – ٨ وكولوسي ٣: ١١ و٢٢ – ٢٥ و١تيموثاوس ٦: ١ و٢ وتيطس ٢: ٩ و١٠ ورسالة فليمون كلها). ولم يذكر هنا ما يجب على السادة المؤمنين ولعل علة ذلك قلتهم بين من كُتب إليهم هذه الرسالة. والمراد «بالهيبة» هنا الخضوع للسادة إكراماً للمسيح بقطع النظر عن صفاتهم أو معاملتهم فمطاليب الإنجيل تفرق كثيراً عما تحث عليه الطبيعة البشرية في مثل تلك الأحوال.

لِلْعُنَفَاءِ أي غير المترفقين.

١٩ «لأَنَّ هٰذَا فَضْلٌ إِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَجْلِ ضَمِيرٍ نَحْوَ ٱللّٰهِ يَحْتَمِلُ أَحْزَاناً مُتَأَلِّماً بِٱلظُّلْمِ».

ص ٣: ١٤ و١٧ ورومية ١٣: ٥

في هذه الآية بيان علّة أن الخضوع للسادة العنفاء مما يجب على العبيد.

لأَنَّ هٰذَا فَضْلٌ أي مستحق المدح كما جاء في (لوقا ٦: ٢٦ – ٣٥ و١٧: ٩).

إِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَجْلِ ضَمِيرٍ نَحْوَ ٱللّٰهِ الخ إن العبد الذي يطيع السيد المترفق في ما يسهل عليه لا يستحق المدح لكن الذي يطيع السيد العنيف في ما يعسر عليه وهو مظلوم رغبة في إرضاء الله وإطاعة لأوامر الضمير هو الذي يستحق المدح. وهذه الطاعة علامة كون النعمة في قلبه وهي مما يرضي الله. فالفضل أمام الله لمن يخضع بمقتضى حكم ضميره إرضاء لله سيّده السماوي لا لعجزه عن المقاومة لسيّده. إنه لا شيء كطاعة الضمير باعتبار كونه صوت الله في النفس ليقدر الإنسان على احتمال الشقاء والتجربة ويعزيه ويجعله ثابتاً أميناً في أثناء الهوان والظلم والتهم الباطلة.

٢٠ «لأَنَّهُ أَيُّ مَجْدٍ هُوَ إِنْ كُنْتُمْ تُلْطَمُونَ مُخْطِئِينَ فَتَصْبِرُونَ؟ بَلْ إِنْ كُنْتُمْ تَتَأَلَّمُونَ عَامِلِينَ ٱلْخَيْرَ فَتَصْبِرُونَ، فَهٰذَا فَضْلٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ».

ص ٣: ١٧

لأَنَّهُ أَيُّ مَجْدٍ هُوَ إِنْ كُنْتُمْ تُلْطَمُونَ مُخْطِئِينَ فَتَصْبِرُونَ أي لأنه لا مجد في ذلك. والقرينة تدل على أن اللطم كان القصاص العادي للخدام على زلات زهيدة فإن احتمل المخطئ اللطم لم يحسب المشاهدون احتماله ذلك فضلاً لأنهم يحكمون بأنه مستحق ذلك.

بَلْ إِنْ كُنْتُمْ تَتَأَلَّمُونَ عَامِلِينَ ٱلْخَيْرَ فَتَصْبِرُونَ هذا يستلزم احتمال الظلم بالصبر وكل الناس يحكمون بأن صبر المتألم ظلماً ممدوح أكثر من صبر المتألم عدلاً. وكذا يميزون بين النوازل التي تحل بالبار والتي تحل بالإنسان لخطاياه. فكثيرون يمدحون أيوب على صبره وقليلون يرثون لفرعون على مصائبه.

فَهٰذَا فَضْلٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ أي أن الله يسرُّ بهذا ويثيب عليه.

٢١ «لأَنَّكُمْ لِهٰذَا دُعِيتُمْ. فَإِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا، تَارِكاً لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِهِ».

ص ٣: ٩ أعمال ١٤: ٢٢ وص ٣: ١٨ و٤: ١ و١٣ ومتّى ١١: ٢٩ و١٦: ٢٤

في هذه الآية دليل على أن تألم البر مرضي لله من تألم المسيح فإنه مثال لتا في ذلك.

لِهٰذَا دُعِيتُمْ أي دعيتم ظلماً منذ دعاكم الله إلى الإيمان. إذاً يجب أن لا تحسبوا تألمكم غريباً (ص ٤: ١٢). وهذا على وفق قول المسيح «مَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُنِي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي» (متّى ١٠: ٣٨). وقوله «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي» (متّى ١٦: ٢٤ انظر أيضاً يوحنا ١٥: ١٨ – ٢٠ و١٦: ٣٣).

فَإِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا هذا برهان على أنهم دُعوا إلى أن يتألموا ظلماً لأن «لَيْسَ ٱلتِّلْمِيذُ أَفْضَلَ مِنَ ٱلْمُعَلِّمِ» (متّى ١٠: ٢٤). وعلى أنهم دُعوا إلى أن يحتملوا كما احتمل فإنه احتمل من أجلهم لا من أجل نفسه فهذا أوجب عليهم أن يتألموا معه ومن أجله. وبغض العالم لهم من الأدلة على أنهم للمسيح (يوحنا ١٥: ١٩).

تَارِكاً لَنَا مِثَالاً (يوحنا ١٣: ١٥) والكلمة اليونانية المترجمة هنا «بمثال» تعني الرسم الذي يكتبه الكاتب لمتعلم الكتابة فيكتب مثله حرفاً.

لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِهِ تفصيل هذا سيأتي في (ع ٢٢ – ٢٤) دعا المسيح بطرس شفهاً إلى أن يتبعه فتبعه حالاً (متّى ٤: ١٩ و٢٠) والذين كتب إليهم بطرس لا يقدرون أن يتبعوا المسيح إلا باتباع خطواته الباقية بعد صعوده الظاهرة في إنجيله.

٢٢ «ٱلَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ».

إشعياء ٥٣: ٩ و٢كورنثوس ٥: ٢١

ٱلَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً ومع ذلك ظُلم. كان لبطرس ويوحنا ما لم يكن لغيرهما من التلاميذ من مشاهدة سيرة المسيح وهو على الأرض في كل الأحوال المختلفة. وشهادة بطرس للمسيح هنا كشهادة بولس له بقوله إن الله «جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا» (٢كورنثوس ٥: ٢١). وشهادة يوحنا بقوله «ليس فيه خطية» (١يوحنا ٣: ٥). واتخذ بطرس هنا قول النبي إشعياء بغية أن يعبر عن أفكاره «عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ ظُلْماً، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ» (إشعياء ٥٣: ٩). ولم تكن غايته أن يورد لنا المسيح مثالاً في الخلو من الخطيئة بل في احتماله الظلم حليماً وهو بريء. فيجب على المؤمنين أن يحترسوا من أن تقع عليهم الآلام قصاصاً على ذنوبهم كقوله «فَلاَ يَتَأَلَّمْ أَحَدُكُمْ كَقَاتِلٍ، أَوْ سَارِقٍ، أَوْ فَاعِلِ شَرٍّ الخ» (ص ٤: ١٥).

وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ فكان خالصاً من الخداع والرياء فما ادعى شيئاً غير الحق. نعم إنه حُكم عليه بالموت كخادع لكن الله برّره وأثبت دعواه بإقامته من الموت.

٢٣ «ٱلَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضاً وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْلٍ».

ص ٣: ٩ وإشعياء ٥٣: ٧ وعبرانيين ١٢: ٣

ٱلَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضاً مع علمه أنه بريء مما عيّر به (يوحنا ٨: ٤٦). فقالوا إنه «مهيج فتنة وإنه مضل» وإنه شريك لبعلزبول وإنه مجدف. وقالوا ذلك جهاراً واحتمل كل ما قالوه ساكتاً بدليل أنه كان «كَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ» (إشعياء ٥٣: ٧).

إِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ فإنه حُكم عليه ظلماً وجُلد وصُلب ولم يطلب أن الله يجازي ظالميه أو تنبأ بغضب الله الآتي عليهم لذنوبهم. ومن أمثلة احتماله الظلم ما في (يوحنا ٧: ٢٠ و٨: ٤٠ ومتّى ١٢: ٢٤) ومنها ما في حوادث صلبه.

بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْلٍ ويترك دعواه واسمه وتبرئته في يدي الله متيقناً إنه يفعل ما يجب ويتحقق أنه وإن ظلمه رئيس اليهود ومجلس السبعين والوالي الروماني فالله لا يظلمه بل ينقذ اسمه من العار فيكرمه بما استحق من الإكرام ويأخذ الوسائل التي يرى أنها مناسبة ليظهر غيظه من الظالمين ويظهر اعتباره للحق والفضيلة (لوقا ٢٣: ٤٦). وكلام بطرس هنا موافق لقول المرنم «سَلِّمْ لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ وَٱتَّكِلْ عَلَيْهِ وَهُوَ يُجْرِي، وَيُخْرِجُ مِثْلَ ٱلنُّورِ بِرَّكَ وَحَقَّكَ مِثْلَ ٱلظَّهِيرَةِ» (مزمور ٣٧: ٥ و٦).

٢٤ «ٱلَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى ٱلْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ ٱلْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ. ٱلَّذِي بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ».

١كورنثوس ١٥: ٣ وعبرانيين ٩: ٢٨ وأعمال ٥: ٣٠ ورومية ٦: ٢ وإشعياء ٥٣: ٥ وعبرانيين ١٢: ١٣ ويعقوب ٥: ١٦

أبان الرسول في هذه الآية أن المسيح لم يتألم ليكون مجرد مثال لنا لكنه تألم ليكون ذبيحة كفارة أيضاً.

ٱلَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا إنه فضلاً عن حمله الآلام وهو بريء احتمل اختياراً القصاص على خطايا غيره فوجب على الخطأة الذين مات عنهم أن يشكروه ويحبوه. وما قيل هنا مأخوذ مما قيل في إشعياء (إشعياء ٥٣: ٤ و١١ و١٢) وهو موافق لقول رسالة العبرانيين في المسيح إنه «قُدِّمَ مَرَّةً لِكَيْ يَحْمِلَ خَطَايَا كَثِيرِينَ» (عبرانيين ٩: ٢٨).

فِي جَسَدِهِ اتخذ المسيح جسداً بشرياً حتى أمكنه أن يتألم ويموت من أجل خطايا الناس التي وُضعت عليه. كانوا يقدمون في هيكل أورشليم أجساد الثيران والكباش كفارة للخطايا لكنه لم يفعل كذلك بل قدّم جسده معتبراً أنه بدل الخاطئ على وفق قول النبي «أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي ٱلْمُذْنِبِينَ» (إشعياء ٥٣: ١٢ انظر أيضاً عبرانيين ٩: ٢٨).

عَلَى ٱلْخَشَبَةِ أي الصليب (تثنية ٢١: ٢٢). قال هذا إشارة إلى أنه مات عن الخطأة أشد الميتات ألماً وهواناً مما لم يتعرّض لها سوى العبيد.

لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ ٱلْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ الجملة الأولى من هاتين تعليل لقوله «تألم لأجلنا». والجملة الثانية تفسير لقوله «لكي تتبعوا خطواته» (ع ٢١) فالمسيح احتمل خطايانا على الخشبة ومات لكي نموت نحن عن الخطية ونحيا للقداسة لأننا متحدون به بالإيمان (انظر رومية ٦: ٢ و٨ و١١ و٢كورثنوس ٥: ١٤ و١٥) وتفسير ذلك. والغاية من العبارة أن المسيح لم يمت لمجرد القصاص الذي وجب علينا بل ليميت فينا قوة الخطيئة وينشئ فينا حياة جديدة مقدسة أيضاً.

ٱلَّذِي بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ أشار «بالجلدة» إلى كل آلام المسيح من أجلنا مع أن الجلدة ليست سوى جزء منها فجرى بهذا على سنن إشعياء بقوله «بحبره شفينا» (إشعياء ٥٣: ٥). وفي هذا ما هو من غرائب النعمة وهو أن الشفاء من مرض الخطيئة ونيل صحة البر بجلدةٍ وإن الألم الشافي ليس ألم المريض المذنب بل ألم الشافي البار.

٢٥ «لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ كَخِرَافٍ ضَالَّةٍ، لٰكِنَّكُمْ رَجَعْتُمُ ٱلآنَ إِلَى رَاعِي نُفُوسِكُمْ وَأُسْقُفِهَا».

إشعياء ٥٣: ٦ ويوحنا ١٠: ١١ وص ٥: ٤

لأَنَّكُمْ اللام للتعليل أو بيان سبب احتياجهم إلى الشفاء والهدى وهي متعلقة بقول «شفيتم».

كُنْتُمْ كَخِرَافٍ ضَالَّةٍ هذا مأخوذ من (إشعياء ٥٣: ٦) إلا أنه قيل هنالك «كلنا كغنم ضللنا» وقيل هنا «كنتم كذلك» اقتبس الرسول في هذه الرسالة كثيراً من أقوال إشعياء ولعله تعلّم من يوحنا المعمدان تفسير هذه النبوة فإنه اقتبس منها معنىً حين أشار لتلاميذه إلى يسوع وقال «هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا ١: ٢٩). واقتبس الرسول من معاني تلك النبوة في (ص ١: ١٩). ومعنى العبارة إنهم قبل إيمانهم وهم ضالون منفصلون عن الله أشبهوا الغنم العاجزة الغافلة عن الخطر المحيط بها. وأتى مثل هذا التشبيه في (عدد ٢٧: ١٧ و١ملوك ٢٢: ١٧ ومزمور ١١٩: ١٧٦ وحزقيال ٣٤: ٥ و١١ ومتّى ١٨: ١٢ و١٣ ولوقا ١٥: ٤). وهو يصدق على المتنصرين من اليهود والمتنصرين من الأمم.

رَجَعْتُمُ ٱلآنَ إِلَى رَاعِي نُفُوسِكُمْ وَأُسْقُفِهَا أي رجعتم إلى المسيح بالإيمان معتبرين إياه راعياً لنفوسكم وناظراً إياها. ودعا يسوع نفسه راعياً لشعبه في (يوحنا ١٠: ١١) ودعاه بطرس رئيس الرعاة في (ص ٥: ٤). ودعاه أسقفاً أيضاً لأنه من عمل الراعي أن يطلب الضال من الخراف ويجده (حزقيال ٣٤: ١١ و١٢ ويوحنا ٢١: ١٦ وأعمال ٢٠: ٢٨ وص ٥: ٢). وسُمي خدم الدين في الإنجيل «رعاة» لأن المسيح وكل إليهم الرعاية (يوحنا ٢١: ١٥ – ١٧). ودُعي الله «راعياً» (مزمور ٢٣).

زر الذهاب إلى الأعلى